تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 17 من 17

الموضوع: الآداب الشّرعيّة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي الآداب الشّرعيّة

    الآداب الشّرعيّة
    (1) أهمّية الأدب وتزكية النّفس


    الشيخ عبد الحليم توميات







    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:

    فقد روى البخاري ومسلم عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه قَالَ:

    " كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ قَالَ: (( نَعَمْ )).

    قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ ؟ قَالَ: (( نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ )).

    قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ ؟ قَالَ: (( قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ )).

    والشّاهد من هذا الحديث – أخي القارئ – قوله صلّى الله عليه وسلّم : (( خَيْرٌ فِيهِ دَخَنٌ ))، أي: شوائب وأخلاط تفسده.

    ولو سألت أيّ مسلم عاقل، ينظر إلى الأمور نظرة تأمّل وتدبّر، لسارع قائلا: إي والله ! نحن على خير كثير، ولكنْ هناك دخن.



    ولو زدت قليلا وتأمّلت لعلمت أنّ أهل الاستقامة والالتزام لم يُؤتوا إلاّ من أخلاقهم، ومعاملاتهم .. فالأزمة اليوم أزمة أخلاق وآداب..

    وصدق عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى حين قال:" نحن إلى قليل من الأدب أحوج منّا إلى كثير من الفقه "..

    هذا قاله في العصر الذّهبي لأمّة الإسلام، يوم انتشر الفقه انتشارا عظيما، فما القول في عصر صار من الفقه عقيما ؟!


    قال ذلك يوم كان يلتفت فإذا به يرى سفيان الثّوري وابن عيينة والحسن البصريّ والفضيل بن عياض ومنصور بن المعتمر وغيرهم من سادات الأصفياء، وخيار الأتقياء ..

    فما عسانا نقول في عصر تُحارب فيه آداب الإسلام من أصحابها، وتداس معالم الأخلاق من طلاّبها ؟!..

    فطلبا للتّحلّي بجملة من الآداب الطيّبة، جعلنا هذه الأسطر بين يديك تذكيرا بمنزلة الأدب في الإسلام، وعلوّ مرتبته عند ربّ الأنام.

    وتظهر لنا أهمّية الأدب من عدّة وجوه يصعب حصرها، وإنّما نكتفي بالإشارة إلى بعضها:

    1- من اسمه ( الأدب ).

    فالأدب كلمة تدلّ على الخير كلّه، فهي تعني:

    الأدب مع الله، كالإخلاص له في القول والعمل، ومراقبته في السرّ والعلن، والوقوف بين يديه على أحسن حال، واستحضار ما له من قدر وجلال.

    وتجمع الأدب مع الخلق، كصدق الحديث، والوفاء، وأداء الأمانة والإخاء، وإفشاء السّلام، وحسن الكلام، والابتسامة في وجوه النّاس، والرّفق بالضّعيف، والصّبر على الطّائش الخفيف.

    وتجمع أدبك مع نفسك: في سيرك، وجلوسك، وحديثك، وسمعك، ونومك، وأكلك، وشربك، وغير ذلك.

    لذلك عرّفه ابن حجر رحمه الله وغيره بأنّه:" استعمال ما يُحمد قولا وفعلا ".

    وقال غيره:" الأخذ بمكارم الأخلاق "، وقال آخر:" الدّعوة إلى مكارم الأخلاق وتهذيبها ".

    وعرّفه ابن القيّم رحمه الله بقوله:" اجتماع خصال الخير في النّفس "، وكأنّه يرى أنّ الأدب كلمة تدلّ على الاجتماع، ومنه المأدُبة تطلق على اجتماع النّاس على الطّعام.

    2- الأدب هو التّزكية التي ندبنا المولى عزّ وجلّ إليها، وعلّق الفوز والنّجاة عليها.

    يقول أهل العلم: لا يخلو قلب من القلوب من أسقام، لو أهمِلت تراكمت، وترادفت العلل وتظاهرت، فيحتاج العبد إلى تأنّق في معرفة أسبابها، ثمّ إلى التّشمير في علاجها وإصلاحها.

    التّزكية هي الّتي أقسم الله من أجل تحقيقها ثمانية أقسام حتّى قال:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}، وإهمالها هو المراد بقوله:{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}..

    تزكية النّفوس هو ربع الرّسالة النبويّة، لقوله تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].

    تزكية النّفوس: هي ملاك دعوة الرّسل بعد التّوحيد، فهذا موسى عليه السّلام يقول لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى}..

    تزكية النّفوس: أعظم أسباب الفوز بالدّرجات العُلى كما قال تعالى:{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)}..

    تزكية النّفوس: هي ما كان يكثر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الدّعاء لتحصيلها، فقد كان من دعائه صلّى الله عليه وسلّم: (( اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا ))[1].

    3- كثرة النّصوص النّبويّة في الحثّ على التحلّي بالآداب الشّرعيّة:

    فمن فتح دواوين السنّة النبويّة لتعجّب أشدّ العجب من كثرة الأحاديث الدّاعية إلى التحلّي بالأخلاق الإسلاميّة، والتزيّن بالآداب الشّرعيّة، فهي ممّا يصعب استقصاؤه، ولا يمكن إحصاؤه، ولكن حسبنا ببعضها، فهي تغني عن كلام كلّ أديب، وقطعت جهيزة قول كلّ خطيب.

    - روى أحمد والتّرمذي وغيرهما عن أَبِي ذَرٍّ وَمُعَاذٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( اِتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَبخُلُقٍ حَسَنٍ )).

    - وروى ابن حبّان عن أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( أَثْقَلُ شَيْءٍ فِي المِيزَانِ: الخُلُقُ الحَسَنُ ))، وفي رواية للبيهقيّ في "الشُّعب": (( أَثْقَلُ شَيْءٍ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ خُلُقٌ حَسَنٌ، إِنَّ اللهَ يُبغِضُ الفَاحِشَ المُتَفَحِّشَ البَذِيَّ )).

    - وروى أحمد والحاكم عن عائشة رضي الله عنها أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ قَائِمِ اللَّيْلِ صَائِمِ النَّهَارِ )).

    - وروى التّرمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سُئِل عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ ؟ فَقَالَ: (( تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الخُلُقِ ))، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ ؟ فَقَالَ: (( الفمُ وَالفَرجُ )).

    - وروى التّرمذيّ أيضا عن جابر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي يَوْمَ القِيَامَةِ: الثَّرْثَارُونَ، وَالمُتَشَدِّقُ ونَ، وَالمُتَفَيْهِق ُونَ ))، قَالُوا: "وَمَا المُتَفَيْهِقُو نَ ؟ " قَالَ: (( المُتَكَبِّرُون َ ))[2].

    - وروى أبو داود عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ )).

    والوعد بضمان بيت في الجنّة ليس بالشّيء الهيّن اليسير، فهو بيت في الجنّة لا كسائر البيوت.

    إنّه بيت خاصّ بمن حسَّن خلقه، وقد بلغت بحسن خلقك درجة من بنى لله مسجدا من خالص ماله، روى البخاري ومسلم عن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ -وفي رواية-: بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ )).

    لقد بلغت بحسن خلقك درجة المواظب والمحافظ على الصّلوات النّوافل والرّواتب ففي صحيح مسلم عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلَّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ))..

    لقد بلغت بحسن خلقك درجة من ابتُلي بذهاب ولده وفلذة كبده، فكان من الصّابرين المحتسبين، فقد روى التّرمذي عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ ! فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ !. فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ.

    فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ )).

    وهذا من فضل الله تعالى على هذه الأمّة، تنال أيّها المسلم مثل هذا الشّرف المحمود، والمقام المشهود، بينما كان من قبلنا لا يناله إلاّ ببذل النّفس لله تعالى، فإنّ أقصى ما طلبته من الله آسيا بنت مزاحم ما يناله العبد إذا حسّن خلقه لله، قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].

    - وروى البخاري رحمه الله في " الأدب المفرد " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ )).

    فالعرب عُرِفوا بمكارم الأخلاق، وأبرز ما عُرِفوا به الكرم، والشّجاعة، والغَيرة، والعِفّة، والوفاء، وصِدق اللّهجة، وحماية الجوار .. وغير ذلك، إلاّ أنّ بعضها كان يصل إلى حدّ الغلوّ، فاحتاج إلى ضبطه، وقسم منها كان فيه نوع من النّقص فاحتاج إلى إصلاح غلطه.

    4- أنّ التحلّي بالآداب من أعظم صنائع المعروف..

    وصنائع المعروف تقي صاحبها مصارع السّوء، ولا أدلّ على ذلك من الحديث الّذي رواه البخاري ومسلم يوم نزل الوحي عليه صلّى الله عليه وسلّم لأوّل مرّة، فَرَجَعَ صلّى الله عليه وسلّم تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: (( زَمِّلُونِي ! زَمِّلُونِي !)).

    فَزَمَّلُوهُ، حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ قَالَ لِخَدِيجَةَ: (( أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي )) فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، قَالَتْ خَدِيجَةُ: ( كَلَّا أَبْشِرْ ! فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ! فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ).

    فتأمّل ما ذكرته، تجدها لم تذكر إلاّ الأخلاق الحميدة الّتي بها يدفع الله عن عبده السّوء.

    5- طرد الهمّ.

    فقد أجمعت الملل والنّحل والأمم على استحسان الأدب، لأنّهم يرون أنّ أكبر طارد للهمّ هو التّحلّي بالفضائل.

    حتّى إنّ علماء الاجتماع وغيرهم، يقرّرون أنّ النّفوس الّتي لا تستطيع أن تصل إلى حدّ من الأخلاق المرضيّة تصاب باليأس والقنوط، والغمّ والإحباط !

    وهذا أمر نراه كلّ يوم، فطفرة غضب تُفسِد حالَ الرّجل يوما كاملا أو أكثر من ذلك..

    وإنّ علم المرء بتقصيره في حقوق غيره من الاحترام والتّوقير والبذل والعطاء يجعله في ضيق من العيش ونحو ذلك، وصدق الله إذ قال:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفّفين:14]..

    ومن أعجب الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك، حديث يجعل السّعادة بين يديك، والطّمأنينة مقبلة عليك، لأمور عظام في دين الله، وترى بينها أدبا من آداب البيوت:

    قد روى الإمام روى أبو داود وابن حبّان - واللّفظ له - عن أبي أمامةرضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( ثَلاَثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ: إِنْ عَاشَ رُزِقَ وَكُفِيَ، وَإِنْ مَاتَ دَخَلَ الجَنَّةَ: مَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ فَسَلَّمَ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ، وَمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ ))[3].

    لذلك قال الإمام ابن حزم رحمه الله في " الأخلاق والسّير " (ص14-15):

    " السّعيد من أنِست نفسه بالفضائل والطّاعات، ونفَرت من الرّذائل والسيّئات، وليس ذلك إلاّ صنع الله تعالى ..".

    6- الدّين أدب كله.

    ذلك لأنّ الآداب الإسلاميّة تشمل المعاملة مع الخالق عزّ وجلّ، ثمّ مع الخلق، ثمّ مع النّفس، وتشمل ما هو واجب وما هو مستحبّ، لذلك كثرت المصنّفات في الأدب على ثلاثة طرق:

    الطّريقة الأولى: نثر الفقهاء لشعب الأدب في الأبواب الفقهيّة، فبوّبوا لآداب القيام، والجلوس، والاستنجاء، وستر العورة، وأدب العُطاس، والسّلام، والاستئذان، والمصافحة، والكلام، ومعاشرة الوالدين، والأزواج، والإخوان، وأدب البيع والشّراء، وغيرها..
    الطّريقة الثّانية: كتب أُفرِدت في الأدب عموما، ككتاب :" الآداب الشّرعيّة " لابن مفلح، و" منظومة الآداب " لابن عبد القويّ، وشرحِها " غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب" للإمام السّفاريني، و"أدب الدّنيا والدّين" للماوردي.
    الطّريقة الثالثة: كتب أُفرِدت في أدب معيّن وهي كثيرة جدّا، من ذلك: ( أدب الفتيا ) للسّيوطي وغيره، و(أدب الأكل) للأقفهسي، و( أدب الأطفال ) للهيثمي، و(آداب المناظرة) للشّنقيطي، و(آداب الصّحبة) للسّلمي، و(آداب الزّفاف) للألباني، و(آداب العشرة) للغزّي، وآداب الطّبيب، وآداب معاملة الضّيف، وآداب معلّمي القرآن، وأدب الكاتب، وأدب الهاتف، وسوق السّيارة، وغير ذلك، وأكثر الأبواب حظِي بعناية العلماء آداب طالب العلم، لما ورد من الوعيد الشّديد لمن علم ولم يعمل بمقتضى ما علمه.




    [1] رواه مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.

    [2] قال ابن القيّم رحمه الله في " تهذيب السّنن ":" والثّرثار: هو الكثير الكلام بتكلّف. والمتشدّق: المتطاول على النّاس بكلامه الّذي يتكلّم بملء فيه تفاخما وتعظيما لكلامه. والمتفيهق: أصله من الفهق، وهو الامتلاء، وهو الّذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسّع فيه تكثّرا وارتفاعا وإظهارا لفضله على غيره ".

    [3] " صحيح التّرغيب والتّرهيب " (321).





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي

    الآداب الشّرعيّة (2)
    الأدب مع الله: الإخلاص


    الكاتب: عبد الحليم توميات



    الأدب ثلاثة أنواع: أدب مع الله تعالى، وأدب مع الخلق، وأدب مع النّفس.
    * أمّا الأدب مع الله تبارك وتعالى:
    فالأمر الجامع له هو: مراقبته في السرّ والعلن، وهو غاية الإحسان معه تعالى.
    قال الله عزّ وجلّ:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}، وقد فسّر لنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الإحسان كما في حديث جبريل عليه السّلام الطّويل، فقال صلّى الله عليه وسلّم: (( أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ )).
    ففتّش عن سبل الإحسان لتسلكها، وابحث عن أبوابه لتطرقها .. وها هي أمامك بعض هذه المظاهر، فاظفر بها.

    - من مظاهر الإحسان مع الله تعالى ومراقبته.
    1- الإخلاص لله في القول والعمل:
    فهو السرّ الّذي بينك وبين الله، لا يعلمه أحد سواه، وهو قطب القرآن، قال تعالى:{تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ} أي: ما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ لتقيم العبادة لله وحده لا شريك له.
    وما كان السّلف يحملون همّ شيء كما يحملون همّ الإخلاص، حتّى كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا حدّث بحديث الثّلاثة الذين هم أوّل من تسعّر بهم النّار يُغشى عليه.
    * وعلامة الإخلاص هو استواء الحال في السرّ والعلن، فمن كان يعمل أمام النّاس ويترك العمل في خلوته فهذا منذر شرّ.
    روى ابن ماجه عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ:
    (( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا )).
    قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا ! أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ:
    (( أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا !))
    وليس من الحكمة في شيء أن نكتفِي بذكر الدّاء دون بيان الدّواء، لذلك أرى لزاما علينا أن نجيب عن سؤال مهمّ:
    * كيف السّبيل إلى إخلاص العمل لله تعالى ؟
    1-كثرة الدّعاء، ومن أحسن الأدعية أن نقول: (( اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم )).
    فقد روى الإمام أحمد عن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: (( أَيُّهَا النَّاسُ ! اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ، فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ !)).
    فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ:" وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟! " قَالَ: (( قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُك َ لِمَا لَا نَعْلَمُ )).
    2- معرفة صفات الله تعالى:
    قال ابن رجب رحمه الله: " ما ينظر المرائي إلى الخلق في عمله إلاّ لجهله بعظمة الخالق ".
    فإذا علم العبد أنَّ الله وحده هو الذي ينفع ويضرُّ، ويرفع ويخفض، ويقدّم ويؤخّر، طرح من قلبه الخوف من النَّاس والطّمع فيما في أيديهم، فلا يخشى ذمَّهم، ولا يطمع فِي ثنائهم.
    وكذلك، متى علم العبد أنَّ الله سميعٌ بصيرٌ، يعلم خائنة الأعين وما تُخفِي الصُّدور، طرح مراقبة النَّاس من قلبه. قال ابنُ القيّم رحمه الله في " الفوائد " (1/ 149):
    " لا يجتمع الإخلاص فِي القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يَجتمع الماء والنار، والضب والحوت.
    فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فاقبل على الطمع أولا، فاذبَحه بسكين اليأس، وأقبل على الْمدح والثناء، فازهد فيهما زهد عشَّاق الدنيا فِي الآخرة.
    فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد فِي الثناء والْمدح، سهل عليك الإخلاص.
    فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبـح الطمع والزهد فِي الثناء والْمدح ؟ قلت:
    أمّا ذبح الطّمع فيُسهِّله عليك علمُك يقينا أنّه ليس من شيء يُطمَع فيه إلاّ وبيد الله وحده خزائنه، لا يملكها غيره، ولا يُؤتِي العبدَ منها شيئا سواه.
    وأمّا الزُّهد فِي الثّناء والمدح، فيُسهّله عليك علمُك أنه ليس أحد ينفع مدحُه ويزين، ويضرّ ذمّه ويشين إلاَّ الله وحده، كما قـال ذلك الأعرابِي للنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ، وَإِنَّ ذَمِّي شَيْنٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( ذَاكَ اللَّهُ )) [رواه التّرمذي وأحمد].
    فازهد فِي مدح من لا يَزينُك مدحُه، وفِي ذمِّ من لا يشينُك ذمُّه، وارغب فِي مدح من كلُّ الزَّينِ فِي مدحه، وكل الشَّينِ فِي ذمِّه.
    ولن يُقدَر على ذلك إلاَّ بالصبر واليقين، فمتى فقـدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السّفر فِي البحر فِي غير مركب، قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّك َ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الرّوم:60]، وقال تعالَى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] ".
    فالإخلاص لوجه الله تعالى أن تستحي منه إذ علّمك وفهّمك وأجلسك مجالس الرّحمة هذه، فمن العيب بعد ذلك أن تعمل لغيره.
    3- تكلّف إخفاء العمل أحيانا:
    كصلاة النّافلة، والصّدقة، وغير ذلك أمام من تظهر أمامه هذه الأعمال غالبا، كصديق ملازم، أو زوجة ونحوهم.
    لأنّ تعوّد إخفاء الأعمال عمّن يغلب عليهم اطّلاعهم عليك من أحسن ما يعوّد المؤمن على الإخلاص.
    وقد قالوا: عمل الخلوة أحبّ إلينا من عمل الجلوة. لذلك كان كثير من السّلف يستحبّون أن يكون للرّجل خبيئةٌ من عمل صالح لا يعلم به أحد، اقتداء بحديث أصحاب الغار الثّلاثة، وبما رواه الضّياء في " المختارة "، والخطيب في " تاريخه " عَن الزُّبير بن العوّام رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( مَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبِيءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ )) [" الصّحيحة "(2313)].
    بل كانوا يكرهون إظهار حسناتهم كما يكره أحدنا إظهار عيوبه، وما قصّة عبد الله بن المبارك عنّا ببعيد.
    فقد ذكر ابن الجوزي في "صفوة الصّفوة" (4/144) عن عبدة بن سليمان قال:
    كنّا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الرّوم، فصادفنا العدوّ، فلمّا التقى الصفّان خرج رجل من العدوّ، فدعا إلى البِراز ( أي: المبارزة )، فخرج إليه رجلٌ فطارده ساعة فطعنه فقتله، ثمّ آخر فقتله.
    ثمّ دعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم عليه النّاس، وكنت فيمن ازدحم عليه، فإذا هو ملثِّمٌ وجهَه بكمّه، فأخذت بطرف كمّه فمددته، فإذا هو عبد الله بن المبارك، فقال: و أنت يا أبا عمرو ممّن يشنّع علينا.
    ويقول الحسن:" إن كان الرّجل لَيجمع القرآن ولَمَّا يشعر به الناس، وإن كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة ولَمَّا يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ولَمَّا يشعر الناس به، ولقد أدركت أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملونه في السر فيكون علانية أبداً ".
    وهذا منصور بن المعتمر كان يكتحل نهارا حتّى لا يظهر أثر دموع الأسحار في عينيه.
    وقال النّعمان بن قيس: ما رأيت عبيدة رحمه الله متطوّعا في مسجد الحيّ.
    وروى ابن المبارك في " الزّهد " عن الرّبيع بن خثيم أنّه ما رُئِي متطوّعا في مسجد الحي.
    ويقول حمّاد بن زيد:" كان أيّوب رُبَّما حدّث فِي الحديث فيرقَّ وتدمعَ عيناه، فيلتفت ويَمتخطُ، ويقول ما أشدَّ الزكام ! فيُظهرُ الزُّكامَ لإخفاءِ البكاء.
    ويقول محمّد بن واسع التابعي: إن كان الرّجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا تعلم.
    وكان علي بن الحسين يحمل الخبز بالليل على ظهره يتتبع به المساكين بالظلمة، ويقول: إنّ صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ. قال محمّد بن إسحاق: كان أهالٍ بالْمدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات وانقطع الطَّعام عرفوه، ورأوا على ظهره آثاراً مِمَّا كان ينقله من القِربِ والْجِرابِ بالليل وكان يعول مائة بيت.
    ومن عجائب أخبار المخلصين ما حصل لصاحب النَّفق، وما أدراك من صاحب النّفق ؟
    فقد حاصر المسلمون حصناً واشتد عليهم رمي الأعداء، فقام أحد المسلمين وحفر نفقاً فانتصر المسلمون، ولا يُعرَف من هو هذا الرجل؟
    وأراد مَسلمة أن يعرف الرَّجل لمكافأته، ولَمَّا لَمْ يجده سأل الله تعالى أن يأتيه. فأتاه طارقٌ بليل، وسأله شرطاً، وهو أنه إذا أخبره من هو لا يبحث عنه بعد ذلك أبداً، فعاهده، فأخبره.
    و كان مسلمة يقول: اللّهم احشرنِي مع صاحب النفق.
    وذكر ابن خلّكان في ترجمة الإمام الْماوردي أنّه لم يُظهِر شيئاً من تآليفه فِي حياته، حتّى دنت وفاته فوكل بها إلى شخص يثق به فقال له: إنّ الكتب التِّي فِي المكان الفلانِي كلّها من تصنيفي، وإنَّما لَم أظهرها لأنِّي لَم أجد نيّة خالصة لله تعالى لَم يشبها كدر !

