فوائد من قصة نبي الله وخليل الرحمن
إبراهيم عليه السلام


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
«فقد اشتملت قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، وما حصل له مع قومه على الكثير من الفوائد والدروس والعبر، وليُعلم أن جميع ما قصه الله علينا من سيرة إبراهيم الخليل عليه السلام، فإننا مأمورون به أمرًا خاصًّا، قال تعالى: ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الحج: 78]، أي: الزموها، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [النحل: 123]، وقال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ﴾ [الممتحنة: 4].
فما هو عليه من التوحيد والأصول والعقائد والأخلاق وجميع ما قص علينا من نبئه، فإن اتباعنا إياه من ديننا؛ ولهذا لما كان هذا أمرًا عامًّا لأحواله كلها، استثنى الله حالة من أحواله فقال: ﴿ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَن َّ لَكَ ﴾ [الممتحنة: 4]، أي: فلا تقتدوا به في هذه الحال بالاستغفار للمشركين، فإن استغفار إبراهيم لأبيه إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
ومنها: أن الله اتخذه خليلًا، والخلة أعلى درجات المحبة، وهذه المرتبة لم تحصل لأحد من الخلق إلا للخليلين إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
ومنها: ما أكرمه الله به من الكرامات المتنوعة، جعل في ذريته النبوة والكتاب، وأخرج من صلبه أُمتين هما أفضل الأمم: العرب وبنو إسرائيل، واختاره الله لبناء بيته الذي هو أشرف بيت، وأول بيت وُضع للناس، ووهب له الأولاد بعد الكبر واليأس، وملأ بذكره ما بين الخافقين، وامتلأت قلوب الخلق من محبته وألسنتهم من الثناء عليه.
ومنها: أن الله رفعه بالعلم واليقين وقوة الحجج، قال جل ذكره: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75]، وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 83].
ومن شوقه إلى الوصول إلى غاية العلم ونهايته سأل ربه: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260].
ومنها: أن من عزم على فعل الطاعات وبذل مقدوره في أسبابها، ثم حصل مانع يمنع من إكمالها، أن أجره قد وجب على الله، كما قال الله ذلك في المهاجر الذي يموت قبل أن يصل إلى مُهاجره، وكما ذكره الله في قصة الذبح، وأن الله أتم الأجر لإبراهيم وإسماعيل حين أسلما لله وأذعنا لأمره، ثم رفع عنهما المشقة، وأوجب لهما الأجر الدنيوي والأخروي.
ومنها: ما في قصصه من آداب المناظرة، وطرقها ومسالكها النافعة، وكيفية إلزام الخصم بالطرق الواضحة التي يعترف بها أهل العقول، وإلجاؤه الخصم الألد إلى الاعتراف ببطلان مذهبه، وإقامة الحجة على المعاندين وإرشاد المسترشدين.
ومنها: أن من نعمة الله على العبد، هبة الأولاد الصالحين، وأن عليه في ذلك أن يحمد الله، ويدعو الله لذريته كما فعل الخليل صلى الله عليه وسلم في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ...﴾ [إبراهيم: 39]، إلى آخر الدعاء.
وقال جل ذكره في الثناء عمومًا على من يدعو الله بصلاح ذريته: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف: 15].
فإن العبد إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.
ومنها: أن المشاعر ومواضع الأنساك من جملة الحكم فيها: أن فيها تذكيرات بمقامات الخليل وأهل بيته في عبادات ربهم، وإيمان بالله ورسله، وحث على الاقتداء بهم في كل أحوالهم الدينية -وكل أحوال الرسل دينية، لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125].
ومنها: الأمر بتطهير المسجد الحرام من الأنجاس، ومن جميع المعاصي القولية والفعلية؛ تعظيمًا لله وإعانة وتنشيطًا للمتعبدين فيه، ومثله بقية المساجد، لقوله عز وجل: ﴿ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125]، وقال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾ [ النور: 36].
ومنها: أن أفضل الوصايا على الإطلاق ما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب، وهو الوصية بملازمة القيام بالدين وتقوى الله والاجتماع على ذلك، وهي وصيته تعالى للأولين والآخرين؛ إذ بها السعادة الأبدية والسلامة من شرور الدنيا والآخرة.
