انقضاء الأمل.. وصيحة التغيير


مشاري بن حمد الراشد

الأعمال تروّى بالجهود، وتسقى بالكد والشقاء، حتى تظهر جليّة بيضاء وتثمر ثماراً ناضجة يانعة يقطفها الزارعون، وينالوا منها أسنا الطعوم وأطيبها، وفي سنة الله أن العمل يحتاج إلى وقت يُحتضن فيه حتى يكتمل وتظهر عليه علائم الانتهاء، أوَ ليس الصغير تحمله أمه تسعة شهور، والزهرة تكتنّ في تاجها أياماً، والثمار تبقى براعم صغيرة ثم تزهر فتكبر وتتكور حتى تصبح ثمرة ناضجة حلوة؟ فكذلك العمل يحتاج مثل هذه الفترة المهمة لتكوينه ونجاحه..
وكل ذلك ينطبق جلياً واضحاً على عمل الداعية، التي تكد وتجتهد لدعوة الغير، وإرشاد خطاهم على طريق الحق، وانتشال بعضهم من مزالق التيه والضياع إلى دروب النور والهداية، وتربيتهم بمنهج إسلامي صحيح، وفي هذا العمل الشاق والطويل الذي كابده الأنبياء وأصابهم من لأوائه ومصائبه ما لو وقفوا منه وقوف الذابل الخائر لما استحقوا أن يصفهم الله بالصابرين، ولما كانت لهم تلك المنزلة العالية الرفيعة عند الله، في هذا العمل تحتاج الداعية للتذرع بالصبر والاحتمال والمراجعة المستمرة للمشاريع والخطط التي رسمتها لدعوتها ومسيرتها الطويلة، وهنا يتضح المحك الذي يجب أن تربي الداعية نفسها عليه وتريضها على تحمل مشقته، فحين يصبح الطريق طويلاً مملاً، مليئاً بالشقاء والعذاب المسلط من المناهضين لدعوات المصلحين، ويصبح البذر في عمق الأرض المستصلحة للزرع مكتناً دهراً من الزمن، تظن الداعية الظنون وتبدأ تعمل فيها الهموم، وتناجي النفس ساهمة تناشدها عن هذا التأخر في النتاج، وتتساءل هل فسدت البذور وإلا فلماذا لم يظهر النتاج ولم يبدو المحصول؟!!
وفي هذه العجلة الغير مباركة فوات كثير من المصالح واكتساب لكثير من السلبيات والنتائج العكسية، والبذرة التي تنتزع من الأرض قبل بدو صلاحها إتلاف لها حيث لا صلاح بعده، والجنين الذي يُجهض من بطن أمه ويخرج قبل اكتماله قتل له حيث لا حياة بعده، والداعية إذا ما اجتهدت في دعوتها ورسمت لها طريقها الواضح، وأعدت لها عدتها من الأسباب المعينة وتوكلت على الله، فإنه ليس عليها سوى الانتظار والتوفيق إنما يكون من الله الكريم، ولقد أمرنا الله بالعمل وتكفل بالنتائج، فلما الشك والريبة وسوء الظن بالله، إن الله يرينا من سنن الأنبياء اجتهادهم ومصابرتهم لأهل زمانهم، ويحكي لنا عن نوح عليه السلام صبره ألف سنة إلا خمسين عاماً وصبر موسى وأولوا العزم من الرسل وسائر الأنبياء، أفلا يكون لنا في ذلك عبرة ونظر وحسن تأمل؟
وفي حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه حين قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبه النصر على قريش حين آذوهم واضطهدوهم، فقال له النبي الصابر صلى الله عليه وسلم: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق اثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد، وما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" (رواه البخاري)، وبعد إحدى وعشرين سنة من الدعوة والجهاد يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً ويهدم الأصنام، وقد كان يراها في مكة قبل الهجرة وهي تملئ داخل الكعبة وما حولها فلا يهدمها ولا يستعجل في أمرها بل يراه قريباً ولكنه دونه جهد لا بد من القيام به، وهو الانطلاق نحو تلك النفوس التي تظن في هذه الأحجار الضر والنفع وشيئاً من الألوهية التي لا يجوز صرفها لغير الله فيصلحها، وحينها تهب تلك النفوس إذ صلحت نحو الأصنام فتهدمها بعد أن هدمت قدسيتها الزائفة الكاذبة من القلوب.
إن العجلة نحو تحقيق الأهداف قبل اكتمال أسباب النجاح التي سنها الله، قد تكون صادرة عن قلة علم وخبرة، وقد تكون كذلك منبعثة من إحساس بالغلبة والقهر حين ترى الداعية مخططات الأعداء تنخر مجتمعها الإسلامي وتُفاقم كل يوم مشاكله ومصائبه حتى يكاد يغرق، وترى الفوات الكبير في نشاطها ونشاط المعتدين، فتنازعها نفسها نحو اقتراف أعمال أشبه بالخوارق تظن فيها إصلاحاً لانبعاجات وأخطاء كانت نتائج لأسبابٍ كمنت قروناً في أعماق المجتمعات الإسلامية، وأنّى لمثل هذا الخلل الكبير أن يصلح في ليلة وضحاها، وأنّى لمثل هذه المُفاقِمات المُولِدات لتلك السيول الجارفة والمحدقة بالمجتمع وأخلاقياته وقيمه تكون إمكانية زوالها ومعالجتها بأعمال خارقة تقضي عليها وتصححها بسرعة البرق، لم تكن هذه سنة الله في التغيير، ولو كان مثل هذا ممكناً لجرى على أيدي الأنبياء، ولكفاهم الله شر من عاداهم وقتلهم وأبدلهم بخير منهم، ولكن في الكون سنناً تجري على ما قدر لها، والواجب المؤمل من الداعية أن تتأمل هذه السنن وتتبصر فيها ثم تسير في دعوتها ومنهج تغييرها موافقة لهذه السنن متمشية معها، ترى بنورها المستقبل وتضع على مباصرها الخطط والأهداف..
وأخيراً.. دعواتنا بذور نلقيها في السماء، فتقع على أراضي شتى، فمنها طيب ثري ينبت ما بذر فيه، ومنها سبخة لا تنبت ولا تشرب ماء، فلعل بذرة ألقيتِها أخيّتي لامست أرضاً طيبة فأنتجت خيراً عظيماً، فالله الله لا تيئسي..