تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 20 من 45 الأولىالأولى ... 101112131415161718192021222324252627282930 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 381 إلى 400 من 898

الموضوع: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

  1. #381
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (19)
    الحلقة (380)
    تفسير سورة المائدة (11)




    حرم الله عز وجل على عباده المؤمنين الجلوس في المجالس التي يسخر فيها من دين الله وشريعته وديانته، وأن من جلس في مثل هذه المجالس فعليه الإعراض والإنكار وسرعة مفارقتها، خاصة إذا كان أهل الحق مستضعفين وأهل الباطل ظاهرين، وحسب المؤمن الصادق أن يعرض عنهم فلا يفرح بهم ولا يضحك لهم، حتى لا يكون مصيره في الآخرة كمصيرهم.
    قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.
    من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألف ألفٍ وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة الأنعام المكية، ومع الآيات الثلاث التي تدارسناها بالأمس ولم نوفها حقها، فنريد مرة ثانية أن يرتلها الطالب، ونعيد تفسيرها وشرحها إن شاء الله تعالى.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )[الأنعام:68-70].
    معنى الآيات
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! [معنى الآيات: ما زال السياق في الحديث مع أولئك العادلين] بربهم آلهة أخرى، اصطنعوها، وكذبوا في ادعائها آلهة، أولئك العادلون ما زال الكلام معهم، [فيقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا )[الأنعام:68]] ما معنى: (يَخُوضُونَ)؟ [ يستهزئون بالآيات القرآنية، ويسخرون مما دلت عليه من التوحيد والعذاب للكافرين ].وقد بينا أن جماعات من المشركين في مكة كانوا يجتمعون ليسخروا من القرآن ويستهزئوا به وبمن نزل عليه، وفيهم نزل هذا القرآن الكريم.
    [( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ )[الأنعام:68]]، من أمر الرسول بالإعراض عنهم؟ الله جل جلاله، اتركهم وأعطهم ظهرك ولا تلتفت إليهم ما داموا يخوضون في الباطل، ويتكلمون بالمنكر طعناً في القرآن ومن نزل عليه، إذاً: هؤلاء لا تجلس معهم، أعرض عنهم.
    وبينا لأبنائنا وبناتنا أنه إلى اليوم لا يحل لمؤمن أن يجلس مجلساً فيأخذ أهل المجلس في الطعن في الإسلام، والنقد، ويبقى معهم، يجب أن يأخذ نعله ويخرج من عندهم، ولا يحل له البقاء؛ لأن الآيات عامة لهداية الخلق إلى يوم القيامة.
    قال: [ ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ )[الأنعام:68]، أي: فصد عنهم وانصرف ( حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68] ]، أي: غير الطعن والنقد والسب والشتم، فإن أخذوا بحديث دنياهم عن السوق والبيع والشراء وشأنهم فلا يضرك ذلك، لكن إذا اخذوا يطعنون في دين الله وفيمن أرسل وهو رسول الله، أو في أولياء الله ودعاته، في هذه الحالة ينبغي أن تعرض عنهم، فإن عدلوا عن ذلك فلا بأس.
    وإن كان فرضاً أن الشيطان أنساك ما نهيت عنه من عدم الجلوس معهم، ثم ذكرت وزال النسيان فعلى الفور تقوم وتخرج من مجلسهم.
    قال: [ وإن أنساك الشيطان نهينا هذا فجلست ثم ذكرت فقم ولا تقعد مع القوم الظالمين ]، معنى هذا: أنك إذا نسيت فجلست مع جماعة يتضاحكون ويسخرون ويستهزئون بالإسلام وشرائعه، من العلمانيين والملاحدة والضلال، أو من الخاسرين والتائهين، ثم ذكرت أنك منهي أن تبقى معهم فعلى الفور أطع الله وقم من مكانك: ( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ )[الأنعام:68]، أي: وإن أنساك الشيطان نهي الله هذا، ثم ذكرت أنك منهي عن الجلوس في هذا المجلس فقم على الفور، ولا تقعد مع القوم الظالمين.
    وظلمهم واضح في وضعهم الأشياء في غير موضعها، بدلاً من أن يتذاكروا كتاب الله وما يهدي إليه، وأن يذكروا رسول الله وما يدعو إليه، يجعلون بدل ذلك النقد والطعن وما لا يجوز أن يقال.
    [ وقوله تعالى: ( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:69]، أي: وليس على المؤمنين المتقين -جعلنا الله منهم- أنت وأصحابك يا رسولنا من تبعة ولا مسئولية، ولكن إذا خاضوا في الباطل فقوموا؛ ليكون ذلك ذكرى لهم فيكفون عن الخوض في آيات الله تعالى ]، نعم، ليس عليك من حساب المبطلين والملاحدة والمبطلين إذا قالوا الباطل، ما أنت بمسئول عن ذلك، كل ما في الأمر أنك تقوم وتتركهم، قد يكون ذلك حاملاً لهم على التفكير: لماذا خرج؟ لماذا أخذ نعله وما رضي كلامنا؟ لعلنا مبطلون، لعله محق. قد يكون ذلك سبباً لهدايتهم، بخلاف ما إذا بقيت معهم وأيدتهم على باطلهم برضاك بالجلوس معهم.
    قال: [ وهذا كان بمكة قبل قوة الإسلام ]، هذا البيان كان في مكة قبل قوة الإسلام، كان أيام ضعف الإسلام، والمراد من ضعف الإسلام: ضعف أهله إذ لا قدرة لهم على الجهاد.
    قال: [ ونزل بالمدينة النهي عن الجلوس مع الكافرين والمنافقين إذا خاضوا في آيات الله ]، وهذا يبقى إلى يوم القيامة، [ومن جلس معهم يكون مثلهم، وهو أمر عظيم ]، ففي المدينة لا عذر، أما في مكة فلأن المسلمين ضعفاء عاجزون وهم أقوياء، فقد لا يستطيعون أن يواجهوهم، لكن في المدينة والإسلام قوي لا يحل لمؤمن أن يجلس معهم.
    قال: [ ونزل بالمدينة النهي عن الجلوس مع الكافرين والمنافقين إذا خاضوا في آيات الله، ومن جلس معهم يكون مثلهم ] أي: في الظلم والكفر والنفاق [ وهو أمر عظيم ]، من يقوى على أن يتحول من مؤمن إلى كافر، ومن مؤمن صادق إلى منافق؟
    [ قال تعالى: ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ )[النساء:140] ]، فإذا خاضوا في حديث الباطل الذي يخوضون فيه وأنتم جالسون فأنتم مثلهم في نفاقهم وكفرهم، وقرئ: (نَزَّلَ)، و(نُزِّلَ)، ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا )[النساء:140]، في أي مجلس وفي أي مكان في العالم، ( فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ )[النساء:140]، فالذي يرضى بإهانة الإسلام والمسلمين، بإهانة دين الله، بإهانة شرعه وكتابه فهو مثلهم.
    فلهذا لا نجلس معهم ابتداء، لكن إذا جلسنا وأخذوا يتخوضون في سب الإسلام وطعنه وجب النهوض والخروج، ولا يحل البقاء أبداً، لقد أعذر الله أولئك الضعفاء في مكة، لكن لما عز الإسلام وقوي أهله وانتصرت رايته لم يسمح لأحد أن يبقى معهم، وإلا فهو منافق أو كافر مثلهم.
    وتأملوا الآية: ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ )[النساء:140]، ماذا نزل؟ ( أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ )[النساء:140]، أي: القرآنية، ( يُكْفَرُ بِهَا )[النساء:140]، أي: يكفر بها المنافقون والكافرون، ( وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا )[النساء:140]، بالكلام الذي تعرفونه من الاستهزاء، ( فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ )[النساء:140]، فإذا ما خرجتم من المجلس فقد أصبحتم مثلهم.
    قال: [ هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية. أما الثالثة فإن الله تعالى يأمر رسوله أن يترك الذين اتخذوا دينهم الحق الذي جاءهم به رسول الحق لعباً ولهواً يلعبون به أو يسخرون منه ويستهزئون به، وغرتهم الحياة الدنيا، قال تعالى: ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، اتركهم ] لا تجالسهم ولا تجلس معهم ولا ترض بذلك، [ اتركهم فلا يهمك أمرهم، وفي هذا تهديد لهم على ما هم عليه من الكفر والسخرية والاستهزاء ]، اترك الذين شأنهم كذا وكذا قبل أن تنزل العقوبة بهم، فالله تعالى يقول له في إنذار وتهديد لهم: اترك ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، اتركهم لنا للننزل عقوبتنا بهم.
    [ وقد أخبر تعالى في سورة الحجر أنه كفاه أمرهم؛ إذ قال: ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِ ينَ )[الحجر:95] ]، وقد كفاه إياهم، وكلهم صرعوا في بدر -وهم سبعون ظالماً- عن آخرهم، وعده الله بأنه سيكفيه إياهم، وقد كفاه أمرهم.
    [ وقوله تعالى: ( وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70]، أي: بالقرآن، ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ )[الأنعام:70]، أي: كي لا تبسل ]، ومعنى الإبسال -كما علمتم- الارتهان والحجز، ثم إلى جهم وبئس المصير، ( وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70] أي: بالقرآن قبل ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ )[الأنعام:70]، أي: لكي لا تبسل.
    [ ( بِمَا كَسَبَتْ )[الأنعام:70]، أي: كي لا تسلم نفس للعذاب بما كسبت من الشرك والمعاصي، ( لَيْسَ لَهَا )[الأنعام:70] يوم تسلم للعذاب ( مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ )[الأنعام:70] يتولى خلاصها، ( وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:70] يشفع لها فينجيها من عذاب النار ]، ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ )[الأنعام:70] وتتقدم بكل ما تستطيع أن تقدمه للفداء، ولو قدمت جبال الأرض كلها ذهباً، ولو قدمت قبائل وعشائر لا يقبل ذلك منها أبداً. [ ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا )[الأنعام:70]، أي: وإن تقدم ما أمكنها -حتى ولو كان ملء الأرض ذهباً- فداء لها لما نفعها ذلك ولما نجت من النار].
    ثم قال تعالى: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، الباء -كما علمتم- سببية، لم ارتهنوا واحتجزوا؟ ليجازوا في عالم الشقاء؛ لأنهم كسبوا ذنوباً أخبثت أرواحهم ولوثت نفوسهم، وهي ذنوب الشر والكفر والاعتداء والظلم والطغيان، إذاً: فهؤلاء الذين لو تقدم أحدهم بملء الأرض ذهباً ليفتدي به ما فدي ولا قبل ذلك منه.
    قال: [ أبسلوا: أسلموا وأخذوا إلى جهنم بما كسبوا من الذنوب والآثام، لهم في جهنم شراب من ماء حميم وعذاب موجع اليم ]، ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، أخبرنا عنهم يا رب؟! قال: ( لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ )[الأنعام:70]، وقد عرفنا الشراب الحميم، وهو الذي تناهت فيه الحرارة في القوة، وصلت إلى مستوى لا زيادة فوقه، هذا شرابهم.
    قال: [ أبسلوا: أي: أسلموا وأخذوا إلى جهنم بما كسبوا من الذنوب والآثام، لهم في جهنم شراب من ماء حميم حار وعذاب موجع أليم؛ وذلك بسبب كفرهم بالله وآياته ورسوله، حيث نتج عن ذلك خبث أرواحهم، فما أصبح يلائم وصفهم ] أي: خبث أرواحهم [ إلا عذاب النار. قال تعالى من هذه السورة: ( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )[الأنعام:139] ]، الوصف الذي يكون في الروح البشرية، إن كان نوراً وطهراً وصفاء يجزيه الله بالجنة دار النعيم، وإن كان خبثاً ونتناً وعفناً يجزيه به عذاب الجحيم، ( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ )[الأنعام:139] في عمله هذا وقضائه، حكيم فيه كذلك.
    هداية الآيات
    هذه الآيات كررناها، فهيا بنا نتأمل هداياتها: قال: [ من هداية الآيات:
    أولاً: حرمة الجلوس في مجالس يسخر فيها من الإسلام وشرائعه وأحكامه وأهله ]، من أين أخذنا هذه الحرمة؟
    من قوله تعالى: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68]، فهل هدت الآية إلى هذا أم لا؟
    ومعنى هذا: أنه لا يحل لك ولا لي ولا لأي مؤمن في الشرق أو الغرب أن يجلس مجلساً يسب فيه أو يشتم الإسلام وأهله أو شرائعه وتبقى جالساً معهم، يجب أن تقوم، فإن أبيت إلا أن تجلس فقد هلكت، فإنك -إذاً- مثلهم.
    إن هناك مجالس للهو واللعب فقط، فهل تجلس أنت مع قوم يلعبون الكيرم والورق ويضحكون وقد مضى وقت الصلاة وهم يلعبون، هل تجلس هذا المجلس وترضاه لنفسك؟ أيحل لك هذا؟ والله لا يحل، يجب أن تقول: قوموا فلقد نودي للصلاة، ولا يحل لكم هذا، لسنا من أهل اللهو واللعب.
    إذاً اللهو واللعب لا يحلان للمسلمين إلا في نقاط بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تلاعب طفلك الصغير، أن تداعب امرأتك، أن تمرن نفسك على الرماية وإصابة الأهداف، أو تروض دبابتك أو طيارتك أو فرسك على الجهاد، هذه الأربع فقط ، وما عدا ذلك لهو ولعب، كل من يقول: لا بأس به، هو ترويح النفس، نقول له: والله ما هو إلا زيادة ظلمها وظلمتها.
    [ ثانياً: وجوب القيام ] والوقوف [ احتجاجاً من أي مجلس يعصى فيه الله ورسوله ].
    وأصحاب الدشوش أو الصحون الهوائية سكرى، وسوف يفيقون عند سكرات الموت، لقد قلت غير ما مرة -والله أسأل أن أكون على علم وبصيرة-: إن الذين يرضون بهذه الصحون الهوائية، ويجلسون ليشاهدوا تلك المناظر الفظيعة العجيبة هم وأطفالهم ونساؤهم؛ فإني لا أكاد أشك أن من أصر منهم بعدما علم وأبى إلا هذا أن يموت على سوء الخاتمة، وها نحن نمر بالشوارع، ونشاهد هذه الصحون الهوائية على البيوت القصيرة والطويلة، بيوت الفقراء كالأغنياء، كأنهم لا يؤمنون بالله ولقائه.
    فالذي يصر بعد ما سمع فتوى عالم الإسلام الشيخ عبد العزيز بن باز أن هذا لا يحل أبداً ولا يصح، ثم يصر ويركب رأسه ويحتج بأن فلاناً عنده كذا وكذا؛ فهذا -والله أعلم- إن استمر على هذه المناظر يومياً وليلياً فسوف يموت على سوء الخاتمة.
    فقد نهينا عن أي مجلس نجلس فيه إذا كان فيه نقد أو طعن للإسلام، وإذا كان فيه إعلان عن إباحة الباطل والمنكر والشر فكيف تجلس معهم؟
    [ ثالثاً: مشروعية الإعراض في حال الضعف عن المستهزئين بالإسلام الذين غرتهم الحياة الدنيا من أهل القوة والسلطان ]، وحسبك يا عبد الله [ وحسب المؤمن أن يعرض عنهم فلا يفرح بهم ولا يضحك لهم ]، ما دام عاجزاً ضعيفاً، والمجلس أهله أقوياء، فحسبه أن يعرض عنهم ولا يلتفت إليهم في حال الضعف كما كانوا في مكة، وفي حال القوة ينبغي أن ينكر المنكر وأن يعترض عليهم.
    [ رابعاً: وجوب التذكير بالقرآن وخاصة المؤمنين الذين يرجى توبتهم ]، من أين أخذنا هذا؟ كيف عرفناه؟
    أما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70]؟ ما هو هذا؟ إنه القرآن الكريم، ذكر به المؤمنين، الذين غلبتهم الشهوات والأهواء والأطماع والمفاسد، هؤلاء لوجود عنصر الإيمان في قلوبهم ذكرهم علهم ينتهون ويتقون، وآية أخرى: ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ )[ق:45]، ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ )[الذاريات:55] بوصفهم أحياء، بخلاف الكافرين فإنهم أموات أو كالأموات.
    [وجوب التذكير بالقرآن]، كيف يذكر بالقرآن؟ بالآيات التي تنذر وتحذر أو تتوعد وتوعد بالعذاب، أو تبشر بالخير وأهله، [وجوب التذكير بالقرآن وخاصة المؤمنين الذين يرجى توبتهم]، فلهذا -وأنا كما تعرفون ظاهري كباطني- قلت: لو كوَنَّا لجنة من خمسة أفاضل، لنزور إخواننا الذين في بيوتهم الدشوش، وبأدب واحترام نسلم عليهم وننصح لهم بأن هذا لا ينبغي لكم، ولا يحل لكم، وما نرضى لكم أن تتأذوا أو تفقدوا رضا ربكم، أو تحرموا هداية مولاكم، ما حملكم على هذا؟ هل تجلبون بهذا أموالاً لأنفسكم؟ هل تكتسبون صحة في أبدانكم؟ هل ترتفع بهذا قيمتكم ويعلوا شرفكم؟ الجواب: لا. أبداً، فيا أخانا.. يا شيخنا.. يا ابننا! نرجو -إن شاء الله- أن تنهي هذا.
    هل هذا واجب أم لا؟ والله إنه لواجب علينا، وإننا والله لآثمون، فأين الأخوة؟ ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )، هل هي أخوة بالكذب؟ إن لسان حال الواحد منهم: أنقذوني فأنا متورط بسبب زوجتي أو بسبب أولادي، فلهذا وضعت هذا الدش على سطح بيتي فأنقذوني أنتم بزيارتكم، حتى أتشجع، وأسأل الله عز وجل أن يعينني لأبعد هذا الفساد من دار الإيمان وبين المسلمين.
    هل أهل المدينة فيهم كفار ومنافقون؟ لا والله، بل هم مؤمنون، لماذا -إذاً- لا يذكرون بالقرآن؟ وهل يكفي التذكير في المسجد وهم في المنازل؟ فلم لا نكون في كل حي ثلاثة أنفار أو أربعة، يزورون إخوانهم بالابتسامة والوجه الطلق والكلمة الطيبة، فيربتون على كتف الرجل وينصحونه حتى يترك هذه الفتنة.
    [ خامساً: من مات على كفره لم ينج من النار؛ إذ لا يجد فداء ولا شفيعاً يخلصه من النار بحال ]، من أين أخذنا هذه الهداية؟
    من قوله تعالى: ( لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:51]، الولي: الذي يتولى، والشفيع: الذي يشفع، فمن مات على الخبث والظلم والفسق والكفر هذا مصيره.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #382
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (2)
    الحلقة (381)
    تفسير سورة المائدة (12)



    الله عز وجل هو وحده المستحق للحمد والثناء، فهو سبحانه خالق السماوات والأرض، وهو موجد الظلمات والنور، وهو خالق الإنسان من سلالة من طين، وهو الذي يعلم السر وأخفى، لا تعزب عنه مثقال حبة في السماوات أو في الأرض، وذلك يستلزم الرغبة فيما عنده من خير، والرهبة مما عنده من عذاب.
    تابع تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود، على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع فاتحة سورة الأنعام، وبالأمس تدارسنا منها ثلاث آيات، وما أكملنا دراستها، فهيا بنا نعيد دراستها بعد تلاوتها المرة والمرتين والثلاث.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:1-3].
    المبادئ العقدية الثلاثة التي قررتها السورة
    أُعيد إلى أذهانكم أن هذه السورة المكية المباركة الميمونة، والتي زفها سبعون ألف ملك وهم يسبحون الله عز وجل في زجل عجيب، هذه السورة من أولها إلى آخرها تقرر المبادئ الثلاثة الآتية:أولاً: توحيد الله عز وجل، بأن يُعبد وحده ولا يُعبد معه سواه؛ لأن هذه العبادة هي مفتاح دار السعادة، فو الله لا نجاة ولا كمال ولا سعادة إلا بواسطتها، فمن عرف الله معرفة حقيقية أثمرت له حبه في قلبه، فأصبح يحب الله أكثر من نفسه، فضلاً عن ماله وولده والناس أجمعين، ثم تثمر له الرهبة من الله، والخوف منه، هذا الإيمان الذي يثمر الحب والخشية هو العامل الأول الذي يقوي صاحبه على أن يستقيم على منهج الله طوال حياته، فلا يميل يميناً ولا شمالاً، ولا يتأخر القهقرى، بل يواصل سيره إلى باب الجنة دار السلام، وذلك بوفاته ولفظ أنفاسه الأخيرة.
    ثانياً: الإيمان بهذا القرآن كتاب الله عز وجل، ومن أنزله عليه، ألا وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ثالثاً: الإيمان بالبعث والجزاء، البعث من الأرض من جديد، ثم الوقوف في ساحة فصل القضاء، ثم الحساب، ثم الجزاء، إما بالنزول في دار السلام، وإما بالهبوط إلى دار البوار.
    هذه السورة من أولها إلى آخرها تعمل على تقرير هذه المبادئ الثلاثة.
    حقيقة حمد الله تعالى وبيان علته وسببه
    فقوله: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ )[الأنعام:1]، وما الحمد إن لم يكن عبادة الله عز وجل، بإجلاله وإكباره وتعظيمه، وطاعته والإذعان لأمره ونهيه، فالوصف بالجمال والحمد والثناء من يستحقهما غير الله؟ وسر ذلك أو علته أنه خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور.عهدنا فيما بيننا: أن من صنع باب خشب وأحسن صنعه يمدح ويثنى عليه، من خاط ثوباً فقط وأحسن خياطته يمدحونه ويثنون عليه، طاهية تطهو طعاماً فيلذ ويطيب للآكلين تمدح ويثنى عليها.
    والله هو الذي خلق السماوات والأرض، ونحن نقول: السماوات والأرض، فما السماوات وما الأرض؟ هذه الطباق السبع، سماء فوق سماء، وما فيها من المخلوقات، كيف يتم خلقها، من يقدر على خلقها وقد خلقت؟ هو الله جل جلاله، فهذا الذي استحق الحمد بمعنى كلمة الحمد.
    ثم من أوجد الظلمات والأنوار، والظلمات جمع ظلمة، والنور واحد، وهذا التعبير القرآني، الظلمات تجمع لأنها متعددة، ظلمة كل معصية بظلام، وأما النور فواحد، النور واحد، وهو نور الحياة الذي به يشاهد بعضنا بعضا، والنور المعنوي الذي هو نور القلوب، الذي بواسطته تنظر القلوب إلى ربها وتعرفه، فهذا الذي يستحق أن يعبد بكامل العبادة، وهو الذي يستحق الحمد والثناء، والوصف بالجميل، أما من عداه ممن عُبدوا دونه وعظموا وأكبروا، وتمدح بهم، وأثني عليهم؛ فهل هم أهل لذلك؟! ولهذا استحق العبادة وحده، ولا يستحقها معه سواه.
    العجب من حال الكفار في شركهم بربهم عز وجل
    (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، وهنا حال المتعجب مع هذا، والكفار يعدلون بربهم غيره، الكفار أصحاب ظلمة النفس، الذين كفروا بالله وجحدوا آياته، كفروا بالله وجحدوا آلاءه وإنعامه فعموا فضلوا، فهم في متاهاتهم، هؤلاء يعدلون بالخالق الجبار خالق السماوات والأرض، يعدلون به ويسوون به مخلوقاً من مخلوقات الله، لو سووا به جميع المخلوقات لكانوا قد يعذرون، يسوون به مخلوقا واحدا، لو تجتمع الخليقة كلها فلن تساوي خالقها، مستحيل، فكيف يُعدل بالله عز وجل عبد من عباده أو خلق من مخلوقاته؛ إذ منهم من عبد الظلام، المانوية عبدوا الظلام والضوء، النور والظلمة، ألَّهوهما، قالوا: لفوائدهما ومصالحهما! إن من أوجد الظلام والنور هو الذي يعبد، لا نفس الظلام والضياء، وكذلك الذين عبدوا الشمس والقمر وبعض الكواكب، من خلق هذه الكواكب؟ لم لا نسأل؟ وكذلك الذين هبطوا وعبدوا عيسى ووالدته، من خلق عيسى، من أوجده، من رفعه؟ أمه من خلقها، من صانها وحفظها، من أكرمها؟ كيف يعبدان مع الله؟ وعبدوا غير عيسى وأمه، وعبدنا نحن أيام ظلمتنا الأولياء، عبادة كما يعبد الله، بالعكوف على الأضرحة، بالتمرغ على التربة، بالإقسام والحلف، بالاستغاثة والدعاء، بالذبح والنذر وما إلى ذلك، كيف يجوز تسوية مخلوق بخالق، كالذي يريد أن يسوي النعل بصانعه، هل يعقل هذا؟ نعلك في رجلك تسويه بمن صنعه وهو ذو عقل وكرامة آدمية، كيف يمكن هذا؟! تدعو صانعه فيسمعك ويجيبك، وتدعو النعل فهل يجيبك؟! يسمع صوتك؟! يعطيك حاجتك؟! ولهذا تعجَّب الجبار عز وجل فقال: ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1] بربهم: أي بخالقهم ورازقهم، ومدبر حياتهم، وهو الذي يملك حياتهم وموتهم، وغناهم وفقرهم، يسوون به غيره، أين العقول؟! أين الفهوم؟! أين المدارك؟! أين.. أين؟! والجواب: الكفر موت، من كفر مات، والميت هل يلام إذا لم يسمع؟! يلام إذا لم يجب؟! لا يلام. فالكافرون أموات غير أحياء وما يشعرون.
    فمن نفخت فيه روح الإيمان فحيي، فأصبح يسمع ويبصر، ويقول ويفهم، ويعطي ويأخذ، نعم هذا حي، أما من فقد روحه فقد مات، والإيمان بمثابة الروح، من فقده مات وهو ميت.
    اختصاص الله تعالى بخلق الإنسان وإيجاده
    (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، (هُوَ )[الأنعام:2] لا غيره، لا سواه، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ )[الأنعام:2]، هل هناك من يقول: لا؟! ألا تعترف بأن الله الذي خلقنا من طين؟! فقل لنا إذاً: تعترف بمن؟! تقول: ما خلقنا أحد؟! أنت مجنون. أنت مخلوق، تقول: غير الله! أشر إليه. من هو؟! فلم يبق إلا أن تطأطئ رأسك وتقول: آمنت بالله، خلقكم من طين، فلم ترفعون أنفسكم وتتكبرون؟ أصل مادتكم من الطين، وفيه أيضاً عبرة كبيرة لمن ينكرون البعث الآخر، فإذا أعلمتهم أنهم خلقوا من طين؛ إذاً تموتون وتصبحون طيناً من جديد وتخلقون، لو كنتم لا تموتون نعم تقولون: لا نبعث، ولا حياة أخرى، لكن ما دمتم تقولون: ( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ )[المؤمنون:82]، نعم هذه هي الحجة عليكم، لما تموتون تتحللون وتصبحون ترابا، ويخلقكم الذي خلقكم أولاً من تراب، هذا أقرب إلى العقل والفهم.لو كان الكافر يقول: لا نموت نعم لا يبعث، لكن ما دام يموت ويتحلل ويصبح تراباً؛ إذاً لا يملك أن لا يبعث، فالذي خلقه أولاً من طين يخلقه مرة ثانية.
    (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا )[الأنعام:2]، أية قدرة أعظم من هذه؟ قضى آجالنا، هذا يعيش خمسين، وهذا عشرا، وهذا سنة، ولا يتخلف أبداً ولو على لحظة واحدة، ولا يستطيع إنسان تحت السماء أن يقول: أنا أملك ألا أموت، أو لا يموت ولدي أو أبي، أو أنا أستطيع أن أؤخر هذا سبعين سنة أخرى.
    تقدير الله تعالى أجل الإنسان وأجل الحياة الدنيا
    (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا )[الأنعام:2] وحكم به، هل هناك من يستطيع أن يقول: لا نسلم بهذا القضاء ولا بهذا الحكم الإلهي؟ ولن نموت إلا إذا اشتهينا الموت؟ هل هناك من يتكلم بهذا؟ قضى أجلاً. وأجل آخر للبشرية كلها، مسمى عنده ومعروف يومه وساعته ولحظته، هذا الذي يستحق أن يعبد أم عيسى؟ هذا الذي يستحق أن يعبد أم الملائكة؟ هذا الذي يستحق أن يعبد أم الأولياء، فضلاً عن الأحجار والأصنام والتماثيل؟ إذ تلك ما عبدوها لذاتها، وإنما عبدوها يستشفعون بها عند الله عز وجل.
    العرب أذكياء بالفعل، ومع هذا عبدوا اللات والعزى، ولكن ما قالوا: تخلق ولا ترزق، ولا تميت ولا تحيي، أبداً، قالوا: إنما نتقرب بها إلى الله.
    (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ )[الزمر:1-3] ماذا يقولون: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى )[الزمر:3].
    لأنك إذا سألت عربياً في البادية، في الحضر: من خلق السماوات ؟ ما يقول: اللات، وهو إذا استطاع أن يبول عليها بال عليها، فكيف يقول: اللات؟ من خلقك أنت؟ ما يقول: العزى ولا اللات، يقول: الله. ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )[الزخرف:87]، ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السماوات وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )[لقمان:25] قل فأنى تؤفكون.
    الجهل في حياة المشركين المعاصرين
    والغريب أن الخلاف بين مشركينا ومشركيهم أن مشركينا أجهل كما بينا أمس، ومشركونا ما يسمون الولي إلهاً، ما يقولون: إله أبداً، يقولون: ولي، أما المشركون الكفار فيقولون: إله، إلا أن أولياءنا نعبدهم لجهلنا وذهاب نور القرآن من قلوبنا أكثر مما يعبد المشركون اللات والعزى، أنذبح لهم أم لا؟! هذا عجل السيد البدوي ، هذه شاتي لـعبد القادر ، هذه نخلة مولاي فلان! ذبائح ونذور، أما الحلف فلا تسأل، ممكن أن يحلف بالله مرة ويحلف بالولي سبعين مرة، والمشركون قل ما يحلفون بغير الله، يحلفون بالله عز وجل.
    المؤامرة على المسلمين بإبعادهم عن الاستهداء بالقرآن الكريم
    وهنا ما يجدينا البكاء ولا ينفعنا، ولكن نقول: الذي أوقعنا في هذه الفتنة هو العدو المكون من المجوس واليهود والنصارى، فهيا نبغضهم لله، فهيا لا نذعن لهم، ولا ننقاد لحالهم، ونحاول أن نتفصى عنهم تمام التفصي، ما استطعنا مخالفتهم في شيء إلا خالفناهم فيه لنستقل، لأنهم مكروا بنا، تعرفون ماذا فعلوا بنا؟ درسوا كيف ارتقت هذه الأمة التي كانت لاصقة بالأرض، كيف عزت وسادت وكانت مستعمرة للفرس من جهة، وللأحباش من جهة، والرومان من جهة، كيف علت؟! كيف سمت؟! كيف حكمت وسادت؟! بحثوا عن سر ذلك، فعثروا -والله- عليه، ألا وهو القرآن والنور المحمدي، الكتاب والسنة، هذا سر ارتفاعهم وعزهم وكمالهم، إي والله الذي لا إله غيره، القرآن روح، ولا حياة بدونه، السنة النبوية نور ولا هداية بدونها، فماذا يفعلون، اجتمعوا مرة القسس والرهبان، وقالوا: هل في الإمكان أن نسقط من القرآن كلمة (قل)، حرفان القاف واللام فقط، إذا استطعنا أن نسقط كلمة (قل) فيتخلى عنها المسلمون نستطيع أن نذهب القرآن بالمرة، اجتمعوا أكثر من عشرين يوماً، ما استطاعوا، قالوا: لأن القرآن يحفظه النساء والرجال، البدو والحاضرة، مكتوب في السطور، كيف نحذف كلمة قل هذه، وسر (قل) إذا أسقطوها أنهم يقولون للمسلمين: القرآن ليس بكلام الله أبداً، هذا من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، فاضت به روحه لذكائه وصفائه، لأنه في أرض حارة صحراوية، هذه تنتج له هذه المعاني والمعارف، أما مع قل: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ )[الأعراف:158]، من الذي يقول له: قل؟ إذًا: محمد مربوب والخالق يأمر، ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )[الكافرون:1]، هذا ما هو بمحمد، واحد يقول له: (قل) من هو؟ هذا هو الله، ( قُلْ هُوَ اللَّهُ )[الإخلاص:1] ، وهكذا.فاقتنعوا بأن هذا القرآن كلام الله، ما هو من عند محمد صلى الله عليه وسلم، بل يوحى إليه ويملى عليه ويؤمر بأن يقول. واستطاعوا أن يضعوا لنا قاعدة، وهي موجودة في هوامش كتب الفقه المالكي وخاصة الحطاب على خليل، يقولون: تفسير القرآن صوابه خطأ، من فسر القرآن كتفسيرنا هذا إن أصاب فهو مخطئ آثم، وأنتم أيها المستمعون آثمون، فاحذروا من الحلقة.
    وخطؤه كفر، وإذا فسر وأخطأ فقد كفر، فأصبح لا يجتمع الناس على تفسير كتاب الله، في القرى والمدن والحواضر حتى في مكة، ما يجتمعون عليه، إذاً ماذا يصنعون بالقرآن؟ يقرءونه على الموتى، إذا مات السيد فلان الغني الرئيس الفقيه العالم؛ فإنهم يقرءون عليه ثلاث ليال، وبعضهم سبع ليال، وبعضهم أربعين ليلة، وقد ذكرت لكم ما بلغني أنهم جعلوا نقابة، النقيب فلان في التلفون، إذا توفي لك قريب فدق عليه التلفون: نريد طلبة قرآن الليلة عندنا ميت، يقول: من فئة المائة ريال أم المائتين، يعني: إذا كان غنيا فمن فئة مائتي ريال لليلة الواحدة، وإذا كان فقيرا فمش الحال بالمائة ريال.
    هكذا فعلوا بكتاب الله من إندونيسيا إلى موريتانيا، لا يقرأ القرآن إلا على الموتى، وإلى الآن ما زالوا يتشدقون بعض التشدق، يسمونه عشاء القبر.
    والشاهد عندنا في أن النور الإلهي ما استطاعوا أن يطفئوه، كلام الله ما استطاعوا أن يمحوه، فاحتالوا فصرفوا القلوب عنه؛ لتعيش الأمة في الظلام والموت لا في الحياة.
    دليل نجاح اليهود والنصارى في تنحية القرآن والسنة عن الحياة العملية لدى المسلمين
    ومن قال كبرياء: ما الدليل على هذا؟ نقول: هل ذلت أمة الإسلام ودانت للكفار وحكموها وساسوها وأذلوها من إندونيسيا إلى موريتانيا أم لا؟ حكموا وسادوا أم لا؟ كيف حصل مثل هذا والله يقول: ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا )[النساء:141]؟ فلو كنا -والله- مؤمنين بحق ما حكمنا النصارى ولا الغرب ولا الشرق، لكن كنا مؤمنين، أما المؤمنون بصدق وحق فهيهات هيهات أن يسودهم الكافر ويحكمهم، ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ )[النساء:141]، المؤمنون بصدق وحق، المؤمنون حق الإيمان، الذين عرفوا ربهم وآمنوا به، عرفوه أولاً بجلاله وكماله، وعظمته وسلطانه، ورحمته وعدله، فذلوا وهانوا له وعبدوه، أولئك هم المؤمنون.والسنة تقرأ للبركة، في الجوامع الكبيرة حين يدخل رمضان يجتمع أعيان البلاد والأغنياء وأهل الفراغ، ويقرءون فيه البخاري للبركة، هذا رأيناه في الديار الجزائرية ووجدناه في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وموجود في غيرهما، السنة تقرأ للبركة، كيف للبركة! نتبرك بالحديث، والحديث يقول: ( من أحدث فليتوضأ )، تعاليم، كيف نتبرك به؟ ماذا نصنع به ما دمنا لا يجوز لنا أن نعمل به، ولا نقرأه للهداية؛ لأن فيه الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، وغير ذلك، ونحن استغنينا بكتب فقهائنا نصلي ونصوم ونحج ونعتمر، فماذا نصنع إذاً بهذه السنة؟ أنهجرها؟ دعنا نجتمع عليها للبركة، فهمتم ما فعل العدو أم لا! هذا ما هو بعدو جاهل مثلنا، هؤلاء كبار المفكرين في النصارى واليهود والمجوس، كيف وصلوا إلى هذا؟ واستطاعوا أن يربطونا إلى الأرض ويلصقونا بها، وإلى الآن نحن لاصقون بالأرض.
    والله لو كنا أحياء ما رضينا ليلة واحدة أن تنقسم أمتنا إلى ثلاثين أو أربعين دولة، لتبقى مهانة فقيرة ، وقد كان في أربع وعشرين ساعة إمام المسلمين فلان والأمة كلها أمة واحدة، ويطبق كتاب الله وهدي رسول صلى الله عليه وسلم.
    وأوضح من هذا حفنة من اليهود أذلتنا وأهانتنا، وداست كرامتنا، وحطمت هكذا شرفنا، ونحن في حياء نتخبط ليل نهار، ماذا نصنع مع اليهود؟ أين يذهب بعقولنا؟ إننا متنا. اللهم أحينا! اللهم أحينا!
    إذاً: من خلق الظلمات والنور؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه هو الذي خلقنا من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده، ما الأجل المسمى عند الله؟ قلنا: الأجل أجل يوم القيامة، والأجل الذي قضاه لنا ما هو؟ أجلنا. الذين نصلي عليهم كل صلاة انتهت آجالهم أم استعجلت؟ انتهت. محددة باللحظة والثانية، هذا هو الله خالق السماوات والأرض والظلمات والنور.
    حال الكفار بعد تقرير الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى
    (ثُمَّ أَنْتُمْ )[الأنعام:2] يا بني آدم ( ثُمَّ أَنْتُمْ )[الأنعام:2] يا بني الناس، يا معشر الكفار على اختلاف مذاهبكم ( تَمْتَرُونَ )[الأنعام:2]، مع هذه الآيات، خلق السماوات والأرض، والظلمات والنور، والآجال والموت والحياة، مع هذا تشكون في ربكم، وما تصرحون بأن لا إله إلا الله، ( ثُمَّ أَنْتُمْ )[الأنعام:2]يا للعجب ( تَمْتَرُونَ )[الأنعام:2]، والامتراء نوع من الشك والاضطراب وعدم اليقين، فلو كانوا ينظرون إلى هذه الأكوان نظرة حقيقية لذهبوا يبحثون عن الله، من هذا الذي رفع هذا الكوكب في السماء فأنار به الدنيا، من هذا الذي أوجد هذا الليل المظلم، من أوجد كذا وكذا، سيجدون من يقول: هذا الله، من هو الله؟ الذي خلقك، وخلق أمك وأباك، إذًا: ماذا نصنع؟ إن أمرك أطعه، واطلب محبته وطاعته حتى تذوب في ذلك، لكن لا يسأل ولا يفكر ولا يبحث، أما إذا كان الطعام أمامه يأكل ويشرب؛ فإنه ما يفكر من أين هذا النعيم، من أين حصل، كيف كان، كيف تم، كالبهيمة، ( ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ )[الأنعام:2].
    استحقاق الله تعالى وحده العبادة في السموات والأرض
    (وَهُوَ اللَّهُ )[الأنعام:3] كلمة (الله) عرفنا أنها علم على ذات الرب جل جلاله وعظم سلطانه، (الله) علم، كما نقول للمخلوق: خالد، فهذا علم على هذه الذات، فالذوات البشرية متساوية، فكيف نميز بعضها عن بعض؟ بالأسماء. إذاً: فـ(الله) علم، خالقنا اسمه الله، الذي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، وخلقنا، وخلق لنا الآجال والدنيا والآخرة، اسمه الله، هذا هو الاسم وهو الاسم الأعظم، هذا الاسم الذي ينادى به الجبار عز وجل، هذا الذي تتناول طعامك باسمه: باسم الله، هذا الذي تحمده وتقول: الحمد لله، هذا الذي يملأ قلبك حبه والخوف منه، هذا هو الله.
    (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ )[الأنعام:3]، وهو الله في السماوات وفي الأرض إله معبود، لطيفة: ( وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ )[الأنعام:3]، والمعنى: وهو المعبود في السماوات وفي الأرض، أي نعم، هو المعبود بحق، ولا يستحق العبادة غيره من العوالم العلوية أو السفلية، كقوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ )[الزخرف:84]، أي: المعبود في السماء، والمعبود في الأرض، الخلق خلقه، والنعمة نعمته، وهو الذي يستحق أن يعبد في السماوات وفي الأرض.
    اختصاص الله تعالى بعلم السر والجهر ودلالة ذلك على عظمته ووحدانيته
    وأخرى: ( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ )[الأنعام:3]، اجتمعوا في الظلام في السراديب، اختفوا وتساروا بالكلام بينكم، والله ليعلمنه، ولو شاء لقال: قلتم كذا وكذا، فلهذا هذا الذي يستحق أن يعبد، هذا الذي يستحق أن يخاف منه ويرهب، هذا الذي ينبغي أن نتقرب إليه ونتزلف، هذا الذي معنا، يعلم سرنا ونجوانا، وهو بائن من خلقه، فوق سماواته، فوق عرشه، ونحن بين يديه وفي قبضته، لا يخفى عليه من أمرنا شيء، آه لم لا نأخذ بهذه؟! ندخل في الصلاة ونصلي وكأننا لسنا مع الله، نمشي ونتكلم ونجلس ونأكل ونشرب وما نذكر أننا مع الله، من صرف قلوبنا؟ العدو إبليس؛ لأن نسيان الله هو الهلاك، فلا تُرتكب كبيرة، ولا تغشى معصية ولا يسيل دم إلا بعد نسيان الله عز وجل. إياك أن تفهم أن عبداً قلبه مع الله يذكره، ويمد يده ليقتل فلانا وفلانا، القلب مع الله يذكره ويمد يده ليتناول مالاً حراماً، قلبه مع الله وينظر إليك بنظرة كذا، أو يسبك أو يشتمك وأنت ولي الله معه، العلة هي نسيان الله، وإن شئت فقل: الغفلة.
    علم الله تعالى المحيط بما تكسبه جوارح عباده
    (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3]، نكسب بماذا؟ بالآلات الأمريكانية، الكسب يتم بماذا؟ بالجوارح، كم جارحة عندنا؟ الجوارح عندنا ما يلي: السمع نجترح به الحسنة والسيئة، تصغي تسمع العلم والمعرفة والذكر هذه حسنة، وتصغي تسمع الباطل والمنكر والأغاني هذه سيئة.الجارحة الثانية: البصر، العينان نبصر بهما، نكسب بهما أم لا؟ انظر إلى السماوات، إلى الكواكب، إلى المخلوقات؛ يزيد إيمانك وتعظم مودتك ومحبتك لله، انظر نظرة حسد تتحطم، انظر نظرة محرمة إلى مؤمنة، إلى أمرد تتلذذ به تهلك، وتكون قد اجترحت سيئة عظيمة.
    واللسان وهو أعظمها، المصريون يقولون: لسانك حصانك، إن صنته صانك وإن خنته خانك، هذا مثل مصري، يقولون: لسانك حصانك، إن صنته صانك، وإن خنته خانك، وحسبنا أن يقول الحبيب هكذا بيده: ( كف عليك هذا ) أي: لسانك، ( قال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ).
    الشاهد عندنا أن هذه الجارحة أكبر مصيبة، هذه جارحة اللسان.
    رابعاً: اليدان، بهما تأخذ وتعطي، الذي يتناول سيجارة بيده اليمنى ويدخلها في فمه اجترح سيئة أم لا؟ اجترح سيئة. والحلاق في صالون الحلاقة وبيده الموسى تلمع، فيحلق لحى الرجال فلا يبقى لهم شعر، ولا ما يدل على فحولتهم، هذا ماذا صنع؟ اجترح سيئة أم لا؟ أكبر سيئة تخنث رجالنا، على الأقل اترك بعض اللحية -لحية سعودية- لنعرف أنه ذكر، أما أن تحلق الشارب واللحية فأنت تخنثه أم لا؟ كيف يجوز هذا مقابل عشرين ريال، والله لو تعطى مليون ريال ما تقبل هذا، فكيف تخنث فحلاً من فحول الإسلام، إلا أنك تقول: هو الذي طلب، انصح له، بين له، لا تسمح له أبداً أن يفعل هذا، حسن له اللحية وزينها لا بأس، أما أن تحلق اللحية والشارب فلا.
    واليد بها السرقة والدم والدمار، وبها العطاء والزيادة، فهي جارحة.
    والرجل أيضاً تمشي بها أم لا؟ يمشي في ليال سوداء أربعين كيلو متر ليحضر عرسا، وخمس خطوات عند المسجد ما يخطوها، أربعين كيلو متر يمشيها ليحضر حفل فلان والزوجة الفلانية، والمسجد عند الباب لا يستطيع الذهاب إليه! يصلي في البيت، إذاً: الرجل جارحة أم لا؟
    وأعظم الجوارح الفرج، الفرج الذي ينتج البنين والبنات.
    هذه هي الجوارح أم وإلا لا؟ بها الكسب، فقول ربنا: ( وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3]، ما معنى: نكسب؟ ما نجترحه بجوارحنا من خير وشر، هذه الجوارح، وحتى الفرج أيضاً فيه حسنة، أي نعم: ( وفي بضع أحدكم صدقة ).
    (وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3]، ولازم علمه ما نكسب الجزاء، وليس المراد أنه يعلم فقط، معناه أنه سوف يحاسبنا بدقة على كسبنا الخير والشر على حد سواء، فعجب هذه الآيات، نسمعكم شرحها مرة ثانية لتتأكدوا، وأنا أطلب منكم أن تحفظوا هذه الآيات، ثلاث آيات تصلون بها النافلة، لو عزمتم عليها أمس والله لحفظتموها.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير
    معنى الآيات

    يقول الشارح غفر الله لنا وله وإياكم والمؤمنين: [ يخبر تعالى بأنه المستحق للحمد كله] ما الحمد؟ قال: [ وهو الوصف بالجلال والجمال، والثناء بهما عليه، وضمن ذلك يأمر عباده أن يحمدوه، كأنما قال: قولوا: الحمد لله ]، ولهذا في الفاتحة: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الفاتحة:2]، كأنه قال: قولوا: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )[الفاتحة:2-4] ثم تملقوه وقولوا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة:5]، ثم اطلبوا منه حاجتكم: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة:6].فهمتم هذه أم لا؟ احمدوه وأثنوا عليه، ومجدوه وتملقوه واطلبوه، أما من أول وهلة تقول: ربنا اهدنا فما ينفع، والعوام يعرفون هذا، إذا أراد أن يطلب من شيخ أو من غني مسألة لا يقول له: أعطني، يقول: يا عم، يا سيد، عرفناك بكذا، سمعنا أنك كذا وكذا وكذا، بعد ذلك يقول: أعطنا كذا، فالله أولى بهذا أم لا؟
    فكأنه تعالى يقول: قولوا: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )[الفاتحة:1-5]، تملق هذا أم لا؟! لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين إلا بك، إذاً: اهدنا الصراط المستقيم.
    فلهذا قال: [كأنما قال: قولوا الحمد لله، ثم ذكر تعالى موجبات حمده دون غيره].
    موجبات الحمد له ما هي؟
    أولاً: [(الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )[الأنعام:1] فالذي أوجد السماوات والأرض وما فيهما، وما بينهما من سائر المخلوقات، وجعل الظلمات والنور وهما من أقوى عناصر الحياة؛ هو المستحق للحمد والثناء لا غيره، ومع هذا فالذين كفروا من الناس يعدلون به أصناماً وأوثاناً ومخلوقات، فيعبدونها معه، يا للعجب! هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
    أما الثانية: فإنه تعالى يخاطب المشركين موبخاً لهم على جهلهم، مندداً بباطلهم فيقول: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ )[الأنعام:2]، لأن آدم أباهم خلقه من طين، ثم تناسلوا منه، فباعتبار أصلهم فهم مخلوقون من طين، ثم الغذاء الذي هو عنصر حياتهم من طين، ثم قضى لكلٍ أجلاً وهو عمره المحدد له، وقضى أجل الحياة كلها الذي تنتهي فيه، وهو مسمى عنده معروف له، لا يعرفه غيره، ولا يطلع عليه سواه، ولحكم عالية أخفاه، ولم يُطلع عليه سواه، ثم أنتم أيها المشركون الجهلة تشكون في وجوب توحيده وقدرته على إحيائكم بعد موتكم لحسابكم ومجازاتكم على كسبكم خيره وشره، حسنه وسيئه.
    وفي الآية الثالثة: يخبر تعالى أنه هو الله المعبود بحق في السماوات وفي الأرض، لا إله غيره ولا رب سواه، ( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3] من خير وشر، فهو تعالى فوق عرشه، بائن من خلقه، ويعلم سر عباده وجهرهم، ويعلم أعمالهم وما يكسبونه بجوارحهم، ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )[غافر:19].
    لذا وجبت الرغبة فيما عنده من خير، والرهبة مما لديه من عذاب، ويحصل ذلك لهم بالإنابة إليه وعبادته والتوكل عليه].
    اللهم ارزقنا ذلك، وأعنا عليه، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #383
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (20)
    الحلقة (382)
    تفسير سورة المائدة (13)



    من أحبه الله من عباده وفقه للإيمان، ويسر له طريق الهداية والرشاد، فالواجب في حقه أن يعرض عمن يريدون له أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، والعاقل لا يستبدل سبل الشياطين بسبيل الهدى الذي أرشده إليه رب العالمين، بل يقيم على طاعة الله عز وجل، وأداء العبادات، وترك المعاصي والسيئات، ما امتدت به الحياة، حتى يحشر إلى ربه يوم القيامة راضياً مرضياً.
    تفسير قوله تعالى: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    هذا ولنذكر أننا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلك السورة التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، ونحن مع الآيات الثلاث التي سنسمع -إن شاء الله- تلاوتها مجودة مرتلة من أحد الأبناء، ثم نأخذ في تدبرها وشرحها وفهم مراد الله منها، رجاء أن نعلم فنعمل.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:71-73].
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71]، من الآمر؟ إنه الله. من المأمور؟ رسول الله، ( قُلْ )[الأنعام:71] يا رسولنا لهؤلاء المشركين الكافرين، الذين يحاولون أن يردوكم عن دينكم.
    محاولة المشركين صرف المسلمين عن عبادة الله تعالى إلى عبادة أوثانهم
    وهنا أذكركم بأن سورة الكافرون التي بين سورتي الكوثر والنصر، سورة: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )[الكافرون:1] نزلت بشأن رغبة المشركين؛ إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم والجماعة المؤمنة معه: اعبدوا معنا آلهتنا سنة ونعبد معكم إلهكم سنة! عرض رخيص، ولولا حماية الله فلربما قبل، لم؟ قد نقول: هم ما عرفوا الله، لكن إذا عبدوه معنا سوف يعرفون ويؤمنون ويستقيمون، ولكن الله عز وجل لم يرض ذلك، وأنزل على رسوله قوله: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )[الكافرون:1-6]، فكان فيصلاً، أيأسهم وقطع آمالهم والحمد لله. وهذا التأكيد الظاهر في التكرار لييأسوا، ومع هذا أخذوا أيضاً يخلون ببعض المؤمنين ويعرضون عليهم:لم الاستمرار في هذا الدين الجديد، وها أنت في كرب، وأنت في كذا، لم تعدلون عن دين آبائكم وأجدادكم؟
    وأنتم تعرفون السياسة وتعرفون أصحاب الأهواء والأطماع، الآن تعرفهم في كل مكان بأساليب خاصة، فأنزل الله تعالى على رسوله قوله: ( قُلْ )[الأنعام:71] يا رسولنا ( أَنَدْعُوا )[الأنعام:71]، أنعبد، ( مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا )[الأنعام:71]، والاستفهام للإنكار، كيف يكون هذا؟ ( أَنَدْعُوا )[الأنعام:71]، بمعنى: أنعبد، لأن الدعاء هو العبادة، ما كانوا يصومون ولا يصلون للآلهة، ولكن كانوا يعبدونها بدعائها، والاستغاثة بها، والاستعاذة بها، وذبح القربان لها، والحلف بها، هذه هي مظاهر العبادة، والدعاء يشملها، فلهذا من دعا غير الله كفر، لم يبق له حظ في الإسلام، ولم ندعو غير الله؟ هل الذي ندعوه يجيب دعاءنا؟ هل يفرج كربنا؟ هل يقضي حوائجنا؟ هل سيدفع الضرر عنا؟ هل سيجلب الخير؟ لا؛ لأنه لا يملك لنفسه ولا لنا شيئاً.
    على سبيل المثال: عيسى بن مريم روح الله وكلمته، لو وقفت ألف سنة تقول: يا ابن مريم، يا روح الله، يا عيسى! امرأتي بها كذا.. أنا مصاب بكذا وكذا؛ فوالله ما استجاب لك، ولا سمع دعاءك ولا عرف حاجتك، ولا يقوى على أن يعطيك شيئاً، فكيف بالأولياء والصالحين الذين ألهتهم هذه الأمة أيام جهلها وظلمة نفوسها؟!
    آثار الجهل الناشئ عن انصراف المسلمين عن هدي القرآن الكريم
    هذه الآية ما كانوا يقرءونها، لو اجتمعوا عليها اجتماعنا هذا وقرءوها والله ما دعوا عبد القادر ولا العيدروس ولا البدوي ولا فاطمة ، ولا الحسين أبداً، لكن القرآن يقرءونه على الموتى، لا يجتمعون عليه ليتفكروا ويتدبروا ويعرفوا مراد الله من كلامه وما أراده منهم وما طلبه لهم، فكيف يعلمون؟ هل سيوحى إليهم؟ فعلتنا أنهم صرفونا عن القرآن، لا بالحديد والنار، ولكن بالسحر والباطل والكلام، فما أصبح اثنان يجتمعان على آية يتدبرانها، ولا على سورة يفهمان مراد الله منها، فعم الجهل والظلام وأصبحنا كالمشركين، وقد ظهرت لنا مظاهر كان المشركون خيراً منا فيها، فالمشركون -عليهم لعائن الله- كانوا إذا كانوا في الشدة لا يفزعون إلا إلى الله، إذا أصابهم قحط أو مرض أو بلاء أو مصيبة لا يعرفون إلا الله عز وجل، لا يذكرون معه اللات ولا العزى ولا غيرهما، لكن إذا جاء الرخاء واللهو يعبدون غير الله، وأما المسلمون الجاهلون من القرن الرابع إلى اليوم -إلا من رحم الله- فلا فرق عندهم بين الشدائد والرخاء واليسر، في الكل: يا سيدي عبد القادر ، يا مولاي إدريس ، يا سيدي فلان يا فلان.. والسيارات مكتوب عليها: يا فاطمة ، يا حسين ، فلا إله إلا الله إلا الله! ما سبب هذا يرحمكم الله؟
    إنه الجهل الذي نتج عن إبعادنا عن القرآن الكريم، وافهموا هذا وبلغوه، نظر الخصوم ذلكم الثالوث المظلم المكون من المجوسية واليهودية والصليبية، نظروا في اجتماعات خاصة، فرأوا أن هذه الأمة ما علت ولا ارتفعت، ولا طابت ولا طهرت إلا بالوحي الإلهي القرآني الكريم، فقالوا: إذاً: نقضي عليها، كيف نقضي عليها؟ هل ندخل معها في حروب؟ ما نجحنا، دخلنا وما فزنا، إذاً: السر في عزها وكمالها وعلمها القرآن، أبعدوا القرآن عنها. وهل يستطيعون أن ينتزعوه من صدور المؤمنين والمؤمنات؟ ما استطاعوا، هل يستطيعون أن يأخذوا كل مصحف في الأرض؟ لا يمكنهم. إذاً: الطريقة الوحيدة أن نبعدهم عن تدبره وتفهمه، ومن هنا نحوله إلى الموتى، إذا مات السيد أو ماتت السيدة يجتمعون عليهما ويقرءون القرآن، قرابة ألف سنة وهذا هو الوضع، فمن ثم شاع فينا الضلال والباطل وانتشر الكفر والشرك، والحمد لله على أن ردنا الله. التصوير القرآني للردة بعد الهداية في معرض الإنكار على المشركين
    (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71]، بعد ما مشينا في طريق السعادة والكمال والطهر والصفاء نرجع إلى الوراء؟ كيف يتم هذا؟ كيف نقبل هذا؟ كيف نطالب به؟ فلهذا من عرف الله فوالله الذي لا إله غيره لو مُلِّك ما على الأرض كلها على أن يكفر ما كفر، والله لو عرضت عليه خزائن بريطانيا المالية على أن يكفر ما قبل، والذين ما عرفوا وانتسبوا إلى الإسلام بالنسبة فإنه بوظيفة فقط يتخلى أحدهم عن الإسلام، وظيفة فقط، بل رخيصة أيضاً، ولا لوم؛ فما عرف الله حتى يحبه ويخشاه. أسمعتم هذا الإنكار؟ قل يا رسولنا لهؤلاء الذين يعرضون الردة عليك وعلى إخوانك: أنرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، فنصبح كالذي استهوته الشياطين حيران، يصبح حالنا حال من تاه في الصحراء، زينت له شياطين الإنس والجن أطماعاً وأغراضاً وتاه في صحراء لا يعرف الطريق ولا إلى أين يذهب ولا كيف يعود، هذا مثل من خرج من دين الله الحق الإسلام وتدين بدين الباطل، سواء كان مسيحية أو يهودية أو مجوسية أو غيرها.
    (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ )[الأنعام:71]، استمالته، ( الشَّيَاطِينُ )[الأنعام:71]، بالوساوس والتزيين والتحسين في صحراء فتاه، و( لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا )[الأنعام:71]، يا فلان! هذه الطريق، فما يسمع ولا يقوى على أن يجيبهم ولا يعرف كيف يجيبهم حتى هلك كذلك، أتريدون أن نصبح نحن هكذا؟ قال: لا، أنرد على أعقابنا إلى الكفر بعد الإيمان، إلى الشرك بعد التوحيد، إلى الطهر بعد الخبث، فتصبح حالنا كحال الذي استهوته الشيطان، (اسْتَهْوَتْهُ): استمالته بهواها وهواه، وغررت به ورمت به في صحراء، وله أصحاب يدعونه أن: تعال، الطريق هنا، أنت أخطأت، فما يسمع. معنى قوله تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى)
    ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ )[الأنعام:71]، يا رسولنا: ( إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى )[الأنعام:71]، هدى اللَّه أما تعرفونه؟ والله إنه للإسلام، لا الصليبية ولا المجوسية ولا أية ملة، الهدى الموصل إلى رضوان الله، ثم النزول بدار السلام، والمحقق للسعادة والكمال في الدنيا قبل الآخرة، إنه دين الله الذي هو الإسلام، أما قال تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ )[آل عمران:73]؟ وقال: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ )[آل عمران:19]، وقال تعالى: ( وَمَنْ يَبْتَغِ )[آل عمران:85] يطلب ( غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[آل عمران:85].(قُلْ )[الأنعام:71]، يا رسولنا والمبلغ عنا: ( إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى )[الأنعام:71]، لا غيره، أما ما تزينه الشياطين من الشرك والباطل والخلاعة والدعارة والفسق والفجور فلن يكون هذا ديناً لله أبداً، ولن يسعد صاحبه بحال من الأحوال.
    معنى قوله تعالى: (وأمرنا لنسلم لرب العالمين)
    وقال له: قل أيضاً: وأمرنا أن نسلم لرب العالمين، ( وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ )[الأنعام:71] قلوبنا ووجوهنا ( لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:71]، فهذا الذي يستحق أن تسلم له القلوب والوجوه؛ لأنه خالق العالمين ومدبر حياتهم ووجودهم، رب العالمين، مالك العالمين، المدبر أمرهم والمتصرف فيهم، هذا الذي أسلم له قلبي ووجهي، فإذا أعطيته قلبي فأصبح قلبي لا يتقلب إلا في طلب رضاه، وأسلمت وجهي فلا أقبل على أحد إلا عليه؛ فهذا الذي ينفعني إذا أسلمت له قلبي ووجهي، أما الذي لا يملك شيئاً فلن ينفعني بشيء، حتى عيسى عليه السلام، قال تعالى في عيسى ووالدته البتول مريم عليهما السلام لما ألهوهما وعبدوهما وجادلوا رسول الله فيهما، قال تعالى: ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ )[المائدة:75]، من الصديقات، ( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ )[المائدة:75]، والذي يأكل الطعام يرمي العفن أم لا؟ هذا الذي يحمل العذرة والبول والأوساخ في جسمه يستحق أن يعبد؟ كيف ذلك يا عقلاء؟! عجب هذا القرآن، ولقد صدقت الجن حين قالت: ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا )[الجن:1]. فالقرآن أسكتهم، يقول: تعبدون مريم وولدها عيسى وهما يأكلان الطعام؟ ولازم ذلك أنهما يفرزان القذى والوسخ، ولهذا قالوا: عجباً للإنسان كيف يتكبر وأصله نطفة قذرة، وفي بطنه العذرة، وغداً يصبح جيفة منتنة، كيف يتكبر هذا؟! أما يستحي؟! أنت أصلك من ذهب أم من نحاس أم من حديد؟ ألست نطفة منتنة قذرة؟ وماذا تحمل في بطنك؟ الخرء والبول، أعوذ بالله، ونهايتك كيف هي؟ جيفة منتنة ما تشم رائحتها ولا يجلس إليها، أمثل هذا يتكبر ولا يعبد الله عز وجل؟
    قال تعالى: ( وَأُمِرْنَا )[الأنعام:71]، من الذي أمرنا؟ إنه الله جل جلاله ربنا؛ ( وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:71]، نسلم له قلوبنا ووجوهنا، فقلوبنا طول الحياة لا تفكر إلا في رضا الله عز وجل، وكيف تحققه، لا نلتفت يميناً ولا شمالاً بوجوهنا، وإنما كل أملنا وكل ما نطلبه من ربنا عز وجل، لا نطلب عيسى ولا مريم ولا صنماً ولا حجراً ولا ولياً ولا قطباً من الأقطاب الباطلة.
    تفسير قوله تعالى: (وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون)
    ثالثاً: قال تعالى: ( وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ )[الأنعام:72]، أي: وأمرنا أيضاً أن نقيم الصلاة؛ إذ لم يكن يومها من عبادة في مكة إلا الصلاة فقط، ما فرض صيام ولا حج ولا زكاة، إلا الصلاة. يقول: أمرنا أن نقيم الصلاة ونتقيه عز وجل، فكيف نتقي الله، هل ندخل في الكهوف والسراديب، ما قيمتها؟ هل نبني الحصون العالية؟ هل بالجيوش الجرارة؟ هل بقوة الدفاع؟ والله ما يتقى الله بشيء من هذا؛ لأنك بين يديه، والله إنك بين يديه يراك ظاهراً وباطناً، إن شاء أخذ منك وإن شاء أعطى، فأين تغيب عنه والملكوت كله في قبضته؟
    إذاً: لا يتقى الله إلا بالإيمان به وطاعته وطاعة رسوله، كيف يتقى غضب الله وجبروته وسلطانه وقدرته على الإشقاء والتعذيب، يتقى بماذا؟
    آمن واستقم تكن وليه، لا يغضب عليك ولا يسخط أبداً، وأنت من أحب أحبائه إليه، فقط بتقواه، بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن طاعة الله وطاعة رسوله عبارة عن أدوات تزكية للنفس، الركعتان تصليهما ينتج عنهما نور يملأ قلبك، تركك معصية له بترك واجب أو فعل محرم يحفظ ذلك النور في نفسك، فلا تزال تعبده، وتزكي نفسك وتبعد معصيته عنك، فتحتفظ بتلك الزكاة حتى تصبح روحك كأرواح الملائكة في طهرها وصفائها، ومن ثم يحبك الله عز وجل، عرفتم سر هذه الطاعة؟ ودعنا مما تنتجه من الإخاء والمودة والعزة والطهارة والصفاء في هذه الحياة، هذا شيء إضافي، والمقصود: أن الطاعة تنتج طهارة الروح البشرية، فإذا طهرت النفس وزكت وأصبحت كأرواح أهل الملكوت الأعلى رضي الله عنها وقبلها وأنزلها بجواره في الملكوت الأعلى، وهل تذكرون قسم الله الذي أقسمه أم لا؟
    قال تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، هذا حكم الله أم لا؟ هل هذا يحتاج إلى شرح وبيان؟ أفلح من زكى نفسه، وخاب وخسر من دسى نفسه، والسؤال: بم نزكي نفوسنا؟ ما هي أدوات التزكية، هل توجد في الصيدليات؟ هل هي مواد التنظيف؟ إن النفس البشرية تزكو بما شرع خالقها لها من هذه العبادات، من كلمة (لا إله إلا الله) إلى إماطة الأذى من طريق المؤمنين، هذه العبادات كلها مشروعة أساساً لتزكية النفس على شرطين: أن تخلصها لله ولا تلتفت إلى غيره، وأن تفعلها كما بين رسوله صلى الله عليه وسلم.
    قال تعالى: ( وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[الأنعام:72]، إلى من نحشر ونجمع ونساق؟
    والله ما هو إلا إلى الله، هو الذي إليه لا إلى غيره تحشرون، لم تحشرنا الملائكة بعد أن نقوم من قبورنا؟ تحشرنا للحساب والعقاب، للحساب والجزاء، فلو كنا نحشر إلى غير الله فلن نعبده، ولن نكون منه خائفين؛ لأنه لا سلطان له علينا، لكن ما دام أن حشرنا وجمعنا إليه لا إلى غيره، ثم يصدر حكمه علينا إما بالسعادة وإما بالشقاء؛ فحينئذ يجب أن نعبده.
    تفسير قوله تعالى: (وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون...)
    ثم قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ )[الأنعام:73]، هل معه آخر؟ هل معه لينين ؟ أو ستالين ؟ أو سحرة اليهود؟ وهل هناك من يرفع يده في العالم ويقول: جدي هو الذي أوجد هذا الكوكب مع الله؟ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ )[الأنعام:73]، لا باللهو واللعب والباطل، لم خلق السماوات والأرض يا أهل العلم؟ من أجل أن يعبد فيهما، خلق السماوات والأرض، وخلق المواد اللازمة من الضوء والحرارة والماء والطعام والشراب، وخلق هذا الآدمي وأهبطه من أجل أن يسمع ذكره، ويرى شكره، فمن ذكر وشكر رفعه إلى الملكوت الأعلى، ومن نسي وكفر وأعرض أهبطه إلى أسفل سافلين في الكون، واقرءوا: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )[الذاريات:56]، سر خلق السماوات والأرض أن يذكر الله ويشكر؛ إذ العبادة ما هي إلا ذكر الله وشكره.

    إذاً: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ )[الأنعام:73]، هذا أولاً، ( وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ )[الأنعام:73]، إذا قال للشيء: كن فوالله لا يتخلف لحظة، لا بد أن يكون، هذا ذو العظمة، هذا الجبار، هذا الله رب السماوات والأرض، ( وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ )[الأنعام:73] في ذلك الوقت.
    معنى قوله تعالى: (قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور)
    (قَوْلُهُ الْحَقُّ )[الأنعام:73]، لا يأمر ولا ينهى إلا بما هو حق، ولا يوجد ولا يعدم إلا بما هو حق.وقوله: ( وَلَهُ الْمُلْكُ )[الأنعام:73]، متى؟ ( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ )[الأنعام:73]، الآن تملكون القصور والمباني والبساتين، لكن إذا نفخ في الصور هل يبقى ملك لأحد؟
    النفخة الأولى يكون بعدها الفناء الكامل، والثانية يكون بعدها البعث والوقوف حفاة عراة بين يدي الله، ( قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ )[الأنعام:73]، ما الصور هذا؟ الصور في لسان العرب: هو البوق، وكان في الزمن الأول عبارة عن قرن غزال أو وعل كبير، يحفر أو يفتح، ويتكلمون فيه يرفعون به أصواتهم، ما عندهم آلات تكبر الصوت، وإلى عهد قريب كانوا يجلعونه حديدة يصيحون فيها، أليس كذلك؟ هذا هو الصور.
    من ينفخ في الصور؟ إسرافيل، له ثلاث نفخات: النفخة الأولى للفناء، فيتحلل كل شيء ويتبخر، وتعود العوالم كلها إلى سديم، السماوات والأرضون، والنفخة الثانية للقيام من القبور، والثالثة: نفخة الصعق، وهي حين تقف البشرية على سطح الأرض الذي وجدت للوقوف عليها وهم كذلك فينفخ إسرافيل فيصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ النفخة الرابعة فإذا هم قيام ينظرون، ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا )[الفجر:22]، ( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ )[الزمر:69-71].. ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ )[الزمر:73]، آخر سورة الزمر.
    معنى قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير)
    قال تعالى: ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ )[الأنعام:73]، أولياء الله هل يعلمون الغيب والشهادة؟ قد يعلمون ما يرونه ولا يعلمون ما غاب عنهم، يعرفون الجهر بالكلام والسر لا يسمعونه ولا يعلمونه، ولكن الله عز وجل عالم الغيب، وهو ما غاب، وعالم الشهادة وما حضر وشوهد، وهذه الصفة لن تكون إلا لله عز وجل، لا للات ولا للعزى وعبد القادر ولا لأي كائن، لا عيسى ولا أمه ولا هارون ولا موسى، هذا الذي يستحق أن يعبد؛ لأنه يعلم ما شاهدناه وما لم نشاهده، يعلم ما حضر وما غاب، هذا الذي يجب أن يعبد بحبه والخوف منه، والتملق له والتزلف إليه حتى بتعفير الرأس في التراب، هذا هو الله رب العالمين.(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:73]، صفتان عظيمتان أخريان:
    (الْحَكِيمُ): الذي يضع كل شيء في موضعه، مستحيل أن يقع شيء في غير موضعه، من كل الكائنات ومن كل الأحكام، ومن كل القضايا والنوازل، هذا الحكيم، هذا الذي يستحق أن يؤله ويعبد، هذا الذي يتقرب إليه ويتزلف. (الْخَبِيرُ) بخفايا الأمور وبواطنها وظواهرها على ما هي عليه وعلى ما تكون وعلى ما كانت قبل أن تكون، هذا هو الله عز وجل، فكيف نعبد غيره إذاً؟
    اسمعوا الآيات مرة ثانية: قال تعالى: ( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:71-73].

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #384
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (21)
    الحلقة (383)
    تفسير سورة المائدة (14)


    كان بعض المشركين يعرضون على المؤمنين الصادقين أن يعبدوا معهم آلهتهم اللات والعزى ومناة، وغيرها من الأصنام والأحجار المنصوبة، التي كانوا يعبدونها بدعائها، والذبح لها، والنذر لها، وما إلى ذلك، فأمر الله رسوله وعباده المؤمنين أن يردوا على عرضهم الرخيص هذا، بأن من فعل هذا من المؤمنين فإنه مرتد عن دين الله، ناكص على عقبيه، وخارج من التوحيد إلى الشرك، ومن الهداية إلى الضلالة.
    قراءة في تفسير قوله تعالى: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.
    من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة العظيمة التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح.
    وها نحن مع الآيات الثلاث، التي تدارسناها بالأمس، وما وفيناها حقها، ولا وقفنا على أنواع هداياتها، ولهذا نعيد دراستها بعد تلاوتها إن شاء الله ربنا، فرتل يا بني.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:71-73]. سبحانه لا إله إلا هو.
    معنى الآيات
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [يدل السياق على أن عرضاً من المشركين كان لبعض المؤمنين]، وقد علمنا بالأمس أنهم أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرضوا عليه أن يعبد معهم آلهتهم سنة ويعبدوا معه إلهه سنة، ولكن الله لم يرض بهذا، ونزلت سورة الكافرون حداً فاصلاً كإعلان رسمي تكرر ليفقه كل من في مكة وخارجها: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )[الكافرون:1-6]، فكانت حداً فاصلاً.وهنا عرضوا هذا على بعض المؤمنين كـبلال وعمار الضعفاء قائلين: لو أنك عدت إلى دين آبائك وأجدادك لتسلم من هذا الذل والهموم والتعب وما إلى ذلك. فأنزل الله تعالى هذه الآيات المباركات.
    قال: [يدل السياق ] سياق الآيات التي سمعناها [ على أن عرضاً من المشركين كان لبعض المؤمنين ليعبدوا معهم آلهتهم ، اللات، والعزى، ومناة، وهبل، وما إلى ذلك من الأصنام والأحجار المنصوبة التي يعبدونها بدعائها، والذبح لها، والنذر لها، وما إلى ذلك.
    قال: [ فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم عرضهم الرخيص، منكراً عليهم ذلك أشد الإنكار ]، إذ قال تعالى: [( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ )[الأنعام:71]، الاستفهام للإنكار ]، كيف ندعو من دون الله؟ من الذي ندعوه من دون الله؟ [ ( مَا لا يَنفَعُنَا )[الأنعام:71] إن عبدناه ( وَلا يَضُرُّنَا )[الأنعام:71] إن تركنا عبادته ]، فكيف نعبد من لا ينفع ولا يضر، نحن نعبد من ينفعنا ونعبد من يدفع الضر عنا، أما الذي لا يملك نفعاً ولا ضراً فكيف نعبده؟!
    قال: [ وبذلك نصبح وقد رددنا على أعقابنا من التوحيد إلى الشرك، ( بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71] إلى الإيمان به، وبمعرفته، ومعرفة دينه، فيكون حالنا -إذاً- كحال من أضلته الشياطين في الصحراء فتاه فيها، فلا يدري أين يذهب ولا أين يجيء].
    إذا نحن عدنا إليكم وعبدنا آلهتكم وتركنا عبادة الله بعد أن آمنا به وعرفناه؛ تصبح حالنا كحال من تاه في صحراء، فلا يدري أين يذهب، ولا إلى أين يأتي.
    [و( لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا )[الأنعام:71]، وهو لا يقدر على إجابتهم، ولا الإتيان إليهم، وذلك لشدة ما فعل استهواء الشياطين في عقله].
    وهل تعرفون لهذا مثلاً؟ كم من إنسان كان يعبد الله مستقيماً في قرية أو مدينة، ثم تستهويه الشياطين فيفسق ويضجر ويتيه في متاهات الضلال، لا يعرف حلالاً ولا حراماً.
    [ثم أمره أن يقول أيضاً] أي: أمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم: [( قُلْ إِنَّ الْهُدَى )[الأنعام:71] أي: الحق الذي لا ضلال ولا خسران فيه ( هُدَى اللَّهِ )[الأنعام:71] الذي هدانا إليه، ألا إنه الإسلام.
    وقد أمرنا ربنا أن نسلم له قلوبنا ووجوهنا لأنه رب العالمين، فأسلمنا كما أمرنا، كما أمرنا أن نقيم الصلاة فأقمناها، وأن نتقيه فاتقيناه، وأعلمنا أنَّا سنحشر إليه يوم القيامة فصدقناه في ذلك، ثم هدانا فلن نرجع بعدُ إلى الضلالة. هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية، أما الثالثة فقد تضمنت تمجيد الرب بذكر مظاهر قدرته وعلمه وعدله، فقال تعالى: ( وَهُوَ )[الأنعام:73]، أي: الله رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له قلوبنا فأسلمنا ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ )[الأنعام:73]، فلم يخلقهما عبثاً وباطلاً، بل خلقهما ليذكر فيهما ويشكر.
    (ووَيَوْمَ يَقُولُ )[الأنعام:73] لما أراد إيجاده أو إعدامه أو تبديله: ( كُنْ )[الأنعام:73]، فهو يكون كما أراد في قوله الحق دائماً وأبداً.
    (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ )[الأنعام:73]، نفخة الفناء، فلا يبقى شيء إلا هو الواحد القهار، فيقول جل ذكره: ( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ )[غافر:16]، فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه بنفسه قائلاً: ( للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ )[غافر:16]، ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ )[الأنعام:73] أي: يعلم ما غاب في خزائن الغيب عن كل أحد، ويعلم الشهادة والحضور، لا يخفى عليه أحد، ( وَهُوَ الْحَكِيمُ )[الأنعام:73] في تصرفاته وسائر أفعاله وتدابيره لمخلوقاته، ( الْخَبِيرُ )[الأنعام:73] ببواطن الأمور وظواهرها، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، بهذا كان المعبود الحق الذي لا يجوز أن يعبد سواه بأي عبادة من العبادات التي شرعها سبحانه وتعالى ليعبد بها].
    هداية الآيات
    قال: [من هداية الآيات: أولاً: قبح الردة وسوء عاقبتها]، ما الردة؟ الارتداد هو الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان، ارتد إذا رجع، وهل للردة سوء عاقبة؟ نعم؛ إذا ارتد عن الإسلام هلك، وتمزق وخسر الدنيا والآخرة، ومن أين عرفنا قبح الردة؟ من قوله تعالى عن المؤمنين حين عرضوا عليهم الردة: ( وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71]، كيف يكون هذا؟!
    [ثانياً: حرمة إجابة أهل الباطل لما يدعون إليه من الباطل]، من أين أخذنا هذه الهداية؟ أما قال تعالى: ( وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ )[الأنعام:71]؟
    حرمة إجابة أهل الباطل، فإذا دعاك اليوم أهل الباطل إلى باطلهم فإنه يجب أن لا تجيبهم، حرام أن تجيبهم، جماعة في مجلس باطل ومنكر يقولون لك: تعال تجلس معنا، فهل تجيبهم؟! لا تجبهم. جماعة افتتحوا مخمرة أو مزناة أو باطلاً ودعوك، فهل تحضر معهم؟! أهل بدعة اجتمعوا عليها يعبدون الله بغير ما شرع لأنهم ضالون، هل تجيبهم فتجلس معهم؟!
    فإن قالوا: لم لا تجلس معنا فبم تجيب؟! تجيب بقوله تعالى: ( وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71] فنصبح ( كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى )[الأنعام:71]، كيف ننتقل من الهدى إلى الضلال؟
    [ثالثاً: لا هدى إلا هدى الله تعالى، أي لا دين إلا الإسلام]، احلف بالله أنه لا دين حق في الأرض إلا الإسلام، ولا تشك ولا تتردد، أما قال تعالى: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ )[آل عمران:19]؟
    وهنا من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ) [الأنعام:71]، لا هدى بعده، أيما شخص يأتي بهدى يريد أن يدعوا الناس إليه فهو هدى باطل، وهدى ضلال، ولا يمكن أن يسعد أصحابه لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا هدى إلا هدى الله تعالى، أي: لا دين حق إلا الإسلام.
    [رابعاً: وجوب الإسلام لله تعالى]، نسلم لله ماذا؟ أسلم الشيء: أعطاه، نسلم له شيئين: قلوبنا، فلا تتقلب إلا في طلب مرضاته طول الحياة، ونسلم له وجوهنا فلا نقبل على مخلوق سواه في قضاء حوائجنا، وفي طلبنا ما نحتاج إليه.
    فمن أسلم قلبه ووجهه لله فقد أسلم وسلم.
    أخذنا هذا من قوله تعالى: ( وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:71]، لنسلم له ماذا؟ القلوب والوجوه، لا البيوت ولا البساتين، أمرنا أن نسلم له ماذا؟! هل المال والرجال؟! لا. بل القلوب والوجوه.
    [وجوب الإسلام لله تعالى، وإقام الصلاة، واتقاء الله عز وجل]، هذا موجود في الآية: ( وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ )[الأنعام:72]، نتقي من؟ نتقي الله. بماذا نتقيه؟
    أولاً: نحن نتقي الله، أي: نتقي غضبه وعذابه، هذا هو المقصود، اتق الله: أي: اتق غضبه حتى لا يغضب عليك فيعذبك، واتق عذابه، فإذا ما أطعته فإنه يعذبك، إذاً: يتقى الله عز وجل في غضبه وعذابه.
    وبم نتقيه؟ لا شيء سوى طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتقى بأي شيء، لا بالرجال ولا بالمال ولا بالسلاح ولا بالحصون، ما يتقى الله إلا بأن نطيعه طاعة كاملة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك نجعل بيننا ويبن غضبه وعذابه وقاية وستراً مانعاً.
    ولهذا قال: [وجوب الإسلام لله تعالى، وإقامة الصلاة، واتقاء الله تعالى بفعل المأمور وترك المنهي.
    خامساً: تقرير المعاد والحساب والجزاء]، هل دلت الآيات على هذا؟ قررت المعاد والحياة الثانية، والحساب بعد ذلك، ثم الجزاء، ماذا قال تعالى؟ ( وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ )[الأنعام:73]، الملك لمن؟ ( لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ )[غافر:16]، يوم ينفخ في الصور وتبعث الخليقة يجيء الحساب بعد ذلك، وبعد الحساب يتم الجزاء إما بالنعيم المقيم وإما بالعذاب الأليم، إما في عالم السعادة وإما في عالم الشقاء، إما في الجنة وإما في النار، هل هناك واسطة؟ لا واسطة.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #385
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (22)
    الحلقة (384)
    تفسير سورة المائدة (15)


    قص الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم قصة إبراهيم مع أبيه وقومه، وإنكاره عليهم عبادة الأصنام والأحجار التي يضعونها بأيديهم، ومشاهدته لملكوت السماوات والأرض الناطقة بعظمة الله ووحدانيته وتفرده بالخلق، واستحقاقه وحده للإفراد بالعبادة، واستدراجه لقومه بمثل هذه المظاهر من الكواكب والقمر والشمس، ليقف بهم على مظاهر ربوبية الله وعلمه وقدرته وحكمته، علهم يؤمنون به سبحانه فيدركون الفلاح.
    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله ربه بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي زفت بسبعين ألف ملك لهم زجل وتسبيح، والآن نستمع إلى تلاوة الآيات من مرتلها، ثم نأخذ إن شاء الله في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها:
    (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:74-79].
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ )[الأنعام:74]، يقول تعالى لرسوله ومصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أُذكر لقومك العادلين عن الله، العابدين غير الله من الأصنام -يعني المشركين في مكة- أُذكر لهم الحادثة الآتية ليتعظوا ويعتبروا، ما هي؟
    قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ )[الأنعام:74]، إبراهيم -كما علمتم سابقاً- معناه بالعربية: الأب الرحيم، وبالعبرية: إبراهيم، ووالده يسمى آزر ، وقيل: له اسم ثان ولا بأس؛ فيعقوب اسمه يعقوب وإسرائيل، فـآزر وشالخ كلاهما اسم لوالد إبراهيم.
    الرد على منكري أبوة آزر لإبراهيم عليه السلام
    والذي ينبغي ألا ننساه - معشر المستمعين والمستمعات - أن هناك ضلالاً من المسلمين يقولون: إن آزر هذا أو شالخ عم إبراهيم وليس بوالده، وكتب التفسير موجود فيها هذا، ومعنى هذا أنهم كذبوا الله عز وجل، أو قالوا: إن الله خاننا، حيث أطلق على عمه اسم الأب والمفروض أن يقول: العم، فهل هذا الموقف يقفه مسلم فيكذب الله؟! الله يقول: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ )[الأنعام:74]، وأنت تقول: لعمه! أسألكم بالله: هل يصح لمؤمن أن يرد على الله فينسب إلى الله أنه أخفى هذا الاسم؟! فلهذا من قال لك: إن آزر عم إبراهيم أو شالخ فقل له: صدق الله وكذبت. وحجتنا أن الله تعالى قال: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ )[الأنعام:74]. وهذه الكذبة العظيمة لها سبب، سببها في نظرهم أن يبرئوا والد الرسول صلى الله عليه وسلم من دخول النار، والد نبينا اسمه عبد الله بن عبد المطلب ، قالوا: لن يدخل النار، فقيل لهم: ها هو والد إبراهيم يدخل النار! قالوا: ليس هذا أباه، بل هذا عمه.
    وهذا التزمت وهذا التخبط لأي شيء؟ كل هذا في حب الرسول وآل بيته بزعمهم، تدجيل وكذب، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( أبي وأبوك في النار ).
    ونحن أصبحنا -والحمد لله- من ذوي البصائر، عرفنا أنه لا قيمة للنسب أبداً، كل ما في الأمر هل نفسك زكية طاهرة، أم خبيثة منتنة؟ كن ابن من شئت أو أباً لمن شئت، إذا ما زكت النفس ولا طابت ولا طهرت فأنت من أهل العذاب.
    لعلمنا بحكم الله في الخليقة: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا )[الشمس:9]، لا من كان أبوه نبياً أو ولياً؟ فهل تصورتم هذه الصورة أم لا؟!
    بل ذهبوا إلى أن عم الرسول في الجنة أيضاً، وهذا مذهب الروافض الذين يحومون حول هذه الترهات والأباطيل، نحن علمنا من طريق مصطفانا صلى الله عليه وسلم أن آزر لما يبعث الله الخليقة يقوم إبراهيم ويقول: يا رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون -وهذا في سورة الشعراء: ( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ )[الشعراء:87]- والآن هذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي، فيقول له الرب تعالى: انظر تحت قدميك، فإذا آزر في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيح، ما إن يراه حتى يقشعر جلده ويقول: سحقاً سحقاً سحقاً! فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في عذاب النار.
    فهل بعد هذا تقول: أبوه في الجنة؟! هذا شأن أمة تعرض عن كتاب الله وهدي رسولها، وتتلقى العلم من (قال فلان وقال فلان).
    رحمة إبراهيم عليه السلام وتمحيص الله وابتلاؤه له
    هل عرفتم أن إبراهيم الأب الرحيم أم لا؟ وتتجلى رحمة إبراهيم في موقف لا تنسوه، هذا الموقف في آخر سورة إبراهيم عليه السلام، عندما قال: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ )[إبراهيم:37-38]، إلى أن قال: ( وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[إبراهيم:36]، معنى هذا: لا تعذبه.ذكر هذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم في ضمن ثلاثة مواقف: له صلى الله عليه وسلم موقف ولعيسى موقف ولإبراهيم موقف، فعيسى قال: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، وإبراهيم قال: ( وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[إبراهيم:36]، معناه: اغفر له وارحمه، ورسولنا صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أمتي أمتي.
    والشاهد عندنا في تجلي هذه الرحمة، ومن ثم ابتلاه الله بأربعة ابتلاءات لم يبتل بها غيره:
    الأول: الهجرة، وكانت أول هجرة في التاريخ البشري، لما حكم عليه بالإعدام وأنجاه الله هاجر مع زوجه وابن عمه إلى أرض الغرب، لا يدري أين يذهب، فأول هجرة كانت هجرة إبراهيم عليه السلام.
    ثم ابتلاه بذبح إسماعيل، كيف يبتلى الرجل بذبح ابنه؟! كيف يقوى على ذلك؟
    ثم ابتلاه بأن يذهب بجاريته وابنه إلى صحراء قاحلة ليس فيها أحد، ذهب بإسماعيل وهاجر.
    ثم أمر بأن يذبح إسماعيل، كما قال تعالى عنه: ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى )[الصافات:102]، وبالفعل طيبته أمه وطهرته، وأخذه إلى منى، وطأطأه على الأرض والمدية في يده، ولما هم بذبحه نودي أن: اترك إسماعيل وخذ هذا الفداء العظيم: ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )[الصافات:107].
    إعلان ضلال المنصرف عن عبادة ربه إلى عبادة سواه
    قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ )[الأنعام:74]، قال له منكراًعليه: ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً )[الأنعام:74]، تعبدها؟ هذا الاستفهام للإنكار وعدم الرضى بصنيع والده، كيف تتخذ أصناماً آلهة تعبدها؟ ( إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ )[الأنعام:74] يا آزر ( فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) [الأنعام:74]، فسجل له ولقومه أنهم في ضلال واضح بيِّن.وأي ضلال أعظم من أن يترك الإنسان خالقه لا يعبده ويعبد مصنوعاً صنعه بيده؟! هل هناك ضلال أعظم من هذا؟! ينحت حجراً ويعكف عليه يعبده ويترك عبادة من خلقه وسواه ورزقه وحفظه.
    (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأنعام:74]، بين واضح، هذا الضلال هو البعد عن الهداية الإلهية؛ إذ الإنسان مخلوق ليعبد الله، هذه علة خلقه، هذا سر خلقه: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )[الذاريات:56]، فقط لا لشيء آخر.
    ثم إن هذه العبادة هي التي تؤهله للسعادة والكمال، لا أن الله ينتفع بهذه العبادة، وإنما العبادة ينتفع بها العابدون، تزكو أنفسهم وتطيب وتطهر، فيحتلون الفراديس وينزلون الجنة.
    كما أن هذه العبادة -وهي أوامر ونواه- تحفظ أعراضهم وأموالهم وأبدانهم، تجنبهم المكاره والمهالك والمعاصي؛ لحكمة الله عز وجل.
    الشاهد عندنا أن إبراهيم عليه السلام واجه والده فقال له: ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأنعام:74].
    تفسير قوله تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين)
    وبعدها قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )[الأنعام:75]، وهكذا نري إبراهيم، من الذي يريه؟ إنه الله. ( نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[الأنعام:75]، الملكوت بمعنى الملك العظيم، كالجبروت، والرغبوت بمعنى الرغبة الواسعة، ،الطاغوت: الطاغية الكبير، والرهبوت، كل هذه بمعنى العظمة، كذلك الملكوت أي: الملك العظيم، ( وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )[الأنعام:75]، نريه ذلك ليصبح من أهل الإيمان، بل من أهل اليقين.وهنا روي أن إبراهيم كشف الله تعالى له الحجاب، فرأى ما تحت العرش إلى الأرض، ورأى ما تحت الأرض إلى أسفلها، ولا غرابة ولا عجب أن يريه الملكوت بدون حجاب، يرى السماوات وما فوقها من الجنة والعرش وهو في مكانه، ثم يرى ما تحت الأرض السفلى، أو الملكوت الأسفل، أخذوا هذا من قوله: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[الأنعام:75]، وإن قلنا: هل صح أم لم يصح؟ نقول: الآية ستأتي.
    تفسير قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي...)
    قال تعالى في بيان كيف أراه الله ملكوت السموات والأرض ليكون من الموقنين، قال تعالى: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ )[الأنعام:76]، أي: أظلم، جن الليل: دخل الظلام وذهب الضوء، ( رَأَى كَوْكَبًا )[الأنعام:76] لاح وطلع، قد يكون الزهرة، رآه يلوح في الأفق، وهو هنا يتدرج مع قومه وأهله وأبيه وعشيرته ليعرفوا الحق من طريق التعليم والهداية والتبصير. ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي )[الأنعام:76]، لك أن تقول: حرف الاستفهام محذوف، والتقدير: (أهذا ربي؟)، وهو كذلك، يجوز حذف الاستفهام في كثير من المواطن، لا سيما هنا: (أهذا ربي؟)، حيث رفع رءوسهم إلى الزهرة الكوكب العظيم هذا قائلاً: أهذا أحق بالربوبية والألوهية؟ أهذا ربي؟
    قال تعالى: ( فَلَمَّا أَفَلَ )[الأنعام:76]، أفل النجم: ذهب ضوءه، ( قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ )[الأنعام:76].
    ولا ننسى أن الكلدانيين قوم إبراهيم -وهم في ديار بابل والعراق- كانوا صابئة يعبدون الكواكب، ثم صنعوا لتلك الكواكب أصناماً وتماثيل، فيتمسحون بها ويتقربون وهم يعبدون في الواقع الكواكب، ولهذا فهم ليسوا ملاحدة لا يؤمنون بالله، بل يؤمنون بالله، ويتوسلون إليه بهذه الكواكب والأصنام.
    وهذه الحقيقة قررناها مئات المرات، فكلمة (لا إله والحياة مادة) هذه كذبة يهودية، نسج اليهود خيوطها، وقدموها لروسيا، ونهض بها لينين وستالين وأتباعهم، ونفوا وجود الله، قبل هذه لم تكن البشرية تنكر وجود الله أبداً، وإنما كانوا يعرفونه ويتوسلون إليه بهذه الأصنام والكواكب وما إلى ذلك.
    إذاً: فلنستمع: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي )[الأنعام:76]، لا يعني أنه ربه، ولكن على حذف الاستفهام: (أهذا ربي)؟
    (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ )[الأنعام:76]، ما دام أنه ذهب وتركني فكيف أعبده؟ لن يكون ربي هذا.
    تفسير قوله تعالى: (فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي ...)
    قال تعالى: ( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا )[الأنعام:77] طلع القمر، لاح وصعد، ( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي )[الأنعام:77]، لأن الكوكب اضمحل وتلاشى وذهب وظهر القمر ةلاح وبزغ، ( قَالَ هَذَا رَبِّي )[الأنعام:77]، أي: (أهذا ربي)؟ ( فَلَمَّا أَفَلَ )[الأنعام:77]القمر أيضاً، ذهب وزال ( قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ )[الأنعام:77]. إن الذين يسمعون كلامه معهم يتعجبون، كأنه طالب الهداية يبحث، وهو واجب كل إنسان أن يبحث عن ربه عسى أن يعرفه، وهذا أسلوب حكيم.
    فلما أفل القمر قال: ( لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي )[الأنعام:77] إليه ( لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ )[الأنعام:77]، بدليل أن القمر أفل وغاب وغرب.
    تفسير قوله تعالى: (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر ...)
    قال تعالى: ( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً )[الأنعام:78] والشمس بزوغها عظيم، ( قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ )[الأنعام:78]، أي: من القمر ومن الكوكب، يستدرجهم حتى يقفوا على الحقيقية، ( فَلَمَّا أَفَلَتْ )[الأنعام:78] غابت، غربت الشمس وغابت، ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:78]، والبراءة: البعد الكامل، ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:79]. لقد قال: ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:78] من هذه الآلهة، سواء كانت الكواكب في السماء، سواء كان القمر أو الشمس، وفي اليمن كانت تعبد الشعرى، وجاء في القرآن: ( رَبُّ الشِّعْرَى )[النجم:49]، كوكب معروف؛ لأن الإنسان إذا فقد البيان والهادي الذي يهديه يتخبط، والشياطين تزين له، منهم من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد الكوكب الفلاني، وعبدوا ما دون ذلك من المخلوقات، أما صنع التماثيل فلتمثل فقط ما يعبدونه في السماء، ولهذا يسمى تمثالاً، لا أنه الإله المعبود.

    تفسير قوله تعالى: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين)

    قال تعالى: ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ )[الأنعام:79] أي: قلبي ووجهي، ( لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ )[الأنعام:79]، خالق السموات والأرض، هذا الذي أعطيه قلبي ووجهي، هذا الذي أعبده وأرغب فيما عنده، وأرهب مما عنده، هذا ربي لا رب لي سواه؛ لأنه خالق السموات والأرض، ( حَنِيفًا )[الأنعام:79] أي: مائلاً عن كل هذه الأصنام والتماثيل والعبادات الباطلة إلى عبادة الله وحده، ( حَنِيفًا )[الأنعام:79] مائلاً، من الحنف وهو الميل، أي: مائلاً عن كل هذه الآلهة الباطلة إلى ربه عز جل.( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:79] تبرأ براءة كاملة، لا صلة لي بالمشركين، لا أعرفهم، ولا أمشي وراءهم، ولا أحبهم، ولا أتعامل معهم؛ لأنهم أشركوا هذه الأصنام في عبادة ربهم فعبدوها معه.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير
    معنى الآيات قال الشارح غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ما زال السياق ] سياق الآيات [ في بيان الهدى للعادلين بربهم أصناماً يعبدونها لعلهم يهتدون]، ما زال سياق الآيات التي يتبع بعضها بعضاً في بيان الهدى والطريق المستقيم للعادلين بربهم، عدلوا بربهم أصناماً وآلهة، سووها مثل الله وعبدوها. [ فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ )[الأنعام:74] أي: واذكر لهم يا نبينا قول إبراهيم لأبيه آزر : ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً )[الأنعام:74]، أي: أتجعل تماثيل من حجارة آلهة أرباباً تعبدها أنت وقومك، ( إِنِّي أَرَاكَ )[الأنعام:74] يا أبت ( وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأنعام:74] عن طريق الحق الذي ينجو ويفلح سالكه، هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
    أما الثانية فإن الله تعالى يقول: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[الأنعام:75]، أي: كما أريناه الحق في بطلان عبادة أبيه للأصنام نريه أيضاً مظاهر قدرتنا وعلمنا وحكمنا الموجبة لألوهيتنا في ملك السموات والأرض]؛ لأن الله عليم حكيم، وحكمته لا يخلو منها شيء، ما من ذرة إلا وخلقها وإيجادها لحكمة، إذاً: نريه أيضاً مظاهر قدرتنا وعلمنا وحكمتنا الموجبة لألوهيتنا في ملك السموات والأرض، أي: نريه الآيات في ملك السموات والأرض [ليكون بذلك من جملة الموقنين، واليقين من أعلى مراتب الإيمان]، فالإيمان إيمان، واليقين يقين، واليقين أعلى من الإيمان، ( لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ )[التكاثر:7]، مؤمن وموقن، وأما المؤمن غير الموقن فهو مريض قد يهلك في الطريق.
    قال:[هذا ما دلت عليه الآية الثانية، وفي الثالثة فصّل الله تعالى ما أجمله في قوله: ( نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[الأنعام:75]]، الآن يفصل هذا الملكوت، كيف أن آيات الله تعالى تدل على وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته، [فقال تعالى: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ )[الأنعام:76]، أي: أظلم، ( رَأَى كَوْكَبًا )[الأنعام:76]، قد يكون الزهرة، ( قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ )[الأنعام:76]، أي: غاب الكوكب، ( قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ )[الأنعام:76]، ( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا )[الأنعام:77]، أي: طالعاً، ( قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ )[الأنعام:76]، أي: غاب، ( قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ )[الأنعام:77]، أي: في معرفة ربهم الحق. ( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً )[الأنعام:78]، أي: طالعة، ( قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ )[الأنعام:78]، يعني: من الكوكب والقمر، ( فَلَمَّا أَفَلَتْ )[الأنعام:78]، أي: غابت بدخول الليل، ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:78].
    هكذا واجه إبراهيم قومه عبدة الكواكب التي تمثلها أصنام منحوتة، واجههم بالحقيقة التي أراد أن يصل إليها معهم، وهي إبطال عبادة غير الله تعالى فقال: ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا )[الأنعام:79]، لا كما توجهون أنتم وجوهكم لأصنام نحتموها بأيديكم، وعبدتموها بأهوائكم لا بأمر ربكم، وأعلن براءته في وضوح وصراحة، فقال: ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:79]].
    هذا الموقف وقفه إبراهيم ليستدرج قومه، ليقف بهم على مظاهر ربوبية الله وعلمه وقدرته وحكمته، ليؤمنوا بالله ويعبدوه وحده.
    هداية الآيات لهذه الآيات هداية، فدعونا ننظر كيف استنبطناها:قال: [ من هداية الآيات:
    أولاً: إنكار الشرك على أهله] هل يجب أم لا؟ إذا رأيت من يقول: يا رسول الله! مدد. يا إبراهيم! يا زكريا! يا فاطمة! هل تسكت أم تنكر؟ يجب أن تنكر، أما أنكر إبراهيم؟ أما قال لوالده: ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً )[الأنعام:74] بأبشع الإنكار، إنكار الشرك على أهله؟
    إذا وجدت من يقول: والنبي، والكعبة، ورأس فلان، فهل تسكت؟ ألست على منهج إبراهيم؟ كلنا على منهج محمد صلى الله عليه وسلم، أما قال له رجل: ( ما شاء الله وشئت يا رسول الله، فقال: قل: ما شاء الله وحده )؟
    إذاً: هذه الآية فيها هدايات، منها: [إنكار الشرك على أهله، وعدم إقرارهم ولو كانوا أقرب إلى المرء]، فإبراهيم هل أنكر على والده أم لا؟ لا تقل: هذا أبي فأنا لا أزعجه، أو هذه أمي لا نغضبها، إذا رأيت من يشرك بربك غيره يجب أن تنكر عليه، وتصبر لذلك، لكن ليس بالهراوة والسب والشتم، فهل إبراهيم رفع العصا على والده؟ هل قال: يا مجنون يا أحمق يا كذا؟ ما قال ذلك أبداً، ولكن بالمنطق السليم: ( إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأنعام:74].
    [ثانياً: فضل الله تعالى وتفضله على من يشاء بالهداية الموصلة إلى أعلى درجاتها]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )[الأنعام:75]، فمن وصل به إلى هذه المستوى؟ إنه الله عز وجل، فإذا أراد الله لك ذلك أخذ بيدك، وإذا بك تتنقل في الكون وتشاهد آيات الله، وتصبح أكثر الناس إيماناً وأكثرهم يقيناً.
    [ثالثاً: مطلب اليقين وأنه من أشرف المطالب وأعزها]، فاليقين أعظم من الإيمان، لن يكون يقين إلا بعد أن يوجد إيمان، فإذا قوي الإيمان انتقل إلى اليقين، تصبح كأنك ترى الله عز وجل، [مطلب اليقين وأنه من أشرف المطالب وأعزها، ويتم بالتفكر والنظر في الآيات].
    فلهذا قال العلماء: عندنا كتابان: أولهما: كتاب الله، فإذا قرأت وتدبرت منه الآيات لا تلبث حتى تصبح موقناً أعظم يقين؛ لأنه كلام الله تعالى، وكلامه حكم وعلوم ومعارف، وهكذا تتدرج في الآيات آية بعد آية وإيمانك يرتفع، حتى تصل إلى اليقين، فتقول: بالله الذي لا إله غيره إن هذا لكلام الله، وإنه لا إله إلا الله، وهكذا تبلغ درجة اليقين.
    ثانياً: كتاب الكون، تخرج فقط من بيتك فتنظر إلى السماء: من رفعها؟ هذه الكواكب من نثرها فيها، من أضاءها، هذا الكوكب النهاري الشمس من سخره؟ هذا الكوكب الليلي من أوجده؟ وتنظر إلى الأرض: هذه الجبال من أرساها؟ من جمع غبراتها وذراتها؟ وتنظر إلى نفسك أنت: ما أنت؟ كيف تسمع؟ كيف تبصر؟ وحينها تقول: يا إلهي آمنت بالله، فيصبح إيمانك يقيناً.
    قال: [ثالثاً: مطلب اليقين]، ينبغي أن نطلب اليقين ليل نهار، [وأنه من أشرف المطالب وأعزها]، ليس كطلب المال والدنيا، [ويتم] ويحصل عليه العبد [بالتفكر والنظر في الآيات].
    ومن الآيات العجيبة أني كل يوم مندهش حين نخرج من المسجد فنجد هذا الخليط من الناس، شرقي وغربي وعربي وعجمي، وألوان، ما تجد اثنين بلون واحد، قف الآن في الحلقة وانظر فلن تجد اثنين شكلهما واحد لا يميز بينهما؟ بل البشرية كلها في صعيد واحد لن تجد فيها اثنين لا يفرق بينهما، أي علم أعظم من هذا؟ أية قدرة أجل من هذ؟ أية حكمة أعظم من هذه الحكمة؟ كيف يعبد مع الله غيره، قولوا: آمنا بالله، لكن العميان ما ينظرون حتى إلى أنفسهم، يأكل ويشرب ولا يسأل.
    قال: [رابعاً: الاستدلال بالحدوث على وجود الصانع الحكيم وهو الله عز وجل]، من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا )[الأنعام:76] ( رَأَى الْقَمَرَ )[الأنعام:77] ( رَأَى الشَّمْسَ )[الأنعام:78]، استدل بالحدوث على وجود المحدث، واستدل بالوجود على وجود الذي أوجد، ألا وهو الصانع الحكيم الله عز وجل.
    [خامساً: سنة التدرج في التربية والتعليم]، وهذه السنة فرطنا فيها، لا بد من التدرج درجة درجة حتى تصل إلى القمة، ليس في يوم واحد تعلم العلوم كلها.
    [سادساً: وجوب البراءة من الشرك وأهله]، من أين أخذنا هذه؟ من قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:78]، تبرأ منهم أم لا؟ وهذا يجب علينا، ولو كان المشركون آباءنا وأمهاتنا، فكيف نقر الكفار والمشركين على الشرك ونرضى به ونسكت؟
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #386
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (23)
    الحلقة (385)
    تفسير سورة المائدة (16)


    لما أقام إبراهيم عليه السلام الدليل على بطلان ما يفعله قومه من عبادة غير الله، وتبرأ منهم ومن شركهم، قام قومه يحاجونه في ذلك، فأخبرهم أنه بعد أن هداه الله لن يضره ما يطرحون أمامه من الشبهات، ولا ما يخوفونه به من غضب آلهتهم وتسلطها عليه؛ لأنها أصنام جامدة، وهي أعجز وأحقر من أن تملك لنفسها ضراً أو نفعاً، فضلاً عن أن تملكه لأحد من الناس، وبين لهم أهل الحق والإيمان أولى بالأمن والاطمئنان من أهل الزيغ والبهتان.
    تفسير قوله تعالى: (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله ربه بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، والآيات التي سنتدارسها -إن شاء الله- نسمع تلاوتها مرتلة مجودة من أحد الأبناء فليتفضل.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )[الأنعام:80-83].
    معاشر المستمعين والمستمعات، من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ )[الأنعام:80]، من هو هذا الذي يخبر تعالى أن قومه حاجوه؟ إنه إبراهيم، الأب الرحيم، تذكرون بالأمس كيف كان يستدرجهم إلى التوحيد، ينتقل بهم من حالة إلى أخرى، حتى يستقر الأمر أنه لا إله إلا الله، وذلك مما علمه الله: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ )[الأنعام:83].
    يقول تعالى: ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ )[الأنعام:80]، حاجوه: بمعنى: جادلوه وخاصموه بالحجج، من أجل أن يحقوا الباطل ويبطلوا الحق، وهم في ذلك مخطئون وهالكون، قال: ( أَتُحَاجُّونِي )[الأنعام:80]، وفي قراءة: (أتحاجوني)، ويصح إدغام النون في النون، وهي قراءة سبعية، ( أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ )[الأنعام:80] أي: أتجادلونني وتخاصمونني بالحجج الواهية الباطلة في ربي، كيف يمكن هذا؟ ( وَقَدْ هَدَانِ )[الأنعام:80]، وعرفت الطريق إليه، وعرفت ما عنده وما لديه، وعرفته بأسمائه وصفاته، وعرفت أنه لا إله إلا هو ولا رب سواه، فما ذا تريدون مني؟ لو جادلتموني في شيء غير هذا فإنه ممكن، أما أن تجادلوني في ربي وقد هدان فهذا الجدال باطل، ولا خير فيه، وأنتم مبطلون ولا خير فيكم.
    معنى قوله تعالى: (ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً)
    ثم قال: ( وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ )[الأنعام:80]، لا شك أنهم خوفوه، وقالوا: إن لم تقبل ما ندعوك إليه، أو إن لم تعرض عن النقد والطعن فآلهتنا سوف تصيبك بالخبال، وتصبح مجنوناً بين الناس، فقال لهم: ( وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ )[الأنعام:80]، أي: بالله ربي الذي هداني وعرفته، وهداني إلى صراطه المستقيم، اللهم ( إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا )[الأنعام:80]، هذه لطيفة من لطائف الكلام، لما قال: ( وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ )[الأنعام:80] وكان من الممكن أن يعثر في حجر ويسيل دمه، فيقولوا: انظروا فالآلهة غضبت، ومن الممكن أن يصاب بمرض عارض فيقولوا: انظر إلى الآلهة ماذا فعلت به. فمن هنا قال: ( إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا )[الأنعام:80]، إذا شاء ربي أن أصاب بمرض أو بأذى فله ذلك، أما كون آلهتكم تضرني وتؤذيني فهذا لن يكون؛ لأنها أحجار وتماثيل تمثل كواكب في السماء، وليست بآلهة، فهي لا تنفع ولا تضر، ولا أخافها، لكن إذا شاء الله ربي فقد ( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا )[الأنعام:80].ومن اللطائف من هذه المواقف -لأن البشرية هي هي- أنه مرض أحد الإخوان في المدينة بعد أن جاء من الديار المغربية، فقال أحدهم -وهو طالب علم-: ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقول بالمولد ولا بغيره!
    فلما خوفوه بآلهتهم قال لهم: كيف أخاف ما أشركتم به -وهو آلهتكم- وأنتم لا تخافون من الله الذي أشركتم به، اللهم إلا أن يشاء ربي شيئاً فإنه يقع، ( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا )[الأنعام:80].
    معنى قوله تعالى: (أفلا تتذكرون)
    ثم قال لهم: ( أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ )[الأنعام:80]، لو تذكرتم لذكرتم، لو تأملتم في آلهتكم: هل خلقت! رزقت! أماتت! أحيت! أنتم الذين صنعتموها، ونصبتموها هنا وهناك، وقدستموها وطهرتموها، وقلتم ما قلتم، كيف تكون هذه آلهة؟ والذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق كل المخلوقات من الشمس والقمر والكواكب وكل البشر، هذا لا تعبدونه، ولا تعرفونه، فلو تذكرتم لذكرتم.لكنهم لا يريدون أن يتفكروا حتى يهتدوا ويعرفوا، فلامهم وقبح مسلكهم بهذا الاستفهام: ( أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ )[الأنعام:80].
    تفسير قوله تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً...)
    ثم قال لهم: ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا )[الأنعام:81]، أي الموقفين أسلم: موقفي أو موقفكم؟ ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ )[الأنعام:81] من هذه الأصنام والتماثيل، ( وَلا تَخَافُونَ )[الأنعام:81] أنتم ( أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ )[الأنعام:81] جل جلاله وعظم سلطانه ما لم ينزل به عليكم حجة ولا برهاناً ولا أدنى خبر عن الله عز وجل يأذن لكم بعبادة هذه الأصنام؟لو أن الله أنزل عليكم كلامه وأوحى إلى أحدكم وقال: اعبدوا هذه؛ لكان لكم حجة، أما أنا فقد خلقني لعبادته، وأوحى إلي ونبأني وأرسلني إليكم رسولاً، وأنا أعرفه أنه ربي لا رب لي غيره، وإلهي لا إله سواه، فكيف -إذاً- لا أعبده؟ وتريدون مني أن أترك عبادته وأعبد هذه الأحجار والتماثيل!
    يقول: ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:81]، إذا كان لكم علم ومعرفة وبصيرة فهل أنا أو أنتم أحق بالأمن والسلامة والنجاة من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة؟ هل الذي يعبد الله وحده، أم الذي يعبد أصناماً وأحجاراً وتماثيل؟
    والجواب معلوم بالضرورة: الذي يعبد الله وحده أحق وأجدر بأن يؤمنه الله ويحفظه، وأما الذي يعبد غير الله فكيف ينجيه ذاك المعبود من أي مكروه وهو صنم وحجر، أو كوكب معلق في السماء؟! ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:81]، لو كانوا يعلمون لقالوا: أنت، إذاً: آمنوا معنا، لماذا أنتم منحازون هناك، لكنهم لا يعلمون، الشياطين أفسدت قلوبهم، وزينت لهم الباطل فعموا وصموا. ‏
    ذكر خبر تحطيم إبراهيم عليه السلام لأصنام قومه
    وهناك موقف آخر لإبراهيم من سورة الأنبياء، كان لهم عيد، كأعياد النصارى في الربيع، ونحن ورثنا أيضاً عنهم الميلاد والمواليد، كان لهم عيد يخرجون فيه إلى الصحراء وإلى أماكن، وإذا أرادوا أن يخرجوا وضعوا أنواعاً من الطعام بين يدي الآلهة في يوم العيد هذا لتباركه، فيأكلون فينتفعون به بظنهم، فمروا جماعات جماعات على إبراهيم فقالوا: هيا يا إبراهيم. (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ )[الصافات:88-89]، مريض ما أستطيع أن أخرج معكم، فالمعذرة، ونظر في النجوم ليوهمهم أنه يستمد معرفته من الكواكب التي يعبدونها، فلما خرجوا وبقي في المدينة وحده جاء بفأس كبيرة، وفلق رءوس تلك الآلهة كلها وكسرها وهشمها، وعلق الفأس في عنق الإله الأكبر، المعبود الكبير.وجاء القوم مسرعين ليأخذوا الطعام الذي باركته الآلهة، فوجدوها متناثرة هنا وهناك، قالوا: ( مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ )[الأنبياء:59]، والشاهد أنه عندما جيء به فقالوا: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ )[الأنبياء:62-63]، يشير إلى أصبعه يوهمهم أنه الصنم، فحكموا بإعدامه، وهذه الحادثة كانت بعد حادثة اليوم بفترة، والشاهد أن هذا في بداية دعوة إبراهيم عليه السلام.
    تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)
    ذكر الخبر النبوي في صفات مستحقي الأمن يوم القيامة
    قال تعالى: ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:81-82]، هنا ذكر أهل الحديث ما يلي: فقد ذكر ابن كثير عن ابن مردويه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من أعطي فشكر، ومن منع فصبر، ومن ظلم فغفر، ومن أذنب فاستغفر )، وسكت ولم يجب عن هذا السؤال، فقال الأصحاب: ما له يا رسول الله، فقال: ( أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:82]).أقول هذا لأن فيه دعوة إلى الصبر والشكر والتوبة والتجاوز والتسامح، فهذا الحديث سنده مقبول، ( أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ )[الأنعام:82]، نحن نريد أن يكون لنا هذا الأمن، هل تريدون هذا الأمن بحق؟ قال: ( من أعطي فشكر )، أعطاه الله فشكر نعمته، أعطاه فلان فشكر له، هذه خلقه، ( ومنع فصبر ) ، ما شكى وبكى، ( وأذنب فاستغفر)، على الفور استغفر، ( وظلم فغفر ) لمن ظلمه، من حقق هذه فله الأمن، يفوز بالأمن، ما الأمن هذا؟ النجاة من النار ودخول الجنة، هل هناك أمن أكثر من هذا؟ ( أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:82].
    تفسير الظلم المطلوب نفيه عن الإيمان لتحصيل الأمن
    وفي الصحيح أنه ( لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحابه وتألموا، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ليس الأمر كما ظننتم أو فهمتم، ألم تسمعوا قول لقمان الحكيم لابنه: ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )[لقمان:13] )، فالأصحاب قالوا: أينا لم يظلم نفسه؛ لأن الآية الكريمة تقول: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ )[الأنعام:82]، أي: ولم يخلطوا إيمانهم بظلم، وما منا أحد إلا وقد ظلم نفسه، ظلم أخاه، ظلم حيواناً من الحيوانات، الظلم يقع، ولا ينجو منه إلا المعصومون، إذاً: فلا أمن ولا نجاة، فخافوا وشق عليهم الأمر واستصعبوه، فأرشدهم الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى كلمة لقمان الواردة في سورته: ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ )[لقمان:13]، لماذا يا أبتاه، ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )[لقمان:13].وقد بينا للمؤمنين والمؤمنات وجه الظلم، فأي ظلم أعظم من أن تظلم ربك فتأخذ حقه وتعطيه لغيره؟ الظلم أن تأخذ مال فلان أم لا؟ والله خلقك لتعبده، ووهبك قوتك وإرادتك وسمعك وبصرك وعقلك، وإذا بك تعبد صنماً أو تعبد إنساناً، أو تعبد ملكاً وتترك ربك الذي خلقك! أي ظلم أعظم من هذا؟ والله لا ظلم أعظم من الشرك، الظلم أن تأخذ من فلان حقه وتعطيه لفلان، هذا ظلم، فكيف بالذي يأخذ حقوق الله كلها -كالعبادات- ويعطيها لغيره، فهو أفظع ظلم وأقبحه.
    وهكذا يقول تعالى في الذين لهم الأمن بالحقيقة: ( الَّذِينَ آمَنُوا )[الأنعام:82] إيماناً حقيقياً صدقوا فيه وعرفوه، ( وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ )[الأنعام:82] لم يخلطوا إيمانهم بظلم ما من أنواع الظلم، والتنكير هنا للتعميم، ( أُوْلَئِكَ )[الأنعام:82]، الأعلون أو السامون، ( لَهُمُ الأَمْنُ )[الأنعام:82]، لا يخافون ولا يحزنون، فهم أولياء الله، آمنوا ثم ماذا؟ ( آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:82]، ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[البقرة:38].
    تفسير قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء...)
    وأخيراً: قال تعالى: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا )[الأنعام:83] هذه الحجة العظيمة التي سمعتموها ( آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ )[الأنعام:83] أعطيناها إبراهيم، ( عَلَى قَوْمِهِ )[الأنعام:83]، ثم قال تعالى: ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ )[يوسف:76]، وفي سورة يوسف: ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )[الأنعام:83].وهكذا ما من عبد يتفرغ لدعوة الله، ويكون فيها على علم، ويدعو بالموعظة والحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل بالتي هي أحسن إلا أعطاه الله الحجة والبرهان، ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ )[الأنعام:83]، ما من عبد صالح يدعو إلى الله على بصيرة إلا ويعلمه ويؤتيه من الحجج ما يغلب خصمه إلى يوم القيامة.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات
    هذه الآيات نسمعكم شرحها في الكتاب زيادة في تحصيل المعاني التي نريدها.يقول المؤلف: [لما أقام إبراهيم الدليل على بطلان عبادة غير الله تعالى، وتبرأ من الشرك والمشركين حاجه قومه في ذلك، فقال منكراً عليهم ذلك: ( أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ )[الأنعام:80]؟ أي: كيف يصح منكم جدال لي في توحيد الله وعبادته وترك عبادة ما سواه من الآلهة المدعاة، وهي لم تخلق شيئاً، ولم تنفع ولم تضر، ومع هذا فقد هداني -أي: ربي- إلى معرفته وتوحيده، وأصبحت على بينة منه سبحانه وتعالى، هذا ما دل عليه قوله تعالى: ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ )[الأنعام:80].
    ولا شك أنهم لما تبرأ من آلهتهم خوفوه بها، وذكروا له أنها قد تصيبه بمكروه، فرد ذلك عليهم قائلاً: ( وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ )[الأنعام:80] من آلهة أن تصيبني بأذى من الأذى، ( إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا )[الأنعام:80]، فإنه يكون قطعاً؛ فقد ( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا )[الأنعام:80]، ثم وبخهم قائلاً: ( أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ )[الأنعام:80]، فتذكروا أن ما أنتم عليه هو الباطل، وأن ما أدعوكم إليه هو الحق، ثم رد القول عليهم قائلاً: ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ )[الأنعام:81] وهي أصنام جامدة لا تنفع ولا تضر، لعجزها وحقارتها وضعفها، ولا تخافون أنتم الرب الحق الله الذي لا اله إلا هو، المحيي المميت الفعال لما يريد، وقد أشركتم به أصناماً ما أنزل عليكم في عبادتها حجة ولا برهاناً تحتجون به على عبادتها معه سبحانه وتعالى.
    ثم قال لهم استخلاصاً للحجة وانتزاعاً لها منهم: ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ )[الأنعام:81]من الخوف: أنا الموحد للرب، أم أنتم المشركون به؟ والجواب معروف، وهو: من يعبد رباً واحداً أحق بالأمن ممن يعبد آلهة شتى وجمادات لا تسمع ولا تبصر.
    وحكم الله تعالى بينهم وفصل فقال: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ )[الأنعام:82]، أي: ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، ( أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:82]]، إبراهيم طرح السؤال والله أجاب، [أي: الأمن في الدنيا وفي الآخرة، ( وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:82]، أي: في حياتهم إلى طريق سعادتهم وكمالهم، وهو الإسلام الصحيح.
    ثم قال تعالى: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ )[الأنعام:83]، إشارة إلى ما سبق من محاجة إبراهيم قومه، ودحض باطلهم، وإقامة الحجة عليهم.
    وقوله تعالى: ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ )[الأنعام:83]، تقرير لما فضَّل به إبراهيم على غيره من الإيمان واليقين والعلم المبين.
    ثم علل تعالى لذلك بقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )[الأنعام:83]، حكيم في تدبيره، عليم بخلقه، يؤتي الحكمة من يشاء وهو العليم الحكيم].
    هداية الآيات
    إلى هنا انتهى تفسير الآيات، وإليكم بيان هداياتها:[أولاً: مشروعية جدال المبطلين والمشركين لإقامة الحجة عليهم لعلهم يهتدون]، من أين أخذنا جواز الجدال والخصومة مع المشركين والمبطلين؟ من هذه الآية.
    [ثانياً: بيان ضلال عقول أهل الشرك في كل زمان ومكان]، والذين يعبدون الأصنام والأحجار أقرب من هذا الذي يأتي إلى قبر ميت ويناديه: يا فلان.. يا فلان.. يا فلان! أنا مصاب بكذا، وفي كذا، وادع الله لي بكذا وكذا، أهذا له عقل حين يدعو ميتاً؟ هل الميت يسمعه؟ وإن فرضنا أنه سمع هل يمد يده لينقذه؟ فلم -إذاً- تدعو من لا يستجيب لك، أين عقلك؟
    لو مررت برجل واقف أمام خربة من الديار وهو يصيح ويطلب ماذا تقول له؟ تقول: ما في البيت أحد، ما في هذه الخرابة ساكن، عليك بالبيت الفلاني انظر إلى الضوء فيه. فالذين يدعون غير الله كلهم على حد سواء، دعوا الأنبياء، أو الرسل، أو الملائكة، أو الجمادات والحيوانات.
    [ثالثاً: التعجب من حال مذنب لا يخاف عاقبة ذنوبه]، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ )[الأنعام:81]، أقول: التعجب من حال مذنب لا يخاف عاقبة ذنوبه، وهذا موجود، فكل المذنبين الذين يواصلون الذنوب ما خافوا، لو خافوا عاقبة الذنب لتابوا في يومهم أو ليلتهم.
    [رابعاً: أحق العباد بالأمن من الخوف من آمن بالله ولم يشرك به شيئاً]، أحق الناس بالأمن من آمن بالله ولم يشرك به شيئاً، وإذا آمن عبد وأطاع واستقام واتقى فقد استحق الأمن.
    [خامساً: تقرير معنى ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ )[البقرة:257]].
    هذه سنة الله في الناس، الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من ظلمات الجهل أو الشك أو الارتياب إلى نور الحق والمعرفة.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #387
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )




    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (24)
    الحلقة (386)
    تفسير سورة المائدة (17)

    بعد كل ما تعرض له إبراهيم عليه السلام من قومه من التكذيب والإيذاء، وعدم ثنيه عن معتقده وتوحيده لربه رفع الله عز وجل شأنه، واصطفاه بالخلة والكرامة، ووهبه إسحاق عليه السلام، ومن بعد إسحاق يعقوب، وجعل من ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، وغيرهم من الأنبياء، وكان منهم الملوك، ومنهم الربانيون الشهداء الصالحون، فكان صلى الله عليه وسلم بحق أبا الأنبياء.
    تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب ربنا عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي زفت بسبعين ألف ملك لهم زجل وتسبيح، والآن مع هذه الآيات التي نستمع إلى تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نأخذ في شرحها وبيان المراد منها.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِ مْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاه ُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[الأنعام:84-87].
    ذكر خبر إبراهيم وزوجه سارة مع ملك مصر
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ )[الأنعام:84]، وقد تقدم السياق في إبراهيم الخليل عليه السلام في قوله تعالى: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )[الأنعام:83]، ثم قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ )[الأنعام:84] أعطيناه إسحاق بن إبراهيم، وإسحاق -كما سبق أن علمنا- ولد لإبراهيم بعد تجاوز المائة في شيخوخته، وامرأته سارة عاقر، فوهبه إسحاق آية من آيات الله وكرامة من كراماته لأوليائه، وذلكم أن إبراهيم عليه السلام لما هاجر تحت الضغط والتهديد والتعذيب، ووصل إلى الديار المصرية، شاء الله أن يعطي ملك مصر هاجر جارية لسارة امرأة إبراهيم، وكيف أعطاها؟ لما دخل إبراهيم مع سارة امرأته وهما غريبان لا يعرفهما أحد، وكانت سارة حسناء وجميلة، فشاهدها بعض خدم السلطان وأعوانه، فأخبروه أن هناك امرأة حسناء ولا تصلح إلا لك، هؤلاء يسميهم العرب القوادين، وأهل المدينة يسمونهم الجرارين، فالجرار لأنه يجر والقواد لأنه يقوده، فالقواد ألطف. فقال الملك: علي بها. فلما جاءوا ليأخذوها من زوجها إبراهيم قال لها: أي فلانة! إذا سألوك عني فلا تقولي: هو زوجي، قولي: أخي؛ فإنه لا يوجد على الأرض مؤمن ولا مؤمنة إلا أنا وأنت؛ فلهذا قولي: أخي. لأنها لو قالت: زوجي لقال: اقتلوه. أما أخوها فلا يضر.
    وجيء بها وحُسِّنت حالها باللباس الحسن والطيب الذكي، وقدمت للسلطان، وجلس معها يتحدث إليها ويطلبها، لكنه كان كلما أراد أن يضع يده على كتفها أو على يدها يصاب بالشلل الفوري، والله الذي لا إله غيره! فيكف يده، ويقول: ادعي لي، فتدعو له، ثم يتحدث إليها ويطلبها، وحين يرغب في أن يضع يده عليها يصاب بالشلل، وهكذا ثلاث مرات! ثم صاح في رجاله: أخرجوا هذه، ما هي بآدمية! وأكرمها فأعطاها خادمة اسمها هاجر القبطية المصرية، وأعطاها بغلة.
    ذكر خبر هجرة إبراهيم بهاجر وإسماعيل إلى مكة
    فأخذ إبراهيم سارة والخادمة لامرأته وذهب إلى فلسطين، وشاء الله أن تحمل هاجر حيث تسراها بدون عقد، والتسري مشروع، فأنجبت إسماعيل، فاستشاطت سارة غيظاً، وقالت: أنا امرأة إبراهيم لا يولد لي، وهذه جارية خادمة يولد لها؟! فما أطاقت أن تشاهد الطفل ولا أمه، فأمر الخليل بأن يخرج بهاجر وابنها إلى جبال فاران بالوادي الأمين، ومن عجيب ما أخبرنا به أبو القاسم صلى الله عليه وسلم أن هاجر كانت تعفي بخمارها آثار رجليها وقدمي زوجها، حتى لا تعرف سارة أين ذهبا! وانتهى بها وطفلها إلى جبال مكة، وما كان بمكة أحد، وتسمى جبالها بجبال فاران، والقصة واردة في الكتاب والسنة واضحة، نذكر منها ما به العظة.وتركها مع طفلها ومعها دلاوة فيها ماء وجراب فيه بعض التمر، وقفل راجعاً، فلما أدبر واتجه نحو الشام صاحت به هاجر تقول له: آلله أمرك بهذا؟ إلى من تتركنا يا إبراهيم؟! آلله أمرك بهذا؟ ثلاث مرات، فقال: نعم، قالت: إذاً: فاذهب فإنه لن يضيعنا! من يأخذ بهذا؟ من يفهمه؟! ما دام ربي قد أمرني ألا أكذب ولا أسرق ولا أفجر ولا أطفف ولا فوالله لن يضيعني؟ فلم نسرق؟ لم نكذب؟ لم نتعاطى الربا والقوت بيد ربي؟ عجب حال هذه المرأة! قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً: فاذهب فإنه لن يضيعنا!
    وتتجلى الحقيقة، حيث نفد الطعام ونفد الماء، وإذا بالطفل يتلوى من شدة العطش، وهي تسعى ترنو يميناً وشمالاً لعلها تسمع صوتاً أو ترى شخصاً، وإذا بها ترى أقرب جبل إليها وهو الصفا، فتأتيه فتعلو فوقه وتنظر يميناً وشمالاً علها ترى أحداً، فما رأت فهبطت، ولما وصلت إلى الوادي أسرعت، وخبت فيه خبباً حتى تجاوزته وارتفعت، وانتهت إلى المروة فارتفعت فوقها، وهكذا سبعة أشواط، ثم سمعت النداء، وإذا بجبريل واقف عند الطفل، فلما وصلت إليه ضرب الأرض بكعب رجله فصارت زمزم وذهب جبريل، فأخذت تحوضه وتغرف من الماء في سقائها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم -أو قال: لو لم تغرف من الماء- لكانت عيناً معيناً ) هذه هاجر.
    الامتحان بذبح إسماعيل والبشارة بإسحاق ومن بعده يعقوب
    وامتحن الله إبراهيم محنة أخرى، أوحى إليه أن يذبح إسماعيل، يذبح ولده، وما كان منه إلا أن جاء إلى مكة وأمر أمه بأن تهيئه للذبح، فغسلته ونظفته وأخذه إلى منى، والمدية في يده، وطرحه على الأرض وتله للجبين، وإذا بجبريل قد جاء بكبش أملح يقول له: دع هذا وخذ هذا، قال تعالى: ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )[الصافات:107].وقد امتثل أمر الله وما تردد وقال: كيف أذبح طفلي؟! أو ما حاجة ربي لهذا الولد؟ كما قال له إبليس في منى.
    قال تعالى: ( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ )[هود:71]، هذه البشرى مقابل الامتحان والابتلاء، هذا إسحاق بشرى؛ لأن إبراهيم شيخ كبير وامرأته عاقر لا تلد، قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ )[الأنعام:84] يعقوب هو إسرائيل وهو ابن إسحاق، الوالد والولد والحفيد، إبراهيم الوالد، والولد إسحاق، والحفيد يعقوب الملقب بإسرائيل، هذه نعمة الله أم لا؟ فكيف يعبد غير الله؟!
    قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا )[الأنعام:84]، كل واحد من هؤلاء -الجد والأب والابن- هديناه إلى طريقنا حيث محابنا يأتونها، ومكارهنا يتركونها ويتخلون عنها، هذا إفضال الله وإنعامه، والحديث عن يعقوب والد يوسف الصديق ابن الصديق، والنكبة التي أصابته بأخذ طفله من بين يديه يوسف حديث ذو شجون، حيث بكى حتى ابيضت عيناه وعمي! أحداث جسام، ولكن صبروا ففازوا، ونحن ما يصيبنا شيء مما أصابهم ولا نصبر، ونجاهر بالباطل والشر والعصيان والعياذ بالله تعالى.
    معنى قوله تعالى: (ونوحاً هدينا من قبل)
    قال تعالى: ( وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ )[الأنعام:84] أيضاً قبل إبراهيم، إبراهيم من ذرية نوح، ونوح عليه السلام أول رسول حارب الشرك والمشركين والوثنية وأهلها، وعاش يدعو إلى الله عز وجل ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولم يستجب له سوى نيف وثمانين نسمة بين رجل وامرأة! وكانت كارثة الطوفان، فأرسل الله تعالى عليهم السماء تسيل بالمياه، والأرض تفور بالمياه: ( فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ )[القمر:10]، فأجابه الله تعالى، قال: ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ )[القمر:11-12]، وركب السفينة ومن معه وجرت السفينة على الماء حتى هلك العالم بأسره.(وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ )[الأنعام:84]، نوح هديناه، ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ )[الأنعام:84]، يصح أن تقول: من ذرية إبراهيم، ويصح أن تقول: من ذرية نوح، ولكن كونه نوحاً أقرب إلى السياق، ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ )[الأنعام:84] والكل من ذرية من إبراهيم أيضاً، وهل إبراهيم ليس من ذرية نوح؟ وهل إسحاق ليس من ذرية نوح؟ الكل من ذريته.
    الإنعام على إبراهيم عليه السلام بكون داود وسليمان من ذريته
    (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ )[الأنعام:84]، وهذان ملكان غنيان كريمان من أكثر الخلق عبادة، وحسبكم ما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في داود: ( أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) ولا يعيقه ذلك أو يقعد به عن الجهاد! ( وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ) السدس الأخير.
    ذكر خبر داود عليه السلام في قتله جالوت وتوليه الملك
    وماذا تعرفون عن داود؟ داود له بداية، لما فسق بنو إسرائيل وفجروا -كما فسقنا وفجرنا- ولبست نساؤهم الكعب الطويل سلط الله عليهم البابليين، فاجتاحوا ديارهم، وأسروا رجالهم واستعبدوهم ومزقوا البلاد، وفعلوا الأعاجيب بهم.فجاء شيوخ بني إسرائيل بعد فترة من الزمان إلى أحد أنبيائهم -يقال له: حزقيل- فقالوا: عين لنا ملكاً علينا نقاتل تحت رايته.
    والآن بعض الجماعات في بلاد العروبة والإسلام ما يعرفون هذا وما سمعوا به، ونحن نقول آلاف المرات: يا أيتها الجماعات الغاضبة -في نظرها- لله، وتريد أن تقيم الدولة الإسلامية! قتالكم بهذه الصورة وجهادكم باطل باطل، والعاقبة السوأى عائدة عليكم، بايعوا إماماً تبايعه أمتكم، وحينئذ التفوا حوله واعبدوا ربكم بما شرع لكم، حتى إذا اكتملتم وأصبحتم أهلاً للجهاد خاض بكم معارك الجهاد.
    أما الاغتيالات والعمل في الظلام ثم يقال: نحن نقاتل ونجاهد؛ فهذا منكر وباطل وعاقبته أسوأ ما تكون!
    بنو إسرائيل وهم جهال مضطهدون جاءوا إلى نبيهم وقالوا: اجعل لنا ملكاً نقاتل وراءه، لماذا ما قالوا: نقاتل نحن؟ أما فهمتم؟ ( قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )[البقرة:246].
    أزيد فأقول: لو أن إخواننا الفلسطينيين- وهم أولى بهذا- اجتمعوا رجالاً ونساء وأطفالاً والتفوا حول إمام وبايعوه وما اختلفوا عليه، ثم تدربوا على العبادة والطاعة والاستقامة حتى كملوا في ظرف سنوات، ثم قاتلوا اليهود؛ فوالله ليخرجنهم من ديارهم.
    أما الاغتيالات والتحمسات والجماعات فكل هذا باطل باطل باطل، ولن ينتج إلا الدمار والخراب، ومع الأسف أنه يوجد علماء يقولون لهم: هذا يجوز! فما النتيجة؟ دلونا عليها! هذا هو عمى البصائر.
    عجيبة هذه القصة، حيث قالوا: اجعل لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، لم لا تقاتلون بدون ملك؟ الجواب: هذه ضرورة؛ لأن كلمتنا تختلف، وسيوفنا تتضارب ولا بد من وحدة.
    فعين لهم ملكاً فقالوا: هذا فقير ما عنده كذا ولا كذا، ما هو بشريف، اختاروا أن يكون من صفاته كذا وكذا، ثم تمت الموافقة، وخرج بهم بأربعين ألف مقاتل، ولما كانوا كأمثالنا مزعزعين مضعضعين اختبرهم بأمر الله، قال: غداً نمر بواد بنهر الأردن، ولم يأذن لكم الله أن تشربوا منه، إلا من اغترف غرفة بيده ليطفئ لهب العطش فقط، وما إن وصلوا إلى الماء حتى أكبوا عليه كالبهائم يشربون! وما صبروا؛ لأنهم ما عندهم إرادات ولا علم ولا بصيرة، ولم يبق منهم إلا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً ما شربوا، إلا من اغترف الغرفة المأذون فيها.
    ورجع أولئك الهابطون مهزومين، والتقى جيش طالوت قائد بني إسرائيل وملكهم بالعدو المقابل جالوت ، وبدأ القتال بالمبارزة كما هي الطريقة القديمة في البشرية، تلتقي الصفوف ثم يخرج واحد يقول: من يقاتل؟ فيخرج الثاني حتى تشتعل حرارة الحرب ويندفع بعضهم على بعض، هذه الآن انتهت؛ لأن القتال خداع وفي الغيبة، فلما خرج جالوت كالجبل نادى: من يبارز؟ من يقاتل؟ فما استطاع أحد من بني إسرائيل أن يتقدم أمام هذا الطاغية، فتقدم داود وهو شاب صغير عليه السلام، وقال: بسم الله ورماه بحجر واحد فانهد كما ينهد البناء وسقط، من ثم عين خليفة لطالوت ، وبعد وفاته تولى الملك، وأوحي إليه ونبئ، وأصبح رسول الله وملك المؤمنين، وأنجب ولداً ألا وهو سليمان. ذكر بعض قصص داود وسليمان عليهما السلام
    ولهما قصص، منها: أن سليمان كان يلعب أمام المحكمة وهو فتى، ووالده داخل المحكمة، فجاءت امرأتان تشتكيان، فقالت إحداهما: هذه أخذت ولدي. فداود عليه السلام ما وفق للحكم، فخرجتا من عنده إحداهما تبكي والأخرى تقول: هذا ولدي، فقال سليمان: ائتوني بسكين أشقه بينكما، فقد حكمنا بأن نقتل الولد، فقالت أمه: لا تفعل، هو ابنها! لا تذبحه يا نبي الله هو لها، فعرف أن هذه أمه فأعطاه إياها، وأدب الأخرى.وكذلك قصة الغنم التي قال الله تعالى فيها: ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ )[الأنبياء:79] قبل أن ينبأن أ
    ، (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا )[الأنبياء:79].
    وسليمان عليه السلام لما ملك وحكم كان في حياته أحداث كثيرة أيضاً، منها: أنه نذر لله نذراً فقال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة منهن ولداً يقاتل في سبيل الله.
    وشاء الله ألا تحمل واحدة منهن، إلا واحدة ولدت نصف ولد فقط بعد تسعة أشهر، فجيء فقيل له: هذا هو الولد، وهو ملقى على سرير لا يتحرك، فعرف سليمان وندم؛ لأنه ما قال: إن شاء الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون )، لو قال: تلد كل واحدة كذا إن شاء الله ما كان يقع هذا، فهذه خذوها، لا تقل لشيء: سأفعل كذا حتى تقول: إن شاء الله، وإلا فإنك تخيب وتندم.
    ذكر بعض خبر أيوب عليه السلام وبيان المنة الإلهية على إبراهيم بدخول يوسف وموسى وهارون في جملة ذريته
    قال تعالى: ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ )[الأنعام:84] أيوب عليه السلام أيضاً كان ملكاً؛ لأن هؤلاء كانوا ملوكاً وحكاماً صالحين، وأيوب وقع أيضاً في واقعة، حيث قال تعالى عنه: ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ )[الأنبياء:83-84]، لكن ما سبب هذا الضر؟لقد وقع له كما وقع لغيره من الامتحانات، فامتحنه الله عز وجل فصبر، ثماني عشرة سنة وهو على الأرض، وكان قد نذر نذراً إن شفاه الله ليضربن امرأته مائة ضربة، فأفتاه الله عز وجل بأن يجمع مائة عود خفيف ويضربها بها ضربة واحدة، الله أفتى أيوب كما يفتي العالم الناس: ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ )[ص:44].
    قال تعالى: ( وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ )[الأنعام:84] هؤلاء كلهم حكموا وسادوا وأحسنوا، كانت ميزتهم الحسن، أحسنوا في عبادتهم لربهم، وأحسنوا في قضائهم وحكمهم، وأحسنوا إلى الناس أجمعين فلم يسيئوا إلى أحد، فلهذا قال تعالى: كما جزيناهم نجزي المحسنين.
    ذكر بعض خبر زكريا ويحيى عليهما السلام
    ثم قال تعالى: ( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ )[الأنعام:85]، وهؤلاء ما كان فيهم ملك ولا حاكم، ولكن كانوا ربانيين شهداء صالحين، فقال تعالى فيهم: ( كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ )[الأنعام:85]، وزكريا أبو يحيى ويحيى ولده، وحادثتهما في القرآن أن زكريا عليه السلام كان قد بلغ الكبر وكانت امرأته عاقراً، وتاقا للولد واشتاقا له، وشاهد حنة والدة مريم كيف ولدت مريم، فلما رآها ولدت مريم ونمت وكبرت، وولدت مريم عيسى، لما شاهد هذه المعجزة قال: ( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى )[آل عمران:38-39] مع كبر سنه وعقم امرأته، وبشره الله بيحيى عليه السلام، وزكريا ويحيى قتلهما بنو إسرائيل، فهما شهيدان.وعيسى بن مريم كذلك عزموا على قتله، وكان عابداً لله صالحاً، عزموا على قتله ولكن الله أنقذه ورفعه إليه.
    (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ )[الأنعام:86]،كل هؤلاء ما كان فيهم ملك ولا سلطان ولا كانت لهم دولة، بخلاف الطائفة الأولى؛ ولهذا قال: ( وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ )[الأنعام:86] كل واحد منهم أفضل الناس في زمانهم ذلك.
    تفسير قوله تعالى: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم)
    ثم قال تعالى: ( وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِ مْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاه ُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ )[الأنعام:87] أي: وأوجدنا من آبائهم وذرياتهم أناساً صالحين ربانيين علماء أنبياء من الآباء والذرية، ( وَاجْتَبَيْنَاه ُمْ
    )[الأنعام:87] اصطفيناهم واخترناهم، ( وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[الأنعام:87] ألا وهو دين الله الذي هو الإسلام.هنا -معاشر المستمعين- ثمانية عشر نبياً ورسولاً في هذه الآيات، هم: إبراهيم، إسحاق، يعقوب، نوح، داود، سليمان، أيوب، يوسف، موسى، هارون، زكريا، يحيى، عيسى، إلياس، إسماعيل، اليسع، يونس، لوط، ثمانية عشر، وأهل العلم يقولون: خمسة وعشرون نبياً تجب معرفتهم على كل مؤمن ومؤمنة. فالرسل ثلاثمائة وأربعة عشر، ما نستطيع أن نحفظهم، والأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً، لكن هؤلاء الذين ذكروا في القرآن يجب على المؤمن والمؤمنة أن يعرفاهم، ثمانية عشر في هذه الآية، وسبعة هم: هود وصالح شعيب وإدريس وذو الكفل وآدم ومحمد صلى الله عليه وسلم.
    وقد ذكروهم في ثلاثة أبيات من الشعر:
    حتم على كل ذي التكليف معرفة في تلـــــــك حجتنــــا منهـــم ثمانيــــــــــ ة
    إدريس هــود شعيــب صـالح وكــــذا أنبياء على التفصيـــل قـــــــد علمــوا
    من بعد عشر ويبقى سبعة وهـمو ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا إفضال الله، هذا إنعام الله ينعم على من يشاء، ويتفضل على من يشاء، ولكن الذين يشاء التفضل عليهم والإنعام هم الذين يقرعون بابه، ويطرحون بين يديه، ويبكون ويسألون ويتضرعون، أما المستنكفون المستكبرون المستغنون عن الله فهيهات هيهات أن ينعم الله عليهم أو يكرمهم.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    والآن مع هداية هذه الآيات:
    [ أولاً: سعة فضل الله ]، دلت الآيات على سعة فضل الله، بدليل ما يعطي وما يهب لمن يشاء من عباده.

    [ ثانياَ: خير ما يعطى المرء في هذه الحياة ] الدنيا، هل الولد؟ امرأة؟ وظيفة؟ مال؟ قال: [خير ما يعطى المرء في هذه الحياة الهداية إلى صراط مستقيم ]، ولا تقل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة )، ذاك للمؤمنين، فخير ما يعطاه الآدمي أو الجني هو أن يهديه الله تعالى إلى صراط مستقيم، ألا وهو الإسلام، فيسلم قلبه ووجهه لله ويعبد الله تعالى بما شرع من أنواع العبادات؛ حتى يتوفاه الله مؤمناً صالحاً، ويدخله في الصالحين.
    [ثالثاً: فضيلة كل من الإحسان والصلاح ]، حيث وصف تعالى جماعة من الأنبياء بالصالحين وأخرى بالمحسنين.
    إذاً: يدل هذا على أفضلية كل من الإحسان والصلاح.
    الإحسان ما هو؟ أولاً: أن تعبد الله كأنك تراه، ومعنى هذا: أن عباداتك كلها صالحة، ما من عبادة يؤديها العبد وكأنه ينظر إلى ربه إلا أتمها وأحسنها وأداها على الوجه المطلوب، هذا الإحسان أولاً.
    ثانياً: أن يحسن إلى الخلق فلا يسيء إلى أحد منهم، وهذا هو الكمال، يحسن إلى الخلق فيبدأ بنفسه وبأقاربه ثم البشرية كلها، إما أن يعطيهم الخير أو يكف عنهم الأذى والشر.
    والصلاح ما هو؟ من هو الصالح؟ الصالح هو الذي يؤدي حقوق الله وافية، ما ينقص منها شيئاً، ويؤدي حقوق العباد كذلك، هذا عبد صالح، هذا رجل صالح، ما بخس الله حقه ولا بخس أي إنسان حقه الذي وجب له؛ ولهذا فهاتان الفرقتان في درجة عالية.
    [ رابعاً: لا منافاة بين الملك والنبوة أو الإمارة والصلاح ]، لا منافاة بين الملك والنبوة، يكون نبياً ويكون ملكاً، كيف عرفنا هذا؟ أما كان داود ملكاً؟ وسليمان أما كان ملكاَ؟ وهما نبيان ورسولان، فما هناك منافاة أبداً بين الملك والنبوة، ولا بين الإمارة والنبوة.
    [خامساً: فضيلة الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ]، من أين أخذنا هذا؟ من شأن إسماعيل عليه السلام، فهل كان ملكاً؟ هل كان أميراً؟ كان يعيش في مكة، يصيد ويأكل الذبيحة أم لا؟ كذلك اليسع ويونس ولوط كلهم كانوا فقراء، لكن كانوا زهاداً في الدنيا مقبلين على الآخرة، والله تعالى ذكر الصالحين وذكر المحسنين، وذكر هؤلاء وأثنى عليهم فقال: ( وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى الْعَالَمِينَ )[الجاثية:16] لزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة.
    والله تعالى أسأل أن يجعلنا وإياكم من الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة.
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #388
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (25)
    الحلقة (387)
    تفسير سورة المائدة (18)



    ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم الكثير من الأنبياء والرسل، ومنهم أولو العزم صلوات الله وسلامه عليهم، وقص على نبيه صلى الله عليه وسلم قصصهم وحالهم مع أقوامهم ودعوتهم لهم وصبرهم عليهم، ثم أمره تعالى بالاقتداء بهم وبهداهم، رغم أنه صلى الله عليه وسلم هو أفضلهم وأكملهم، ولكنه في حاجة إلى من يعضده ويشد من أزره وهو يعاني الآلام والكروب في مكة وما حولها، فجاء ذكرهم صلوات الله عليهم ليصبره ويثبته لإكمال طريق الدعوة وتبليغ الدين.
    تفسير قوله تعالى: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله ربه بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة الأنعام المكية التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث التي نسمعها مجودة مرتلة من أحد التلامذة، ثم نشرحها إن شاء الله ونبين مراد الله منها.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )[الأنعام:88-90].
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )[الأنعام:88]، تقدم في السياق أن ذكر تعالى لنا ثمانية عشر نبياً ورسولاً، هو الذي اصطفاهم واجتباهم وأرسلهم هداة للعالمين.
    النبوة اصطفاء والهداية مطلب
    إذاً: قال تعالى: ( ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )[الأنعام:88]، إذا كان الهدى هو النبوة والوحي والرسالة فهذا لا يطلب ولا يسأل، وإنما الله يختار من هو أهل لأن يحمل رسالته فيصطفيه وينبئه ويرسله، وما عدا النبوة والرسالة ممكن، فمن قرع باب الله تعالى سائلاً ضارعاً فالله لا يرده، أي: من طلب في صدق الهداية إلى الصراط المستقيم وجد في الطلب فلك أن تحلف بالله أن الله لا يخذله، لا بد أن يهديه وأن يوفقه، ويهيئ له الأسباب حتى يبلغ مراده مما طلب من الله وهو هدايته؛ ليمشي طول حياته على منهج الحق، يحل ما أحل الله، ويحرم ما حرم الله، وينهض بما أوجب الله من الأقوال والأفعال، ويتجنب ويترك ما نهى الله عنه وحرمه من الأقوال والأعمال.(ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )[الأنعام:88]، فإن كان المراد النبوة والوحي فهذا لا يطلب، لو سألت الله ألف سنة أن ينبئك فلن تنبأ، وليس من حقك هذا، فالرسالة والوحي والاصطفاء هذا لله عز وجل، يختار من عباده من يختاره وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، فسلم بما أخبر الله تعالى به، وأنه يهدي من يشاء من عباده، أما الهداية إلى الصراط المستقيم ذاك الصراط الذي نطلبه في كل ركعة من ركعاتنا فنقول: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )[الفاتحة:6-7]، هذه الهداية مستجابة، اصدق فقط يا عبد الله وصحح نيتك، وأقبل على ربك واسأله هدايته فإنه يهديك، لا أن يوحي إليك، ولكن يوفقك لأن تسأل أهل العلم، لأن تتعرف على الطريق فتعرفه، يوفقك إلى أن تكثر من الصالحات، فتزكو نفسك وتطيب وتطهر، فهذا يُسألُه الله ويطلب من الله، والله لا يحرم من سأله وطلبه.
    معنى قوله تعالى: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون)
    وقوله تعالى: ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:88] من هؤلاء؟ ثمانية عشر نبياً ورسولاً، نوح فإبراهيم وما بينهما وما بعدهما، هؤلاء كلهم لو أشركوا بالله في عبادة غيره لبطلت كل أعمالهم وهلكوا وإن كانوا معصومين، لكن هذا من باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة)، وهذا في عامة هذه المواكب الثلاثة: الصالحين والمحسنين والمطيعين البارين، ورسولنا صلى الله عليه وسلم واجهه الله تعالى على انفراده بهذا، إذ جاء من سورة الزمر قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[الزمر:65]، ما هو السر؟ ما هي العلة؟ ما هي الحكمة يا بصراء؟! الشرك كفر، بل أفظع أنواع الكفر؛ لأنك سويت بالله عز وجل مخلوقاً من المخلوقات، فأعطيته قلبك ووجهك، سويت مخلوقاً من هذه المخلوقات على اختلافها وجعلته إلهاً مع الله تركع له وتسجد، أو ترفع كفك وتتضرع وتسأل، أو تتقرب إليه بأدنى قربة تتقرب بها ناسياً ربك معرضاً عن مولاك، فهذا الذنب العظيم إذا حدث يحول النفس البشرية إلى عفن كامل ونتن كامل. وقد علمنا- وزادكم الله علماً- أن الحسنات تزكي النفس وتطهرها بمثابة الماء والصابون للأبدان والأجسام، وأن السيئات تخبث النفس وتعفنها كالأوساخ التي تعفن الجسم والثوب، والله لكما تسمعون، وهذه سنة الله، الطعام يشبع الآكلين أم لا؟ السم يقتل الآكلين أم لا؟ لا تتبدل سنن الله عز وجل، فالذنوب ليست على مستوى واحد، أليس قد علمنا أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر؟ والكبائر سبع، فالذنب إذا عظم يلطخ النفس ويحولها إلى نتن وعفونة.
    فمن هنا كان الشرك -والعياذ بالله- يقلب النفس إلى نفس شيطانية منتنة لا يقبلها الله تعالى، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، لا تقل: أنا إذا قلت: (يا سيدي فلان المدد)، (يا رسول الله أغثني) فماذا فعلت؟ إنه في نظرك ما فعلت شيئاً، لكن لو علمت أن دعاء غير الله وسؤال غير الله من أعظم أنواع الشرك لما قلت هذا!
    وشيء آخر للعقلاء والبصراء: فحين تقف تحت كوكب تسأله هل يجيبك؟ هل يسمع نداءك؟ هل يفرج كربك؟ الجواب: لا. حين تضع تمثالاً لشخصية مضت كنبي من الأنبياء، وتعكف حوله وتسأله هل يجيب ويعطيك؟ وحين تقف على قبر صالح من الصالحين وتناديه أن: يا فلان! الغوث الغوث، إني في كرب، أنت كذا. هل يسمعك؟ وإذا سمعه فأسألكم بالله: هل يجيبه فيقول: افعل وافعل؟! الجواب: لا، فكيف -إذاً- يفعل هذا العفن؟ ( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ )[ فاطر: 14] ، إن فرضنا أنهم سمعوا فلن يستجيبوا.
    خلاصة هذه الكلمة ونحن أمام كلام الله: أنه تعالى يقول لثمانية عشر رسولاً: ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:88]، فهل هناك بعد هذا من يقول: لا بأس، ماذا يكون إذا أشركت بالله؟! والشرك ليس معناه أنك تقول: فلان هو الله، أو هو الإله، ليس هذا شرطاً!
    زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مظاهر الشرك
    والرسول صلى الله عليه وسلم وضع أيدينا على كل مظاهر الشرك لو كنا ندرس سنته ونعرف منهجه وسيرته، ( نظر إلى أحد أصحابه وفي يده حلقة من حديد، فسأله: ما هذه يا فلان؟! قال: من الواهنة يا رسول الله! )، أصاب بالوهن في يدي فقيل لي: اتخذ هذه يزول الوهن طلباً للعلاج، فقال له: ( انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، وإنك لو مت وأنت ترى أنها تنفعك لمت على غير الفطرة )، فهل بعد هذا نعلق خيطاً أو حديدة؟! ويتحدث مع أصحابه فيقول له أحدهم: ( ما شاء الله وشئت يا رسول الله! فقال: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله وحده )، فكيف بالذي يقول: هذه بقرة سيدي فلان؟! هذا لسيدي فلان، قرابين يتقربون بها إلى الموتى إضافة إلى الدعاء والتضرع والسؤال والتلطف، وإن شككتم فقولوا للعسكر حول الحجرة النبوية: ابتعدوا اليوم وأعطوا الناس راحة، وتعال اسمع، ستسمع دعاء ما سئل الله به، ولا يبكون بين يدي الله ولا يتضرعون كما يفعلون أمامه صلى الله عليه وسلم!
    فالله تعالى هو القائل: ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:88]، فكيف نسوغ لمؤمن أن يقول: يا سيدي فلان؟! أو يحلف: يا فلان؟! أو ينحني ويركع لفلان؟!
    (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا )[الأنعام:88] من باب الفرض فقط ( لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:88]، كل أعمالهم الصالحة من الجهاد والخير والبركات والعبادات كلها تفوت، تزول وتفنى.
    تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ...)
    ثم قال تعالى: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ )[الأنعام:89]، أولئك السامون الأعلون أصحاب المقامات السامية، أولئك الذين أعطيناهم الكتاب: التوراة لموسى، الإنجيل لعيسى، الزبور لداود، الصحف لإبراهيم، وصحف موسى، وما إلى ذلك، والكتاب اسم جنس. (وَالْحُكْمَ )[الأنعام:89] الحكم ليس هنا بمعنى: الدولة والسلطان، أعطاهم الحكم بمعنى: الحكمة، الإصابة والسداد في الأمور كلها، فقه العبد وفهمه لأسرار الشريعة، والحكمة: ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا )[البقرة:269].
    (وَالنُّبُوَّةَ )[الأنعام:89] إذ ما منهم إلا نبي، وجمع الله لهم بين النبوة والرسالة، كل الثمانية عشر أنبياء ورسل، والنبوة أولاً والرسالة بعدها، كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً؛ إذ قد يكون نبياً ولا يكون رسولاً، ما أرسله الله إلى أمة من الأمم، ولكن نبأه وأخبره وأوحى إليه وكلمه.
    معنى قوله تعالى: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين)
    ثم قال تعالى: ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ )[الأنعام:89]، والخطاب هنا لرسول الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا )[الأنعام:89] أي: بهذه الدعوة، من هؤلاء الذين يشير إليهم؟ إنهم أهل مكة، قريش ومن إليها وما حولها.(فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ )[الأنعام:89] وعلى رأسهم المهاجرون والأنصار، ثم كل مؤمن صادق الإيمان إلى يوم القيامة.
    رؤيا الشيخ محمد رشيد رضا المتعلقة ببشارة مأخوذة من الآية الكريمة
    وهنا عندنا لطيفة رزقناها الله في هذا المساء، ومن غضب سامحناه، فبالأمس أحد الطلبة قال لآخر: أنا لا أجلس عند هذا، أكرهه، فقم! وأقول: الحمد لله أن وجد من يكرهني، أما أنا فوالله ما آذيت مؤمناً قط. فالحاصل أني الآن كنت أطالع في تفسير المنار للشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا رحمة الله عليهما، ومن إخوانكم من يسبهما، فلا إله إلا الله!
    فكنت عند هذه الآية، وهي قوله تعالى: ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ )[الأنعام:89]، قال الشيخ: بعدما كتبت هذه الآية وشرحتها بزهاء شهر رأيت في المنام أني في مكان وإذا بموكب من الرجال في أنوار تتلألأ ووجوه مشرقة، وقدموا أحدهم فأثنوا عليه وقمنا فسلمنا عليه، وقالوا: هذا الذي يعيد إلى الإسلام ما فقده، إن كفر بها هؤلاء فهؤلاء يستردونها. قال: فأخذت أفكر من هو الذي يقوم الآن بدعوة الإسلام بعد ما هبطت؟! وكان هذا أيام العثمانيين، ورأى في المنام أنهم قالوا: إن الصحف الأوروبية كتبت أن شخصية إسلامية شأنها كذا وكذا. قال: فاستيقظت فبحثت عن هذا الذي يقوم بهذه.
    وما حصل شيء معه، فلاح في خاطري -ولو كان الشيخ حياً لبلغته- أن هذا الذي أحيا هذه الدعوة بعدما ماتت أو كادت تموت هو عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ! والله العظيم لقد أحياها، قبله ماتت الدعوة الإسلامية، عمَّ الشرك كل ديار المسلمين، خيمت الخرافة والضلالات، أيس العالم من أن الإسلام يحكم، أيس الكفار والمسلمون على حد سواء أن يوجد من يقطع اليد أو يرجم الزاني، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وصفقت الدنيا كلها، فالعالم الإسلامي آيس محكوم ببريطانيا وفرنسا وإيطاليا، والعالم كله واضع رجليه على العالم الإسلامي، وشاء الله عز وجل أن تتحقق تلك الرؤيا، ويظهر هذا الرجل وينشر دعوة الله، ويتحقق التوحيد قبل كل شيء، ثم تطبق شريعة الله على مسمع من العالم بأسره، والدنيا كلها ساخطة وغاضبة، هذا الذي عثرت عليه الآن.
    قال تعالى: ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ )[الأنعام:89] ألا وهم المهاجرون والأنصار، نهضوا بها أم لا؟ ثم كل مؤمن ومؤمنة يوحد الله ويدعو إلى توحيده إلى يوم القيامة، اللهم اجعلنا منهم.
    تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده...)
    (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ )[الأنعام:89-90]، الإشارة هنا إلى الثمانية عشر نبياً ورسولاً، ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ )[الأنعام:90] هداهم إلى ماذا؟ إلى صراط مستقيم، إلى الطريق الموصل إلى رضوان ربهم وجواره في الملكوت الأعلى، بعد أن طابوا وطهروا في هذه الحياة.(أُوْلَئِ كَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ )[الأنعام:90]، هذه الهاء -يا طلبة العلم- جيء بها هنا للسكت فقط، وإلا فالفعل: اقتدى يقتدي اقتدِ يا فلان. وقرئت (اقتد) بحذف الهاء وصلاً.
    (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ )[الأنعام:90]يا رسولنا! مع أنه أفضلهم وأكملهم، ولكنه في حاجة إلى من يعضده ويشد من ساعده وهو يعاني الآلام والكروب في مكة وما حولها، فاقتد بهم في صبرهم وثباتهم وجهادهم، وما ذاقوا من مرارة، أما قتل يحيى؟ أما قتل زكريا؟ أما سجن يوسف؟ اذكر هذا كله واثبت واقتد بهم.
    ولا نقول: الاقتداء بهم في شرائعهم؛ لأن تلك الشرائع نسخها الله عز وجل، وما كان لا ينسخ كالتوحيد، فالتوحيد لا ينسخ بحال من الأحوال، هو هو من عهد آدم، أما باقي الشرائع من الحلال والحرام فالله يجدد للناس بحسب حاجاتهم وظروفهم، لكن الآداب والأخلاق كالصبر والثبات والتواضع وكذلك العبادة هذاه كلها يقتدى بهم فيها.
    وأعطيكم لطيفة أفضح بها نفسي، وأنتم انظروا إلى حالتي وسبوا أو اشتموا، فذلك غير مهم! لأن بعض الناس لا يعرفون الاقتداء، فقد كنت طفلاً وعندي صديق أبوه رجل كبير، فكنا إذا لعبنا في البستان وجاء الشيخ الكبير يصلي نصلي معه، فكان يصلي ركعتين بعد صلاة المغرب وهي السنة، فيقرأ في الركعة الأولى بالفاتحة وآية الكرسي، وفي الركعة الثانية بالفاتحة والصمد، فوالله ما تركت ذلك من صباي إلى ما قبل سنتين وأنا هكذا، ولما وجدت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين بعد المغرب بالكافرون والصمد تركت ذلك وعدت إلى السنة.
    فأنا أقول: المؤمن يقتدي بالصالحين، فإذا وجد بعد ذلك السنة فإنه يعدل عن ذلك، ولكن لا يشتمه ويسبه ويقول الجهل والجهالة، بل يتأدب ويتلطف ويقول: رحمهم الله!
    أزيدكم ثانية: كنا نصلي ثماني ركعات يوم الجمعة قبل صلاة الجمعة، وقبل سنتين جاء شيخ إما من القصيم أو من الرياض فصلى عشر ركعات؛ فقلت أنا: لماذا لا أصلي أنا عشراً؟! وإلى الآن ونحن نصلي عشر ركعات، ولو جاء من تزمت ويقول: لماذا؟ أقول: ما هو من شأنه، فأنا أصلي عشر ركعات واقتديت بهذا العبد الصالح، هل اقتديت به في معصية الله أو في باطل؟ صلى عشر ركعات، فأنا أولى بهذا، فسأصلي عشراً.
    فعلى كل عاقل ذي بصيرة أن يقتدي بالصالحين، يسلك مسالكهم في مخاطباتهم، في معاملاتهم، في عباداتهم، في صالح أعمالهم، بذلك يهتدي.
    (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ )[الأنعام:90]، يقتدي بالهدى لا بالبدعة أو الخرافة والضلالة والشركيات، إذا رأيت من هو على هدى من الله عز وجل فائتس به بهذه الآية الكريمة، فرسول الله يقول له ربه: اقتد بالسابقين! هكذا يقول تعالى: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ )[الأنعام:90] إذاً: ( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ )[الأنعام:90].
    معنى قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين)
    ثم قال له: ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا )[الأنعام:90]، يا أيها الناس! إني أبلغكم دعوة الله، ولا أطلب منكم مالاً لا ديناراً ولا درهماً، هكذا يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ؛ فلهذا يجب على مبلغ دعوة الله ألا يأخذ من الناس ديناراً ولا درهماً، فأيام كانوا يأخذون ضلت الأمة كلها، ينصب المرء نفسه عالماً تقبل يده ورجله ويرسل إليه بالهدايا وكذا، بل أعظم من هذا أن يخلو حتى بالنساء! إنه الجهل. (فَبِهُدَاهُمُ )[الأنعام:90] لا بضلالهم ( اقْتَدِهِ )[الأنعام:90]، إن رأيت من هو ذو هدى فاقتد بهداه واسلك سبيله، أما أن تقتدي بالظالمين بالمفسدين بالمشركين بالضلال بالخرافيين فلا! لا تقتد حتى تعرف الهدى، فإذا عرفت الهدى فقل: فلان مهتد سأقتدي به، ولكن إذا كان ضالاً فمن أين له الهدى؟ فإن اقتديت به فقد رضيت بضلاله.
    (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا )[الأنعام:90] بلغهم يا رسول الله، يشهد العرب والناس أجمعين أنه لا يطلب على هذا البلاغ أجراً، لا دجاجة مشوية ولا حفنة تمر، فضلاً عن دينار ودرهم!
    ثم قال تعالى: ( إِنْ هُوَ )[الأنعام:90] أي: ما هو ( إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )[الأنعام:90]، ما هذا القرآن الكريم الذي نقرؤه ونشرحه إلا ذكرى للعالمين أجمعين، ما من إنسان يفهم هذه اللغة أو تترجم له ويسمع كلام الله، ويصغي ويحضر نفسه إلا دخل النور في قلبه وتذكر، ( ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )[الأنعام:90] أبيضهم وأسودهم، لكن مع الأسف ما قدمنا هذا للناس.
    فكرة الشيخ في رسالة الدعوة للكفار
    أزيدكم بشارة أخرى: هي رسالة عرفتموها، وهي دعوة خير إنسانية عامة، أرسلناها إلى ثمانية عشر مسئولاً ابتداء من خادم الحرمين إلى الشيخ عبد العزيز بن باز ، وكل أغنياء المملكة، وكل الجماعات التي تقوم بالدعوة، وطالبناهم أن يترجموها إلى سبع لغات من البريطانية إلى الأردية، وأن يطبع منها ملايين، وهي أصغر من حجم الكف، وتوضع تحت نظر الجاليات والمراكز الإسلامية في العالم، ويؤمرون بتوزيعها، والله لو تم هذا وعشتم لبلغكم الأعداد الكثيرة التي دخلت في الإسلام. والله تعالى يقول: ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )[الأنعام:90] يتذكر بها كل إنسان، وهي رسالة قيمة خاطبنا فيها الكافر بلطف وذوق وأدب فلا يشعر بشيء يؤلمه أبداً، حتى يعرف كتاب الله ويقرأه، فهذا كلام الله: ما القرآن إلا ذكرى للعالمين، والله تعالى أسأل أن يحقق هذا، وأن يبارك في هؤلاء الذين يقومون بالترجمة. قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    [ هداية الآيات: أولاً: الشرك محبط للعمل كالردة والعياذ بالله تعالى]، ما الردة؟ شخص قام أربعين سنة، وحج أربعين عاماً، وجاهد أربعين سنة، ثم قال كلمة الردة؛ فانمحى كل شيء من عمله وخرج من الإسلام، فكذلك الشرك.
    [ ثانياً: فضل الكتاب الكريم والسنة النبوية ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ )[الأنعام:89].
    [ ثالثاً: وجوب الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم وأهل العلم والصلاح من هذه الأمة ]، يجب الاقتداء بالرسول وبالعلماء والصالحين في هذه الأمة.
    [ رابعاً: حرمة أخذ الأجرة على تبليغ الدعوة الإسلامية.
    خامساً: القرآن الكريم ذكرى لكل من يقرؤه أو يستمع إليه، وهو شهيد حاضر القلب ].
    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #389
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (26)
    الحلقة (388)
    تفسير سورة المائدة (19)

    الذين كفروا بالله عز وجل، وأنكروا دينه، وكذبوا رسله، إنما حملهم على ذلك أنهم حرموا معرفة الله حق معرفته، فلم يعرفوا صفاته الدالة على جلاله وكماله وعظمته، وهذا كان حال كفار قريش، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم عمن أنزل التوراة على اليهود الذين يبدون بعضها ويخفون البعض الآخر حسب أهوائهم وأطماعهم، ثم أمره أن يجيبهم -لأنهم لن يجيبوا من تلقاء أنفسهم- بأن الله هو منزل التوراة وكل الكتب السابقة، كما أنه هو منزل القرآن الذي ينكرونه، وقد جاء بالتصديق لما بين يديه من الكتاب، وجاء نذيراً لأهل مكة ومن حولهم من الأعراب.
    تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد- من يوم السبت والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، فلنستمع إليها مجودة مرتلة من أحد الأبناء، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )[الأنعام:91-92].
    معاشر الأبناء والإخوان! قول ربنا جل ذكره: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )[الأنعام:91] إي والله ما قدروا الله حق قدره وهم يعبدون معه أصناماً آلهة، ما قدروا الله حق قدره إذ أنكروا رسالته وكذبوا رسوله، ما قدروا الله حق قدره إذ حرموا من معرفة صفاته الدالة على جلاله وكماله ورحمته وعدله وإفضاله وإحسانه، ما قدروا الله حق قدره لا سيما إذ قالوا: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، أنكروا الوحي، وكذبوا الرسول، وكذبوا أن يكون القرآن كلام الله ووحيه، فهل الذي خلق البشر لا ينزل عليهم كتاباً يهديهم إلى سبيل سعادتهم وكمالهم؟ ولا ينزل عليهم كتاباً ليعلمهم ما يكملون به ويسعدون؟ أيتركهم كالبهائم يأكل بعضهم بعضاً؟! والله ما قدروا الله حق قدره وقد قالوا هذا القول.
    (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91] أي: الوحي، كذبوا بالتوراة والإنجيل والزبور وكل شيء، الكل أنكروه وقالوا: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، يقولون هذا ليموهوا على العوام، ولا شك أنهم رؤساء الضلالة الذين كانوا يقودون أهل مكة ومن حولهم.
    معنى قوله تعالى: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس ...)
    فعلم الله رسوله الحجاج وكيف يرد عليهم قولهم الباطل فقال تعالى: ( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ )[الأنعام:91]؟ وهم يعرفون هذا حق المعرفة، حيث تجارتهم في الشام في طول السير وهم متصلون باليهود والنصارى يعرفون أن الله أنزل التوراة على موسى، وأنزل الإنجيل على عيسى، لكن للمكابرة والتغطية والمجاحدة يقولون: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، فعلم الله رسوله أن يرد عليهم فيقول: ( مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ )[الأنعام:91] ألا وهو التوراة، والتوراة نور، على ذلك النور اهتدى خلق وأمم كثيرة، هذا الكتاب الذي هو نور وهدى طريق مستقيم إلى السعادة في الدارين من أنزله؟ ثم قال: ( تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ )[الأنعام:91]، وفي قراءة سبعية: ( يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً )، وهذه القراءة رجحها ابن جرير وهي تتفق مع هذا التفسير، أو نقول: الكلام الآن مع بني إسرائيل، مع اليهود، ولا يبعد أنهم زاروا مكة واتصلوا برجالها، وقالوا لهم: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، علموهم ذلك ليجاحدوا ويكابروا، قالوا: لا تقبلوا فكرة نزول القرآن على محمد، وإن قال لكم: أنزل الله التوراة فقولوا: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، اثبتوا على هذا. لأن اليهود يريدون منهم مواصلة الشرك والكفر والبقاء على ما هم عليه كالبهائم، فلا يبعد هذا.
    (قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ )[الأنعام:91] جمع قرطاس، وهو ورقة يكتب فيها الشيء الذي يريد أن يكتبه.
    (قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا )[الأنعام:91] تظهرون ما فيه صالحكم، وما يحقق لكم غرضكم وأهدافكم، ( وَتُخْفُونَ )[الأنعام:91] الأخرى التي فيها ضد ما تريدون، ( وَتُخْفُونَ كَثِيرًا )[الأنعام:91]، والقراءة التي رجحها ابن جرير هي: (يجلعونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً) وهم اليهود، يجعلونها قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً؛ فالمشركون قالوا: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، هذه الفكرة من أعطاهم إياها؟ اليهود، فقال تعالى: قل لهم: ( مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ )[الأنعام:91]، هذا الكتاب اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً، ما فيه مصلحة لدعوتهم الباطلة ومواقفهم المخزية ضد دعوة الحق يظهرونه، والآخر يخفونه!
    وقوله تعالى: ( وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ )[الأنعام:91] هذا يعود إلى العرب، بما أنزل الله عليهم من هذا القرآن العظيم، فهذه السورة -سورة الأنعام- سبقها سور نزلت، والرسول يتلوها عليهم ويبين لهم ما فيها من الهدى والخير.
    معنى قوله تعالى: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)
    ثم قال تعالى له: ( قُلِ اللَّهُ )[الأنعام:91] هذا جواب السؤال: ( مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ )[الأنعام:91] لهم: ( اللَّهَ )[الأنعام:91] الذي أنزل الكتاب! جواب للسؤال الأول، قالوا: ما أنزل الله من شيء، فقل: أنزل الله تعالى التوراة.(قُلِ اللَّهُ )[الأنعام:91] أي: هو الذي أنزل الكتاب، ( ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ )[الأنعام:91]، بين لهم الحقيقة التي أنكروها، قل: الله الذي أنزل الكتاب، واتركهم في خوضهم وباطلهم يلعبون كالصبيان، طول الليل والنهار وهم يهرفون ويتكلمون بلا طائل ولا نتيجة أبداً، وهذا شأن الضلال الخارجين عن هدى الله عز وجل.
    وفي هذا تعليم الله لرسوله وكيف يحتج على المشركين، وكيف يرد على باطلهم، وكيف يبين لهم الطريق، ولكن بأمر الله عز وجل وتدبيره.
    تفسير قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى وما حولها...)
    ثم قال لهم: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ )[الأنعام: 92]، إنه القرآن العظيم (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ )[الأنعام: 92]، فالكتب السالفة -التوراة، الإنجيل، الزبور، صحف إبراهيم وموسى- القرآن مصدق لها، ما أنكر كتاباً منها ولا كذبه، ولا كذب ما جاء في كتاب من تلك الكتب، (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى )[الأنعام: 92] يا رسولنا بهذا الكتاب، والمراد من أم القرى مكة، والقرى: الحواضر والمدن، لا على اصطلاح الجغرافيين المعاصرين، فالقرى: المدن التي يتجمع فيها الناس ويسكنونها بكثرة، فأم القرى وأم العواصم والحواضر مكة.(وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا )[الأنعام: 92] من بلاد العرب ومن حولهم من العجم، كلمة (من حولها) وراءها دائماً وأبداً. ‏
    معنى قوله تعالى: (والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون )
    (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ )[الأنعام: 92] أي: بالقرآن، ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ )[الأنعام: 92] بالمعاد والحياة الثانية، وما يجري فيها وما يتم من جزاء عادل، فأهل الإيمان والصلاح في دار السلام، وأهل الشرك والكفر والمعاصي في دار البوار، هذا الذي يتم في الدار الآخرة، ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )[الأنعام:92].لتنذر أم القرى ومن حولها، وتنذر الذين يؤمنون بالآخرة، ( يُؤْمِنُونَ بِهِ )[الأنعام: 92] أي: بالقرآن ( وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )[الأنعام:92].
    وهنا إشارة إلى أنه عند نزول هذه السورة ما كان هناك شرائع وأحكام إلا الصلاة؛ إذ هي أول فريضة فرضت وأول عبادة تعبد الله بها المؤمنين في مكة، وما فرضت إلا في السنة العاشرة من الوحي، فصلى الرسول والمؤمنون بمكة ثلاث سنوات، ثم لما انتقل المدينة وهاجر أخذت الشرائع والأحكام تنزل حكماً بعد آخر.
    فقوله تعالى: ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ )[الأنعام: 92] يشير إلى القرآن العظيم، و(مبارك) أي: الخير فيه إلى يوم القيامة، ( مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ )[الأنعام: 92] من الكتب السابقة، ما أنكر القرآن الكتب السابقة بل قرر وجودها ودعا إلى الإيمان بها، بل وفرضه على المؤمنين، ( وَلِتُنذِرَ )[الأنعام: 92] يا رسول الله ( أُمَّ الْقُرَى )[الأنعام: 92] يعني: أهلها، ( وَمَنْ حَوْلَهَا )[الأنعام: 92] من المدن والقرى، ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ )[الأنعام: 92]، وهنا بيان سبب الكفر والشرك والمعاصي، وهو التكذيب بالبعث والجزاء، هو عدم الإيمان بالدار الآخرة.
    أما من آمن بأن هناك حياة أخرى يتم فيها الجزاء على الكسب في هذه الدنيا؛ فهذا مستعد لأن يؤمن بكل ما أمر الله بالإيمان به، ومستعد لأن يطيع الله ورسوله فيما يستطيع ويقدر عليه، بخلاف المكذب بالبعث والدار الآخرة.
    (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ )[الأنعام: 92] أي: بهذا القرآن الكريم، وبمن نزل عليه وأنزل عليه، ( وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )[الأنعام:92] تلك الصلاة التي فرضها الله عليهم يحافظون عليها فيؤدونها في أوقاتها وبشروطها وأركانها التي لا بد منها، لتزكي أنفسهم وتطهرها.
    ملخص لما جاء في تفسير الآيات
    اسمعوا الآيات مرة ثانية:يقول تعالى: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )[الأنعام:91] من هؤلاء؟ إنهم المشركون الكافرون، من جملة ذلك: ( إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، أنكروا أن يكون الله أنزل القرآن أو التوراة أو الإنجيل أو الزبور أو غيرها من الكتب الإلهية.
    وقد قلت لكم: إنهم يعلمون هذا ويعرفونه، ولكن للعناد والمكابرة ليستمروا على تكذيبهم وكفرهم قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء. فعلم الله رسوله أن يرد فقال: قل لهم: ( مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا )[الأنعام:91]، من هؤلاء؟ إنهم اليهود أيضاً.
    (وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ )[الأنعام:91]، علمتم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات في مكة وبينه، وما حصل لآبائهم وأجدادهم، تعلموا ما لم يتعلم آباؤهم وأجدادهم.
    ثم علم الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم الجواب على قولهم: ( مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ )؟ فقال: قل لهم: الله هو الذي أنزل. ( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى )[الأنعام:91] الجواب: ( قُلِ اللَّهُ )[الأنعام:91] الله الذي أنزله.
    (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ )[الأنعام:91] اتركهم في باطلهم؛ لأنهم أعرضوا وأبوا أن يستجيبوا، يكفيك ذلك.
    (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ )[الأنعام:92] إشارة إلى هذا القرآن العظيم، مبارك لا يفارقه الخير أبداً في كل الزمان والظروف، ( مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ )[الأنعام:92] من الكتب الإلهية، ( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى )[الأنعام:92] يا رسولنا ( وَمَنْ حَوْلَهَا )[الأنعام:92] من البلاد، ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ )[الأنعام:92] الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بالقرآن الكريم، ( وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )[الأنعام:92] يؤدونها في أوقاتها بشروطها ومتطلباتها لتزكي أنفسهم وتطهرها.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير
    معنى الآيات
    الآن نستمع إلى تفسير هذه الآيات بالتفصيل من الكتاب:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ ما زال السياق مع العادلين بربهم ] الذين عدلوا به الآلهة والأصنام والأحجار، قال: [ ما زال السياق مع العادلين بربهم أصنامهم وأوثانهم؛ فقد أنكر تعالى عليهم إنكارهم للوحي الإلهي وتكذيبهم بالقرآن الكريم إذ قالوا: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، ومن هنا قال تعالى: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )[الأنعام:91] أي: ما عظموه كما ينبغي تعظيمه لما قالوا: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، ولقن رسوله الحجة فقال له قل لهم: ( مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا )[الأنعام:91] يستضاء به في معرفة الطريق إلى الله تعالى وهدى يهتدى به إلى ذلك ] أي: إلى ذلك الطريق، [ وهو التوراة التي جعلها اليهود قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها حسب أهوائهم وأطماعهم.
    وقوله: ( وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ )[الأنعام:91] أي: وعلمكم الله بهذا القرآن من الحقائق العلمية كتوحيد الله تعالى وأسمائه وصفاته، والدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم وعذاب أليم ]، فهذا ما كانوا يعرفونه قبل القرآن أبداً.
    [ ثم أمر الرسول أن يجيب عن السؤال الذي وجهه إليهم تبكيتاً: ( قُلِ اللَّهُ )[الأنعام:91] أي: الذي أنزل التوراة على موسى هو الله جل جلاله وعظم سلطانه. ( ثُمَّ ذَرْهُمْ )[الأنعام:91] أي: اتركهم ( فِي خَوْضِهِمْ )[الأنعام:91] أي: في الباطل ( يَلْعَبُونَ )[الأنعام:91]، حيث لا يحصلون من ذلك الخوض في الباطل على أي فائدة تعود عليهم، فهم كاللاعبين من الأطفال. هذا ما تضمنته الآية الأولى.
    أما الآية الثانية فقد تضمنت: أولاً: الرد على قول من قال: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، أي: كيف يقال: ما أنزل الله على بشر من شيء وهذا القرآن بين أيديهم يتلى عليهم أنزله الله مباركاً لا ينتهي خيره ولا يقل نفعه، مصدقاً لما سبقه من الكتب كالتوراة والإنجيل، أنزلناه ليؤمنوا به، ( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى )[الأنعام:92] أي: أهلها ( وَمَنْ حَوْلَهَا )[الأنعام:92] من المدن والقرى القريبة والبعيدة، لينذرهم عاقبة الكفر والضلال فإنها الخسران التام والهلاك الكامل.
    وثانياً: الإخبار بأن الذين يؤمنون بالآخرة -أي: بالحياة في الدار الآخرة- يؤمنون بهذا القرآن، وهم على صلاتهم يحافظون، وذلك مصداق إيمانهم وثمرته التي يجنيها المؤمنون الصادقون ].
    هداية الآيات
    والآن مع هداية هاتين الآيتين:[ أولاً: كل من كذب الله تعالى أو أشرك به أو وصفه بوصف لا يليق بجلاله فإنه لم يقدر الله حق قدره ]، وذلك لقوله تعالى: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91] كذبوا الله عز وجل.
    [ ثانياً: بيان تلاعب اليهود بكتاب الله في إبداء بعض أخباره وأحكامه وإخفاء بعض آخر، وهو تصرف ناتج من الهوى واتباع الشهوات وإيثار الدنيا على الآخرة ]، إذ قال تعالى: ( تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ )[الأنعام:91] يبدون بعضها ويخفون البعض، هذا التصرف ناتج عن ماذا؟ عن رغبتهم في الدنيا وإعراضهم عن الآخرة.
    [ ثالثاً: بيان فضل الله تعالى على العرب بإنزال هذا الكتاب العظيم عليهم ] أي: على نبيهم [بلغتهم لهدايتهم ]، وهذا فضل عظيم، فلنحمد الله ونشكره.
    [ رابعاً: تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية الحجاج والرد على المجادلين والمكذبين ]، وذلك بقوله تعالى له: (قل).
    [ خامساً: بيان علة نزول الكتاب وهي الإيمان به وإنذار المكذبين والمشركين ]، لماذا نزل؟ ما العلة في نزوله؟ العلة هي: الإيمان به وإنذار المكذبين والمشركين بما أعد الله لهم من عذاب أليم.
    [ سادساً: الإيمان بالآخرة سبب لكل خير، والكفر به سبب لكل باطل وشر ]، لأن الذي لا يؤمن بلقاء الله وما يجري في الدار الآخرة كيف لا يظلم؟ كيف لا يعتدي؟ كيف لا يفجر؟ ما المانع إلا الخوف من العصا، وقد توجد العصا وقد لا توجد، لكن الذي في قلبه إيمان بلقاء الله والوقوف بين يديه، ثم الاستنطاق والاستجواب، ثم وزن الأعمال من حسنات أو سيئات، ثم الجزاء إما بنعيم مقيم أو بعذاب أليم، صاحب هذا الإيمان لا يقوى على معصية الله، ما يديمها أبداً، والله ما يستطيع، لكن الذي لا يؤمن بلقاء الله والوقوف بين يديه، أو آمن إيماناً سطحياً ما بلغ قلبه ولا تمكن من نفسه فإنه ممكن أن يعصي ويفجر، فالإيمان بالآخرة سبب لكل خير، والكفر به سبب لكل باطل وشر، إي والله العظيم.
    تحذير من التشبه بالكفرة في لبس البرانيط
    إذاً: معاشر المستمعين والمستمعات! مع ولاية الله عز وجل، وبين يدي الحديث عن محاب الله ومكارهه ينبغي ألا نسكت، لقد ظهرت هذه الظاهرة وأكثرنا ساكت، لا الهيئة ولا العلماء ولا الحكومة ولا المؤمنون، ظاهرة لبس البرانيط للأطفال من نساء وبنات وبنين، كيف السكوت عن هذه؟ البنت تحملها أمها وعلى رأسها برنيطة، شيء عجب هذا! والطفل يمشي مع أبيه في الخامسة من عمره أو السابعة والبرنيطة على رأسه! والشبيبة في العمر في خمسة عشر وعشرين سنة يمشي أحدهم والبرنيطة على رأسه!هذه الظاهرة كيف نفسرها؟ أسألكم بالله كيف تفسر؟ أليس معنى هذا أننا نريد أن نكون كالكفار؟ أليس معنى هذا التشبه بهم؟
    وأزيد فأقول: والله إن يداً وراء ذلك لتخفف من نفوس المؤمنين كره الكافرين والتغيض عليهم وبغضهم.
    إذاً: فهذا الزي يخفف ذلك، وعلماء النفس عندهم يعرفون هذه الحقائق ويعلمونها، كيف تلبس ابنك برنيطة على رأسه؟
    لقد قلت لكم: عاش العرب مستعمرين أذلاء تحت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وما كان واحد منهم يضع برنيطة على رأسه قط، والذي يلبس برنيطة يقولون عنه: ارتد، كافر ما هو بمؤمن، وبذلك حفظت هذه البقية الباقية من الإسلام، لو لبسوا البرانيط لارتدوا، واستحلوا ما حرم الله، وأصبحوا مسيحيين أو يهوداً، فكيف الآن بهذه الظاهرة في مدينة الرسول؟! ويأتي الزوار من الشمال ومن الشرق والغرب بأولادهم والبرانيط على رءوسهم!
    ممكن أن يقول أهل الغفلة وعدم البصيرة: أيش في ذلك؟ هذا لا يضر! هكذا إذا قلنا: هذا لا يجوز، يقول: أيش فيه؟ وما عرف ماذا فيه.
    أما قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( من تشبه بقوم فهو منهم )؟ من يرد على رسول الله؟ من تشبه فأراد أن يكون شبيهاً لهم فوالله لن ينتهي أمره حتى يكون محباً لهم.
    فلم لا نتكلم؟ يمر بك رجل ومعه ابنه فقل: يا عبد الله! هذا لا يجوز في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، برانيط على رءوسهم، والتجار الفجار الذين استوردوها لأجل المادة هل سألوا أهل العلم: أيجوز هذا أم لا؟ كيف يورد هذا في بلاد الإسلام بلاد القرآن لا لضرورة ولا لحاجة أبداً، ما هو إلا مد أعناقنا لنتلذذ هكذا بصفات الكافرين والمشركين.
    اللهم اشهد فقد بلغنا، ولن نسكت إلا إذا أُسكتنا بالعصا، فلا يجوز هذا أبداً، قل لي بربك: لما تجعل برنيطة على ولدك؟ هل ليسموا، لينموا، ليكمل، ليصفو، ليطيب، ليحفظ القرآن، ليحب الله ورسوله؟ ما هي الثمار؟ تقيه الشمس؟ لقد عشت أنت قبله ومن قبلك إلى رسول الله وما عملوا البرانيط، أما عاشوا في الشمس والحر؟
    يجب ألا نسكت، والحمد لله؛ فحين تكلمنا عن الأغاني انتهت والحمد لله، كنت إذا مرت بك مائة سيارة ما تجد عشر سيارات بدون أغان، والآن تمر مائة سيارة فيها واحدة صاحبها يغني والباقي ليس فيها ذلك، فالحمد لله.
    فما ينبغي أبداً أن نرى المنكر ونسكت بدون طائل.
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #390
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (27)
    الحلقة (389)
    تفسير سورة المائدة (20)

    أظلم الناس الذي يفتري على الله الكذب ويزعم أنه نبي يوحى إليه من عند الله، وهؤلاء الظالمون وكل ظالم عداهم إذا حانت ساعتهم، واقترب أجلهم، وكانوا في غمرات الموت جاءهم ملك الموت وأعوانه لينتزعوا أرواحهم، وهم أثناء ذلك يبكتونهم ويطلبون منهم إخراج أرواحهم ويتوعدونهم بالعذاب الأليم عند انتزاع الروح، والعذاب الأشد إيلاماً منه الذي ينتظرهم في الآخرة بسبب تكذيبهم وإعراضهم عن دين الله، واستغنائهم بما رزقهم الله عز وجل إياه في الدنيا من النعيم الزائل.
    تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن نستمع إلى آياتنا التي نتدارسها مرتلة مجودة أولاً، ثم نشرح ونبين مراد الله تعالى لنا منها.
    مداخلة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ )[الأنعام:93-94]. ‏
    عظم ظلم مفتري الكذب على الله ومدعي النبوة ومدعي القدرة على المجيء بمثل ما أنزل الله تعالى
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زلنا مع سورة الأنعام المكية، فقول ربنا جل ذكره: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ )[الأنعام:93] والله لا أظلم منه، لا أظلم ممن يكذب على الله، ويقول: أمر الله أو نهى الله والله لم يأمر ولم ينه، أو يقول: حرم الله أو أحل الله والله لم يحرم ولم يحل، أو يقول: أرسلني ربي إليكم رسولاً والله ما أرسله، أو يقول: إني أشفع لكم عند الله يوم القيامة والله ما شفّعه، أو يقول: لله شريك، أو لله شفيع، أو لله ولد، وينسب إلى الله تعالى من الأسماء والصفات ما الله تعالى منه بريء، هذا لا أظلم منه، وشأنه شأن المشرك بالله، المتخذ شريكاً لله يعبده مع الله، فقد افترى على الله أعظم الافتراء.(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا )[الأنعام:93] أولاً، ( أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ )[الأنعام:93]، يقول: أوحى الله إلي بكذا وكذا، وأنا نبي الله، وهذه الدعوى وجدت على عهد رسول الله في آخر حياته، فادعى كثيرون النبوة والرسالة على رأسهم مسيلمة الكذاب، والأسود وفلان وفلان، وهي قائمة وباقية.
    ما هناك أظلم ممن يدعي النبوة ويقول: إني يوحى إلي وأُعلَّم من طريق الله بما لم يُعَلِّمه الله، فأغلق الله تعالى هذا الباب، باب الدخول بدعوى أني نبي أو فلان يوحى إليه، هذا الباب مغلق، فإنه من أعظم الأبواب؛ إذ هو افتراء على الله وكذب للتضليل وإفساد البشرية.
    (وَمَنْ أَظْلَمُ )[الأنعام:93] أي: لا أحد، فالاستفهام للنفي، ( مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا )[الأنعام:93] فكذب على الله وقال: أمرني، أعطاني، أوحى إلي. ( أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ )[الأنعام:93].
    ثالثاً: ( وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ )[الأنعام:93] هذه مثلها.
    فهذه ثلاثة افتراءات كلها شر، ولا يرضى ذو عقل لنفسه أن يتصف بواحدة منها.
    إذاً: فكيف يردون على رسول الله دعواه النبوة والرسالة وأن القرآن ينزل عليه؟ لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه ولا أرسل لما كان سيجرؤ على أن يقول هذا، وهذا جزاء المفترين على الله الكاذبين عليه.
    هكذا يقول تعالى: ( وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ )[الأنعام:93]، النضر بن الحارث قال: نستطيع أن نأتي بمثل هذا القرآن، ولو شئنا لأتينا بمثله، وكلها ادعاءات باطلة وافتراءات مردودة، والله لا يستطيع أحد أن يأتي بآية واحدة، وتحداهم الله أن يأتوا بآية فما استطاعوا؛ إذ قال تعالى: ( وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[البقرة:23].
    معنى قوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم)
    ثم قال تعالى: ( وَلَوْ تَرَى )[الأنعام:93] أيها السامع ( إِذِ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:93] وهم الكاذبون على الله، المفترون عليه، المتجاوزون لحدوده، المحققون للباطل، المبطلون للحق؛ إذ كل هؤلاء ظلمة، إذ حقيقة الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فالذي يقول: فلان نبي فقد وضع النبوة في غير موضعها، والذي يقول: أنا نبي فكذلك.(وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:93] المشركون، المفترون على الله، الكاذبون عليه، المدعون النبوة، المدعون الوحي.. وما إلى ذلك، هؤلاء الظالمون لأنفسهم لو تراهم وهم ( فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ )[الأنعام:93]، والغمرات: جمع غمرة، غمره الماء: غطاه، غمره الحزن والكرب: غشيه وغطاه، غمرات الموت لا تعرفها إلا إذا حضرت من هو في سكرات الموت، لما تتجلى لك تلك الغمرة، يفيق لحظة ويغمى عليه لحظات.
    (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ )[الأنعام:93] حولهم، ملك الموت وأعوانه ( بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ )[الأنعام:93] لضربهم، ولو ترى لرأيت أمراً فظيعاً فيغمى عليك وما تقوى على أن تشاهده، والملائكة المراد بهم هنا: ملك الموت وأعوانه.
    (بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ )[الأنعام:93] بالضرب على وجوههم، ( أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ )[الأنعام:93]، والروح إذا شاهدت ملك الموت وكانت في الحلقوم ترجع إلى الأقدام، وتعود إلى كل جزء من أجزاء الجسم خوفاً من ملك الموت، وهذا ليس من باب التهويل، والله إنه لهو الواقع، هذا جزاء الظالمين، لو رأيت لرأيت أمراً عجباً وحالة أفظع.
    العذاب الأليم جزاء الظالمين لاستكبارهم وافترائهم على الله تعالى
    (وَالْمَلائِكَة بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ )[الأنعام:93] عذاب الذل والحقار والصغار والذل والدون، ( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ )[الأنعام:93] بسبب ما كنتم تقولون وتفعلون من أنواع الشر والباطل والظلم والفساد، ( بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ )[الأنعام:93] أولاً، ( وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ )[الأنعام:93] لا تصغون ولا تسمعون، لا تقبلون من يقولها، لا تعملون بها، بل تترفعون حتى لا تسمعوا كلام الله وما يحويه من الهدى والنور لعباد الله. فهل عينوا لهم الجريمة أم لا؟ قال تعالى: ( بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ) كنسبة الولد إلى الله وكنسبة الزوجة إليه تعالى، أليس هذا ظلماً؟ بلى. فالذي ينسب إليه مخلوقاً من مخلوقاته ويقول: هذا شريكه.. هذا شفيع عند الله أما كذب على الله؟ كالذي يدعي الوحي وأنه يوحى إليه، فهو كاذب على الله.
    (بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ )[الأنعام:93] أولاً، ( وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ )[الأنعام:93]، آيات الله القرآنية التي تحمل شرائعه، كانوا إذا سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ يتكبرون، إذا قيل لهم: قال الله كذا يتكبرون ويستكبرون، ولا يذعنون ولا يقبلون الحق، ولا يريدونه.
    تفسير قوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم...)
    ثانياً: قال تعالى: ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى )[الأنعام:94]، وهذا في عرصات القيامة وساحة فصل القضاء، ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى )[الأنعام:94] واحداً واحداً، لا أب معك، ولا أم، ولا أخ، ولا شيخ قبيلة، ولا ملك، ولا سلطان.. كل واحد يأتي على انفراد، ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى )[الأنعام:94] فرداً فرداً ( كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )[الأنعام:94]، هل نحن خلقنا مجموعات أم فرادى؟ فرادى، كل واحد خرج وحده.(كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )[الأنعام:94] ومعنى هذا أنهم حفاة عراة، وفي الحديث عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تحشرون حفاة عراة غرلاً. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال: الأمر أشد من أن يهمهم ذاك )، ماله أبداً قلب لينظر إلى العورة.
    (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ )[الأنعام:94] ما أعطيناكم، ما وهبناكم، ما رزقناكم من الذرية والمال وما إلى ذلك، تركتم ذلك ( وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ )[الأنعام:94] في الدنيا.
    أين المال؟ أين الرجال؟ أين الجيوش؟ أين الأولياء والأنصار؟
    (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ )[الأنعام:94] ماذا؟ ما أعطيناكم في الدنيا وراء ظهوركم.
    ثانياً: ( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ )[الأنعام:94]، أين الذين كنتم تؤلهونهم، تستغيثون بهم، تدعون أنهم يشفعون لكم؟ هاتوهم، والله لا أحد، ومن يقوى على أن يقول: أنا قلت له: أشفع لك؟ لا يقدر على هذا أحد، ( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ )[الأنعام:94] لله عز وجل فتعبدونهم بعبادة الله، إما بالذبح، وإما بالنذر، وإما بالعكوف حول قبورهم أو تماثيلهم.
    (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ )[الأنعام:94] البين الذي كان يربطكم تمزق، وما بقي، والبين: الذي يربط بين الشيئين كمن بيني وبينه أخوة، مصاهرة، مواطنة.. هذا البين كان بينك وبين هذا الصنم لأنك تعبده وتقول: يشفع لي، أو بينك وبين هذا الولي أو هذا النبي، تقطع ذلك الوصل نهائياً.
    (وَضَلَّ عَنكُمْ )[الأنعام:94] وغاب ما كنتم تزعمونه في الدنيا من أنهم شركاء وأنهم يشفعون، وأنهم.. وأنهم.. من تلك الترهات والأباطيل،كلها ضلت، ما يستطيع أحد أن يقول كلمة بين يدي الله: هذا كان لي شفيعاً، أو كنت أعتقد شفاعته.
    ملخص لما جاء في تفسير الآيات
    يقول تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ )[الأنعام:93]، هل هناك أظلم من هذا؟ ( وَلَوْ تَرَى )[الأنعام:93] يا رسول الله، ولو ترى أيها السامع ( إِذِ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:93] من هم الظالمون؟ الذين وضعوا الأمور في غير موضعها، بدل أن يبر بوالديه عقهما، بدل أن يحسن إلى المسلمين آذاهم وأساء إليهم، بدل أن يعبد الله عبد غيره.إذاً: ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ )[الأنعام:93] لا تذعنون ولا تخضعون ولا تطبقون حكماً من أحكام الله ولا طريقاً من طرائقه، حملهم على ذلك الكبر.
    وقالوا لهم: ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )[الأنعام:94] حفاة عراة أم لا؟ أم يخرج الإنسان وعنده سروال أو عمامة؟ ( كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ )[الأنعام:94]، أي: في الدنيا التي فنيت وذهبت، ( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ )[الأنعام:94] لله يشفعون لكم عند الله، ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ )[الأنعام:94] انفصلت تلك الصلة، ( وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ )[الأنعام:94] من أن لكم شفعاء وشركاء، وأنكم أولياء وما إلى ذلك.
    ذكر كلام الإمام القرطبي في حكم غلاة المتصوفة المعرضين عن الشريعة بدعوى تلقي المعرفة عن الله تعالى لصفاء قلوبهم
    وهنا نسمع القرطبي يذكر هذه القضية في أيامه، حيث عاش في القرن السابع، يقول: ومن هذا النمط -أي: المدعي للوحي ولم يوح إليه- من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن، فيقول: وقع في خاطري كذا، أو أخبرني قلبي بكذا، أو أخبرني قلبي عن ربي. فيحكمون بما وقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم، ويزعمون أن ذلك لصفائها -أي: صفاء قلوبهم- من الأكدار وخلوها عن الأغيار، فتنجلي لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية فيستغنون بذلك عن أحكام الشرع، ويقولون: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة... وهي زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا إلى جواب.وخلاصة ذلك أن الذين يعرضون عن كتاب الله وما فيه، وعن سنن رسول الله وما بين، وعما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ويخترع اختراعات ويدعي ادعاءات، منها أن هذه من شأن العوام، أما نحن الربانيون أولياء الله فنتلقى المعارف من الله، صفت قلوبنا وطهرت وذهب الغين والرين، وأصبحنا نتلقى المعرفة عن الله عز وجل!

    وهذا حدث والله العظيم، واستغلوا العوام هكذا واستعبدوهم، وتركوا الصلاة وفجروا بالنساء بدعوى أن مستواهم أرقى وأعلى من مستوى العوام، وأن الذي تشاهدونه أنتم ليس كما ترون، ويقول أحدهم: أخبرني قلبي عن ربي! أخبرني قلبي عن ربي أنه يحب كذا وكذا، أو يكره كذا وكذا من غير محاب الله ومكارهه! وهؤلاء هم غلاة المتصوفة.
    فالقرطبي قال: أمثال هؤلاء لا يستتابون، بل يقتلون، ولا تقبل لهم توبة؛ لأنهم وقفوا موقف من قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ومن قال: أنزل الله والله ما أنزل، ذلك الموقف هو الذي وقفوه.
    والحمد لله فهذا النوع من البشر انتهى، وقد يوجد هنا وهناك بقلة مغمورين بين الناس، والذي نريده أنا لا نقول على الله كلمة لم يقلها، لا نحل ولا نحرم إلا ما أحل الله وحرم، لا نشرع ولا نقنن إلا ما شرع الله وقننه وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد عرفتم جزاء المفترين على الله والكاذبين عليه.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات
    والآن نسمع شرح الآيتين في الكتاب:قال الشيخ غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ مازال السياق مع المشركين والمفترين الكاذبين على الله تعالى باتخاذ الأنداد والشركاء، فقال تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا )[الأنعام:93] بأن أدَّعى أن الله نبأه وأنه نبيه ورسوله، كما ادعى سعد بن أبي سرح بمكة ومسيلمة في بني حنيفة بنجد والعنسي باليمن] هؤلاء ادعوا النبوات [اللهم لا أحد هو أظلم منه وممن قال أوحي إلي شيء من عند الله ولم يوح إليه شيء وممن قال: ( سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ ) من الوحي والقرآن]، كالذي يقوله الصوفي: حدثني قلبي عن ربي؛ لأن قلبي طاهر صاف يتجلى في حقائقه الله عز وجل أو محاب الله ومكارهه.
    [ ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَلَوْ تَرَى )[الأنعام:93] يا رسولنا (إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ )[الأنعام:93] أي: في شدائد سكرات الموت، ( وَالْمَلائِكَةُ )[الأنعام:93] ملك الموت وأعوانه ( بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ )[الأنعام:93] بالضرب وإخراج الروح، وهم يقولون لأولئك المحتضرين تعجيزاً وتحدياً لهم: ( أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ )[الأنعام:93] بسبب استكباركم في الأرض بغير الحق؛ إذ الحامل للعذرة] الخرء [وأصله نطفة مذرة، ونهايته جيفة قذرة، استكباره في الأرض حقاً إنه استكبار باطل لا يصح من فاعله بحال من الأحوال ].
    أقول: قالوا لهم: بسبب استكباركم في الأرض. لماذا يستكبر الإنسان في الأرض؟ نسي أصله وأنه حامل العذرة في بطنه؟ أصله نطفة مذرة وسخة، ونهايته جيفة منتنة في المقبرة، كيف يستكبر هذا؟ من أين جاء حتى يستكبر؟ إنه استكبار ما هو بمتأهل له، ما له حق في أن يستكبر أبداً وهو يحمل العذرة، ومنشؤه من نطفة مذرة ونهايته جيفة قذرة! كيف يستكبر هذا؟ من أين جاء الحق الذي يستكبر به؟
    قال: [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية: فإن الله تعالى يخبر عن حال المشركين المستكبرين يوم القيامة حيث يقول لهم: ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى )[الأنعام:94] أي: واحداً واحداً ( كَمَا خَلَقْنَاكُمْ )[الأنعام:94] حفاة عراة غرلاً، ( وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ )[الأنعام:94] أي: ما وهبناكم من مال وولد ( وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ )[الأنعام:94] أي: في دار الدنيا، ( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ )[الأنعام:94] وأنتم كاذبون في زعمكم مبطلون في اعتقادكم، ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ )[الأنعام:94]، أي: انحل حبل الولاء بينكم، ( وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ )[الأنعام:94] أي: ما كنتم تكذبون به في الدنيا ] من أنواع الأباطيل والأكاذيب.
    هداية الآيات
    الآن نستخرج هداية الآيتين فتأملوا:[ أولاً: قبح الكذب على الله تعالى في أي شكل، وأن صاحبه لا أظلم منه قط ].
    الكذب على الله قبيح وبأي شكل، سواء قال: أحل الله، أو حرم، أو قال: أسماء الله كذا يكذب على الله، أو صفة الله كذا، كل ما ينسبه إلى الله والله منه بريء فهو من أقبح أنواع الظلم؛ لأنهم توصلوا إلى استعباد الأمم وعبادتهم بهذه الطريقة، يدعون كذا وكذا يكذبون على الله.
    [ ثانياً: تقرير عذاب القبر ]، من أين أخذنا تقرير عذاب القبر؟ من قوله تعالى: (وَالْمَلائِكَة بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ )[الأنعام:93].
    [ تقرير عذاب القبر، وسكرات الموت وشدتها، وفي الحديث: ( إن للموت سكرات )]، فما هي بسكرة واحدة.
    [ ثالثاً: قبح الاستكبار وعظم جرمه ]، فجريمة الاستكبار هل هي عظيمة أم لا؟ لا أعظم منها بدليل الآيات.
    [ رابعاً: تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا ].
    فهاتان الآيتان قررتا هذه، قررتا عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا، كيف دلت الآية عليه؟ ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )[الأنعام:94].
    [ خامساً: انعدام الشفعاء يوم القيامة إلا ما قضت السنة الصحيحة من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء والشهداء بشروط، هي: أن يأذن الله للشافع ] أولاً [ أن يشفع، وأن يرضى عن المشفوع له ].
    هذان الشرطان لا ننساهما، والله لا يشفع أحد يوم القيامة لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا عالم ولا صالح إلا بعد إذن الله تعالى له، وقبل أن يأذن الله مستحيل أن يشفع واحد، قال تعالى: ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى )[النجم:26] عن المشفوع له، وإن فرضنا أن عالماً أو نبياً أو ولياً أراد أن يشفع لك، فحينئذ هل هذا الذي تشفع له رضي الله عنه أو سخط، فإن لم يرض الله عنه فوالله ما تنفعه شفاعة، تدخله الجنة والله غير راض عنه؟ فلا بد من هذين الحقيقتين:
    أولاً: إذن الله لمن أراد أن يشفع.
    ثانياً: أن يكون الله راضياً عن هذا المشفوع له حتى يسمح له بدخول الجنة.
    ودلت على هذا آية النجم: ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ ( أولاً، ) وَيَرْضَى )[النجم:26].
    وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #391
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (28)
    الحلقة (390)
    تفسير سورة المائدة (21)


    الله عز وجل ينزل آياته القرآنية والكونية الدالة على وحدانيته وعظمته وقدرته، فهو سبحانه فالق الحبة والنواة وما هو أصغر منها، وهو مخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي، خالق الليل والنهار، ومقدر الأكوان والأجرام، كل هذا ليبين لعباده أنه سبحانه مستحق العبادة والتمجيد، دون هذه الأصنام والأوثان التي يعبدها أصحاب القلوب المريضة والعقول الحائرة، التي لا تغني عن نفسها شيئاً فضلاً عن أن تغني عمن يعبدها أو تضره أو تنفعه.
    تفسير قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث، وهيا نستمع إلى تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نأخذ -بفضل الله- في شرحها وبيان مراد ربنا تعالى منها.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ )[الأنعام:95-98]. ‏
    أهمية معرفة الله تعالى وطريق تحصيلها
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! لنعلم ما قد سبق أن علمناه، ولكننا غافلون وننسى، وحالنا دال على واقعنا، إن معرفة الله عز وجل من الضروريات، والذي لا يعرف الله معرفة حقيقية يقينية أنى له أن يعبده، وكيف يعبده وما عرفه؟معرفة الله لها شأنها، فيجب على كل آدمي ذكراً أو أنثى أن يسأل عن الله حتى يعرفه، فإذا عرفه أحبه أكثر من حبه لنفسه، وخافه أكثر من كل مخوف، وبذلك يسهل عليه أن يعبده عبادة تسعده في الدارين، تكمله وتسعده في هذه الحياة وفي الحياة الآتية التي هي لازمة ولا محالة منها.
    ومن طلب الله عز وجل وأراد أن يعرفه فعليه بالكتابين: كتاب الله القرآن العظيم، اقرأ واستمع وتدبر وتأمل تتجل لك صفات الرب الدالة عليه آياته، فتعرف الله بأسمائه وصفاته، ويدلك على معرفته حبك له، وخوفك منه: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )[فاطر:28].
    الكتاب الثاني: كتاب الكون، انظر في هذه الأكوان العلوية والسفلية، هذه النجوم وهذه الأفلاك، هذه الشمس وهذا القمر، انظر إلى هذه النباتات والجمادات، انظر إلى نفسك وما حولك: ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ )[فصلت:53].
    والمعرض الغافل اللاهي كالبهيمة لا هم له إلا الأكل والشرب والنكاح، كيف يعرف ربه؟ فالذي ما طلب ربه لا يجده، ولا يحصل معرفته، فيجب أن نتذكر ونتفكر حتى نعرف الطريق إلى ربنا عز وجل.
    معنى قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى)
    وها نحن مع هذه الآيات الثلاث والتي بعدها، حيث يقول تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى )[الأنعام:95] من يفلق الحب لتخرج منه السنبلة؟ هل هو أبي أو أمي؟ حبة ميتة يفلقها وتخرج منها السنبلة، من يفعل هذا سوى الله؟ ونواة التمر من يفلقها حتى تخرج الفسيلة وتصبح نخلة عالية ذات قنوان وتمور، من يفعل هذا؟ إنه الله تعالى. من يشير إلى كائن بأن هذا فعل فلان؟ فكيف -إذاً- لا يعبد الله تعالى وتعبد الأهواء والشهوات، وتعبد الأصنام والتماثيل والأحجار، أو تعبد الكواكب والنجوم، ويعمى الإنسان عن خالقها ومكونها وموجدها؟
    (إِنَّ اللَّهَ )[الأنعام:95] يا من أعرضوا عن ذكره وأقبلوا عن دنياهم وهواهم، وتمثلت لهم الشياطين في أصنام وأحجار وعبدوها، اعلموا أن الله ( فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى )[الأنعام:95]، ولا أحد في الكون يفلق الحب ليخرج منه الزرع أو يفلق النواة ليخرج منها الشجرة أو يخرج منها النخلة، من فعل هذا؟ ما هناك جواب إلا الله، إذاً: لم لا يُحب ولا يُخاف؟ لم يلتفت إلى غيره ويترك هو؟
    صور من قدرة الله تعالى على إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي
    ثانياً: ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ )[الأنعام:95] ولهذا صور: فالنطفة المذرة ميتة، من يخرج منها إنساناً ذكراً أو أنثى، طفلاً أو طفلة؟ هل يد الإنسان؟ أو أطباء الناس؟ أو السحرة؟ الجواب: لا أحد إلا الله، وهذا الإنسان الحي من يخرج منه تلك النطفة المذرة؟ من أوجدها فيه؟ من أخرجها منه؟ إنه الله تعالى.
    والحب الميت يخرج الله منه سنابل وأشجاراً، والسنابل والأشجار يخرج منها حباً ميتاً، وأقرب من هذا البيضة تخرج منها الدجاجة، والبيضة ميتة تعبث بها بيدك، فيخرج الله منها الدجاجة حية، والدجاجة الحية تخرج ميتاً، فمن أخرج هذا الميت من هذا الحي؟ هل هناك من يشارك الله في هذا؟ ليس في الكون كله من يفعل ذلك إلا الله، فلهذا يجب ألا يكون معبود العالمين سوى الله تعالى، لم تعبد الأهواء والدنيا والشهوات، وتعبد الأصنام والأحجار، وتعبد بعض المخلوقات كما عبدوا عيسى وألهوه وألهوا أمه، وكما عبدوا اللات والعزى ومناة من أوثان الجاهلية الأولى؟!
    معنى قوله تعالى: (ذلكم الله فأنى تؤفكون)

    إن الله جل جلاله وعظم سلطانه هو فالق الحب والنوى، يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ( ذَلِكُمُ اللَّهُ )[الأنعام:95]، ذلكم الذي يفعل ما سمعتم هو الله، إذاً: ( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ )[الأنعام:95] كيف تصرفون عنه إلى غيره؟ كيف تصرفون عن معرفته، عن طلب حبه ورضاه، كيف تصرفون عنه إلى الأوثان والأصنام والشهوات والأهواء؟ ( فَأَنَّى ) كيف، يا للعجب! كيف يؤفكون؟ من يأفكهم ويصرفهم؟ الشياطين هي التي تلعب بقلوبهم وبنفوسهم.عجب هذا! ( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ )[الأنعام:95] كيف تصرفون عن الله عز وجل وتعبدون غيره؟ أو كيف تصرفون عن عبادته وذكره وتلتهون بالأباطيل والألعاب وتنسون ربكم؟ أمر عجب.
    تفسير قوله تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكناً...)
    وقوله: ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ )[الأنعام:96] الإصباح: الصبح، فمن يفلق رأس الليل ويشقه ويخرج منه الصبح؟ إنه الله سبحانه وتعالى، ولو اجتمعت يد البشرية كلها والإنس والجن على أن يأتون بالفجر الآن فهل يستطيعون؟فمن يفلق ذلك الظلام ويشقه ويخرج منه نور الصباح؟ من يفعل هذا سوى الله؟ كيف لا يتعرف إليه، كيف لا يعبد؟ كيف لا يذل له ويخضع؟ لولا أن الشياطين تعبث بقلوب الإنس والجن لتصرفهم عن الحق ليعبدوا الباطل.
    (فَالِقُ الإِصْبَاحِ )[الأنعام:96]، وتعرفون قولهم: فلق رأسه، أي: أخرج مخه، فظلمة الليل كيف تفلق ويخرج منها الصبح والإصباح؟ هل يد إنسان تفعل هذا؟ لو اجتمعت البشرية كلها فلن تفعل هذا، والله تعالى يفعل هذا لماذا؟ هل لأنه في حاجة إليه؟ لا والله، ولكنه من أجلك يا ابن آدم، من أجلك أيها الإنسان، فاذكر هذه النعمة واشكر الله عليها.
    (فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا )[الأنعام:96] تسكن فيه الأبدان والأرواح، وتسترجع ما فقدته في عمل النهار، فيسكن كل شيء في الإنسان ويهدأ ويستقر، وينام نوماً يعوضه طاقاته التي بددها في النهار في أعماله.
    مخالفة الناس السنة الإلهية والنبوية بالسهر في الليل لغير حاجة ومصلحة
    ونحن ما شكرنا هذه النعمة، والذي نشكوه أننا حولنا الليل إلى نهار، عكسنا مراد الله، أحلف بالله لو كنت أملك الأمر لما زدت في الكهرباء من بعد العشاء فوق ساعة ونصف، الآن أطفالهم وأولادهم يلعبون طول الليل، ونساؤهم ورجالهم يسهرون، نعكس مراد الله! هل يليق هذا؟ هل رسول الله ما علم؟ لقد نهى رسول الله المؤمنين عن الحديث والتحدث بعد صلاة العشاء ليناموا، ولم يسمح إلا بمؤانسة ضيف أو طلب علم أو زوجة تلاعبها، نهى عن النوم قبل صلاة العشاء، فمكروه أن تنام قبل صلاة العشاء، ونهى عن الحديث بعد صلاة العشاء، هذه هي التعاليم المحمدية، ونحن عكسنا فأصبح الليل كله كالنهار، وتأتي عجائب المفاسد والشرور، وخاصة الأحداث الذين يتيهون في الليل، ولو كان الظلام دامساً عاماً فهل هناك من سيخرج؟
    في أوروبا يختلف الوضع عنه عندنا، إذا جاء الليل يقل ذلك النور وذلك الهيجان، ودعنا من الكفار، فنحن نقول: امتن الله علينا بأن جعل الليل سكناً، فقلنا: نجعله حركة، بدل السكون حركة، ثم لو كنا نعمل بجد فنصنع وننتج مضطرين فإنا نقول: ممكن أن يعفو الله عنا، فنحن في حاجة إلى هذا العمل، لكن السهر كله لهو وأحاديث وأباطيل، المفروض أنه إذا صلينا العشاء نغلق أبوانا، لا دكان ولا مصنع ولا معمل، والناس في بيوتهم يذكرون الله وينامون ليستيقظوا آخر الليل، وعلى الأقل يستيقظون مع الفجر ليصلوا صلاة الصبح.
    الآن كفرنا هذه النعمة وجحدناها، وأنكرناها وما بالينا بها، ( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا )[الأنعام:96] يسكن فيه الإنسان براً أو فاجراً، كافراً أو مؤمناً، من فعل هذا؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه.
    معنى قوله تعالى: (والشمس والقمر حسباناً)
    (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا )[الأنعام:96] ماذا نقول عن الشمس والقمر؟ ماذا نعرف؟ لو اطلعنا على ما قرره علماء الفلك بواسطة هذه الأجهزة لعرفنا أن النجوم ملايين، وأن من النجوم ما هو أكبر من شمسنا هذه التي هي أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، وأن الأبعاد بين هذه الكواكب لا تقاس بالكيلو متر والمليمتر، تقاس فقط باللحظة والثانية، فلا إله إلا الله! من أوجد هذا العالم العلوي؟ إنه الله سبحانه وتعالى. من أوجد هذه النجوم؟ وامتن علينا بنعمته أننا نعرف بها الطريق إلى ديارنا، إلى أقاليمنا، إذا سافرنا في البحر فهي أعلام تدل على الطريق، والبر كذلك، لو لم تكن الطرق معبدة كيف تعرف الشرق من الغرب؟ تسير بالكواكب، فمن كوكب هذه الكواكب؟ من نظمها في الملكوت الأعلى؟ ليس إلا الله، إذاً: فوالله لا إله إلا الله، وأقبح إنسان من عرف غير الله وعبد غير الله، وهو الفاعل العزيز الحكيم.(وَالشَّم ْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا )[الأنعام:96] بدقة بنظام الحساب، لا تتقدم أو تتأخر ثانية ولا لحظة ولا دقيقة، وبذلك عرفنا ساعات الليل وساعات النهار، وعرفنا الأيام والأسابيع والشهور والسنين، وفي ذلك مصالحنا وعهودنا وعقودنا.. وما إلى ذلك، كيف نعرف أوقات الصلاة؟ أوقات الصيام؟ كيف نعرف الحج؟ كيف وكيف لولا الشمس والقمر؟
    معنى قوله تعالى: (ذلك تقدير العزيز العليم)
    (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ )[الأنعام:96] الذي سمعتم مما يحار فيه العقل البشري ( تَقْدِيرُ )[الأنعام:96] إيجاد وتنظيم ( الْعَزِيزِ )[الأنعام:96] الذي لا يغلب أبداً ( الْعَلِيمِ )[الأنعام:96] بدقائق الأمور وجلائلها، ظواهرها وبواطنها، سرها وعلانيتها، كل ما في الأكوان العلوية والسفلية بيده تعالى، لا يخفى عليه من أمر الأكوان شيء، فكيف لا يحب؟ كيف لا يخاف؟ وهل أريكم فضيحتنا؟ والله لو عرفنا الله تعالى معرفة حقيقة لكانت فرائصنا ترتعد إذا تكلمنا معه، فنحن نقف نصلي وقلوبنا لاهية، وأبصارنا تائهة، وأجسامنا خافتة، فأنت مع من تتحدث؟ مع من تتكلم؟
    فصلاتنا كلها لا شيء، فلم لا نتلذذ بالكلام معه؟ لم حين نتكلم مع صديق أو قريب نجد لذاذة للكلام وينشرح الصدر، وتتكلم مع الله كأنك تتكلم مع ميت، هذه زلة عظيمة وهذا هو واقعنا.
    (ذَلِكَ )[الأنعام:96] الذي سمعتم ( تَقْدِيرُ )[الأنعام:96] من؟ إيجاد من؟ تدبير من؟( الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ )[الأنعام:96] غلبة وعزة لا تقهر، علم لا يخفى عليه شيء، فكيف لا يخاف؟ كيف لا ترتعد منه النفوس والقلوب؟ كيف يعصى؟ كيف لا يُطلب؟ وكيف لا يتعرف إليه؟
    تفسير قوله تعالى: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر...)
    وفي الآية الثالثة يقول تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[الأنعام:97]، ماذا عرفنا عن النجوم؟ لا شيء. أولاً: هذه النجوم تعد الحصى في الوادي ولا تعدها، هناك نجم ما يصل نوره إلينا إلا بعد سنتين أو ثلاث، هناك نجوم أكبر من الشمس، والتباعد بينها لا تقدره أبداً، والمسافات بالسنين، فهذه النجوم من أظهرها وأوجدها؟ هل وجدت من نفسها؟ إن هذا الكلام عبث وسخرية، والذي يقول هذا يصفع على وجهه، ما تستطيع أن تثبت أن كأساً من الماء جاء بنفسه، ما تستطيع أن تقول: إن هذا العمود وجد بنفسه! كيف توجد هذه الأكوان نفسها؟ أين عقلك يا ابن آدم؟ لا خالق إلا الله، الله هو الخالق ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )[الأعراف:54].
    قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )[الأنعام:97] إي والله فصلها، بينها، شرحها، أظهرها، لكن للعالمين: ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )[الأنعام:97]، أما الذين لا يعلمون فلا ينتفعون بهذا، هذا التفصيل للآيات بهذا الازدواج وبهذا العرض، وبهذه الأحداث الكونية من فصله؟ إنه الله تعالى. ولمن فصله؟ هل للجهال الذين لا ينتفعون به؟ ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )[الأنعام:97].
    إذاً: يجب أن نعلم، حرام أن نبقى جهالاً، نطلب حتى نعلم، من أراد أن يعلم فليطلب، كما نطلب علم أمور الحياة: أين بيت فلان؟ في الشارع الفلاني. لمن هذه السيارة؟ لفلان. فإذا لم تسأل فكيف ستعلم؟ يجب أن نسأل حتى نعلم، وإلا فلن ننتفع بهذه الآيات المبينة الموضحة المفصلة التي لا إجمال فيها بل على غاية البيان.
    تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع...)
    ثم قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ )[الأنعام:98] ألا وهو آدم، أنشأنا نحن بني آدم من نفس واحدة ألا وهي آدم أبو البشر عليه السلام.ذكروا حكاية صنعها اليهود عليهم لعنة الله، وقلدهم المجانين والحمقى والتائهون والملاحدة، وتبجح بها أيضاً حتى العرب والجهال في مدارسهم إلا أن الله أخبتهم، قالوا: الإنسان أصله قرد، ودرست هذه النظرية الداروينية في مدارس العرب، وهي كفر وكذب وبهتان وباطل، وفضحوا، دفنوا رأس خنزير أو كلب في الأرض كذا سنة ثم أخرجوه وقالوا: هذا هو أصل الإنسان، أصله قرد، وتبجح بها الملاحدة وصفق لها الذين لا يؤمنون بالله وقالوا: الإنسان أصله قرد!

    إن الذي يقول هذه الكلمة كذب وكذّب الله والبشرية كلها، ولعنة الله عليه حياً وميتاً، فالله تعالى تولى خلق آدم على أجمل صورة، في أحسن تقويم، ثم تقول: لا. أصل الإنسان قرد، وتطور القرد! لم ما تطورت البغال والحمير والذئاب والكلاب وبقيت على صورتها؟ القرد فقط هو الذي تطور!
    لقد بكينا وندبنا أيام كانت الفكرة شائعة منذ ثلاثين سنة في مدارسنا، نظرية داروين، والله يقول: ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ )[النساء:1] ألا هي نفس آدم عليه السلام، وتطلق النفس على البدن والروح، ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ )[آل عمران:185] كل إنسان.
    (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ )[الأنعام:98]، الإنشاء: اختراع وإيجاد بدون صورة ولا مثال، الإنشاء عندنا أن ينشئ كلاماً أو شعراً أو أشياء جديدة ليس لها نظير في السابق، فالله تعالى أنشأنا بلا سابق لذلك من نفس واحدة، أما نقول: لك الحمد، لك الشكر؟ أليس هو الذي أنشأنا؟ لم لا نقول: الحمد لله؟ نحمده ونشكره مقابل هذا الإنعام إنعام الإيجاد والإمداد.
    قال تعالى: ( أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ )[الأنعام:98] ولهذا معان كلها صالحة، أحسنها أن المستقر أي: في الأرحام، والمستودع: في أصلاب الرجال، هل يخرج الإنسان من غير هذين الموضعين؟ أين محل استقراره؟ في الرحم، وأين هو مستودع ومتروك لوقت معين؟ في الظهر، في ظهر الإنسان، في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وهل هناك مكان غير هذا وهذا؟ لا.
    ثم بعد هذا منا المستقر في قبره، ومنا المستودع ثم يموت فيستقر في القبر أيضاً، كما أننا مستودعون الآن مستقرون يوم القيامة، والكل صالح، لكن الوجه الأول أقرب.
    (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ )[الأنعام:98] المستقر: هو المستقر في الرحم والقرار له، والمستودع: صلب الرجل وظهره؛ لأن ماء النساء من الصدور، وماء الرجال من الظهور، من الأصلاب.
    حاجتنا إلى الفقه في دين الله تعالى وفهم أسرار شريعته
    قال تعالى: ( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ )[الأنعام:98]، من القائل هذا؟ الله، قد فصلنا الآيات التفصيل الذي سمعتم ( لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ )[الأنعام:98]، والفقه أعلى من العلم، العلم تتوصل به إلى معلوم غائب، وبذلك تصبح فقيهاً، الفقه: معرفة أسرار التكليف والشرع، فقه: إذا فهم أسرار هذه العبادات وهذه الشرائع. إذاً: يجب أن نتعلم لنصبح عالمين ونطلب العلم لنصبح فقهاء متفقهين، أما الجهلة أصحاب ظلمة النفس فمطالبتهم بالاستقامة كالمطالبة بالمستحيل، كيف يستقيم طول حياته فيحل ما أحل الله ويحرم ما حرم الله، وينهض بما أوجب الله، ويبتعد عما نهى الله إذا لم يكن ذا علم بالله، وذا فقه في شرائع الله؟
    لا سبيل إلى الاستقامة في أي أسرة أو بين أفراد أو في أمة أو قرية إلا إذا علمنا وفقهنا وأصبحنا أولياء لله عز وجل، فكل الذي نشكوه من الظلم والخبث، والربا والزنا والشر والفساد، والطلاق والنكاح والباطل مرده والله إلى الجهل، عدم البصيرة والفقه والعلم، والذي رمانا بهذه الظلمات -ظلمات الجهل- هو العدو الثالوث الأسود: المجوس واليهود والنصارى، أفقدونا الهداية حتى يتمكنوا منا وحتى نساويهم في باطلهم وشرهم وجحيمهم، واستجبنا لهم، فالقرآن تقرءونه على الموتى أم لا؟ كم حلقة معقودة الآن في المدينة لدراسة كتاب الله؟ أين أهل المدينة ؟كم منهم بيننا؟ كيف نعرف؟ كيف نتصل بربنا؟ كيف نحقق ولايتنا له عز وجل ونحن معرضون تائهون؟ وا أسفاه، وا حسرتاه! ولكن ما شاء الله كان.
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #392
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (29)
    الحلقة (391)
    تفسير سورة المائدة (22)


    يذكر الله عز وجل عباده في هذه الآيات بالنعم التي أنعم بها عليهم، فهو سبحانه منزل المطر من السماء، ومنبت الحب في السنابل، ومخرج التمر من النخيل، ومنشئ جنات الأعناب والزيتون والرمان، وكل هذا سخره لعباده، فينظر أي عباده الذي يشكر نعمة الله، ويوقن بآياته العظيمة ويؤمن به سبحانه، وأيهم يكون ميتاً لا تنفعه ذكرى، ولا تفيده موعظة أو آية.
    تقرير آيات سورة الأنعام القضايا العقدية الثلاث بذكر مظاهر القدرة الإلهية
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    ومن أراد أن يتأكد من صحة الخبر فعليه بصحيح مسلم وغيره، وعليه بالواقع، أرأيتم لو كنا في مقهى أو في عرس أو في سوق أو في وليمة هل يحصل هذا السكون؟ والله ما كان، هل رأيتم لو كنا في مجلس غير هذا أما يقع بيننا العذاب: السب والشتم والتلصص والسرقة؟ ولكن هنا الرحمة تغشانا.
    أما الملائكة فهم والله يطوفون بكم، أليس الأفضل والأكمل أن يباهي الله بكم ملائكته: انظروا إلى عبيدي كيف اجتمعوا في بيتي يتلون كتابي، يتملقون لي ويتزلفون إلي؟ فكيف نحصل على هذا؟ لا نستطيعه بالملايين.
    ومع الأسف ما أكثر المحرومين، مجالسهم خارج المسجد لا تنتج لهم درهماً لمعاشهم ولا حسنة لمعادهم، ويقضون الساعة والساعات فيما لا ينفع، والله نسأل أن يهديهم.
    ما زلنا مع سورة الأنعام المكية، تلك السورة التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، وها نحن مع الآية المتأخرة من الآيات التي درسناها بالأمس، فلنستمع إلى تجويدها مع الآيات السابقة لها.
    (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )[الأنعام:95-99].
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الآيات الخمس وما سبقها من فاتحة السورة وما يأتي بعد ذلك إلى خاتمتها كلها تقرر مبدأ لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر حق، وأن ما يتم فيه إنما يتم بحسب الأعمال خيرها وشرها، هذه الآيات تقرر وجود الله، وجود الخالق البارئ المصور العزيز الحكيم، تقرر ذلك بعرض هذه الآيات الكونية في الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل، هل من خالق سوى الله؟ هل من خالق غير الله؟ لا يستطيع كائن في الأرض أن يشير إلى خالقٍ سوى الله، إما أن يقول: لا خالق إلا الله، أو ينكس رأسه ويطأطئه ويقول: لا أدري.
    وهل يعقل وجود مخلوق بدون خالق؟! هل يعقل أن يوجد مخلوق بدون خالق ذي علم أحاط بكل شيء، وذي قدرة لا يعجزها شيء، وذي حكمة لا يخرج أبداً من فعلها شيء؟
    أهمية معرفة الله تعالى لتحصيل محبته
    والآيات تدعو إلى معرفة الله بواسطة هذه الآيات الكونية، وهذه الآيات القرآنية التنزيلية؛ لأن معرفة الله حق المعرفة هي التي تجعل العارف يقوى على أن يعيش ثمانين وتسعين سنة لا يلفظ بسوء، ولا ينطق بمكروه، ولا يمد يده بباطل، ولا يمشي خطوة في غير ما يرضي الله عز وجل، هذا هو العلم الذي قال فيه عز وجل: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )[فاطر:28]، ما هم علماء الذرة والهيدروجين والتقنية ولا السحر ولا الأعمال الشيطانية، وإنما العلماء بربهم الذين عرفوه بأسمائه وصفاته، عرفوه بواسطة آياته الكونية والتنزيلية فأكسبتهم معرفته أمرين عظيمين: حبه تعالى فوق كل محبوب ثم الخوف منه والخشية. والرسول الكريم يقول: ( اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني من حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من أهلي ونفسي ومالي والناس أجمعين )، كيف تحب الله وأنت ما رأيت جماله ولا كماله ولا عظمته ولا جبروته ولا قدرته، ولا عرفت شيئاً من أسمائه وصفاته؟ من أين لك؟ ومعنى هذا أن نعود إلى كتاب الله، لقد فصل الله فيه الآيات تفصيلاً، ما إن تقرأه متأملاً متفكراً متدبراً حتى يزداد إيمانك في قلبك، وتظهر دلائل حبك له تعالى وخشيتك منه، ولهذا يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم )، يتلونه ثم بعد التلاوة يتدارسونه بينهم ليعرفوا مراد الله من كل آية، ليعرفوا ما يجب عليهم، ما يجب لهم، ما يجب أن يتركوه، ما يجب أن يقوموا به، ليعرفوا كيف يتملقون لله ويتزلفون إليه بترداد اسمه وذكره، بالركوع والسجود له، بحبس الحياة كلها ووقفها عليه؛ ليحبهم، فإذا أحبهم أحبوه.
    تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء...)
    يقول جل ذكره: ( وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً )[الأنعام:99]، هل هناك من يرفع يده ويقول: نحن بنو فلان أنزلنا المطر؟ لعل أمريكا قالت، لعل ملاحدة الروس قالوا، ثم إن استطعتم أن تبخروا الماء كما زعمتم فمن جمع المطر في السماء؟ هل في السماء من ماء؟ أين الماء الآن؟ من جمع تلك السحب وصيرها كأنها أنعام تحمل في ضرعها اللبن؟ ثم السحب تمر شرقاً وغرباً وتخيم على ديار قوم وترحل ولا تصب إلا بعد إذن ربها لها، فهل هناك غيره؟ (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً )[الأنعام:99]، وهذا الماء أصله ملح أجاج، والله كأنه مصفى في آلاف الآلات، سبحان الله العظيم! لم لا نسأل: هذا الماء من أنزله؟ فيقال لنا: هذا الله، فنقول: من هو الله؟ فييقال: خالقكم ورازقكم وربكم الذي لا رب لكم سواه.

    (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ )[الأنعام:99]، هذا التفات من الغيبة إلى الحضور، أخرجنا نحن رب العزة والجلال والكمال، ( فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ )[الأنعام:99]، ما من شيء ينبت على سطح الأرض إلا والماء سببه، والله وحده هو الذي يخرجه، ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى )[الأنعام:95]، حبة الشعير الصماء أو البر من يفلقها؟ نواة التمرة من يشقها ويخرج ذلك الفتيل؟ من يقوى على هذا؟ من يدعيه؟ لا إله إلا الله.
    معنى قوله تعالى: (فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حباً متراكباً ومن النخل من طلعها قنوان دانية)
    (فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا )[الأنعام:99]، لما تنشق الحبة وتنفلق يخرج منها ذلك القصيل، وذلك القصيل قد يكون براً أو شعيراً أو ذرة أو أرزاً، أنواع متنوعة.(فَأَخْرَ جْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا )[الأنعام:99]، ذاك الخضر الأخضر الذي خرج من الحبة بعد فلق الله لها وشقها يخرج الله تعالى منه حباً متراكباً، انظر إلى السنبلة حبها منظم متراكم تعجز عن مثله الآلات.

    (وَمِنَ النَّخْلِ )[الأنعام:99]، ونخرج من النخل، والنخل واحده: نخلة، والجمع: نخل اسم جنس، ( وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ )[الأنعام:99]، القنوان: جمع قنو، وهو العرق، وبلغة أهل المغرب: العرجون، هذه النخلة الخشبة الميتة كيف يخرج هذا منها؟
    أولاً: يكون الطلع، ثم يخضر وينشق ويخرج منه ذاك الذي كان محروزاً محفوظاً فيه فجأة فإذا به تمر، ويصبح قنواً دانياً متدلياً، والنخلة في السنوات الأولى تتناول منها التمر بيديك لا تصعد ولا تنزله بآلة، فمن فعل هذا؟ إنه الله تعالى، لماذا فعله؟ هل لحاجة إلى ذلك؟ ما فعله الله إلا من أجلنا، من أجل بني آدم فقط، الذين ما خلقهم إلا من أجل أن يذكروه ويشكروه، فمن ذكره وشكره أعزه وأسعده، ومن كفره ونسيه أهانه وأذله وأشقاه، إذ علة الحياة كلها أن يذكر الله ويشكر.
    وهل يذكر بالأوراد التي يبتدعها المبتدعة؟ يذكر بماذا؟ بالأغاني والأهازيج؟ يذكر بما أحب أن يذكر به، وقد علم ذلك رسوله وبين له الكلمات الطيبات التي يحب أن يسمعها من عبده، فلا ذكر يأتي من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ورد مبتدع لا قيمة له بل هو بدعة وضلالة.
    والشكر كيف يكون؟ الشكر يكون بطاعته عز وجل، بفعل محابه وترك مكارهه، ذلكم والله الشكر، الشكر أن تطيعه في أوامره فلا تفرط فيها ولا تضيعها، وفي نواهيه فلا تقبل عليها ولا تخالفه، أنت يومئٍذ من الشاكرين، زيادة على حمد الله والاعتراف بآلائه وإنعامه.
    معنى قوله تعالى: (وجنات من أعناب)
    قال تعالى: ( وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ )[الأنعام:99]، أي: وأخرجنا بذلك الماء جنات من أعناب، والأعناب: جمع عنب، هذا أوان حصاده، هذا العنب كيف يوجد؟! شجرة العنب من خلقها؟تكون يابسة كخشب وحطب ثم تتحول إلى ذات أوراق ثم إلى ذات عناقيد كعناقيد التمر متدلية كلها حلوة، فمن فعل هذا؟ إنه الله تعالى لا إله إلا هو، هو الخالق الرازق، فلا نقبل على مخلوق أبداً بقلوبنا ولا بوجوهنا، ولكن نقبل عليه هو، ونسلم له القلب والوجه، ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ )[النساء:125].
    والعنب والتمر مغذيان فيهما فيتامينات عجب، التمر هذا بالذات تستطيع أن تعيش عليه، في بعض السرايا كان الصحابة يعيشون على التمر، وعاشت أمتنا على التمر، قيل: إن واحدة التمر فيها غذاء أكثر من خمس عشرة تفاحة، سمعنا هذا من بعض الناس، وهو جائز، الحبة الواحدة من التمر تغذي جسمك أكثر من خمس عشرة تفاحة.
    قصة صقلبي يسلم لرؤية بديع خلق الله تعالى في حلاوة التمر
    ذكرنا قصة منذ سنين في الدرس: وهي أنه جاء صقلبي من شمال العالم، من تلك الديار التي لا تعرف التمر ولا النخل، ودخل إلى بلادنا الصحراوية وذهبنا معه إلى الحديقة إلى البستان إلى الجنان، فقدمنا له الرطب فتعجب فقال: كيف يصنع هذا؟ ما هو المصنع الذي ينتج هذا الرطب الحلو؟ وقال: هذا الذي يفعل هذا ينبغي أن يجل ويقدس! فلما انتهى إلى البستان وشاهد أنه من النخل عرف أن هذا ليس من صنع الإنسان، وأن هذا من صنع الله عز وجل، فآمن ودخل في الإسلام.
    معنى قوله تعالى: (والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر
    قال تعالى: ( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ )[الأنعام:99]، وأنشأ الزيتون والرمان بذلك الماء، الزيتون جنس معروف والرمان كذلك، ( مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ )[الأنعام:99]، الرمان نفسه فيه الحلو وفيه الحامض وفيه، الورقة والشجرة تشتبه بأختها، ولكن هذه ثمرها حلو، وهذه ثمرها حامض أو مر، وهذه بين الحموضة والحلاوة.ثانياً: شجرة الرمان كشجرة الزيتون بالنسبة إلى الورق والأغصان كلها متساوية، إلا أن ورق الرمان قد يكون أكثر خضرة، والزيتون يكن فيه بعض السواد، لكن التشابه حاصل، متشابه من جهة وغير متشابه من أخرى، فمن صنع هذا؟ من أوجده؟
    قال تعالى: ( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ )[الأنعام:99]، شجرة الزيتون وشجرة الرمان متساويتان متشابهتان، وحين تثمران وتنضج ثمارهما تجد الفرق بين عنقود العنب وبين حبة الزيتون كما بين الليل والنهار، فمن يفرق هذا التفريق؟
    شجرة من خشب تنتج هذا العنب! والرمانة تنتج هذا الرمان! والرمان غذاء كامل أيضاً وشراب، والزيتون لا تسأل عن الدهن وعن الزيت وحاجة البشر إليه.
    هيا نسأل: من أوجد هذا؟ هل اللات؟ هل عيسى؟ من هو هذا أوجد ذلك؟ إنه الله رب العالمين، فهيا نحبه، هيا نعبده، دلنا كيف نعبده؟ كيف نذل ونستكين له من أجل أن يحبنا، هيا نتعلم.
    قال تعالى: ( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ )[الأنعام:99]، والينع: النضوج، فعندما يستوي وينضج تجدون الفرق بين عنقود العنب والزيتون.
    معنى قوله تعالى: (إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون)
    ثم قال تعالى: ( إِنَّ فِي ذَلِكُمْ )[الأنعام:99] المذكور لكم، المبين لكم، المفصل فيه هذه الآيات، فيه آيات بينات واضحات كالشمس والقمر بدلالتها على وجود ربٍ وإلهٍ عزيز حكيم قدير لا يعجزه شيء، وهو إله الأولين والآخرين.(إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ )[الأنعام:99]، ولكن من يرى الآيات؟ من يبصرها؟ من ينتفع بها؟ الحي أو الميت؟ فلهذا قال: ( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )[الأنعام:99]، أما الكافرون فموتى، وهي الحقيقة التي لا ننساها، الكافر ميت، والمؤمن حي، والبرهنة على ذلك والتدليل عليه: أن الحي يسمع النداء ويجيب الدعاء ويعطي إذا طلب منه، ويأخذ إذا أعطي ويفعل إذا أمر، وينتهي إذا نهي، والكافر هل يسمع النداء؟ هل يجيبه؟ هل يعطي ما أوجب الله؟ هل ينتهي عما نهى الله عنه؟ لا، فهو ميت.
    والأكثر دلالة: أن أهل الذمة في ديارنا من اليهود والنصارى والمجوس إذا أهل هلال رمضان هل نطالبهم بالصيام؟ هل إذا آن أوان الزكاة نطالبهم بإخراج الزكاة؟ هل إذا نادى مناد أن: حي على الصلاة نقول: تعالوا صلوا؟ الجواب: لا. لماذا؟ لأنهم أموات، إذا نفخت فيهم روح الإيمان وقالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله فحينئذ مرهم يفعلون وانههم ينتهون، ولهذا هذه الآيات التي بينها تعالى من يشاهدها وينتفع بها الميت أو الحي؟ الحي، اقرأها على الكافر من أولها إلى آخرها فلا يتحرك أبداً؛ لأنه ميت، ( إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )[الأنعام:99].
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات
    هيا نسمع أيضاً مرة ثانية شرح هذه الآيات ونقف على هداية الله فيها.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم:
    [معنى الآيات:
    ما زال السياق في بيان الدليل على وجوب توحيد الله تعالى وبطلان عبادة غيره، فقال تعالى واصفاً نفسه بأفعاله العظيمة الحكيمة التي تثبت ربوبيته وتقرر إلوهيته وتبطل ربوبية وإلوهية غيره مما زعم المشركون أنها أرباب لهم وآلهة: ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى )[الأنعام:95]، أي: هو الذي يفلق الحب ويخرج منه الزرع لا غيره، وهو الذي يفلق النوى ويخرج منه الشجر والنخل لا غيره، فهو الإله الحق -إذاً- وما عداه باطل.
    وقال: ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ )[الأنعام:95]، فيخرج الزرع الحيّ من الحب الميت، ( وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ )[الأنعام:95]، فيخرج الحب من الزرع الحيّ، والنخلة والشجرة من النواة الميتة.
    ثم يقول: ( ذَلِكُمُ اللَّهُ )[الأنعام:95]، أي: المستحق للإلهية -أي: العبادة- وحده، ( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ )[الأنعام:95]، أي: فكيف -يا للعجب- تصرفون عن عبادته وتأليهه إلى تأليه وعبادة غيره؟!
    ويقول: ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ )[الأنعام:96]، أي: هو الله الذي يفلق ظلام الليل فيخرج منه ضياء النهار، ( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا )[الأنعام:96]، أي: ظرف سكن وسكون وراحة تسكن فيه الأحياء من تعب النهار والعمل فيه ليستريحوا.
    وقوله: ( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا )[الأنعام:96]، أي: وجعل الشمس والقمر يدوران في فلكيهما بحساب تقدير لا يقدر عليه إلا هو، وبذلك يعرف الناس الأوقات وما يتوقف عليها من عبادات وأعمال وآجال وحقوق.
    ثم يشير إلى فعله ذلك فيقول: ( ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ )[الأنعام:96] الغالب على أمره، ( الْعَلِيمِ )[الأنعام:96] بسائر خلقه وأحوالهم وحاجاتهم، وقد فعل ذلك لأجلهم، فكيف -إذاً- لا يستحق عبادتهم وتأليههم؟ عجباً لحال بني آدم ما أضلهم!
    ويقول تعالى في الآية الثالثة: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[الأنعام:97]، هذه منة أخرى من مننه على الناس ومظهر آخر من مظاهر قدرته؛ حيث جعل لنا النجوم ليهتدي بها مسافرونا في البر والبحر حتى لا يضلوا طريقهم فيهلكوا، فهي نعمة لا يقدر على الإنعام بها إلا الله، فلم -إذاً- يكفر به ويعبد سواه؟
    وقوله: ( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )[الأنعام:97]، يخبر به تعالى على نعمة أخرى، وهي تفصيله تعالى للآيات وإظهارها لينتفع بها العلماء الذين يميزون بنور العلم بين الحق والباطل والضار والنافع.
    ويقول في الآية الرابعة: ( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ )[الأنعام:98] هي آدم عليه السلام، فبعضكم مستقر في الأرحام وبعضنا مستودع في الأصلاب، وهو مظهر من مظاهر إنعامه وقدرته ولطفه وإحسانه.
    ويختم الآية بقوله: ( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ )[الأنعام:98]؛ لتقوم لهم الحجة على ألوهيته تعالى دون ألوهية ما عداه من سائر المخلوقات؛ لفهمهم أسرار الكلام وعلل الحديث ومغزاه.
    ويقول في الآية الأخيرة: ( وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً )[الأنعام:99]، وهو ماء المطر. ويقول: ( فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ )[الأنعام:99]، أي: ينبت، أي: قابل للإنبات من سائر الزروع والنباتات.
    ويقول: ( فَأَخْرَجْنَا )[الأنعام:99] من ذلك النبات ( خَضِرًا )[الأنعام:99]، وهو القصيل للقمح والشعير، ومن الخضر يخرج حباً متراكباً في سنابله.
    ويقول عز وجل: ( وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ )[الأنعام:99]، أي: ويخرج بإذن الله تعالى من طلع النخل قنوان: جمع قنو: العذق، دانية متدلية وقريبة لا يتكلف مشقة كبيرة من أراد جنيها والحصول عليها.
    وقوله: ( وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ )[الأنعام:99]، يقول: وأخرجنا به بساتين من نخيل وأعناب، وأخرجنا به كذلك الزيتون والرمان حال كونه مشتبهاً في اللون وغير متشابه في الطعم، كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه ينبت لديكم ذلك التشابه وعدمه.
    وختم الآية بقوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكُمْ )[الأنعام:99]المذكور كله ( لَآيَاتٍ )[الأنعام:99]، علامات ظاهرات تدل على وجوب ألوهية الله تعالى وبطلان ألوهية غيره، ( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )[الأنعام:99]؛ لأنهم أحياء يعقلون ويفكرون ويفهمون، أما غيرهم من أهل الكفر فهم أموات القلوب لما ران عليها من أوضار الشرك والمعاصي، فهم لا يعقلون ولا يفقهون، فأنى لهم أن يجدوا في تلك الآيات ما يدلهم على توحيد الله عز وجل؟ ]
    هداية الآيات
    من هداية الآيات ست هدايات، فتذكروا الآية:[ أولاً: الله خالق كل شيء فهو رب كل شيء ]، ما دام أنه خالق كل شيء فهو رب كل شيء. [ ولذا وجب أن يؤله وحده ]، أي: أن يعبد وحده [ دون ما سواه ]، لكونه خالق كل شيء وجب أن يكون الإله المعبود بحق ولا يعبد سواه.
    [ ثانياً: تقرير قدرة الله على كل شيء وعلمه بكل شيء وحكمته في كل شيء ] حتى في الفسيلة، فلا إله إلا الله.
    [ ثالثاً: فائدة خلق النجوم، وهي الاهتداء بها في السير في الليل في البر والبحر.
    رابعاً: يتم إدراك ظواهر الأمور وبواطنها بالعقل ]، ومن فقد العقل لا يدرك شيئاً.
    [ خامساً: يتم إدراك أسرار الأشياء بالفقه.
    سادساً: الإيمان بمثابة الحياة، والكفر بمثابة الموت في إدراك الأمور ].
    والله تعالى أسأل أن يجعلنا من الأحياء، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #393
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (3)
    الحلقة (392)
    تفسير سورة المائدة (23)


    توعد الله عز وجل من تأتيه آياته سبحانه ثم يعرض عنها؛ لأنه بذلك إنما يكون قد كذب بالحق الذي جاء من عند الله سبحانه وتعالى، رغم علمه بما أصاب الأمم السابقة ممن مكن لهم الله في الأرض، فكذبوا وأعرضوا، فكان جزاء تكذيبهم وإعراضهم أن دمر الله عليهم، وأهلكهم بذنوبهم، وأنشأ بعدهم أمماً أخرى، فهو القاهر فوق عباده عز وجل، وهو العزيز الحكيم.
    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة الأنعام
    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس بإذن الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    مجمل ما عالجته سورة الأنعام من العقائد
    وأذكر الإخوان والأبناء أن السورة هي سورة الأنعام، تلك السورة العظيمة التي شيعها سبعون ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، تلك السورة التي تعالج أعظم العقائد، وأهم مبادئ الكمال والسعادة في الحياتين، تعالج العقيدة: توحيد الله، تقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، البعث الآخر ولقاء الله، هذه السورة العظيمة درسنا منها الآيات الآتية تلاوتها:
    مظاهر الربوبية المستلزمة استحقاق الله تعالى للعبادة
    بسم الله الرحمن الرحيم. ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:1-3].هذه الآيات درسناها، مرة ثانية أعيدها تذكيراً للناسين.
    (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )[الأنعام:1] هذه مظاهر الربوبية والإلهية، وهي مستلزمة لتوحيد الله، إذ الذي يعبد وحده دون سواه هو الذي أنعم علينا بخلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، إذ حياتنا متوقفة على ذلك، وهذه المخلوقات لم يدع كائن ما كان خلقها، فهذه مما هو حق الله وخلقه، وبهذا استحق الحمد وحده، واستحق العبادة دون سواه.
    إشراك الكفرة بربهم عز وجل
    (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1] يا للعجب! يا للعجب! يعدلون بربهم غيره، ويسوونه بمخلوقاته، فيعبدون الأصنام والأحجار، يعبدون الأهواء والشهوات، ويعبدون الفروج والأموال، ولا يعبدون الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه، أو يعبدونه مع ما يعبدون، وهذا هو العدل، يعدلون بالله غيره من مخلوقاته.
    مادة خلق الإنسان وبيان تقدير أجله الخاص وأجل الحياة الدنيا
    (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ )[الأنعام:2] من يرد على الله؟! من يقول: لا، هل نحن خلقنا من ذهب، أو خلقنا من سمن، أو خلقنا من ساج أو عاج؟ ( خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ )[الأنعام:2] باعتبار خلق آدم ونحن ذريته، ثم عظامنا ولحومنا وعروقنا ودماؤنا كلها من الأرض، إذ أغذيتنا فواكه وخضر ولحوم وحبوب كلها من التراب، وهي أساس وجودنا ومنبعنا وبقاء حياتنا.(ثُمَّ قَضَى أَجَلًا )[الأنعام:2] ألا وهو أجل الموت لكل حي منا، وحدد وعده ووقته وميعاده، هل هناك من يقول: لا حق لله تعالى في خلقي ولا في تحديد حياتي أو موتي؟ لا أحد.
    ثم هناك أجل مسمى عنده معروف لديه، يجهله كل كائن في السماء والأرض، ألا وهو أجل نهاية هذه الحياة، أجل البعث الآخر والحياة الآخرة، من يرد على الله؟ من يتكلم؟ لا أحد.
    (قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ )[الأنعام:2] يا بني آدم ( تَمْتَرُونَ )[الأنعام:2] تشكون وتضطربون، مالكم؟ أين يذهب بكم؟ الذي خلقكم وخلق كل شيء من أجلكم، هذا الخالق العلام تمترون في وجوب عبادته وحده دون سواه، تمترون في ألوهيته، أين يذهب بعقولكم يا بني آدم؟!
    إحاطة علم الله تعالى بسر عباده وجهرهم وكسبهم
    (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ )[الأنعام:3] أي: المعبود في العوالم العلوية والسفلية، وهو في السماء إله معبود، وفي الأرض إله معبود، ومع هذا ( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ )[الأنعام:3] هو فوق عرشه بائن من خلقه فوق السماوات، والعوالم كلها في قبضته وبين يديه، يعلم سر من يسر كلامه وجهر من يجهر به، لا تظن أنك إذا اختبأت في سراديب، أو دخلت في قوارير الزجاج أن الله لا يسمع ما تقول! والله ما كان هذا، بل يعلم السر والنجوى.(يَعْلَم ُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3] بجوارحكم وكواسبكم، لقد علم الجوارح التي نجترح بها السيئات والحسنات، والكواسب التي نكتسب بها الخير والشر، ألا وهي السمع والبصر والفم واللسان واليدان والرجلان والبطن والفرج، يعلم ما نكسب، ولازم ذلك أنه يعلمه للجزاء به، وللمحاسبة عليه، وإن قلت: سوف أجحد أعمالي وأكتمها وأنا بين يديه؛ فقد أخبرنا تعالى أنه يستنطق الجوارح فتنطق: ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[النور:24]، فحين يحاول المرء أن يجحد أو يخفي أو يبدل ويغير يقول الله للجوارح: انطقي. واسكت يا لسان!
    إذاً: هل استنارت قلوبنا بهذه الآيات الثلاث؟ عرفنا ربنا؟ عرفنا خالقنا؟ عرفنا من وضع آجالنا في مواعيدها؟ عرفنا من يجمعنا في ساحة فصل القضاء ثم ينبئنا بأعمالنا ثم يجزينا بها؟ إما سعادة بعد ذلك، وإما شقاء، والله الذي لا إله غيره لهذا هو الذي نحن مقبلون عليه، أحببنا أم كرهنا.
    تفسير قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين)
    والآن مع هذه الآيات الثلاث معطوفة على سابقتها: قال تعالى: ( وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون
    * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُ مْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ )[الأنعام:4-6] كلام من هذا؟ من يقوى على أن يتكلم بهذا؟ هذا كلام الجبار الواحد القهار جل جلاله وعظم سلطانه.
    (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ )[الأنعام:4] وآيات الله القرآنية عرفنا أنها ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، كل آية تدل على أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن البعث حق، والآية: العلامة الدالة على الشيء، فإذا قلنا: هذه الآية: ( وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ )[الأنعام:4] من قالها؟ هل هناك من أنزلها وقالها غير الله؟ إذاً: فهي تشهد بوجود الله وعلمه وحكمته وقدرته، وأنه رب الأولين والآخرين، ومعبود أهل السماء والأرضين.
    ومن نزلت عليه في الدنيا من يكون غير رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؟ إذاً: فهل يكون غير رسوله، وينزل عليه وحيه؟ فهي تشهد بأن محمداً رسول الله.
    وفائدة تلك الشهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) والمقصود منها: أن يعبد الله في الأرض؛ إذ ما خلق العوالم كلها إلا من أجل أن يذكر فيها ويشكر؛ فلهذا كان شر الخلق وشر البريئة من كفر بالله فلم يذكره ولم يشكره.
    دائماً نقول: من شر الخليقة؟ هل القردة والخنازير؟ لا! هل الكلاب والذئاب؟ لا! هل الأفاعي والحيات؟ لا! شر الخليقة من أعرض عن ذكر الله، فلم يذكر الله ولم يشكره!
    أيخلقك الله -يا عبد الله- ويرزقك ويهبك سمعك وبصرك وكل حياتك، ويخلق هذه العوالم من أجلك حتى عالم الشقاء وعالم السعادة، ثم تعرض عنه ولا تلتفت إليه، لا تطيعه فلا تذكر ولا تشكر، من شر الخلق سوى هذا؟!
    تكذيب المشركين بآيات الله تعالى الكونية وآياته القرآنية
    (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ )[الأنعام:4] قد تكون معجزة كانشقاق القمر؛ فقد انشق القمر، وشاهده طغاة المشركين وجبابرتهم ثم قالوا: سحر. وقالوا: كذب. وقالوا: خرافة وضلالة. واقرءوا: ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ )[القمر:1] اقتربت الساعة ساعة النهاية، اقتربت بالفعل، وانشق القمر على جبل أبي قبيس فلقتين، وهم يشاهدون، وقالوا: سحر! ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ )[القمر:1-3] ما اتبعوا عقولهم، فالآيات معجزات، وآيات القرآن أعظم منها، ما تأتيهم من آية إلا كانوا عنها معرضين، ما معنى (معرضين)؟ لا يريدون أن يسمعوها ولا يتأملوا ما فيها، ولا يعملوا بها، فيعطوها أدبارهم ولا يلتفتون إليها، فهيا نكشف الغطاء:
    الإعراض عن آيات الله تعالى في حياة المسلمين اليوم
    هل العالم الإسلامي اليوم ومنذ قرون غير معرض عن آيات الله؟ آيات الله الحاملة لشرائعه وأحكامه وعباداته وقوانينه؛ هذه الآيات هل أقبل عليها المسلمون في بيوت ربهم وبيوتهم يتدارسونها ويعلمون ما تحويه من الهدى، ويطبقونه في حياتهم؟ هل أقيمت الصلاة في بيوتهم وديارهم؟ هل جبيت الزكاة؟ هل أمر بالمعروف ونهي عن المنكر؟ هل اتحدت كلمتهم؟ هل بايعوا إمامهم؟ هل عبدوا الله بما شرع لهم؟ هل عرفوا الله معرفة أوجدت حبه في قلوبهم، والرهبة منه والخوف في نفوسهم فأطاعوه؟ إن أردنا القول الصحيح فوالله لأكثرهم معرضون عن آيات الله.أليس الإعراض هو عدم الالتفات إلى الشيء أم لا؟ إنهم يوم يجتمعون على آيات الله في بيوت الرب، يحفظونها ويتدارسونها ويطبقونها وتظهر أنوارها في قلوبهم وآدابهم وأخلاقهم وسلوكهم وحياتهم؛ حينئذ يكون أولئك حقاً قد أقبلوا على آيات الله، أما أن نعيش هكذا عيشة اليهود والنصارى، لا صلاة تقام ولا زكاة تجبى، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، ولا إخاء ولا مودة ولا رحمة، ولا علم ولا دموع ولا بكاء من الله، نعيش كما يعيش اليهود والنصارى ونقول: ما أعرضنا؟! وهذا الوعيد الذي ذكره تعالى للأولين أما حصل لنا لما أعرضنا؟ أما أذلنا الله حتى لليهود؟ أما كسر بيضتنا وألصقنا بالأرض، وأصبح النصارى والمجوس يتحكمون فينا؟
    (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ )[الأنعام:4] التي ينزلها وحياً أو يعطيها معجزة وإكراماً لرسوله ( إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ )[الأنعام:4].
    تفسير قوله تعالى: (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون)
    (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ )[الأنعام:5]، ورسول الله حق، الدين الإلهي الإسلامي حق، القرآن حق، البعث والجزاء الآخر حق، والله حق.(كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ )[الأنعام:5] يحمله كتاب الله ويبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: ( فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون )[الأنعام:5] أعرضوا وكذبوا واستهزءوا، وهل بقي إثم أكثر من هذا؟ إنهم أولاً: أعرضوا عن شرع الله وكتابه وقوانينه. ثانياً: كذبوا بذلك، فلم يطبقوا ولم يعملوا. ثالثاً: استهزءوا وسخروا.

    فقال تعالى: ( فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون )[الأنعام:5]، فسوف يأتيهم أنباء وأخبار ما كانوا به يستهزئون، ونفَّسَها بقوله: ( فَسَوْفَ )[الأنعام:5] حتى لا يقال: تأخر عنا، هو وقت طويل. فلا بد أن يأتي أخبار ما كانوا به يستهزئون.
    وقد عرفنا ما أصاب أمتنا لما أعرضت عن كتاب ربها وهدي نبيها، عرفنا كيف تقسمت وتوزعت وتقطعت بعدما كانت أمة واحدة، وعرفنا كيف افتقرت وهانت وذلت بعدما كانت أعز وأغنى أمة في العالم! عرفنا كيف ذهب الإخاء والحب والولاء: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) ، ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله )، فأراق اليهود والنصارى دماء المسلمين، وانتهكوا أعراضهم، وفعلوا الأعاجيب فيهم! أليس هذا نتيجة الإعراض عن كتاب الله وعن آيات الله؟
    تفسير قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ...)
    ثم قال تعالى: ( أَلَمْ يَرَوْا )[الأنعام:6] ألم ينته إلى علمهم ويشاهدوا تلك الأمم التي أهلكها الله عز وجل؟ ( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ )[الأنعام:6] والمراد من القرن: أهله، والقرن: مائة سنة، وقد يقال: سبعون وثمانون، لكن الصحيح: مائة سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعبد الله بن بسر رضي الله عنه: ( تعيش قرناً ) فعاش مائة سنة، فأخذ من ذلك الصحابة أن القرن تفسيره الصحيح: مائة عام، وقد يكون الجيل من الناس قرناً، من اقترنوا كلهم في وقت واحد فهم قرن من القرون.(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ )[الأنعام:6] وهذا التفات، ما لم نمكن لكم يا أيها المعرضون! مكناهم بمعنى: سادوا وحكموا وورثوا وملكوا وسادوا، الأمر الذي ما مكنه لغيرهم من هؤلاء المعرضين. (
    وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا )[الأنعام:6] الأمطار الغزيرة والنباتات على اختلافها، وأنواع ما يحتاجون إليه من الزروع والثمار والحبوب. ( وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ )[الأنعام:6] أي: تحت قصورهم وفي بساتينهم وحدائقهم.
    الذنوب سبب الهلاك
    (فَأَهْلَكْنَاه مْ بِذُنُوبِهِمْ )[الأنعام:6] هل هناك ذنوب تسبب الهلاك وأخرى لا تسبب الهلاك؟ هل هناك سم يقتل وآخر لا يقتل؟ هل هناك حديد يقطع وآخر لا يقطع؟ هل هناك نار تحرق وأخرى لا تحرق؟ إذاً: الذنوب سنن من سنن الله التي تهلك وتدمر وتسوق للخسران والدمار، ما هناك ذنب يقال فيه: هذا لا يؤاخذ الله به، إذ الذنب معناه: العصيان والتمرد والخروج عن طاعة الله ورسوله، وبهذا يؤخذ الإنسان من عقبه ومن ذنبه، فسمي الذنب ذنباً لأنه كالذنب للحيوان، إذا جرى أمامك حيوان فإنك تأخذه من ذنبه، فكل ما يؤاخذ به المرء من معاص سمه ذنباً وأطلق عليه أنه ذنب.(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ )[الأنعام:6] من القرون وأهلها ( مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ )[الأنعام:6] هذا أبلغ من: (مكنا لهم)، مكناهم في الأرض فسادوا وحكموا وعاشوا هكذا ولهم دولتهم وسلطانهم، مكنا لهم ما لم نمكن لكم أنتم، هذا فيه احتباك، لك أن تقول: مكناهم في الأرض ما مكنا لكم، ومكنا لهم ما مكنا لكم.

    (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا )[الأنعام:6] المراد من السماء: المطر، وإلا فالسماء لا تنزل، يقول الشاعر:
    إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابًا
    إذا نزل السماء: أي: المطر.
    (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا )[الأنعام:6] والدر معروف، هو اللبن في الضرع، درت الشاة: إذا تدفق لبنها بين يدي الحالب لها.
    (وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ )[الأنعام:6] أنهار ماذا؟ العيون، أنهار كالنيل والفرات وما إلى ذلك، تجري من تحتهم الأنهار، ( فَأَهْلَكْنَاهُ مْ بِذُنُوبِهِمْ )[الأنعام:6] هذه هي العظة والعبرة، هل أهلكهم الله ظلماً منه؟ تعالى الله عن الظلم وحاشاه، والله ما أهلكهم إلا بسبب ظلمهم، أي: بذنبهم، والباء سببية، (بذنوبهم) جمع ذنب، وهو ما يؤاخذ عليه العبد هو معصية الله ورسوله، ومن أمر الله بطاعته كإمام المسلمين والوالدين والمربي ومن إليهم ممن أمر الله بطاعتهم، ولكن طاعتهم في المعروف لا في المنكر، هذا هو الذنب.
    ذكر بعض ما أخذ به المشركون من ذنوبهم ومعاصيهم
    إذاً: ( فَأَهْلَكْنَاهُ مْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ )[الأنعام:6] أمة أخرى وقرونًا أخرى، هذه الآية تجلت أولاً في تلك السنين السبع العجاف التي أذاقها الله مشركي مكة، حتى أكلوا الوبر وأكلوا الدماء، وجاءوا يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستشفع لهم عند الله، سبع سنين كسني يوسف، من هذه الآيات هزيمتهم في بدر التي جمعوا لها أحابيشهم ورجالهم وذاقوا مرارة الهزيمة، وصرع هناك طغاتهم، كـأبي جهل وفلان وفلان، أخذهم بذنوبهم أم لا؟ وفتح مكة وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لها، وتلك الهزيمة المرة كانت بذنوبهم أم بماذا؟ بذنوبهم.
    آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها الوخيمة في حياة المسلمين
    وأما ما أشرنا إليه -بل صرحنا به- وهو ما أصاب المسلمين بذنوبهم من الاستعمار الذي تسلط عليهم، وما أذاقهم من مر العذاب، وما أذاقهم من هون ودون من إندونيسيا إلى موريتانيا؛ فهل هذا كان بذنوبنا، أم كان ظلماً من الله لنا؟ والله ما هو إلا بذنوبنا. وأزيدكم: والله الذي لا إله غيره! إن لم يتدارك الله المسلمين عاجلاً بتوبة صادقة وإنابة حقة فلينزلن بهم ما لم ينزل على أجدادهم من قبل، إنهم ليتعرضون لنقمة إلهية لا نظير لها!
    نصرهم على دول الغرب واستقلوا وامتازوا، ولهم جيوش ولهم أموال، ويعرضون عن كتاب الله هذا الإعراض، يعرضون عن دين الله هذا الإعراض، ويجرون وراء الغرب حتى في برانيطهم وزيهم، حتى في أكلهم وشربهم، أي ذنب من الذنوب ينتهي إلى هذا؟
    مرة ثانية أقول: إن لله سنناً لا تتبدل ولا تتغير، فمخالفة أمر لرسول الله واحد أذاق الله به أصحاب رسول الله مر العذاب والهزيمة في أحد، فما هو هذا الذنب؟ وضع صلى الله عليه وسلم خمسين رامياً على جبل الرماة، وقال: لا تنزلوا إن انتصرنا أو انكسرنا، الزموا أماكنكم. وكان صلى الله عليه وسلم قائداً ورائداً لا أقدر ولا أعلم منه بشئون الحرب؛ لأنه يتلقى علومه من الملكوت الأعلى.
    ودارت المعركة وانهزم المشركون وهم آلاف، وفروا بنساؤهم هاربات يشاهدن، فلما رأى الرماة انهزام المشركين وفرارهم وتمزقهم قالوا: نهبط. فقال أميرهم: لا تهبطوا، ما أمرنا الرسول بأن نهبط، قالوا: الآن انتصرنا فلا معنى للبقاء. هذا هو الاجتهاد الباطل، فهبطوا إلا من شاء الله، حيث بقي رئيسهم في نفر معه، وما إن نزلوا من جبل الرماة حتى عرف خالد بن الوليد قائد خيلهم، عرف أن الهزيمة الآن تثبت، فاحتل الجبل؛ لأن الجبل كان درعاً واقياً للمجاهدين وراءهم، فاحتله خالد وقتل من عليه، وما إن احتل الجبل وسدد السهام والرماح حتى انهزموا، وجرح وجه رسول الله، وكسرت رباعيته، ودخل المغفر في رأسه، بسبب ماذا؟ بسبب الذنب أم لا؟ والله إنه لبسبب هذا الذنب، والله هو الذي أخبر بهذا: ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ )[آل عمران:165]، عصوا الرسول فقط في قضية، اسألوا العالم الإسلامي كم هو عاص للرسول، في الحجاب الذي اختفى بين نساء المؤمنين، في الربا الذي أصبح حلالاً شائعاً في العالم الإسلامي، في التمزق والفرقة ولعن بعضهم بعضاً، والرضا بالدويلات الهابطة، أيرضى الله بهذا الخلاف والفرقة؟ ما أجاز لنا الفرقة ولا أذن فيها أبداً، ماذا نقول؟ ذنوب لا حد لها، وأكثر ما نقول: كيف لا يؤمر المواطنون بإقامة الصلاة؟ ما المانع؟ لماذا لا تجبى الزكاة إرضاء لله، طلباً لرضاه وإن كنتم أغنياء؟ لماذا لا توجد هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ يكون البوليس والشرط يصفرون ويصيحون، ويفجرون في الشوارع، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر! أي إعراض أكثر من هذا الإعراض؟!
    حاجتنا إلى التوبة الصادقة بالعودة إلى التربية المسجدية
    وأخيراً: قل انتظروا، والله إن لم يتداركنا الله بتوبة فلنهلكن، ما التوبة هذه؟ أن نرجع إليه فقط، وقد بينت وجه التوبة الصادقة، وهي إذا دقت الساعة السادسة مساء وجب ترك العمل والإقبال على الله في بيوته، النساء والرجال والأطفال، ما إن يصلوا المغرب حتى يجلسوا لمرب حكيم عليم بكتاب الله وسنة الرسول، وكلهم آذان صاغية، وقلوب واعية، يتعلمون الكتاب والحكمة، ما يتعلمون أدباً إلا طبقوه على الفور، ولا خلقاً إلا اكتسبوه وتخلقوا به، ومن شعر أن له ذنباً من تلك اللحظة تاب إلى الله منه وتركه، ويخرجون إلى بيوتهم وكلهم أنوار يذكرون الله ويسبحونه ويسألونه حاجاتهم. اليهود والنصارى في الشرق والغرب شاهدناهم إذا دقت الساعة السادسة وقف دولاب العمل، وأقبلوا على الملاهي والمقاهي والمراقص والمقاصف للترويح عن أنفسهم، والمسلمون أولياء الله أين يذهبون؟ يذهبون إلى بيوت ربهم لتلقي الكتاب والحكمة والآداب والأخلاق، لو أن أهل القرية فقط طبقوا هذا المبدأ المحمدي عاماً واحداً؛ لما رأيت في تلك القرية فاجراً ولا كافراً ولا لصاً ولا كذاباً ولا منافقاً ولا خادعاً ولا عاهراً ولا زانياً ولا فاجراً.
    بدون هذا لو جعلت عند كل باب عسكريًا والله لشاعت الأباطيل وظهرت المفاسد والمعاصي والذنوب، إن لم يستعجلوا الفرصة قبل فواتها، ومن يعش منكم فسيقول: سمعنا ذاك الشيخ يقول. لتنزلن محن -والله- أكثر من محن الاستعمار.
    وإلا فهل نحن أفضل من غيرنا؟! أيمسح على رءوسنا ويقال لنا: لا بأس، افجروا ولا تخافوا فأنتم مؤمنون، أيمكن هذا؟ مستحيل.
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #394
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (30)
    الحلقة (393)
    تفسير سورة المائدة (24)


    مع ما بين الله لعباده من آياته الدالة على وجوده وعلمه وقدرته ورحمته المقررة لربوبيته وألوهيته، إلا أن جهالة المعرضين عن الطريق القويم، الصادين عن الذكرى وآيات الذكر الحكيم، جعلهم يشركون بالله غيره، فجعلوا له شركاء الجن وهو خلقهم وخلق الإنس وسائر المخلوقات، كما حملتهم عقولهم السقيمة وأفهامهم الرديئة إلى أن ينسبوا إليه البنين والبنات، ويزعموا وجود صاحبة له سبحانه، فتعالى الله عن إفكهم، وتقدس اسمه سبحانه عن ضلالاتهم وإثمهم.
    تفسير قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألف ألف وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، وها هي الآيات الأربع نستمع إلى تلاوتها مجودة مرتلة ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السماوات وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:100-103]. سبحانه! ‏
    تقرير السورة لعقيدة التوحيد وإبطال ما ينافيها
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم أن هذه السورة المباركة الميمونة تعالج ما يلي:أولاً: توحيد الله عز وجل، وأنه لا إله إلا هو، بالأدلة والبراهين العقلية والنقلية، لا إله إلا الله.
    وكثيراً ما نقول: أيام البلشفية والإلحاد الشيوعي لو اجتمعت البشرية كلها وصيغت عقولها على عقل واحد فوالله ما استطعت أن تنقض هذه الجملة: لا إله إلا الله؛ إذ نقضها يكون بأحد أمرين: إما بالعدم: لا إله، وهذا لا يقوله ذو عقل أبداً، فمن قال: لا إله يقال له: قف! هل أنت موجود أو غير موجود؟ إن قال: موجود، قلنا: من أوجدك؟ أنت مخلوق أو غير مخلوق؟ بلى أنا مخلوق، إذاً: من خلقك؟ فيطأطئ رأسه: لا أدري.
    الأمر الثاني: الذي يثبت التعدد نقول له: الله هو المعبود الحق وأنت تثبت معه واحداً أو اثنين أو عشرة، هذا الذي تثبته خالق أم مخلوق؟ مخلوق مربوب، سواء كان من الجن أو الإنس أو الملائكة.
    إذاً: فبطلت كل دعوى يريد صاحبها أن ينفي هذه الجملة: لا إله إلا الله إما بـ(لا إله) أو بالتعدد، فلم يبق إلا الحق وهو أنه لا إله إلا الله، ولازم هذا أن يعبد بما شرع للناس أن يعبدوه به، وأن لا يشاركه في تلك العبادة مخلوق كائناً من كان، لا يحل عقلاً ولا شرعاً أن يشارك الخالق في طاعته التي تعبد بها الناس والجن والملائكة، فهذه السورة تقرر مبدأ لا إله إلا الله.
    تقرير السورة لعقيدة البعث والجزاء
    ثانياً: تقرر مبدأ البعث الآخر والحياة الثانية دار الجزاء على الكسب الدنيوي في هذه الدار، الناس يكسبون الخير والشر، فلا بد من جزاء واف لأعمالهم التي كسبوها بإراداتهم وحرياتهم، وهو الإيمان بلقاء الله والوقوف بين يديه والاستنطاق والاستجواب ثم الحساب الدقيق السريع والجزاء: الخير بالخير، والشر بمثله.
    تقرير السورة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
    ثالثاً: تقرر أن محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي العربي رسول الله، ولن يستطيع ذو عقل أن ينفي رسالته أبداً إلا إذا انسلخ من عقله وأصبح كالحمار، وبيان ذلك أن رجلاً أمياً لم يقرأ ولم يكتب يتحدث عن الملكوت الأعلى بالتفصيل، يتحدث عن الكون كله، يتحدث عن الذرة والمجرة، كيف يتم هذا لأمي لا يقرأ ولا يكتب؟! وإذا قال الكلمة فوالله إذا صحت عنه واجتمعت البشرية كلها على نقضها ما نقضتها، فكيف لا يكون رسول الله؟!وأعظم من ذلك أن بيده كتاب الله المقدس فيه مائة وأربع عشرة سورة، فيه علوم الأولين والآخرين، فيه التقنين العجب، فيه السنن العجب، هذا الكتاب من أين جاء له؟ هل كتبه عمه؟ هل أعطاه فلان؟ لقد تحدى الله العرب أهل البيان واللسان والبلاغة على أن يأتوا بسورة فقط من مثله فعجزوا، واقرءوا قول الله تعالى: ( وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ )[البقرة:23]، أي: شك، ( مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )[البقرة:23-24]، وهل فعلوا؟ مضى عليهم ألف وأربعمائة عام فهل استطاعوا؟ ( وَلَنْ تَفْعَلُوا )[البقرة:24].
    تقرير الآيات عظم جرم المشركين بعد إيراد دلائل قدرة الله تعالى ووحدانيته
    الآيات السابقة بينت للعادلين بربهم الأصنام والأحجار والشهوات والأهواء مظاهر وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته في الكون كله، وإن شئتم أسمعتكم الآيات التي تقدمت مرة ثانية، وهي قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )[الأنعام:95-99].بعد هذا كله قال: ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ )[الأنعام:100]، يا للأسف! مع هذا كله ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ )[الأنعام:100].
    ذكر بعض ما يتعلق بعالم الملائكة وعالم الجن وعالم الإنس
    والجن -معاشر الأبناء والمستمعين والمستمعات- عالم يضاهي عالم الإنس، إذ العوالم ثلاثة: عالم الملائكة، وهذا عالم الطهر والصفاء، فالملائكة مخلوقون مفطورون على عبادة الله، لا يعصون الله عز وجل ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ماذا تعرفون عن عالم الملائكة؟ أولاً: كل واحد منكم معه عشرة.
    وقال صلى الله عليه وسلم: ( أطّت السماء وحق لها أن تئط؛ ما يوجد في السماء موضع شبر إلا عليه ملك راكع أو ساجد )، فعالم الملائكة عالم الطهر.
    وعالم الجن عالم آخر، وهم قريبون في الخلق من الملائكة؛ لأن الملائكة مادة خلقهم من النور، ومادة خلق الجن من النار، والنور والنار بينهما تقارب، وهذا هو السر في أننا لا نقدر على رؤيتهم، وأبصارنا أعطيت طاقة محدودة لا تتجاوزها، ما نقدر على رؤية الجن ولا الملائكة إلا إذا تشكل بشكل مادي كإنسان أو حيوان فتراه وتشاهده، فجبريل رسول الله إلى الأنبياء والرسل كان يأتي كثيراً في صورة دحية الكلبي في صورة إنسان.
    وبعدهما عالم الإنس وهم ذرية آدم، هذا العالم فيه البار والفاجر، والكافر والمؤمن، والطالح والصالح، ومرد هذا إلى الإيمان والعمل الصالح، وإلى الشرك والكفر والعمل الفاسد، والنار مخلوقة لإيواء من كفر بالله وأشرك به وعصاه من الإنس أو الجن على حدٍ سواء.
    إلا أن من ولد من إبليس من الجن هؤلاء كلهم شياطين، لا يعبدون الله ولا يعترفون بعبادته، ذرية إبليس الذين انحدروا منه إلى الآن يتوالدون، هؤلاء لا يؤمنون ولا يعبدون الله عز وجل، ولا خير فيهم البتة، أبلسهم الله وأيأسهم، وغير أولاد إبليس فيهم البار والفاجر كأولاد آدم، والكافر والمؤمن والصالح والطالح على حد سواء.
    عالم الجن وعالم الشياطين عبده أمم في الهند وفي أوروبا وفي فارس، عبدوا الجن، تمثلوا لهم وعبدوهم واتخذوهم آلهة، ورسموا لهم هياكل، حتى قيل: إن جاناً رسموا صورة من ذهب، هيكل ذهبي، هذه الأمم إلى الآن تعبد الجن في تلك التماثيل والصور التي رسموها ووضعها لهم.
    بيان ما وقع فيه بعض المشركين من إشراك الجن مع الله تعالى ونسبة البنين والبنات إليه سبحانه
    قال تعالى: ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ )[الأنعام:100]، شركاء من الجن، وكل من عبد غير الله قد عبد الشيطان، من الذي يدعو الإنسان إلى أن يعبد صنماً أو كوكباً أو فرجاً؟ والله إنه الشيطان، هو الذي يدعوه ويحسن له ويزينه، ويدفعه إلى ذلك، فهو عابد الشيطان ما هو بعابد الصنم، عبد من أطاعه.إذاً: فكل الآلهة التي عبدت لك أن تقول: إنما الشيطان هو المعبود، ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ )[الأنعام:100]، يا للأسف! مع ما بين تعالى لهم من آياته الدالة على وجوده وعلمه وقدرته ورحمته المقررة لربوبيته وألوهيته، مع هذا جعلوا له شركاء الجن.
    ثم قال تعالى: ( وَخَلَقَهُمْ )[الأنعام:100]، خلق البشر وخلق الجن، ( وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ )[الأنعام:100]، قراءتان سبعيتان: (خرقوا) و(خرّقوا): اختلقوا وافتروا الكذب والافتراء.
    فالنصارى إلى الآن نساءً ورجالاً يقولون: عيسى ابن الله، وهذا معتقدهم وعليه يحيون ويموتون، فهل عيسى ابن الله؟! كيف هذا يتم؟! إنهم يؤولون ذلك ليخرجوا من الورطة، ولكن ما نفعهم ذلك، قد يقول قائلهم: لحبنا له فقط جعلناه كأنه ابن الله. وهو كذب وافتراء.
    اليهود أهل كتاب، ومع ذلك قالوا: العزير ابن الله، وإلى الآن يعتقدون أن عزيراً عليه السلام ابن الله عز وجل، وسبب قول اليهود: عزير ابن الله -كما تقول الروايات-: أنه لما احتل البابليون ديارهم وأجلوهم منها وأخرجوهم واستولوا على أموالهم، واستولوا على كتابهم التوراة وفيها ألف سورة لم تحفظ عن ظهر قلب، فلما أخذها جيش البابليين العراقيين واستولوا عليها قالوا: من لنا بالتوراة؟ فأملاها عليهم العزير، حفظها عن ظهر قلب، فلما أملاها عليهم وكتبوها قالوا: إذاً: أنت ابن الله! الشيطان زين لهم فقالوا: مستحيل أن يحفظها أحد من هذه الأمة إلا هذا، فهذا ابن الله، فقالوا: عزير ابن الله.
    العرب فيهم طوائف -بنو لحيان- قالوا: الملائكة بنات الله، قالوه بألسنتهم، والذي يقول هذا ويقرره في نفوسهم هو إبليس، قالوا: إن الله قد أصهر إلى الجن وأنجب الملائكة، فهم بنات الله، فهم يعبدونهم بوصفهم بنات الله، وهذا كله من إيحاء الشيطان وتحسينه وتزيينه ووسوسته، يا للعجب! فجاء القرآن الكريم يمزق هذه الحبال الواهية، ويسقط هذه المباني الساقطة، ويقرر الحقيقة الحقة التي لا يطرأ عليها أبداً ضعف ولا نقص، لا إله إلا الله.
    (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ )[الأنعام:100]، لا علم عقلي ولا علم مادي ولا علم وحيي وتنزيلي من كلام الله ورسله، والله لا علم، فكيف -إذاً- ينسبون لله الولد والبنت؟
    معنى قوله تعالى: (سبحانه وتعالى عما يصفون)
    (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ )[الأنعام:100]، نزه الله تعالى نفسه وقدسها عن أن يكون -مثلما يقولون- له الولد والبنت، لا من الملائكة ولا من الإنس ولا من الجن، هل هو في حاجة إلى ابن؟! كيف يفهمون هذا الكلام؟!(سُبْحَا نَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ )[الأنعام:100]، يصفونه بماذا؟ وصفوه بأن له ولداً، وأنه له بنتاً أو بنات وأنه له شركاء.
    تفسير قوله تعالى: (بديع السموات والأرض...)
    ثم قال تعالى: ( بَدِيعُ السماوات وَالأَرْضِ )[الأنعام:101]، من يشارك الله في هذا؟بديع: مبدع ومخترع السماوات والأرض قبل ألا يكون شيء، ما هناك صورة صور عليها وأوجد مثلها أو نظيرها، إبداع كامل لم يسبق له نظير ولا مثيل، ومن يقول: لا؛ نقول له: ومن أبدع السماوات والأرض؟ ما تستطيع أن تقول: فلان، فاسكت إذاً وقل: آمنت بالله.
    (بَدِيعُ السماوات )[الأنعام:101]، إن سماء الدنيا وأفلاكها وكواكبها فقط يحار العقل البشري في إيجادها وصنعها، فكيف بسبع سموات؟ وقد اخترقها رسول الله ونزل بالملكوت الأعلى وشاهد العالم العلوي بما فيه، ( بَدِيعُ السماوات وَالأَرْضِ )[الأنعام:101]، وهذا الكوكب الأرضي من أبدعه ومن أوجده؟ هل هم بنو تميم؟ هل بنو فلان؟ هل الهنود؟ هل الزنادقة من المجوس؟ ما له من مبدع إلا الله عز وجل.
    تنزيه الله سبحانه عن الصاحبة والولد
    (بَدِيعُ السماوات وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ )[الأنعام:101]، كيف يكون له ولد ( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ )[الأنعام:101]، أيعقل أن إنساناً يكون له ولد بدون زوجة؟ هل هذا في أمريكا موجود؟ في الهند؟ في عالم الجن؟ هل يوجد ولد بدون أب وبدون أم؟ مستحيل، كيف يكون له ولد وليس له زوجة؟ ما استطاعوا أن يقولوا: زوجته فلانة؛ فسيضحك عليهم، أيخلقها وتكون له زوجة؟ وهل تساوي جنابه وعظمته وجلاله؟ هل الذي يضع السماوات في يمينه تكون له زوجة؟(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )[الزمر:67]، كرسيه وسع السماوات والأرض، فكيف يكون له زوجة ويكون لها ولد؟! عجب هذا القرآن.
    (بَدِيعُ السماوات وَالأَرْضِ)[الأنعام:101]، بديع: مبدع موجد لهما على غير مثال سابق، بخلاف الذي يبني داراً -مثلاً- لأنه شاهد أخرى فبنى مثلها، لكن المبدع الذي يوجد بدون مثال سابق.
    (بَدِيعُ السماوات وَالأَرْضِ أَنَّى)[الأنعام:101]، أي: كيف يكون؟ استبعاد، مستحيل ( أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ )[الأنعام:101]، والله! إنه لمستحيل هذا، الذي ليس له زوجة هل يكون له ولد؟ أهذا موجود في البشر؟! أو في الحيوانات ممكن؟
    معنى قوله تعالى: (وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم)
    (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ )[الأنعام:101]، والله لا يستثنى ذرة في العوالم كلها، ليس هناك مخلوق لم يخلقه الله في العوالم العلوية والسفلية، فكيف يخلق كل شيء ويكون معه شريك يعبد بعبادته؟ خلق كل شيء ويوجد بين المخلوقين من يُعبد معه ويؤله بتأليهه ويعظم بتعظيمه، كيف يعقل هذا؟! هذه الآيات تنتزع الأوهام والسموم والجهالات من العقول البشرية، لكن من يستفيد منها؟ من يسمعها ويصغي إليها، ويتأمل ما فيها ويتدبر ما تحمله من الهدى؟ ولذلك آمن العرب وفازوا وسادوا وأصبحوا مضرب المثل في الكمال أيام أقبلوا على القرآن الكريم وفهموه.
    (بَدِيعُ السماوات وَالأَرْضِ أَنَّى )[الأنعام:101]، أي: كيف ( يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ )[الأنعام:101]، والصاحبة هنا: الزوجة، لماذا سميت صاحبة؟ لأنها تصحبك في كل يوم وليلة، هل تفارقك الزوجة؟ أنت صاحبها وهي صاحبة لك، من الصحبة والمصاحبة.
    (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[الأنعام:101]، لا توجد ذرة في الأكوان إلا هو عليم بها، فلو كان له ولد لعلمه وعرفه، أين هذا الولد؟ لو كان له شريك يستحق أن ينحنى له أو يعظم أو تذبح له الذبائح أو تخافه النفوس لعلمه؛ لأنه هو خالق العالم وهو بين يديه، فكيف يوجد له شريك لا يدري به ولا يعلم؟!
    تفسير قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه...)
    ثم ختم ذلك البرهان بقوله: ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ )[الأنعام:102]، ما معنى ربنا؟ خالقنا ورازقنا وواهبنا عقولنا وطاقاتنا البشرية، وخالق الأرض لنا والسماء فوقنا، وأوجد لنا مقومات حياتنا من الأكسجين والهواء إلى الماء، هو خالق كل شيء، هذا هو ربنا، كيف يكون المخلوق رباً لنا؟ لا عيسى ولا العزير ولا الملائكة ولا عبد القادر ولا عيدروس ، ما لنا من إله سوى الله. (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ )[الأنعام:102]، أي: لا معبود يستحق العبادة في العوالم إلا هو فقط، لا جبريل ولا ميكائيل ولا المقربون، ولا رسول ولا نبي ولا كائن يستحق أن يعبد مع الله.
    (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ )[الأنعام:102]، ومن قال: يوجد إله فليأتنا بتمثال يشير إلى كوكب أو إلى فكرة هابطة خلقت ورزقت، وأصبحت إلهاً تعبد! هذه خرافات وضلالات وأفكار الشياطين هي التي تزينها وتحسنها.
    إن الإله الذي يعبد هو الذي يكون خالقاً لكل شيء عالماً بكل شيء قادراً على كل شيء، رحيماً بكل شيء، هذا هو الذي يؤله وننحني بين يديه ونركع ونسجد، ونقول فيه: إله الحق.
    (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ )[الأنعام:102]، من قال: لا هلك، ومن قال: مرحباً سمعاً وطاعة سأعبده نجح.
    بيان كيفية العبادة وما يعبد الله تعالى به
    (فَاعْبُدُوهُ )[الأنعام:102]، كيف نعبدك يا ربنا؟ لقد أرسلنا إليكم رسولنا وأنزلنا عليكم كتابنا، وهو حاو لكل ما نحب أن نعبد به، ورسولنا يبين ذلك ويفصله، فاعبدوه بما يبين رسولنا وبما حواه كتابنا، وإن كان لفظ العبادة معناه الإذعان والذل والطاعة، والطاعة ما هي؟ أن يقول: اسكت فتسكت، أو يقول: انطق فتنطق، أن يقول: امش فتمشي، أن يقول: قف فتقف، هذه هي العبادة، إذ هي الطاعة، ( فَاعْبُدُوهُ )[الأنعام:102]، نسأل: بم نعبده وكيف نعبده؟ والجواب: كتابي فيه ما أمرت أن أعبد به، ورسولي يبين ذلك، إذاً: فاغتسل يا من قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، اغتسل من جنابتك، ثم أقم الصلاة، واشهدها في بيوت الله مع أوليائه خمس مرات في الأربع والعشرين ساعة، فهذه من أعظم العبادات وأشرفها وأكملها، تشابه الملائكة في السماء، م أعط الزكاة إن كان لك مال يزكى، وصم رمضان عندما يهل هلاله، وحج بيت الله عندما تقدر على ذلك، ووراء ذلك استعدادك الكامل لأن تطيع الله في كل ما يأمر به، لو قال: اسكت تسكت فلا تتكلم، وأطعه فيما نهاك عنه وحرمه عليك من قول أو اعتقاد أو عمل، هذه هي عبادته تعالى.
    سر العبادة
    وسرها عرفه الأبناء والإخوان في هذه الحلقة، العبادة ليس مما ينتفع الله به أو هو في حاجة إليه، لا والله، وإنما من أجل أن يكمل عبد الله وأمته ويسعد في الدنيا والآخرة، والله لا يوجد أمر من أوامر الله ورسوله لم يحقق لفاعله خيراً قط، ولا يوجد منهي بنهي الله ورسوله للمؤمن ولا يحمل ضرراً وشراً لعبد الله أو أمته، وزبدة ذلك أن تزكو النفس وأن تطيب وتطهر فتتأهل للملكوت الأعلى، انتهت أيام الدنيا وتوفي فلان فأين يذهب بروحه الطاهرة الزكية؟ إلى الملكوت الأعلى، في مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.لقد عرفنا تعالى بنفسه وعرفناه وقلنا: عرفناك يا رب. قال: إذاً: فاعبدوني لتسعدوا وتكملوا، وإن قلت: كيف؟ وبم؟ فالجواب: عليك برسول الله وكتاب الله، وإن قلت: أين رسول الله؟ أو لا أحسن أن أقرأ، قلنا: خلفاء رسول الله علماء الكتاب والسنة اقرع بابهم واسألهم: كيف أتوضأ؟ كيف أصلي؟ كيف أصوم؟ تتعلم.
    معنى قوله تعالى: (وهو على كل شيء وكيل)
    (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ )[الأنعام:102]، ما معنى ربكم؟ خالقكم ومدبر أمركم، وواهبكم وجودكم وحياتكم، لا رب لكم غيره، معبودكم الحق الذي لا معبود سواه.(خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ )[الأنعام:102]، كل الأمور موكولة إلى الله هو الذي يدبرها ويتصرف فيها، فوض أمرك إليه واعبده فقط وأقبل عليه، فهو على كل شيء وكيل.
    تفسير قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)
    وفي الآية الأخيرة يقول تعالى: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ )[الأنعام:103]، الأبصار: جمع بصر، فالعين هذه ما هي؟ كيف تنظر؟ لماذا لا أنظر بيدي؟ لماذا لا أنظر بركبتي؟ ما هي هذه القطعة؟ وإن حل الأطباء خيوطها وأنسجتها ما عرفوا كيف ينظر بهذه، هذه الأبصار التي وهبنا إياها لنرى ما ينفعنا ويضرنا وتستقيم حياتنا، هذه الأبصار هل تدرك الله عز وجل؟إن موسى عليه السلام -كما علمتم يقيناً- لما كان الله يحدثه ويكلمه تاقت نفسه -وله الحق- إلى رؤية الله عز وجل، فقال: ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ )[الأعراف:143]، فأجابه تعالى بقوله: (
    لَنْ تَرَانِي )[الأعراف:143]، ما أنت بأهل لذلك، ما تستطيع، ( قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي )[الأعراف:143]، لما تسكن نفسك وتطمئن انظر إلى الجبل أمامك، فإن استطعت أن ترى الجبل فإنك تستطيع أن تراني، وتجلى -أي: ظهر- ربه للجبل فاندك اندكاكاً كاملاً وأصبح هباءً، ما إن نظر موسى إلى الجبل وقد تحلل حتى أغمي عليه وصعق، ما تستطيع -إذاً- أن تنظر إلى الله، ما تقوى بهذا البصر، لو أعطاك بصراً قابلاً لرؤية الله نعم، لكن هذه أبصار غير قابلة أبداً، تموت وتهلك ويأكلها التراب.
    فحين يخلق الله الخلق من جديد خلقاً أعظم من هذا الخلق، ونقف بين يديه هناك نستطيع أن نرى الله عز وجل، أهل الجنة يكشف لهم الحجاب عن وجهه الكريم وينظرون إليه فيجدون لذة وسعادة ما عرفوها قط، أما هذه الأبصار فلا تدركه ولا تبصره.
    (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:103]، ثم عندما ينظر إليه أولياؤه في الجنة ليس معنى هذا أنهم أدركوا ما وراء الرؤية، ما يدركون أبداً، أنت الآن تنظر إلى هذا الجبل لكن لا ترى ما وراءه.
    (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:103]، لطف كامل وخبرة كاملة بالكون كله، لا تخرج ذرة في الكون عن علم الله تعالى وقدرته ولطفه، فهذا الذي يجب أن يعبد أم لا؟ فاعبدوه، اعبدوه من أجلكم لا من أجله، من أجل أن تكملوا وتسعدوا في دنياكم وآخرتكم.
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #395
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (31)
    الحلقة (394)
    تفسير سورة المائدة (25)

    يوجه الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم لأن يلزم ما يوحيه إليه ربه ويعرض عن أهل الشرك والضلالة، لأنه عز وجل قد أتاهم بالآيات القرآنية والآيات الكونية لتحملهم على الإيمان بما جاءهم به هذا النبي، فمن قبل الحق، واتبع الهدى، وأبصر الصراط المستقيم؛ فقد انتفع ونجا، وأما من أعرض عن الحق وتنكب الصراط، فإنما هو أعمى، ولا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
    تفسير قوله تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.
    من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، هذه السورة تقدم لنا أن قلنا: إنها تقرر المبادئ العظمى الثلاثة:
    أولاً: توحيد الله عز وجل، أي: لا إله إلا الله، فلا يعبد إلا هو في الحياة.
    ثانياً: تقرير النبوة المحمدية، وأن محمداً رسول الله.
    ثالثاً: البعث الآخر، يوم القيامة وما يتم في ذلك أولاً من حساب، ثم الجزاء إما بالنعيم المقيم وإما بالعذاب الأليم.
    كل آيها تدور حول هذه المعتقدات الثلاثة، وها نحن الآن مع هذه الآيات الأربع، فهيا نستمع تلاوتها مرتلة مجودة ثم نأخذ في تدارسها وبيان ما جاء فيها بإذن ربنا تعالى.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ )[الأنعام:104-107].
    المراد بالبصائر وما يبصر بها
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ )[الأنعام:104]، هذا خبر أم لا؟ من المخبر؟ الله جل جلاله، الله منزل الكتاب باعث الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يخبرنا بهذا الخبر، ولنعم ما أخبر به عز وجل: ( قَدْ )[الأنعام:104]، التي تفيد التحقيق ( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ )[الأنعام:104]، واحد البصائر: بصيرة، والبصيرة: العين المبصرة، بصيرتك عينك التي تبصر بها، أليس كذلك؟فما هذه البصائر التي جاءتنا لنبصر بها فنعرف الحياة على حقيقتها حلوها ومرها، وباطلها وحقها، وربحها وخسرانها، إنها -والله- لآيات الله القرآنية، كل آية تهدي إلى أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن للحياة نهاية، وللحياة الثانية بداية ونهايتها استقرار إما في الملكوت الأعلى وإما في أسفل سافلين، هذه البصائر آيات الله القرآنية، نبصر بها ماذا؟ ما يضرنا وما ينفعنا، نبصر بها ما يسعدنا وما يشقينا، نبصر بها الحق، نبصر بها الباطل، نعرف بها الإيمان، نعرف بها الكفر والشرك وهكذا، فمن حرمها فهو أعمى -والله- لا يبصر شيئاً، فمن آمن بهذا القرآن الكريم وقرأه وتدارسه وفهمه وعرف ما فيه أصبح ذا بصيرة نافذة لا يجهل شيئاً من هذه الحياة ظاهرها كباطنها، ومن أعرض عنه واستكبر وكذب وأنكر وجحد وكفر فهو في عداد العميان، هل الأعمى يعرف الطريق إلى دار السلام؟ لا يعرف.
    إذاً: فعلى البشرية أبيضها وأسودها أن تؤمن بهذا القرآن، وإذا آمنت به أنه كلام الله ووحيه وجب أن تجتمع عليه وتتدارسه لتعرف معاني هذه الآيات لتبصر بها الحياة على حقيقتها.
    تغييب القرآن الكريم عن الحياة العملية في بلاد المسلمين وأثر ذلك عليهم
    ومما أكرر القول فيه -وقد لا تسمعونه في غير هذا المجلس- أن أعداء الإسلام ذلكم الثالوث الأسود المكون من المجوسية واليهودية والنصرانية عرفوا هذه الحقيقة وما عرفناها، عرفوا أن هذا القرآن بصائر، وأن من عرفه عرف الحياة ظاهرها وباطنها وعرف كيف ينجو من آلامها وشقائها وكيف يسعد بالآخرة وما فيها، عرفوا هذا معرفة ولم يعرفه من المسلمين عدد بنسبة واحد إلى مليون.فمن ثم قالوا: هيا نعميهم. كيف تعمونهم؟ قالوا: نبعدهم عن القرآن، وقالوا: القرآن تفسيره حرام، صوابه خطأ وخطؤه كفر، فانكمشت الأمة عن القرآن، وما أصبح في القرى ولا المدن من يقول: قال الله كذا وكذا، وإذا قال ذلك قيل له: اسكت! أنت تعرف كلام الله؟!
    إذاً: ماذا نصنع بهذا القرآن؟ قالوا: حولوه إلى المقابر وإلى الموتى، واستجبنا لظلمة نفوسنا وأصبحنا لا نجتمع على آية نتدارسها ولا سورة في يوم ولا في عشرة، وأصبح القرآن يقرأ فقط على الموتى، إذا مات أبي أو أخي أو أمي نجمع كذا من أهل القرآن في قريتنا أو في حينا ثلاث ليال أو سبع ليال يقرءون القرآن بصوت واحد يترنمون به، ويأكلون اللحم والطعام، ويوضع في جيوبهم الريالات ويمشون وقد أعتقنا والدنا.
    وذكرت لكم ما بلغنا أن في ديار الشام في تلك الأيام تكونت نقابة، بالتلفون بالرقم كذا، إذا احتجت إلى طلبة القرآن لميت فاتصل بهم هاتفياً وقل لهم: أريد عشرة من أهل القرآن فقد مات الوالد رحمة الله عليه، يقولون لك: من فئة المائة ليرة أم الخمسين؟ إذا كنت غنياً ثرياً فمائة، وإذا كنت فقيراً فخمسون ليرة، هكذا والله من إندونيسيا إلى موريتانيا شرقاً وغرباً أكثر من سبعمائة سنة.
    ومن أراد البرهنة العقلية المنطقية السياسية نقول له: هل استعمر العالم الإسلامي وحكمه الكفار أم لا؟ استعمر من إندونيسيا إلى موريتانيا، ما نجى الله إلا هذه البقعة بلاد الحرمين، فكيف يسلط الله الكافرين على المسلمين وهو القائل: ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا )[النساء:141]؟ أن هؤلاء هم المؤمنون بحق وصدق، الذين يصدق عليهم أنهم المؤمنون.
    كيف وصلوا إلى استعمارنا واستغلالنا والتحكم فينا؟ لأننا متنا وعمينا عن الآيات المبصرة وما عرفناها، القرآن النور والروح حولناه إلى الموتى، تدخل إلى المقبرة فتجد طلبة القرآن عاكفين على القبور ينادونك: جنيهاً فقط نقرأ على أمك! وهكذا.
    سعادة المسلمين الأوائل بالقرآن الكريم
    إذاً: ( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ )[الأنعام:104]، وهل أبصر بها المسلمون؟ إي ورب الكعبة، كيف تحولت هذه العروبة وهذه البادية إلى أنوار؟ وأهلها صاروا أشباه الملائكة وسادوا العالم وقادوا البشرية شرقاً وغرباً إلى هدايتها وكمالها وسعادتها ثلاثمائة سنة؟ هل بالقرآن أم بالفلسفة؟ من يرد هذا من ذوي العقول والبصائر؟ فلما عرف العدو هذا سلب هذا القرآن من عندهم فهبطوا.إذاً: قولوا: صدق الله العظيم. ( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ )[الأنعام:104]، فحفظة القرآن العارفون به يعرفون ما أحل الله وما حرم، يعرفون ما أمر الله به ليفعل وما نهى عنه ليترك، إذ هذا سبيل السلام وطريق السعادة، فعل المأمور وترك المنهي به تزكو النفس وتطيب وتطهر، ويصفو العقل ويستنير ويواصل عبد الله مسيره إلى دار السلام.
    (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ )[الأنعام:104]، هذه الآية نزلت في مكة والمشركون حول من نزلت عليه يطعنون ويسبون ويشتمون ويتواصون بالباطل، فماذا يقول الله لهم؟ ( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا )[الأنعام:104]، هو هذا الواقع أم لا؟ جاءتكم البصائر فمن أبصر فلنفسه عرف الطريق طريق السعادة والكمال فسعد وكمل، ( وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا )[الأنعام:104] أي: على نفسه، تبقى في الظلام والهلاك والدمار والخراب.
    معنى قوله تعالى: (وما أنا عليكم بحفيظ)
    (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ )[الأنعام:104] كأنما الله تعالى يقول لرسوله: قل يا رسولنا لقومك المشركين الذين تقدمت الآيات في بيان هدايتهم، قل لهم: ( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا )[الأنعام:104] أي: على نفسه، وأما أنا ( وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ )[الأنعام:104]، ما أنا بوكيل على هدايتكم ولا مسئول عن ضلالكم وشقاوتكم ولا سعادتكم وكمالكم، ما أنا إلا مبلغ فقط وقد بلغت. الله يعلم رسوله أن يقف هذا الموقف ويقول هذا القول حتى لا يكرب ولا يحزن ولا يتألم: ( وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ )[الأنعام:104]، أي: لست موكلاً بهدايتكم مكلفاً بها، فلهذا تؤلمونني إذا كفرتم وأصررتم على الشرك والباطل، يقول تعالى ذلك ليذهب عن رسوله ألم الحزن وألم الكرب الذي يعانيه من المشركين.
    هذه الآية الأولى أعيد تلاوتها: ( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا )[الأنعام:104]، وما رسول الله عليهم بحفيظ، ( وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ )[الأنعام:104]، أي: لست بملزم بهدايتكم ولا بموكل بها، أنا لا أملك هذا، ما كلفت به، أقدم لكم البصائر فمن أبصر فلها ومن عمي فعليها.
    تفسير قوله تعالى: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون)
    الآية الثانية: يقول تعالى وقوله الحق: (
    وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ )[الأنعام:105] كهذا التصريف للآيات نصرفها ما دام الوحي ينزل والرسول يبلغ، كم سنة وهو يصرف بعد هذه الآية؟ وهكذا نصرف الآيات تصريفاً لبيانها وهدايتها وما تحمل من حجج وبراهين عقلية ومنطقية، ولا يهلك على الله إلا هالك. (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ )[الأنعام:105]، وفي قراءة (دارست)، وقوله تعالى: (وليقولوا) هذه لام العاقبة، نصرف الآيات لا من أجل أن يقولوا، ولكن سوف يقولون، فنحن نصرفها ونلونها ونقدم ونؤخر ونظهر ونخفي من أجل الهداية، ولكن القوم يقولون: درست، أي: تعلمت هذا العلم من غيرك.

    وكان صهيب الرومي عبداً من بلاد الروم فأسلم، فقالوا: هذا صهيب يعلمه، يجلس إليه في بيته ويدرس عنده، وهذا الذي يقوله محمد مما تعلمه ودرسه.
    وقراءة (دارست) -وهي حق- معناها أنهم قالوا: أيضاً دارس اليهود والنصارى، كان يذهب إلى الشام للتجارة فيتصل بالنصارى، واليهود في المدينة وقد يأتون إليه ويتصل بهم ويعلمونه!
    هذا هو الطابور الخامس أو الإعلام الكاذب، يختلقون الكذب ويفترونه وهم موقنون أن الرسول ما دارس يهودياً ولا نصرانياً، ولا درس عند يهودي ولا نصراني، ولكن للتعمية والتضليل وصرف الناس عن هذا النور حتى ينطفئ وتعود ظلماتهم، فهم يكذبون على الله ورسوله والمؤمنين.
    وقالوا إيضاً: إنما يعلمه بشر. قال تعالى: ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ )[النحل:103]، الذي يميلون إليه ويقولون: يتعلم منه هو صهيب الرومي عجمي، وهذا لسان عربي، فكيف يتعلم العربي من العجمي؟!
    إذاً: يقول تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ )[الأنعام:105]، أي: وكهذا التصريف ومثله نصرف الآيات الآيات القرآنية،كم آية في القرآن يا عباد الرحمن؟ ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية.
    دلالة الآيات القرآنية على وحدانية الله تعالى ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم
    الآية ما معناها؟ الآية: العلامة الدالة على شيء، كل آية تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن البعث حق، كيف هذا يا شيخ؟
    الجواب: هذه الآية من أين جاءت؟ من أنزلها؟ من أوحى بها؟ لا جواب إلا: الله، إذاً: فالله موجود وعليم وحكيم، ويدل على وجوده وعلمه وحكمته هذا الكتاب وهذه الآية.
    على من نزلت هذه الآية؟ على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: والله إنه لرسول الله، لو لم يكن رسولاً فهل سينزل عليه القرآن والوحي؟ فهي تقرر أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا القرآن والوحي والرسول لماذا؟ من أجل أن يعبد الله في الأرض حتى يكمل أهل الأرض ويسعدوا في الدار الآخرة.
    فكل آية من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
    (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ )[الأنعام:105] قالوا أم لا؟ ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ )[النحل:103].
    معنى قوله تعالى: (ولنبينه لقوم يعلمون)
    قال تعالى: ( وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )[الأنعام:105]، ولنبين هذا القرآن وهذا التفصيل للآيات لقوم يعلمون، هم الذين ينتفعون بهذا، عبد الله بن سلام وإخوته ومن سمعوا كلام الله ما ترددوا في الإسلام والدخول فيه من نصارى ومجوس ويهود، والذين لا علم لهم دائماً يكونون متأخرين. هذا التفصيل ( وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )[الأنعام:105]، ومعنى هذا واضح، هل عوامكم -أيها المستمعون- يعرفون القرآن؟ يعرفون الحلال والحرام والآداب والأخلاق؟ لا يعرفون؛ لأنهم جهال. وعلماؤكم يعلمون أم لا يعلمون؟ يعلمون.
    (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )[الأنعام:105]، يبينه تعالى ويفصل آيه ويصرفها وتتجلى أنوارها في كل مكان لمن يبصر ولمن يعلم.
    وجوب تعلم العلم لتحصيل النجاة
    (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )[الأنعام:105]، ومعنى هذا أنه حرام علينا أن نعيش جهلاء، إننا آثمون إن لم نتعلم العلم الإلهي، فآثار الجهل هذا الهبوط والسقوط والذل والصغار والحقار.يجب أن نتعلم، حرام أن يعيش نساؤنا ورجالنا بدون علم، فإنهم إذا لم يعلموا لا يهتدون ولا يبصرون ولا يعرفون الطريق إلى الله، فيزنون ويفجرون ويكذبون ويخدعون ويقولون الباطل ويفعلون الشر لجهلهم.
    قد تقول: كيف نعمل يا شيخ؟ ما المخرج؟ أما هناك خطة رشيدة، أما هناك سياسة حكيمة؟ إلى متى؟
    والجواب: قد بينا الطريق وكتبنا رسالة هي خطة لأمة الإسلام من علماء وحكام ووزعناها وقرأناها، خطة رشيدة فيها سبيل النجاة، وخلاصة ذلك أن أهل القرية في مصر أو في الحجاز أو في باكستان أو في المغرب على إمامهم يوم الجمعة في خطبته أن يقول لهم: أيها المستمعون! معشر المؤمنين والمؤمنات! من هذه الليلة لا يتخلف رجل ولا امرأة عن صلاة المغرب في هذا المسجد. ما إن تميل الشمس إلى الغروب حتى يقف العمل، أغلق الدكان وارم المسحاة يا فلاح، وارم الحديدة يا حداد، وتوضئوا واحملوا أطفالكم ونساءكم إلى بيت ربكم، الله أكبر! هل لربي بيت؟ أي نعم، فيصلون المغرب كما صلينا ويجلسون كما جلسنا، النساء وراء الستارة ومكبرات الصوت بين أيديهم والأطفال صفوف كالملائكة، والفحول أمامهم، ويجلس لهم عالم بالكتاب والسنة، فليلة يتعلمون آية يحفظونها في تلك الجلسة ويفهمون معناها ويعزمون على العمل بها وكلهم عزم وتصميم، حتى إذا أذن العشاء صلوا العشاء وعادوا إلى بيوتهم ولا حديث لهم إلا ما سمعوه وما تعلموه وكيف العمل به وتطبيقه، حتى يناموا على ذلك.
    وغداً -إن شاء الله- ما إن تغرب الشمس إلا وهم كأمس بنسائهم وأطفالهم ورجالهم في بيت ربهم، وإن كان ضيقاً وسعوه بالخشب أو بالأروقة، ويجلسون فيسمعهم آية أو حديثاً من أحاديث نبيهم صلى الله عليه وسلم يتفق مع مضمون الآية الكريمة؛ لأن الرسول مبين للقرآن، فيحفظون الحديث، ويعلمهم معناه ويطالبهم بأن يعزموا على التطبيق والعمل.
    وفي اليوم الثالث آية وفي الرابع حديث وفي الخامس آية وفي السادس حديث وهكذا طول العام، فسيصبح أهل تلك القرية كلهم علماء نساءً ورجالاً، والله العظيم! وإن كانوا لا يقرءون ولا يكتبون، وإذا أصبحوا علماء فما الذي يترتب على ذلك؟ قطعاً تنتهي مظاهر الحسد والكذب والخيانة والزنا والغش والعداوة والخلاف، كلها تنمحي، ويحل محلها الولاء والحب والأدب واللين والعطف حتى يصبحوا كأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
    كم كررنا هذا القول؟ والله العظيم لن يستقيم أهل قرية ولا حي ولا مدينة إلا على هذا المنهج الرباني، وقد عرف هذا العدو وصرفنا بكل الوسائل والوسائط ومددنا أعناقنا وما زلنا كذلك، وعلماؤنا ما يفرحون بهذا ولا يحاول أحدهم أن يفعل هذا لنبقى هكذا، وقد قلت لكم: إن أمة الإسلام تحت النظارة، فالله بالمرصاد.
    هل يرضى الله تعالى بخلافهم وتطاعنهم وفسقهم ورباهم وفجورهم وكذبهم؟! أعوذ بالله، والله ما هو إلا الإمهال وإلا الانتظار فقط ثم تنزل العقوبات، يا شيخ! أمة الإسلام تنزل بها عقوبة؟! أما سلط عليهم اليهود فأذلوهم؟ أما سلط عليهم النصارى فداسوهم وذوبوهم؟!
    فإما أن نعود وإما أن تنزل المحن والبلايا والرزايا أحببنا أم كرهنا، تلك سنة الله ( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا )[الأحزاب:62]، وعرفنا الآن.
    قال تعالى: ( وَلِنُبَيِّنَهُ )[الأنعام:105] أي: القرآن ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )[الأنعام:105] يعلمون من هو الله، ما صفاته، ما جلاله، ما كماله، ما حقه، بم يطاع وكيف يطاع، ما أوامره ما نواهيه، ما وعوده ما مواعيده؟ حتى يتكون هذا الشخص ويصبح أهلاً لأن يعبد الله عز وجل فلا يسرق ولا يكذب ولا يفجر ولا يعصي.
    تفسير قوله تعالى: (اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين)
    الآية الثالثة: يقول تعالى: ( اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ )[الأنعام:106] يا رسولنا، يا محمد بن عبد الله! اتبع ما يوحى إليك من ربك، الزم الذي يوحيه إليك وافعله، إن كان عقيدة اعتقدها، إذا كان عملاً انهض به، إذا كان نهياً اتركه، وهذا هو شأنك. (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ )[الأنعام:106]، اسأل المسلمين عن معنى (لا إله إلا هو)؟ لا واحد في الألف يجيبك إجابة صحيحة.
    (لا إله إلا هو) لا معبود يعبد بحق في الملكوت الأعلى والأسفل إلا الله، ولماذا لا يعبد بحق إلا الله؟ لأنه هو الخالق للأكوان كلها؛ لأنه الذي يشقي ويسعد، الذي بيده كل شيء، وما خلق الخليقة إلا لتعبده، فكيف لا يعبد؟ فالذي لا يعبده ما انتفع بكلمة (لا إله إلا هو)، لا معبود إلا هو ثم تعبد معه عبد القادر والعيدروس ؟ ما هذا التناقض؟
    من قال: لا إله إلا الله عبد الله أولاً قبل كل شيء، ثانياً: لا يعبد معه غيره بحال من الأحوال، ثالثاً: لا يرضى بعبادة غيره، وإلا فلن يفهم معنى لا إله إلا الله، والله تعالى يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )[محمد:19].
    فالذي يعلم أنه لا إله إلا الله كيف نعرف أنه علم؟ نعرف ذلك بأن يعبد الله أولاً، ثانياً: أنه لا يعبد معه غيره، ثالثاً: لا يرضى بعبادة غيره أبداً، لا من أبيه ولا من أمه ولا من قريب ولا بعيد، هذا فهم معنى لا إله إلا الله.
    توجيه الأمر بالإعراض عن المشركين
    يقول تعالى: ( اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:106]، قد نقول: هذه الآية خصص عمومها، أو نقول: نسخت ولا حرج، ولكن التخصيص أولى؛ لأنه في أيامه في مكة ما كان عنده حيلة أبداً يواجه بها المشركين، فأمر بأن يتبع ما أوحاه الله إليه ويعرض عنهم، لا يلتفت إليهم وهم يسبون ويشتمون ويكفرون، ما عنده قدرة على محاربتهم، فقيل له: ( اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:106]، لكن لما قويت شوكة الإسلام وارتفعت رايته وقامت دولته في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم هذه قال تعالى: ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ )[التوبة:1-2]، أعطاهم أجلاً أربعة أشهر: إما أن تدخلوا في الإسلام أو تخرجوا من الجزيرة أو تقطع رءوسكم، قال تعالى: ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ )[التوبة:5] لأن الرسول أوشك على الوفاة والدولة قائمة، ولا يجب أن يبقى في هذه الأرض مشرك؛ لأنها قبة الإسلام وعاصمته فيجب أن تطهر، فلا يقبل من أحد ذمة ولا يقبل منه هدي ولا يقبل منه جزية؛ لأن البقعة هذه هي قبة الإسلام. إذاً: فقوله تعالى: ( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:106] كان في تلك الأيام.
    تفسير قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل)
    وقوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا )[الأنعام:107] يسلي الله رسوله ويخفف حزنه وآلامه فيقول: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا )[الأنعام:107] أي: والله لو شاء أن يهديهم لهداهم، يخلق الإيمان فيهم خلقاً ما هو باختيارهم وطلبهم. وفي هذا رد على القدرية الذين يقولون: إن الإنسان يخلق أفعاله بنفسه ولا علاقة لله بهذا، والله تعالى يقول: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا )[الأنعام:107] يفطرهم في أرحام أمهاتهم على الإسلام فيخرجون من بطون أمهاتهم يقولون: لا إله إلا الله، لو شاء لفعل، ولكنه لا يفعل لأنه أوجد دار السلام وأوجد دار البوار، وهيأ هذا الكون كله وخلق عالم الإنس والجن من أجل أن يسعد من يطيعه ويشقي من يعصيه.
    يعرض على المكلف الإسلام، فإن قبله باختياره وعمل به زكت نفسه وطابت وأصبح أهلاً للجنة، وإن أنكر ذلك وتنكر له ورفضه خبثت نفسه وسقط في الجحيم، فلهذا نحن أحرار نفعل بإرادتنا ونترك بإرادتنا، والله خالقنا وخالق أعمالنا، ولولاه ما عرفنا كيف نتحرك أو كيف ننطق.
    قال تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا )[الأنعام:107] كما قلنا: من الحفيظ لهذا المكان؟ فلان المسئول عنه حتى لا يضيع منه شيء أو يغيب منه شيء.
    (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ )[الأنعام:107] كل هذا من باب أن يعرف المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو مبلغ لا يملك هداية أحد أبداً ولا إضلاله، يبلغ فقط، فبهذا يخف عن الرسول الألم والحزن؛ لأنه بقي عشر سنوات ما آمن به إلا عدد قليل، فكيف لا يتألم، يخرج إلى الأسواق فيسبونه ويجرون وراءه ويرمونه بالحجارة.
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #396
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (32)
    الحلقة (395)
    تفسير سورة المائدة (26)


    يؤدب الله عز وجل عباده المؤمنين ناهياً لهم عن سب آلهة المشركين من الأصنام والأوثان؛ لأن ذلك قد يحملهم على سب الله عز وجل، ظناً منهم أنهم بسبهم له تعالى قد انتصروا لآلهتهم، كما أن أهل الإيمان ليسوا سبابين ولا شتامين، ولا يتعاملون مع أهل الجهل بجهالتهم، وإنما هم يستقون تربيتهم الإيمانية من كتاب ربهم جل وعلا، ومن سنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
    تفسير قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة بضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ) .
    وها نحن مع سورة الأنعام المكية ومع هذه الآيات الثلاث، فهيا نصغي نستمع إلى تجويدها وترتيلها من أحد الأبناء ثم نشرع في دراستها.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )[الأنعام:108-110].
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ )[الأنعام:108]. ‏
    سبب نزول الآية الكريمة وبيان حكم سب الله تعالى وسب نبيه صلى الله عليه وسلم
    سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتصر في مكة وخرج من ذلك الحصار وكثر الأصحاب أصبح بعض المؤمنين يسبون ويشتمون آلهة المشركين، فما كان من المشركين إلا أن أتوا عم النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب وقالوا: إن ابن أخيك يسب آلهتنا، فإما أن يترك أو نسب إلههم. هذا معنى قوله تعالى: ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ )[الأنعام:108]،
    ودل هذا على أن سب الله عز وجل وشتمه كفر، ومن سب الله أو شتم أو انتقص أو قال فيه ما هو منزه عنه فقد كفر بذلك، كما أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو شتمه أو قال فيه كلمة سوء فقد كفر وخرج من الإسلام.
    وأما من سب غير النبي كأصحابه والمؤمنين فقد أثم وقارف ذنباً وارتكب جريمة يجب أن يتوب منها أو يهلك؛ لأن سباب المسلمين فسوق وقتالهم كفر.
    دلالة الآية على أصل سد الذرائع
    وهنا سد الذرائع، وهذا باب معلوم عند أهل العلم، الطريق الذي يوصل العبد إلى ارتكاب محرم يجب أن لا يسلكه، إذا سببت أو شتمت امرءاً سبك أو شتمك، فلا يحل لك أن تسب وتشتم، وقد جاء في الحديث تحريم شتم الآباء: ( لعن الله من سب أبويه. فقالوا: يا رسول الله! ومن يشتم أبويه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه )، وقلَّ من يقوم ويسب أمه وأباه، ولكن يسب أباء الآخرين فيسبوا أباه. الشاهد عندنا أنه إذا كان المسلك يؤدي بك إلى فعل محذور وارتكاب منهي فينبغي ألا تسلكه، ومن هنا نهينا عن مجالسة الفساق والفاسدين خشية أن يتسرب إلينا فسادهم، نهينا أن نتزيا بزي غير الصالحين خشية أن نصبح مثلهم، وهكذا هذه الآية تدل على سد الذرائع.
    (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[الأنعام:108] أي: لا تسبوا آلهتهم أو لا تسبوهم هم فيسبون إلهكم؛ لأنهم حمقى وجهلة، ويكفيهم أنهم كفار لا يؤمنون بالله، فأنت إذا سببته أو سببت اللات أو العزى أو صنمه فسوف يسب الله، فمن هنا حرم الله على المؤمنين أن يسبوا آلهة الكافرين.
    الآن لو سببت عيسى عليه السلام لنصراني فإنه يسب محمداً صلى الله عليه وسلم، فلا يحل أن تسبه، ولو سببت شيخ فلان سب شيخك، فالطريق السليم أننا لسنا بسبابين ولا شتامين، لا نشتم أحداً ولا نسب أحداً خوفاً أن يسب من لا يستحق السب أو يشتم من هو بريء من الشتم.
    دلالة الآية الكريمة على إطلاق الدعاء على العبادة
    هذا معنى قوله جل ذكره: ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[الأنعام:108]، أي: يعبدون غير الله، وأطلق الدعاء على العبادة لأنه مخها، الدعاء هو العبادة، الدعاء مخ العبادة، وقد بينت للصالحين غير ما مرة كيف كان الدعاء هو العبادة. وإليكم الصورة لتعرفوا هذه الحقيقة: سأقول لأحدكم: قف أنت هنا واستقبل القبلة وارفع يديك.
    هذا الآن كيف نقرأ وقفته؟ إن هذا العبد فقير محتاج؟ ما الدليل على فقره واحتياجه؟ أنه رفع كفيه يتكفف ويسأل، فهو فقير محتاج.
    ثانياً: الذي رفع إليه كفيه فوق سماواته، ما هو عن يمينه ولا عن شماله ولا تحته، وإنما عرف أنه فوقه فرفع كفيه إليه، فهل هذه قراءة سليمة لهذا الموقف أم لا؟ والله إنها قراءة صحيحة.
    ثالثاً: هو يدعو وبصوت خافت لا يسمع، حتى من إلى جنبه لا يسمعه، هذا يعلم أن من يدعوه يسمع صوته متى تحركت بالكلمات شفتاه ونطق لسانه، مؤمن بأن الله يسمع صوته.
    رابعاً: عرف أنه لا يوجد في الخليقة من يقضي حاجته حتى يقبل إليه ويمد كفيه إليه، عرف أنه لا يقضيها إلا الله، فهو رافع يديه إلى الله.
    فهذه كلها تدل على أن الدعاء هو العبادة، فمن دعا غير الله فقد ألهه وآمن بكمالاته ولا كمال له، آمن بأنه يسمع وهو لا يسمعه، وأنه يبصر وهو لا يبصره، وأنه يقدر على أن يعطيه وهو لا يعطيه، فهو في ضلال كبير، ولهذا لا أضل من مشرك يترك الله ويستقبل غير الله يدعوه ويسأله.
    الدعاء هو العبادة، والعبارة القائلة: (الدعاء مخ العبادة) لا بأس بها؛ لأن الإنسان يحيا بمخه، فلو فسد المخ هلك، ولو ترك العبد الدعاء بطلت العبادة وما بقي لها معنى.
    فالله تعالى يقول: ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[الأنعام:108] أي: يعبدونهم، وهم الأصنام والأحجار وغير الأصنام والأحجار من كل المعبودات المؤلهة، فلا نسب إله مشرك ولا بوذي ولا هندوسي ولا مسيحي ولا يهودي إلى يوم القيامة حتى لا يسب الله عز وجل ونكون السبب في ذلك، والمسلم ليس بسباب ولا شتام، والسب والشتم ليس من صفات المؤمنين أبداً.
    معنى قوله تعالى: (فيسبوا الله عدواً بغير علم)
    ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا )[الأنعام:108] أي: ظلماً واعتداءً ( بِغَيْرِ عِلْمٍ )[الأنعام:108]؛ إذ لو علموا ما سبوه، لو عرفوا الله وكماله وصفاته فهل سيسبونه؟ لو يقطعون ويحرقون ويصلبون لا يسبون الله، لكن لا علم لهم. لو كانوا عالمين ما سبوا الله عز وجل، فشخص قوي ذو إرادة وقدرة تعرف أنه لو سببته لضربك لن تسبه، لن تقدر على أن تسبه بين الناس خشية أن يعذبك، فكيف بالله عز وجل؟! فلو عرفوه ما سبوه.
    معنى قوله تعالى: (كذلك زينا لكل أمة عملهم)
    ثم قال تعالى وقوله الحق: ( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ )[الأنعام:108] كهذا التزيين، وهو أن المشركين ينتصرون لآلهتهم ويقدسونها ويمدحونها ولا يسمحون بسبها ولا انتقادها،لم؟ كهذا التزيين زين الله تعالى لكل أمة عملهم، كل جماعة يقومون بعمل زينه الله لهم بحسب سنته في أن الشخص إذا أقبل على الشيء ورغب فيه وأخذ يزاوله العام بعد العام يصبح ذلك الشيء أحب شيء إليه، ولا يرى الجمال إلا به ولا الخير ولا الحسن إلا فيه. وهذه قاعدة لن تنخرم ولن تسقط إلى يوم القيامة، كل من زاول عملاً وباشره وروض نفسه عليه يوماً بعد يوم وشهراً بعد آخر وعاماً بعد عام يصبح في فطرته وغريزته يسري مع دمه.
    يقول الخالق جل جلاله: ( كَذَلِكَ )[الأنعام:108] التزيين الذي شاهدناه في المشركين، حيث شكوا أن المسلمين يسبون آلهتهم، مع أن آلهتهم ملعونة وباطلة، لكن بما أنهم عبدوها والتفوا حولها وتوالدوا من أجلها وكانوا وكانوا أصبحت مؤلهة عندهم مقدسة، ما يسمحون لأحد أن ينالها بسوء، يموتون ولا يعصون الآلهة.
    إذاً: يقول تعالى: ( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ )[الأنعام:108]، كهذا التزيين زين لكل أمة من الأمم وجماعة من الجماعات وفرد من الأفراد، الذي زين له الأغاني والضرب على العود والصوت هل تستطيع أن تقنعه بأن هذا لا يجوز وباطل؟ لا تستطيع، فقد أحبه، والذي ألف لعب الورق أو الكيرم ما يستطيع أن يجلس يوماً أو يومين دون أن يلعبه، انطبع في نفسه وأحبه أم لا؟ لو نهيته أو سببته يسبك ويشتمك.
    والذي أقبل على الخير وأحبه وروض نفسه عليه فأصبح مفطوراً على حب الخير ما يقوى على فعل الشر أو حتى سماعه، هذه سنة من سنن الله في الخلق من باب ربط المسببات بأسبابها.
    (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ )[الأنعام:108] الذي يعملونه، إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر، إن كان إيماناً وتوحيداً فإيمان وتوحيد، وإن كان شركاً أو كفراً فهو كذلك، أما خرجوا يقاتلون من أجل عاداتهم ودينهم الباطل؟
    فهذه قاعدة نأخذها ونعمل بها ونعرف أن من اعتاد شيئاً فسوف يتأثر به ويصبح لا يرى فيه شيناً ولا قبحاً ولا سوءاً، فإن أردت أن تصلحه وتهديه فلا تسب ذلك، ولكن حاول أن تقنعه بأن هذا العمل لا يفيده ولا ينتج له خيراً، هكذا على دعاة الإسلام أن يعرفوا هذه الحقيقة: لا نسب ولا نشتم آلهة المشركين ولا غيرهم حتى لا يسبوا إسلامنا ويسبوا نبينا وديننا.
    وهكذا يقول تعالى: ( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ )[الأنعام:108] الذي يعيشون عليه ويعملونه خيراً أو شراً، هذا التزيين حسب سنته تعالى أن من ألف الشيء وروض نفسه شيئاً فشيئاً يصبح مفطوراً عليه لا يحب غيره، هل لأن الله أكرهه وألزمه به؟ هذا يتنافى مع دين الله وشرعه، ولكن الإنسان إذا أقبل على شيء باطلاً كان أو حقاً، خيراً أو شراً، ومشى وراءه زمناً يصبح في فطرته، ويصبح في قلبه ونفسه، فإن كان قبيحاً يراه أزين ما يكون، أليس الكفرة الآن يسخرون من الإسلام ويرون أنه دين رجعي ودين تخلف، لم؟ هذا هو عملهم: الكفر والإلحاد والعلمانية والباطل، ثبتوا عليه زمناً فأصبحوا لا يرون الدين شيئاً، بل يرونه معوقاً للكمال ومانعاً من السعادة في الدنيا.
    معنى قوله تعالى: (ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون)
    ( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ )[الأنعام:108]، ما هم بمهملين ضائعين من شاء اهتدى ومن شاء فليكفر، من شاء فليؤذن ومن شاء فليقل الباطل.( ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ )[الأنعام:108] خالقهم ومالك أمرهم الذي وهبهم حياتهم وكلأهم حتى استوفوا آجالهم وانتهوا إلى عالم الدار الآخرة، هذا ربهم يرجعون إليه، هل هناك من لا يرجع إلى الله؟ والله لا يتخلف أحد، ما هي إلا أن تدق الساعة وتفنى هذه البشرية ثم تمضي فترة من الزمن وينفخ إسرافيل نفخة البعث فإذا هم قيام ينظرون، ويساقون سوقاً إلى ساحة فصل القضاء والحكم الإلهي، ثم يحكم الله عليهم بحسب عملهم: الخير بالخير والشر بالشر.
    (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:108] ينبئهم: يخبرهم، أنت فعلت كذا وفعلت كذا وتركت كذا، والله سريع الحساب، وإن كانت الفترة خمسين ألف سنة، واقرءوا قول الله تعالى: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ )[المعارج:4]، والبشرية قائمة خمسين ألف سنة.
    إذاً: فينبئهم التنبئة الصادقة أنه يوم كذا وساعة كذا فعلت كذا وكذا، هذا ثم الأشرطة المسجلة المدونة تنطق بكاملها، وإن حاولت أن تخفي شيئاً يقول الله تعالى للسان: اصمت وانطقي يا جوارح. فوالله تنطق الجوارح جارحة بعد أخرى: ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[النور:24].
    (فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:108]من خير وشر. إذاً: قوله عز وجل: ( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:108]، ويتم الجزاء في الدار الآخرة بحسب العمل، إن كان خيراً فدار السلام، وإن كان شراً فدار البوار والعذاب.
    تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها...)
    ثم قال تعالى في الآية الثانية: ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا )[الأنعام:109]، من الذين أقسموا؟ طغاة المشركين وضلالهم من أبي جهل إلى عقبة بن أبي معيط إلى النضر وفلان وفلان.المشركون كلهم قالوا: لو جاءتنا آية تشهد لمحمد بالرسالة آمنا به، وطالبوا بهذا: ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )[الأنعام:37]، وقال تعالى في بيان هذه الحقيقة: ( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[الأنعام:7] كما في أول السورة.
    ومن سورة الحجر: ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ )[الحجر:14] رحلة إلى الملكوت الأعلى والباب مفتوح، اطلع أنت وزوجتك وأولادك، ويبقى طول النهار في السماء ويرجع إلى الأرض ( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا )[الحجر:15]، مستحيل أن يقع هذا ! كيف تفتح أبواب السماء لنا؟ كيف يعقل أننا نطلع إلى السماء ؟ سحركم الرجل وأعمى أبصاركم.
    هذا إخبار العلام الحكيم: ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ([الحجر:14] طول النهار هابطين طالعين ) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ )[الحجر:15]، فلعلمه تعالى -وهو خالقهم وخالق قلوبهم وغرائزهم- أنهم لا يؤمنون بالآية إذا أعطاهم إياها لذلك لم يسمع قولهم ولم يستجب لهم، وإلا فلو أتاهم بآية فسيقولون غداً: نريد آية ثانية! ما يريدون أن يسلموا، ما يريدون أن يدخلوا في هذه الرحمة الإلهية، أصروا على شركهم وباطلهم، إذاً فالآية ما تنفعهم، مع أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم وأقصاها.
    قال العلماء: المشركون يحلفون بآلهتهم إلا إذا كان الأمر عظيماً فإنهم يحلفون بالله عز وجل، فأيمانهم العادية في مسائلهم: واللات والعزى، لكن إذا كان الأمر ذا خطر وشأن يحلفون بالله عز وجل، لأن العرب المشركين ما كانوا ملاحدة علمانيين لا يؤمنون بالله ولقائه، بل كان يؤمنون بوجود الله عز وجل ويحجون بيته ويحترمون الأشهر الحرم ويحترمون مكة ومن فيها، يؤمنون بالله لكن ما عرفوا الله معرفة حقيقية تكسبهم الخوف منه والخشية والحب فيه حتى يعبدوه؛ لأنهم توارثوا الجاهلية وتوارثوا تلك العادات والشركيات أباً عن جد إلى أن بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وإلا فهم يحلفون بالله، وخاصة في المسائل المهمة، ولهذا قال تعالى: ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا )[الأنعام:109] أنها من عند الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حق والنار حق والدار الآخرة حق، هنا لما حلفوا هكذا لا شك يقيناً أن بعض المؤمنين أحبوا أن يعطيهم الله آية، ما دامت المشكلة استعصت وزاد البلاء ثم هم يلحفون بأقصى الأيمان أنه لو جاءت آية لآمنوا، فيا رب! أعطهم الآية حتى نستريح من الحرب والفتنة، وهذا يخطر بالبال أم لا؟ هذه طبيعة الناس.
    (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا )[الأنعام:109]، قال تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ )[الأنعام:109] قل لهم: الآيات ليست عندي أنا فمتى شئتم أعطيتكم، ومتى أردتم إنزالها أنزلناها، الآيات عند الله تطلب من الله، لا تطالبوا محمداً -صلى الله عليه وسلم- بها فهو لا يملكها ولا هو قادر عليها، هذا بيد الله عز وجل.
    مضي السنة الإلهية بهلاك المكذبين بآيات الله تعالى بعد مجيئها
    ولنعلم أن أمماً سبقت هذه الأمة وأوتيت الآيات العظام وما آمنوا فهلكوا، على سبيل المثال: هل قوم نوح ما شاهدوا الآيات؟ أما كان يسخرون منه وهو يصنع السفينة؟ هل آمنوا؟ ما آمنوا، هل بقوا أم دمروا وأهلكوا؟ لقد أهلكوا إلا ثلاثاً وثمانين نسمة نجت في السفينة. وقوم هود عليه السلام جنوب الجزيرة في حضرموت وما حولها إلى الشحر كانوا أعظم أمة على الأرض قوة وقدرة وصناعة، واقرءوا: ( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ )[الفجر:7-8].
    كان طول أحدهم ثلاثين ذراعاً أو ستين ذراعاً، هذه الأمة جاءتهم الآية وشاهدوها أم لا؟ واستهزءوا بها وسخروا منها، فأهلكهم الله ونجى هوداً ومن معه من المؤمنين.
    وآية صالح لا أعظم من تلك الآية، قالوا: يا صالح! إن كنت كما تزعم أنكك رسول الله ونبيه إلينا فادع ربنا يخرج لنا ناقة من هذا الجبل. من جبل أمامهم في الحي أو في تلك المدينة، وبالفعل قام صالح يصلي ورفع كفيه إلى الله وما زال يدعوه حتى انشق الجبل وخرجت الناقة من أعظم النوق في هيئتها وشكلها، وشاهدوها، وزين لهم الشيطان فعزموا على قتلها وقتلوها، وكان قدار بن سالف عليه لعائن الله قد أخذ الموافقة من أهل المدينة كلهم ووافقوه على عقرها فعقرها، فأمهلهم الله ثلاثة أيام فقط وأصبحوا على الركب جاثمين، هل هناك آية أعظم من هذه؟
    وآيات موسى تسع آيات: العصا تتحول إلى حية تأكل كل ما في الساحة من تلك الصور الخيالية التي أحدثوها بالسحر، ويدخل يده فتخرج بيضاء كأنها فلقة من قمر، هل نفعت الآيات؟ هل آمن فرعون وقومه؟! والله ما آمنوا، تسع آيات: أرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل، أكلهم القمل والضفادع والدم، الماء تضعه الإسرائيلية في فم القبطية فيتحول إلى دم، ومع هذا ما آمنوا.
    فلو أعطى الله رسوله آية لقريش فهل سيؤمنون؟ والحكمة مردها إلى الله عز وجل؛ لأنه خلقنا ليمتحننا فيعمر بنا الجنة دار السلام والنار دار البوار، لا بد من الامتحان فمن آمن وعمل صالحاً وزكى نفسه وطهرها وأصبح محبوباً لربه مقبولاً عنده ما إن تفيض روحه حتى ترقى إلى الملكوت الأعلى، ومن كفر بالله ولطخ نفسه بالشرك والمعاصي واسودت وتعفنت تخرج نفسه فتنزل إلى أسفل سافلين، فهذه الفترة التي في حياتنا ثم يجمعنا الله مرة ثانية، فأهل السلام في الجنة وأهل العذاب في النار.
    هكذا يقول تعالى: ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ )[الأنعام:109] مطلق آية، ليس آية أكبر من آية، فلو حول الله تعالى لهم جبلاً من جبال مكة إلى ذهب فهل سيؤمنون؟ والله ما يؤمنون، سيقولون: هذا سحر، كيف يتحول الجبل إلى ذهب؟!
    تكذيب الكفرة والمنافقين بالمعجزات الجارية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم
    ثم إن المعجزات التي أعطاها الله للرسول شاهدها المنافقون بالمدينة وما آمنوا، فذات مرة أذن للعصر وأرادوا أن يتوضئوا لصلاة العصر فما وجدوا ماء، فكيف يفعلون؟ جيء بإناء فغمس الرسول أصابعه فيه ففاض الماء فتوضأ منه قرابة ثمانين شخصاً، الماء يفيض من الكفين، وفي غزوة في الحديبية كذلك أدخل يده في ركوة من الماء ففاضت وتزود ألف وأربعمائة شخص من الماء، فهذه معجزات. عين قتادة في أحد سالت حين ضرب من قفاه فسالت عينه على خده، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم الله فكانت -والله- أحسن من عينه الأولى، لكن الذين ما أعدهم الله لدار السلام لا بد أن يصروا على الشرك والكفر والذنوب والآثام ليلقوا جزاءهم ومصيرهم.
    (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ )[الأنعام:109]؟ من يعلمكم من يدريكم أيها المؤمنون الذين ترغبون في الآية؟ تظنون أنه إذا أعطاهم الله آية دخلوا في الإسلام وانتهت الحرب والفتنة، من يعلمكم بهذا؟ فالله أعلم منكم أنهم لا يؤمنون، فلهذا ما استجاب لهم، ( وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ )[الأنعام:109].
    تفسير قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون)
    قال تعالى: ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ )[الأنعام:110] الأفئدة: القلوب التي تعي وتفهم، يعني: يقلبها فتنتكس فما تصبح ترى الآية آية أبداً، بل تصفق وتضحك، أبصارهم التي يشاهدون بها يقلبها، فيبصر الحوراء فيظنها بغلة أو حماراً. ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ )[الأنعام:110] كما لم يؤمنوا بالقرآن وبالبعث والجزاء وبالرسول صلى الله عليه وسلم أول مرة قبل الآية، فالآيات تنزل فهل هناك أعظم من آيات القرآن؟

    ولهذا ما من نبي من الأنبياء إلا وقد آتاه الله آية معجزة، وكان الذي أوتي رسولنا القرآن الكريم، أخبر بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، وذلك هو القرآن الكريم.
    وقد تعهد الله تعالى بحفظه فقال: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )[الحجر:9]، فلولا أن الله ما حفظه بالرجال والنساء إلى اليوم فهو مكتوب في السطور محفوظ في الصدور؛ لارتدت هذه الأمة منذ زمن، فالإنجيل كتاب الله أم لا؟ وعيسى رسول الله أم لا؟ فكم سنة عبد الله النصارى بالعبادة الشرعية التي تزكي النفس؟ فالذين آمنوا به عبد الله سبعين سنة، وتدخل اليهود وزادوا ونقصوا وبدلوا وغيروا وكفروا المسيحيين.
    لكن هذه الأمة تعهد الله بحفظ كتابها إلى يوم القيامة، وسر ذلك حتى لا يقول جيل من الأجيال: يا ربنا! ما عرفناك، ما وجدنا من يعرفنا بك. فتقوم لهم الحجة على الله، أو يبعث الله رسولاً من جديد، وقد أعلمنا أنه ختم الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم، إذاً: فسوف يبقى هذا الدين ظاهراً حجة لله على البشرية إلى يوم القيامة.
    (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ )[الأنعام:110] مثلما كانوا قبل ( وَنَذَرُهُمْ )[الأنعام:110] ونتركهم ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )[الأنعام:110].
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #397
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (33)
    الحلقة (396)
    تفسير سورة المائدة (27)

    لا زال أسلوب الكافرين المعاندين في رد الحق وإنكار الهدى لم يتغير، فهم يطلبون الآيات والأدلة على صدق الرسالة والنبوة، زاعمين أنهم سيؤمنون إذا رأوها، فهم مرة يطلبون أن ينزل عليهم ملكاً من السماء يدعوهم إلى الله، ومرة يأتون بطلبات من وحي شياطينهم ليعجزوا بها النبي صلوات الله وسلامه عليه، فيخبر الله عز وجل نبيه أنهم مهما جاءتهم من الآيات والنذر فلن يؤمنوا، ولن ينصاعوا للحق، فقلوبهم منكرة، وعقولهم جامدة، رغم علمهم بأنه الحق من ربهم.
    تفسير قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .
    وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي زفت بسبعين ألف ملك لهم زجل وتسبيح، والسورة تقرر عقيدة التوحيد بأن لا إله إلا الله، ونبوة ورسالة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وأنه حقاً رسول الله، وتقرر مبدأ المعاد والحياة الثانية للجزاء على الكسب في هذه الدنيا إما بالنعيم المقيم أو بالعذاب الأليم.
    السورة تدور على هذه العقائد الثلاث، وها نحن مع ثلاث آيات، فليتفضل أبو بكر القارئ يقرؤها ثم نشرحها بإذن الله.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُو ا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ )[الأنعام:111-113].
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )[الأنعام:111]، هذا خبر الصدق، يخبر تعالى فيقول لرسوله والمؤمنين: ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا )[الأنعام:111] إلى أولئك المعاندين إلى أولئك المشركين إلى أولئك المكذبين الكافرين الذين يطالبون بالآيات ويريدون أن يشاهدوها فيؤمنوا.
    إيغال المشركين في التكذيب والجحود
    يقول تعالى وهو العليم بهم المطلع على سرائرهم، بل هو غارز غرائزهم، يقول: ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ )[الأنعام:111] وشاهدوا ذلك العالم النوراني بأعينهم، وكلمهم الموتى من مات قبلهم ومن مات قبل أجدادهم ومن ماتوا من عهد آدم وقالوا: محمد رسول الله، وحشرنا عليهم كل شيء أمامهم ليشاهدوه ( مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )[الأنعام:111]. ما السر في هذا؟ السر أنهم لكثرة توغلهم في الكفر والتكذيب والشرك والفساد والباطل أصبحت هذه غرائز لهم ما يبطلها أبداً مشاهدة الملائكة، إذ لو شاهدوا الملائكة لقالوا: نحن مسحورون، فكيف تشاهد الملائكة؟ ما رأيناه ليس بحقيقة أبداً بل مجرد خيالات فقط، لو جمع لهم ما شاء الله أن يجمع من هذا الكون ووقف بين أيديهم ما كانوا ليؤمنوا؛ لأنهم عرفوا الحق وأصروا على إنكاره وعدم الاعتراف به، والذي أخبر بهذا -كما علمتم- هو خالقهم وخالق غرائزهم وطباعهم.
    (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ )[الأنعام:111] من الملائكة؟ عالم الطهر والصفاء عالم النور، عالم يعمر الملكوت الأعلى، وهم معنا في حلقتنا هذه يحفون بنا، ( وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى )[الأنعام:111]، وكلمهم الموتى عدنان ومضر وإسماعيل: أنا فلان فآمنوا بأن محمداً رسول الله ما آمنوا، ( وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ )[الأنعام:111] أمامهم يشاهدونه ( مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )[الأنعام:111]، فإذا شاء الله إيمانهم آمنوا، أما إذا لم يشأ الله أن يؤمنوا فلن يؤمنوا؛ لأنه كتب ذلك في كتاب المقادير في اللوح المحفوظ أن هؤلاء من أصحاب النار، أن هؤلاء يعرض عليهم الإيمان في أوضح صورة وبأعظم دليل وحجة فلا يؤمنون، فكتب ذلك عليهم، فلذلك هم لا يؤمنون.
    فيا من تريدون أن تشاهدوا الآيات حتى يؤمن هؤلاء المشركون! اعلموا أنهم لا يؤمنون، وفي آية سورة الحجر: ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ )[الحجر:14-15]، وفي هذه السورة في بدايتها ( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[الأنعام:7].
    دلالة الآية الكريمة على طلب الهداية من الله تعالى
    ومعنى هذا -معاشر المؤمنين والمؤمنات- أن نقرع باب الله عز وجل ونسأله، هو الذي بيده قلوب الخليقة فمن شاء أن يؤمن آمن ومن شاء أن يكفر كفر، فما علينا إلا الفزع في صدق إلى ربنا نسأله هدايتنا وهداية غيرنا، أما الآيات المعجزات والسيف والحرب فكل هذا ما يجدي. القلوب بيد الله يقلبها كيف شاء، فعلينا أن نقدم لهم الهداية فإن قبلوها لأن الله كتب سعادتهم ليكملوا ويسعدوا فهنيئاً لهم وهنيئاً لنا في نجاحنا في تقديم هذه الهداية، فإن هم رفضوا وأصروا على شركهم والكفر فلا نحزن ولا نكرب أبداً، ولنفوض الأمر إلى الله إذ بيده القلوب، وكان عليه الصلاة والسلام في سجوده يقول: ( اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مصرف القلوب اصرف قلبي على دينك ) .
    تربية المؤمنين الراغبين في إنزال الآية ببيان علم الله تعالى بحال المشركين
    تأملتم هذه الآية الكريمة: ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ )[الأنعام:111]؟ هذا أيضاً ينتفع به المؤمنون الذين كانوا يرغبون في أن ينزل الله آية على رسوله ليؤمن أبو جهل وأبو لهب وتنتهي المشكلة. ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )[الأنعام:109-110] هاتان آيتا الدرس السابق وهما متصلتان بهذه.
    وزادهم تأكيداً فقال: ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ )[الأنعام:111] وشاهدوا جبريل وميكائيل وكل ملائكة السماء ( وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى )[الأنعام:111] فلان وفلان وفلان من المقبرة وحشرنا وجمعنا لهم كل شيء أمامهم فوالله ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله.
    ثم ختم الآية بقوله: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ )[الأنعام:111]، ويدخل في هذا من كانوا يريدون أن يشاهدوا الآية ليؤمن كفار قريش، كانوا يرغبون لشدة الحرب والمضايقة ويقولون: لو أنزل الله آية لآمنوا واسترحنا، فهذا أيضاً انزعوه من أذهانكم، وهذا ناتج عن الجهل ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ )[الأنعام:111]، ما قال: (ولكنهم يجهلون) فلا يخرج منهم واحد أو اثنان، معناه: أنه يوجد فيهم من لا يجهل، وهذا من عجائب القرآن.
    تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن...)
    الآية الثانية: يقول تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا )[الأنعام:112]، وهكذا كما جعلنا لك أنت أبا جهل وعقبة بن أبي معيط وأبا لهب أعداء كذلك جعلنا لكل نبي من الأنبياء، وهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )[الأنعام:112]. الشياطين: جمع شيطان، والإنس نحن، والجن العالم الخفي الذي تعرفونه، هل يوجد في بني آدم شياطين؟ أي نعم، كما يوجد في الجن شياطين، ويوجد في الجن ربانيون مؤمنون أولياء الله، ويوجد في الإنس ربانيون مؤمنون أولياء الله، ويوجد في عالم الجن شياطين متمردون عن الله والحق لا يعرفونه أبداً، وتوجد ثلة من الناس شياطين لا هم لهم إلا الشر والخبث والفساد.
    وقد علمتم مما سبق أن العوالم ثلاثة: عالم الملائكة وعالم الإنس وعالم الجن، دعنا من عالم الحيوانات، فنحن نتكلم عن العالم المكلف بعبادة الله عز وجل.
    عالم الجن -والعياذ بالله تعالى- خرج عنه إبليس؛ إذ رفض أمر الله وتنكر له وأبى أن يسجد لآدم فأبلسه الله ومسح الخير منه وأصبح شيطاناً خالصاً لا يحب الخير ولا يخطر بباله، وذريته مثله إذ الحية لا تلد إلا حية، هل رأيتم عقرباً تلد جرادة؟ لا تلد إلا عقرباً.
    وعالم الشياطين تفرع من إبليس، وعالم الإنس وعالم الجن الذين يفسقون عن أمر الله ويخرجون عن طاعته ويتوغلون في الخبث والشر والفساد يصبحون شياطين لا خير فيهم، كلامه وعمله وسياسته كلها شر، فمن هنا يوجد شياطين من الإنس لا هم لهم إلا نشر الباطل والشر والفساد، كما يوجد شياطين من الجن غير إبليس وذريته، أما الشياطين فهكذا وجدوا لا يعرفون الخير بالمرة ولا يهتدون ولا يقبلون الهداية.
    معنى قوله تعالى: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً)
    إذاً: يقول تعالى: كما جعلنا لك يا رسولنا أعداءً ( جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )[الأنعام:112]، شياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن وشياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، والإيحاء: الإعلام الخفي بطريقة لا تعرف ولا ترى.( زُخْرُفَ الْقَوْلِ )[الأنعام:112] القول يزينونه ويزخرفونه ويحسنونه للإنسي أو الجني المؤمن ليوقعوه في الفساد، زخرف القول للتغرير بالمؤمنين من الإنس أو من الجن، إلا أن الشيطان من الإنس لا يستطيع أن يزين للشياطين من الجن؛ إذ لا صلة لهم بهم بحيث يتحدث معهم، إلا إذا تشكلوا في شكل إنسان فهذا ممكن.
    لكن من حيث واقعهم يخبر تعالى عنهم أنهم يزينون القول ويزخرفونه حتى يوقعوا الإنسان في الفتنة والضلال، فالإنسان الذي هو شيطان توحي إليه الشياطين بكلمات ومعان وتدله على أعمال يقوم بها وتخرفها له وتحسنها له حتى يقولها ويفعلها، فالموبقات التي ترتكب من بعض الناس من الآدميين كالزنا واللواط والجرائم والقتل؛ كل هذه بتزيين الشياطين والتغرير بالآدمي حتى يفعلها ويأتيها؛ لأنها مهمتهم التي يقومون بها.
    (شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ )[الأنعام:112]، شيطان الإنس يوحي إلى شيطان الإنس، أصحاب الشر أما يجتمعون ويتواصلون ويتعاونون؟ يوحي بعضهم إلى بعض.
    وزخرف القول هو الذي يفتنون به من الأباطيل والكذب والدعاوى الباطلة حتى يوقعوا الإنسان في تلك المحنة أو الفتنة، وشياطين الجن كذلك، والذي أخبر بهذا خالقهم والعليم بحياتهم وسلوكهم.
    (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )[الأنعام:112] أي: للتغرير وإيقاع الناس في الفتنة أو المحنة والحرب أو الفتن والضلال.
    معنى قوله تعالى: (ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون)
    (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ )[الأنعام:112] أيضاً يسلي الله تعالى رسوله ويحمله على الصبر والثبات ويقول له: الحيات والعقارب والهوام هكذا وجدت، ولكن الله عز وجل لو شاء لما آذت أحداً ولا ضرته، وكذلك هؤلاء الشياطين، ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ )[الأنعام:112] للتغرير وإيقاع الناس في الباطل، ومع هذا لو شاء الله ما فعلوا، وهل يخرجون عن إرادة الله ومشيئته؟ لا يستطيعون. وكما أن أولئك المشركين لو جمع لهم كل الخلق بين أيديهم من ملائكة ورسل وأجداد لا يؤمنون إلا أن يشاء الله، فكذلك شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض ويزخرف القول ويعسله للإيقاع في الفتن والباطل والشر، ومع هذا لو شاء الله ما فعلوا؛ لأن قدرة الله فوقهم وهم بين يديه وفي قبضته.
    (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ )[الأنعام:112] إذاً ( فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ )[الأنعام:112]، اتركهم يا رسولنا وما يكذبون ويختلقون من الباطل، أتعرفون ما كان يقول أبو جهل وعقبة بن أبي معيط وفلان؟ كانوا يقولون بإيحاء الشيطان: محمد ساحر كذاب دجال. وهكذا يشيعونها في القبائل، بل يذهبون إلى الأسواق ويعلنون هذا، هذا هو زخرف القول، يحسنونه بألفاظ ليصرفوا الناس عن الدخول في الإسلام حتى لا يؤمنوا بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبقوا في الشرك والكفر.
    (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ )[الأنعام:112] إذاً ( فَذَرْهُمْ )[الأنعام:112] أي: اتركهم ( وَمَا يَفْتَرُونَ )[الأنعام:112] ويقولون من الكذب والباطل.
    تفسير قوله تعالى: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ...)
    ثم قال تعالى: ( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُو ا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ )[الأنعام:113] آذان من التي تصغي لزخارف القول والأباطيل؟ هل هي آذان المؤمنين الموحدين الصالحين الربانيين؟ والله ما تصغي آذانهم ولا تميل لتسمع الباطل؟ الآن لو قلت بقول باطل يجتمع حولك المرضى، ( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ )[الأنعام:113]، أما من آمن بلقاء الله والوقوف بين يديه ثم الحساب الدقيق والجزاء الكامل إما بالنعيم أو بالعذاب، هذا المؤمن -والله- لا يصغي لكلام الباطل، بل إذا سمع باطلاً أغلق أذنيه وأدخل أصبعيه في أذنيه أو قام من المجلس، ولكن من هو الذي يصغي ويسمع؟ الذين لا يؤمنون بالآخرة، ( وَلِيَرْضَوْهُ )[الأنعام:113]ذلك الباطل ويحبوه، ( وَلِيَقْتَرِفُو ا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ )[الأنعام:113]من الذنوب والجرائم والموبقات وعلى رأسها الشرك والكفر. ( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ )[الأنعام:113] هل القلب يميل أم لا؟ مال قلبه إلى كذا: أحبه ورغب فيه ومشى وراءه، الإصغاء يكون للأذن فتسمع، والقلب إذا مال وهو يسمع يميل إلى الباطل والشر.
    (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُو ا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ )[الأنعام:113]، الاقتراف ما هو؟ جمع الذنوب والآثام بلا حساب ولا عدد.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير
    معنى الآيات قال: [ معنى الآيات: ما زال السياق في أولئك العادلين بربهم ] الظالمين [ المطالبين بالآيات الكونية ] عرفنا هذا أمس، الكون ما هو؟ السماء والأرض، الآية الكونية كأن تقع الشمس في حجر فلان! أن ينزل المطر الآن، أن يحيا فلان الميت، هذه الآيات الكونية، [ ليؤمنوا إذا شاهدوها، فأخبر تعالى في هذه الآيات أنه لو نزل إليهم الملائكة من السماء وأحيا لهم الموتى فكلموهم وقالوا لهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وحشر عليهم كل شيء أمامهم يعاينونه معاينة، أو تأتيهم المخلوقات قبيلاً بعد قبيل وهم يشاهدونهم ويقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ ما كانوا ليؤمنوا بك ويصدقوك ويؤمنوا بما جئت به إلا أن يشاء الله ذلك منهم، ولكن أكثر أولئك العادلين بربهم الأصنام والأوثان يجهلون أن الهداية بيد الله تعالى وليست بأيديهم كما يزعمون، وأنهم لو رأوا الآيات آمنوا ] فالهداية بيد الله.
    [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية فإن الله تعالى يقول: وكما كان لك يا رسولنا من هؤلاء العادلين أعداء يجادلونك ويحاربونك جعلنا لكل نبي أرسلناه أعداءً يجادلونه ويحاربونه ( شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )[الأنعام:112]، أي: القول المزين بالباطل المحسن بالكذب]، والذين عاشوا مع إذاعة (صوت العرب) قديماً سمعوا وعرفوا.
    كنا في طريقنا إلى المغرب في السيارة، مشينا بالليل في صحراء ليبيا، في آخر الليل جاء صوت ما كنا نسمعه في المدينة، فاستمعت ذاك الصوت ومن ثم انقبضت انقباضاً، وأصبحت -والله- ما أستطيع أن أسمعه، وتعجبت من قوله تعالى: ( وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا )[الكهف:101]، كيف لا يستطيعون السمع؟ وجدتني -والله- ما أستطيع.
    قال تعالى: ( زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )[الأنعام:112]، وإلى الآن ما زالت الأباطيل تزين وتحسن، وإذاعة لندن كافية.
    قال: [ أي: القول المزين بالباطل المحسن بالكذب. ( غُرُورًا )[الأنعام:112]، أي: للتغرير والتضليل، ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ )[الأنعام:112] أيها الرسول عدم فعل ذلك الإيحاء والوسواس ( مَا فَعَلُوهُ )[الأنعام:112]] أليس هو خالقهم [ إذاً: ( فَذَرْهُمْ )[الأنعام:112]، أي: اتركهم ( وَمَا يَفْتَرُونَ )[الأنعام:112] من الكفر والكذب والباطل. هذا ما دلت عليه الآية الثانية.
    أما الآية الثالثة وهي قوله تعالى: ( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُو ا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ )[الأنعام:113]، هذه الآية بجملها الأربع معطوفة على قوله: ( زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )[الأنعام:112]، إذ إيحاء شياطين الجن والإنس كان، للغرور، أي: ليغتر به المشركون، ( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ )[الأنعام:113]، أي: تميل ( أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ )[الأنعام:113]، وهم المشركون العادلون بربهم الأصنام والأحجار، ( وَلِيَرْضَوْهُ )[الأنعام:113]، ويقتنعوا به؛ لأنه مموه مزين لهم، ونتيجة لذلك التغرير والميل إليه وهو باطل والرضا به والإقناع بفائدته فهم لذلك يقترفون من أنواع الكفر وضروب الشرك والمعاصي والإجرام ما يقترفون ]، متأثرين بذلك التغرير والباطل.
    هداية الآيات
    قال: [ من هداية الآيات.:أولاً: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن أبداً ]، هل هناك من ينقض هذه؟ ما شاء الله كان من الإيمان أو الكفر، من الخير أو الشر، من الهداية أو الضلال، ما شاءه الله كان وما لم يشأه -والله- لا يكون.
    قال: [ وبهذا تقررت ربوبيته وألوهيته للأولين والآخرين ]، ما دام أن ما يشاؤه يكون وما لم يشأه لا يكون فبهذا تقررت ألوهيته للخليقة كلها، وربوبيته للأولين والآخرين.
    [ ثانياً: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وكل داع إلى الله تعالى بإعلامه أنه ما من نبي ولا داع إلا وله أعداء من الجن والإنس يحاربونه حتى ينصره الله عليهم.
    ثالثاً: التحذير من التمويه والتغرير، فإن أمضى سلاح للشياطين هو التزيين والتغرير ]، وهذا تعرفونه من كلام المضللين.
    [ رابعاً: القلوب الفارغة من الإيمان بالله ووعده وعيده في الدار الآخرة أكثر القلوب ميلاً إلى الباطل والشر والفساد ]، من جاء مدينة أهلها كفار يستطيع أن ينشر الباطل والفساد بكل سهولة، وإذا جاء إلى مدينة أهلها أتقياء هل يستجيبون له؟ لا يستجيبون، يبقى عشرين سنة يعمل فلا ينجح، لكن إذا كانت القلوب فارغة من الإيمان بالله ولقائه فإنها تتحول وتتبدل.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #398
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (34)
    الحلقة (397)
    تفسير سورة المائدة (28)


    دعوة الإسلام هي دعوة الحق، والرسالة المحمدية هي الرسالة الخاتمة المهيمنة على كل ما قبلها من الرسالات، يشهد بذلك ما جاء في كتاب الله العزيز من الآيات، ويشهد بذلك امتلاء كتب السابقين بالتبشير بسيد المرسلين، وعلم أهل الكتاب بذلك علم اليقين، فمن أراد الفوز والفلاح فعليه باتباع الصراط المستقيم، والإعراض عن سبيل أهل الأرض من الغاوين، الذين هم عن دين الله معرضين، وعن شرعه ناكبين.
    تفسير قوله تعالى: (أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، ولنستمع إلى تلاوة الآيات مجودة مرتلة ثم نشرع في تفسيرها وبيان ما جاء فيها، والله نسأل ألا يحرمنا العلم والعمل.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ )[الأنعام:114-117].
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا )[الأنعام:114]، ما المراد بالحكم؟ الحكم: هو الذي يحكم بين المختصمين والمختلفين، الحكم كالحاكم، إلا أن لفظ الحكم يدل على وجود خلاف وهو يحكم بين أهله ليبين لهم الحق من الباطل، والصواب من الخطأ.
    فالله تعالى يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأولئك الذين طالبوا بالآيات ليصدقوه فيما يدعيه ويقول ويدعو إليه؛ لأنهم كذبوا برسالته صلى الله عليه وسلم، كما كذبوا بدعوته إلى الله تعالى ليعبد وحده، كما كذبوا بالبعث الآخر ولقاء الله عز وجل، إذ السورة المكية تدور على هذه العقائد الثلاث.
    يقول الله تعالى: قل: ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا )[الأنعام:114]، تريدون أن نحكم غير الله؟ الآية التي تظهر لكم، والميت ينطق لكم، والمطر ينزل، هذه آيات، فهل هذه تساوي الله فيما يحكم به؟ ما قيمتها؟ فحسبي -إذاً- أن يحكم الله بيني وبينكم، وقد حكم بأنكم كافرون، مشركون، هالكون، وحكم بأني عبد الله ورسوله، فماذا أبغي بعد ذلك؟ ‏
    توبيخ الكفرة لإعراضهم عن معجزة الكتاب الحكيم المفصل لهدايتهم
    (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا )[الأنعام:114]، تريدون ماذا؟ هذا الكتاب، وهذا القرآن العظيم، ولفظة (الْكِتَابَ) هنا دالة على عظمته، كتاب لا يقادر قدره أبداً، عجزت البشرية عن محاكاته، وعن الإتيان بسورة من مثل سوره.(وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ )[الأنعام:114]، أنزله إليهم لهدايتهم من الضلال، لإكمالهم وإسعادهم، وإنجائهم من الخسران والنقصان، أما نزل إليهم وإلى البشرية كلها؟ أنزل الله كتابه لماذا؟ لإصلاح البشرية وهدايتها، من أجل إكمالها وإسعادها، فله الحمد والمنة، فالحمد لله.
    (أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ )[الأنعام:114]، أي: القرآن، ( مُفَصَّلًا )[الأنعام:114] غاية التفصيل، فيه العبادات، الآداب، الأخلاق، الأحكام الشرعية، القصص، الأخبار، كل ذلك في غاية التفصيل، أما يكفيني هذا شاهداً على رسالتي ونبوتي ودعوتي إليه تعالى؟ كيف نطلب لكم آية من الآيات وأعظم الآيات هي هذا الكتاب؟ ولقد قال صلى الله عليه وسلم: ( ما من نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وكان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، وحق ذلك وثبت، تبعث الأمم ورسلها، والله لا توجد أمة أعدادها أكثر من هذه الأمة المحمدية، وأقرب دليل أن الأمم في مائة سنة أو سبعين سنة تنتهي، وهذه الأمة إلى الآن لها ألف وأربعمائة وسبع عشرة سنة، والإسلام هو الإسلام، والناس يدخلون فيه.
    الاستشهاد على صدق الرسالة المحمدية بعلم أهل الكتاب بحقيقة تنزيل الكتاب من عند الله تعالى
    (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا )[الأنعام:114]، هذا أولاً. وثانياً: ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ )[الأنعام:114]، الذين أوتوا الكتاب يعني: التوراة والإنجيل، وأهله اليهود والنصارى، فالذين أسلموا كـعبد الله بن سلام وإخوته، ومن المسيحيين، الكل يعلم أن هذا الكتاب منزل من عند الله عز وجل بالحق، فهل بعد هذا تريدون شهادة دجاجة تنطق أو بعير يقول: هذا رسول الله؟ أيهما أفضل: أن يشهد علماء الكتاب ويصرحوا بصدق هذه النبوة وأن هذا كتاب الله أم طير ينطق؟ لأنهم يطالبون بالآيات الخارقة للعادة تشهد له أنه رسول الله، وفي علم الله أنهم لا يؤمنون، فما الفائدة من أن يحيي لهم فلاناً وفلاناً حتى يكلمهم وهم لا يؤمنون، والذي خلقهم وغرز غرائزهم وطبع طبائعهم قال: ( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[الأنعام:7]، ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا )[الحجر:14] طول النهار ( فِيهِ يَعْرُجُونَ )[الحجر:14] طالعين هابطين، ( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ )[الحجر:15]، أمثال هؤلاء يعطيهم معجزة؟ ماذا يستفيدون؟ والذي لا تؤثر فيه معجزة القرآن كيف سيؤثر فيه غيرها، أمي لا يقرأ ولا يكتب، وقد لبث فيهم عمراً من قبله أربعين سنة، ما قال كلمة منه ولا عرف، ثم ينزل عليه كتاب أعجز الإنس والجن، أفبعد هذا تطلب الدليل على أنه رسول الله؟! أعاقل أنت أم مجنون؟
    معنى قوله تعالى: (فلا تكونن من الممترين)
    (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ )[الأنعام:114]، يعني: التوراة والإنجيل، ( يَعْلَمُونَ )[الأنعام:114]، يعلمون علم يقين؛ لأنهم عرفوا وآمنوا ( أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ )[الأنعام:114]، منزل من عند ربكم من الملكوت الأعلى بالحق مصاحباً له ويدعو إليه، ولا باطل فيه في قليل ولا كثير، وما نزل لإبطال الحق، ولكن لإحقاق الحق وإبطال الباطل، إذاً: ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ )[الأنعام:114]. هذا من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة)، ( فَلا تَكُونَنَّ )[الأنعام:114] يا رسولنا ( مِنَ الْمُمْتَرِينَ )[الأنعام:114]، وهل الرسول يكون من الشاكين؟ ولكن أنتم أيها السامعون، فلا تكونن يا من بلغه هذا من الشاكين بعد هذا البيان، بعد هذا العلم وهذه البصيرة، والممتري: هو الشاك، والممترون: جمع ممتر، ( فَلا تَكُونَنَّ )[الأنعام:114] يا رسولنا ( مِنَ الْمُمْتَرِينَ )[الأنعام:114]، وليس المقصود هو الرسول، بل من باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة)، اسمعوا أنتم أيها الشاكون، لا تكونوا من الشاكين والممترين بعد أن لاحت أنوار المعرفة، وتجلت حقيقة أنه كتاب الله ووحي الله، وأن محمداً عبد الله ورسول الله.
    تفسير قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم)
    ثم قال تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ )[الأنعام:115]، ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ )[الأنعام:115] حال كونها ( صِدْقًا وَعَدْلًا )[الأنعام:115]، (صِدْقًا) في الأخبار، كل ما أخبر الله به في الكتاب القرآني من أخبار الأولين والآخرين، والملكوت الأعلى، وفي الدنيا، وفي الآخرة، كل أخباره -والله- صدق، ولا يدخلها كذب، ولا يوجد بينها كلمة كذب، ومن هذا الوعود الإلهية والمواعيد، كل ما أخبر به من وعد أو وعيد هو صدق، وكل ما يخبر به الله في هذا الكتاب أحلف بالله إنه لحق وليس فيه شك أبداً.(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا )[الأنعام:115]، ومنها: أنك من المنتصرين، سينصرك الله، وينصر معكم المؤمنين، إذ مضى بهذا كلام الله، ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )[الحج:40]، سوف تدخل البشرية في دينك، ويلتف حولك الملايين، رغم أنف الكاشحين والغاضبين والساخطين، ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ )[الأنعام:115]، اطمئن فالعاقبة لك، النصر لك، دعهم يكذبون، ينكرون، يشكون، وسوف تنتهي هذه كلها، وتلوح أنوار الحق في مكة، ولا يعبد فيها إلا الله إلى يوم القيامة، ولا يبقى صنم ولا وثن، ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ )[الأنعام:115] يا رسولنا ( صِدْقًا وَعَدْلًا )[الأنعام:115]، أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام والقضاء، أحكام الله المنزلة في هذا الكتاب، والله لا يوجد حيف ولا ظلم ولا جور ولا اعوجاج ولا انحراف قط، وسر ذلك أن الله عالم الغيب والشهادة، وسر ذلك أنه خلق الكون وقدره وكتبه قبل أن يوجده، فكيف -إذاً- يقع غير العدل فيه؟ وهكذا في الدماء، في الحدود، في الجهاد، في السلم، في الأموال، في كل الأحكام الشرعية القرآن أعدل ما نزل من السماء في بيان أحكام الله عز وجل، ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ )[الأنعام:115] يا عبد الله صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام.
    صورة من اعتراضات السفهاء على أحكام الله تعالى الصادقة العادلة
    وهل يوجد حكم في القرآن ليس فيه عدل ؟ قالوا: نعم. قلنا: كيف؟ قالوا: التركة توزع، فالرجل يعطى سهمين، والبنت تعطى سهماً، أين العدل؟ وقالوا: الرجل يعطى النصف من تركة امرأته وهي تعطى الربع، وهو يعطى الربع وهي تعطى الثمن! وتخبطوا، وصعدوا وهبطوا وجاسوا كالكلاب؛ وما عرفوا أن جوابهم بكلمة واحدة، ذلك أن المرأة حفظ الله عيشها وقوتها أولاً بوالدها، وثانياً: بزوجها، وثالثاً: بأولادها، ورابعاً: بولاية الله لها، فلماذا تأخذ مثل الرجل؟ المرأة ملكة في بيتها، تأتيها الكسوة واللبن واللحم، والرجل يعرق ويجد ويحرث ويخرق الأرض ويطير في السماء ليأتيها بطعامها وشرابها، وهي جالسة على الأريكة، هل نعطيها النصف؟ سفاهة وعبث، وهذا شأن من لا يؤمنون بالله. قالوا: كيف يفضل الرجل على المرأة؟ هذا ما هو بعدل، العدل في حق المرأة -المحفوظ رزقها- أن يعطيها أكثر من الرجل! وحاولوا أن يفعلوا العجب، ولكن القرآن كتاب الله يبقى هكذا تلوح أنواره لمن يريد الهداية الإلهية حتى يرفعه الله تعالى.
    محاولة يائسة لتحريف القرآن الكريم
    (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا
    )[الأنعام:115]، في الأخبار، ( وَعَدْلًا )[الأنعام:115] في الأحكام، ( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ )[الأنعام:115]، هل استطاع البشر أن يبدلوا كلمة واحدة في القرآن؟إن اليهود والمجوس والنصارى والبوذيين والهندوس وكل الدنيا ضد هذا القرآن، والله ما استطاعوا أن يبدلوا كلمة، ولو قدروا ما وصل القرآن إليكم الآن إلا محرفاً مبدلاً مغيراً، مزيداً فيه، منقوصاً منه، كالتوراة والإنجيل، هل التوراة ذات الألف سورة فيها النصف حق؟ والله لا يوجد، والإنجيل كذلك، لماذا؟ لأن الله ما تولى حفظهما، ولكن تولى حفظ القرآن الكريم، فقال: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )[الحجر:9].
    اجتمع مرة قسس ورهبان في السودان من قديم في مؤتمر، فقالوا : كيف نستطيع نحذف كلمة (قل) من القرآن؟ (قل) كم حرفاً فيها؟ حرفان: القاف واللام، قالوا: إذا استطعنا أن نحذف (قل) فإننا نستطيع أن نثبت ما قلناه أن هذا القرآن ما هو من عند الله، وإنما هو من ذهن محمد ومن شعوره الصحراوي، فاض بهذه العلوم، ما هو من عند الله، لكن (قل) هذه هي المحنة؛ لأن الله يقول: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ )[الأعراف:158]، وهل الرجل يقول لنفسه: (قل)؟ ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )[آل عمران:64]، هل يقول: أنا أقول: قل يا أهل الكتاب، أو ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )[الإخلاص:1]، ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )[الكافرون:1]، مستحيل أن يكون هذا كلامه ويقول: (قل)؟
    إذاً: فانفضوا خزايا نادمين، قالوا: مستحيل أن ننقص كلمة من القرآن، وذلك لحفظ الله له.
    إذاً: ( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ )[الأنعام:115]، من أراد إغناءه ما تستطيع أن تفقره، من أراد إسعاده فلن تستطيع إشقاءه، من أراد كماله فلن تستطيع أنت هبوطه ونقصانه، ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ )[الأنعام:115] لأقوال عباده، ( الْعَلِيمُ )[الأنعام:115] بأعمالهم، لا يقولن قائل كلمة أو بعض كلمة إلا وقد علمها الله عز وجل أولاً، سمع صوته وعلم مقاله، فاحذر يا عبد الله -إذاً- أن تقول الباطل أو تنطق بغير الحق، ( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )[الأنعام:115].
    تفسير قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله...)
    ثم قال تعالى: ( وَإِنْ تُطِعْ )[الأنعام:116] يا رسولنا.. أيها المبلغ عنا.. يا محمد صلى الله عليه وسلم! ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )[الأنعام:116] وإلى الآن، وإن تطع أكثر من في الأرض، فتسمع منهم ما يقولون، وتنفذ ما يأمرون، أو تترك ما ينهون، إن تطعهم ضللت وما اهتديت أبداً، بل يضلونك عن سبيل الله، تأملتهم هذه أم لا؟ أنت الآن في ديار المسلمين، إن تطع أكثر أهل المدينة والله ما اهتديت، ولن تهتدي إلى الخير، بل يشردونك وينفرونك ويضللونك، ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )[الأنعام:116]، ما السبب في ذلك؟ قال: ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ )[الأنعام:116]، فلهذا لا يحل أن نتبع غير أولي البصائر والنهى، لا نتبع غير أهل العلم والمعرفة، أما أن نتبع كل من يقول وينعق ونجري وراءه فوالله ما اهتدينا، ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ )[الأنعام:116]، فالذي ما عنده يقينيات ولا أنوار تلوح ولا ثقة فيما يروي عن ربه كيف تهتدي معه وهو يقول بالخرص والظن والشك والارتياب؟ فلهذا -يا رسولنا- اثبت على الوحي الذي ينزل إليك، ولا تقبل آراء الناس واتجاهاتهم وما يسولون وما يقولون، وهكذا كل داعٍ إلى الله في القرية في أسرته، لو أطاع أخبار امرأته وبناته لا يستقيم، كل واحد يقول له كلمة، ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )[الأنعام:116]، لأن أكثر من في الأرض جهلاء، ضلال عماة، لا يعرفون الطريق إلى الله، أليس كذلك؟ بلى، وما هي نسبة العالمين بالله والعارفين؟ ليست نسبة واحد إلى المليون.
    (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )[الأنعام:116]، هل تعرفون سبيل الله -هداكم الله إليه- ما هو؟
    إنه الصراط المستقيم، أما عندكم صورة منه؟ موجودة: أوامر عن اليمين، ونواه عن الشمال، وامش أنت مستقيماً حتى تقرع باب دار السلام، فإن ملت هنا إلى المنهيات وهبطت، أو ملت إلى ترك الأوامر والواجبات واعتزلت فوالله لن تصل، أتعرفون صراط الله أم لا؟ إنه الصراط المستقيم الذي ليس فيه اعوجاج، كما قلت لكم غير ما مرة: أوامر عن اليمين، نواه عن الشمال، فولاية الله تعالى تمثل هذا، أي: محاب ومكاره.
    (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ )[الأنعام:116]، إي: وما هم إلا يظنون ويخرصون، والخرص مأخوذ من خرص الفلاح حين يدخل البستان فيخرص بالتخمين: كم صاعاً في هذه، كم مداً في هذه النخلة. يقول ذلك بالخرص، كذلك الذي يقول بدون علم من الله ورسوله: هذا حلال، هذا حرام، هذا يجوز هذا كذا؛ فهو كالخراصين، يصيب في واحدة ويخطئ في عشر، فلا بد من العلم بمحاب الله ومكارهه.
    تفسير قوله تعالى: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)
    ثم قال تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ )[الأنعام:117]، دعهم يقولوا ما شاءوا أن يقولوا، فربك -يا رسولنا- أعلم بمن يضل عن سبيله وأعلم بالمهتدين، والضال عن السبيل: هو الذي يخطئ الطريق، لا أمر ولا نهي، كالكفار كلهم، ولهذا رسمت في صورة في رسالة ستطبع خطاً مستقيماً في الصفحة، وعن يمينه وعن شماله الأوامر والنواهي، فالذين كفروا خرجوا خروجاً كاملاً عن الطريق، فتحطموا وتمزقوا ثم استقرت حالهم، فما بقي من يأسف ولا يكرب، الزنا عندهم حلال، الربا حلال، القتل حلال، والذين يخرجون من جهة ويعودون من أخرى يبقون في حيرتهم حتى يعودوا إلى الصراط بكاملهم، أو ينفصلوا فيتحطموا. وهنا تبجح الضلال والجهال وقالوا: الكفار ليس فيهم خلاف، بل عندهم استقرار في بلادهم، ونحن لماذا في اضطراب؟ فقلنا لهم: ما عرفتم لماذا؟ الكفار خرجوا عن طريق الله نهائياً وسقطوا فتألموا ثم سكنوا، فالزنا حلال، الربا حلال، لا عيب، لا حرام، لا باطل، ما هناك صراع، أما المسلمون فما انفصلوا عن الإسلام ولا قبلوه كاملاً، فهم في اضطرابهم وحيرتهم، إما أن يعودوا إلى الطريق السوي فيكملوا ويسعدوا ويهدءوا، وإما أن ينفصلوا نهائياً فيهلكوا ويهدءوا ويسكنوا بعد ذلك، إلا أننا نرضى بهم حيارى مرتفعين من جهة وهابطين من أخرى أحسن من الانفصال الكلي، أليس كذلك؟
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    والآن نكتفي بهداية الآيات، هذه الآيات تحمل هداية، تهدي إلى ماذا؟ إلى الوليمة في البستان الفلاني! تهدي إلى أي شيء؟ إلى رضا الله وجواره في الملكوت الأعلى، وذلك بتزكية النفس وتطهيرها بهذه العبادات الإلهية، وبذلك تصل إلى مستواها وتنزل بدار السلام.
    إذاً: كل آية لها هداية، كل آية في القرآن من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولن يستطيع ذو عقل أن ينقضها، وبينا ذلك مرات، ذلك أن هذه الآية من أنزلها؟ إنه الله تعالى، وهل هناك من يقول: أمي أو أبي؟ فمن أين جاءت؟ من الله، آمنت بالله منزلها، آمنت بجلاله وكماله، لا إله إلا هو. وعلى من نزلت هذه الآية؟ الذي نزلت عليه لن يكون إلا رسول الله، مستحيل أن يكون غير رسوله، كل آية تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، على علم يقيني.
    قال: [ أولاً: حرمة وبطلان التحاكم إلى غير الوحي الإلهي ]، ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا )[الأنعام:114]، دل هذا على أنه لا يحل أن نتحاكم إلى غير كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
    [ ثانياً: تقرير صحة الدعوة الإسلامية ]، الدعوة الإسلامية: دعوة الناس إلى الله ليعبد وحده ويسعد العابدون، هذه الدعوة صحتها ثبتت [بأمرين: الأول: القرآن الكريم. الثاني: شهادة أهل الكتاب ممن أسلموا كـعبد الله بن سلام القرظي وأصحمة النجاشي المسيحي وغيرهم ]، فهمتم هذا؟ الدعوة الإسلامية ثبتت بماذا؟ بالقرآن الكريم، وبإيمان أهل الكتاب، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ )[الأنعام:114].
    [ثالثاً: ميزة القرآن الكريم: أن أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل ]، هذه ميزة القرآن، هذا ما امتاز به: كل أخباره صدق وكل أحكامه عدل، لا حيف ولا ظلم ولا جور.
    [ رابعاً: وعود الله تعالى لا تتخلف أبداً ] إذا وعد الله، ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا )[النور:55]، هل تم هذا لرسول الله وأصحابه أم لا؟ والآن والله ليتمنه لأية أمة في بلاد العالم في الشرق أو الغرب إن أقبلت على الله في صدق، وآمنت الإيمان الحق وعملت الصالحات، والله إن فعلت لمكن الله لها في الأرض ولسادت وحكمت، ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[النور:55]، بم وعدهم؟ ( لَيَسْتَخْلِفَن َّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا )[النور:55].
    [ خامساً: اتباع أكثر الناس يؤدي إلى الضلال ] كما بينت لكم؛ حتى أهل المدينة [ فلذا لا يتبع إلا أهل العلم الراسخون فيه ]، ولا يتبع ولا يمشى وراء أحد إلا أهل العلم، [ لقوله تعالى: ( وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )[يونس:89] ].

    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #399
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (35)
    الحلقة (398)
    تفسير سورة المائدة (29)


    مما أوحى به شياطين الجن إلى إخوانهم من شياطين الإنس أن قالوا للرسول ولمن معه من المؤمنين: كيف تأكلون ما تقتلون وتذرون ما يقتله الله، فنبه الله عباده المؤمنين إلى أن شياطين الجن يوحون إلى الأخباث من الإنس الذين استجابوا لهم بعبادة الأوثان مثل هذه الأقوال ليزعزعوا إيمان الصادقين ويشوشوا عليهم، ثم أمرهم سبحانه بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه؛ لأنه حلال وليس مما حرمه الله على عباده.
    تفسير قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    والسورة ما زالت سورة الأنعام المباركة المكية الميمونة، فلنستمع إلى تلاوة الآيات مجودة مرتلة، ثم نشرع بإذن الله في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ * وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِين َ * وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ * وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُم ْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ )[الأنعام:118-121].
    مشروعية الأكل مما ذكر اسم الله تعالى عليه وحرمة الأكل من غيره من الذبائح
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: (
    فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ )[الأنعام:118]، هذا أمر الله لنا -معاشر المؤمنين والمؤمنات- أن نأكل من الذبائح مما أذن الله في أكله، وهي الأنعام ومن غير الأنعام كالطير -مثلاً- أو الدجاج، وسائر ما أذن الله في أكله، وعند الذبح وعند التذكية يجب أن يقول من يذكي ومن يذبح: باسم الله، فإذا ذكر اسم الله بهذا اللفظ: (باسم الله) حل أكل ذلك الذبيح، وأصبح من الطيب الحلال، فإن هو لم يذكر اسم الله عليه، سواء ذكر اسم غير الله كالأصنام والأحجار، أو الأنبياء والصالحين، أو لم يذكر اسم الله ولا اسم غيره؛ لم يحل الأكل؛ إذ هذه الذبيحة لولا إذنه تعالى بذلك ما جاز أن تذبح هذا الحيوان وتقطعه عن الحياة، فأنت تقول: باسم الله أذبحه.
    فمن هنا لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يذكي شاة أو بعيراً أو بقرة أو طائراً من الطير كالدجاج وسائر أصنافه حتى يقول: باسم الله، فإن نسي أن يقول: باسم الله وهو مؤمن موحد لا يشرك بالله جاز أكله؛ لأن الله رفع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان، أما أن يقول: لا أقول اسم الله ولا أذكره؛ فلا يصح أكله أبداً ولا يجوز.
    هنا بعض الشياطين من المجوس واليهود والمشركين قالوا: لماذا الذي يقتله الله جل جلاله ويميته تحرمونه ولا تأكلونه وتقولون: ميتة، والذي تقتله أنت يا آدمي تقول: هذا حلال؟ وهذه من وسوسة الشيطان وإملائه لأوليائه المتفق معهم على الإضلال والإفساد في الأرض.
    إذاً: فمن هنا أزال الله تعالى من نفوس المؤمنين والمؤمنات هذا الوهم وقال: ( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ )[الأنعام:118]، آمنا بالله وبلقائه وكتابه ورسوله. إذاً: فلا نصغي ولا نسمع إلى وساوس الشياطين، يقال: كيف الذي تقتلونه أنتم تقولون: هو حلال وتأكلونه، والذي يقتله الله ويميته تقولون: هو حرام؟ توجد نفوس صغيرة تصغي إلى مثل هذا، فأبطل الله هذا وانتزعه من ألسنتهم قبل أن يصل إلى قلوب المؤمنين، وهي آية محكمة إلى يوم القيامة، ( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ )[الأنعام:118]، وآيات الله بينت لنا الحلال والحرام، في سورة النحل، في سورة المائدة، وإن كانت سورة المائدة ما نزلت بعد.
    تفسير قوله تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم ...)
    وقوله تعالى: ( وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ )[الأنعام:119]، جاء من سورة النحل بيان ذلك في آخر السورة، وفي سورة المائدة: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ ... )[المائدة:3]، وفي قوله تعالى في سورة البقرة: ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[البقرة:173].إذاً: ( وَمَا لَكُمْ )[الأنعام:119]، أي شيء يمنعكم ( أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ )[الأنعام:119] ربكم وبين ( مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ )[الأنعام:119] في النحل -كما قلنا- وفي غيرها، ( إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ )[الأنعام:119]، فالذي يخاف على نفسه الموت له أن يأكل مما حرم الله القدر الذي يحفظ به حياته، لا أن يأكل ليشبع ويتلذذ بالميتة المحرمة أو لحم الخنزير أو الدم، وإنما يأكل بقدر الحاجة، إذا أكل ما يسد رمقه ويقيم صلبه يكتفي بذلك، لا يتلذذ ويشبع منه، ( إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ )[الأنعام:119].
    معنى قوله تعالى: (وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين)
    ثم قال تعالى لهم: ( وَإِنَّ كَثِيرًا )[الأنعام:119]، أي: من الشياطين من الإنس والجن، ( لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ )[الأنعام:119]، يفتون ويقولون: هذا حلال وهذا حرام، بدون علم عن الله ولا عن رسوله، فأكثر الناس هكذا، وخاصة أهل الكفر والشرك.(وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِين َ )[الأنعام:119]، وسوف يجزيهم مقابل اعتدائهم؛ لأن التحريم والتحليل حق الله فقط، التحريم للمأكل، للمشرب، للملبس، للمسكن، للمركب، للمنكح، التحريم والتحليل من حق الله تعالى وحده، ولماذا؟ لأن العبيد عبيده، وهو القائم على حياتهم أولاً، وثانياً: هو الذي يعلم ما يضر بأنفسهم وما ينفع، وهل غير الله يعرف هذا؟
    فهو تعالى -أولاً- الملك ملكه، يأذن في كذا ولا يأذن في كذا، فهل تعترض عليه؟
    ثانياً: هو إذا أحل يعلم أن هذا الحلال ينفع الآكل، وإذا حرم يعلم أن هذا الحرام يضر الآكل؛ لأنه ولي المؤمنين ورب العالمين، فلهذا ندد بالذين يضلون الناس حيث يفتونهم بدون علم، وهم في ذلك معتدون، وسوف يلقون جزاءهم من الله، جزاء اعتداءهم، اعتدوا على ماذا؟ على الله، حيث أخذوا يشرعون لعباده، فأي اعتداء أعظم من هذا؟ فلهذا توعدهم بقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ )[الأنعام:119] أيها المستمع ( هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِين َ )[الأنعام:119]، وسوف يجزيهم مقابل اعتدائهم؛ إذ أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله، فلنحذر هذا في كل شيء، لا نفتي إلا بعلم، وإلا نقع في العدوان.
    تفسير قوله تعالى: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه ...)
    ثم قال تعالى: ( وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ )[الأنعام:120]، هذا الخطاب لنا، فاسمعوه: ( وَذَرُوا )[الأنعام:120]، أي: واتركوا أيها المؤمنون ( ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ )[الأنعام:120]، (الإِثْمِ): كل فاسد قبيح حرمه الله عز وجل، سواء كان قولاً أو اعتقاداً أو عملاً، كل فاسد قبيح ظاهر فهو إثم، وقد يكون الإثم ظاهراً علناً وقد يكون باطناً سرياً وخفياً، والكل ممنوع. كان العرب في الجاهلية يمنعون الزنا العلني ويبيحون الزنا السري وهو اتخاذ صديقة أو خليلة يزني بها، ولا يزني علنياً إلا العبيد، لكن الآية جاءت بأعم من هذا، فالآثام والذنوب منها ما هو ظاهر، ومنها ما هو باطن، فلا تقل: أنا لا أفعل ذنباً يراه الناس، وأما ما كان خفياً ولا يطلع عليه أحد إلا الله فهذا لا بأس به! فهذه الآية عامة في كل إثم.
    (وَذَرُوا )[الأنعام:120]، أي: اتركوا. ( ظَاهِرَ الإِثْمِ )[الأنعام:120]، أي: ما ظهر من الإثم. ( وَبَاطِنَهُ )[الأنعام:120]، أي: ما خفي؛ لان الظاهر فوق والباطن أسفل، كثيابنا من فوق وفي الباطن، كذلك الكلمة الباطلة بالكذبة والغيبة والنميمة هذا إثم ظاهر، والغش والخداع والبغض في باطن نفسك هذا إثم باطن، فهذه الآية تحرم الإثم، وهو كل ما يضر من قبيح وفاسد، وكيف نعرف هذا؟ الجواب: كل ما حرم الله عز وجل من قول أو اعتقاد أو عمل فهو -والله- الإثم، وسواء كان ظاهراً أو باطناً، أمرنا بهذا من أجل أن تبقى أنفسنا طاهرة زكية نقية، فإذا جاء ملك الموت يسلبها وينتزعها كانت كأرواح الملائكة، فهذه الروح يعرج بها إلى الملكوت الأعلى، وتبقى في الجنة إلى قيام الساعة، فإن كانت خبيثة منتنة بالآثام والذنوب فإنها ترفع ولكن لا تفتح لها أبواب السماء، وهذا قطعي؛ لقول الله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ )[الأعراف:40]، هذا مستحيل، البعير لا يدخل في عين الإبرة، وصاحب النفس الخبيثة بأوضار الذنوب وفعلها روحه لا تفتح لها أبواب السماء، فلهذا أمرنا سيدنا ومولانا وولينا بأن نترك ما ظهر من الإثم وما بطن، ولا نستصغر إثماً أو نحتقر آخر.
    معنى قوله تعالى: (إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون)
    ثم قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ )[الأنعام:120] من الذنوب والآثام، لما حرم علينا إتيان الإثم ظاهراً أو باطناً وأوجب تركه قال: واعلموا إذاً: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ )[الأنعام:120] يوم القيامة، وقد يجزوهم في الدنيا بما يشاء من البلايا والرزايا، ( بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ )[الأنعام:120]، أي: يأثمون ويكذبون ويقارفون من الذنوب والآثام، فلهذا المؤمنون العالمون لا يأتون إثماً أبداً، لا يقدرون عليه.(إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ )[الأنعام:120]، والكسب معروف بالجوارح، بالسمع، بالبصر، باللسان، باليد، بالفرج، بالرجل، هؤلاء يقول تعالى عنهم: ( سَيُجْزَوْنَ )[الأنعام:120]، من يجزيهم؟ الله جل جلاله، الملك الحق المبين، يجزيهم بماذا؟ ( بِمَا كَانُوا )[الأنعام:120] يفترون، ( بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ )[الأنعام:120]، والاقتراف: هو ارتكاب الذنوب والآثام.
    تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق...)
    صور التسمية على الذبيحة وأحكامها
    ثم قال تعالى مخاطباً المؤمنين: ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )[الأنعام:121]، أي: من الذي لم يذكر اسم الله عليه، ( وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ )[الأنعام:121]، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يأكل ذبيحة ذكر عليها اسم ولي أو نبي أو صنم أو حجر أو جان؛ لأنهم يذبحون للجان. ثانياً: لو قال هذه الذبيحة لسيدي فلان، وعند الذبح قال: باسم الله؛ فهي -والله- محرمة ولا تؤكل؛ لأنه ذبحها له، أما الاسم فشيء ثان، فهنا حالتان:
    الأولى: أن يقول: باسم اللات، أو باسم روح الله، أو باسم كذا، فهل هذه يجوز أكلها؟ الجواب: والله ما يجوز بالإجماع، لماذا؟ لأنه تعبد بها غير الله، تقرب بها إلى كائن سوى الله، فهو -إذاً- يطلب مصلحته أو فائدته من هذا الذي ذبح له، فهو إذاً عبده حيث أقبل عليه بقلبه ووجهه وتقرب إليه وتزلف بهذه الذبيحة.
    الثانية: أن يقول: هذه شاة سيدي فلان، أو هذه الشاة لكذا، ثم عند الذبح يقول: باسم الله، فكذلك لا يحل أكلها، وإن قلت: لم وقد سمى الله؟ قلنا: هل ذبح لله؟ هل تعبد الله بذلك وتملق إليه وتزلف؟ هو قال: هذه الشاة لفلان يتقرب إليه ويتزلف ويتوسل.
    فمرة أخرى أقول: لا فرق بين أن يقول: باسم اللات، أو باسم روح الله، أو باسم مريم ويذبح، حتى وإن قال: أنا أردت الله.
    الثانية: ألا يقول: باسم فلان، يقول: باسم الله، وهو ما ذبحها إلا ليتقرب إلى فلان، ولا تقل: يأتينا ضيف فنقول: يا ولدي! اذبح الشاة الفلانية لضيفنا؛ فهذا ليس من باب التعبد والتقرب، إكرام الضيف واجب، وقد نزل بنا، فباسم الله نذبح ونكرم ضيفنا إيماناً بالله ورسوله، وطاعة لله ورسوله، كذلك الشاة التي هي شاة لحم يذبحها الجزار لماذا؟ لتؤكل، في المجزرة يقول: باسم الله، ولكن هذه يذبحها ليأكلها الناس، فهل هذا يعتبر كالذي يذبح لغير الله؟
    فتلخص من هذا أن مسائل الذبح ثلاث:
    الأولى: لا يحل أكل ما ذكر اسم غير الله عليه قطعاً بلا خلاف.
    الثانية: أن يذكر اسم الله وهو لا يريد بذلك وجه الله، يريد التقرب إلى نبي أو ولي أو جان كما يذبحون للجن، فهي لا تؤكل وإن ذكر اسم الله.
    والثالثة: أن يذبح باسم الله ليكرم عبداً من عباد الله، أو ليكرم نفسه وأسرته، أو جزار يذبح الذبائح ويبيعها للمؤمنين ليأكلوها أو غير المؤمنين، هذه الذبائح أذن الله فيها لإطعام الناس، فما ذبحها تقرباً إلى فلان أو فلان ليشفي مرضه أو يدفع عنه الألم والخوف.
    (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ )[الأنعام:121]، أي: خروج عن طاعة الله عز وجل، الذي يأكل من شاة أو من لحم لم يذكر اسم الله عليه فسق، خرج عن طاعة الله عز وجل، وهو بذلك مشرك، ولفظ الفسق يعم كل خروج عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ( وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ )[الأنعام:121]، فيجب أن تتحاشى ولا تأكل مما لم يذكر اسم الله عليه.
    وهنا صورة رابعة للذبيحة: أن تكون حراماً، كما إذا سرقت وسمى عليها السارق فقال: باسم الله، هل يجوز أن تأكل من السرقة؟ ما يجوز، هذه الرابعة، هو سرق شاة أو اختطفها وأخذها بالقوة، وذبحها وقال: باسم الله، هل يجوز لمن علم ذلك أن يأكل؟ لا يجوز لأنه لفسق.
    معنى قوله تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)
    (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُم ْ )[الأنعام:121]، هذا الذي ذكرناه أولاً هو سبب نزول الآية، كما قلت لكم: اليهود والمجوس كانوا يتكلمون مع العرب وقالوا لهم: هذا الذي يزعم أنه كذا انظروا إلى عجيب فعله: ما يقتله بنفسه حلال، وما يقتله ربه بسكين من ذهب يقول عنه: حرام! فتأثر بهذا بعض الضعفاء من المؤمنين، فنزلت الآية تبين هذه الحقيقة، فيقول تعالى: ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ )[الأنعام:121]، شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس بالوسوسة، ويلقي في روعه كلمة ويقولها، هذا المعنى من أين أتى؟ لا بد أنه من الشيطان، يقول: كيف الذي يذبحه الله بسكين من ذهب نقول عنه: حرام، والذي يذبحه هو بحديدة يقول عنه: حلال؟! فالعوام يتأثرون بهذا.(وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُم ْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ )[الأنعام:121]، والله! ( وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ )[الأنعام:121]، وحرمتم ما أحل الله فقد أشركتم؛ لأنكم أطعتم الشيطان وعبدتموه، وطاعة الشيطان عبادته، أليس الشيطان هو الذي زين هذا وأوحاه إلى أوليائه؟ فإذا استجبت أنت وحرمت ما أحل الله فمعنى هذا أنك عبدت الشيطان، ويكفي قول الله تعالى: ( إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ )[الأنعام:121]، وهكذا لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يذكي بغير اسم الله عز وجل، وكل لحم لم يذكر عليه اسم الله لا يحل أكله أبداً، وأسوأ من ذلك إذا ذبح لغير الله عز وجل، وتقرب به إلى المخلوقات من الجن والإنس، فإن ذلك شرك وأي شرك هو، والله يقول: ( وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ )[الأنعام:121].
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير


    معنى الآيات
    اسمعوا الآيات في الشرح لتزدادوا علماً بإذن الله ويقيناً. يقول: [ مما أوحى به شياطين الجن إلى إخوانهم من شياطين الإنس أن قالوا للرسول والمؤمنين: كيف تأكلون ما تقتلونه أنتم وتمتنعون عن أكل ما يقتله الله؟ ] ويبدون هذا الكلام وكأنه معقول، وهذا من وحي الشيطان [ فأنزل الله تعالى قوله: ( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ )[الأنعام:118]، فأمر المؤمنين بعدم الاستجابة لما يقوله المشركون، وقال: ( وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )[الأنعام:119]، أي: أي شيء يمنعكم من الأكل مما ذكر اسم الله عليه؟ ( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ )[الأنعام:119]، أي: بين لكم غاية التبيين، ( مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ )[الأنعام:119] من المطاعم، ( إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ )[الأنعام:119]، أي: ألجأتكم الضرورة إليه، كمن خاف على نفسه الهلاك من شدة الجوع فإنه يأكل مما حرم في حال الاختيار.
    ثم أعلمهم أن كثيراً من الناس يضلون غيرهم بأهوائهم بغير علم فيحلون ويحرمون بدون علم، وهم في ذلك ظلمة معتدون؛ لأن التحريم والتحليل من حق الرب تعالى لا من حق أي أحد من الناس، وتوعدهم بما دل عليه قوله: ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِين َ )[الأنعام:119]، ولازمه أنه سيجازيهم باعتدائهم وظلمهم بما يستحقون من العذاب على اعتدائهم على حق الله تعالى في التشريع بالتحليل والتحريم.
    وقوله تعالى في الآية الثالثة: ( وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ )[الأنعام:120]، يأمر تعالى عباده المؤمنين بترك ظاهر الإثم كالزنا العلني وسائر المعاصي، وباطن الإثم كالزنا السري وسائر الذنوب الخفية، وهو شامل لأعمال القلوب وهي باطنة وأعمال الجوارح وهي ظاهرة، لأن الإثم كل ضار فاسد قبيح، كالشرك والزنا وغيرهما من سائر المحرمات.
    ثم توعد الذين لا يمتثلون أمره تعالى بترك ظاهر الإثم وباطنه بقوله: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ )[الأنعام:120]، أي: سيجزيهم يوم القيامة بما اكتسبوه من الذنوب والآثام، ولا ينجو إلا من تاب منهم وصحت توبته.
    وفي الآية الأخيرة في هذا السياق يقول تعالى ناهياً عباده عن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من ذبائح المشركين والمجوس فقال تعالى: ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )[الأنعام:121]، وأخبر أن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه وذبائح المشركين والمجوس] هذا الأكل هو [فسق، أي: خروج عن طاعة الرب تعالى، وهو مقتضٍ للكفر لما فيه من الرضا بذكر اسم الآلهة التي تعبد من دون الله تعالى.
    ثم أخبرهم تعالى بأن الشياطين -وهم المردة من الجن- يوحون إلى الأخباث من الإنس من أوليائهم الذين استجابوا لهم في عبادة الأوثان، يوحون إليهم بمثل قولهم: كيف تحرمون ما قتل الله وتحلون ما قتلتم أنتم؟ ليجادلوكم بذلك، ويحذر تعالى المؤمنين من طاعتهم وقبول وسواسهم فيقول: ( وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ )[الأنعام:121] فأكلتم ذبائحهم أو تركتم أكل ما ذبحتم أنتم وقد ذكرتم عليه اسم الله، ( إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ )[الأنعام:121]، لأنكم استبحتم لما تأمر به الشياطين تاركين ما يأمر به رب العالمين ]، وذلك هو الشرك والعياذ بالله تعالى.
    هداية الآيات
    لهذه الآيات هدايات، فتأملوا.[ أولاً: حل الأكل من ذبائح المسلمين ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )[الأنعام:118].
    [ ثانياً: وجوب ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام عند تذكيتها ]، وليس هذا خاصاً بالبقر والغنم، كل ما أذن في أكله من الطير وأنواعه لا بد من ذكر اسم الله عز وجل، إلا في حال الصيد فإنك تقول: باسم الله وترمي سهمك.
    [ ثالثاً: حرمة اتباع الأهواء ووجوب اتباع العلماء ]، (حرمة اتباع الأهواء) أي: أصحاب الأهواء، (ووجوب اتباع العلماء)، أي: العالمون بما أحل الله وبما حرم.
    [ رابعاً: وجوب ترك الإثم ظاهراً كان أو باطناً، وسواء كان من أعمال القلوب أو أعمال الجوارح ]، ( وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ )[الأنعام:120].
    [ خامساً: حرمة الأكل من ذبائح المشركين والمجوس والملاحدة البلاشفة الشيوعيين ]، بخلاف ذبائح اليهود والنصارى، فقد أباح الله لنا أن نأكل طعام أهل الكتاب، أما غير الكتابي من المشركين والمجوس والذين لا دين لهم من الملاحدة فلا تحل ذبائحهم أبداً، وإن ذبحوها على أحسن صورة.
    [ سادساً: اعتقاد حل طاعة الشياطين شرك والعياذ بالله تعالى ]، من يعتقد أن الشياطين يطاعون، وهذا يتناول الذين يذبحون للجن، عبدوا الجن بالذبح لهم.

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #400
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,256

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (36)
    الحلقة (399)
    تفسير سورة المائدة (30)



    الهداية إلى طريق الرشاد حياة ونجاة، والبعد والإعراض عنها موت وهلاك، وقد امتن الله عز وجل على عباده المؤمنين هدايته سبحانه لهم، وإنقاذهم من ظلام الكفر إلى نور الإيمان، وتفضله عليهم بأن لم يجعلهم كالمجرمين الذين ينشرون الباطل، وينفثون الشر والفساد، فيعرضون أنفسهم ومجتمعهم لسخط الله عز وجل، ويستحقون عقابه الذي توعد به أمثالهم.
    تفسير قوله تعالى: (أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله -يعني: المساجد- يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، تلكم السورة التي تقرر المبادئ العظمى:
    أولاً: توحيد الله عز وجل، فلا رب غيره ولا إله سواه.
    ثانياً: تقرير النبوة المحمدية وإثبات الرسالة له صلى الله عليه وسلم.
    ثالثاً: تقرير مبدأ البعث والنشور والجزاء على الكسب في هذه الدنيا، إما بجنات النعيم، وإما بالنار ذات العذاب الأليم.
    هذه القواعد التي تقررها سورة الأنعام؛ فلهذا قلت منذ حوالي أربعين سنة: لو أن هذه السورة فرضت فرضاً حفظاً وفهماً ودراسة على طلاب العلم، سواء كانوا في مدارس صناعة، أو مدارس تقنية، أو مدارس سياسية، فضلاً عن مدارس العلم والكتاب والسنة؛ لأنها تؤكد هذا المعتقد العظيم الذي ما خلا منه قلب إلا ومات صاحبه، وما أصبح له معنى في الوجود، ولكن:
    لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي.
    هكذا قال الحكماء، ها نحن مع هذه الآيات الثلاث، هيا نسمع تلاوتها مجودة مرتلة من أحد الأبناء، ثم نأخذ إن شاء الله في شرحها وبيان ما فيها من هدى الله عز وجل، فتفضل أبا بكر .
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ )[الأنعام:122-124].
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا )[الأنعام:122]، من يسوي بينهما؟
    المراد بالموت في الآية الكريمة
    والمراد بالموت هنا أمران: الأول: موت الكفر. والثاني: موت الجهل. فالكافر ميت، والجاهل مثله، إلا أن من آمن حق الإيمان لم يصبح يسمي جاهلاً، وإن شئتم حلفت لكم من الآن أن من آمن الإيمان المطلوب لن يعيش جاهلاً أبداً، بل يتعلم في أسبوعه الذي دخل فيه في الإيمان أو في أكثر أو أقل وتزول موتة الجهل عنه، وإن رأيت مؤمناً جاهلاً فما هو بالمؤمن الحقيقي الكامل الإيمان، لو آمن حق الإيمان بالله وبعظمته وجلاله، وبقدرته التي بها كل شيء؛ والله لطلب محبته ولطلب معرفته، ولمشى شرقاً وغرباً يسأل: من يعرفني به حتى أعرفه؟ ما الذي يحبه ربي مني؟ ما الذي يكره مني؟ ليفعل المحبوب ويترك المكروه، وبذلك والله لا يبقى جاهلاً، هذه حقيقة يعيها أهل الوعي، فالميت هو الكافر والجاهل، الكافر ميت لا يسمع ولا يبصر ولا يعي ولا يفهم، والبرهنة التي نكررها لينقلها أهل البصائر: هل إذا كان تحت رايتنا ذميون من أهل الكتاب يعيشون معنا، هل نأمرهم بأن يصلوا؟ هل نأمرهم بأن يدفعوا الزكاة؟ هل نأمرهم بأن يصوموا معنا؟ بأن يحجوا معنا؟ بأن يجاهدوا معنا؟ الجواب: لا والله.. لا والله.. لا والله. لماذا؟ ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ )[النحل:21]، هذه برهنة كالشمس في وضوحها، والمؤمن بالتقليد والنسبة القبلية والوطنية وهو جاهل ويعيش السنين الطويلة ما هو بالمؤمن الحق، والله لو آمن حق الإيمان لطلب العلم وعرف الله عز وجل، وعرف ما يحب وما يكره من الاعتقادات، من الأقوال والأعمال، والصفات والذوات؛ ليعيش على محاب الله لا يفارقها أبداً، ويبتعد كل البعد عن مكاره الله ويجتنبها، ولا تلمه؛ لأنه عرف، آمن وأيقن، وهذا قول ربنا عز وجل: ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا )[الأنعام:122]، وفرق بين الميّت والميت عند أهل العلم: الميّت: فيه الروح، والميْت مقطوع الروح نهائياً.
    (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ )[الأنعام:122]، كـعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبلال وياسر وعمار ، أما كانوا كفاراً مشركين ميتين؟ من أحياهم؟ الله جل جلاله، وانظر إلى ياسر وهو يعذب بأيدي الماكرين المجرمين، يعذب بأنواع العذاب في مكة، والرسول صلى الله عليه وسلم يمر به وهو لا يقدر على أن يزيل ذلك المنكر أو يغيره، فيقول: ( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ).
    وبلال بن رباح ذاكم العبد الصالح ولي الله، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة، يضرب بالسياط ويسحب على وجهه على الأرض الحارة أيام القيظ كهذه الأيام، ويقال له فقط: اذكر آلهتنا بخير نرفع العذاب عنك، اذكر محمداً بسوء. فلا يبرح أن يقول: أحد.. أحد.. أحد! هذا هو الإيمان، فهل أحياهم بعد ما كانوا أمواتاً؟ لا.
    فعرفنا الآن يقيناً أن الكافر ميت، أن المجرم ميت، أن الفاسق ميت.
    (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ )[الأنعام:122]، ومن أحياه سوى الله؟ لا يقدر مخلوق على إحياء ميت أبداً، لو اجتعت البشرية كلها بكل أطبائهم على إيحاء ميت فهل سيحيونه؟
    كذلك الجاهل، الكافر، المشرك، الهالك، لو تجتمع البشرية كلها على إحيائه بالإيمان ما قدرت ولن يحيا، كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجه صوب الوليد بن المغيرة وأبي جهل وفلان وفلان يدعوهم ويقول الكلم الطيب، والتوجيه السليم الرشيد، ولا يعونه ولا يفهمونه، ويقولون: لو كان هذا الدين حقاً لكان نزل علينا، لماذا ينزل على هذا الأمي الذي نحن أكبر منه سناً وأكثر منه مالاً؟ هكذا كان الوليد يقول.
    نور العلم والمعرفة بالله تعالى وأثره في حياة المرء
    (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ )[الأنعام:122]، ما هذا النور؟ هل هو كهرباء؟ أو مصابيح وفوانيس؟ هذا النور نور العلم والإيمان، صاحب هذا النور يعيش خمسين سنة أو ستين سنة وقلما يقع في زلة ثم يمحوها الله عنه بإلهامه التوبة النصوح الصادقة ويبقى له نوره، أما الذي يتخبط كل يوم في المعاصي والذنوب فأين نوره؟ أو أن النور أصبح ليس له مفعول، ما يضيء الطريق، وما تعطلت سنن الله أبداً، ما زال النور هو النور.
    إذاً: فذو النور يمشي -كما قلت لكم- ويعيش في القرية، في المدينة، في رأس الجبل، في السوق ولا تزل قدمه ولا يخرج عن طاعة ربه لا بأذية مؤمن ولا بتضليله ولا بغشه أو خداعه، ولا بارتكاب جريمة مما حرم الله على عباده، ما سبب ذلك؟ إنه النور.
    وكثيراً ما أكرر القول وأقول: يا أهل قرية بني فلان! نسألكم بالله: من أتقاكم في القرية؟ والله لا يقولون إلا فلان الذي هو أعلمهم، من أفجركم في القرية؟ والله إنه لأجهلهم، أبعد هذا نشك في أن العلم نور؟ ولكن ما المراد من العلم؟ هل هو علم الأكل والشرب وغسل الثياب؟ العلم الذي يدور على معرفة الله عز وجل معرفة حقيقية يقينية تثمر له حبه في قلبه لمحابه كلها، وكرهه في قلبه لما يكرهه الله كله، هذا أولاً.
    ثم تثمر له في قلبه أن يبحث عن تلك المحاب ويستقصي في السؤال، ويشرق ويغرب ليعرف ما يحب الله وما يكره، ولهذا مثل حي: من ذاك الفارسي الذي خرج من إيران وكان والده من عبدة النار وهو موقدها ومشعلها؟ من هذا الفارسي؟ إنه سلمان عليه الرضا والسلام، تنقل من بلد إلى بلد، وينظر في الأديان: في المسيحية، واليهودية، والمجوسية.. إلى أن انتهى إلى طيبة بهداية الله وتوفيقه وأسلم، إذاً: لما وقع في نفسه الإيمان أخذ يطلبه وسجن وعذب في طريقه مرات.
    الإيمان روح لا حياة بدونها، فمن أراد أن يحيي أهل مدينة أو أهل قرية فليعلمهم الإيمان وليعلمهم محاب الله ومكارهه، فإذا تضلعوا في ذلك وتفقهوا فليبشر بأنهم أسلموا وآمنوا، وتهيئوا لسعادة الدنيا والآخرة، أما مع الجهل وضعف الإيمان فهيهات هيهات أن توجد أمة، حتى في القرية يصبحون كالأسرة الواحدة لا يكره بعضهم بعضاً ولا يؤذي بعضهم بعضاً، ويتقاسمون الخير، وذلك لجامعة الإيمان والعلم بالله عز وجل.
    والضائعون يصيحون ويكتبون ويقولون، مع أن الطريق هذا هو، فادخل في قرية وعرفهم بالله، حببهم إليه حتى يهديهم ويصلحهم، وانظر إلى الكمال والنور الذي يتجلى لك في تلك القرية.
    (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ )[الأنعام:122]، أسألكم بالله: حين تنطفي المصابيح في الليل فتخرج فتجد الشوارع في ظلام دامس هل تكون كالذي يمشي قبل هذه الساعة في الأنوار؟ مستحيل، فأنت حينئذ قد تقع على حية، تقع في شوكة، تقع في كذا، وهو يمشي أمامه، فذو النور ذو العلم يعرف محاب الله ومكارهه، يعرف ما أحل الله وما حرم على بصيرة، فيأتي المحبوب ويترك المكروه فيسعد وينجو ويكمل، والآخر يتخبط.
    معنى قوله تعالى: (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون)
    قال تعالى: ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:122]، كهذا الذي سمعتم من الفرق بين العالم والجاهل، والحي والميت، فالعالم المؤمن في طريق الهداية والكمال والسعادة، والكافر والجاهل في طريق الضلال، يقول تعالى: هكذا زينا للكافرين ما كانوا يعملون، فالكفار الآن يشربون الخمور، يزنون، يكذبون، يفعلون الأعاجيب، هل يتألمون؟ يبكون؟ يتحسرون؟ يقع شيء من هذا؟ يتلذذون بالجريمة، يسخرون ويضحكون من المؤمنين، يستهزئون ويسخرون منهم، لم؟ لأنهم يمشون في الظلام، فمن جهة لا علم لهم، وهم من جهة أموات غير أحياء لكفرهم وظلمة جهلهم، هكذا زين للكافرين ما كانوا يعملون، فالكافر مزين له بوسائل سنن الله عز وجل، من أعرض عن الله تركه الله، وستهوته الشياطين، زينت له أفحش الفواحش وأقبح الأعمال وأسوأ السلوك، وهو يراه حسناً ويرفع رأسه إلى السماء، ومن أراد مثلاً قريباً فلينظر كيف كان الاشتراكيون بينكم -أيها العرب- يتبجحون! كيف كانت روسيا ترفع رأسها إلى السماء وتتحدى الله!
    لكن ما أقبلنا على دراسة كتاب الله ولا اجتمعنا عليه في بيت الله ولا في بيوت عباد الله، فكيف نعلم، كيف نعرف، كيف نهتدي إذاً ونحن دائماً متأخرون إلى الوراء؟
    (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:122]، لا تظن أن الكافر لما يسب أو يشتم أنه يتألم، إن المؤمن العالم لو وقع في زلة يبكي الدهر كاملاً، ويتأثر طول حياته؛ ولذلك لحياته ولنوره، أما الكافر فيغني بالكفر، ويتبجح به، هذه سنن الله عز وجل، فالحياة بيد من؟ بيد الله. والعلم بيد من؟ بيد الله. فمن أين نطلب الحياة والعلم؟ من الله، من صدق وطلب فاز وظفر، ومن كذب أو نافق وأعرض والله لا يؤمن ولا يعلم، ما هناك إلا باب الله عز وجل فقط.
    (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:122]، زين للكافرين ما كانوا يعملونه من أقبح الأعمال وأسوئها، ماذا فعلوا بـعمار ؟ ماذا فعلوا بالمؤمنين؟ لو كانوا مؤمنين هل سيفعلون هكذا؟ والآن الجرائم التي ترتكب في الديار الجزائرية بالذبح والسلخ والقتل هل هذا يصدر عن إيمان أو عن علم؟ لا والذي لا إله غيره، لا يصدر إلا من أموات، هذه سنة الله، من تركها وأعرض عنها لن تخطئه، ولا بد أن يحل البلاء به، وتنزل المصائب بساحته، وييأس ويقنط ويصاب بالعذاب في الدنيا والآخرة، سنة الله لا تتبدل أبداً، الطعام يشبع، الماء يروي، النار تحرق، الحديد يقطع.. هل بطلت هذه السنن؟ وهل تعطلت فما أصبحت تعمل؟
    كذلك الإعراض عن الله وعن معرفته ومحابه والطاعة له ولرسوله لن ينتج هذا الإعراض إلا الخسران الدائم في الدنيا والآخرة، ولن تملك قوة على الأرض أن تحفظ لك دينك وعقلك وكمالك بهذه الأباطيل والترهات.
    تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها...)
    ثم يقول تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ )[الأنعام:123] والمراد من القرية: المدينة، الحاضرة أو العاصمة، لا كما في اصطلاح الجغرافيين اليهود والنصارى، حيث يطلقون القرية على مجموعة من السكان على عكس القرآن والعربية، ونحن نتبجح أيضاً بكلامهم، من أعلمنا؟ من درس في باريس أو لندن أو موسكو وأصبح عالماً، وا مصيبتاه، آه! من يبلغ عنا هذا الكلام؟ إن الكلام الباطل ينتشر على الفور، يقولون: الشيخ الكلب الفلاني قال كذا وكذا، أما كلام الحق فيعجز حملته عن تبليغه.
    إلى متى نشاهد أطفالنا بالبرانيط في شوارع المدينة؟ أما تتمزق قلوبكم؟ أحداثنا الأطهار نربيهم على برانيط اليهود والنصارى؟ حتى البنات يفعلن هذا ونحن زائرو المسجد النبوي وجئنا من بلاد الطائف وغيرها؟ كيف يتم هذا؟ وانتقلت من الأطفال الصغار إلى الشبيبة، كبار والبرانيط على رءوسهم! أيجوز هذا في دين الله؟ أنتزيا بزي الكافرين ونقول: نحن مسلمون؟
    والله الذي لا إله غيره لو كنت مؤمناً فإنه لو قطع رأسك لا تقبل أن تضعها على رأسك، فإلى أين نذهب؟ إلى الهاوية، وصدق الله العظيم، ماذا يقول تعالى؟ ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا )[الأنعام:123]، سنة الله عز وجل، لا توجد مدينة إلا وفيها أكابر المجرمين، ينشرون الباطل وينفثون الشر بوسائط مكر وخداع، هذه سنة الله لا تتخلف أبداً، لكن كيف نمد أعناقنا ونمشي وراء أهل الباطل ونستجيب لهم ونحن ندعي الإيمان والإسلام؟
    (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا )[الأنعام:123]، والله ليعملن بمكرهم، والمكر: هو تزيين الشيء الباطل وتقبيح الحسن بأساليب معينة معروفة؛ حتى يضللوا المجتمع ويبعدوه عما يريد من الخير والحق، يزينون لهم الباطل ويحسنون القبح والشر بأساليب مكر، وهم يعلمون أن هذه تهوي بهم في نار جهنم، ولكن تحقيقاً لمواقفهم، لأهدافهم، لما هم عليه، لقلوبهم الميتة لا يبالون، ولكن عاقبة المكر يخرجون منها وهم أول من يهلك.
    (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا )[الأنعام:123]، ما المراد من المجرمين؟ السراق مجرمون، لكن المجرم ذاك الذي أجرم على نفسه فخبثها وأنتنها وعفنها بما صب عليها من أوضار الذنوب وكبائر الآثام، حتى اسودت وأنتنت وأصبحت كأرواح الشياطين، ذلك المجرم أجرم أولاً على نفسه بترك الواجبات التي أوجبها الله، وبغشيان محرمات حرمها الله، وبصفات حرمها الله واتصف بها، بمعان كرهها الله فأحبها وعمل بها، فأجرم على نفسه وعلى غيره فأصبح مجرماً.
    (لِيَمْكُرُوا فِيهَا )[الأنعام:123] أي: في تلك الأمة، في تلك المدينة؛ ليحولوا الناس إلى ما يحبون وما يشتهون من الباطل والشر والفسق والفجور ليكونوا مثلهم، والله يقول: ( وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )[الأنعام:123]، مكرهم ذلك وتزيينهم للباطل وتحسينه وتقبيح الحق والخير والتنفير منه عوائده عليهم هم: ( وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) [الأنعام:123]،كيف يشعرون وهم أموات؟ كيف يحسون أو يشعرون؟ وسوف ينالهم الجزاء كما أعلم الله عز وجل.
    ثم قال تعالى: ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ )[الأنعام:124].
    نترك هذه الآية إلى غد إن شاء الله إن أحيانا الله عز وجل وأقدرنا على ذلك، ويكفي ما سمعنا.
    إن شاء الله لا نرى برنيطة بعد اليوم حول المسجد وفي المسجد، وفي المدينة.
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •