شروط قبول الأعمال - الاتباع
عبد الله جحيش


تقدم في مقال سابق بعنوان الإخلاص للدكتور أحمد فريد حديث عن الإخلاص وأهميته ولا شك أن الإخلاص يحتاج إلى أكثر من ذلك وإنما هي إشارات ودلالات يستضيء ويستأنس بها السالكون على مدارج تزكية النفس.

وقد أشار فضيلته إلى أن الإخلاص شرط في قبول العمل وأن الشرط الثاني هو المتابعة أو الاتباع لسنة النبي – صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا الكلمات سنتعرض للحديث عن الاتباع.

الاتباع في اللغة مأخوذ من مادة (ت ب ع) وهذه المادة تدل على القفو والتلو, تقول: تبعت القوم تبعاً وتباعة بالفتح إذا مشيت خلفهم أو مروا بك فمضيت معهم[1].

والاتباع في الأصل: اقتفاء أثر الماشي, ثم أستعمل في العمل بمثل عمل الغير, كما في قوله تعالى: {والذين اتبعوهم بإحسان} ثم استعمل في امتثال الأمر والعمل بما يأمر به المتبوع فهو الإتمار.[2]

وأما الاتباع في الاصطلاح فهو كما قال الإمام أحمد: أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن عبد البر – رحمه الله – الاتباع ما ثبت عليه الحجة وهو اتباع كل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله. فالرسول هو المثل الأعلى في اتباع ما أمر به[3].

من الذي يجب اتباعه ؟

للإجابة على هذا السؤال أترك الحديث للإمام الشاطبي – رحمه الله تعالى – إذ يقول: "الكتاب (أي القرآن) هو المتبع على الحقيقة, ومراتب الناس بحسب اتباعهم له. إن الله تعالى وضع هذه الشريعة حجة على الخلق كبيرهم وصغيرهم, مطيعهم وعاصيهم, برهم وفاجرهم, لم يختص بها أحداً دون أحد, وكذلك سائر الشرائع إنما وضعت لتكون حجة على جميع الأمم التي تنزل فيهم تلك الشريعة, حتى إن المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها.

فأنت ترى أن نبينا محمدا - صلى الله عليه و سلم - مخاطب بها في جميع أحواله وتقلباته مما اختص به دون أمته, أو كان عاما له ولأمته فالشريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلفين, وهي الطريق الموصل والهادي الأعظم ألا ترى إلى قوله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا}[4] فهو عليه الصلاة و السلام أول من هداه الله بالكتاب والإيمان، ثم من اتبعه فيه, والكتاب هو الهادي والوحي المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدي, والخلق مهتدون بالجميع. ولما استنار قلبه وجوارحه ـ عليه الصلاة و السلام ـ وباطنه وظاهره بنور الحق علما وعملا, صار هو الهادي الأول لهذه الأمة والمرشد الأعظم حيث خصه الله دون الخلق بإنزال ذلك النور عليه واصطفاه من جملة من كان مثله في الخلقة البشرية اصطفاء أوليا لا من جهة كونه بشرا عاقلا ـ مثلا ـ لاشتراكه مع غيره في هذه الأوصاف ولا لكونه من قريش ـ مثلا ـ دون غيرهم وإلا لزم ذلك في كل قرشي ولا لكونه من بني عبد المطلب ولا لكونه عربيا ولا لغير ذلك بل من جهة اختصاصه بالوحي الذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خلقه القرآن حتى نزل فيه : {وإنك لعلى خلق عظيم}[5] وإنما كان خلقه القرآن لأنه حكم الوحي على نفسه حتى صار علمه وعمله على وفقه وكان هو - عليه الصلاة والسلام - مذعنا ملبيا نداءه واقفا عند حكمه وهذه الخاصية كانت من أعظم الأدلة على صدقه فيما جاء به إذ قد جاء بالأمر وهو مؤتمر وبالنهي وهو منته وبالوعظ وهو متعظ وبالتخوف وهو أول الخائفين وبالترجية وهو سائق دابة الراجين.