    3-الصّيام: ومعلوم أنّ الصّيام مدرسة للإخلاص، إذ تكون على طاعة لا يعلمها إلاّ الله.
    وفي الحديث: (( كلّ عمل ابن آدم له، إلاّ الصّوم، فإنّه لي وأنا أجزي به )) فهو يجعل العبد معتادا على العمل لله وحده.
    4-مراقبة النّفس قبل العمل.
    قيل للحسن رحمه الله: تعالَ نشهدْ جنازة فلان. فدخل بيته ثمّ خرج، فسئل ؟ فقال: أخلصت النيّة.
    بمعنى أنّه أشهد الله تعالى أنّه ما خرج لئلاّ يقال عنه متقاعس عن حضور الجنازة، ولولا الحياء من النّاس ما تكلّفت شهودها ! لا، ولكن خرجت طمعا في الأجر.
    وكان ابن عيينة يقول:" ما عالجت شيئا أشدّ عليّ من نيّتي تتقلّب عليّ ".
    وكان بعضهم إذا قيل له حدِّثنا، قال:" لا، حتّى تأتي النيّة ".
    ذلك لأنّ أوّل ما يطلب الإنسان العلم يأتيه الزّهو والغرور، وحبّ المناظرة والمناقشة والظّهور، والبروز على الأقران، وغير ذلك من حظوظ الدّنيا، فمن أراد الله به خيرا في بداية الطّلب كسر قلبه لخشيته.
    وتبقى المراقبة أثناء العمل، وبعد العمل.
    فقد ذكر الذّهبي عن أبِي الحسن القطان قال: أُصِبتُ ببصري، وأظن أنِّي عوقبت بكثرة كلامي أثناء الرحلة !
    قال الذهبي: صدق والله، فإنَّهم كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالباً، يخافون من الكلام وإظهار المعرفة.
    وقال هشام الدَّستوائي:" والله ما أستطيع أن أقول إنِّي ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عزَّ وجلَّ ".
    5-قراءة سير الصّالحين المخلصين.
    فالنّفس مجبولة على حبّ الائتساء، فلندعْها تستغلّ ذلك في الإخلاص ..
    وقد قال أبو حنيفة رحمه الله: لتراجم العلماء أحبّ إليّ من كثير الفقه، وقيل قديما: تراجم الرّجال مدارس الأجيال.
    فمن أقوالهم:
    - المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته.
    - وقال ابن أبي ملكية: أدركت ثلاثين من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلهم يخاف النفاق على نفسه.
    - وقال سهل بن عبد الله: ليس على النّفس شيء أشقّ من الإخلاص لأنّه ليس لها فيه نصيب.
    - وقال يوسف بن الحسين: أعزّ شيء في الدّنيا الإخلاص.
    - وقال نعيم بن حماد: ضرب السياط أهون علينا من النيّة الصّالحة.
    - وقال ابن القيم: العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه.
    - وقال الفضيل بن عياض: أدركنا أناسا يراءون بما يعملون، فصار الناس اليوم يراءون بما لا يعملون.
    - وعن الحسن أنه قال: لا يزال العبد بخير إذا قال، قال لله، وإذا عمل، يعمل لله.
    ومن أخبارهم:
    - كان منصور بن المعتمر إذا صلى الغداة أظهر النشاط لأصحابه فيحدثهم ويكثر إليهم، ولعله إنما بات قائماً على أطرافــه، وكلّ ذلك ليخفي عليهم العمل.
    - وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يصلّي، فإذا دخل عليه الدّاخل نام على فراشه.
    - وحسان بن أبي سنان تقول عنه زوجته: كان يجيء فيدخل في فراشي، ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج، ثم يقوم فيصلي.
    - قال ابن الجوزي: كان إبراهيم النخعي إذا قرأ في المصحف فدخل داخل غطّاه.
    - وكما كانوا يخافون الرّياء في العبادة فقد كان خوفهم أشدّ خوفهم من الرّياء في باب العلم:
    - قال الشافعي: "وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم -يقصد علمه- على أن لا ينسب إليّ حرف منه.
    - قال ابن المبارك: "ما لقيت واحدا من أهل العلم إلا قال: إياك والشهرة".
    - وذكر ابن الجوزي عن الحسن أنه قال: كنت مع ابن المبارك فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس، فزحموه ودفعوه، فلما خرج قال لي: ما العيش إلا هكذا، يعني حيث لم نعرف ولم نوقر.
    6- مخالطة من تتوسم فيه الإخلاص:
    فالصّاحب ساحب، والنّاس كأسراب القطا مجبولون على أن يتشبّه بعضهم ببعض، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: (( المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ )) {رواه أحمد والترمذي].
    7- المجاهدة: قال سفيان: " ما عالجت شيئا أشدّ عليّ من نيّتي، لأنّها تتقلّب عليّ ".
    8- الدنوّ من المساكين.
    فتلك وصيّة حفظها أبو ذرّ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: (( أوصاني خليلي بحبّ المساكين والدنوّ منهم )).
    وكان من دعائه صلّى الله عليه وسلّم: (( وأسألك حبّ المساكين )).
    قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في جزء سمّاه "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" حيث قال ص(84-88):
    " اعلم أنّ محبّة المساكين لها فوائد كثيرة:
    منها أنّها توجب إخلاص العمل لله عزّ وجلّ، لأنّ الإحسان إليهم لمحبّتهم لا يكون إلاّ لله عزّ وجلّ، لأنّ نفعهم في الدّنيا لا يُرجى غالبا، فأمّا من أحسن إليهم ليُمدح بذلك، فما أحسن إليهم حبّا لهم، بل حبّا لأهل الدّنيا وطلبا لمدحهم له بحب المساكين ".
    9- تذكر الموت: فقد روى التّرمذي والنّسائيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ )) -يَعْنِي الْمَوْتَ- زاد غيرهما: (( فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ فِي ضِيقٍ إِلاَّ وَسَّعَهُ، وَلاَ ذَكَرَهُ فِي سَعَةٍ إِلاَّ ضَيَّقَهَا عَلَيْهِ )).
    10- معرفة فوائد الإخلاص:
    ذلك لأنّ المرء إذا عرف ما يجنيه من الثّمار العظيمة حرص على العمل، وإذا علم العواقب الوخيمة تراجع وكسل.
    1- أعظم فوائده قبول العمل، ومثل المرائي كمثل المسافر يحمل جرابا من تراب، يُتعِبُهُ ولا ينفعه.
    2- النّجاة من الفواحش والمصائب، قال تعالى حكاية عن إبليس:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)}.
    وهذا يوسف عليه السّلام يقول تعالى عنه:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: من الآية24].
    وفي قصّة الثّلاثة الّذين آواهم المبيت إلى غار، ترى أنّهم ما أنجاهم إلاّ إخلاصهم.
    3-الثّبات على الاستقامة .. قال مالك قولته المشهورة: " ما كان لله دام واتّصل ".. لذلك كان كلّ من زلّت به قدمه في الطّريق كان لأجل عدم أو قلّة الإخلاص.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي

    الآداب الشّرعيّة (3) الأدب مع الله في العبادة


    الكاتب: عبد الحليم توميات



    ( الأدب مع الله في العبادة )
    ومن الأدب مع الله في العبادة كما يقول ابن القيّم رحمه الله في "مدارج السّالكين" (2/384):
    " والأدب هو الدّين كلّه:
    - فإنّ ستر العورة من الأدب.
    - والوضوء وغسل الجنابة من الأدب.
    - والتطهّر من الخبث من الأدب، حتّى يقف بين يدي الله طاهرا.
    - ولهذا كانوا يستحبّون أن يتجمّل الرّجل في صلاته للوقوف بين يدي ربّه.

    وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصّلاة، وهو أخذ الزّينة، فقال تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، فعلّق الأمر بأخذ الزّينة، لا بستر العورة إيذانا بأنّ العبد ينبغي له أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصّلاة.
    وكان لبعض السّلف حلّة بمبلغ عظيم من المال، وكان يلبسها وقت الصّلاة ويقول: ربّي أحقّ مَن تجمّلت له في صلاتي.
    ومعلوم أنّ الله سبحانه وتعالى يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده، لا سيّما إذا وقف بين يديه، فأحسن ما وقف بين يديه بملابسه ونعمته الّتي ألبسه إيّاها ظاهرا وباطنا "اهـ.
    - ومن الأدب: نهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المصلّي أن يرفع بصره إلى السماء:
    فقد روى البخاري وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ ؟! )) فاشتدّ قوله في ذلك حتى قال: (( لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ )).
    روى ابن أبي شيبة عن محمّد بن سيرين رحمه الله قال:" كانوا لا يجاوز بصر أحدهم موضع سجوده ".
    قال ابن القيّم:" فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا من كمال أدب الصلاة: أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقا خافضا طرفه إلى الأرض ولا يرفع بصره إلى فوق.
    قال: والجهمية لما لم يفقهوا هذا الأدب ولا عرفوه، ظنّوا أن هذا دليل أن الله ليس فوق سمواته على عرشه كما أخبر به عن نفسه واتفقت عليه رسله وجميع أهل السنة.
    قال: وهذا من جهلهم، بل هذا دليل لمن عقل عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم على نقيض قولهم، إذ من الأدب مع الملوك: أنّ الواقف بين أيديهم يطرق إلى الأرض ولا يرفع بصره إليهم، فما الظنّ بملك الملوك سبحانه !؟"اهـ.
    - ومن الأدب أيضا ترك الالتفات في الصّلاة:
    فقد روى الترمذي عن الحارث الأشعري رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
    إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا، وَيَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا.
    فَقَالَ عِيسَى: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ، وَإِمَّا أَنْ آمُرَهُمْ.
    فَقَالَ يَحْيَى: أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِي أَوْ أُعَذَّبَ.
    فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَامْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، وَتَعَدَّوْا عَلَى الشُّرَفِ، فَقَالَ:
    إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ، وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ:
    أَوَّلُهُنَّ: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ، فَقَالَ: هَذِهِ دَارِي وَهَذَا عَمَلِي، فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ، فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ ؟
    وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ ...)) الحديث.
    وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن التلفّت في الصّلاة، فقال: (( اِخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ العَبْدِ )).
    والاختلاس هو: الاختطاف بسرعة، قال العلاّمة الطّيبي طيّب الله ثراه:
    " سمّي اختلاسا تصويرا لقبيح تلك الفِعلة، لأنّ المصلّي يقبل عليه الرّب تعالى، والشيطان مرتصد له ينتظر فوات ذلك عليه، فإذا التفت اغتنم الشيطان لبفرصة فسلبه تلك الحالة، والله أعلم " اهـ.
    - ومن الأدب مع الله عزّ وجلّ السّكون في الصّلاة:
    وهو الدوام الذي قال الله تعالى فيه :{ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } [المعارج: 23]. ومنه حديث: (( لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ )) أي: السّاكن.
    وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه سئل عن هذه الآية، أهم الذين يصلون دائما ؟ قال:" لا، ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه ".
    قال ابن القيم:" هما أمران: الدوام عليها، والمداومة عليها ".
    وروى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: (( مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ ؟! اسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ )). والشُّمْس: جمع شَمُوس، وهي النَّفور.
    فمن العبث وسوء الأدب مع الله كثرة الحركة في الصّلاة، وخاصّة من غير داعٍ، كمسّ اللّحية، وتحريك اليد، ونزع القذى من البدن والثّوب وغير ذلك.
    وقد روى البخاري ومسلم عن مُعَيقِيب رضي الله عنه قال: ذَكَرَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم الْمَسْحَ فِي الْمَسْجِدِ - يَعْنِي الْحَصَى – قَالَ: (( إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَوَاحِدَةً )).
    وعن جابر رضي الله عنه قال: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن مسح الحصى في الصّلاة ؟فقال: ((وَاحِدَةً، وَلَأَنْ تُمْسِكَ عَنْهَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ مِائَةِ نَاقَةٍ، كُلُّهَا سُودُ الحَدَق )) [رواه ابن خزيمة، وهو في " صحيح التّرغيب والتّرهيب " (557)].
    - ومن الأدب مع الله تعالى:ترك قراءة القرآن في الرّكوع والسّجود.
    قال ابن القيّم:" وسمعته – يقصد شيخ الإسلام - يقول في نهيه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود:
    إنّ القرآن هو أشرف الكلام، وهو كلام الله، وحالتا الركوع والسجود حالتا ذلّ وانخفاض من العبد، فمن الأدب مع كلام الله: ألاّ يُقرَأ في هاتين الحالتين، ويكون حال القيام والانتصاب أولى به "اهـ.
    - ومن الأدب مع الله: أن لا يستقبل بيته ولا يستدبره عند قضاء الحاجة:
    كما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيوب، وسلمان، وأبي هريرة، وغيرهم رضي الله عنهم، والصّحيح: أنّ هذا الأدب يعمّ الفضاء والبنيان.
    - ومن الأدب مع الله في الوقوف بين يديه في الصلاة وضع اليمنى على اليسرى:
    وذلك حال قيام القراءة، ففي الموطّأ لمالك عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أنّه من السنة، وكان الناس يؤمرون به.
    ولا ريب أنه من أدب الوقوف بين يدي الملوك والعظماء.
    والمقصود : أن الأدب مع الله تبارك وتعالى هو القيام بدينه والتأدب بآدابه ظاهرا وباطنا.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي



    - الآداب الشّرعيّة (4) تعظيم النـبـيّ ومحبّته


    الكاتب: عبد الحليم توميات



    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
    فإنّ ما نراه رأي العين، ونلمسه لمس اليد، هو تلك الهوة العميقة، والفجوة السّحيقة بين المسلمين ونبيّهم صلّى الله عليه وسلّم، من جهة تعظيمه، وحبّه وتكريمه، وطاعته واتّباع سبيله.
    حتّى أضحى حال جمهور المسلمين اليوم:
    كأنّهم نسُوا أنّ محمّدا نبيّ مرسل، اصطفاه الله تعالى على سائر البشر !
    وإمّا أنّهم نسُوا معنى النبوّة والرّسالة ! .. وما أعظمها من جهالة..!
    وإمّا أنّهم لا يعرفون عن رسولهم إلاّ القليل، فاستبدلوا به أهل الفواحش والتّضليل، وأصحاب الغناء والتّمثيل ..

    أمّا لو تذكّروا منزلته عند ربّه سبحانه، والخصائص الّتي حباه بها، وشرّفه بنَيْلها، لعادت هيبته إلى قلوبهم، وجعلوه إمام دروبهم ..
    إنّه النبيّ الّذي أوجب الله على جميع الأنبياء والرّسل اتّباعه، فقال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].
    إنّه دعوة إبراهيم عليه السّلام الّذي نادى ربّه قائلا:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129].
    إنّه بشارة عيسى عليه السّلام الّذي نادى قومه قائلا:{يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصّف:من الآية6]..
    إنّه النبيّ الّذي خُصّ بأن أرسله الله إلى الخلق جميعم، فقال الله في حقّه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف: من الآية158].
    إنّه النبيّ الّذي ختم الله به الرّسالات دون غيره من الرّسل.
    إنّه النبيّ الّذي خلدت شريعته، فكان لا بدّ أن تخلُد معجزته، فقال صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ ، وإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) [متّفق عليه].
    إنّه النبيّ الوحيد الّذي أقسم الله بحياته: فقال تعالى:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، وما ذلك إلاّ لأنّها أشرف وأعظم نفس عند الله.
    إنّه النبيّ الوحيد الّذي ناداه الله تعالى بوصف الرّسالة والنبوّة،ولم يدعُهُ قط باسمه صلّى الله عليه وسلّم.
    فكان لزاما أن نضع أيدينا على أهمّ الآداب الواجبة تجاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لأنّها حقٌّ من حقوقه، وهو الّذي قال: (( فَأَعْطِ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ )).
    * الأدب الأوّل: تعظيمه صلّى الله عليه وسلّم.
    إنّ الأدب الأوّل الّذي يجب على كلّ مسلم أن يتحلّى به هو: تعظيم قدر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لأنّه إذا حلّ في القلب تعظيمه تحرّكت الجوارح لطاعته واتّباعه.
    لذلك أمر الله تعالى بتعظيمه قبل نصرته واتّباعه، لأنّ النّصرة والاتّباع من ثمرات التّعظيم، قال تعالى:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: من الآية157]..
    وإنّ القاصي والدّاني ليشهد للصّحابة بأنّهم حازوا قصب السّبق في الفضل لتعظيمهم أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
    وتأمّل ما رواه البخاري عن المسور بن مخرمة حين جاء عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ ليبرم مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلح الحديبية: ( جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم بِعَيْنَيْهِ.
    فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ ! وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم مُحَمَّدًا:
    وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا ).
    * الأدب الثّاني: المحبّة والاتّباع:
    إنّه أدب ضائع، لا يتمسّك به إلاّ القلّة في الواقع ..
    أدب فضح الأدعياء، الّذين يدّعون محبّة سيّد الأنبياء ..
    أدب يُمتحن به كلّ من ادّعى محبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بل يُمتحن به كلّ من ادّعى محبّة الله، قال الله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[آل عمران:31].
    فلنسأل أنفُسنا: هل نحبّ فعلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟
    ولا بدّ من فهم السّؤال قبل الجواب ؟
    لأنّه ما من مسلم على ظهر الأرض، حتّى ذلك الّذي تراه مدمنا على الخمر والميسر، لو سألناه هذا السّؤال لما تردّد في أن يقول: نعم ! وكيف لا أحبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟
    ذلك لأنّه لم يفهم بعدُ معنى محبّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم..
    لا يعلم أنّ محبّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم درجتان: أصل المحبّة، وحقيقة المحبّة.
    - أصل المحبّة، وهي الّتي يكون بها مسلما.
    - وحقيقة المحبّة هي الّتي يكون بها مؤمنا.
    أصل المحبّة: لو انعدم لكان من الكافرين المحرومين .. فلا تجد مسلما يقول أنا لا أحبّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ..
    أمّا حقيقة المحبّة: التي أمر الله بها، ويحاسَبُ العبدُ عليها فهي ليست مجرّد كلمة تقال، أو طيفٍ يخطر ببال ..
    إنّ محبّة نبيّ الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم ليست في المدائح والطّبول، ولا في جلسة تُسرَد فيها سيرة الرّسول ..
    إنّما المحبّة الحقيقيّة هي في إحياء سنّته، واتّباع طريقته، والذبّ عن ملّته، ورفع الذلّ عن أمّته.
    أمّا مجرّد اللّسان، فما أسهل حركته ! وما أعظم حسرته !
    تأمّل معي قول ربّ العزّة سبحانه:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:14].
    فالله أثبت لهم الإسلام بمجرّد اللّسان، ولكنّه تعالى يريد منهم أعظم من ذلك:{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً}..
    محبّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن تقدّم اتّباعه على شهوات النّفس ..
    وأن تقدّم طاعته واتّباعه على طاعة الوالدين ..
    وأن تقدّم ما أمرك به ويرضيه، على ما يشتهيه الأولاد ويُرضيهم ..
    روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )).
    وروى البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي.
    فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ )).
    فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( الْآنَ يَا عُمَرُ )).
    وأدعوك أخي المسلم لتتأمّل معي كلّ آية يأمر الله فيها بالإيمان بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإنّه لا يعلّق الأمر بالمحبّة فقط، بل لا بدّ من النّصرة والاتّباع.
    استمع إلى ربّ العزّة وهو يأخذ المواثيق على أنبيائه ورسله، فيقول:{ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ } [آل عمران:81]..
    وقال عن الحواريّين أتباع عيسى عليه السّلام:{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53].
    وقال تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:58].
    وقال عزّو جلّ:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].