ومنها: أن العامل كما عليه أن يتقن عمله ويجتهد في إيقاعه على أكمل الوجوه، فعليه مع ذلك أن يكون بين الخوف والرجاء، وأن يتضرع إلى ربه في قبوله وتكميل نقصه، والعفو عما وقع فيه من خلل أو نقص، كما كان إبراهيم وإسماعيل يرفعان القواعد من البيت، وهما بهذا الوصف الكامل.
ومنها: أن الجمع بين الدعاء لله بمصالح الدنيا والدين من سبيل أنبياء الله، وكذلك السعي في تحصيلهما الدين هو الأصل والمقصود الذي خلق له الخلق والدنيا وسيلة ومعونة عليه؛ لدعاء الخليل لأهل البيت الحرام بالأمرين، وتعليله الدعاء بالأمور الدنيوية لأنه وسيلة إلى الشكر، فقال: ﴿ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [ إبراهيم: 37].
ومنها: ما اشتملت عليه قصة إبراهيم من مشروعية الضيافة وآدابها، فإن الله أخبر عن ضيفه أنهم مكرمون؛ يعني: أنهم كرماء على الله، وأيضًا إبراهيم أكرمهم بضيافته قولًا وفعلًا، فإكرام الضيف من الإيمان، وأنه خدمهم بنفسه وبادر بضيافتهم قبل كل شيء، وأتى بأطيب ماله؛ عجل حنيذ سمين، وقرَّبه إليهم ولم يحوجهم إلى الذهاب إلى عمل آخر، وعرض عليهم الأكل بلفظ رقيق، فقال: ﴿ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾ [ الصافات: 91].
ومنها: مشروعية السلام، وأن المبتدئ فيه هو الداخل وهو الماشي، وأنه يجب رده، ومشروعية الوقوف على اسم من يتصل بك من صاحب ومعامل وضيف؛ لقوله: ﴿قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ﴾ [ الحجر: 62]، أي لا أعرفكم، فأحب أن تعرفوني بأنفسكم، وهذا ألطف من قوله: أنكرتكم ونحوه.
ومنها: الترغيب في أن يكون أهل الإنسان ومن يتولى شؤون بيته حازمين مستعدين لكل ما يراد منهم من الشؤون والقيام بمهمات البيت، فإن إبراهيم في الحال بادر إلى أهله، فوجد طعام ضيوفه حاضرًا لا يحوج إلا إلى تقديمه.
ومنها: أن إتيان الولد والبشارة به من سارة، وهي عجوز عقيم، يُعد معجزة لإبراهيم وكرامة لسارة، ففيه معجزة نبي وكرامة ولي، ونظيره بشارة الملائكة لمريم بعيسى، وبشارتهم بيحيى لزكريا وزوجته، وكون زكريا جعل الله آية وجود المبشر به ألا يكلم الناس ثلاثة أيام، وهو سويٌّ لا آفة فيه إلا بالرمز والإشارة، وكل هذا وما أشبهه من آيات الله، وأعجب من هذا إيجاده آدم من تراب، فسبحان من هو على كل شيء قدير.
ومنها: ثناء الله على إبراهيم أنه أتى ربه بقلب سليم، وقد قال: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [ الشعراء: 88-89].
والجامع لمعناه أنه سليم من الشرور كلها ومن أسبابها، ملآن من الخير والبر والكرم، سليم من الشبهات القادحة في العلم واليقين، ومن الشهوات الحائلة بين العبد وبين كماله، سليم من الكبر ومن الرياء والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وسليم من الغل والحقد، ملآن بالتوحيد والإيمان والتواضع للحق وللخلق، والنصيحة للمسلمين والرغبة في عبودية الله، وفي نفع عباد الله.
ومنها: ما ذكره في قصة نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ﴾ [ الصافات: 79]، ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ الصافات: 109]، يتبعها بقوله: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الصافات: 105]، فوعد الباري أن كل محسن في عبادته محسن إلى عباده أن الله يجزيه الثناء الحسن والدعاء من العالمين بحسب إحسانه، وهذا ثواب عاجل وآجل، وهو من البشرى في الحياة الدنيا، ومن علامات السعادة».
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
ملة إبراهيم هي ملة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وملتنا، وهي مبنية على أصلين: الأول إخلاص العبادة لله، والثاني البراءة من الشرك والمشركين، فمن أحب أن يكون من أتباعهما فليتمسك بهذين الأصلين العظيمين.
مجموع مؤلفات الشيخ عبد الرحمٰن بن سعدي (3 /203-207).


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/127831/#ixzz5KD1FUuMm