وقد صارت الشريعة المنزلة عليه حجة حاكمة عليه, ودلالة له على الصراط المستقيم الذي سار عليه, وإذا كان كذلك, فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم, ومنارا يهتدون بها إلى الحق, وشرفهم إنما يثبت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامها والأخذ بها قولا واعتقادا وعملا فمن كان أشد محافظة على اتباع الشريعة فهو أولى بالشرف والكرم ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشرف المبلغ الأعلى في اتباعها فالشرف إذا إنما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشريعة.[6]

وخلاصة الأمر في هذا, أن المسلم واجب عليه أن يتبع منهج الله وشريعته, كما وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ لأن كمال الإنسان لا يكون إلا عبر منهاج العبادة الذي ورد في هذين المصدرين, والذي يعني إسلام النفس في كل ما تفعله وتذر لما يريده الله ويرضاه عبر الالتزام الكلي بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه,

وإذ كان الاتباع كما سبق هو اتباع النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما جاء عنه وعن أصحابه, فما جاء عنه أمران: القرآن الكريم بوصفه وحياً من الله تعالى إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – والسنة النبوية المطهرة.

وكل ما جاء في القرآن فاتباعه لازم, حيث أنه يحتوي على المنهج الكامل لحياة المجتمع الإسلامي, وبالتالي فهو يشمل كل ما يحتاج إليه هذا المجتمع, وما يحتاجه الإنسان في حياته, من عقائد وأخلاق, وأحكام عملية تتصل بالعبادات والمعاملات التي تنظم علاقة الإنسان بأمثاله وبالمجتمع وبالأمم والعالم.

أما السنة فقد جاءت مكلمة للقرآن, وأوجب الله على الناس طاعة الرسول في قبول ما شرعه لهم وامتثال ما يأمرهم به, وينهاهم عنه.

إذن واجب للرسول على الأمة أمران: الطاعة فيما أتى به. والثاني: أن يبلغوا عنه ما أخبرهم به.

والسنة أفعال وأقوال وتقريرات وكل الأقوال والتقريرات من الدين وحجة على المسلم أن يتبعها, والأفعال منها:

1- ما يتصل ببيان الشريعة وهذا واجب الاتباع (كصلاته وصومه وحجه .....).

2- ما يتصل بخاصته وهو ما دل الدليل على أنها خاصة بمحمد – صلى الله عليه وسلم .

3- ما يتصل بمقتضى الجبلة البشرية أو بمقتضى العادات الجارية كالملبس والمأكل والمشرب ...الخ. وهذا يخضع لمقتضى الطبيعة الإنسانية.

ولكن هذا الاتباع ليس تقليدا أعمى, وإنما اتباع بصير متفهم واع بهدي الله وحكمته, وبالمقومات الكفيلة ببناء الإنسان بناء قوياً راسخاً.

الاتباع دليل محبة الله عز وجل ورسوله – صلى الله عليه وسلم – .

للمحية طرفان هما: المحب والمحبوب, وفيما يتعلق بمحبة الله عز وجل فإن طرفيها هما: محبة العبد لربه ومحبة الرب لعبده, ودليل الأولى هي اتباع المصطفى – صلى الله عليه وسلم -. أما الثانية فهي ثمرات ذلك الاتباع.

ويؤكد ذلك كله قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}[7] ولذلك أطلق على هذه الآية الكريمة آية المحبة.

يقول أبو سليمان الدراني: لما ادعت القلوب محبة الله عز وجل أنزل الله هذه الآية محنة (أي اختبارا وامتحانا لهذه القلوب)[8]

وقد فسر بعضهم المحبة بالاتباع والطاعة من جانب العباد ومحبة الله لعباده بإنعامه عليهم بالغفران فقال: محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما واتباعه أمرهما, ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران.[9]

وهذه الآية الكريمة حاكمة على كل من أدعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية بأنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله.

ونختم هذا المقال بكلام نفيس لابن القيم عن هذه الآية حيث يقول: وفي قوله تعالى في الآية السابقة: {يحببكم الله} إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها فدليها وعلامتها اتباع الرسول – صلى الله عليه وسلم – وفائدة الاتباع وثمرته محبة الله عز وجل فإذا لم تحصل المتابعة فليست المحبة بحاصلة" وقال أبضا: " وعلى هذا فإنه لا تنال محبة الله عز وجل إلا باتباع الحبيب – صلى الله عليه وسلم"

والخلاصة أن الاتباع علامة على صدق العبد في حبه لله تعالى وأن ثمرته هذا الاتباع هي محبة الله عز وجل وغفرانه.






[1] لسان العرب (8/27) ومقاييس اللغة (1/362) والصحاح (3/1190).




[2] تفسير التحرير والتنوير (7/423)




[3] أضواء البيان (7/548).




[4] الشورى (52).




[5] القلم (4).




[6] الاعتصام (2/338-340) بتصرف.




[7] آل عمران ( 31)




[8] مدارج السالكين (3/23).



[9] تفسير القرطبي (4/40).