    حتّى ( يُحكّموك ) أنت يا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ! لا غيرك .. لا هواهم، ولا أعرافهم، ولا أذواقهم، ولا عقولهم، ولا من خدعوهم بالحضارة المزيّفة.
    ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل اشترط أن لا يجدوا في أنفسهم حرجا، وأن يسلّموا تسليما.
    [يتبع]






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: الآداب الشّرعيّة

    الآداب الشّرعيّة (5) صور مشرقة في محبّة النبيّ واتّباعه


    الكاتب: عبد الحليم توميات












    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:

    فقد تطرّقنا فيما سبق إلى رأس الأدب مع النبيّ صلّى الله علليه وسلّم، ألا وهو: محبّته وتعظيمه.

    ولكنّ هناك قطّاعَ طرق كثيرين، يحولون بين المؤمنين ونبيّهم المصطفى الأمين صلّى الله عليه وسلّم.

    فإليك صورا مشرقة من حياة أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومن تبعهم بإحسان .. صور مشرقة من أدب الصّحابة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكيف كانوا يمتثلون أمره، ويبادرون إلى طاعته، لأنّهم أيقنوا أنّ طاعته من طاعة الله.



    تعالوا ننظر إلى مواقفهم أمام قطّاع الطّرق كالمال، والجاه، والوالد، والولد، والمصالح، والواقع، فلقد كان في قصصهم عبرة لكلّ معتبر، وحجّة قائمة على كلّ متكبّر.

    * فأمام سلطان المال:



    أزفّ إليك ما رواه مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ، وَقَالَ:

    (( يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ !)).

    فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ. قَالَ:" لَا وَاللَّهِ، لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ".

    وروى البخاري ومسلم عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال:" بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ".

    زاد ابن حبان:" فكان جرير إذا اشترى شيئا أو باع يقول لصاحبه: اعلم أنّ ما أخذنا منك أحبّ إلينا ممّا أعطيناكه فاختر ".

    وروى الطبراني في ترجمة جرير:" أنّ غلامه اشترى له فرسا بثلثمائة، فلمّا رآه جاء إلى صاحبه فقال: إنّ فرسك خير من ثلثمائة، فلم يزل يزيده حتى أعطاه ثمانمائة ".

    * وأمام سلطان الجاه:



    أنقل لك ما رواه مسلم عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ:

    كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً فَقَالَ: (( أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ؟! )).

    قال: وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ثُمَّ قَالَ: (( أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ؟!)).

    فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ثُمَّ قَالَ: (( أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ؟!)).

    قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ:

    (( عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطِيعُوا، وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا )).

    فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ.

    * وأمام سلطان عاطفة البنوّة:



    تعجب ممّا رواه ابن حبان والطّبراني عن أبي هريرة قال:

    مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عبد الله بن أبيّ ابن سلول وهو في ظلّ أجمة - مكان فيه أشجار - فقال: قد غبّر علينا ابن أبي كبشة !

    فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: والّذي أكرمك، والّذي أنزل عليك الكتاب لئن شئتَ لآتينّك برأسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

    (( لاَ، وَلَكِنْ بَرَّ أَبَاكَ، وَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُ )).

    * وأمام عاطفة الأبوّة:



    فانظر إلى الصدّيق رضي الله عنه يوم بدر ...

    فقد هناك ابنٌ له، في صفوف المشركين، وكان إذا رأى أباه اختفى، فلمّا أسلم بعدُ، قال له:

    قد كنت أبتعد عنك حين أراك مخافة أن يسبق سيفي إليك !

    فقال أبو بكر: والله لو رأيتك لقتلتك.

    * وأمام سلطان المصلحة:



    استمع إلى ما رواه مسلم عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه عندما نهاهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن المحاقلة - نوع من أنواع الإجارة على الأرض - قَالَ:

    ( نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا ).

    * أمام الواقع المرّ:



    فخير مثال بين يديك حادثة أحد المريرة، يوم تخلّف خير النّاس عن مكانهم، فذاقوا وبال أمرهم.

    روى أحمد عن ابن عبّاس أَنّه قال:

    إنّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم أَقَامَ الرُّمَاةَ فِي مَوْضِعٍ، ثُمَّ قَالَ: (( احْمُوا ظُهُورَنَا، فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تَنْصُرُونَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلَا تَشْرَكُونَا )).

    فكان ما كان عندما قُدِّم الواقع على النّص، ونزل القرآن مؤدّبا أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:

    { وَلَقَد صَدَقَكُم الله وَعدَه، إِذ تَحُسُّونَهُم بِإِذنِه، حَتَّى إِذَا فَشِلتُم وَتَنَازَعتُم فِي الأَمرِ وَعَصَيتُم مِن بَعدِ مَا أَرَاكُم مَا تُحِبُّون، مِنكُم مَن يُرِيدُ الدُّنيَا وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُم عَنهُم لِيَبتَلِيَكُم، وَلَقَد عَفَا عَنكُم، وَاللهُ ذُو فَضلٍ عَلَى المُؤمِنِين } [آل عمران: من الآية152].

    وما حادثة صلح الحديبية ببعيدة عن المتأمّل. فظاهر الواقع أنّ الصّلح ذلّ وهزيمة، فجعل الله من وراءه النّصر والغنيمة.

    * وطاعته مقدّمة على آراء الرّجال:



    قال ابن القيّم:

    " وأمّا الأدب مع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: فالقرآن مملوء به، فرأس الأدب معه: كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق:

    دون أن يُحَمِّله معارضةَ خيال باطل يسميه معقولا، أو يُحمِّله شبهة أو شكا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحّده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسِلَ سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذلّ والإنابة والتوكل.

    فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلاّ بهما:

    1) توحيد المرسِل.

    2) وتوحيد متابعة الرسول.

    فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه فإن أذنوا له نفّذه وقبل خبره، وإلاّ فإن طلب السلامة: أعرض عن أمره وخبره وفوّضه إليهم، وإلاّ حرّفه عن مواضعه، وسمّى تحريفه ( تأويلا ) و( حملا ) فقال: نؤوّله ونحمّله "اهـ

    وقال رحمه الله بعد أن تكلم عن ضرب السّنة بآراء الرّجال:

    " فلأن يلقى العبد ربّه بكل ذنب على الإطلاق ما خلا الشّركَ بالله، خيرٌ له من أن يلقاه بهذه الحال.

    ولقد خاطبت يوما بعض أكابر هؤلاء فقلت له:

    سألتك بالله، لو قدِّر أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم حيٌّ بين أظهرنا، وقد واجهنا بكلامه وبخطابه، أكان فرضا علينا أن نتّبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم ؟


    فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه.

    فقلت: فما الّذي نسخ هذا الفرض عنّا ؟ وبأيّ شيء نُسِخ ؟ فوضع إصبعه على فيه، وبقي باهتا متحيّرا، وما نطق بكلمة "اهـ

    الحــاصــل: أنّ من كان يريد أن يختبر نفسه، وينظر إلى مقدار محبّته للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلينظر إلى مقدار اتّباعه له صلّى الله عليه وسلّم، فـ(( إِنَّ البَيِّنَةَ عَلَى المُدَّعِي )) ..

    فإن كنت صامدا أمام قطّاع الطّرق هؤلاء، فاعلم أنّك محبّ حقّا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم القائل: (( المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ )).

    والدّعاوى إن لم تقيموا عليها بيّنات فأصحابها أدعـيـاء





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: الآداب الشّرعيّة



    - الآداب الشّرعيّة (6) مظاهر الأدب مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم


    عبد الحليم توميات




    الحمد لله، والصّلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
    فهذه بقيّة الآداب الشّرعيّة، والأخلاق المرعيّة مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
    3- الأدب الثّالث: ترك التّقدّم بين يديه.
    قال ابن القيّم رحمه الله في " مدارج السّالكين ":
    ( ومن الأدب مع الرّسول صلى الله عليه وسلم: أن لا يتقدّم بين يديه بأمرٍ، ولا نهيٍ، ولا إذنٍ، ولا تصرُّفٍ حتّى يأمر هو وينهى ويأذن، كما قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُولِهِ }.



    وهذا باقٍِ إلى يوم القيامة، ولم يُنسخ، فالتقدّم بين يدي سنّته بعد وفاته كالتقدّم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم.
    قال مجاهد رحمه الله: لا تفتاتوا[1] على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
    وقال أبو عبيدة:" تقول العرب: لا تقدّم بين يدي الإمام، وبين يدي الأب، أي: لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه ". وقال غيره: " لا تأمروا حتّى يأمر، ولا تنهوا حتّى ينهى ..")اهـ.
    وفي سبب نزول هذه الآية روى البخاري عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ:
    كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ.
    فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا[2] بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِع. وَأَشَارَ الْآخَرُ[3] بِرَجُلٍ آخَرَ.
    فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي. قَالَ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ. فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ الله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ ...}. الْآيَةَ[4].
    وقد بيّن ابنُ القيّم رحمه الله أنّ من مظاهر التقدّم بين يدي الله والرّسول صلّى الله عليه وسلّم هو:
    العمل قبل معرفة حكم الله ورسوله، فقال:" أي لا تقولوا حتّى يقول، ولا تأمروا حتّى يأمر، ولا تُفْتُوا حتى يُفتِي، ولا تقطعوا أمرا حتّى يكون هو الّذي يحكم فيه ويمضيه ".
    روى علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:" لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة ". وروى العوفي عنه قال:" نُهُوا أن يتكلّموا بين يدي كلامه ".
    والقول الجامع في معنى الآية: لا تعجلوا بقول، ولا فعل، قبل أن يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو يفعل حتّى يستأذنوه.
    فإذا جُعِل من لوازم الإيمان أنّهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلاّ باستئذانه، فأولى أن يكون من لوازمه أن لا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علميّ إلا بعد استئذانه، وإذنه يُعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه "اهـ.
    4- الأدب الرّابع: ألاّ ترفع الأصوات فوق صوته صلّى الله عليه وسلّم.
    فإنّ رفع الصّوت فوق صوته صلّى الله عليه وسلّم سبب لحبوط الأعمال.
    وبعد حادثة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ. أي: حتّى يقول له: أعِد أعِد.
    وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ:
    لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ..} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، جَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ، وَقَالَ:
    أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَاحْتَبَسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ:
    (( يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا شَأْنُ ثَابِتٍ ؟ اشْتَكَى ؟))، قَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَجَارِي وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى.
    قَالَ فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ !.
    فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
    (( بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ )). وَزَادَ في رواية: فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
    قال ابن القيّم رحمه الله:" فما الظنّ برفع الآراء، ونتائج الأفكار على سنّته وما جاء به ؟".
    5- الأدب الخامس: ألاّ يُجعل دعاؤه كدعاء غيره صلّى الله عليه وسلّم.
    قال الله تعالى:{ لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً }، وفيه قولان للمفسّرين:
    · أحدهما: المعنى: لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا، بل قولوا: يا رسول الله ! يا نبيّ الله !
    من أجل ذلك يقبُح عند الإخبار عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقال: وقال محمّد ! وفعل محمّد ! بل لا بدّ من توقيره وتعظيمه عند الإخبار عنه.
    ومن تأمّل القرآن الكريم، رأى رأي العين أنّه ما من نبيّ ولا رسول إلاّ ناداه الله تعالى باسمه:
    فقال تعالى:{يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: من الآية33]، {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود: من الآية48]، {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود: من الآية76]، {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: من الآية144]، {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: من الآية55]، {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: من الآية26].. وغير ذلك..

    إلاّ نبيّ الله محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، فليس هناك موضع في القرآن يُنادى فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم باسمه، بل يناديه واصفا إيّاه بالنبوّة والرّسالة، قال تعالى في أكثر من آية:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ..}، وقال في عديد من الآيات:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ }.
    قال العزّ بن عبد السّلام رحمه الله – بتصرّف –:" ولا يخفى على أحد أنّ السيّد إذا دعا أحد عبيده بأفضل ما وُجد فيهم من الأوصاف العليّة أنّ فيه تعظيما لمنزلة من دعاه، بخلاف من دُعي باسمه العلم " اهـ.
    ولا يترك هذا الأدب إلاّ حقود حسود كالنّصارى واليهود، أو جاهل جاف كالأعراب الأجلاف، أو من ضعُف حبّه للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فترك كثيرا من أوامره وهديه، كما تراه في كتب من يسمّون أنفسهم زورا وبهتانا بالمفكّرين الإسلاميّين.
    · المعنى الثّاني: أي: لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضا إن شاء أجاب وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بدٌّ من إجابته، ولم يسعْكم التخلّف عنه ألبتة.
    وقد روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ:
    كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي.
    فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ؟ ثُمَّ قَالَ لِي: (( لَأُعَلِّمَنَّك َ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ...)) الحديث.
    6- الأدب السّادس: ألاّ يُترك مجلسه إلاّ بإذنه صلّى الله عليه وسلّم.
    قال ابن القيّم رحمه الله:" ومن الأدب معه: أنّهم إذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ من خطبة، أو جهاد، أو رباط، لم يذهب أحدٌ منهم مذهبا في حاجته له حتّى يستأذنه، كما قال تعالى:{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ }.
    فإذا كان هذا مذهبا مقيّدا بحاجة عارضة، لم يوسَّع لهم فيه إلاّ بإذنه، فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله وفروعه، دقيقه وجليله، هل يشرع الذّهاب إليه دون استئذانه ؟ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
    7- الأدب السّابع: ألاّ يُعارض قوله صلّى الله عليه وسلّمبشيء.
    قال ابن القيّم رحمه الله أيضا:"ومن الأدب معه: ألاّ يُستشكَل قوله، بل تستشكل الآراء لقوله.
    ولا يعارَض نصُّه بقياس، بل تُهدَر الأقيسة وتُلْقى لنصوصه. ولا يحرّف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا ... فكلّ هذا من قلة الأدب معه صلّى الله عليه وسلم، وهو عين الجرأة ..".
    8- الأدب الثّامن: الصّلاة عليه كلّما ذكر صلّى الله عليه وسلّم.
    كيف لا، وهو الذي بيّن لنا الطّريق إلى الله، وأرشدنا إلى كلّ ما يرضي الله، ونهانا عن كلّ ما يسخط الله ؟
    لذلك روى الترمذي وأحمد عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
    (( الْبَخِيلُ: الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ )).
    ورويا أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
    (( مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ )).
    ومعنى قوله ( ترة ): يعني حسرة وندامة.
    ومن أخطاء الكُتّاب أن يكتبوا ( ص ) أو ( صلّعم ) بجانب اسمه صلّى الله عليه وسلّم، فهو ممّا ارتكبه الجاهلون، وأذاعه ونشره المستشرقون.
    9- الأدب التّاسع: تعظيم أهل بيته صلّى الله عليه وسلّم.
    فلا نعلم أحدا من الأنبياء ولا المرسلين عُظّم أهله المؤمنون كما عُظّم أهل بيت نبيّ الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
    وآل بيته هم: قرابته المؤمنون من بني هاشم وبني عبد المطّلب،وأزواجه رضي الله عن الجميع.
    فاللهمّ صلّ على محمّد، وعلى آل محمّد، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.



    [1] ( افتات ) من الفوت، أي: سبق إلى الشيء واستبدّ به.

    [2] هو أبو بكر رضي الله عنه، والأقرع: لقب، وإنّما اسمه: فِراس بن حابس.

    [3] هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أشار بالقعقاع بن معبد، وكان يلقّب بتيار الفرات لجوده.

    [4] وفي رواية أخرى للبخاري والنسائي:" فنزل في ذلك:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُولِهِ }، حّتى انقضت الآية.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: الآداب الشّرعيّة



    - الآداب الشّرعيّة (7) الأَدَبُ مَعَ كَلاَمِ اللَّهِ عزّ وجلّ.


    الكاتب: عبد الحليم توميات




    مدخل: في فضل تلاوة القرآن وحفظه.
    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
    فإنّ القرآن العظيم هو حبل عاصم ممدود، من ربّنا الرّحيم الودود، فيه نبأ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا.
    وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذّكر الحكيم، وهو الصّراط المستقيم، هو الّذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرّد، ولا تنقضي عجائبه.



    هو الّذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتّى قالوا:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}، من قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.[1]
    وقد أثنى الله عزّ وجلّ على عباده التّالين لكتابه، فقال:{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}، ذلك لما جعل الله وأعدّه لقارئه من الثّواب الّذي لا يُحصيه إلاّ الله تعالى، من ذلك:
    1- أنّ حامل القرآن خير النّاس:
    فعن عثمانَ بنِ عفّانَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( خَيركُم مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمهُ )) [رواه البخاري].
    2- وأنّ القرآن يشفع في أصحابه:
    فعن أبي أُمَامَةَ رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: (( اقْرَؤُوا القُرْآنَ فَإنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعاً لأَصْحَابِهِ )) [رواه مسلم].
    وعن النَوّاسِ بن سَمعَانَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( يُؤْتَى يَوْمَ القِيَامَةِ بالْقُرْآنِ وَأَهْلِهِ الذِينَ كَانُوايَعْمَلُونَ بِه في الدُّنْيَا تَقدُمُهُ سورَةُ البَقَرَةِ وَآلِعِمرَانَ، تُحَاجَّانِعنصاحِبِهِمَا )) [رواه مسلم].
    3- وأنّ الله وعد قارئ القرآن إحدى الحُسنيين: مع الكرام البررة، أو له أجران.
    فعن عائشةَ رضي الله عنه قالت: قالَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( الَّذِي يَقرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ ماهِرٌ بهِ مَع السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالَّذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَليهِ شَاقٌّ له أَجْرانِ )) [متّفقٌ عليه].
    4- وأنّ حامل القرآن كالنّبات الطيّب ينتفع النّاس بمظهره ومخبره:
    فعن أبي موسى الأشْعَرِيِّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم:
    (( مَثَلُ المُؤمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ مثلُ الأترِجَّةِ: رِيحهَا طَيِّبٌ وَطَعمُها طَيِّبٌ، وَمثلُ المؤمِنِ الَّذِي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِالتَّمرَةِ: لا رِيحَ لَهاوَطَعْمهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الذي يَقْرَأُ القرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيحَانَةِ: رِيحها طَيِّبٌ وَطَعْمهَا مُرّ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الذي لا يَقْرَأُ القرْانَ كمَثَلِ الحَنْظَلَةِ: لَيْسَ لَها رِيحٌ وَطَعمُهَا مُرٌّ )) [متفقٌ عليه].
    5- وأن القرآن سبب الرّفعة في الدّنيا والآخرة:
    فعن عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه أنّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إنَّ الله يَرفَعُ بِهَذَا الكِتَابَ أَقوَاماً وَيَضَعُ بِهِ آخَرين )) [رواه مسلم].
    أمّا في الآخرة، فقد روى أبو داود عن عبدِ الله بن عَمْرو بن العاصِ رضي الله عنه عنِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
    (( يُقَالُ لِصَاحِبِ القُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كما كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيا، فَإنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُها )).
    6- وأنّ القرآن هو الأجدر بأن يُغبط عليه:
    فعنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه عنِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
    (( لاَ حَسَدَ إلاَّ في اثنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ الله القُرآنَ، فهوَ يقومُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وآناءَالنَّهَارِ، وَرَجُلٌ آَتاهُ الله مَالاً، فَهُوَ يُنْفِقهُ آناءَ اللَّيْلِ وَآناءَ النهارِ )) [متفقٌ عليه].
    7- وأنّ القرآن من أسباب السّكينة:
    فعنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقرَأُ سورَةَ الكَهْفِ، وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَربوطٌ بِشَطَنَيْنِ[2]، فَتَغَشَّته سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُه يَنْفِر مِنها. فَلَمَّا أَصبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَذَكَرَ ذلكَ لَهُ، فقالَ:
    (( تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ للقُرآنِ )) [متّفقٌ عليه].
    8- ولقارئ القرآن بكلّ حرفٍ حسنة:
    روى التّرمذي عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم:
    (( مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ الله فَلَهُ حَسَنَةٌ، والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمثَالِهَا، لا أَقُولُ: الم حَرفٌ، وَلكِن: أَلِفٌحَرْفٌ، وَلامٌ حَرْفٌ، وَميمٌ حَرفٌ )).
    9- وإنّ أهل القرآن في الدّنيا هم أهل الكرامة في الآخرة:
    روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
    (( يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ حَلِّهِ، فَيُلْبَسُتَاجَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّيَقُولُ: يَا رَبِّ زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَ وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍحَسَنَةً )).
    وغير ذلك من الفضائل.
    ولكنّ ثمّة آدابا لا بدّ للمسلم أن يتحلّى بها، بها يحقّق الشّرط الثّاني من شروط العبادة، ألا وهو اتّباع هدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في تلاوة القرآن، يأتي بيانها فيما يلي.
    آداب تلاوة القرآن الكريم.
    · الأدب الأوّل: الإخلاص في تلاوته وحفظه.
    وذلك بأن يريد بتلاوته وحفظه الأجرَ من الرّحمن، وأن يرزقه الله عزّ وجلّ حلاوة الإيمان، وقد أخبرنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن أوّل من تُسعّر بهم النّار، فكانوا ثلاثة، منهم قارئ للقرآن، يقرأه ليُقال عنه قارئ.
    فكم نسمع من هنا وهناك، أسئلة كلّها تدور حول كيفية حفظ القرآن ؟
    ولكن من ذا الّذي يسأل: كيف أحفظ وأحافظ على أجر تلاوة القرآن ؟ مع أنّ هذا أعظم بكثير لو كنّا من المستبصرين.
    فمن الخزي والخذلان أن يتعب المرء وينصب، ويترك النّوم وقت حلاوته، والتفسّح أيّام طلاوته، ثمّ يلقى الله تعالى قائلا له:{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } [الفرقان:23]..
    ولا يزال العلماء والأئمّة يصرّحون أنّ أصعب آية في القرآن وأوقعها على الجَنان: قوله سبحانه وتعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)} [الكهف]. ومثله قوله تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4)} [الغاشية].
    ثمّ الأجدر بتالي القرآن الكريم أن يهتمّ بالإخلاص في حفظ كلام الرّحمن وفي قراءته، كما يهتمّ بتصحيح ومراعاة أحكام تلاوته.
    - فليَحذر حافظ القرآن وتاليه أن يقصِد بذلك متاعا من الدّنيا قليلا، وزادا من أهلها هزيلا.
    روى التّرمذي عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قارئ يَقْرَأُ، ثُمَّ سَأَلَ [أي: سأل النّاس أن يُعطوه رزقا]، فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ:
    (( مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلْيَسْأَلْ اللَّهَ بِهِ، فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ )).
    - وليحذر أيضا من حبّ التصدّر بين الأصحاب، وأن يُقدّم إلى المحراب، فتلك آفة لا دواء لها. روى ابن ماجه عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
    (( مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَيُجَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ جَهَنَّمَ )).
    فكيف والقرآن هو أصل العلوم كلّها.
    نسأل الله عزّ وجلّ الإخلاص والسّداد في القول والعمل، آمين.

