براعة الإمام مسلم في تعليل بعض الألفاظ عند ترتيب أحاديث صحيحه
هذا مثال تظهر فيه براعة الإمام مسلم وتفطُّنَهُ للإشكالات التاريخية الواقعة في المتون وعلاقتها باختلاف الرواة في الإسناد، فقد روي في صحيحه (187) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، أنه قال لما نزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ[الحجرات: 2].إلى آخر الآية، جلس ثابت بن قيس في بيته، وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي e، فسأل النبي eسعد بن معاذ، فقال: «يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا شَأْنُ ثَابِتٍ؟ اشْتَكَى؟» قال سعد: إنَّه لجاري، وما علمت له بشكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله e، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله e، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي e، فقال رسول الله e: «بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ». ثم أعقبه بروايات أخرى للحديث من غير طريق (حماد بن سلمة)، فقال: "وحدثنا قطن بن نسير، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا ثابت، عن أنس بن مالك، قال: كان ثابت بن قيس بن شماس خطيب الأنصار، فلما نزلت هذه الآية بنحو حديث حماد، وليس في حديثه ذكر سعد بن معاذ. وحدَّثنيه أحمد بن سعيد بن صخر الدارمي، حدثنا حبان، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، قال: لما نزلت: ﴿لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ـ﴾ [الحجرات: 2]، ولم يذكر سعد بن معاذ، في الحديث وحدَّثنا هريم بن عبد الأعلى الأسدي، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي، يذكر عن ثابت، عن أنس، قال: لما نزلت هذه الآية، واقتصَّ الحديث، ولم يذكر سعد بن معاذ، وزاد فكنَّا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة ".[1] فهذه إشارةٌ واضحة من الإمام مسلم إلى إعلال الحديث بمخالفة التاريخ الصحيح، فإنَّ (حماد بن سلمة) أخطأ في ذكره (سعد بن معاذ) في القصة؛ لأنَّ الآية نزلت سنة الوفود عام تسع للهجرة، وسعد بن معاذ توفي سنة خمس للهجرة، فمحالٌ أن يدرك قصَّة ثابت بن قيس التي وقعت بعد وفاته بأربع سنين، يوكِّد ذلك أن ثلاثة من الرواة قد خالفوه، وهم: (جعفر بن سليمان، وسليمان بن المغيرة، وسليمان بن طرخان) كلُّهم يرويه عن ثابت، ولا يذكر سعد بن معاذ، وهذا يدلُّ أنَّ حماد قد لحقه الوهم في ذكره لسعد بن معاذ. وهي لفتة نقدية من الإمام مسلم تدلُّ على تفطُّنِ نقَّاد الحديث للإشكالات التاريخية في متون الأحاديث، وحرصهم على تنقيتها بطريقة علمية يراعى فيها الاختلاف الواقع بين الرواة في سياق متن الحديث، وذلك أنَّ الإمام مُسْلِماً بيَّن تفرد حماد بن سلمة باللفظ المشكل، مع أنَّه أخرج الحديث في صحيحه، وهذا هو الإنصاف في النقد، الذي يجبُ على من تصدَّى لتمييز الأحاديث أن يتحلَّى به، لا أنْ يجازف الناقد بردِّ الحديث بأكمله بمجرَّد إشكال واقع في لفظة تفرد بها بعض الرواة، وقد شرح ابن كثير صنيع الإمام مسلم في هذا الحديث قائلا: "فهذه الطرق الثلاث معلِّلَة لرواية حماد بن سلمة، فيما تفرَّد به من ذكر سعد بن معاذ. والصحيح: أنَّ حال نزول هذه الآية لم يكن سعد بن معاذ موجودا؛ لأنَّه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمسٍ، وهذه الآية نزلت في وفد بني تميم، والوفود إنَّما تواتروا في سنة تسع من الهجرة".[2] قلت: وهذا دليل على أن تقديم الرواية الأولى عند الإمام مسلم لا يعني دائما أنه الأصح عنده. وكتبه: د. نبيل بن أحمد بلهي.

[1]صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج: 1/ 110- 111.

[2]تفسير القرآن العظيم، ابن كثير: 7/ 367.