الفارق بين الإفتاء والقضاء
الإفتاء والقضاء مهمتان جليلتان عظيمتان لا غنى للمجتمع الإسلامي عنهما فبالأولى يحصل تعلم الدين وفقهه كما بها تُعرف الأحكام الشرعية فيما يقع للمكلفين (المستفتين) وفي ما يَجِدُّ من النوازل بالنسبة للأمة·
وبالثانية يفصل في المنازعات ويُحسم في الخصومات وتحفظ حقوق المظلومين من عبث الظالمين·
غير أنه بين الإفتاء والقضاء فوارق أساسية ينبغي تمييزها اتقاء للخلط الذي وقع فيه بعض الناس، وهذا ما قصدت بيانه في مقالي، وقبل ذلك نعرِّف كلاً منهما·
تعريف الإفتاء لغة واصطلاحاً:
لغة: الإفتاء أو الفتوى بمعنى واحد، والفعل (أفتى) ويفيد معنى التبين عامة، وفي لسان العرب: "ويقال: أفتيت فلاناً رؤيا رآها إذا عَبَرتها له وأفتيته في مسألة إذا أجبته عنها"[1]·
وأما الفتوى في اصطلاح الفقهاء فهي: إخبار بحكم الله تعالى عن الوقائع بدليل شرعي[2]· وعرَّفها الخطاب بأنها: "إخبار بحكم شرعي من غير إلزام"[3]، وعبارة (من غير إلزام) قيد يوضح أن الفتوى في أصلها غير ملزمة وإن كان إلزامها ديانة، بخلاف حكم القاضي فإنه ملزم عموماً·
القضاء لغة واصطلاحا:
لغة: يرِد بمعنى الحكم، والجمع (أقضية) قال الإمام الرازي وقضى يقضي بالكسر قضاء أي حكم ومنه قوله تعالى: }وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه{ [الإسراء:23]، ويرد القضاء بمعانٍ أخرى كالفراغ والأداء والإنهاء·[4]
وأما في اصطلاح الفقهاء هو: الإخبار بحكم شرعي على وجه الإلزام· قال "ابن عرفة" في تعريفه: "صفة حُكيمة توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعي ولو بتعديل أو بتجريح لا في عموم مصالح المسلمين"[5]· وقد بين صفة الإلزام في القضاء أيضاً الإمام القرافي (ت486هـ) في تعريفه إذ يقول: "إنشاء إطلاق أو إلزام في مسائل الاجتهاد المتقارب فيما يقع فيه النزاع لمصالح الدنيا"[6]·
وجوه الفوارق بين القضاء والإفتاء
من خلال هذه التعريفات للقضاء والإفتاء يتبين الفارق بينهما كما أشار إلى ذلك العلماء وهذه الفوارق تتضح من أوجه عدة:
الوجه الأول: الإفتاء أعم من القضاء ذلك أن الفتوى تكون في العبادات وتكون في المعاملات والآداب··· وأما القضاء فلا يدخل في العبادات مثلاً فليس لحكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة لأن الأصل في القضاء كما سبق ذكره في التعريف أن يحسم فيما يقع فيه النزاع لمصالح الدنيا·
الوجه الثاني: الإفتاء والقضاء وإن كان كل منهما خبراً عن الله تعالى يلزمُ المكلف عموماً إلا أن الفتوى إخبار محض عن الله تعالى بينما القضاء إخبار يقتضي الإلزام أي التنفيذ، وقد بين الإمام "القرافي" هذا المعنى فضرب مثالاً لذلك، إذ يقول: "إن المفتي مع الله تعالى كالمترجم مع القاضي ينقل ما وجده عن القاضي واستفاده منه بإشارة أو بعبارة أو فعل أو تقرير أو ترك، والحاكم مع الله تعالى كنائب الحاكم ينشئ الأحكام والإلزام بين الخصوم وليس بناقل ذلك عن مُستتيبه، بل مُستتيبه قال له أي شيء حكمت به على القواعد فقد جعلته حُكمي، فكلاهما موافق للقاضي ومطيع له وساع في تنفيذ مواده غير أن أحدهما ينشئ والآخر ينقل نقلاً محضاً من غير اجتهاد له في الإنشاء، كذلك المفتي والحاكم كلاهما مطيع لله تعالى قابل لحكمه، غير أن الحاكم منشئ والمفتي مخبر محض"[7]·
الوجه الثالث: وهذا الوجه قريب من سابقه بل هو مُنْبَنٍ عليه، فإذا كان القاضي ملزماً والمفتي مخبراً، فإن حكم القاضي لا يتصوَّر فيه جميع الأحكام الشرعية الخمسة من الوجوب والندب والكراهة والإباحة والتحريم، بينما يجوز في الفتوى أن تعتريها كل الأحكام المذكورة·