    [1] هناك حديث رواه التّرمذي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا اللّفظ، ولكتّه ضعيف، قال التّرمذي نفسُه:" هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال ". وما أحسن ما قاله الشّيخ الألبانيّ رحمه الله في " تخريجه للطّحاويّة "(ص71 ح3):
    " هذا حديث جميل المعنى، ولكن إسناده ضعيف ... ولعلّ أصله موقوف على عليّ رضي الله عنه فأخطأ الحارث فرفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.. "اهـ

    [2] ( الشَّطَنُ )- بفتحِ الشّينِ والطاء -: الحبل.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: الآداب الشّرعيّة

    - الآداب الشّرعيّة (8) تعاهد القرآن بالحفظ والتّلاوة


    الكاتب: عبد الحليم توميات







    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

    · الأدب الثّاني: الإكثار من تلاوته وتعاهده:

    فإنّ من تعظيم كلام الله وتكريمه هو تعاهُدُه، والإكثار من تلاوته، والسّعي في تدبّره، والعمل بمقتضاه.

    وقد قال الله تعالى مُثْنيا على من كان ذلك دأبَه:{يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ}، ومرّ معنا في بيان فضائل القرآن الكريم حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:

    (( لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللهُ القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآناَءَ النَّهَارِ )).


    قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( ينبغي لقارئ القرآن أن يُعرَف بليله إذا النّاس النّائمون، وبنهاره إذا النّاس مفرّطون ).

    وقال الحسن بن عليّ رضي الله عنهما: ( إنّ من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربّهم، فكانوا يتدبّرونها باللّيل، ويتفقّدونها بالنّهار ).

    ومن الجدير بالتّنبيه عليه أنّ الله وصف كتابه وكلامه بأنّه عزيز، فقال تعالى:{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } [فصّلت من: 41]، أي:" منيع الجناب، لا يرام أن يأتي أحد بمثله "، ومن شأن العزيز أن لا يبقى في صدر من نسِيه وهجره.

    وقال الله تعالى منكرا على المشركين:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً}، والهجر ليس التّكذيب به فقط، ولكنّه أنواع، قال ابن القيّم رحمه الله في " الفوائد " (82):

    " فائدة: هجر القرآن أنواع:

    - أحدها: هجرُ سماعه والإيمان به، والإصغاء إليه.

    - والثّاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.

    - والثّالث: هجر تحكيمه والتّحاكم إليه في أصول الدّين وفروعه، واعتقاد أنّه لا يفيد اليقين، وأنّ أدلّته لفظيّة لا تُحصِّل العلم.

    - والرّابع: هجر تدبّره وتفهّمه ومعرفة ما أراد المتكلّم به منه.

    - والخامس: هجر الاستشفاء والتّداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به.

    وكل هذا داخل في قوله:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً}.وإن كان بعض الهجر أهونَ من بعض ".اهـ

    فما مقدار ما يقرأه المؤمن حتّى لا يكون واقعاً في هجر القرآن الكريم ؟

    لم يأتِ في الشّرع ما يحدّد مقدار ما يقرأه المؤمن، فالنّصوص من القرآن والسنّة أطلقت ذلك، ورغّبت في قراءته آناء اللّيل وآناء النّهار كما سبق بيانه. وأحسن من بيّن ذلك هو الإمام النّووي رحمه الله في "التّبيان في آداب حملة القرآن " (ص 61) حيث قال:

    " والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص:

    - فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائفُ ومعارفُ، فليقتصر على قدرٍ يحصُل له معه كمالُ فهمِ ما يقرأ.

    - وكذلك من كان مشغولا بنشر العلم، أو فصل الحكومات، أو غير ذلك من مهمّات الدّين والمصالح العامّة، فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلالٌ بما هو مُرصَد له، ولا فواتُ كماله.

    - وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حدّ الملل أو الهذرمة في القراءة "اهـ

    وقد نُقِل عن السّلف في قدر القراءة عادات:

    · فمنهم من كان يختم في اليوم واللّيلة أكثر من ختمة، ومنهم من كان يختم في ليلتين، وهذا مخالف للسنّة، ولعلّ من فعل ذلك منهم لم يبلغْه نهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك.

    روى أبو داود عن عبد الله بن عَمرٍو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ )).

    قال في " عون المعبود ":" وهذا نص صريح في أنّه لا يُختَم القرآن في أقلَّ من ثلاثة أيّام ".

    وروى الإمام أحمد عن مسلم بن مخراق أنّه ذُكِر لعائشة: أنّ ناساً يقرءون القرآنَ في اللّيلة مرَّة أو مرّتين ؟ فقالت: ( أُولَئِكَقَرَءُوا وَلَمْ يَقْرَءُوا ! كُنْتُ أَقُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم لَيْلَةَ التَّمَامِ، فَكَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ، فَلَا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا تَخَوُّفٌإِلَّا دَعَا اللَّهَ عزّ وجلّ وَاسْتَعَاذَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا اسْتِبْشَارٌ إِلَّا دَعَا اللَّهَ عزّ وجلّ وَرَغِبَ إِلَيْهِ ).

    وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنّه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقلّ من ثلاث.

    · ومنهم من كان يختم في كلّ ثلاث، وهو حسن، لأنّه لم يخالف السنّة وإذن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

    · ومنهم يمن كان يختم في أربع، أو خمس، أو ستّ.

    · وأحسن العادات أن يختم القرآن في سبع، ففي الصّحيحين عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( اقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ )) قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، حَتَّى قَالَ: (( فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ )).

    قال النّوويّ:" وهو فعل الأكثرين من الصّحابة وغيرهم ".

    وأخرج ابن أبي داود رحمه الله عن مكحول قال:" كان أقوياء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرؤون القرآن في سبع، وبعضهم في شهر، وبعضهم في شهرين، وبعضهم في أكثر من ذلك ".

    · وأضعف الإيمان أن يختِمه في السّنة مرّة أو مرّتين، قال أبو الليث السّمرقندي في " البستان ":" ينبغي للقارئ أن يختم في السّنة مرّتين إن لم يقدر على الزّيادة ".

    [انظر:"التّبيان في آداب حملة القرآن " للنّووي رحمه الله (ص 59-62)]

    مسألة: إنّ نسيان القرآن بعد حفظه مكروه، ففي الصّحيحين عن أبِي موسَى الأشعريّ رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:

    (( تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا )).

    وهو ليس كبيرةً، خلافا لما انتشر لدى العامّة، وكيف لا وقد صرّح به النّووي في "الرّوضة " وفي غيره، وكلّ ما استدلّوا به ضعيف جدّا، من ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن أنسِ بنِ مالكٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

    ( عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا )). فهذا الحديث ضعيف جدّا، وممّن ضعّفه الإمام ابن المديني، والبخاري، والتّرمذي، وغيرهم.
    وهو إن صحّ فيحمل على النّسيان بمعنى ترك العمل به والإعراض عنه، كما في قوله تعالى:{ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}، والله أعلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: الآداب الشّرعيّة

    الآداب الشّرعيّة (9) من آداب قارئ القرآن الكريم

    الكاتب: عبد الحليم توميات

    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

    فإنّنا رأينا فيما سبق أدبين اثنين من آداب المسلم مع كتاب الله عزّ وجلّ القرآن الكريم: أوّلهما: الإخلاص في حفظه وتلاوته، والثّاني: تعاهد القرآن بالحفظ والتّلاوة.

    وإنّ من جملة آداب تلاوة القرآن:

    · الأدب الثّالث: الطّهـارة.

    فبعد تطهير النّفس من الشّرك الخفيّ الرّياء، ناسب أن يقوم المسلم بتطهير بدنه طهارة حقيقيّة من الخبائث، ويتطهّر من الحدث الأصغر والأكبر.

    والطّهارة لأجل القرآن نوعان:

    1- طهارة مستحبّة: وذلك عند قراءة القرآن من غير المصحف، فقد روى أبو داود وابن ماجه عن الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ أنّ النبيّ صلّىالله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَعَزَّ وَجَلَّ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ، أَوْ قَالَ: عَلَى طَهَارَةٍ )).

    وأعظم الذّكر على الإطلاق هو: كلام الله عزّ وجلّ.

    وإنّما كانت الطّهارة في هذه الحالة مستحبّةً وليس بواجبة لما رواه البخاري ومسلم عن عائشة قالت: ( كَانَ النَّبِيُّصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَيَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ ). وهو أحد التّفسيرين لقوله تعالى:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران من: 191].

    قالوا: إنّ الله تعالى ذكر ثلاثَ هيئاتٍ لا يخلو ابن آدم منها في غالب أمره، فندبه المولى عزّ وجلّ إلى ذكره في كلّ حال. [انظر " تفسير القرطبيّ "].

    وإذا كان الإمام مالك رحمه الله لا يخرج للنّاس يحدّثهم حتّى يلبس أحسن لباسه، ويتجمّل ويمسّ من الطّيب أحسنه، تعظيما لحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكذلك القرآن الكريم.

    2- طهارة واجبة: وذلك عند مسّ المصحف.

    ولا نقول ذلك استدلالا بقوله تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة].

    فإنّ الضّمير في ( لا يمسّه ) عائد إلى الكتاب المكنون، وهو اللّوح المحفوظ، والمطهّرون هم الملائكة، قاله ابن عبّاس رضي الله عنه، وسعيد ابن جبير، ومجاهد، وجابر بن زيد، وأبو نهيك، وأبو العالية، وغيرهم.

    فيكون معنى الآية مثل قوله تعالى:{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس].

    وإنّما وجبت الطّهارة لمس المصحف المطهّر لما رواه الإمام مالك رحمه الله وغيره أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: (( أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَإِلَّ ا طَاهِرٌ )).

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللهتعالى:

    " وخُصَّ القرآن بأنّه لا يمسّ مصحفه إلا طاهر، كما ثبت ذلك عن الصّحابة مثل: سعد، وسلمان، وابن عمر، وجماهير السّلف والخلف: الفقهاء الأربعة وغيرهم. ومضت به سنّة رسول اللهصلّى الله عليه وسلّم في كتابه الّذي كتبه لعمرو بن حزم الّذي لا ريب في أنّه كتبه له .." [مجموع الفتاوى (17/12)].

    وقال – كما في (21/266) –:" قال الإمام أحمد: لا شكّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتبه له، وهو أيضا قول سلمان الفارسيّ، وعبد الله بن عمر، وغيرهما، ولا يعلم لهما من الصّحابة مخالف ". وكذا حقّقه في (21/288، 26/184).

    · الأدب الرّابع: الوقار واستقبال القبلة.

    قال النّووي رحمه الله في " التّبيان ":" فينبغي أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى، ويقرأ على حال من يرى الله تعالى، فإنّه إن لم يكن يراه فإنّ الله تعالى يراه ".

    وقال رحمه الله:" ويستحبّ أن يجلس مستقبلا متخشّعا بسكينة ووقار مطرقا رأسه، ويكون جلوسه وحده في تحسين أدبه وخضوعه كجلوسه بين يدي معلّمه ". وكذا قال السّيوطي رحمه الله في " الإتقان ".

    ويدلّ على استحباب استقبال القبلة: الحديث الّذي أخرجه الطبراني في "الأوسط"(3/269) عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:

    (( إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَيِّداً، وَإِنَّ سَيِّدَ المَجَالِسِ قُبالَةَ القِبْلَةِ )) [السّلسلة الصّحيحة (2645)، و" صحيح التّرغيب والتّرهيب " (3085)].

    · الأدب الخامس: الاستياك.

    قال النّوويّ أيضا رحمه الله:" وينبغي إذا أراد القراءة أن ينظّف فاه بالسّواك وغيرِه، والاختيار في السّواك أن يكون بعودٍ من أراكٍ، ويجوز بسائر العيدان ".

    ويدلّ على ما ذكره رحمه الله ما رواه البيهقيّ عن عليّ رضي الله عنه أنّ النبَّيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال:

    (( إِنَّ العَبْدَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي أَتَاهُ المَلَكُ، فَقَامَ خَلْفَهُ يَسْتَمِعُ القُرْآنَ، وَيَدْنُو، فَلاَ يَزَالُ يَسْتَمِعُ وَيَدْنُو حَتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ، فَلاَ يَقْرَأُ آيَةً إِلاَّكَانَتْ فِي جَوْفِ المَلَكِ )).[1]

    فينبغي من أجل ذلك أن يكون فم القارئ طيّبا، لأنّ الملائكة تتأذّي من الرّائحة الكريهة، روى مسلم عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ )).

    · الأدب السّادس: الاستعاذة بالله من الشّيطان الرّجيم.

    فإنّ القرآن حلية القلوب، وزينة الصّدور، ومن المقرّر أنّ التّخليةقبلالتّ حلية، فلا يليق بعاقل أن يعمد إلى جدران بيته الملطّخة بالأقذار والأوساخ فيعلّق عليها اللّوحات وأنواع الزّينة ! بل لا بدّ من تنظيفها قبل تزيينها.

    فكذلك القلوب، تحتاج إلى تصفيتها من هموم الدّنيا وغمومها، وأغلالها وأشغالها، وليس ذلك بالإمكان إلاّ إذا طُرِد وسواس الشّيطان.

    والرّاجح من أقوال أهل العلم أنّ الاستعاذة واجبة لظاهر أمر الله تعالى:{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِالر َّجِيمِ} [النّحل:98].

    وأحسن الصّيغ أن تقول:" أعوذ بالله السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم من همزه، ونفثه، ونفخه ".

    فهمزه: هو خطراته ووساوسه، ونفثه: هو شعره، ونفخه: هو الكبر والغرور الّذي يقذفه في صدر ابن آدم.

    قال النّووي رحمه الله:" فلو مرّ على قوم سلّم عليهم وعاد إلى القراءة، فإن أعاد التّعوذ كان حسنا ".

    وللحديث بقيّة إن شاء الله تعالى.





    [1] رواه البيهقي في " السنن الكبرى "(1/38)، والضياء في " المختارة " (1/201)، وهو حسن كما قال الشّيخ الألباني رحمه الله في " السّلسلة الصّحيحة " (1213).
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: الآداب الشّرعيّة

    الآداب الشّرعيّة (10)كيف نقرأ القرآن الكريم ؟


    الكاتب: عبد الحليم توميات




    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
    فكان أوّل ما رأيناه من آداب تلاوة القرآن الكريم: الإخلاص وتطهير الباطن، ثمّ ذكرنا أنّ من حقوق القرآن تطهير الظّاهر أيضا، وذلك بالحرص على الطّهارة، والوقار واستقبال القبلة، والاستياك، ثمّ عليه بالاستعاذة بالله من الشّيطان الرّجيم.
    حتّى إذا شرع في التّلاوة، فإنّه لا بدّ من مراعاة آداب التّلاوة، منها:
    · الأدب السّابع: أن يقرأه بتؤدة وطمأنينة.


    القراءة بالتدبّر والتفهّم هو المقصود الأعظم، والمطلوب الأهمّ، وبه تنشرح الصّدور، وتستنير القلوب، قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَمُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، وقال:{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ}.
    ولا يمكن الوصول إلى هذا المقصود إلاّ بترتيل القرآن، كما أمر المولى تبارك وتعالى، فقال:{وَرَتِّلْ القُرْآنَ تَرْتِيلاً}، أي: بتؤدة، وذلك حتّى لا يُسقط حرفا من حروفه.
    وروى التّرمذي وغيره أنّ أُمّ سلَمة رضي الله عنها حين سُئلت عن قراءة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ( نَعَتَتْ قِرَاءَتَهُ فَإِذَا هِيَ تَنْعَتُ قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا ).
    وفي صحيح البخاري سُئِلَ أَنَسٌ رضي الله عنه: كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ: ( كَانَتْ مَدًّا ) ثُمَّ قَرَأَ:{بِسْمِ اللهِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، يَمُدُّ بِبِسْمِ اللهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ.
    وفي الصّحيحين – واللّفظ لمسلم - عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ رجلا قال له: إنيّ أقرأ المفصّل في ركعة واحدة، فقال: ( هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْر، إنّ قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقِيَهم، ولكنْ إِذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع ).
    وأخرج الآجرّي رحمه الله في " حملة القرآن " عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( لاَ تَنْثُروه نَثْر الدَّقْل، ولا تهذّوه هذّ الشّعر، قِفُوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب، ولا يكون همّ أحدكم آخر السّورة ).
    قال النّوويّ رحمه الله في " المجموع " (2/165):
    " واتّفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع، ويُسمّى الهذّ. قالوا: وقراءة جزء بترتيل، أفضل من قراءة جزئين في قدر ذلك الزمان بلا ترتيل.
    قال العلماء: والتّرتيل مستحبٌّ للتدبّر، ولأنّه أقرب إلى الإجلال والتّوقير، وأشدّ تأثيرا في القلب. ولهذا يُستحبّ التّرتيل للأعجميّ الذي لا يَفهم معناه.
    ويستحبّ إذا مرّ بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مرّ بآية عذاب أن يستعيذ من العذاب أو من الشرّ ونحو ذلك، وإذا مرّ بآية تنزيه لله تعالى نزّه، فقال: تبارك الله ! أوجلّت عظمة ربّنا، ونحو ذلك. وهذا مستحبّ لكل قارئ، سواء في الصّلاة وخارجها، وسواء الإمام والمأموم والمنفرد " اهـ.
    ويدلّ على ما ذكره رحمه الله:
    - ما أخرجه مسلم عن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قال:
    " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍسَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ ..."
    - وروى النّسائي وغيره عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال:" قُمْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَبَدَأَ فَاسْتَاكَ، وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، فَبَدَأَ فَاسْتَفْتَحَ مِنْ الْبَقَرَةِ، لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ يَتَعَوَّذُ، ثُمَّ رَكَعَ ...".
    - وأخرج الترمذي والحاكم عن جَابِرٍ رضي الله عنه قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَسَكَتُوا، فَقَالَ:
    (( لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، قَالُوا: لَابِشَيْءٍمِنْنِعَمِكَرَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ )).
    · الأدب الثّامن: تحسين الصّوت بالقراءة وتزيينُها.
    فقد روى البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ )).
    ولحديث ابن حبان وغيره: (( زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ )).
    وفي لفظ عند الدارمي: (( حَسِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ، فَإِنَّ الصَّوْتَ الحَسَنَ يَزيدُالقُرْآنَ حُسْناً )).
    وقد بيّن لنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الضّابط في معرفة حَسَنِ الصّوت، فقد روى ابن ماجه عن جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّىالله عليه وسلّم: (( إِنَّ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ: الَّذِي إِذَا سَمِعْتُمُوهُ يَقْرَأُ حَسِبْتُمُوهُ يَخْشَى اللَّهَ )).
    فإن لم يكن حسنَ الصَّوت حسَّنه ما استطاع، بشرطين:
    1- ألاّ يصِل به ذلك إلى حدّ التمطيط !
    جاء في " روضة الطّالبين " للنّووي رحمه الله:" قال جمهور الأصحاب:... المكروه: أن يُفرِط في المدّ، وفي إشباع الحركات؛ حتّى تتولّد من الفتحة ألف، ومن الضمّ واو، ومن الكسرة ياء، أو يُدغِم في غير موضع الإدغام، فإنْ لم ينتَهِ إلى هذا الحدّ فلا كراهة " اهـ.
    ثمّ قال رحمه الله:" والصّحيح أنّ الإفراط على الوجه المذكور حرام يفسق به القارئ، ويأثم المستمع، لأنّه عدل به عن نهجه القويم، قال: وهذا مراد الشّافعي بالكراهة "اهـ.
    2- أن يجتنب الألحان المُصطنعة ( المقـامـات ): فمن أوصاف القرآن أنّه كريم وعزيز، وعظيم، فيعلو على كلّ شيء، ويحتاج إليه كلّ شيء، فلا ينبغي أن ينزل به قارئه إلى حضيض ألحان الأغاني.
    فترى الكثيرين خرجوا عن الحدّ المشروع، فراحوا يُخضِعون القرآن لألحان أهل الغناء والمقامات, مثل: البيات, والناري, والسيكاه, والحكيمي, والديوان, والمخالف, والجبوري, والمدمي, والخناجات, والأبراهمي, والمنصوري, والعجم, والصبا, والحجاز, والمثنوي, والرّست, والشّور، وغيرها.
    والأخبار في النّهي عن ذلك كثيرة، منها:
    - ما رواه الطّبراني في " الأوسط " عن عابسٍ الغفاريّ رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا: إِمَارَةَالسُّفَهَاءِ، وَكَثْرَةَ الشُّرَطِ، وَبَيْعَ الحُكْمِ، وَاسْتِخْفَافاً بِالدَّمِ، وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ، وَنَشْواً يَتَّخِذُونَ القُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَ أَحَدَهُمْ لِيُغَنِّيَهُمْ!وَإِنْكَانَ أَقَلَّهُمْ فِقْهاً )) [قال الألباني رحمه الله في " صحيح الجامع " (5123): صحيح].
    - وجاء زياد النّهدي إلى أنس رضي الله عنه مع القرّاء، فقيل له: اقرأ، فرفع زيادٌ صوتَه بالقراءة وطرب! وكان رفيع الصّوت، فكشف أنسٌ عن وجهه - وكان على وجهه خرقة سوداء - وقال: يا هذا، ما هكذا كانوا يفعلون! وكان أنس إذا رأى شيئاً ينكره رفع الخرقة عن وجهه " [" زاد المعاد " (1/137)].
    وقد ورد أحاديث في تحريم ذلك، وفي أسانيدها نظرٌ، ولكنّه تواتر عن السّلف النّهي عن قراءة القرآن على هذا النّمط الممنوع، منها:
    - ما رواه الخلاّل في " الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ": أنّ الإمام أحمد رحمه اللهسُئل عن القراءة بالألحان ؟ فقال: ( هو بدعةٌ ومحدثٌ)، قيل له: تكرهه يا أبا عبد الله ؟ قال: نعم، أكرهه، إلاّ ما كان من طبع، كما كان أبو موسى، فأمّا منيتعلّمهبالألحان فمكروه.
    والكراهة عند السّلف تعنني الحرمة، كما هو مقرّر.
    - وروى أيضا عن عبد الرّحمن المتطبب قال: قلت لأبي عبد الله – يعني الإمام أحمد - في قراءة الألحان ؟ فقال:" يا أبا الفضل، اتّخذوهأغاني!اتّخذوه أغاني!لا تسمع من هؤلاء ".
    - وروى عن محمّد بن الهيثم قال:" لأن أسمعَ الغناء أحبّ إلَيّ من أن أسمع قراءة الألحان ".
    - قال الشّيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله في كتابة " بدع القرّاء ":
    " التّلحينُ في القراءة تلحينَ الغناء والشَّعر: وهو مسقِطٌ للعدالة, ومن أسباب ردّ الشّهادة قَضَاءً. وكان أوّل حدوث هذه البدعة في القرن الرّابع على أيدي الموالي "اهـ.
    - وقد سئل الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: ما يقول سماحتكم في قارئ القرآن بواسطة مقامات هي أشبه بالمقامات الغنائية، بل هي مأخـوذة منها، أفيدونا جزاكم الله خيرا ؟ فأجاب رحمه الله:
    " لا يجوز للمؤمن أن يقرأ القرآن بألحان الغناء وطريقة المُغنّين، بل يجب أن يقرأه كما قرأه سلفنا الصالح من أصحاب الرّسول صلى اللهعليه وسلم وأتباعهم بإحسان، فيقرأه مُرتّلاً, مُتحزّناً, مُتخشّعاً، حتّى يؤثّر في القلوب الّتي تسمعه، وحتّى يتأثّر هو بذلك.
    أمّا أن يقرأه على صفة المغنّين وعلى طريقتهم فهذا لا يجوز "اهـ.
    [" مجموع فتاوى ومقالات الشّيخ ابن باز رحمه الله"].
    · الأدب التّاسع: الاعتدال في رفع الصّوت.
    وردت أحاديث تدلّ على استحباب رفع الصّوت بالقراءة، وأحاديث أخرى تأمر بالإسرار وخفض الصّوت.
    فمن الأوّل: حديث الصّحيحين عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ، يَتَغَنَّىبِالقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ )) [أَذِنَ: سمع، كقوله تعالى:{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وحُقَّتْ}].
    ومن الثّاني: حديث أبي داود والتّرمذي والنّسائي عن عقبة بن عامر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الجَاهِرُ بِالقُرْآنِ كَالجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالمُسِرُّ بِالقُرْآنِ كَالمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ )).
    قال النّووي رحمه الله:
    " والجمع بينهما: أنّ الإخفاء أفضلُ حيث خافَ الرّياء، أو تأذّى مصلّون أو نِيامٌ بجهره، والجهر أفضل في غير ذلك.
    لأنّ العمل فيه أكثر ولأن فائدته تتعدّى إلى السّامعين، ولأنّه يوقِظُ قلب القارئ، ويجمع همّه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النّوم، ويزيد في النّشاط ".
    ويدلّ لهذا الجمع ما يلي:
    - ما رواه أبو داود عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: اعْتَكَفَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَالَ: (( أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ )).
    - وروى التّرمذي وأبو داود عَنْ أبي قتادةَ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لأَبي بكرٍ رضي الله عنه: (( مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ، وَأَنْتَتَخْفِضُ مِنْ صَوْتِكَ ؟))، فَقَالَ إِنِّي: أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ. قَالَ: (( ارْفَعْ قَلِيلًا )). وقال لعمرَ رضي الله عنه: (( مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ، وَأَنْتَ تَرْفَعُ صَوْتَكَ ؟)) قال: إِنِّي أُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، قَالَ: (( اخْفِضْ قَلِيلًا )).
    · الأدب العاشر: القراءة من المصحف.
    أن يقرأ القارئ من المصحف الشّريف أفضلُ من القراءة من حفظه، لأنّ النّظر في المصحف عبادةٌ مقصودة، لما أخرجه البيهقيّ عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
    (( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ فَلْيَقْرَأْ فِي المُصْحَفِ )) [" الصّحيحة " (5/2342)] .
    قال النّووي رحمه الله:" هكذا قاله أصحابنا، والسّلف أيضا، ولم أر فيه خلافا. قال: ولو قيل: إنّه يختلف باختلاف الأشخاص:

    فيُختار القراءة فيه لمن استوى خشوعُه وتدبُّرُه في حالتَيْ القراءة فيه ومن الحفظ.
    ويُختار القراءة من الحفظ لمن يكمُلُ بذلك خشوعُه، ويزيد على خشوعه وتدبُّرِه لو قرأ من المصحف لكان هذا قولا حسنا.
    والله الموفّق لا ربّ سواه.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: الآداب الشّرعيّة

    الآداب الشّرعيّة (11) من مظاهر تعظيم كلام الله عزّ وجلّ ؟
    الكاتب: عبد الحليم توميات
    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

    * الأدب الحادي عشر: السّجـودفي مواطن السّجدة.

    فهناك مواضع يستحبّ لقارئ القرآن إذا مرّ بها أن يسجد، وهي أربعةَ عشرَ موضعا على قول أكثر العلماء. واصطلح العلماء على تسمية هذا السّجود بسجود التّلاوة.

    وإنّ فضلَ هذه السّجود عظيم، ورتّب الله عزّ وجلّ عليه الأجر العميم، من ذلك:

    أنّه عزّ وجلّ كتب أنّه ما من سجدةٍ يسجدُها العبد له سبحانه إلاّ رفعه بها درجةً، وحطّ عنه بها خطيئةً.

    وما من سجدةٍ إلاّ وهي تبكيتٌ للشّيطان الرّجيم، فقد روى مسلم والإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسُولُ الله صلّى اللهعليه وسلّم: (( إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلِي ! أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُبِالس ُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِي النَّارُ )).

    وقد ذهب الحنفيّة إلى وجوبها.

    والصّحيح – إن شاء الله – مذهب الجمهور: أنّها سنّة وفضيلة، بدليل ما رواه البخاري عن زَيْدِ بنِ ثابِتٍ رضي الله عنه قال: قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّصلّى الله عليه وسلّم {وَالنَّجْمِفَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا.

    وروى البخاري أنّ عمرَ بنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ، فَسَجَدَ وَسَجَدَالنَّاس ُ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْلَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُرضي الله عنه.

    وزاد ابن عمر رضي الله عنه في رواية أنّ عمر رضي الله عنه قال: ( إِنَّ اللهَ لَمْ يَفْرِضْ السُّجُودَ، إِلَّا أَنْ نَشَاءَ ).

    والشّاهد: أنّه قال ذلك بحضرة جمهور الصّحابة رضي الله عنهم ولم يُنكر ذلك أحد منهم.

    * الأدب الثّاني عشر: لا يقال: نسيت آية كذا.

    يُكره أن يقول المسلم: نسيتُ آية كذا، وإنّما يقول: أُنْسِيتُها؛ للنّهي عن ذلك.

    فقد روى البخاري ومسلم عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُآيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ نُسِّيَ. وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ )).

    لذلك روى الشيخان أيضا عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم رَجُلًا يَقْرَأُ فِي سُورَةٍ بِاللَّيْلِ، فَقَالَ: (( يَرْحَمُهُ اللهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً، كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا )).

    * الأدب الثّالث عشر: التريّث في الاقتباس.

    الاقتباس هو:" تضمين الشّعر أو النّثر بعضَ القرآن لا على أنّه منه ".

    وقد اشتهر عن المالكيّة تحريمه وتشديد النّكير على فاعله، وأمّا غيرهم فقلّ من تعرّض له من المتقدّمين، وأكثر المتأخرين، مع شيوع الاقتباس في أعصارهم واستعمال الشّعراء له.

    وقد نقل الإمام السّيوطي رحمه الله عن " شرح بديعية ابن حجّة " أنّ:

    الاقتباس ثلاثة أقسام: مقبول، ومباح، ومردود.

    1- فالأوّل: ما كان في الخطب، والمواعظ، والعهود.

    2- والثّاني: ما كان في القول، والرّسائل، والقصص.

    3- والثّالث: على ضربين:

    أ*) أحدهما: ما نسبه الله إلى نفسه، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنّه وقَّع على مطالعة فيها شكاية عمّاله:" إنّ إلينا إيابهم ثم إنّ علينا حسابهم " !

    ب*) والآخر: تضمين آية في معنى هزل ! ونعوذ بالله من ذلك، كقول أحدهم:

    أوحى إلى عشاقه طرفـه *** هيهات هيهات لمـا توعدون

    وردفـه ينطق من خلفه *** لمـثل ذا فليعمل العـاملون

    قال السّيوطي رحمه الله:" وهذاالتّقسيم حسن جدّا، وبه أقول ."اهـ.

    ومن الأمثلة عن القسم المقبول: ما رواه البيهقي في " شعب الإيمان " (رقم 1321) عن شيخه أبي عبد الرّحمن السّلمي، قال: أنشدنا أحمد بن محمّد بن يزيد لنفسه:

    سـل الله من فضله واتقه *** فإنّ التّقى خير مـا تكتسِب

    ومن يتّـق الله يصنع لـه *** ويرزقه مِـن حيث لا يحتسب

    ومن الأمثلة الّتي تدخل في قسم الممنوع المردود، ما شاع استعماله هذه الأيّام، على لسان الخواصّ بلْهَ العوامّ قولهم في كلّ مناسبة: لا أفعل كذا ولا هم يحزنون !!

    مع أنّ هذا الوصف {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} جاء ذكره في أشرف مقام، وهو بيان حال أهل دار السّلام.

    ( تنبيه ): معنى قولهم في تعريف الاقتباس: ( لا على أنّه منه ): بألاّ يقول في شعره ونثره: قال الله تعالى كذا ونحوه، فإنّه حينئذ لا يُعدّ اقتباسا.

    وقد يخفى ذلك على الأجلاّء، كما ذكر الشيخ تاج الدّين بن السّبكي في " طبقاته " في ترجمة الإمام أبي منصور عبد القاهر بن الطّاهر التميمي البغدادي من كبار الشّافعية وأجلاّئهم، أنّ من شعره قوله:

    يا من عدا ثم اعتدى ثم اقترف *** ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعتـرف


    أبشر بقـول الله في آيـاتـه *** إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف

    ثمّ قال رحمه الله:" استعمال مثل الأستاذ أبي منصور مثلَ هذا الاقتباس في شعره له فائدة، فإنّه جليل القدر. والنّاس ينهَوْن عن هذا، وربّما أدّى بحثُ بعضهم إلى أنّه لا يجوز.

    وقيل: إنّ ذلك إنّما يفعله من الشّعراء الّذين هم في كل واد يهيمون، ويثبون على الألفاظ وثبة من لا يبالي، وهذا الأستاذ أبو منصور من أئمّة الدّين "اهـ..

    ولكنّ السّيوطي رحمه الله قال:" ليس هذان البيتان من الاقتباس، لتصريحه بقول الله، وقد قدّمنا أنّ ذلك خارج عنه.

    وأمّا أخوه الشّيخ بهاء الدّين فقال في "عروس الأفراح":" الورع: اجتناب ذلك كلّه، وأن ينزّه عن مثله كلام الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم "اهـ.

    يقصد أنّ الأولى اجتنابه في الشّعر خاصّة، أمّا في النّثر فقد شاع استعمال الاقتباس في كلام العلماء.

    · الأدب الرّابع عشر: التريّث في ضرب الأمثال.

    فإنّ القرآن الكريم أبلغ الكلام وأحسنه، وأعلاه وأشرفه، لذلك على المسلم أن يحذر وهو يضرب الأقيِسةَ والأمثال أن يتعدّى كلام الكبير المتعال.

    وقد شاع قول النّاس مثلا: إنّه أتى بحجّة أوهن من بيت العنكبوت ! وهذا خطأ، لأنّ الله عزّ وجلّ ذكر في كتابه أنّه ليس ثمّة أوهن من بيت العنكبوت، قال الزّركشي رحمه الله في "البرهان ":

    " لا يجوز تعدّي أمثلةَ القرآن، ولذلك أُنْكِر على الحريري قولُه:" فأدخلني بيتا أحرج من التابوت، وأوهى من بيت العنكبوت ".

    وأيّ معنًى أبلغُ من معنىً أكّده الله من ستّة أوجه، حيث قال:{وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ}، فأدخل "إنّ" وبنى أفعل التّفضيل، وبناه من الوهن، وأضافه إلى الجمع، وعرّف الجمع باللام، وأتى في خبر "إنّ" باللاّم "اهـ.

    ( فائدة ):

    قد ذهب بعض أهل الفضل إلى جواز تعدّي أمثال القرآن الكريم، مستدلاّ بأنّ الله عزّ وجلّ قال:{إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَافجعل أدنى الأشياء هو البعوض.

    ولكنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضرب المثل بما دون البعوضة، فقال: (( إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ )) [متّفق عليه].

    قال السّيوطي رحمه الله في " الإتقان ":" قد قال قوم في الآية إنّ معنى {فَمَا فَوْقَهَا} في الخِسَّة، وعبّر بعضهم عن هذا بقوله: فما دونها، فزال الإشكال "اهـ.

    والله أعلم وأعزّ وأكرم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: الآداب الشّرعيّة

    الآداب الشّرعيّة (12) الأدب مع الوالدين.


    الكاتب: عبد الحليم توميات

    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:



    فبعد أن رأينا الأدب مع الله عزّ وجلّ، والأدب مع نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وتطرّقنا إلى مظاهر الأدب مع كلام الله تعالى، بقِي أن نتحدّث عن الآداب الشّرعيّة والأحكام المرعيّة التّي تتعلّق مع سائر الخلق، من باب تقديم ما قدّمه المولى تبارك وتعالى.

    يقول ابن القيم رحمه الله في" مدارج السّالكين " (2/387- 392):

    " وأمّا الأدب مع الخلق: فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم، فلكلّ مرتبة أدب، وللمراتب فيها أدب خاصّ:



    فمع الوالدين أدب خاصّ، وللأب منهما أدب هو أخصّ به، ومع العالم أدب آخر، ومع السّلطان أدب يليق به، وله مع الأقران أدب يليق بهم، ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه، ومع الضّيف أدب غير أدبه مع أهل بيته.

    وأدب المرء: عنوان سعادته وفلاحه، وقلّة أدبه: عنوان شقاوته وبواره، فما استجلب خير الدّنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلّة الأدب.."اهـ.

    الأدب مع الوالدين.

    فالنّصوص من القرآن والسنّة أكثر من تُعدّ، وأعظم من أن تُحدّ في بيان منزلة الوالدين ربّ العالمين، وذكر عِظَم شأنهما وعلوّ مرتبتهما، من هذه النّصوص:

    1- اقتران الأمر ببرّهما بالأمر بالتّوحيد:

    يقول الله عزّ وجلّ:{وَاعْبُدُوا الله ولاَ تُشْرِكوا بِهِ شَيْئاً وَبالْوَالِدَيْ نِ إحْسَاناً} [النساء من:36]. وقال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَن لا تَعْبُدُوا إلاَّ إيّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إحْسَاناً إمَّا يَبْلُغَنَ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أفٍّ وَلا تَنْهَرهُمَا وَقُل لهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَاني صَغِيراً} [الإسراء: 23 - 24]، وغير ذلك من الآيات.

    والأمر في الآية مؤكّد من وجهين:

    الوجه الأوّل: اقتران شأنهما بشأن التّوحيد، ومن عرف منزلة توحيد الله عزّ وجلّ من الدّين، أدرك منزلة برّ الوالدين؛ لأنّ الله ما كان يقرنُ بالأمر العظيم إلاّ عظيما مثله.

    الوجه الثّاني: أنّ الله قدّم المعمول وهو ( بالوالدين ) على العامل ( إحسانا )، ومن المقرّر أنّ هذا الأسلوب يفيد التّوكيد.

    2- وهما وصيّة اللهتعالىللعباد:

    ولا بدّ من أن ننتبه إلى أمر مهمّ: وهو أنّ النّصوص لا تأمر بطاعة الوالدين، فذاك أمرٌ قد تقرّر لدى المؤمنين، وهو أدنَى مراتب برّ الوالدين، وإنّما النّصوص جاءت تأمر وتذكّر بالإحسان إليهما، وتوصِي ببرّهما، وهو قدْرٌ زائد بلا ريب على الطّاعة.

    قال تعالى:{وَوَصَيْنَا الإنْسَانَبِوَالِدَيْهِحُسْناً} [ العنكبوت: 8]، وقال تعالى:{وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَبِوَالِدَيْهِحَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصَالُهُفي عَامَيْنِ أنِ اشْكُرْ لي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14].

    والتّعبير بالوصيّة أبلغ، لما تقرّر من تعظيم وصايا العباد، فكيف بوصيّة ربّ العباد ؟!

    قال أهل العلم: إنّما وجب شكر الله عزّ وجلّ لأنّه المنعم الحقيقيّ بالخلق والرّعاية، ووجب شكر الوالدين لأنّهما السّببان في ذلك.

    3- لا يمكن أحدا ردّ معروف الوالدين:

    ذلك لأنّهما سبب وجود العبد، ولا يمكنه أن يكون سببا لوجودهما، فمهما بلغ برّه بهما، وإحسانه إليهما، فإنّه لا يمكن أن يُحسِن إليهما بوَهْب الحياة.