فلا يجوز في حكم القاضي قوله بالكراهة أو الندب في مسألة ما فإذا قال القاضي لأحد المتنازعين مثلاً: الأحسن لك أن تفعل كذا أو يُكره لك أن تفعل كذا فإنما هو فتوى منه لا قضاء يدفع الخصومة أو يحسم النزاع·
وهذا الوجه من الفوارق بين الإفتاء والقضاء ينبني على مسألة مهمة تتعلق بخصوصية القضاء، ذلك أن مقصود قضاء الحاكم ـ كما تبين في التعريف ـ إنما هو الفصل في المنازعات وهذا لا يتحقق إلا بإحكام الوجوب أو التحريم أو الإباحة، أما الندب والكراهة فلا تندفع بهما الخصومات لأن حقيقتهما هي: "التردد بين جواز الفعل والترك"[8]·
بينما الفتوى يتسع أمرها فيشمل الأحكام الخمسة، فقد يسأل المستفتي المفتي عن شيء فيجيبه ـ بحسب حاله ووضعه ـ إما بالوجوب أو بالتحريم أو بالإباحة أو بالكراهة أو بالندب·
الوجه الرابع: الفتوى تعتمد الأدلة كالكتاب والسنَّة··· وأما القضاء فهو وإن كان مرجعه القرآن والسنَّة إلا أنه يجب على القاضي الاستماع إلى حجج الخصوم كلهم ثم القضاء في شأنهم بما قاله الله تعالى أو قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بما اجتهده هو إذا لم يجد نصاً في كتاب الله أو في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم·
فالمفتي "يجب عليه اتباع الأدلة بعد استقرائها، ويخبر الخلائق بما ظهر له منها"[9]·
وأما القاضي فإنه لا يقضي لمجرد علمه وإنما يتوقف حكمه على ما ظهر له من الحجج ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه"[10]·
الوجه الخامس: للقاضي صلاحية نقض الحكم وفسخه، وأما المفتي فليس له شيء من ذلك، وهذا الأمر ينبني على قاعدة مهمة هي "أن النقض لا يكون إلا لمن يكون له الإبرام فيما يكون فيه النقض"[11]، فكما أن المرأة ليس لها إنشاء عقد النكاح على نفسها، فلا يمكن لها حله فكذلك المفتي ليس له إنشاء الحكم فليس له نقضه، لأنه تبين لنا من قبل أن الإلزام في الأحكام إنما هو من شأن القضاة لا المفتين، فإن عقد النكاح مثلاً لا يتم إلا من خلال القضاء وكذلك الطلاق فليس للمفتي أن يعقد النكاح للمتزوجين أو يفسخ عقدهما بإلزام·
تلك، إذن جملة من الفوارق بين القضاء والإفتاء على أن القضاء يتميز عن الإفتاء بخطورته وصعوبته فلا يكفي في القاضي حفظ المسائل بل لابد ـ بالإضافة إلى ذلك ـ من التفطن وسرعة الانتباه·
علي الوزاني التهامي
باحث في الدراسات الإسلامية
فاس ـ المغرب
[1] لسان العرب لابن منظور 20/5، مادة (ف·ت·و)·
[2] صفة الفتوى والمستفتي لابن حمدان، ص4·
[3] مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1/32·
[4] مختار الصحاح للرازي، ص 266، دائرة المعاجم ـ مكتبة لبنان ـ 1993م·
[5] حاشية الإمام التاودي على شرح التحفة التسولي 1/97، طبعة دار المعرفة·
[6] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي، ص 33، اعتنى به عبدالفتاح أبوغدة ـ مكتب المطبوعات الإسلامية ـ حلب ط2، 1416هـ·
[7] الفروق للقرافي، 4/120، ضبط وتصحيح خليل المنصور، دار الكتب العلمية، ط1 ـ 1418هـ·
[8] الإحكام للقرافي ـ ص70·
[9] الإحكام للقرافي، ص43
[10] متفق عليه: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان لـ"فؤاد عبدالباقي"(مكتبة دار السلام ـ الرياض ـ ومكتبة دار الفيحاء ـ دمشق) ط1 ـ 1414هـ·
[11] الإحكام للقرافي ص 133·