    وما أحسن ما رواه البخاري في " الأدب المفرد " عن أبي بردة بن أبي موسى أنّ ابن عمر رضي الله عنه شَهِد رجلا يمانيا يطوف بالبيت، يحمل أمّه على ظهره يقول:

    إنـي لـها بـعـيـرها المذلّـل *** إن أُذعـرت ركـابـها لم أُذعـر

    حملتـها أكثـر مـمّا حـمـلت *** فهـل تـرى جـازيتها با ابن عمر

    فقال ابن عمر:" لا، ولا بزفرة واحدة "، والزّفرة: تردّد النّفس حتّى تختلف الأضلاع، ويقصد بذلك آلام المرأة عند الحمل والوضع.

    لأمّك حـقّلو علمتكثير *** كثيرك يا هـذا لديه يسيـر

    فكم ليلة باتـت بثقلك تشتكـي *** لهـا من جـواها أنـة وزفير

    وفي الوضع لو تدري عليها مشقّة *** فمن غصص منها الفؤاد يطير

    وكم غسلت عنك الأذى بيمينها *** وما حِجـرها إلاّ لديك سرير

    وتفديـك ممّا تشتكيـه بنفسـها *** ومن ثـديها شرب لديك نمير[1]

    وكم مرّة جاعت، وأعطتك قُوتَها *** حنانا وإشفاقـا وأنـت صغير

    فآهـا لذي عقل ويتّبع الهـوى *** وآها لأعمى القلب، وهو بصير

    فدونك فارغب في عميم دعائها *** فأنت لما تدعـو إليه فـقـير

    وكان أحدهم يخدِم أمّه عند مرضها، ويرعاها بتطهيرها وتنظيفها، فسأل ابنَ عبّاس رضي الله عنهما: هل وفّيتها حقّها ؟ فقال حبر الأمّة رضي الله عنه: لا؛ لأنّها كانت تنزع عنك الأذى وهي ترجو حياتك، وأنت تزيل عنها الأذى وترقب موتها.

    اللهمّ إلاّ أن يقع أحدهما أو كلاهما في حبال الرقّ والاستعباد، فإنّ نعمة الحرّية حينها تقارب نعمة الحياة: فقد روى مسلم عن أبِي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: (( لا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِداً، إلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً، فَيَشْتَرِيَهُ، فيُعْتِقَهُ )).

    4- أنّ برّ الوالدين أعظم من كثير من العبادات:


    حتّى إنّ الله قدّمه على ذروة سنام الدّين، وهو الجهاد في سبيل ربّ العالمين، وعلى أعظم منازل المؤمنين وهي الهجرة.

    فقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سَأَلتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أحَبُّ إلى الله تَعَالى ؟ قال: (( الصَّلاةُ عَلى وَقْتِهَا )) قُلْتُ ؟ ثُمَّ أَيُّ ؟ قال: (( بِرُّ الْوَالِدَيْنِ )) قلتُ: ثُمَّ أَيّ ؟ قال: (( الجِهَادُ في سَبِيلِ الله )).

    ورويا أيضا واللّفظ لمسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أَقْبَلَ رَجُلٌ إلى نَبِيِّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أُبَايِعُكَ عَلى الهِجْرَةِ وَالجِهَادِ أبْتَغِي الأَجْرَ مَنَ الله تعالى. قال: (( فَهَلْ لَكَ مِن وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ ؟)) قال: نَعَمْ بَلْ كِلاهُمَا قال: (( فَتَبْتَغِي الأجْرَ مِنَ الله تَعالى ؟ )) قال: نَعَمْ. قال: (( فَارْجِعْ إلى وَالِدَيْكَ، فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا )).

    وفي روايةٍ لهما: جَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَأْذَنَهُ في الجِهَادِ ؟ فقال: (( أَحَيّ وَالِدَاكَ ؟)) قال: نعم،قال: (( فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ )).

    فحريٌّ بالمسلم ألاّ يُقدّم على خدمتهما شيئا من نوافل العبادات والطّاعات، فكيف يترك برّهما لما دون ذلك من المباحات ؟! بلْه التّفاهات والمحرّمات ؟!

    5- برّ الوالدين سبيل إلى الجنّة:

    فقد روى التّرمذي عن أبي الدّرداءِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً أَتَاهُ، فَقَالَ: إنَّ لي امْرَأَةً وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلاقِهَا ؟ فَقَال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: (( الْوَالِدُ أوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَإِنْشِئْتَفَأَضِعْ ذلِكَ الْبَابَ، أَو احْفَظْه )).

    وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (( رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ مَنْ أَدْرَكَ أبَوَيْهِعِنْدَ الْكِبَرِ، أحَدَهُمَا أوْ كِلَيْهِما، فَلَمْ يَدْخُلِ الجنَّةَ )).

    وروى النّسائيّ وابن ماجه عن جَاهِمَةَ السّلَمِيِّ أنّه جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: (( هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ )) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (( فَالْزَمْهَا؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا )).

    أي: إذا أذللت نفسك، وبذلت وُسعَك، ووضعت تحت أقدامهما وجهك، فإنّك ستجد هنالك الجنّة.

    6- برّالوالدين فرض ولو كانا مشركين:

    قال الله عزّ وجلّ:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان من:15].

    وفي الصّحيحين عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ الصِّدّيقِ رضي الله عنهما قالت: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ[2] فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ، فاسْتَفَتَيْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي ؟ قَالَ: (( نَعَمْ، صِلي أُمَّكِ )).

    وقولها: ( راغبة ) أي: طامعة تريد أن تسألها شيئا.

    فهذه الآية وهذا الحديث فيهما موعظة بليغة لمن يُسِيء معاملة الوالدين بحجّة كونهما عاصِيين ! فهل بعد الشّرك معصية ؟

    ومع ذلك نرى الله تعالى يأمرنا بالأمر الوسط، لا جور فيه ولا شطط: يأمرنا بحسن صحبتهما على شركهما، وينهانا عن طاعتهما في معصية الله عزّ وجلّ.

    وإنّ لبرّ الوالدين مظاهر وصورا نتطرّق إليها لاحقا إن شاء الله تعالى.

    والله الموفّق لا ربّ سواه.






    [1] نمير:على وزن سمير، أي ناجع، عذبا كان أو غير عذب [" مختار الصّحاح "].




    [2] فأسماء أخت عائشة من أبيها فحسب، وأمّ عائشة أمّ رومان أسلمت مع أبي بكر رضي الله عنه، أمّا أمّ أسماء فيقال إنّ اسمها قيلة، وكان أبو بكر قد طلّقها في الجاهليّة.









    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: الآداب الشّرعيّة

    الآداب الشّرعيّة (13) مظاهر برّ الوالدين.


    عبد الحليم توميات





    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
    فإنّ الكلمة الجامعة لبرّ الوالدين هي ( حسن الصّحبة )، قال الله عزّ وجلّ:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}، وجاء رجلٌ إلى رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بحسْنِ صَحَابَتِي ؟
    قال: (( أُمُّكَ )) قال: ثُمَّ مَنْ ؟ قال: (( أُمُّكَ )) قال: ثُمَّ مَنْ ؟ قال: (( أُمُّكَ )) قال: ثُمَّ مَنْ ؟ قال: (( أَبُوكَ )) [متفق عليه].
    وفي رواية: يا رسول الله مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ ؟ قال: (( أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ )).
    ومن مظاهر ذلك:


    أوّلا: خدمتهما والشّفقة عليهما.
    فإنّ جزاء الإحسان لا ينبغي أن يكون إلاّ الإحسان، فهما اللّذان رعياك من قبل ولادتك، وبعد ولادتك من صِباك حتّى بلغت أشدّك، ولو عاين الأبناء ما يُقاسيه الوالدان من ألمٍ وعناء، وتعبٍ وبلاء، لحلفوا أن لا يستريحوا عن خدمتهما، ونذروا القيام تحت أقدامهما.
    واستمع إلى واعظ الخير وهو يذكّرك بذلك:
    أيّها المضيّع لآكد الحقوق، المستبدل ببرّ الوالدين العقوق، النّاسي لما يجب عليه، الغافل عمّا بين يديه، برّ الوالدين عليك دين، وأنتتتعاطاه باتّباع الشّين.
    تطلب الجنّة بزعمك، وهي تحت أقدام أمّك، حملتك في بطنها تسع حجج، وكابدت عند الوضع ما يذيب المُهج[1]، وأرضعتك من ثديهالبنا، وأطارت لأجلك وَسَناً[2]، وغسلت بيمينها عنك الأذى، وآثرتك على نفسها بالغذا، وصيّرت حجرها لك مهدا، وأنالتك إحساناورفدا، فإن أصابك مرض أو شكاية، أظهرت من الأسف فوق النّهاية، وأطالت الحزن والنّحيب، وبذلت مالها للطّبيب، ولو خيّرَت بينحياتك وموتها، لطلبت حياتك بأعلى صوتها.
    هذا، وكم عاملتها بسوء الخلق مرارا، فدعت لك بالتوفيق سرّا وجهارا، فلمّا احتاجت عند الكبر إليك، جعلتها من أهون النّاس عليك، فشبعتَ وهي جائعة، ورويت وهي قانعة، وقدّمْتَ عليها أهلك وأولادك بالإحسان، وقابلتَ أيَادِيَها بالنّسيان، وصعُبَ لديك أمرُها وهويسير، وطال عليك عمرُها وهو قصير، هجرتها ومالها سواك نصير، هذا ومولاك قد نهاك عن التأفّف،وعاتبك في حقّها بعتاب متلطّف، ستعاقب في دنياك بعقوق البنين، وفي أُخراك بالبعد عن ربّ العالمين، يناديك بلسان التّوبيخ والتّهديد، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَلَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}.
    فإذا شعرت أنّ أحدهما يريد حاجة فاسْعَ في قضائها، وإن رغب أحدهما في جرعة ماء، أو شيئا من الأكل الشّهيّ فسارع إلى تحصيله وجلبه، والإتيان به وكسبه، فلا تضيّع أجر خدمتهما، فإنّ أعظم الجهاد فيهما.
    وهاك من أخبار الأوّلين، ما يرغّب في ذلك ويبيّنه أعظم تبيين:
    1- قصّة أصحاب الغار الثّلاثة .. حيث يخبرنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عنهم قائلا:
    (( انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهمُ الْغَارَ! فَقَالُوا: إِنَّهُلا يُنْجِيكُمْ مِنْ هذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ ))
    فذكر عن كلٍّ منهم عملا من الأعمال الصّالحة، والشّاهد من الحديث قول أوّلهم:
    (( اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَـوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبُِقُ[3]قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلاَ مَالاً[4]، فَنَأَى[5]بِي طَلَبُ شَجَرٍ يَوْمًا، فَلَـمْ أُرِحْ[6]عَلَيْهِمَا حَتَّىنَامَـا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْـلاً أَوْ مَالاً )).
    كان بين خيارين: إمّا أن يُوقِظ الوالدين من النّوم, وإمّا أن يُطعِم الصِّبية. فلم يختر أيًّا من هذين الخيارين, ولكنّه اختار خيارًا ثالثًا، قال:
    (( فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَ ا، حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ )).
    فهو طوال يومه على يسعى ويرعى ! والرّعي ليس سهلاً، بل هو من أشقّ المهن، فلا يجلس لحظة إلاّ ويطرد ويُبعِد، وحين رجع لم ينم ! بل ظلّ واقفاً، ولو أيقظهما للعَشاء لما أزعجهما.
    بل كان أمامه منظر تتفطّر له الأفئدة، يصوّره لنا قائلا:
    (( وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ )) [والضُّغاء هو البكاء مع صياح، وقيل هو الصّياح من أجل الجوع].
    (( فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْـنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ.
    فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ )). [متفق عليه].
    وليتأمّل القارئ هذه القصّة – الّتي لولا أنّها وحيٌ لعُدّت من الخيال – وليعلم أنّ برّ الوالدين من أسباب الفرج.
    2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجت يوما من بيتي إلى المسجد، لم يُخرجْنِي إلاّ الجوع، فوجدت نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا:
    يا أبا هريرة، ما أخرجك هذه السّاعة ؟ فقلت: ما أخرجني إلاّ الجوع ! فقالوا: نحن - والله - ما أخرجنا إلاّ الجوع !.
    فقمنا فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (( مَا جَاءَ بِكُمْ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟)).
    فقلنا: يا رسول الله ! جاء بنا الجوع. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطبق فيه تمر، فأعطى كلّ رجل منّا تمرتين، فقال:
    (( كُلُوا هَاتَيْنِ التَّمْرَتَيْنِ، وَاشْرَبُوا عَلَيْهِمَا مِنَ المَاءِ، فَإِنَّهُمَا سَتُجْزِيَانِكُ مْ يَوْمَكُمْ هَذَا )).
    قال أبو هريرة رضي الله عنه: فأكلت تمرة، وخبّأت الأخرى. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، لِمَ رَفَعْتَ هَذِهِالتَّمْرَةَ ؟)) فقلت: رفعتها لأمّي. فقال: (( كُلْهَا، فَإِنَّا سَنُعْطِيكَ لَهَا تَمْرَتَيْنِ )).
    قال: فأكلتها فأعطاني لها تمرتين.[7]
    وإذا تأمّلت هذه القصّة، بانَ لك جليّا أنّ برّ الوالدين من أسباب مضاعفة الرّزق بإذن الله عزّ وجلّ.
    3- وقد لازم أبو هريرة رضي الله عنه أمّه يخدمها، ولم يحُجّ حتّى ماتت[8].
    4- وهذا حُجر بن عديّ بن الأدبررضي الله عنه: كان يلتمس فراش أمّه بيده، فيتّهم غِلَظ يدِه، فينقلب عليه على ظهره، فإذا أمِنَ أن يكون عليه شيء أضجعها[9].
    5- وانظر حال الهذيل بن حفصة بنت سيرين: يقول هشام بن حسّان: كان الهذيل بن حفصة يجمع الحطب في الصّيف، فيُقشّره، ويأخذ القصب فيفلقه، قالت حفصة:وكنت أجد قَرَّةً [أي: البرد]، فكان إذا جاء الشّتاء، جاء بالكانون فيضعه خلفي، وأنا في مُصلاّي، ثمّ يقعد فيُوقد بذلك الحطب المقشّر وقودا لا يُؤذي دخانه، ويُدفئني، نمكث ذلك ما شاء الله.
    قالت: وعنده من يكفيه لو أراد ذلك [أي: كان قادرا أن يكلّف خدَمه بذلك، ولكنّه يريد خدمة والدته].
    قالت: وربّما أردت أن أقول له: يا بنيّ، ارجع إلى أهلك، ثمّ أذكر ما يريد فأدعه[10].
    6- وعن الحسن بن نوح قال: كان كَهمَسرحمه الله – وهو الملقّب بالدَعَّاء – يكسح البيت، ويخدم أمّه. فأرسل إليه سليمان بن عليّ بصُرَّة، وقال: اشتر بها خادما لأمّك؛ لأنّه كان مشغولا بأمّه، وكان أبرّ شيء بأمّه، وألحّ عليه في قبولها فأبى، فألقاها في البيت ومضى. فأخذها كهمس، وخرج يتبعه حتّى دفعها إليه[11].
    وكان رحمه الله يعمل في الجصّ كلّ يوم بدانِقَين [سدس درهم]، فإذا أمسى اشترى به فاكهة فأتى بها إلى أمّه.
    ومن مظاهر حسن صحبة الوالدين:
    ثانيا: الخوف عليهما، ودعوتهما إلى الخير.
    فالخوف عليهما هو الدّليل على محبّتهما وتعظيمهما، وهما أحقّ النّاس بأن تدُلّهما على كلّ خير، وتنبّههما لاجتناب كلّ شرّ: تعلّمهما التّوحيد، وشعائر الإسلام، وتبذل لذلك وقتا كما تبذلك لأصحابك، فهم أحقّ النّاس بحسن الصّحبة.
    وفي صحيح مسلم قال أبو هريرة رضي الله عنه: كنت أدعو أمّي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوما، فأسمعتني في رسول الله صلّى اللهعليه وسلّم ما أكره !
    فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّموأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إنّي كنت أدعو أمّي إلى الإسلام، فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره ! فادعُ الله أن يهدِيَ أمّ أبي هريرة.

    فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( اللَّهُمَّ اِِهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ )).
    فخرجتُ مستبشرا بدعوة نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجافٍ، فسمعَتْ أمّي خَشْفَ قدمَيَّ، فقالت: مكانك يا أبا هريرة !
    وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلَتْ، ولبِسَتْ درعها، وعَجِلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثمّ قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلاالله، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله.
    قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أبشر، قد استجاب الله دعوتك، وهدى أمّ أبي هريرة !
    فحمد الله، وأثنى عليه، وقال خيرا ".
    ولم يقف أبو هريرة عند هذا فحسب، بل كان يريد المرتبة العالية له ولأمّه:
    قال:" قلت: يا رسول الله ! اُدْعُ الله أن يُحَبِّبَني أنا وأمّي إلى عباده المؤمنين، ويُحَبِّبهم إلينا.
    فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (( اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا - يعني أبا هريرة - وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إِلَيْهِمْ المُؤْمِنِينَ )).
    فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبّني "اهـ.
    ومن صور الشّفقة عليهما: أن تجتنب كلّ ما يدخل عليهما الحزن والأسى:
    فالولد وهو يرى والديه يتألّمان من حاله، فعليه أن يُصلِح من شأنه، وليَعْلَم أنّه عاصٍ لله تعالى ما دام يؤلمهما ويُحزنهما.
    وتأمّل ما ذكره الإمام الذّهبي رحمه الله عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله: فقد قال يحيى بن عبد الحميد: ضُرب الإمامُ لِيَلِيَ القضاءَ، فأبى، فلمّا ضُرِبت رأسُه وأثّر ذلك في وجهه بكى، فقيل له في ذلك ؟!، فقال: إذا رأته أمّي بكت واغتمّت، وما عليّ شيء أشدّ عليّ من غمّ أمّي[12].
    [يتبع إن شاء الله]



    [1]المُهَج: جمع مهجة: وهو الدّم، وقيل: دم القلب خاصّة، وخرجت مهجته، أي: روحه.

    [2]الوَسَن: هو النّعاس، ويقال: السِّنة، كالوعد والعِدة، والوصف والصِّفة.

    [3] الغَبُوق: شرب آخر النهار ويقابله الصَّبُوح، والغَبُوقة: الناقة التـي تـحلب بعد الـمغرب [" لسان العرب "].

    [4] أي: من رقيق وخدم، وكلّ ما يملكه الإنسان ويقبل البيع والشّراء يسمّى مالا.

    [5] النَّأْيُ: البُعدُ، نَأَى يَنْأَى: بَعُدَ، والمراد أنّه استطرد مـع غنمه في الرّعي إلى أن بَعُد عن مكانه زيـادة على العادة، فلذلك أبطأ.

    [6] أي: لم أرجع، ومنه قول العرب: يغدو ويروح.

    [7] " سير أعلام النّبلاء "(2/592-593)، و" طبقات ابن سعد "(4/329).

    [8] تاريخ ابن عساكر (47/517-517).

    [9] " علوّ الهمّة " (5/649).

    [10] " صفة الصّفوة " (4/25).

    [11] "حلية الأولياء"(6/212).

    [12] " مناقب الإمام أبي حنيفة " (ص15-16).







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: الآداب الشّرعيّة

    - الآداب الشّرعيّة (14) مظاهر برّ الوالدين: الدّعاء لهما وطاعتهما.


    عبد الحليم توميات


    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

    فمن مظاهر حُسن صحبة الوالدين، ومن مجالات البرّ بالأبوين الكريمين:
    ثالثا: الدّعاء لهما في حياتهما، وبعد موتهما.
    فكثير منّا يحفظ قولَ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ؛ حَتَّى تَرَوْاأَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ )) [رواه أبو داود وغيره وهو صحيح].
    وما من أحدٍ إلاّ ويُقِرّ بأنّ معروف الوالدين لا يُحدّ، وأنّ جميلهما لا يُردّ، فهما أولى من يَحْرِصُ العبد على الإكثار من الدّعاء له.


    وقد علّمنا الله عزّ وجلّ ذلك فقال:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24].
    وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْوَلَدٍ صَالِحٍيَدْعُو لَهُ )) [رواه مسلم].
    وروى الإمام أحمد وابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا ؟! فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ ))..
    وروى الإمام مالك رحمه الله أَنَّ سَعِيدَ ابْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ:" إِنَّ الرَّجُلَ لَيُرْفَعُ بِدُعَاءِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ - وَقَالَ بِيَدَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، فَرَفَعَهُمَا-".
    وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى بارّا بوالديه، وكان يدعو لهما ويستغفر لهما مع شيخه حمّاد، ويتصدّق عن كلّ شهر دينارا عن والديه.
    وهذا أبو يوسف القاضي: كان يقول عقب كلّ صلاة:" اللهمّ اغفر لأبوَيّ، ولأبي حنيفة " [" برّ الوالدين " للطّرطوشي (ص 77)].
    رابعا: تعظيمهما وتعظيم أمرهما في غير معصية اللهعزّ وجلّ.
    هذا نبيّ الله إسماعيل عليه السّلام الأنموذج العالي في برّ الوالدين، قال تعالى:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافّات:102].
    يقول:{يَا أَبَتِ} ! وشبح السّكين لا يزعجه ولا يُفزعه، بل لا يُفقده أدبه ومودّته !
    فما كان جزاءُ الطّاعة إلاّ أن قال الله عزّ وجلّ:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.
    فطاعتهما في غير معصية، لا يأتي من وراءها إلاّ الخير كلّه، كما أنّ عصيان أمرهما لا يأتي إلاّ بالشرّ كلّه، ولا ينبّئك مثل جريج العابد:
    فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَمْ يَتكَلَّمْ في المَهْدِ إلاَّ ثَلاثَةٌ: عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِب جُرَيْج:
    وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلاً عَابِداً، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً فَكَان فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ.
    فقال: يَا رَبِّ، أُمَي وَصَلاتِي ؟! فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ.
    فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلَي، فَقَالَتْ: يَاجُرَيْجُ، فقال: أَيْ رَبِّ،أُمِّي وَصَلاتِي ؟! فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ.
    فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، أَتَتْهُ وَهُوَ يُصلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فقال: أَيْ رَبِّ، أُمِّي وَصَلاتِي ؟! فأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ.
    فَقَالَت: اللَّهُمَ لا تُمِتْهُ حَتَّى ينْظُرَ إلَى وُجُوهِ المُومِسَاتِ [والمُومِسات: هنّ البغايا].
    فَتَذَاكَرَ بَنُو إسْرَائِيلِ جُرِيجاً وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهَا.
    فَأَتَتْ رَاعِياً كَانَ يَأْوي إلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا. فَحَمَلَتْ، فَلَمَّاوَلَدَتْقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ!
    فَأَتَوْهُ، فَاسْتَنْزَلُوه ُ، وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ!وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ!فقال: مَا شَأنكُمْ ؟ قالوا: زَنَيْتَ بِهذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنكَ.
    قال: أَيْنَ الصَّبِيُّ ؟ فَجَاءوا بِهِ، فقال: دَعُوني حَتَّى أُصَلّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ وَقالَ: يَا غُلامُ مَنْ أَبُوكَ ؟ قال: فُلانٌ الرَّاعِي.
    فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ، وَيَتَمَسَّحُون َ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِن ذَهَبِ، قال: لا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا ...)).
    فإنّ جريجاً كان في أشرف المقامات، وأعظم الطّاعات، وهي التقرّب إلى الله عزّ وجلّ بالصّلاة والمناجاة، ومع ذلك لم يَحُل ذلك كلّه بينه وبين البلاء الّذي نزل من السّماء بسبب عدم إجابته نداء أمّه !
    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" وفي الحديث أيضا عِظَمُ بِرّ الوالدين، وإجابة دعائهما، ولو كان الولد معذورا .."اهـ.
    فكيف بمن ترك إجابة أمرهما من غير عذر ؟!
    - ومن الأعلام في هذا الباب: هشام بن حسّان رحمه الله.
    فمن ذا الّذي يجهل منزلة الحجّ من الدّين، ومكانتها عند ربّ العالمين ؟
    وها هو هشام بن حسّان رحمه الله يعزم على حجّ بيت الله الحرام، ولكن يقضي الله ما يشاء، ويحدث له ما يثنيه عن عزمه، فما الّذي منعه من حجّته تلك ؟
    يقول الفلاّس رحمه الله: كان هشام بن حسّان من العابدين، أحضرْتُ إلى بابه الجملَ والزّادَ والسّفرة ليحجّ، فشقّ على أمّه، وأخذها شبه الرّعدة، فترك الحجّ من أجلها، فلمّا توفّيت، كان لا يدع الحجّ.
    - وصورة أخرى من صور البرّ بالأمّ خاصّة: ما حدث للإمام ابن عساكر رحمه الله، الّذي كان كغيره من العلماء والمحدّثين يرحل في طلب العلم وينشط لجمعه من مصادره ولو نَأَت به البلاد، وفارق لأجلها المال والأولاد:
    وكانت أصبهانُ حاضرةً من حواضر العلم في عصره، وكان السّفر إليها سبيلا للاستزادة من العلوم، ولكنّ الإمام مع كلّ هذا تأخّر في السّفر إليها، فما سبب ذلك التأخّر؟
    لقد سئل الإمام ابن عساكر رحمه الله عن ذلك فأجاب بصراحة ووضوح: لم تَأْذَنْ لِي أمّي!
    وهذا الجواب يعُدُّه كثير من شبابنا هذه الأيّام من خوارم الرّجولة ! وقوادح الفحولة ! ويخشى أن يُعيّر بذلك ! ولكن أين ذكرهم وذكر ابن عساكر رحمه الله؟
    - ومن الأبناء من ترك الطّعام مع والدته حتّى ظنّ بعض النّاس أنّ ذلك معارض لحقّ البرّ بها: فقد قيل لعليّ بن الحسين رحمه الله: أنت من أبرّ النّاس، ولا نراك تؤاكل أمّك !؟ فبادرهم بجواب لا يقوله إلا بارّ، قال: أخاف أن تسير يديّ إلى ما سبقت عينُها إليه، فأكون قدعققتها !
    -ومن مظاهر تعظيمهماألاّ ترفع صوتك على صوتيهما، أو بحضرتهما:
    قال محمّد بن محيريز رحمه الله:" من مشى بين يدي أبيه فقد عقّه، إلاّ أن يمشي فيُميط عن طريقه الأذى، ومن دعا أباه باسمه فقد عقّه، إلاّ أن يقول يا أبت ".[" التّبصرة " لابن الجوزيّ (1/160)].
    وذكر الذّهبيّ رحمه الله عن أبي بكر [وهو ابن عيّاش] قال: كنت مع منصور بن المعتمر جالسا في منزله، فصاحت به أمّه - وكانت فظّةً عليه - فتقول:" يا منصور، يريدك ابن هُبيرة على القضاء فتأبى !" وهو واضع لحيته على صدره ما يرفع طرْفه إليها " [" سير أعلام النّبلاء " (5/405)].
    هؤلاء رحمهم الله أدركوا ما لا يُدركه الكثيرون: أنّ الوالدين هما الوالدان وكفى .. فهما لا يريان ابنَهما إلاّ أنّه ابنُهما الّذي لا يسعه إلاّ أن يلبّي رغباتهما في أيّ وقت، وكيفما شاءا، ودون مقدّمات.
    حتّى ولو كان الابن عند النّاس بأشرف المنازل من علمٍ، أو جاهٍ، أو غير ذلك.
    - هذا إمامٌ من أئمّة المسلمين، كان ينزل عند رغبات أمّه مهما كانت، وهو حيوة بن شريح رحمه الله: كان يقعد في حلقته يُعلِّم النّاس، فتقول له أمّه: قُم يا حيوة، فأَلْقِ الشّعير للدّجاج. فيقوم، ويترك التّعليم.
    لم يمنع هذا العالِمَ الجليلَ مجلسُه بين أهل العلم وطلبته الّذين قد أثنوا الرّكب من حوله، وقد تطلّعت إليه أعناقهم، وطافت به نظراتهم هيبة وإجلالاً له، من أن يُنفِّذ رغبة أمّه ! تلك الرّغبة قد تكون حقيرةً في نظر أكثر النّاس، أو على الأقلّ - في نظر الكثيرين - يمكن أن تؤجّل إلى حين.
    ولكن هؤلاء لا ينظرون بأنظار النّاس، فبلغوا ما لم يبلغه النّاس.
    - سُئل الإمام أحمد رحمه الله عن الرّجل يصوم وأبواه ينهيانه، فقال: ما يُعجبني أن يصوم إذا نهياه، ولا أحبّ أن ينهياه.
    وفي رواية قال رحمه الله: روي عن الحسن أنّه قال: يُفطر، وله أجر البرّ وأجر الصّوم إذا أفطر.
    وقال في رواية أخرى: إذا أمره أبواه أن لا يصلّي إلاّ المكتوبة ؟ قال: يداريهما ويُصلّي.[" الآداب الشّرعية " لابن مفلح (2/60)"].
    والآن - رعاك الله وحماك - ماذا ستقول عندما تعلم أنّ كثيراً من الأبناء اليوم عندما تتعارض مصالحهم الشّخصية الدّنيوية مع رغبات والدَيْه الضّرورية؛ تجدهم يفضّلون مصالحهم التّافهة.
    قال ابن القيّم رحمه الله في " مدارج السّالكين ":
    " فانظر إلى الأدب مع الوالدين: كيف نجّى صاحبّه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصّخرة ؟ والإخلال به مع الأمّ تأويلا وإقبالا على الصّلاة كيف امتُحِن صاحبُه بهدم صومعته، وضرب النّاس له، ورميه بالفاحشة ! وتأمّل أحوال كلّ شقيّ ومغترّ ومدبر: كيف تجد قلّة الأدب هي الّتي ساقته إلى الحرمان ؟"اهـ.
    صورةٌ واحدة من هذه الصّور المشرقة كافيةٌ لتذكير المسلم بعِظم حقّ الوالدين، وجليل منزلتهما، وتذكّره بما رواه النّسائيّ أنّ جَاهِمَةَ السّلَميّ رضي الله عنه جاء إلى النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:
    يا رَسُولَ اللهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ، وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ ؟ فَقَالَ: (( هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ ؟)) قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (( فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا )).
    فهذا الرّجل دعاه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إلى أن يترك هذه الشّعيرة العظيمة، ليس لشيء، إلاّ لأجل أن يبرّ بأمّه.
    والله الموفّق لا ربّ سواه.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: الآداب الشّرعيّة

    الآداب الشّرعيّة (15) الأدبُ مع العلماءِ.


    الكاتب: عبد الحليم توميات



    الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الّذين اصطفى، أمّا بعد:

    فإنّ الله تعالى قد أولى العلم منزلة تفوق كلّ المنازل، ومرتبة تعلو على كلّ المراتب، وخصّ أهله بالانتقاء والاصطفاء، ور فع ذكرهم في الأرض والسّماء، فهم أئمّة الهدى، ومصابيح الدّجى.

    لذلك كان الأدب معهم من أعظم القُرُبات، وتعظيمهم من تعظيم الحرمات، قال الله تعالى:{وَمَن يُعَظِّم حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ}.

    ومن مظاهر الأدب مع العلماء:

    1- حبّهم: فهم ورثة الأنبياء، وسادة الأتقياء، قال ابن المبارك رحمه الله: ( كن عالما أو متعلّما، أو محبّا لهما، ولا تكن الرّابع فتهلك ).






    وصدق رحمه الله تعالى، وكأنّه استنبط ذلك من الحديث الّذي رواه التّرمذي بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى اللهعليه وسلّم قال: (( الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ ما فِيهَا، إلاَّ ذِكرَ الله تَعَالى، وَمَا والاهُ، وَعَالِماً، أوْ مُتَعَلماً )).

    وقد قرّر أهل الحكمة والحلم، أنّه لا يُنال السّؤدد ولا العزّ إلاّ بالعلم، لذلك رفع الله قدر الأنبياء والعلماء، فكانوا في درجاتٍ ما بينها كما بين الأرض والسّماء، فمن أخذوا علمهم ورثوا ما عندهم، ومن أحبّوهم رُضِخَ لهم، إلاّ من آذاهم وجعل عرضهم فيئا، فـ: (( لَا يَرِثُالْقَاتِلُ شَيْئًا )).. فمحبّ أهل العلم مرحوم محبوب، ومبغضهم محروم محجوب.

    وكيف لا يحبُّ المسلم من أحبّه الحوت في البحر، والنّملة في الجحر حتّى استغفروا له ؟! قال صلّى الله عليه وسلّم: (( وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ )) [رواه أبو داود والتّرمذي].

    2-توقيرهم واحترامهم:

    فما فضّل الله تعالى آدم عليه السّلام على ملائكته الكرام، إلاّ بالعلم، قال عزّ وجلّ:{وَعَلّمَ آدَمَ الأَسمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُم عَلَى المَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسمَاءِ هَؤُلاَءِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ}، فلمّا عجزت الملائكة، نادى الله تعالى آدم نداء تعظيم وتشريف:{قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئهُم بِأَسمَائِهِم}، فكان جزاء العلم أن قال الله عزّ وجلّ:{وَإِذ قُلنَا لِلمَلاَئِكَةِ اسجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا}، فوالله ما كانت خيبة إبليس إلاّ من تركه لهذا الأدب، فكان من الملعونين إلى أبد الآبدين.

    وقد روى الإمام أحمد والحاكم عن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ )).

    - ولقد صحّ أنّ زيد بن ثابت رضي الله عنه صلّى على جنازة - وكان حاملا للقرآن -، فرآه ابن عبّاس رضي الله عنهما يريد بغلته، فسارع إليها، وأمسك بالرّكاب ليُعين زيدا على الرّكوب ! فاستحى زيدٌ من تواضع ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم - وهو أعلم الصّحابة بكتاب الله -، فقال زيد: " خلّ عنك يا ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم". فقال ابن عبّاس:" هكذا يُفعل بالفقهاء والعلماء ". فقال زيد:" أخرج يدك !"، فأخرجها فقبّلها زيد، وقال:" هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبيّنا ".

    - وكان الشّافعي رحمه الله يقول: لقد كنت أصفح الورق صفحا رقيقا لطيفا ومالكٌ بين يديّ؛ خشية أن يسمع وَقْعَه !

    وكان رحمه الله لكثرة تواضعه للعلماء يُلام، فيقول:

    ( أهين لهم نفسي فيُكرمونها *** فلن تُكرم النّفس التي لا تهينها )

    - ولصدقه في ذلك رحمه الله، سخّر الله له أمّة بأكملها تُجلّه وتُعظّمه، وتعرف له قدره، حتّى قال الرّبيع بن سليمان المرادي: والله ما اجترأت أن أشرب الماء، والشّافعي ينظر، هيبة له. ["الآداب الشّرعيّة " لابن مفلح (1/226)].

    - وهذا إمام الدّنيا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: كان أدبه مع شيوخه فوق الوصف، يذكر الذّهبي رحمه الله عن أحمد بن سعيد الرّباطي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول:" أخذنا هذا العلم بالذلّ، فلا ندفعه إلاّ بالذّلّ " [" السّير " (11/231)].

    وقال رحمه الله:" لزمت هشيما أربع سنين أو خمسا، ما سألته عن شيء إلاّ مرّتين، هيبةًله " [" السّير " (8/290)].

    وقال قتيبة بن سعيد:" قدمت بغداد وما كانت لي همّة إلاّ أن ألقى أحمد بن حنبل، فإذا هو قد جاءني مع يحيى بن معين فتذاكرنا، فقام أحمد بن حنبل وجلس بين يديّ وقال:أَمْلِ عليّ، فقلت:اجلس مكانك. فقال:لا تشتغل بي، إنّما أريد أن آخذ العلم على وجهه " [" مناقب الإمام أحمد " (ص82-83)].

    وقال خلف بن الوليد: جاءني أحمد بن حنبل يسمع حديث أبي عوانة، فاجتهدت أن أرفعه فأبى، وقال:لا أجلس إلاّ بين يديك، أُمِرنا أن نتواضع لمن نتعلّم منه " [" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السّامع " ص (474)].

    - وهذا الإمام مسلم رحمه الله: يقول محمد بن حمدون بن رستم: دخل مسلم على البخاري، فقال: دعني أقبّل رجليك يا أستاذ الأستاذين، ويا سيّد المحدّثين، ويا طبيب الحديث في علله ".

    - ودخل شيخ الإسلام أبو إسحاق إبراهيم الحربيّ، فبادر محمّد بن يوسف القاضي إلى نعله، فأخذهما فمسحهما من الغبار، فدعا له وقال: أعزّك الله في الدّنيا والآخرة. فلمّا توفّي محمّد بن يوسف، رُئِيَ في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك ؟ فقال: أعزّني الله في الدّنيا والآخرة بدعوة الرّجل الصّالح.

    هذه صور مشرقة، وصفحات رائقة من صفحات سلف هذه الأمّة، وكيف كانوا يعظّمون ويوقّرون العلماء، وذلك ما زادهم إلاّ عزّا وتوفيقا، قال عبد الله بن المعتز رحمه الله:" المتواضع في طلاّب العلم أكثرهم علماً، كما أنّ المكان المنخفض أكثر البقاع ماء ".

    ذلك، لأنّهم امتثلوا قول الله تعالى:{وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}، وأوّل باب تحصيل العلم هو توقير العلماء كما يوقّر الآباء.

    روى الحافظ ابن عبد البرّ عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:" ذللت طالبا، فعززت مطلوبا " [" جامع بيان العلم " (231)].

    3- ذكرهم بالجميل:

    سواء مع الأموات منهم رحمهم الله، ومع الأحياء، وسواء طلب على أيديهم العلم أم لم يطلبه عليهم.

    قال الإمام الطّحاوي رحمه الله تعالى وهو يبيّن عقيدة السّلف الصّالح رحمة الله عليهم أجمعين:" وعلماء السّلف من السّابقين، ومن بعدهم من التّابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنّظر، لا يُذكرون إلاّ بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل ". أي ضلّ عن سبيل المؤمنين الذي أوعد الله تعالى الحائد عنه قائلا:{نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}.

    فينبغي للمسلمين عامّة، وطلاّب العلم خاصّة، أن يحفظوا هذا الحقّ لهم، وإذا ذكروهم في مجالسهم أن يذكروهم بالجميل، لأنّه إذا كان حفظُ عرض المسلم الّذي هو من عامّة المسلمين فريضةً ينبغي حفظها، فكيف بالعلماء؟!

    وبمجرّد ما تحسّ من جليسك أنّه يريد أن ينتقص عالما، ففِرّ بدينك قبل أن يسلبك شيئا من حسناتك، وانج بنفسك لأنّه قد أعلن الحرب على نفسه: (( مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ )).

    وإذا لم يَغَرْ المسلم لله على العلماء، فعلى من يغار ؟! فهم صفوة الله وأحبّاؤه، وخيرة خلقه وأولياؤه.

    4- ذكرهم بالإجلال والتّعظيم:

    فتذكره بالعلم، والإمامة، وتشرّفه وتكرّمه، تقول:" قال الإمامرحمه الله، وقال الشّيخ، وتميّزه عند ذكره عن عامّة النّاس بهذه الألقاب، فإنّ الله أدّب أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:{لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً}، والعلماء ورثة الأنبياء، فلا يقال: قال فلان وفلان ... يذكره باسمه مجرّدا !

    5- الاعتناء بردّ الجميل لهم:

    فمن نحن لولا الله عزّ وجلّ، ثمّ عِلْمُ هؤلاء العلماء ؟!

    من نحن لولا الله تعالى، ثمّ هؤلاء الأئمّة الّذين فسّروا لنا كتاب الله، وبيّنوا لنا أحاديث رسول اللهصلّى الله عليه وسلّم ؟

    وقفوا عند كلّ كلمة من كتاب الله، وسنّة نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم، فبيّنوا حلالها وحرامها، وأوضحوا ناسخها ومنسوخها، وفصّلوا حدودها ومحارمها، فرحمة الله عليهم أحياء وأمواتا، ونسأل الله ربّ العرش الكريم أن يُسبغ عليهم شآبيب الرّحمات، وأن يوجب لهم علوّ الدّرجات، وأن يجمعنا بهم في رياض الجنّات.

    فينبغي للمسلم إذا قرأ كتابا، أو استمع إلى كلام عالم أن يترحّم عليه ويدعو له، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( مَنْ صَنَعَ لَكُمْمَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوافَادْعُوا لَهُ )) [رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما].

    تمرّ عليك المسألة في الأحكام، ويمرّ عليك حديث من أحاديث المصطفى عليه الصّلاة والسّلام، لا تدري أهو صحيح أم ضعيف ؟! ثمّ لا تدري ما المراد منه ؟! أهو عامّ أم خاصّ !؟ أهو مطلق أم مقيّد ؟! فإذا وقفت أمام كلام العالم، أدركت حقيقة المراد، فما تملك إذا اطّلعت على هذا الخير إلاّ أن تقول: رحمة الله على فلان !

    6- نشر فضلهم بين الأحياء:

    وهذا من أوكد حقوق لعلماء، لأنّ فيه ربطا للنّاس بعلمائهم، وتعريفا لهم بأمجادهم، وهذا له صور متعدّدة:

    أ*) مطالعة سيرهم، ونشأتهم، ومعرفة مؤلّفاتهم، ورحلاتهم في طلب العلم، حتّى إنّ بعض المشايخ كان يذكر لنا دائما أنّ من الأمور الّتي ينبغي لطالب العلم معرفتها والاعتناء بها: تاريخ ولادتهم ووفاتهم.

    وهذا الأدب أصبح اليوم آكد من أيّ وقت آخر، في زمن عُظّم فيه السّفهاء والماجنون، والبلهاء واللاّعبون.

    ب*) نسبة العلم إليهم: فإذا قرأت فائدة، أو نقلت علما نبّه عليه إمام من أئمة الدّين، كان من الحقّ له عليك أن تُنوّه بفضله في ذلك، فتقول: كما قرّره شيخ الإسلام فلان، وكما بيّنه الحافظ فلان، ولا توهم النّاس أنّ الفضل - بعد الله – لك وحدك ! وإنّما عليك أن تُنصفهم، وتذكر مآثرهم، وتبيّن فضلهم.


    هذا ما يعرّف النّاس قدر العلماء، ويجعلهم يدركون فضلهم، ويغارون عليهم من أن يُنتقص قدرهم، وأن تهان مكانتهم.

    ومن حقوقهم: الاعتذار لهم في الأخطاء.

    وهذا ما سوف نراه إن شاء الله تعالى لاحقا.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: الآداب الشّرعيّة

    - الآداب الشّرعيّة (16) التّعامل مع أخطاء لعلماء


    الكاتب: عبد الحليم توميات





    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
    فإنّ الكلام في هذه المسألة قبل عشر سنوات، كان من جملة إيضاح الواضحات؛ لأنّ التماس المعاذير لأهل العلم يُعدّ من المسلّمات، ومن الواجبات المحتّمات، ولكن ... لمّا اختلط الحابل بالنّابل، والتبس الحقّ بالباطل، أصبح لزاما علينا ونحن نتحدّث عن هذا الحقّ الثّابت لأهل العلم: أن نبيّن قواعد ثلاثا تزيل كثيرا من الإلباس.
    القاعدة الأولى: المقصود بالأئمّة أهل حسن الظّن والاعتذار:



    إنّهم أئمّة الكتاب والسّنة على منهج وفهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن تبعهم بإحسان، الّذين عُرِفوا بتحرّي الاستدلال من هذا المعين الصّافي، والمنبع الكافي:
    لا يقدّمون في باب العقائد قواعد أهل الكلام على كلام ربّ البريّة.
    ولا يقدّم في باب الأحكام آراء الرّجال على النّصوص الشّرعية.
    ولا يقدّم في باب السّلوك والتّربية خرافات الصّوفيّة.
    ولا يقدّم في مجال الدّعوة وطريقِها الأفكار البشريّة، والسّياسات الوضعيّة، والنّزعات الحزبيّة.
    فمن كانت هذه طريقته في الاستدلال، فهو السّنّيوإن أخطأ، وإن وقع في بدعة.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمن وقع في بدعة من البدع:
    " ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك، ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمّة وأئمّتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنّة.
    بخلاف من والى موافقه، وعادى مخالفه، وفرّق بين جماعة المسلمين، وكفّر وفسّق مخالِفَه دون موافقِه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحلّ قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرّق والاختلافات.
    ولهذا كان أوّل من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع: الخوارج المارقون، وقد قاتلهم أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فلم يختلفوا في قتالهم كما اختلفوا في قتال الفتنة يوم الجمل وصفين ..."
    [" مجموع الفتاوى " (3/349)].
    وقوله رحمه الله:" ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمّة وأئمّتها لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنّة "، يقصد به: بعض بحار هذا الدّين: كعكرمة، والثّوري، وسعيد بن جبير، والضّحاك، ومقاتل، وغيرهم كثير ممّا لا يمكن إحصاؤه رحمهمالله.
    إذن فهذا الكلام عن المقتدين بالكتاب والسنّة، أمّا المتّبعون لأهوائهم من المبتدعة وغيرهم، فليس على مثلهم يُلوى، ولا على مثلهم يحزن.
    القاعدة الثّانية: لا بدّ من بيان الخطأ.
    إذا علمنا أنّ هذا العالم الواقع في هذا الخطأ لا يزال معتبرا من أئمّة الدّين، فهذا لا يعني أبدا ألاّ يبيّن خطؤه.
    فهناك طائفة فرّطت فقالت: نسكت على الأخطاء والزلاّت، ونغطّي الهفوات والهِنات !
    وطائفة أفرطت قالت: لا بدّ من التّشهير بهم والتّحذير منهم !
    والحقّوسط لا نقص ولا شطط .. فلا بدّ من بيان الخطأ لكن في أدب ..
    لأنّ بيان الخطأ واجب شرعيّ، وهو من الميثاق الذي أخذه الله تعالى من العلماء، ولا يزال العلماء سلفا وخلفا يتكلّمون في المسائل المختلف فيها، ويبيّنون الصّواب، ويدمغون به الباطل.
    القاعدة الثّالثة: لا بدّ من الأدب والرّفق في النّصح وبيان الخطأ.
    إذا كان هذا المخطئ لا يزال في دائرة أهل السنّة، وكان لزاما بيان ما وقع فيه من الخطأ، فلا بدّ من الأدب والرّفق في النّصح وبيان الخطأ.
    لأنّ الحقّ بطبعه ثقيل، فإذا أسبغت عليه طابع الشّدة نفر منك السّامع، ولم يتحقّق المقصود وهو: بيان الحقّ والدّعوة إليه.
    هذا حقّ المسلم على المسلم، أن يجد الأعذار كلّ منهما للآخر، وأن يعطف كلّ منهما عل الآخر، وأن يحبّ كلّ منهما الخير للآخر، ما دام الجميع قد أجمع على أنّه لا معصوم من البشر، والكمال المطلق لله تعالى.
    فالعالم أولى بهذا الحقّ من غيره، إذ فضلهم مشهور، وذنبهم بعد الاجتهاد مغفور.
    واقرأ في كتب الأئمّة الأعلام الّذين ملئوا الدّنيا بمصنّفاتهم، تجد الأدب الجمّ .. تجد التّواضع .. تجد الاحترام والتّقدير والإجلال .. تجد حفظ الفضل لأهله - ولا يحفظ الفضل إلاّ من كان من أهله -.
    - تجد الأئمّة الحفّاظ إذا اطّلعوا على شيء، قالوا: ( وقد قال فلان - عفا الله عنه – كذا ...)، ( وفيه كلامه نظر ...)، ( ولم يُصِب رحمه الله حين قال كذا ...)، كلّ ذلك من باب الأدب.
    - ولذلك قال الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم:{عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}، فقدّم له المغفرة والعفو، قبل العتاب واللّوم، لذلك ينبغي التّأدّب مع الأئمّة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
    - قال ابن القيّم رحمه الله تعالى في "مدارج السّالكين"(1/312):
    " فلأهل الذّنوب ثلاثة أنهار عظام يتطهّرون بها في الدّنيا، فإن لم تَفِ بطهرهم طُهِّروا في نهر الجحيم يوم القيامة:
    نهر التّوبة النّصوح، ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها، ونهر المصائب العظيمة المكفّرة.
    فإذا أراد الله بعبده خيرا أدخله أحد هذه الأنهار الثّلاثة، فورد القيامة طيّباً، طاهرا، فلم يحتج إلى التّطهير الرّابع "اهـ.
    - وقد حقّق ابن تيمية رحمه الله تحقيقا ماتعا القاعدة في التّعامل مع المخالف، فبيّن وجوبَ التّفريق بين كلام العالم وشخصه: فيجب بيان الخطأ المسطور وردّه، أمّا الشّخص:
    أ*) فقد يكون صادقا في خدمة الدّين، ولا يتعمّد الكذب.
    ب*) وقد يجتهد، ويكون ما قاله هو مبلغ علمه، أو مقلّدا.
    ت*) ملاحظة ما مات عليه فقد يكون قد تاب.
    ث*) ملاحظة الجهود المبذولة في نصرة الحقّ.
    - وقال ابن القيّم رحمه الله في " مفتاح دار السّعادة " (1/176):
    " من قواعد الشّرع والحكمة أيضا: أنّ من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنّه يحتمل له مالا يحتمل لغيره، ويُعْفَى عنه مالا يُعْفَى عن غيره؛ فإنّ المعصية خبث والماء إذا بلغ قلّتين لم يحمل الخبث.
    بخلاف الماء القليل، فإنّه لا يحمل أدنى خبث، ومن هذا قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعمر: (( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ )). وهذا هو المانع له صلّى الله عليه وسلّم من قتل من حَسَّ عليه وعلى المسلمين، وارتكب مثل ذلك الذّنب العظيم، فأخبر صلّى الله عليه وسلّم أنّه شهد بدرا، فدلّ على أنّ مقتضى عقوبته قائم، لكن منع من ترتّب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السّقطة العظيمة مغتفرةً في جنب ماله من الحسنات ".
    - وقال شمس الدّين بحقّ الإمام الذّهبي في " سير أعلام النّبلاء "(10/254):
    " قال سلمة بن شبيب: قلت لأحمد بن حنبل: طلبت عفّان في منزله، قالوا خرج، فخرجت أسأل عنه فقيل: توجّه هكذا، فجعلت أمضي أسأل عنه، حتّى انتهيت إلى مقبرة، وإذا هو جالس يقرأ على قبر بنت أخي ذي الرّياستين ! فبزقت عليه، وقلت: سوءةً لك ! قال: يا هذا الخبز الخبز. قلت: لا أشبع الله بطنك.
    قال: فقال لي أحمد رحمه الله: لا تذكرنّ هذا، فإنّه قد قام في المحنة مقاما محمودا عليه، ونحو هذا من الكلام "اهـ.
    وقال أيضا في (14/374) في ترجمة الإمام ابن خزيمة رحمه اللهتعالى:
    " ولو أنّ كلّ من أخطأ في اجتهاده مع صحّة إيمانه، وتوخّيه لاتّباع الحقّ أهدرناه وبدّعناه، لقلّ من يسلم من الأئمّة معنا، رحم الله الجميع بمنّه وكرمه ".
    وقال أيضا في (16/96) من " السّير " في ترجمة الإمام ابن حبّان رحمه الله بعد ما ذكر إنكار النّاس عليه قوله " النبوّة العلم والعمل "، وكيف حكموا عليه بالزّندقة ! وهُجِرَ ! وكتِب فيه إلى الخليفة ! فكتب بقتله:
    " هذه حكاية غريبة، وابن حبّان من كبار الأئمّة، ولسنا ندّعي فيه العصمة، لكن هذه الكلمة التي أطلقها قد يطلقها المسلم، ويطلقهاالزّنديق الفيلسوف، فإطلاق المسلم لها لا ينبغي، لكن يُعتذر عنه، فنقول: لم يُرِد حصر المبتدأ في الخبر، ونظير ذلك قوله صلّى الله عليهوسلّم: (( الحَجُّ عَرَفَةُ ))، ومعلوم أنّ الحاجّ لا يصير بمجرّد الوقوف بعرفة حاجّا، بل بقي عليه فروض وواجبات، وإنّما ذكر مهمّ الحجّ، وكذا هذا، ذكر مهمّ النبوّة، إذ من أكمل صفات النبيّ كمال العلم والعمل، فلا يكون أحد نبيّا إلاّ بوجودهما..أمّا الفيلسوف فيقول: النبوّة مكتسبة ينتجها العلم والعمل، فهذا كفر ولا يريده أبو حاتم أصلا، وحاشاه "اهـ.
    - وروى الخطيب رحمه الله في " الكفاية " عن ابن المسيّب قال: ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلاّ وفيه عيب، ولكن من كانفضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله.
    الشّاهد: أنّه يحرم تتبّع عثرات العلماء، والتنقيب عن أخطائهم، والتّشهير بهم، والحطّ من مرتبتهم، فإنّه نقص كبير وشرّ مستطير.
    ولا ينبغي لنا أن نتقمّص قميص النّساء في كفرانهنّ للعشير، يحسن إليها زوجها الدّهر كلّه، فإذا رأت منه ما تكره قالت: ما رأيت منك خيرا قطّ !
    قد ينبت الدّم على مرعـى الثّرى *** وتبقى حزازات النّفوس كما هيا
    أيذهب يوم واحـد إن أسأتـه *** بصالح أيّـامي، وحسـن بلائيا
    وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة *** ولكنّ عين السّخط تبدي المساويا
    روى أبو داود عن أبي برزةَ الأَسلمِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم:
    (( يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ ! لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ )).
    ومن محاسن ما ذكره العلماء: ما رواه البيهقيّ في " شعب الإيمان " أنّ سفيان بن حسين رحمه الله قال: ذكرت رجلا بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي وقال: أغزوت الرّوم ؟! قلت: لا، قال: أغزوت السّند والهند والتّرك ؟ قلت: لا، قال: أفسلم منك الرّوم والهندوالسند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم؟! فلم أعُد بعدها أبدا.

    وقال ابن المبارك رحمه الله: المؤمن يلتمس المعاذير، والمنافق يتتبّع الزّلاّت.
    وقال آخر: المؤمن يستر وينصح، والمنافق يهتِك ويفضح.
    والله الموفّق لا ربّ سواه.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: الآداب الشّرعيّة

    الآداب الشّرعيّة (17)
    آداب طالب العلم مع ربّه عزّ وجلّ
    الكاتب: عبد الحليم توميات




    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
    فإنّ منزلة الآداب من العلم بمنزلة الرّوح من الجسد: إنّها آداب مع نفسه، ومدرّسه ودرسه، وزميله وكتابه، وثمرة علمه، تصحبه في حركاته وسكناته، وفي جميع مراحل حياته.
    ومثل طالب العلم الخليّ من الأدب ومحاسن الخِلال، كمثل الحسناء في منبت السّوء والانحلال، يعجبك مظهره، ويسوءك مخبره.
    لذلك اهتمّ العلماء بالتّصنيف في آداب الطّلب اهتماما كبيرا، وأشبعوها بيانا وتفسيرا؛ لأنّهم أدركوا أنّه ما نزل قول الله تعالى:{اِقْرَأْ} إلاّ على من قال فيه:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍعَظِيمٍ} فكان متّصفا بالصّدق والأمانة، والحلم والرّزانة، وطهارة الجَنان، وعفّة اللّسان، فكان آخر أمره:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً}، و{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ}.
    ومن أحسن ما صُنِّف في هذا الباب كتاب " اقتضاء العلم العمل " للخطيب البغدادي رحمه الله.
    كما أنّ ابن عبد البرّ رحمه الله عقد بابا نافعا في كتابه " جامع بيان العلم وفضله " في بيان آداب الطّلب، فقال:" باب جامع القول في العمل بالعلم ".
    ولا يفوتنا أن ننوّه بمحاسن ما جاء في هذا الموضوع المهمّ في كتاب " فضل علم السّلف على علم الخلف " لابن رجب رحمه الله، وكتاب "مفتاح دار السعادة" لابن القيّم رحمه الله.
    1- الأدب الأوّل: تقوى الله تبارك وتعالى.
    فإنّ تقوى الله عزّ وجلّ ما كانت في قليل إلاّ كثّرته، ولا في يسير إلاّ باركته، فهي وصيّة الله تعالى للأوّلين والآخرين، وموعظة الله لعباده أجمعين، وزاد المهاجرين إلى ربّ العالمين.
    فالعلم الذي تُحصّله مع الأيّام، يجب أن يظهر على قلبك ولسانك وجوارحك، وما أقبح بالمسلم أن لا يحاسب نفسه فيما يتعلّمه: ما الّذي جناه واستثمره ؟
    ما أقبح بمن يتعلّم أن تكون فيه خصلة من خصال الجاهليّة، ولم يبلغ المراتب العليّة.
    فيا طالب العلم، إنّك إن اتّقيت الله عزّ وجلّ قَبِل منك أعمالك، وهو القائل:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ}.
    وما أحسن قولَ بعضهم:
    قد آلمَ القلبَ أنّي جاهل: مالي *** عند الإله، أراضٍ هو أم قالي ؟
    وأنّ ذلك مـخبوء إلى يـوم *** اللّقاء، ومقفول عليه بأقفال ؟
    فإذا خرجت وأنت تحمل كتابا، ورمقتك الأنظار والأبصار، فاستشْعِر وأنت على ذلك الحال أنّك ذاهب إلى معرفة ما يقرّبك إلى الله، ويبعدك من الشّيطان .. تذهب إلى ما يخرجك من الظّلمات إلى النّور، فاحذر ألاّ تحاسب نفسك فيكون العلم عليك لا لك.
    قال الإمام أبو بكر الآجرّي رحمه الله تعالى في " أخلاق العلماء " (ص 54) وهو يتكلّم عمّا يجب أن يهتمّ له المتعلّم:
    " .. ولأن يتأدّب بالعلم .. إن ازداد علما خاف من ثبات الحجّة، فهو مشفق في علمه، كلّما ازداد علما ازداد إشفاقا، إن فاته سماع علم قد سمعه غيره فحزن على فوته لم يكن حزنه بغفلة حتّى يواقِفَ نفسه، ويحاسبها على الحزن، فيقول:
    لم حزنتِ ؟ احذري يا نفس أن يكون الحزنُ عليك لا لك إذ سمعه غيرك فلم تسمعيه أنت !.. فكان أولى بك أن تحزني على علم قد قرع السّمع، وقد ثبتت عليك الحجّة، فلم تعملي به، فكان حزنك على ذلك أولى من حزنك على علم لم تسمعيه ولعلّك لو قدّر لك سماعه كانت الحجّة عليك أوكد .. فاستغفر الله من حزنه، وسأل مولاه الكريم أن ينفعه بما قد سمع " اهـ.
    وكم يشتكي الواحد منّا قلّة التّوفيق ؟
    كم منّا من يشكو من الملل والكلل بمجرّد فتح كتاب !؟ .. كم منّا من يقول: أدرس وأحفظ، وأحفظ ثمّ أنسى ؟!
    فليعلم أنّه لو نقّب عن خبايا نفسه، وإلى أمثلة من أعماله لوجد الدّاء هو إصراره على الغيبة .. إصراره على الكذب .. إصراره على أكل المال بالباطل .. إصراره على إضاعة الأوقات .. وقوعه في عصيان والديه، وغير ذلك ممّا يجده بين يديه.
    وقد جاء الإمامُ الشّافعي رحمه الله يوما إلى الإمام مالك رحمه الله، وقرأ عليه " الموطّأ "، فأُعجب الإمام مالك بعلم الشّافعي، فقال له: "اعلم يا هذا أنّ الله قد ألقى في قلبك نورا، فلا تطفئه بظلمة المعصية ".
    وقد قال أحدهم وينسبونه إلى الشّافعيّ وهو ليس له -:
    شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي
    وقـال لي بأنّ العـلم نـور *** ونور الله لا يهدى لعاصي
    فمقتضى العلم العمل، والنّصوص من صريح القرآن وصحيح السنّة في هذا الباب قد تضافرت، والآثار عن سلف هذه الأمّة قد تواترت.
    قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه:" لا يغرُرْكم من قرأ القرآن، ولكن انظُروا إلى مَن يعمل به ".
    وقال مالك بن دينار رحمه الله:" تلقى الرّجلَ ما يلحن حرفاً، وعملُه لحنٌ كلّه !".
    وقال ابن جماعة رحمه الله في هذا الشّأن:
    " واعلم أنّ جميع ما ذُكر من فضيلة العلم والعلماء إنّما هو في حقّ العلماء العاملين الأبرار المتقين، الّذين قصدوا به وجه الله الكريم، والزّلفى لديه في جنّات النّعيم، لا مَن طلبه لسوء نيّة، أو خُبث طويَّة، أو لأغراض دنيوية من جاه أو مال، أو مكاثرة في الأتباع والطُلاّب " [" تذكرة السّامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلّم " (ص 9)].
    فإذا حرص المسلم على هذا المعلم العظيم، وهو تقوى الله عزّ وجلّ، كان ذلك ميسّرا لتحصيل الأدب الثّاني.
    2- الأدب الثّاني: الإخلاص في القول والعمل.
    فالإخلاص ثمرة من ثمار التّقوى، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن كَعْبِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول:
    (( مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ )).
    ورواه ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
    (( لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ )).
    وفي حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
    (( إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ:
    رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ ! وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
    وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ ! وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّىأُلْقِيَ فِي النَّارِ.
    وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ ! وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ )).
    الشّاهد: أن يراجع المسلم نفسَه إذا توجّه إلى المسجد لحضور مجالس الذّكر، أو فتح كتابا من كتب أهل العلم، فيشرع في الخير على خير، صادق النّية، طاهر الطّوية، لا يبتغي إلاّ وجه الله والدّار الآخرة؛ لأنّ أوّل ما يطلب المسلم العلم يأتيه الزّهو والغرور وحبّ المناظرة والمناقشة والبروز على الأقران، فإذا أراد الله بعبده خيرا كسر قلبه لخشيته، وجوارحه لطاعته، ولسانه بذكره.

    إنّ الإخلاص أن تستحي من الله عزّ وجلّ الّذي علّمك، وفهّمك، وأجلسك مجالس الرّحمة أن ترجو غيره، أو تلتمس رضوان أحد سواه.
    نسأل الله جلّ حلاله الهُدى والتّقى، والعفاف والغِنى، والإخلاص في القول والعمل، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •