تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 19 من 45 الأولىالأولى ... 91011121314151617181920212223242526272829 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 361 إلى 380 من 898

الموضوع: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

  1. #361
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (47)
    الحلقة (460)
    تفسير سورة المائدة (53)


    شرع الله عز وجل لعباده الوصية في الحضر والسفر وحث عليها ورغب فيها، ومن كان موصياً بشيء فلابد أن يشهد على وصيته أثنان ذوا عدل من المسلمين، فإن كان في سفر أو في أرض غير أرض المسلمين، ولم يجد مسلمين يشهدان فله أن يشهد كافرين على وصيته، فإن حصلت ريبة في شهادتهما فيحلفان عليها، فإن عثر على أنهما كذبا في الشهادة فيؤتى بشاهدين آخرين يقومان مقامهما ويردان شهادتهما ويعيدان الحق إلى أصحابه.
    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن ما زلنا -والحمد لربنا- مع سورة المائدة المباركة، الميمونة، ومعنا هذه الآيات الثلاث، وهن من أعظم الآيات في القرآن الكريم، احتار لهن العلماء وكبار الصحابة والتابعين والأئمة، فهيا نتلو ونستمع ونتدبر ونتأمل، فإذا جاء الشرح وجدنا أنفسنا على علم.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَ ا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:106-108].
    سبب نزول الآيات
    أذكر لكم ما قيل في سبب نزولها أولاً لتتفهموا معنى الآية: كان تميم الداري رضي الله عنه وعدي بن بداء في الجاهلية تاجرين يتجران من مكة إلى الشام، فخرجا وهما على كفرهما ومعهما رجل آخر، فحضرته الوفاة في الشام ومعه أحسن ما يملك، معه جام من الذهب أراد أن يبيعه لملوك الشام، وهو ذو قيمة كبيرة، فلما حضرته الوفاة قدم إليهما أمواله ومنها الجام هذا وأوصاهما أن يبلغا أمواله إلى أهله بمكة، فلما وصلا إلى مكة قدما ما ترك من مال وأخفيا الجام، وقالا: هذا الذي تركه وليكم.إذاً: فماذا يصنع أهل الميت؟ سكتوا، لكن قالوا: إن لولينا جاماً من ذهب يبلغ كثيراً، فأين ذهب؟ قالا: هذا الذي تركه. وتمضي الأيام ويدخل تميم الداري في الإسلام، قال: فأسلمت وتأثمت، أي: خفت من الإثم، فرددت نصف الذي أخذته من المال، إذ باعا الجام بألفي دينار أو درهم، فدفع خمسمائة لأهل الميت خوفاً من الله عز وجل، والآخر ما زال على كفره، ابن بداء، فرفعت القضية إلى رسول الله بالمدينة، فأنزل الله تعالى هذه الآيات في هذه القضية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ )[المائدة:106]، فيما بينكم، ( إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ )[المائدة:106]، أشرف عليه في سياقاته، ليس معناه: شاهد الموت.
    معنى قوله تعالى: (اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم)
    (اثْنَانِ )[المائدة:106]، اثنان يشهدان على ما ترك ووصى هذا الميت، ( ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:106]، وهذا قاعدة إلى يوم القيامة: لا تشهد إلا صاحب العدل، كتبت وصيتك فأشهد عليها من هم معروفون بالعدل، أما المعروفون بالحيف والظلم والجور فلا يحق لهم ذلك، ولا يجوز استشهادهم، والآن المحكمة لا تقبل شهادة أي شخص، لا بد أن تثبت عدالته ولو بشاهدين يزكيانه. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ )[المائدة:106]، أي: من غير المسلمين كأهل الكتاب، وهذا القول الراجح، ومنهم من يقول: من قبيلة أخرى أو ناس آخرين، لكن الذي قال به إمام أهل السنة الإمام أحمد هو هذا، وهو أصح ما قيل وإن خالفه الجمهور، (مِنْ غَيْرِكُمْ) أي: من أهل الكتاب.
    معنى قوله تعالى: (إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ...)
    (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ )[المائدة:106]، أما في بلد الإسلام فما يجوز أن تستشهد كافراً من أهل الذمة اليهود والنصارى، تترك المسلمين وتأتي لتوصي وتشهد كافرين! ما يجوز هذا، لكن إذا كنت في بلاد الكفر في بريطانيا أو أمريكا فإنك تشهد، ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ )[المائدة:106]، ما معنى الضرب في الأرض؟ الضرب بالرجل، فالمسافر يضرب الأرض، ما يرفع رجلاً حتى يضع الثانية، عجب هذا القرآن الكريم! والماشي كم يضرب الأرض مرة؟ ألف مرة أو آلاف المرات، والمراد من الضرب هنا: السفر للتجارة وغيرها، ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ )[المائدة:106]، والموت أكبر مصيبة وأعظمها لا مصيبة أجل منها، ( تَحْبِسُونَهُمَ ا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ )[المائدة:106]، تحبسون الشاهدين إذا شك فيهما أو اتهما، ما اقتنع أهل الميت بشهادتهما، فماذا تفعلون بهما؟ تأتون بهما إلى المسجد بعد صلاة العصر، أولاً: المسجد لأنه مكان مقدس ما يستطيع يهودي ولا نصراني ولا مسلم أن يكذب فيه، بل يرهب وترتعد فرائسه، وبعد صلاة العصر بالذات؛ لأن هذا الوقت -كما تعملون- ينزل فيه ملائكة الليل ويعرج ملائكة النهار بأعمال العبد في نهاره وليله، وعند المحراب.إذاً: ( تَحْبِسُونَهُمَ ا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ )[المائدة:106]، أي: يقولان: بالله الذي لا إله غيره! ما ترك فلان إلا كذا، أو ترك فلان كذا، ( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ )[المائدة:106]، هذا كله إذا شككتم، أما إذا ما شككتم في الشاهدين على الوصية فما هناك حاجة إلى هذا، لكن إذا شككتم فلا حيلة إلا هذا، ( إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى )[المائدة:106]، أي: الشاهدان يحلفان يقولان: لا نشتري بعهدنا وميثاقنا وأيماننا ( ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ )[المائدة:106]، لماذا؟ ( إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ )[المائدة:106]، كيف نرضى أن نأثم؟
    تفسير قوله تعالى: (فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما ...)
    ( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ )[المائدة:107]، فإذا شككتم في أمرهما واستحلفتموهما وحلفا وبعد ذلك عثرتم على ما يدل على كذبهما، فجأة وقعتم على شيء كان مخفياً ما كان معلوماً، ( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا )[المائدة:107]، بتحريف الشهادة أو الزيادة أو النقصان، ( فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ )[المائدة:107]، نأتي برجلين آخرين يشهدان ويردان شهادة الأولين، وهذا هو العدل، ( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ )[المائدة:107] إن اعتدينا، يقولان هكذا، وترد القضية إلى أصحابها، وهذا الذي أنجزه رسول الله عند محرابه، فجاء من أهل مكة من شهد على رد شهادة الشاهدين وأخذ المال وهو قيمة الجام.
    تفسير قوله تعالى: (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ...)
    قال تعالى وقوله الحق: ( ذَلِكَ أَدْنَى )[المائدة:108]، أي: أقرب، ( أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا \ )[المائدة:108]، إذا كانوا يعرفون هذا وأنهم سيعاقبون، وأنهم سيأتون إلى المحكمة ويشهدون، هذه حالة تجعلهم لا يشهدون بالباطل، ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ )[المائدة:108]، والعياذ بالله.وأخيراً يقول لنا: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:108]، أي: خافوه فلا تعصوه، لا بالخيانة ولا بشهادة الزور ولا بالقول الباطل ولا بالكذب ولا بالادعاء ولا بالافتراء ولا بأية معصية هي ترك واجب أو فعل حرام، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:108]، فإنه جبار ذو انتقام، من وقف أمامه متجبراً متكبراً معانداً قصم ظهره، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا )[المائدة:108]، اسمعوا هذه التعاليم وطبقوها، ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:108]، فمن فسق عن أمر الله ورسوله وخرج عن طاعتهما لا يهديه الله عز وجل، ما أصبح أهلاً للهداية، فليحذر المؤمن من الفسق، فإن من فسق وواصل الفسق يصبح الفسق جبلة في نفسه وفطرة فيه، ومن ثم لا يقبل الهداية ولا يهديه الله، فلهذا يجب أن نسارع إلى التوبة في كل لحظة، ولا يحل تأجيلها ولا تأخيرها ولو بساعة، متى أذنبت عبد الله، متى أذنبت أمة الله فالتوبة على الفور: أستغفر الله.. أستغفر الله، مع الدموع الحارة، والإصرار على ألا نعود إلى هذا الذنب، صاحب هذه التوبة -إن شاء الله- ينجو، وأما الذي يذنب اليوم ويعيد غداً وبعد غدٍ ويستمر على الذنب فيصل إلى مستوى لا يهديه الله عز وجل حسب سنته، قال تعالى -وقوله الحق- من سورة النساء: ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ )[النساء:17]، أي: من زمن قريب. ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ )[النساء:18] أيضاً.
    الفسق: ترك واجب أوجبه الله أو رسوله، أوجب فعله أو قوله أو اعتقاده، فتركه عبد الله أو أمة الله ففسق، وفعل أو قول ما حرم الله ونهى عنه وتوعد عليه بالعذاب فسق وخروج عن طاعة الله، فالفاسقون بكلمة (أل)، كما في قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:108]، هم الضليعون في الفسق، المتوغلون فيه، المرتكبون له دهراً من الزمن؛ لأنه أصبح من غرائزهم.
    قالت العلماء: اللصوص الذين تعودوا السرقة تجده يسحبه العسكري أو البوليس بالسلسلة في يده فتخاف عليه، وهو في تلك الساعة يفكر إذا رجع كيف يسرق، كيف يدخل يده، كيف يعمل كذا من أجل السرقة؛ لأنها أصبحت فطرة له وجبلة في نفسه؛ لأنه تعود عليها، وهكذا الزاني واللائط والكذاب والمنافق، وقل ما شئت، كل من تضلع في الفسق وتوغل فيه زمناً طويلاً حاله هي هذه، ولن يتوب، ما يقبل التوبة ولو عرضتها عليه في أطباق الذهب، فلهذا أجمع المسلمون على أن التوبة تجب على الفور ولا يحل تأخيرها أبداً، ويكفي قوله تعالى: ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ )[النساء:17]، لماذا؟ لأنه إذا توغل لا يرجع، فجر بنساء الناس، أكل أموالهم وسفك دماءهم، فكيف يرجع؟ ما عنده نفسية لأن يرجع أبداً، هذا معنى قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:108].
    ملخص لما جاء في تفسير الآيات
    اسمعوا الآيات مرة ثانية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:106]، لبيك اللهم لبيك، أعلمنا، علمنا، قال: ( شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ )[المائدة:106]، أما إذا كنا في بلاد الإسلام فما نأتي بشاهد كافر أبداً أو فاسق، لكن نأتي به في بلاد الكفر للضرورة، قال: ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَ ا )[المائدة:106]، متى هذا؟ إذا شك فيهما، ( تَحْبِسُونَهُمَ ا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا )[المائدة:106-107]، يبطلان تلك الشهادة بشهادتهما، ويحلفان عند المحراب، ( فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ )[المائدة:107-108] الذي سمعتم ( أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:108].
    الرد على المجادلين في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
    جادل الغافلون أخاً لنا البارحة وقالوا: نحن نقول: الشاة معلقة برجلها، وأنت تقول: لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلا فما هناك نجاة. فقلت له: لو قلت لهم: ( إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105] شرط، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، والذي ما يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر هل اهتدى؟ لقد ضل وغوى، وقلت له: قل لهم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستحيل أن توجد هداية لأمة بدونهما، إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما هو إلا زمن والناس كلهم في الذنوب والمعاصي والآثام، ما ينجو أحد، وضربت لهذا أمثلة عدة، قلنا: البلدية عندها كناسون موظفون، لو أن الكناسين أضربوا عن الكناسة وأصبحت كل عجوز ترمي وسخها عند الباب بعد شهر تصير الأزقة كلها مزابل ثم ينتشر فيها الذباب والوباء والمرض؛ لأننا ما نهينا عن المنكر، كل سكت، فأيما قرية أو أسرة يظهر فيها ترك معروف أو فعل مكروه ويسكت عنه فلا بد أن ينتشر فيهم، فلا هداية إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات
    اسمعوا الشرح الآن بالتأني. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ ما زال السياق في إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم إلى ما يكملهم ويسعدهم، ففي هذه الآيات الثلاث ينادي الله تعالى عباده المؤمنين فيقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:106]، أي: ليشهد اثنان ( ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:106]، أي: من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضرته الوفاة، أو ليشهد اثنان ( مِنْ غَيْرِكُمْ )[المائدة:106]، أي: من غير المسلمين، ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ )[المائدة:106]، أي: كنتم مسافرين ولم يوجد مع من حضره الموت في السفر إلا كافر ]، هذا ابن بداء وتميم الداري كانا كافرين، فلهذا أشهدهما على الوصية، [ فإن ارتبتم في صدق خبرهما وصحة شهادتهما ] إن فرضنا هذا، [ فاحبسوهما، أي: أوقفوهما بعد صلاة العصر في المسجد ليحلفا لكم فيقسمان بالله، فيقولان: والله! لا نشتري بأيماننا ثمناً قليلاً، ولو كان المقسم عليه أو المشهود عليه ذا قربى، أي: قرابة، ( وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا )[المائدة:106]، أي: إذا كتمنا شهادة الله ( لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا )[المائدة:106-107]، أي: وإن وجد أن اللذين حضرا الوصية وحلفا على صدقهما فيما وصاهما به من حضره الموت، إن وجد عندهما خيانة أو كذب فيما حلفا عليه، ( فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ الظَّالِمِينَ )[المائدة:107]، قائلين: والله! لشهادتنا أحق من شهادتهما، أي: لأيماننا أصدق وأصح من أيمانهما، ( وَمَا اعْتَدَيْنَا )[المائدة:107]، أي: عليهما باتهام باطل، إذ لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين، فإذا حلفا هذه اليمين استحقا ما حلفا عليه ورد إلى ورثة الميت ما كان قد أخفاه وجحده شاهدا الوصية عند الموت ]، كما تقدم.
    [ قال تعالى: ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا )[المائدة:108]، أي: أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة عادلة لا حيف فيها ولا جور، وقوله تعالى: ( أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ )[المائدة:108]، أي: وأقرب إلى أن يخافوا أن ترد أيمانهم فلا يكذبوا خوف الفضيحة، وقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:108]، أي: خافوه أيها المؤمنون فلا تخرجوا عن طاعته، ( وَاسْمَعُوا )[المائدة:108] ما تؤمرون به، واستجيبوا لله فيه، فإن الله لا يهدي إلى سبيل الخير والكمال الفاسقين الخارجين عن طاعته، واحذروا الفسق واجتنبوه ].
    هداية الآيات
    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:
    من هداية الآيات:
    أولاً: مشروعية الوصية في الحضر والسفر معاً ]، ما معنى: مشروعية؟ أي: جائزة، ما هي بواجبة، المشروعية: كون هذا شرعه الله عز وجل، [ مشروعية الوصية في الحضر والسفر معاً والحث عليها والترغيب فيها ]، والرسول أوصانا، قال: ( لا يبيتن أحدكم إلا ووصيته عند رأسه )، إذا كان له أو عليه، ما من مؤمن عليه ديون أو له ديون لا يبيت ليلة إلا ووصيته مكتوبة عنده، وهذا عمل به المسلمون، عليك ديون للمؤمنين يجب أن تكتبها وتشهد عليها وتوصي، فإذا مت أخذت من التركة، لك أموال عند الناس كذلك؛ حتى لا يضيع حق الورثة، الوصية مشروعة ومتأكدة ومرغب فيها أشد الترغيب، ولكن لو لم يفعلها لا يأثم.
    [ ثانياً: وجوب الإشهاد على الوصية ]، إذا وصيت وأنت على سرير الموت: فلان له كذا.. فلان له كذا؛ فلا بد أن تشهد على تلك الوصية، أما بدون شاهد فقد يردونها، يقولون: ما هو بصحيح هذا.
    [ ثالثاً: يجوز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود مسلم ]، قد يقول قائل: إذا كان المؤمن الفاسق لا تقبل شهادته فكيف -إذاً- نقبل شهادة بريطاني أو فرنسي؟
    الجواب: للضرورات أحكام، إذا كنت بين المسلمين فلا يحل لك أن تشهد كافراً أبداً، حرام عليك، لكن إذا كنت بين كافرين فلا تضيع حقوق الورثة، لا بد أن تشهد، وهذا الذي قال به الإمام أحمد رحمه الله.
    [ يجوز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود المسلم ]، تعذر: أصبح لا يمكن، من غير الممكن، أنت في مستشفى في بريطانيا وما هناك مسلم فكيف تصنع؟ أما يذهب الناس يتعالجون؟ ولاحت له حالات الوفاة وعليه وصايا، فيشهد اثنين من أهل المستشفى كافرين، وإذا أردنا أن نحلف الكافرين فبم نحلفهما؟ بما يعظمان، حتى بعيسى ومريم ؛ لأنهم إذا كانوا يعظمون شخصاً لا يستطيعون أن يكذبوا معه.
    [ رابعاً: استحباب الحلف بعد صلاة العصر تغليظاً في شأن اليمين ]، في المسجد وعند المحراب وبعد العصر، فالمؤمن ترتعد فرائصه ويخاف من هذا الموقف، إذا كان فيه إيمان يتحرك إيمانه، ويعترف بالحق ولا يكذب ولا يشهد بالباطل.
    [ خامساً: مشروعية تحليف الشهود إذا ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم ]، شاهدان شهدا على أن فلاناً قتل فلاناً، أو أخذ حق فلان، وشك القاضي أنهما قد يكونان كاذبين لإرادة كذا أو كذا؛ فماذا يصنع القاضي؟
    قال: [ مشروعية تحليف الشهود إذا ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم ]، لا بد أن يستحلفهما وعند المنبر أيضاً بعد العصر، حتى لا تضيع حقوق المؤمنين والمؤمنات.
    اللذان عند الوصية شهدا فشككت أنت فيهما، فتأتي أنت وواحد معك فترد الشهادة؛ فما كل من يشهد يصدق، لا سيما وهم كافران، فيأتي شاهدان آخران ما كان حاضرين عند الوصية، وهذه الشهادة كانت لهما ومن أجلهما فشكا فيمن شهدا، يرفعان القضية إلى المحكمة، يقولان: نحن نشك في شهادة هذين الرجلين، أبونا ترك أكثر من هذا.
    هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع، وأن يجعلنا من أهل القرآن والعمل به.
    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #362
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (48)
    الحلقة (461)
    تفسير سورة المائدة (54)



    يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين، ويأتي بالنبيين فيسألهم عن استجابة أقوامهم إليهم وتذكيره لهم بما أنعم به عليهم، ومن ذلك أنه يأتي بعيسى عليه السلام ويذكره بإنعامه عليه وعلى والدته بسائر النعم، واصطفائه له بالنبوة والرسالة، وتأييده له بالمعجزات الباهرات، وهداية الحواريين من بني إسرائيل للإيمان به واتباعه ونصرته.
    تفسير قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي، وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم لنا هذا الخير إنك ربنا وعلى كل شيء قدير.
    ما زلنا مع سورة المائدة المباركة، المدنية، الميمونة، ونحن في آخرها، ومعنا هذه الآيات الأربع فهيا نتلو ونتدبر ونتأمل، والله نسأل أن يشرح صدورنا وينور قلوبنا، ويفتح علينا في العلم والعمل.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّين َ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:109-111].
    قوله تعالى: ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ )[المائدة:109]، متى هذا؟ يوم القيامة. يجمعهم في أي مكان؟ على صعيد واحد في عرصات القيامة وساحات فصل القضاء، واقرءوا لذلك قول الله عز وجل: ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )[الفجر:22-24]، واذكروا قول الله تعالى: ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )[الزمر:68-69].
    (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ )[المائدة:109]، يوجه هذا السؤال إلى الرسل الذين لهم أتباع وأمم، ( مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، موقف صعب جداً، فيذهلون ويندهشون، لا يسعهم إلا أن يقولوا: ( لا عِلْمَ لَنَا )[المائدة:109]، فيفوضون الأمر لله، ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، تسألنا وأنت أعلم منا، فالعلم عندك، ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، ما غاب شيء عن علم الله عز وجل.
    تفسير قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ...)
    (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:111]، هذا كله في عرصات القيامة وساحة فصل القضاء، والله! كأننا شهود هناك حاضرون نسمع هذا ونراه، وهذا من فضل الله تعالى علينا، أعطانا علوماً ما عرفها غيرنا. يقول تعالى: اذكر يوم يجمع الله الرسل، يا من لم يتقوا الله وفسقوا عن أمره وخرجوا عن طاعته وكتموا الشهادة وكذبوا على المؤمنين! اذكروا ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ )[المائدة:109] سائلاً ( مَاذَا أُجِبْتُمْ )[المائدة:109]، هل آمن بكم أقوامكم، هل اتبعوكم أم كفروا بكم، أم عذبوكم؟ ماذا حصل؟ فيقولون لصعوبة الموقف والاندهاش: ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109].
    واذكروا أيضاً: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:110]، في عرصات القيامة، في ساحة فصل القضاء، وخص عيسى بالذكر في هذا الموقف؛ لأن هناك أمتين عظيمتين -اليهود والنصارى- جانبت الحق فيه، اليهود قالوا: عيسى ساحر وابن زنا، وكفروا وكذبوا وحاربوه، والنصارى قالوا: عيسى هو الله وابن الله، ملتان عظيمتان وأمتان كبيرتان في العالم، اليهود والنصارى، والكتاب يدعو اليهود والنصارى إلى الإسلام وإلى الإيمان، فاسمعوا وهو يعرض عليهم هذا الموقف وهم أهله: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:110]، لماذا ما قال: يا عيسى ابن فلان؟ لأن عيسى لا أب له، وإنما له أم فقط، واسمها: مريم ، وبالعبرية: خادمة الله، مريم معناها: خادمة الله، سمتها والدتها حنة، وهي امرأة عمران عليهما السلام، كانت لا تلد وتاقت نفسها للولادة والولد، ورأت عصفوراً يزق أفراخه في الحديقة فجاشت نفسها وهاجت، وسألت ربها إن أعطاها والداً أن تجعله لله، وفعل الله بها ما طلبت، وما إن وضعت مريم حتى قمطتها في قماطة، وخرجت بها إلى علماء بني إسرائيل ( أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ )[آل عمران:44]، هذه نذيرة الله عز وجل، وكفلها الله زكريا؛ لأن زكريا رسول من رسل الله ونبي من أنبيائه، وامرأته أخت حنة، فتدبير الله لهذه النذيرة أن جعل كفيلها رسولاً وجعل امرأته خالتها، كأنها في حجر أمها، ( فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ )[آل عمران:36]، وهل كان لـمريم ذرية؟ إي والله، عيسى عليه السلام، واستجاب الله لـحنة ، فما عرفت ابنتها معصية الله ولا عرف عيسى ذنباً قط، دعوة حنة واستجابة الرحمان جل جلاله وعظم سلطانه، ففي عرصات القيامة يأتون إلى آدم يطلبون منه أن يشفع لهم عند الله ليقضي بينهم؛ لطول الموقف، فيذكر آدم ذنبه إذ نهي عن الأكل من الشجرة فأكل، فيستحي أن يواجه الله وهو عليه هذا الذنب، فيحيلهم إلى نوح فيذكر ذنبه في دعوته ( لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا )[نوح:26]، فيستحي ويحيلهم إلى إبراهيم، فيذكر أنه كذب ثلاث كذبات في عمر أكثر من مائة وعشرين سنة، وكثيراً ما نقول: والله! لكذبات إبراهيم أفضل من صدقنا؛ لأنه كذب لله، ويحيلهم إلى موسى فيذكر قتله لذلك القبطي فكيف يواجه الله، فيحيلهم إلى عيسى، أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيسى لم يذكر ذنباً قط؛ لأنه لم يقارف ذنباً قط، استجابة الله لدعوة حنة ، فهنيئاً لمن يدعو له عبداً صالح أو مؤمنة صالحة.
    (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:110]، وهنا أذكركم من باب تذكير الناسين، وتعليم غير العالمين أن آدم عليه السلام خلق من غير أب ولا أم، آدم أبو البشر لا أم له ولا أب، من أبوه؟ والله! لا أب له. من التي ولدته؟ والله! لا أم له، إذ خلقه الجبار من طين فاكتملت خلقته ونفخ فيه من روحه فإذا هو آدم أبو البشر، وخلق حواء أم البشرية كلها من أب بلا أم، حواء امرأة لا أم لها، والله! لا أم لها ولكن لها أب، إذ خلقها الله من ضلع آدم الأيسر بكلمة (كن) فكانت، ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )[يس:82]، حواء بلا أم، وعيسى بأم ولا أب، فهذا عيسى ابن مريم البتول العذراء.
    (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ )[المائدة:110]، وهل لله من نعمة على عيسى وأخرى على والدته؟ أي نعم، واسمعوا بيان هذه النعم، يفصل الجبار تفصيلاً، فأين اليهود.. أين النصارى ليسمعوا كلام الله؛ ليخرجوا من ضلالهم وفتنتهم وعماهم وحيرتهم؟
    معنى قوله تعالى: (إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً)
    قال تعالى: ( اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ )[المائدة:110]، القُدْس والقُدُس: الطهر والصفاء، وروح القدس: جبريل عليه السلام، ويوجد في الملائكة الروح، ولكن روح القدس هو جبريل عليه السلام، والروح عيسى، روح قدس أيضاً، روح طاهرة، لكن أيده بروح القدس بجبريل يقف معه في كل موقف يوجهه ويدفع عنه ويبين له، تأييد بروح القدس، ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، (المهد): ما يوضع فيه المولود الجديد من سرير من خشب ونحوه، إذ الأم ليس دائماً في يدها ترضعه، فهي تشغل، تطبخ وتغسل فتضع ولدها على السرير المسمى بالمهد، ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ )[المائدة:110]، وقد كلم في المهد، وجاء هذا من سورتها مريم عليها السلام، إذ قال تعالى: ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا )[مريم:25-26]، لا تدخلي معهم في صراع ولا كلام، لا تكلمي أحداً، اعتذري وقولي: إني صائمة فلا أكلم أحداً، فلما ألحوا عليها فأشارت إليه كلموه هو، فنطق، فقال عيسى الرضيع في مهده: ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا )[مريم:25-33]، هذه كلماته -والله- في المهد، أخبر عن المستقبل بما فيه وتم كل هذا كما أخبر، هذه من إنعام الله على عيسى وأمه: ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، لولا قوله: ( وَكَهْلًا )[المائدة:110] لفهمت مريم وغيرها من الناس أن عيسى يموت صغيراً كما يموت الصبيان في السابعة، في العاشرة، في الحادية عشرة، لكن كلمة (وكهلاً) معناها: أنه سيعيش حتى يبلغ سن الكهولة، والكهولة بعد الشبيبة، الشبيبة تنتهي بالثلاثين ومن نزل عن الثلاثين دخل في الكهولة، إذا بلغ الأربعين اشتد ساعده وعظمت كهولته، وانحدر إلى الشيخوخة، ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، وعيسى عليه السلام عاش في الدنيا ثلاثاً وثلاثين ورفع إلى الملكوت الأعلى، وهل هناك من ارتاد الملكوت الأعلى من البشر؟ إن أول رائد -ولا رائد سواه- هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في رحلة من أعجب العجائب، من بيت أم هانئ القريب من المسجد الحرام إلى زمزم حيث أجريت له عملية جراحية لغسل القلب وحشوه بالإيمان والنور، ومن ثم في لحظات وهو في بيت المقدس، ومن ثم عرج به إلى الملكوت الأعلى إلى ( سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى )[النجم:15-18]، فوالله! لدخل الجنة ووطئها بقدميه اللتين الآن في قبره، ورأى قصورها وشاهد حورها وأنهارها ونعيمها، وعرج به فوق ذلك الملكوت فدنا من الرب وكلمه كفاحاً بلا واسطة، ففرض عليه الصلوات الخمس في هذه الرحلة، فلهذا أعظم العبادات الصلوات الخمس، ما شرعت في الأرض ولكن في الملكوت الأعلى.
    معنى قوله تعالى: (وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)
    قال: ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ )[المائدة:110]، علمه الكتاب فكان يخط بالقلم ويحسن ذلك ويجيده، والحكمة في قوله وعمله، لا يقول إلا مع الحكمة ولا يفعل إلا معها، ولا يترك إلا بها، لا تفارقه الحكمة، والحكمة: وضع الشيء في موضعه، فالذي يضع الشيء في غير موضعه هذا أحمق ويتخبط ولا حكمة عنده، وضربنا لذلك أمثلة: لو أن شخصاً في حلقة الدرس يزحزح من حوله ويقول: ابتعدوا وينام، فهل من الحكمة أن ينام هنا؟ لا، هل هذا مكان للنوم؟! لكن لو كان في بيته أو في مكان آخر فنعم. لو أن شخصاً خرج عند باب المسجد وبال، فهل وضع البول في موضعه؟ إن موضعه الحمامات والمراحيض، فهذا أحمق.
    فالحكيم: هو الذي تصرفاته كلها لا يخطئ فيها، يضع كل شيء في موضعه، الطعام، الشراب، اللباس، البناء، السفر، الهدم، كل عمله قائم على مبدأ وضع الشيء في موضعه، وهذه تطلب من الله، فاسأله أن يعطيك الحكمة، فمن طلب وجد.
    قال: ( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ )[المائدة:110]، اذكر ( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ )[المائدة:110]، التوراة: كتاب أنزله الله على موسى، أحد الكتب المقدسة الأربعة، التوراة فيها ألف سورة، وهي مأخوذة من النور والتورية، فعيسى عليه السلام قرأها وحفظها وفهمها وهو صغير، وأوحى الله إليه الإنجيل، فعلمه إذاً التوراة والإنجيل.
    معنى قوله تعالى: (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني)
    يقول تعالى: واذكر أيضاً ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي )[المائدة:110]، اليهود طالبوا عيسى بالآيات، بالمعجزات العجب، من جملة ذلك أنهم قالوا: إذا كنت رسول الله فاصنع لنا طيراً نشاهده يطير في السماء، فقال: باسم الله، فأخذ طينة وألانها وعجنها وصور طيراً كطير من الطيور ونفخ فيه باسم الله فطار أمامهم، فقالوا: ساحر، لا يريدون أن يؤمنوا، هذه آية من الآيات العظمى، ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي )[المائدة:110]، الله الذي قال له: طر وكن طيراً، هذا توبيخ لليهود والنصارى وتأديب لهم لو كانوا يقبلون على القرآن ويسمعون، وهذا في عرصات القيامة، يوبخون هذا التوبيخ ليعظم الحكم عليهم وتشتد بهم المحنة. (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، هو الذي أذن له في ذلك، ( فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي )[المائدة:110] أيضاً، لولاي ما طارت.
    معنى قوله تعالى: (وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني)
    (وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، الكمه: هو أن يولد المولود بلا عينين، أعمى، أي: عيناه مطموستان، ينفخ فيهما ويمسحهما باسم الله فيعود بصيراً، ولو جاءت الدنيا كلها فلن تستطيع أن تخلق عينين، أما هذا الذي يصنعونه من زجاج فكله كذب، أما إيجاد عين تبصر فيستحيل على البشرية أن توجدها، فهذا الذي يولد أكمه لا يبصر شيئاً ينفخ فيه ويمسح على عينيه أو يرفع يديه إلى ربه يسأله فيعود بصره.والبرص داء عضال، إلى الآن مع هذا الاكتشاف وهذا التقدم هل استطاعوا أن يوقفوا البرص ويعالجوه؟ ولهذا ذكر تعالى البرص، فالأبرص ينفخ فيه، يمسح على يديه ورجله فيعود كما كان بشرته نظيفة بيضاء، ( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ )[المائدة:110]، ومع هذا ما قالوا: رسول الله؛ لأنهم يحافظون على المادة والعياذ بالله.
    قال تعالى: ( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، لولا الله فهل سيبرئ؟ لا شيء. لولا أن الله أمره فهل سيفعل؟
    (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي )[المائدة:110]، اذكر هذا أيضاً، ميت في قبره، فيقولون: يا روح الله.. يا عيسى! إن كنت رسول الله فادع ربك يخرج لنا هذا الميت، فيدعو ويخرج الميت، حتى جاءوا إلى قبر سام بن نوح ، وقالوا: ادع ربك يخرج لنا هذا إن كنت رسولاً، فقام يصلي ويدعو فخرج من قبره سام بن نوح ، ( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي )[المائدة:110].
    والكذابون والمفترون يقولون: هذه كلها افتراءات، ومن ذلك أن عجوزاً مات ولدها، والحادثة كما هي في الإنجيل، امرأة مات ولدها والجنازة على أعناق الرجال في الشارع مشاهدة، فقالت: يا روح الله! ادع الله أن يحيي ولدي، فدعا الله فجلس الولد على السرير فأنزلوه ومشى مع أمه، فقالوا: هذه مؤامرة بين هذه العجوز وبين عيسى، اتفق معها وقال: إذا كنا مارين فقولي: ادع الله، والولد حي ما هو بميت! قالوا ذلك، ولكن هذا الذي في القبر كيف يخرج من القبر؟ هل هناك مؤامرة في القبر؟ مستحيل.
    (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى )[المائدة:110]، والإخراج غير الإحياء من القبر.
    معنى قوله تعالى: (وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات...)
    (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[المائدة:110]، وعزموا على قتله، فرئيس الشرطة جاء بشرطه ورجاله إلى منزل عيسى عليه السلام وطوقوه وقالوا: الآن نأخذه ونعلقه، فشاء الله عز وجل أن يفتح روزنة من السقف، ويأخذ عيسى إلى الملكوت الأعلى، ويلقي الشبه على رئيس البوليس، لما انفتح الباب دخل رئيس الشرطة فألقى الله الشبه عليه، فلما تأخر وما خرج تدفق الجيش فوجدوه كأنه عيسى، فألقوا القبض عليه وخرجوا، ومن الغد قتلوه وصلبوه أمام العالم، والله يقول: ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ )[النساء:157]، وصدق الله العظيم، ألقى الشبه عليه فقتلوا رئيس شرطتهم، وما عرفوه وصلبوه وعلقوه على الأخشاب، وعيسى رفعه الله إليه، وسوف ينزله عما قريب، وإننا نقترب من أيام نزوله، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( كأني بابن مريم في الروحاء ملبياً بحج )، فوالله! ليحجن.ومن هنا أذكر شيئاً ولا تقولوا: قال الشيخ جازماً، فقد ذكر فقهاء المسلمين -وقرأنا هذا في الفقه المالكي- أن من الجائز أن يدفن عيسى في الحجرة الشريفة، وذلك لسببين قويين:
    أولاً: يوجد في الحجرة مكان إنسان، حيث الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وبقي مكان قدر ما يدفن فيه إنسان، فمن هذا الذي يدفن فيه؟
    وعيسى سينزل ويحج، إذاً: سيزور، فمن الجائز أن يدفن مع حبيبه صلى الله عليه وسلم، ولو تجتمع البشرية كلها على أن تدفن في هذا المكان إنساناً فلن تستطيع، ويدفعها الله عز وجل، لكن إذا أعده لعبده ورسوله ليدفن مع أخيه فنعم، أما قال: ( أنا أولى بعيسى )؟
    وتذكرون المؤامرة التي تمت بين بعض المجرمين على أن ينبشوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذوا جثته الطاهرة، وهذه الحادثة مكتوبة وشائعة وليست أبداً بغريبة ولا مستغربة، في سقيفة الرصاص كان لهم منزل، وأخذوا يحفرون تحت الأرض ويحملون التراب في زنبيل ويرمونه، في اليوم أو اليومين يخرجون زنبيلاً حتى ولو بلغوا خمسين سنة، المهم أن يصلوا إلى القبر الشريف ويأخذوا جسد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء من جهة الشرق الأقصى أو الشمال.
    فلما أوشكوا أن يصلوا حيث دخلوا تحت المسجد وكادوا أن يصلوا إلى الحجرة رأى أمير المدينة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وقال له: أنقذني فإن هناك من يريد نبش قبري. وأراه صورة ذلك المجرم الذي يعمل على نبش القبر، فأمر بإقامة حفل أو دعوة عامة لأهل المدينة، وما كانوا كثيرين مثل اليوم، فجمعهم على غداء، وجلس على كرسيه والناس يدخلون فيأكلون ويخرجون وهو يشاهد، وما جاء هذا الرجل، فقال لعمدة المدينة: من بقي؟ فقال: ما بقي إلا شخص كبير السن لا يجيب الدعوة. فقال: أحضروه، فجاءوا به فنظر إليه فقال: هذا هو. امشوا معه برجال الشرطة، فوجوه قد حفر من سقيفة الرصاص حوالي مائتي متر، ووصل تحت المسجد إلى الحجرة، ومن ثم بنو الحجرة بالرصاص إلى أسفل الأرض، جدار من حديد يحيط بالحجرة إلى أسفل الأرض، وقدرة الله أعظم من هذا، فلن تستطيع البشرية أن تنال من جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم..
    قال تعالى: ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ )[المائدة:110]، أي: جئتهم بالبينات وهي المعجزات الخوارق للعادات فقالوا: ساحر، وعزموا على قتله، وهم في حكم من قتل عيسى، فاليهود ما قتلوا عيسى، لكن تلك الفعلة تعتبر قتلاً، وقتلوا محمداً صلى الله عليه وسلم إذا تآمروا مرتين على قتله، ولكن الله صرفهم، مرة سقوه السم والعياذ بالله، فهم يعتبرون قتلته، وهم قتلة الأنبياء ولا عجب.
    إذاً: ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ )[المائدة:110]، أي: من بني إسرائيل، أي: اليهود، ( إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[المائدة:110]، وفي قراءة: (إلا ساحر مبين).
    تفسير قوله تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ...)
    وأخيراً: اذكر ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّين َ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111]، من هم الحواريون؟ أنصار الله، أنصار عيسى عليه السلام، هؤلاء أوحى الله إليهم بواسطة عيسى، أو ألقى في روعهم وقلوبهم؛ لأن الإيحاء له ثلاث مراتب، منها: الإلهام، والإلقاء في الروع، يفهم عن الله، وجائز أن يكون عيسى هو الذي دعاهم.(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّين َ )[المائدة:111]، ماذا أوحى إليهم؟ ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّين َ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي )[المائدة:111]، وهو عيسى عليه السلام، فقالوا ماذا؟ ( آمَنَّا وَاشْهَدْ )[المائدة:111] يا ربنا ( بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111]، أين اليهود والنصارى الذين يحاربون الإسلام والمسلمين؟ لا يقبل دين سوى الإسلام، وما كان عبد صالح إلا وهو مسلم؛ لأن الإسلام إسلام القلب والوجه للرب، قلبك لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، وجهك لا تقبل به إلا على الله، فمن أعطى قلبه ووجهه لله أصبحت حياته كلها وقفاً على الله، فهو المسلم الحق الذي أعطى لله عز وجل ما أعطاه.
    فاللهم اجعلنا من المسلمين.. اللهم اجعلنا من المسلمين.. واجمعنا يا رب العالمين مع الصالحين، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #363
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (49)
    الحلقة (462)
    تفسير سورة المائدة (55)


    يحذر الله عز وجل عباده المؤمنين من أهوال البعث في اليوم الآخر، يوم يجمع النبيين والمرسلين ويسألهم عن دعوتهم ومن أجابهم إليها، وفي هذه الآيات يخص الله عز وجل عيسى بالذكر من بين الأنبياء؛ لأن أمتين عظيمتين غوتا فيه، فاليهود طعنوا فيه واتهموه بالسحر، واتهموا أمه بالزنا، وحاولوا قتله، أما النصارى فقد غلوا فيه وجعلوه إله مع الله تارة، وجعلوه ابن الله تارة أخرى.

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، وما زلنا مع هذه الآيات الأربع التي تدارسناها أمس في مثل هذا الوقت، وما استوفينا دراستها، فهيا بنا نتلوها ونتدبر معانيها ثم ننتهي إلى هداياتها، فنسأل الله تعالى أن يهدينا بها، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا برحمتك شر ما قضيت؛ إنك تقضي ولا يقضى عليك.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّين َ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:109-111].
    سؤال الرسل يوم القيامة عما أجابتهم به أممهم
    (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ )[المائدة:109]، هيا نذكر هذا اليوم؛ حتى نتمكن من تقوى الله التي أمرنا بها، وحتى ننجو من الفسق والخروج عن طاعة ربنا؛ فإن ذكر يوم القيامة وما يتم فيه وما يجري فيه وما يجزى به الناس فيه من شأنه أن يوجد الخوف في قلوبنا من ربنا فلا نعصيه ولا نخرج عن طاعته، فاذكر يا عبد الله.. اذكري يا أمة الله ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ )[المائدة:109]، أين يجمعهم؟ في ساحة فصل القضاء وذلك يوم القيامة، والرسل: جمع رسول، وقد عرفنا -والحمد لله- عددهم؛ إذ هم: ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، أما الأنبياء فهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، جاء هذا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.الرسل يجمعهم الله فماذا يقول لهم؟ ( فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ )[المائدة:109]، أخبرونا بم أجابكم أممكم ومن أرسلتم إليهم تدعونهم إلى أن يعبدوا الله وحده وأن يطيعوه في أمره ونهيه؛ ليكملوا ويسعدوا، أرسلتم إليهم لتحذروهم من الشرك ومغاضب الرب، وذلك بالفسق والفجور والخروج عن طاعة الله، فماذا أجبتم؟
    فمن هول الموقف وصعوبة الحال يصابون بالذهول، فيفوضون الأمر إلى الله ويقولون: ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، فنحن إن علمنا شيئاً خفي عنا آخر، إن علمنا الظواهر خفي عنا البواطن، وأنت علام الغيوب.
    والغيوب: ما غاب عن العين والحسن، فلا يدرك بالسمع ولا بالبصر، والغيوب لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يدعي علم غيب، فقد استأثر الله بعلم الغيب، واختص به ولم يسمح به لغيره إلا من شاء أن يطلعه على شيء من الغيب، قال تعالى: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا )[الجن:26-28].
    والرسول نفسه يقول له ربه تعالى: ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )[الأعراف:188]، فكل من ادعى أنه يعلم ما يجيء به الغدو أو ما تحمله فلانة أو ما في قلب فلان فهو طاغٍ من الطغاة ملعون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دجال وكذاب، وإن كانت الشياطين تسترق السمع، وقد تظفر بكلمة فيكذبون مائة كذبة يصدقون في واحدة، ومع هذا لا يحل تصديقهم أبداً، فمن أتى عرافاً أو كاهناً أو جزانة أو مدعية علم الغيب ليستفسر ويتساءل عما يحدث فقد خرج من ملة الإسلام، ولا تقبل صلاته أربعين يوماً، وهؤلاء الرسل فوضوا الأمر لله وقالوا: ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109].
    تذكير عيسى عليه السلام بنعم الله عليه وعلى والدته
    ثم اذكر أيضاً يا عبد الله.. واذكري يا أمة الله ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:110]، هيا بنا نشهد هذا المشهد العظيم، ويا ليت اليهود والنصارى يشهدونه معنا، إذ اليهود -والعياذ بالله- فرطوا في شأن عبد الله ورسوله عيسى، وبالغوا في التفريط حتى اتهموه بالسحر، وأنه ابن زنا وأنه كذاب، والنصارى غلوا في شأن عيسى ووالدته فألهوهما وجعلوهما إلهين مع الله وقالوا: عيسى ابن الله، وقالوا: هو ثالث ثلاثة مع الله، خبط وخلط وجهالات لا تخرج منها تلك الطائفة إلا إذا جاءت وأصغت تسمع كلام الله في هذا الكتاب القرآن العظيم، فالآية هذه تعالج أمر الأمتين الضالتين وتكسب أمة الهداية زيادة هداية وإيمان واطمئنان.(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ )[المائدة:110]، وهنا -يا عباد الله- يجب أن نذكر نعم الله علينا؛ حتى نشكر تلك النعم، فالذين لا يذكرون نعم الله عليهم لا يشكرونها، وقد أمر الله بني إسرائيل في آيات كثيرة فقال: ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ )[البقرة:40]، فإن من ذكر نعمة الله شكرها، ومن نسيها كفرها، ما من مؤمن يذكر نعمة الله عليه في صحة بدنه، في حضور قوته، في سلامة عقيدته، في صحة وجوده إلا قال: الحمد لله.. الحمد لله، والذي يأكل ولا يذكر، يشرب ولا يذكر كيف يشكر؟ كيف أعبر عن هذه الحقيقة وهي حقيقة غفلنا عنها؟ الذي لا يذكر نعم الله عليه لا يشكرها، اذكر فقط نعمة سمعك، من وهبك هذا السمع؟ أليس الله؟ ما إن تذكر هذه النعمة وترى من هو أصم لا يسمع حتى تقول: الحمد لله، ترى أعمى يقاد بين الناس، فما إن تذكر هذه النعمة حتى تقول: الحمد لله. ترى فقيراً لاصقاً بالأرض جوعاً وعرياً يتكفف الناس فتذكر ما أنت عليه فتقول: الحمد لله. يا من هو على عروس يبني عليها ويدخل ويخرج! اذكر العزاب الذين حرموا ذلك حتى تقول: الحمد لله.. الحمد لله. يا صاحب الوظيفة! اذكر من لا وظيفة لهم وهم يتسولون، اذكر هذا لتقول: الحمد لله.
    ما استطعت أن أعبر عن هذه الحقيقة، ما نشكر الله إلا إذا ذكرنا آلاءه ونعمه علينا، وهو القائل في سورة الرحمن: ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )[الرحمن:13]، فقالت الجن قبل الإنس: لا بشيء من آلائك نكذب يا ربنا، ها نحن في هذا المجلس وغيرنا في المقاهي والملاهي والملاعب ومجالس السوء والباطل والمنكر، ونحن تصلي علينا الملائكة وتستغفر لنا وفي بيت ربنا وآمنون غير خائفين، راجون غير آيسين ولا قانطين، لم لا نذكر هذا حتى نقول في صدق: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.
    إنعام الله على عيسى بتأييده بروح القدس وتكليمه الناس في المهد
    الله يذكر عيسى وأمه: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ )[المائدة:110]، ويبين مظاهر النعمة فيقول: ( إِذْ أَيَّدتُّكَ )[المائدة:110]، أي: قويتك ونصرتك ( بِرُوحِ الْقُدُسِ )[المائدة:110]، فأية نعمة أعظم من هذه؟ يجادل المبطلين ويحاج الكافرين ويواجه المعانين، فلو لم يكن له من يعينه ويقف إلى جنبه فإنه سيعجز ويضعف ويسقط، لكن الله امتن عليه فأيده بجبريل عليه السلام المسمى روح القدس، فلا يأتون بشبهة إلا ويردها، ولا يحاولون مكراً إلا فضحه وأظهره؛ لأنه إلى جنب عيسى عليه السلام: ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ )[المائدة:110].ثانياً: ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، أية نعمة أعظم من هذه النعمة؟ أما كلم الناس وهو في مهده؟
    وذكرت أنه لولا قوله تعالى: ( وَكَهْلًا )[المائدة:110] لحزنت مريم وقالت: ولدي يموت قبل أن يبلغ سن التكليف، فقال تعالى: ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، وفعلاً أبقاه الله حتى بلغ الثالثة والثلاثين، ثم رفعه إلى الملكوت الأعلى، هو -والله- فيه، وسينزل ويحج هذا البيت ويعتمر ويعيش زمناً، قد يبلغ الثلاثين من السنين فيكون عمره كعمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاث وستون سنة.
    إنعام الله على عيسى بتعليم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل
    (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ )[المائدة:110]، هذه نعم أخرى، ( عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ )[المائدة:110]، ونحن أما علمنا الكتاب، أما علمنا الحكمة، أما علمنا القرآن؟ لم لا نذكر الله ونشكره على هذه النعم؟ أم ليست ذات قيمة؟ أعوذ بالله، شتان ما بين أمي لا يقرأ ولا يكتب وبين من يكتب ويقرأ ويجيد الكتابة والقراءة، والتوراة والإنجيل حواهما القرآن وفاض عليهما وزاد عنهما، فلم لا نقول: الحمد لله؟(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي )[المائدة:110]، اذكر هذه النعمة يا عيسى، يذكرها في عرصات القيامة؛ لتقوم الحجة لله على اليهود والنصارى، ويفضحون ويخزون ويذلون في عرصات القيامة بهذه التقريرات الإلهية لعبده عيسى بين يديه وهم يسمعون الإنس منهم والجن.
    إنعام الله على عيسى بمعجزة خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى
    قال تعالى: ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ )[المائدة:110]، وبينا أنهم قالوا: إن كنت رسول الله كما تزعم فاخلق لنا من هذا الطين طيراً نشاهده وهو يطير في السماء، فما هي إلا أن جمع طيناً وصوره في صورة طير بإذن الله ونفخ فيه فطار بإذن الله وهم يشاهدون، وفي النهاية قالوا: ساحر، هذه مظاهر السحر، وإلا فكيف يصنع الإنسان طيراً ويطير، هذه تمويهات على عقولنا وقلوبنا وأعيننا!قال تعالى: ( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ )[المائدة:110]، وقد عرفنا أن الأكمه الذي يولد أعمى، فالذي ولد بلا بصر لو اجتمعت الدنيا كلها فلن تستطيع أن تصنع له بصراً يبصر به، والله! لا يستطيعون.
    وهذا البرص الداء الذي وجد في الكون هل استطاع الطب الحديث وقد تفوق أن يوجد دواءً للبرص؟ لا، فقولوا: آمنا بالله.
    ولهذا خص بالذكر العمى والبرص، وهما نعمتان عظيمتان، حين تنظر إلى الأبرص وجلده وأنت معافى أما تقول: الحمد لله؟ والله! إن الملايين ما يقولون: الحمد لله، ولا يعرفون هذا ولا يذكرونه، يمر بين أيدهم أعمى يقاد فلا يقولون: الحمد لله؛ وذلك لغفلة المؤمنين ولموت الكافرين.
    (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي )[المائدة:110]، وقد بينا أمثلة لذلك: فسام بن نوح قالوا: ادع الله أن يخرجه لنا، فخرج من قبره وشاهدوه وما آمنوا، وكان على النعش طفل وأمه تصرخ: يا روح الله! ولدي مات فادع الله أن يحييه، فدعا فجلس الولد على النعش ومشى مع أمه، فقالوا: هذه مؤامرة اتفاق بين عيسى وهذه العجوز، فمن القائل؟ اليهود بنو عمنا، الذين يعملون منذ أن طلع فجر الإسلام على إطفاء هذا النور والقضاء عليه، ونجحوا في مجالات شتى، وها نحن نصرخ هذه الأيام على هذه القبعات التي استوردناها من مصانع اليهود وأتباعهم وننشرها بين أولاد المسلمين في الحرمين الشريفين، أسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟ هذه القبعات التي هي لليهود وهي زيهم الذي يمتازون به، كيف تتحول إلى أبناء المسلمين ليألفوا ذلك ويستأنسوا به، ليصبحوا لا يبغضون هذا المنظر ولا يرهبونه بل يعتزون به ويضحكون؟ هذه ظاهرة عجيبة غريبة، أن القبعات التي تسمى بالبرانيط أصبحت لأولاد المسلمين وشبابهم، وتستورد بالآلاف وتباع بالأثمان، ويشتريها أحفاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزغردي يا يهودية وهللي فقد نجحتِ بعد أن ألبستنا البرانيط، وعما قريب ستكون الصلبان في أعناقنا.
    إنعام الله على عيسى بإنجائه من كيد اليهود
    (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[المائدة:110]، وعزموا على قتلك وصلبك والقضاء على وجودك، فمن كفهم سوى الله؟ هل لعيسى جيوش وجنود، أو أبناء عم، أو قبيلة؟ كلا. فمن كف عنه اليهود؟وقد ذكرت لكم حادثة إلقاء القبض على رئيس الشرطة، جاءوا عازمين على قتله فطوقوا بيته عليه السلام وحاصروه فترة فما خرج أحد، ففتحوا الباب فدخل رئيس الشرطة إلى المنزل، وعيسى رفعه الله من الروزنة وألقى الله الشبه على مدير الشرطة، فدخلوا عليه وتدفقوا ورفعوه بين أيدهم على أنه هو عيسى، وأخذوه إلى المحبس حتى نصبوا أخشابهم وآلات قتلهم وصلبوه، والذي صلبوه -والله- ما هو بعيسى، وإنما الرجل اليهودي الذي ألقى الله الشبه عليه، قال تعالى من سورة النساء: ( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ )[النساء:157]، هذه النعمة يذكرها فيشكر الله، ونحن كف أيضاً عنا أعداء الإسلام، وآخر ما كف عنا حرب الخليج، أما أرادوا إطفاء نور الله، أما أردوا تمزيق راية لا إله إلا الله؟ والله! لهذا الذي أرادوا، فمن صرفهم؟ من رد كيدهم؟ أليس الله؟ لم لا نذكره لنشكره؟ والله يذكر عيسى: ( اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ )[المائدة:110] .. ( إِذْ أَيَّدتُّكَ )[المائدة:110].. ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ )[المائدة:110].
    منة الله على عيسى بإيمان الحواريين ونصرتهم له
    وأخيراً قال تعالى: واذكر أيضاً: ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّين َ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي )[المائدة:111]، ( أَنْ آمِنُوا بِي )[المائدة:111]، أولاً، ( وَبِرَسُولِي )[المائدة:111] ثانياً، فمن أوحى إلى الحواريين؟ أليس الله؟ ألقى في قلوبهم، ألقى في روعهم: ( أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111].من هم الحواريون؟ يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم في الزبير : ( حواريي الزبير )، حواري رسول الله الزبير بن العوام ، والحواري باللفظ العام: هو الذي برز في طهارته وصفائه ونوره ونصر الله ورسوله، فالحوارين عند عيسى كأصحاب رسول الله عنده صلى الله عليه وسلم، الذين وقفوا إلى جنبه يحمونه ويدافعون عنه وينصرونه، وجاء ذكرهم في آخر سورة الصف؛ إذ قال تعالى عنهم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّي نَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ )[الصف:14]، هذا النداء موجه إلينا نحن معشر المسلمين، فهل استجبنا أم لا؟ ( كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ )[الصف:14]، كيف ننصر الله؟ ننصره في دينه وفي أوليائه، ننصره في عباده بأن لا نسمح أن يعتدوا أو يظلموا أو يفسقوا أو يفجروا، أو يعبدوا غير ربنا، ننصره في أوليائه فنقف إلى جنبهم ولا نذلهم ولا نخزيهم، ننصر الله في أن نعبده وحده.
    إذاً: من رأى منكم برنيطة على رأس ولد فلينصر الله فيها، قلت لكم: اذهبوا إلى بائعي هذه البرانيط، ليذهب اثنان أو ثلاثة، وابتسموا في وجه صاحب الدكان، وقولوا: هذا ما يجوز أبداً، يخشى عليك عقوبة من الله، أنت تنشر هذا الباطل، هذه فتنة من حيث لا تدري يا عبد الله، ( من تشبه بقوم فهو منهم )، فهذا الذي تشبه باليهود والنصارى سوف يصبح يحبهم ويقبل عليهم ويرضى عنهم وبما جاءوا به إليه، وبذلك ينسلخ من دينه وإسلامه.
    (كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ )[الصف:14]، أي: انصروا دينه وأولياءه.
    (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّين َ )[المائدة:111]، ماذا؟ ( أَنْ آمِنُوا بِي )[المائدة:111] أولاً ( وَبِرَسُولِي )[المائدة:111] عيسى عليه السلام، ( قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ )[المائدة:111] يا ربنا ( بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111]، ما معنى (مسلمون)؟
    قلنا: الإسلام هو أن تسلم قلبك لله: خذ يا رب قلبي، ووجهك لله: خذ يا رب وجهي، فتصبح حياتك كلها وقفاً على الله، قلبك لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، وجهك لا يتجه في الحياة إلا إلى ما يرضي الله، إذ أنت عبده وأنت وليه وهو قد استوقفك عليه، فأنت وقف على الله، وآية الوقفية من سورة الأنعام واضحة صريحة: ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:162]، هل بقي شيء بعد الحياة والموت؟ ( لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )[الأنعام:162-163]، إننا -والله- لوقف على الله، فليس للشيطان أن يأخذ من غلالنا أبداً ولو كلمة؛ لأننا وقف على الله، حياتنا ومماتنا لله، فلا تستول علينا الشياطين ولا الكافرون، فلا نعبد غير الله، ولا نذعن ولا ننقاد ولا نسلم إلا لله؛ تحقيقاً لهذا الوقف.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات
    نسمعكم الآن الآيات في الشرح.
    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ يحذر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين من أهوال البعث في اليوم الآخر، يوم يجمع الرسل عليهم السلام ويسألهم وهو أعلم بهم فيقول: ( مَاذَا أُجِبْتُمْ )[المائدة:109]، أطاعتكم أممكم أم عصتكم؟ فيرتج عليهم ويذهلون ويفوضون الأمر إليه تعالى ويقولون: ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، إذا كان هذا حال الرسل فكيف بمن دونهم من الناس؟!
    ويخص عيسى عليه السلام من بين الرسل بالكلام في هذا الموقف العظيم؛ لأن أمتين كبيرتين غوت فيه وضلت: اليهود ادعوا أنه ساحر وابن زنا، والنصارى ادعوا أنه الله وابن الله، فخاطبه الله تعالى وهم يسمعون: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ )[المائدة:110]، فأنت عبدي ورسولي وأمك أمتي، وذكر له أنواع نعمه عليه فقال: ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ )[المائدة:110]، جبريل عليه السلام، ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ )[المائدة:110] وأنت طفل، إذ قال وهو في مهده: ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا )[مريم:30-33] ]، هذه -والله- قالها وهو في قماطه على مهده، في أيام ولادته الأولى، فكيف وصلنا هذا الهدى وهذا الخير؟ إنه فضل الله علينا بهذا الكتاب وهذا الرسول.
    [ وقوله: ( وَكَهْلًا )[المائدة:110]، أي: وتكلمهم وأنت كهل أيضاً، وفيه بشرى لـمريم أن ولدها يكبر ولا يموت صغيراً، وقد كلم الناس وهو شاب وسيعود إلى الأرض ويكلم الناس وهو كهل، ويعدد نعمه عليه فيقول: ( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[المائدة:110]، فكنت تكتب الخط وتقول وتعمل بالحكمة، وعلمتك التوراة كتاب موسى عليه السلام والإنجيل الذي أوحاه إليه، ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، أي: اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك، فقالوا لك: اخلق لنا طيراً، فأخذت طيناً وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك، ونفخت فيه بإذني فكان طائراً ] بإذنه، ولولا أن الله أذن له أن يصور فهل سيفعل؟ لن يفعل؛ لأن الله لم يأذن لمؤمن أن يصور صورة، وفي الحديث: ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون )، لولا أن الله أذن لعيسى لما فعل، قال: أذنت لك في التصوير، والمسلمون اليوم غمرتهم التبعية والذيلية لليهود والنصارى؛ فأصبحوا مثلهم إلا من رحم الله.
    قال: [ أي: اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك فقالوا لك: اخلق لنا طيراً فأخذت طيناً وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك، ونفخت فيه بإذني فكان طائراً، واذكر أيضاً إذ ( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ )[المائدة:110]، وهو الأعمى الذي لا عينان له، ( وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، أي: بعوني لك وإقداري لك على ذلك، ( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى )[المائدة:110]، أي: من قبورهم أحياء، فقد أحيا عليه السلام عدداً من الأموات بإذن الله تعالى، ثم قال بنو إسرائيل: أحي لنا سام بن نوح . فوقف على قبره وناداه فقام حياً من قبره وهم ينظرون، واذكر: ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ )[المائدة:110]، فكذبوك وهموا بقتلك وصلبك، ( فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[المائدة:110]، واذكر ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّين َ )[المائدة:111] على لسانك ( أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي )[المائدة:111]، أي: بك يا عيسى، ( قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111]، أي: منقادون، مطيعون لما تأمرنا به من طاعة ربنا وطاعتك ] يا رسول الله، هذا معنى هذه الآيات النورانية، فهل نشبع منها؟ والله ما نشبع، لو نكررها الدهر كله ما تنتهي أنوارها ولا تنقطع هدايتها للأحياء لا للأموات.
    هداية الآيات
    قال المؤلف غفر الله لنا ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:
    من هداية الآيات:
    أولاً: شدة هول يوم القيامة وصعوبة الموقف حتى إن الرسل ليذهلون.
    ثانياً: وجوب الاستعداد لذلك اليوم ]، هل نستعد له بالأموال في البنوك؟ هل ندخر الدقيق والشحم؟ بأي شيء نستعد ؟ بطاعة الله ورسوله، بتقوى الله.
    [ ثالثاً: توبيخ اليهود والنصارى ] في هذا الموقف العظيم [ بتفريط اليهود في عيسى وغلو النصارى فيه ] عليه السلام.
    [ رابعاً: بيان إكرام الله تعالى لعيسى وما حباه به من الفضل والإنعام.
    خامساً: ثبوت معجزات عيسى عليه السلام وتقريرها ]، فهي مقررة في القرآن، ما هي حكايات ترددها الناس.
    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #364
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (5)
    الحلقة (463)
    تفسير سورة المائدة (56)


    بعد أن ذكر الله بهيمة الأنعام وأنها حلال لعباده المؤمنين، ثم بين لهم ما حرم عليهم فيها وخاصة فيما يتعلق بما أكل السبع، أجاب هنا سبحانه على ما يتعلق بسؤالهم عما أحل لهم، فذكر سبحانه أنه أحل لهم بهيمة الأنعام التي سبق ذكرها من قبل والخالية من العيوب التي سبق ذكرها أيضاً، وأضاف إليها قسمان آخران وهما ما صادته السباع المعلمة بعد ذكر اسم الله على الصيد عند إطلاقها عليه، وكذلك طعام أهل الكتاب المذبوح حلال للمسلمين، وطعام المسلمين حلال لهم.
    تفسير قوله تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم هذا الأمل لنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
    سبب تسمية السورة بالمائدة
    وها نحن مع سورة المائدة، والمائدة -يا أبناء الإسلام- ما يكون عليها أنواع الطعام، سميت هذه السورة بسورة المائدة لذكر المائدة في آخرها، وذلكم أن مجموعة من الحواريين من أتباع عيسى وأنصاره قالوا: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:112-115]، فلهذا من أشد الخليقة عذاباً من أكل من المائدة وكفر والعياذ بالله.وهي سورة الأحكام؛ لأنها مدنية من أخريات ما نزل، وتذكرون بالأمس الآية الكريمة وما حوته من أحكام، والآن مع آيتين أخريين تحملان أحكاماً أيضاً، وسنسمع تلاوتهما، وتدبروا وتأملوا وتغنوا إن استطعتم بتلاوتهما.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[المائدة:4-5].
    سبب نزول الآية الكريمة
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ )[المائدة:4]، من السائل؟ أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم، ذكر القرطبي في تفسيره -وهو من أسلم التفاسير- قال: هذه الآية نزلت بسبب عدي بن حاتم وزيد الخيل ، بسبب عدي بن حاتم الطائي المعروف، والثاني: زيد الخيل الذي سماه الرسول بعد زيد الخير ، ففاز بها.قال: إذ قالا: يا رسول الله! إنا قوم نصيد بالكلاب، يصيدون ماذا؟ الغزلان والأرانب وما يؤكل، قالا: نصيد بالكلاب والبزاة، والباز: معروف من الطير، والبزاة: جمع باز، وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء، يعني بقر الوحش وحمر الوحش، والظباء يعني: الغزلان، قالا: فمنه ما ندرك ذكاته- أي: قبل أن يموت نذبحه ونذكيه- ومنه ما تقتله -أي: الكلاب والبازات- فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا إذاً؟ فنزلت هذه الآية، أو قرأها رسول الله عليهم.
    قال تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ )[المائدة:4] عرفنا السائلين: زيد الخير وعدي بن حاتم الطائي ، يسألان: ماذا أحل لهم؟ الجواب: ( قُلْ )[المائدة:4] يا رسولنا: ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4]، كل طيب فهو حلال، كل خبيث منتن عفن فهو حرام.
    وقد قلت: لا يحل ولا يحرم إلا الله، أولاً: لأنه المالك، فصاحب الطعام أو الشراب أو اللباس أو الحيوان هو الذي إن شاء أعطاك وإن شاء منعك، أليس الله مالك كل شيء وهو خالق كل شيء؟ الأموال كلها ملكه، يبيح منها ما يشاء، ويمنع ما يشاء، هذه أولاً، بوصفه المالك فلهذا هو الذي يحل أو الذي يمنع.
    الثانية: أنه يعلم ما ينفع وما يضر من مخلوقاته حالاً ومستقبلاً، ونحن لا نعرف؛ فلعلمه وخبرته إذ هو خالق هذه الأشياء يعلم ما يضر وما ينفع، فمن هنا إذا أحل فكل وإذا حرم ومنع فامتنع، وهل يستطيع إنسان أن يحل أو يحرم على عباد الله شيئاً؟ ما يستطيع، أولاً: لأنه لا يملك، ما هو الخالق للأشياء، ليست ملكه حتى يمنع ويعطي.
    وثانياً: لأن الله يعلم ما ينفع من مخلوقاته وما يضر، فما علمه نافعاً أذن فيه وأباحه، ما علم ضرره وفساده منعه على عباده، هذا هو سر التحليل والتحريم.
    فها هم رضوان الله عليهم يسألون: ماذا أحل لهم؟ بين لنا يا رسول الله ما أحل الله لنا؟ ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ )[المائدة:4] نيابة عنا، فالرسول نائب عن الله، الوحي ينزل عليه هو، وكله الله بهذا، وأسنده إليه، ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4] جمع طيبة، والطيبات: ما أحله الله تعالى، كل ما أحله الله تعالى طيب، وكل ما حظره الله تعالى ومنعه خبيث، أي: ضار غير نافع، سواء المناكح، المآكل، المشارب، المراكب، كلها، هذا أولاً.
    معنى قوله تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله)
    ثانياً: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4]، هذه العبارة غريبة عنا نحن العوام، ما معنى: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ )[المائدة:4]؟ الجوارح عندنا هي السمع والبصر واللسان واليد والرجل والفرج، سميت بالجوارح لأننا نجترح بها، أي: نعمل بها، هذه الأعضاء سميت جوارح لأننا نكتسب بها، فالعين أما تبصر بها حاجتك؟ اللسان أما تنطق به عما تريد؟ يدك أما تعطي وتأخذ بها؟ هذه جوارح أم لا؟ والجوارح سبع. وهنا قال: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ )[المائدة:4] الجوارح هنا: الكلاب والبازات التي تجترح، الكلب يجترح فيأخذ بيده وفمه، الباز هذا الطائر عند الذين يربونه ويؤدبونه كذلك يجترح ويكتسب، هذه الجوارح من الحيوان بها نكتسب أيضاً اللحم ونأكل.
    (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ )[المائدة:4] التي هي كلاب الصيد، والطيور التي أعدت لهذا كالبازات.
    وقوله تعالى: ( مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4] أنتم تعلمونهم مكلبين لها، معلمين لها، فالكلب يجرح، لكن لا بد أن تعلمه، وحقيقة الكلب المعلم أنك إذا أرسلته مشى، وإذا دعوته رجع، أما إذا دفعته فعصاك، لوى رأسه وما مشى، أو ناديته فأبى أن يستجيب فهذا ما هو بمعلم، هذا صعلوك لا يصح أن تصيد به، لا بد أن تعلمه ليصبح إذا أرسلته ينطلق، وإذا دعوته يرجع، وإذا قلت له: قف يقف. وهذا يحتاج إلى مران ورياضة، وهذا واقع، وإذا ما علمتم أنتم فهو معلوم عند الناس.
    (مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4] أي: حل كونكم مكلبين لتلك الكلاب حتى تصبح تصيد لك. ( تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:4] الله الذي علمنا أم لا؟ علمنا أن نأتي ونذهب ونرجع ونأخذ ونمسك ونطلق، فكذلك هذا الطير أو هذا الكلب من كلاب الصيد؛ إذ نحن الذين نعلمه مما علمنا الله عز وجل.
    فالكلب الذي علمته أنت المكلب له، فإذا عرفت أنه أصبح عالماً بحيث إذا أرسلته ينطلق، وإذا قلت: ارجع رجع، هذا معلم، كلبته فأصبح مكلَّباً وأنت المكلِّب.
    ولعل السر في هذا أن التعليم أزال معنى الكلب منه، أصبح كإنسان، إذا أرسلته انطلق، وإذا دعوته جاء، يأخذ الغزال أو الأرنب ويأتي به، ولا يأكل منه أبداً، فإن كان يأكل منه فما هو بمعلم، هذا ما صاد لك أنت، صاد لنفسه، وفي هذه الحالة إذا وجدته يأكل منها وأدركتها حية أدركت فيها الروح فذكيتها جاز لك ذلك.
    (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:4] إذاً: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4]، أي: لكم، (على) بمعنى: اللام، فكلوا أيها المؤمنون مما أمسكن -أي: أمسكت الكلاب أو الطيور- عليكم، أي: لأجلكم، إذا كان يمسكها لنفسه فما يصلح أكلها، هو يأكلها، لكن إذا كان يأخذها ويقف عندها، أو يمسكها ويبقى ينتظرك؛ إذ ما يستطيع أن يجيء بالغزال على ظهره فحينئذ لك أن تأكل.
    معنى قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه)
    قال تعالى: ( تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:4] إذاً: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4]، إذا أمسكن لههن فلا تأكلوا، إذا كان كلبك الذي تصيد به، أو هذا الباز ترسله يصيد له هو ويأكله فهذا ما هو لك أنت، فما أمسكن عليكم.ثانياً: ( وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4]، حين ترسل الكلب تقول: باسم الله، تقول: باسم الله، وتطلق رصاصتك على الغزال أو على الحيوان، لا بد من ذكر اسم الله: ( وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4]. ومن هنا إذا وجدتها ميتة وقد سميت الله عليها فهي لك، على شرط: ألا يكون أكلها هو وقتلها، هي من نفسها ماتت، والطير أو الكلب ما أكلها، فإن أكل منها ووجدتها ميتة فلا، وإذا وجدت فيها الحياة ذكيتها.
    معنى قوله تعالى: (واتقوا الله إن الله سريع الحساب)
    وقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4]، يا عباد الله! خافوا ربكم، فإن الله إذا حاسب فما يحتاج إلى مائة سنة، ولا عشر ليال، اتقوه لا تخرجوا عن طاعته، أحل لكم ما أحل فأحلوه، حرم ما حرم فحرموه، ولا تتجاوزوا ذلك ولا تعتدوه، وإلا فأنتم عرضة لنقمة الله عز وجل، وهذا يدل دلالة قطعية على أن الذي يفسق عن أمر الله، ويخرج عن طاعته، ويستحل ما حرم الله أو يحرم ما أحل الله، معناه: أنه أعلن الحرب على الله، فليتهيأ.(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4] هذه الآية الأولى خلاصتها: أنه يحل لنا ما أحل الله لنا من الطيبات مطلقاً من فواكه وخضر ولحوم، كل ما أحل الله، وما علمنا من الجوارح مكلبين، نحن الذين نصيد ونملك كلاب الصيد، هذه الكلاب هي التي يجوز للمؤمن أن يشتريها، وأن يستعملها، أما الكلاب التي لا تصيد ولا تحرس غنماً ولا زرعاً فلا يحل لمؤمن أبداً أن يدخلها بيته، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يربط كلباً في بيته، فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، جبريل على باب الرسول تردد، أبى أن يدخل، قال: إن بالبيت جرواً فلا أدخل، فأخرجه الرسول وأبعده.
    وبلغنا أننا لما وسع الله أرزاقنا أصبحنا نقلد اليهود والنصارى في الكلاب، فلان له كلب في سيارته من ورائه، ويربطه في بيته، والله إن ذلك لعرضة لنقمة الله عز وجل، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4]، كلب الماشية يرعاها يمشي معها، كلب المزرعة في المزرعة، كلب الصيد تخرج به حيث تصيد، أما كلب في منزلك فهكذا جرينا وراء النصارى واليهود.
    ومن قال: وإذا كنت أخاف اللصوص على بيتي؟ قلنا: اربطه خارج البيت، إذا نبح باللصوص فاخرج.
    (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ )[المائدة:4] أجبهم يا رسولنا. ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4] مطلقاً ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4] أي: معلمين، لا بد أن تعلم هذا الكلب الذي تصيد به؛ حتى يصبح إذا دفعته اندفع، وإذا دعوته رجع، ويصيد الغزال أو الأرنب ويقف عليه ولا يأكله بفمه، هذا هو المعلم، هذا الذي إذا صدت به حل لك ذلك، ويجوز لك اقتناؤه وشراؤه وبيعه.
    وقوله تعالى: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4] هذه إباحة الله وإذنه لنا، ( مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4] أي: من أجلكم، لا من أجلهن.
    (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4] حين نرسل الطير أو الكلب نذكر اسم الله، حين نطلق الرصاصة نقول: باسم الله ونطلق عليها، لا بد من هذا، ( وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4] هذا فعل أمر أم لا؟ كيف نقول؟ باسم الله، هذا هو ذكر الله، وأطلق رصاصتك أو أرسل كلبك الذي يصيد.
    تفسير قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ...)
    ثم قال تعالى في الآية الثانية: ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:5] كلوا واشربوا كل طيب، واتركوا كل خبيث ومنتن وعفن.والخبائث معروفة أم لا؟ تقدم أنها عشر: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3].
    (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:5] وشيء آخر: ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، من هم الذين أوتوا الكتاب؟ اليهود والنصارى، كتاب اليهود التوراة التي أنزلها الله على موسى، وكتاب النصارى الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على عيسى، هل هذين الكتابين صافيين نقيين طاهرين ما فيهما كذب ولا زيادة؟ والله إنهما محشوان بالباطل، الإنجيل في يوم من الأيام حولوه إلى ثلاثين إنجيلاً، ولما انفضحوا وانكشفت عورتهم اجتمعوا في روما وجمعوه في خمسة أناجيل: برنابا، ولوقا، ويوحنا، ومتى، ومرقس، الشاهد عندنا: أن الكتاب أصبح خمسة، إذاً: أربعة أخماس كلها كذب؛ فلهذا هم ضالون ضلالاً.
    (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5] إذا ذبح النصراني أو اليهودي البقرة أو البعير أو الشاة أو الدجاجة أو الطير فسم الله وكل؛ لأنهم أهل كتاب، أي: يؤمنون بالله واليوم الآخر، وبالرسل وبالملائكة، فهم قريبون منا، نأكل طعامهم، ويأكلون طعامنا، والمراد من الطعام هنا: المذبوح، فإذا ذبح الشاة وطبخ لك اللحم فكل، أعطاك فخذاً أو نصف شاة فلك ذلك، على شرط: ألا يذكر عليها اسم المسيح، فإنها حينئذ مما ذبح على النصب، كالذي يذبح باسم عبد القادر ، فما تؤكل، كذلك الذي يذبح باسم المسيح ما تؤكل من باب أولى، لكن ذبحها للأكل، ما هي لعيسى ولا لأمه، هذه الذبيحة إذا ذبحها وأسال دمها لك أن تأكل، لكن إذا كان خنق الدجاجة أو الأرنب أو الحيوان حتى مات، ثم سلخه وأكله هل يجوز أكله؟ لا؛ فهو ميتة.
    أقول: كان اليهود يذبحون تديناً ورحمة بالشاة، ثم جاءت فلسفة جديدة، قالوا: كيف تذبحون الحيوان وتأكلونه؟ فذهبنا إلى مجزرة في باريس لنشاهد، وجدناهم أمامنا جاءوا بثور عظيم فأوقفوه، ثم جاءوا بعصا من حديد وأدخلوها في رأسه، وأخذوا يديرونها بالكهرباء حتى اخترق الظهر ومات، لما مات وفقد الحياة ذبحوه، فهل هذا يجوز أكله ؟ لا يجوز.
    لو كان جملاً أو ثوراً وما استطاعوا ذبحه فضربوه بحديدة فأغمي عليه ثم ذبحوه فإنه يؤكل، لكن أن يقتلوه بالكهرباء حتى يفقد الحياة ويموت، وبعد ذلك يذبح أو لا يذبح فهو جيفة منتنة.
    ذبائح أهل الكتاب حل لنا؛ لأنهم يذبحون كما نذبح، وإن لم يذكروا الله، لكن الشرط ألا يذكروا اسم إله معبود، فحينئذ تكون مذبوحة لغير الله، لكن مع اللحم الذي يذبح للآكلين من الناس إذا ذكوها بكل ما يسيل الدم ويزهق الروح يجوز أكله من لحومهم، ويجوز لهم أيضاً أن يأكلوا من لحومنا، أعطهم لحم ذبيحتك ليأكلوه.
    اسمع النص الكريم: ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ )[المائدة:5] أي: حلال. ( وَطَعَامُكُمْ )[المائدة:5] أنتم ( حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، لا تقل: هذا يهودي ما نعطيه ليأكل، إذا احتاج إليك فأعطه، ( وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5] هذه الأولى.
    معنى قوله تعالى: (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم)
    والثانية: ( وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ )[المائدة:5] أي: ومما أحل لكم أيها المؤمنون ( الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5]، المحصنات: جمع محصنة، وهي العفيفة غير الزانية والباغية، إياك أن تتزوج بالزانية، وإن كانت بنت من كانت، لقول الله تعالى: ( وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ )[النور:3]، امرأة من المؤمنين معروفة بالبغاء والزنا لا يحلها لك الله أبداً، إلا إذا تابت ومضى عليها زمن، وأهل البلاد كلهم يشهدون بتوبتها منذ كذا عاماً فلا بأس، أمة تتعاطى الزنا لا يحل لك أن تتزوجها؛ لأن الله قال: ( وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ )[المائدة:5]، ما معنى المحصنات؟ العفيفات، التي عرفت بالعفة والطهر والصفاء، أما إذا عرفت بالبغاء فلا يحل نكاحها، حرام، منعنا الله منها. وإن أردت أن تتزوج بغياً فإنها تأتي برجل في بيتك ينكحها، فكيف تعيش أنت؟ متعودة على الخبث، غداً تخرج من البيت وتبيت في بيت آخر، فماذا تصنع أنت؟ فهذا تدبير مولانا عز وجل، يدبر لأوليائه وعباده المؤمنين.
    (وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ )[المائدة:5] أولاً ( وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5] أي: اليهوديات والنصرانيات، على شرط: ألا تكون داعرة وبغياً، تعرفها بجيرانها أنها عفيفة وطاهرة، لا بأس أن تتزوجها، أما أن تعرف أنها عاهرة وبغي تأتي الفجور فلا يصح.
    (وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5] بقي الشرط: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )[المائدة:5]، ما الأجور؟ المهور، الصُّدُقات، لا بد من مهر ولا بد من عقد، الولي أو القاضي يعقد لها إذا فقدت الولي، على مهر كذا، فأركان النكاح أربعة: المهر والشهود والصيغة والولي.
    معنى قوله تعالى: (محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان)
    إذاً: قال: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )[المائدة:5] حال كونكم ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5] الخدن: هو الصديق السري في الخفاء، كان في الجاهلية لا تزني الحرائر أبداً، الإماء يقع منهن الزنا، لكن الحرة العربية لا، ولما بايع صلى الله عليه وسلم المؤمنات في مكة عام الفتح عند جبل الصفا جاءت هند فقالت: أوتزني الحرة يا رسول الله؟! لأن البيعة كانت على خمس مواد: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى )[الممتحنة:12] ماذا؟ ( عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ )[الممتحنة:12] فقالت: أوتزني الحرة؟! لكن قد تتخذ صديقاً في الخفاء، يتخذها شاب في السر ولا يسمع أحد، هذا معنى: متخذات أخدان، كذلك ( وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5].
    معنى قوله تعالى: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين)
    وأخيراً: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ )[المائدة:5] أي: بالإسلام وشرائعه ومبادئه وقوانينه فقد حبط عمله، من ارتد عن الإسلام، الإيمان هنا بمعنى: الإسلام، إذ الإسلام والإيمان شيء واحد، المسلم هو المؤمن، ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[المائدة:5]، كل عمل جديد، أما الماضي فقد محي انتهى، وإن مات بدون توبة فهو من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم؛ لقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ )[الزمر:15] بالمعنى الحقيقي ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ )[الزمر:15] أولاً ( وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )[الزمر:15] .
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير
    هداية الآيات
    اسمعوا هداية الآيات، لعلكم تستنبطون من الآية ما قد تعلمون. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ هداية الآيتين:
    من هداية الآيتين:
    أولاً: مشروعية سؤال من لا يعلم عما ينبغي له أن يعلمه ]، بل وجوب سؤالك من يعلم عما لا تعلم، أما قال تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من لا يعلم يجب أن يسأل حتى يتعلم، ولو يرحل ويسافر، لقوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ )[المائدة:4] فقد سألوه وبين لهم.
    مشروعية سؤال من لا يعلم حتى يعلم، فإذا علم بالمنع امتنع، وإذا علم بالجواز فعل، أخذنا هذا من قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ )[المائدة:4].
    [ ثانياً: حلية الصيد ]، أي: ما يصاد من ظباء وغزلان وبقر الوحش، قل ما شئت من حيوانات [ إذا توافرت شروطه ]، [ هي أن يكون الجارح معلماً ]، الكلب الذي يجترح ويصيد لك يكون معلماً، من علمه؟ أنت، كيف علمته؟ الله علمك، حقيقة علمه: أنك إذا قلت له: امش مشى، أو تعال يرجع، فإذا سمى الله تعالى صاحبه عليه ومات الصيد ولم يأكله الكلب جاز أكله.
    قال: [ أن يكون الجارح معلماً، وأن يذكر اسم الله عليه عند إرساله، وألا يأكل منه الجارح ] الذي أرسلته، فإن أكل منه فقد صاده لنفسه، ما صاده لك، [ ويجوز أكل ما صيد برصاص أو بآلة حادة بشرط ذكر اسم الله تعالى عند رميه، ولو وجد ميتاً فلم يذك ]، أنت أطلقت رصاصتك على ظبي، ووجدته ميتاً بضربتك وقد سميت الله فكل، ولا بد أن تكون آلة الصيد مما هو حاد، ما هي بعصا أو حجر.
    قال: [ ثالثاً: إباحة طعام وذبائح أهل الكتاب ]، فتتغدى وتتعشى عند يهودي ولا بأس، أو عند من شئت، وتغديه أو تعشيه، تأكل من ذبيحته أو يأكل من ذبيحتك، فقد أذن مولاكم لكم.
    [ رابعاً: إباحة نكاح الكتابيات ]، ما المراد من الكتابيات؟ نساء اليهود والنصارى، [بشرط أن تكون حرة وعفيفة ]، فإن كانت مملوكة أمة فلا يجوز التزوج بها، حتى الأمة من غير أهل الكتاب، حتى العربية إذا كانت غير مؤمنة لا يجوز التزوج بها، وخاصة الكتابية، لا بد أن تكون حرة ما هي بمملوكة لشخص، وأن تكون عفيفة غير زانية، فيجوز بشرطين: الحرية والعفة.
    وهذا إذن بالجواز فقط وأنت حر، اختر من يصلح لك، إذا شئت أن تتزوج يهودية أو نصرانية بشرطين:
    أولاً: أن تكون حرة ما هي بأمة مملوكة، والثاني: أن تكون عفيفة غير زانية، وأنت حر.
    قال: [ رابعاً: إباحة الكتابيات بشرط: أن تكون حرة عفيفة، وأن يعقد عليها العقد الشرعي، وهو القائم على الولي والشهود والمهر، والصيغة بأن يقول الخاطب لمن يخطبه من ولي أو وكيل: زوجني فلانة، فيقول: قد زوجتكها ].
    عرفنا أنه يجوز أن تتزوج يهودية أو نصرانية بشروط، أولاً: أن تكون حرة ما هي بأمة.
    ثانياً: أن تكون عفيفة ما هي بزانية.
    ثالثاً: تحقق شروط النكاح: الولي والشهود، والمهر، والصيغة، لا يتخذها صديقة ويقول: هذه أذن الله لي فيها.
    [ خامساً: حرمة نكاح المتعة ونكاح الخلة والصحبة الخاصة ].
    حرمة نكاح المتعة؛ لأن نكاح المتعة يتزوجها أسبوعين ونحوهما، فهل هذا يجوز؟ هذا الروافض يعيشون عليه، يعدونه من العبادات، ولا سبب إلا من أجل أن ينفصلوا عن المسلمين، أسألكم بالله: أفيكم كلكم فحول أم لا؟ لو تعلم أن فلاناً خطب بنتك وزوجته وهو ينوي أن يفتض بكارتها بعد أسبوع ويطلقها، هل تفرح وتسعد؟ تستطيع أن تنظر إلى وجهه؟ كيف يجوز هذا؟ لأن نكاح المتعة نكاح إلى أجل، سبعة أيام، ثمانية عشر، وكذا ثم يتركها، وقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمته، وكان مباحاً قبل أن يعلن الرسول حرمته.
    ونكاح الخلة، والخلة: الصداقة، يتخذ الرجل صديقة في الخفاء، وكذلك متخذات الأخدان، فهذا حرام.
    [ سادساً: المعاصي قد تقود إلى الكفر ]، كثرة المعاصي قد تقود صاحبها إلى أن يكفر، من أين أخذنا هذا؟ من ختم الآية: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ )[المائدة:5]، كيف يكفر بالإيمان؟ بالجري وراء المعاصي والذنوب حتى يفسد قلبه، تنطمس بصيرته ويرتد.
    [ سابعاً: المرتد عن الإسلام يحبط عمله، فلو راجع الإسلام لا يثاب على ما فعله قبل الردة، وإن مات قبل العودة إلى الإسلام خسر نفسه وأهليه يوم القيامة، وذلك هو الخسران المبين ].
    معاشر المستمعين والمستمعات! تعلمتم علماً، فوالله إنه لواجب كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف هذا، وكيف نعرف ونحن هجرنا بيوت الله؟ نجتمع على القرآن فقط من أجل الأكل والشرب، على الأموات، فكيف نتعلم؟
    إذاً: هيا نعد: يا أهل القرية! من هذا اليوم لا يتخلف رجل ولا امرأة عن صلاة المغرب والعشاء؛ لنتعلم كتاب الله وحكمة رسوله كل ليلة طول الحياة، فهل سيبقى جاهل أو جاهلة؟ ما نحتاج إلى قلم ولا قرطاس أبداً، نتعلم كتاب الله هكذا، كما تعلم أصحاب رسول الله.
    الأسئلة

    الموقف من الذهاب للجهاد في الوضع الحالي
    السؤال: يطلب من فضيلتكم أن تدعو الله له أن يوفق والديه بالسماح له بالجهاد؟! الجواب: هذا سؤال سياسي، وأقول: بالله الذي لا إله غيره لا يوجد اليوم جهاد في سبيل الله في العالم قط، وقد يقال: كيف -يا شيخ- تقول هذا الكلام؟ فأقول: الجهاد في سبيل الله أن يبايع المسلمون إماماً لهم، ويلتفون حوله، ويربيهم ويهذبهم، ويقودهم إلى الكمالات، ثم حين تزدهر ديارهم بالأنوار والصلاح والطهر ننقل هذا النور وهذه الهداية إلى إخواننا في البشرية، فترسو سفنهم عند شاطئ بلاد من البلاد، ويطالبونهم بالدخول في الإسلام، أو بالدخول في ذمة المسلمين، أو القتال والجهاد، فهل هذا موجود؟
    فعلتموه في الأفغان وعصيتم الرحمن، وقلنا: لا يجوز إلا أن تبايعوا وأن يؤمكم إمام واحد، وقلنا: هذا الجهاد فيه دخن، وأنتم تضحكون علينا، فما هي نتائجه؟ هل قامت دولة الإسلام؟ هل عبد الله عز وجل وحده؟ والبوسنة والهرسك وغيرها بدون إمام وإسلام، فوالله ما هو بالجهاد.
    الجهاد الذي تطلبونه هو أن يكون للمسلمين إمام، والمسلمون كلهم نور وهداية، وينقلون النور والهداية إلى الأمم الكافرة، ويقاتلونهم إذا رفضوا الدخول في الإسلام، أو يغزو عدو كافر بلاد الإسلام ليحطمها ويسقط رايتها، حينئذ يجب دفعه ورده وهو جهاد.
    أما هذه التخبطات وهذه الأفهام الباطلة فما نقول فيها: جهاد، جاهدوا أنفسكم أولاً، روضوها على الحب والولاء لله ورسوله والمؤمنين.
    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #365
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (50)
    الحلقة (464)
    تفسير سورة المائدة (57)


    الحواريون هم أتباع موسى الذين آمنوا به ونصروه، وهم هنا يطلبون من عيسى عليه السلام آية تدلهم على صدق نبوته، شأنهم في ذلك شأن كل بني إسرائيل، فطلبوا منه أن يدعو ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، لتكون عيداً لهم وآية دالة على وحدانية الله وعظمته، فاستجاب الله لهم وأنزلها عليهم؛ لكنه توعد من يكفر منهم بعدها فإنه سيعرض نفسه لعذاب لم يذقه أحد من قبل.
    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة المائدة نودعها، فنحن في آخر آياتها، والسورة مدنية، مباركة، ميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الأربع:
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:112-115]. ‏
    دلالة الأخبار القرآنية على صدق الرسالة المحمدية
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الأنباء، هذه الأخبار، هذه الأحاديث، هذه الأحداث من أين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يعرفها وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب وبلغ أربعين سنة ولم يعلم شيئاً؟إذاً: الإخبار بهذا والتحدث عنه في صدق دال دلالة قطعية على أن محمداً -والله- لرسول الله، وعلى اليهود والنصارى أن يؤمنوا، أن يصدقوا برسالته، ويدخلوا في ظل دينه لينجوا ويسعدوا، وإلا فهم خاسرون هالكون، يطلبون برهنة وتدليلاً على صدق نبوته، فهل يوجد دليل أكثر من هذا؟ من أعلمه؟ من حدثه بهذا؟ من كان حاضراً مع الحواريين وعيسى وهم يسألونه وهو يجيب؟ هذه وحدها تشهد أن محمداً رسول الله.
    اذكر يا رسولنا ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ )[المائدة:112]، والحواريون: هم أصحاب عيسى، كأصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعشرة المبشرين بالجنة وأهل بدر وأهل الإيمان والهجرة، الحواريون: جمع حواري، بمعنى: الناصر والمؤيد.
    ماذا قال الحواريون؟ قالوا: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:112]، نادوه باسمه العلم مضافاً إلى والدته مريم البتول العذراء بنت عمران، ومعنى مريم: الخادمة أو خادمة الله.
    توجيه سؤال الحواريين عن استطاعة الله تعالى
    قال الحواريون: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112]، واحتار الصحابة والتابعون والمفسرون في توجيه هذه الجملة، كيف يقولون: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112]؟ فهل الله عاجز وهو الذي خلق السماوات والأرض والجنة والنار والخلق كله، هل يقال: هل يستطيع أو لا يستطيع؟ ومن الأجوبة أن المراد من ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112]، أي: هل يطيعك فيما تطلب منه، كما تقول في الاستفعال: استخبرته، استنبأته هل يفعل؟ أي: طلبت منه أن يفعل كذا. استعملته أي: طلبت منه العلم، فـ(هل يستطيع) بمعنى: هل يطيعك الله فيما لو دعوته أن ينزل علينا مائدة من السماء، فلهذا قلنا معاني المفردات في الكتاب: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112]، أي: هل يطيع ويرضى لو طلبت منه هذا؟
    لأنه كيف يقولون لمن خلق السماوات والأرض والعوالم كلها: يقدر أو لا يقدر أن ينزل علينا مائدة، سفرة عليها خبز ولحم!
    فمن توجيهات الصحابة والتابعين أن ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112]، بمعنى: أيطيعك إذا أنت دعوته وطلبت منه أن ينزل علينا مائدة؟
    وقرئ: (هل تستطيع)، وهنا زال الإشكال، هل تستطيع أن تدعو ربك يا عيسى لينزل علينا مائدة من السماء، ولو كانت هذه القراءة قراءة مجمعاً عليها ما بقي إشكال، لكن القراءة التي عليها جمهور القراء هي: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112].
    وهنا شيء آخر أيضاً يصلح جواباً: وهو أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا من مكة مجاهدين يقاتلون المشركين في الطائف، ومروا بشجرة من السدر فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، كما قال قوم موسى لموسى: ( اجْعَل لَنَا إِلَهًا )[الأعراف:138]، بالأمس دخلوا في الإسلام وانتصر الإسلام وأضاءت الدنيا بنوره مشارقها ومغاربها ويقولون: اجعل لنا ذات أنواط! أي: شجرة نعلق بها رماحنا وسيوفنا ونتبرك بها لننتصر إذا قاتلنا! فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( سبحان الله! ما زدتم أن قلتم كما قال بنو إسرائيل لموسى: ( اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ )[الأعراف:138] )، لما نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق من البحر مشوا فإذا بقرية فيها من يعبد وثناً، فلما شاهدوا ذلك ( قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا )[الأعراف:138]، وهم مع موسى، فلا عجب أن يقول تلك المقالة لعيسى بعض أتباعه، وليس بشرط أن يكون الحواريون أنفسهم، بل من معهم من الجهلة ممن لم يعلموا بعد، يوجد بينهم من قال هذه الكلمة: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112]، ويؤيد هذا قوله لهم: ( اتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:112]، لو كان كلامهم ليس كفراً ولا محرماً لما قال لهم: اتقوا الله.
    تذكير عيسى عليه السلام قومه بتقوى الله تعالى
    إذاً: ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً )[المائدة:112]، ما هي المائدة؟ هي الخُوان، ويقال فيه: الخِوان أيضاً بالكسر والضم، وهو ما نسميه بالسفرة سواء كان عليها طعام أم لا. (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112]، من فوق من الملكوت الأعلى، فعيسى عليه السلام تأثر وقال: ( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:112]، فهذا القول ما يصدر عن المؤمنين، فكيف يصدر عنكم أنتم؟ ( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:112] في قولكم: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112]، وهذا المقام واضح.
    تفسير قوله تعالى: (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ...)
    فحاولوا أن يعتذروا فقالوا: ( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا )[المائدة:113]، قلوبنا ما اطمأنت ولا سكنت لأمور الغيب، ومن ذلك رؤيتهم لله عز وجل ودار السلام وما فيها ودار الشقاء وما فيها، هذه كلها من الإيمان، والرؤية لذلك تسكن بها القلوب وتطمئن النفوس، وهذا إبراهيم الخليل عليه السلام قال: ( أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )[البقرة:260]، هل كان إبراهيم يشك في أن الله يحيي الموتى؟ لا والله، وهو يشاهد الإحياء يومياً في المخلوقات، ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى )[البقرة:260]، أنا مؤمن، ( وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )[البقرة:260]، فالمشاهدة أقوى تأثير من التصديق بالقلب، فأنت تسمع بالمسجد النبوي وأنت في الهند أو في اليابان، وهذا سماع ما هو بيقين، لكن كونك فيه أعظم ما بقي ارتياب أو شك.
    إذاً: فأمر الله تعالى إبراهيم أن يأتي بطير ويذبحه ويوزع اللحوم ويناديها فتأتيه، ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[البقرة:260]، وفعل إبراهيم.
    إذاً: ( قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا )[المائدة:113] في إخبارك أنك نبي الله ورسوله وأنك تبلغ عنه، ( وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:113] على تلك المائدة ونحدث بها من بلغنا ومن سيبلغنا فيزداد إيمان المؤمنين.
    تفسير قوله تعالى: (قال عيسى ابن مريم اللهم أنزل علينا مائدة من السماء ...)
    إذاً: أجابهم عيسى: ( قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ )[المائدة:114]، أي: يا الله، فحذفت (يا) وعوض عنها الميم، والأصل: يا الله، كما تنادي: يا إبراهيم، ولكن الله عز وجل واسمه الأعظم: الله، فحذفت (يا) وعوضت عنها الميم في آخر الكلمة.والله عز وجل يسمع نداء كل مناد في أعماق الكون وفي أعلاه، يعلم السر والجهر، ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى )[طه:7]، فلهذا لا تقل: يا الله كما تنادي البعيد ليسمعك، قل: اللهم؛ فإنه قريب منك يسمع نداءك.
    (اللَّهُمَّ رَبَّنَا )[المائدة:114]، أي: يا ربنا، يا خالقنا، يا رازقنا، يا إلهنا الحق، يا معبودنا الذي لا يعبد سواه، يا مالك أمرنا! ( أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:114]، استجاب للحواريين؛ لأنهم اعتذروا فقالوا كذا وكذا، فقال: أبشروا، فرفع يديه إلى السماء، وورد أنه وقف يصلي وضم رجليه إلى بعضهما، ذكر هذا ابن كثير ؛ فلهذا من الأدب في الصلاة وأنت تتكلم مع الله أن تقف وقفة الخاضع الذليل المتأدب.
    قال: ( اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:114]، وعلل عليه السلام فقال: ( تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا )[المائدة:114]، واستجاب الله وبقي هذه العيد إلى اليوم في الربيع، فهناك عيد عند النصارى يسمونه شم النسيم، وعيد الفصح، والأصل هو عيد المائدة، والعيد من: عاد يعود إذا رجع، فكل عام يعود فهو عيد، وللمسلمين عيدان، والله ما هما إلا اثنان: عيد الأضحى وعيد الفطر، أو عيد رمضان وعيد الحج، يعودان كل سنة، والحمد لله؛ فعيدنا نحن نعبد الله تعالى فيه بالصلاة والصدقات والذكر والدعاء، وعيد النصارى يرقصون في الليل ويأكلون البقلاوة؛ لأنهم ضلال، أموات، فاسدون، هابطون، حتى لو كان عيداً كما كان فهو باطل نسخه الله لما طرأ على عباداتهم من الباطل، فلم يبق من دين حق يعبد به الله إلا هذا الدين، فلهذا هم خاسرون وهالكون.
    (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ )[المائدة:114] دالة على قدرتك وعظمتك وجلالك ووجودك وربوبيتك وإلهيتك وعلى شرعك وأنبيائك، هي أعظم آية.
    (وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ )[المائدة:114]، هنا لطيفة: لم قال: ( وَارْزُقْنَا )[المائدة:114]؟ كأنهم ما طلبوا إلا هذه المائدة فقط وبعد ذلك لا يأكلون ولا يشربون، فقال: ( وَارْزُقْنَا )[المائدة:114] طول حياتنا الطعام والشراب وكل ما نحتاج إليه وأنت خير الرازقين، وهذا أفضل من طلب المائدة فقط، واستجاب الله الرحمن الرحيم.
    تفسير قوله تعالى: (قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين)
    فاسمعوا إجابة الله: ( قَالَ اللَّهُ )[المائدة:115]، كيف قال هذا؟ بواسطة الوحي وهو إلقاء في روع عيسى، أو يهتف به هاتف كجبريل فيكلمه، إلا أنه لا يكلمه الله كفاحاً، وهذا لم يتم في الأرض إلا لموسى عليه السلام، وفي الملكوت الأعلى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما عدا هذا فالله يوحي ويأمر وينهى ويعلم ويبشر ويخبر بواسطة الوحي، وهي ثلاثة كما جاء في سورة الشورى: إما أن يرسل ملكاً يتكلم معه، وإما أن يلقي في روعه فيفهم عن الله عز وجل، أو يكلمه كفاحاً بدون واسطة، قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ )[الشورى:51]. إذاً: ( قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:115]، لأنهم طلبوا ما لم يطلبه الخلق، وأرادوا أن يشاهدوا المائدة من السماء تنزل ونزلت وهي لحم وخبز، لكن لا تفهم من اللحم أنه كلحمنا هذا وخبز كخبزنا، لا بد أنه من أجود ما يكون من اللحم والخبز، ما هناك مرق ولا فاكهة، بل خبز ولحم.
    فاسمعوا هذا الإعلام الإلهي: فالذين طالبوا بالمائدة واستجاب الله لهم توعدهم الله بأن من كفر يعذبه عذاباً لا يعذب مثله أحداً من العالمين، فالكفر كفران، فالذي يكون من أهل الإسلام والإيمان ويكفر ارتد هل كفره ككفر شخص ما عرف الله ولا الرسول؟ كلا. كما أن سخط الله وغضبه على العالم ليس كسخط الله وغضبه على الجاهل.
    فكذلك هؤلاء شاهدوا آية من آيات الله، الطعام ينزل من السماء وهم يشاهدون بين أيدهم، فمن ينكر ويكفر ويخرج عن دين الله يعذب عذاباً لم يعذب قط بمثله.
    وجاء أيضاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم أن هناك أيضاً من يعذب هذا العذاب:
    أولاً: آل فرعون؛ إذ قال تعالى: ( أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )[غافر:46].
    والصنف الثاني: المنافقون منا؛ إذ قال تعالى: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ )[النساء:145].
    فهيا أسمعكم التلاوة: ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:112-115].
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات
    والآن نستمع إلى شرح الآيات في التفسير.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ معنى الآيات:
    يقول تعالى لعبده ورسوله عيسى: واذكر ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّين َ )[المائدة:111] ]، هذا التوجيه معناه أن هذه الآيات لها اتصال بما سبق، فقد تكلم عيسى في عرصات القيامة، فالله يسأل وهو يجيب، كذلك هذا يحدث في عرصات القيامة والكلام متصل، وهذا وجه محمود، ولا نقول: هذا كلام مستأنف، بل مرتبط بالأول، وهذا علامة على أن محمداً رسول الله، فكيف يخبر عن هذا الغيب ويتحدث بهذه الأحداث التي وقعت منذ مئات السنين إن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
    [ يقول تعالى لعبده ورسوله عيسى: واذكر ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّين َ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ * إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:111-112]، ولما كان قولهم هذا دالاً على شك في نفوسهم وعدم يقين في قدرة ربهم قال لهم عيسى عليه السلام: ( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:112]، فلا تقولوا مثل هذا القول.
    فاعتذروا عن قولهم الباطل ( قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:113] أنها نزلت من السماء بسؤالك ربك ذلك، وهنا ( قَالَ عِيسَى )[المائدة:114] عليه السلام داعياً ربه ضارعاً إليه: ( اللَّهُمَّ )[المائدة:114]، أي: يا الله! ( رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا )[المائدة:114]، أي: للموجودين الآن منا، ( وَآخِرِنَا )[المائدة:114]، أي: ولمن يكون بعدنا ( وَآيَةً مِنْكَ )[المائدة:114]، أي: وتكون آية منك، أي: علامة على وحدانيتك وعظيم قدرتك، وعلى صدقي في إرسالك لي رسولاً إلى بني إسرائيل
    (وَارْزُقْنَا )[المائدة:114]، وأدم علينا رزقك وفضلك، ( وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ )[المائدة:114].
    فأجابه تعالى قائلاً: ( قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ )[المائدة:115]، وحقاً قد أنزلها، ( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ )[المائدة:115] يا بني إسرائيل السائلين المائدة بأن ينكر توحيدي أو رسالة رسولي أو عظيم قدرتي؛ ( فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:115]، ولذا مسخ من كفروا منهم قردة وخنازير ]، الذين كفروا بعد هذا مسخوا قردة وخنازير، إذ مسخوا على عهد داود وعيسى ابن مريم.
    هداية الآيات
    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات ]، فهيا نأخذ ما فيها من الهداية؛ لنستعين بذلك على مسيرنا إلى الله عز وجل ونحن أطهار أصفياء.
    قال: [ من هداية الآيات:
    أولاً: جفاء اليهود وغطرستهم وسوء أدبهم مع أنبيائهم ]، فالحواريون يهود أم لا؟ أليسوا هم من بني إسرائيل؟
    إذاً: يستفاد من هذه الآية [ جفاء اليهود ] والجفاء: الغلظة والقسوة، [ وغطرستهم وسوء أدبهم مع أنبيائهم؛ إذ قالوا لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ )[المائدة:24] ]، وهل هناك جفاء وغطرسة أكثر من هذا؟ قالوا: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ )[المائدة:24]، ما نستطيع أن نقاتل العمالقة، فاذهب أنت وربك وقاتلا، هذه مقالة كفرية ما فقهوها، لكن لجهلهم وظلمة نفوسهم؛ لأنهم تربوا في حجور الفاسدين والهابطين.
    قال: [ وقالوا لعيسى: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112] ]، أليس هذا من الجفاء والغطرسة والغلظة؟
    [ ثانياً: في قول عيسى لهم: ( اتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:112] دال على أنهم قالوا الباطل ].
    معشر المستمعين! كررنا القول: بم يتقى الله؟ أنت تقول لي: يا فلان! اتق الله، فبأي شيء نتقيه؟ هل بالجيوش الجرارة؟ بالأنفاق في أعماق الأرض؟ بالهرب في الجبال ورءوسها، بم يتقى الله؟ أنا أتقي الشمس بالمظلة وأتقي الجوع بالخبز والماء، وأتقي البرد بالكساء، والله يتقى بماذا عندما تريد أن تتقي الله؟ لا يتقى الله بشيء إلا بطاعته وطاعة رسوله، أي: بفعل ما يأمران به وترك ما ينهيان عنه، ولا يتقى الله بشيء غير هذا؟
    أنا أريد أن أتقي الله فتعلمت الليلة أن أطيعه في أمره ونهيه، أفعل الأمر وأترك النهي، لكنني ما عرفت الأوامر هذه، كيف نفعل؟ علموني؟ الجواب: عليك بفلان اقرع بابه وقل له: علمني أوامر الله التي أمرني بها، وبين لي نواهيه التي نهاني عنها، وبذلك تستطيع أن تتقي الله، أما كونك تعرف تقوى الله بطاعته وطاعة رسوله فلا يكفي، لا بد من معرفة ما هي الأوامر التي تطيع فيها، وما هي النواهي التي تطيعه فيها بتركها.
    خلاصة القول: لن تستطيع أن تتقي الله ما لم تعلم، لن تستطيع يا ابن آدم أن تتقي الله ما لم تعلم أوامره وكيف تؤديها، ونواهيه وكيف تتجنبها، فطلب العلم فريضة، لا بد من هذا، وهل يستطيع عبد أن يكون ولياً لله وهو لا يعرف تقوى الله؟ مستحيل أن تكون ولي الله وأنت لا تتقيه.
    قال: [ في قول عيسى لهم: ( اتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:112] دال على أنهم قالوا الباطل، كما أن قولهم: ( وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا )[المائدة:113] دال على شكهم وارتيابهم.
    ثالثاً: مشروعية الأعياد الدينية لعبادة الله بالصلاة والذكر؛ شكراً لله تعالى، وفي الإسلام عيدان: الأضحى والفطر ]، لا غير، لا رجبية ولا مولد.
    [ رابعاً: من أشد الناس عذاباً يوم القيامة: آل فرعون، والمنافقون، ومن كفر من أهل المائدة ]، قال تعالى: ( أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )[غافر:46]، وقال: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا )[النساء:145]، وقال: ( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:115].
    وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #366
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (51)
    الحلقة (465)
    تفسير سورة المائدة (58)





    أفرط النصارى في رفع عيسى عليه السلام حتى اتخذوه إلهاً من دون الله، ويوم القيامة يوقفه الله عز وجل ويسأله -سؤال المبكت للنصارى على فعلهم- عن صحة ما فعلوه من تأليهه وعبادته من دون الله، وموقفه عليه السلام من ذلك، حتى يقيم الحجة على النصارى الكاذبين، ويرفع مقام نبيه الصادق الأمين.

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع خاتمة سورة المائدة المباركة، الميمونة، نودعها في ليلتنا هذه وعسى الله أن يردنا إليها إن أطال أعمارنا مرة أخرى، وهو على كل شيء قدير، ومعنا خمس آيات، فهيا نتلوها متدبرين، متفكرين، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[المائدة:116-120].
    قول ربنا: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ )[المائدة:116]، أي: اذكر يا رسولنا، يا خاتم أنبيائنا، يا محمد صلى الله عليه وسلم، اذكر: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:116]، وذلك في عرصات القيامة، ما هو في هذه الحياة، وذلك يوم يبعث الله الخلائق.
    وما قال: وإذ يقول الله، وإنما: اذكر إذ يقول الله، فهذا أمر متحقق مقطوع الوجود يعبر بالماضي عنه لا بالمضارع، ومثله: ( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ )[النحل:1]، وهو قيام الساعة.
    تبكيت الله للنصارى بسؤاله لعيسى عليه السلام عن تأليههم له
    اذكر ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:116]، قال له مستفهماً إياه ليبكت النصارى وليذلهم ولتقوم الحجج أمام العالم الموجود عليهم: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ )[المائدة:116]، وحاشا عيسى أن يقول ذلك، ولكنه التوبيخ والتقريع والتأنيب لأولئك الذين ألهوا عيسى وأمه وعبدوهما من دون الله، أما عيسى فقد تقدم خبره: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ )[المائدة:72]، هذا فيه تقريع وتأنيب وإقامة الحجة أمام العالم والمخلوقات يومئذ على هؤلاء عبدة المسيح، وعلى الكافرين به من اليهود، ولو كانت الهداية بيد الإنسان لما وجد يهودي ولا نصراني يسمع هذه الآيات إلا قال: آمنت بالله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لكن الله يدخل في رحمته من يشاء.
    رد مزاعم النصارى في نفي تأليههم لمريم عليها السلام
    (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ )[المائدة:116]، من أم عيسى؟ مريم البتول العذراء، ويوجد الآن من يقول: نحن ما ألهنا مريم ، ووالله! لقد ألهها مئات بل ملايين منهم، والله أخبر وهو العليم الخبير، والله! لقد اتخذوها إلهاً مع الله، وإن لم يتخذها هؤلاء الفلانيون فهؤلاء اتخذوها، وهم اثنتان وسبعون طائفة.واتخاذهم لها إلهاً بمعنى: أنهم عبدوها، يقدسون اسمها ويرقصون ويدعون ويستغيثون به، هذا هو التأليه، هذه هي العبادة، فالذين ضلوا من أمة الإسلام عندما يقدسون الأولياء ويدعونهم ويستغيثون بهم ويرفعون أصواتهم أليس ذلك هو التأليه والعبادة؟ والله! إنه لهو التأليه والعبادة، يقولون: ما ألهناهم أبداً، ما اتخذنا عبد القادر إلهاً مع الله. ووالله! لقد اتخذتموه إلهاً ما دمتم تستغيثون به، تقولون: يا راكب الحمراء.. يا مولى بغداد.. يا سيدي عبد القادر وأنت في الغرب والشرق، تدعونه دعاء الله وتقولون: ما عبدناه؟ أية عبادة أعظم من هذه؟ وتقول: هذه الشاة لسيدي عبد القادر ، هذه البيضة لسيدي عبد القادر ، والمرأة تريد أن تنتج الدجاجة فتأتي بالبيض الملقح وتضع عشر بيضات تحت الدجاجة وتعلم على واحدة بالفحم الأسود وتقول: هذه لسيدي عبد القادر ؛ حتى يبارك الجميع ويخرج الدجاج، من إندونيسيا إلى موريتانيا هذا هو الحال، هبطت هذه الأمة أكثر من ثمانمائة سنة.
    والشاهد عندنا في تأليههم لعيسى ومريم ، ولا يقل قائل: ما ألهنا مريم ؛ فقد عبدتموها، ما قلتم فيها: إله، بل قلتم: أم الإله، ولكن دعاؤها والاستغاثة بها والذبح لها والركوع والانحناء وتعليق صورتها هذه هي العبادة، هذا هو التأليه. والشاهد عندنا أنه قد يقول قائل: ما ألهنا مريم. والله يقول -وقوله الحق- في عرصات القيامة: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[المائدة:116].
    جواب عيسى عليه السلام عن سؤال ربه عز وجل
    فقال عيسى: ( سُبْحَانَكَ )[المائدة:116]، تنزيهاً لك وتقديساً عن أن يعبد معك غيرك، ما يكون لي أبداً وليس من شأني أن أقول ما ليس لي بحق، وهل لي من حق في أن أعبد أنا؟ فهل أنا خلقت، هل أنا رزقت، هل أنا أمت، هل أنا أحييت؟ كيف يكون لي حق العبادة، إذ العبادة تكون بالحق؟ فالذي خلقك ورزقك وحفظ حياتك وأوجد الكون كله هذا يستحق عبادتك، أما الذي لا دخل له فيك أبداً فكيف تعبده؟ (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ )[المائدة:116]، كوني أقول للناس: ألهوني أو ألهوا أمي ما عندي حق بهذا، إنما يعبد الله عز وجل بحق إيجادنا وحفظنا وامتداد حياتنا وخلق الحياة كلها من أجلنا، هذا يستحق أن يعبد، أما الذي ما خلق ولا رزق ولا أمات ولا أحيا ولا أصح ولا أمرض فكيف يعبد؟ بأي حق؟
    ثم قال: ( إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ )[المائدة:116]، من باب الفرض والتقدير، والعالم كله يسمع في عرصات القيامة، ( إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ )[المائدة:116]، أي: هذا القول، وهو أني قلت للناس: ألهوني ووالدتي، إن كنت قلته فأنت تعلمه، وزيادة أنك ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي )[المائدة:116]، إن كنت أخفي شيئاً ولا أظهره فأنت تعلم ما في باطن نفسي، ( وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ )[المائدة:116]، فسرك لا أعرفه وأما سري أنا فإنك تعرفه، ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:116]، هذا التذييل: ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:116]، الغيوب كلها أحاط بها علم الله عز وجل، وكيف لا وهو خالقها، من النملة إلى كوكب السماء، كل الخلق مخلوق لله، ألا يعلم من خلق؟ أيخلق الشيء ولا يعلمه؟ كيف يقع شيء ويقال: غاب عن الله وهو خالقه؟
    (مَا قُلْتُ لَهُمْ )[المائدة:117] يا رب ( إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ )[المائدة:117]، الذي أمرتني أن أقوله لهم قلته، والذي ما أمرتني أن أقوله ما قلته، أنا عبدك ورسولك، والذي أمره الله أن يقوله هو: ( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:117]، (أن) التفسيرية، أي: اعبدوا الله ربي وربكم، هذا الذي قلته، هذا الذي أمر الله به عيسى وأمر به رسوله محمداً وكل المرسلين، كل رسول يقول للناس: ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:117]، فكيف نعبده؟ أي: عظموه وأطيعوه وأحبوه وخافوه وارهبوه، ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ )[المائدة:117]، وهو: ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:117]، اعبدوه بتعظيمه وإجلاله وإعظامه والرهبة منه والخوف، وطاعته فيما يأمر وفيما ينهى.
    (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ )[المائدة:117]، لما كنت حياً بينهم موجوداً فيهم كنت شاهد على ما يقولون وما يعملون، فلما توفيتني توليت أنت ذلك، هذه التوفية هي توفيته الأيام التي كتب له أن يعيشها في الدنيا، ثم رفعه إلى الملكوت الأعلى، تقول: وفيت فلاناً دينه: أعطيته حقه، وفيته ما وعدته به، فالله عز وجل وفى عيسى ما كتب له أن يعيش في الدنيا آمراً ناهياً رسولاً في بني إسرائيل ثلاثاً وثلاثين سنة ثم رفعه، ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي )[المائدة:117] وفيتني أيامي التي كتبتها لي. وسوف ينزل عما قريب ويعيش إن شاء الله ثلاثين سنة أخرى، وهو الذي يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، هذه الأخبار شاهدة صادقة والذي ينكرها يكفر، وفي القرآن الكريم: ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ )[الزخرف:61]، ذكر أن عيسى علم على الساعة، ساعة نهاية هذه الحياة، ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا )[الزخرف:61].
    إذاً: ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ )[المائدة:117] بعد ذلك ( أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )[المائدة:117]، هو مطلع وعالم بحالهم.
    تفسير قوله تعالى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)
    ثم قال عليه السلام: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ )[المائدة:118]، والمالك لهم، والسيد عليهم، أنت خالقهم، ومن يعترض على الله؟ إذا كنت تملك شاة تريد أن تذبحها فهل هناك من يقول: لا تذبحها؟ أنت المالك، ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ )[المائدة:118]، وأنت المالك لهم فافعل ما تشاء، ( وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، العزيز: الغالب الذي لا يمانع في مراده، والحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه، فهو تعالى يغفر للمذنبين غير المشركين، يغفر للمذنبين الذين أذنبوا من غير المشركين، أما الذين ماتوا على الشرك والكفر فهم آيسون قانطون، والله أخبر في غير آية، ورسله صرحت بذلك، فعيسى نفسه قال: ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ )[المائدة:72]، والتحريم: المنع الكامل.إذاً: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ )[المائدة:118]، من يعترض عليك؟ ( وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، تقدر على ذلك وتغفر لمن يستحق المغفرة؛ لأن الحكيم يضع الشيء في موضعه.
    إذاً: فبنو إسرائيل الذين بعث فيهم عيسى وجد منهم المسلمون المؤمنون كالحواريين وغيرهم، وفيهم المذنبون، فهؤلاء يغفر لهم ويرحمهم، أما من كفروا وماتوا على الشرك والكفر فهم آيسون قانطون، وهذا مجرد اعتذار من عيسى لربه وتفويض الأمر إلى الله، يقول: أنا كنت معهم كذا وكذا، وقد دعوتهم إلى ما أمرتني به، ثم توفيتني وأنت بعد ذلك الرقيب الشاهد عليهم، فإن تعذب عبادك وإن تغفر ( فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، موقف عظيم يقفه عيسى، وكيف لا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهذا أين يتم؟ في عرصات القيامة، في الساحة العظمى حين يأتي الرب ويحكم بين الناس.
    تفسير قوله تعالى: (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ...)
    فأجابه الرحمن فقال تعالى: ( قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )[المائدة:119]، أهل الإيمان والعمل الصالح، الصادقون في إيمانهم وصالح أعمالهم في هذا اليوم ينفعهم صدقهم، والكاذبون المشركون والعابثون يا ويلهم، هذا اليوم يوم اجتماع الخليقة لفصل القضاء، ( يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )[المائدة:119]، فادعوا الله أن نكون منهم؟ فاللهم اجعلنا منهم.والصادقون: جمع صادق، الصادق في إيمانه وفي عمله، لا ريب ولا شك ولا شيء يختلج في النفس، صدقه كامل وسلوكه كامل وتام.
    إذاً: ( هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )[المائدة:119]، بيان ذلك: قال تعالى: ( لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا )[المائدة:119]، من أعلن عن هذا النعيم؟ الرب تبارك وتعالى، الله الذي قال هذا، ( يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا )[المائدة:119] بلا نهاية.
    وأنهار الجنة أربعة، هذه الأنهار تجري تحت الأشجار والقصور، قال تعالى: ( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ )[محمد:15]. ‏
    فوز الصادقين برضوان الله
    ثم ختم تعالى هذا الإنعام بما هو أعظم من الجنة ونعيمها: ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[المائدة:119]، نعيم الجنة مهما كان لا يساوي رضا الله عز وجل. وقد مثلنا لإخواننا حتى يفهموا -وكلنا عوام وأشباه عوام- فقلنا: أنت ينزلك شخص منزله ويكرمك بالطعام والشراب وهو ساخط غضبان عليك، مكشر في وجهك عابس مقطب الجبين، فهل ستسعد؟ ستمل هذا النعيم مهما كان، لكن إذا كان راضياً عنك، يبتسم في وجهك ويناديك بأحسن أسمائك وإن قل الطعام والشراب فأنت في رضا وفي سعادة، فلهذا كان رضا الله أعظم نعيم الجنة، ولهذا ختمه بقوله: ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )[المائدة:119]. والنعيم الآخر هو أن يكشف عن وجهه الحجاب ويريهم وجهه الكريم فتغمرهم فرحة ما عرفوا مثلها قط.
    (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )[المائدة:119]، قال تعالى: ( ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[المائدة:119]، ما قال: هذا الفوز العظيم؛ لأنه عال، فلذلك قال: ( ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[المائدة:119]، ما هو الفوز بالشاة والبعير والمرأة والولد والوظيفة والمنصب، فما هذا بشيء، الفوز العظيم: أن تنجو من عذاب الله وتدخل الجنة دار الكرامة مع أولياء الله، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )[آل عمران:185]، بيان ذلك: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )[آل عمران:185]، ومن أدخل النار وأبعد عن الجنة فقد خاب وخسر، فمن منا يرغب في أن يفوز؟ كلنا ذاك الرجل. فما الطريق؟ الطريق هو أن نعمل في صدق على تزكية نفوسنا وتطهير أرواحنا؛ لقوله تعالى في قضائه وحكمه: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، هنا تقرير المصير ليوم القيامة.
    يا أمة الله! اعملي على تزكية نفسك. وإن قلت: كيف أزكيها؟ فاسألي أهل العلم يعلموك، وإن كنت تريدين الخبر الآن فآمني بالله وبكل ما أمر الله بالإيمان به، ثم اعملي الصالحات التي هي الصلاة وما إليها من العبادات، وابتعدي عما يدسي نفسك من الشرك والمعاصي، وإن زلت قدمك وسقطت على ذنب فعلى الفور اصرخي بكلمة: أستغفر الله.. أستغفر الله وأتوب إليه، ولا تزالين تبكين وتدعين حتى يزول ذلك الأثر، وحافظي على هذا حتى الوفاة.
    تفسير قوله تعالى: (لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير)
    ثم قال تعالى: ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ )[المائدة:120]، كل شيء لله، الجنة والنار والكفار والمؤمنون والعوالم كلها لله؛ إذ هو خالقها وموجدها، كان الله ولم يكن شيء منها، فله ملك السماوات والأرض، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، يعز من يشاء ويذل من يشاء، يزكي من يشاء ويضل من يشاء. وعلمنا أن مشيئته تابعة لحكمته، ما هي مشيئة هوجاء كمشيئتنا، إذ هو الحكيم، يشاء رحمة عبد أقبل عليه واطرح بين يديه يبكي بين يديه.
    (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ )[المائدة:120] من خلائق، أما الملائكة فقد عرفنا، فالسماوات السبع تئط بالملائكة.
    (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[المائدة:120]، ما من شيء أراده إلا قدر على إيجاده، فلهذا ادعه واسأل ما شئت مما هو خير لك، فالله لا يعجزه شيء، لكن لا تتنطع وتغل في الأسئلة تقول: يا رب! ارزقني أولاداً صالحين وأنت لم تتزوج وعندك المال وأبيت أن تتزوج، هذا السؤال بدعة وباطل، تقول: يا رب! فقهني في الدين وأنت في المقاهي، ولا تجلس أبداً بين عالم تتعلم عنه، فكيف يفقهك في الدين؟
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات
    ولنستمع إلى الشرح الذي هو في التفسير زيادة لعلمنا. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ معنى الآيات: يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر لقومك ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ )[المائدة:116] تعالى يوم يجمع الرسل ] في عرصات القيامة [ ويسألهم: ماذا أجبتم؟ ويسأل عيسى بمفرده توبيخاً للنصارى على شركهم: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي )[المائدة:116]، أي: معبودين؟ يقرره بذلك، فينفي عيسى ذلك على الفور ويقول منزهاً ربه تعالى مقدساً: ( سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ )[المائدة:116]، ويؤكد تفصيه] وخروجه [ مما وجه إليه توبيخاً لقومه: ( إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ )[المائدة:116] يا ربي، إنك ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي )[المائدة:116]، فكيف بقولي وعملي ] إذا عملت؟ فهو من باب أولى، [ وأنا ( وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ )[المائدة:116]، إلا أن تعلمني شيئاً، لأنك ( أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ )[المائدة:116-117] أن أقوله لهم، وهو: ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا )[المائدة:117]، أي: رقيباً، ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي )[المائدة:117] برفعي إليك ( كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ )[المائدة:117]، ترقب أعمالهم وتحفظها لهم لتجزيهم بها، ( وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )[المائدة:117]، أي: رقيب وحفيظ.
    (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ )[المائدة:118]، أي: من مات منهم على الشرك بأن تصليه نارك فأنت على ذلك قدير، ( وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ )[المائدة:118]، أي: لمن مات على التوحيد فتدخله جنتك فإنه لذلك أهل ( فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ )[المائدة:118] الغالب على أمره، ( الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، الذي يضع كل شيء في موضعه، فلا ينعم من أشرك به ولا يعذب من أطاعه ووحده.
    فأجابه الرب تبارك وتعالى قائلاً: ( قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )[المائدة:119]، صدقوا الله تعالى في إيمانهم به فعبدوه وحده لا شريك له ولم يشركوا سواه، ونفعه لهم أن أدخلوا به جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لا يخرجون منها أبداً، مع رضا الله تعالى عنهم ورضاهم عنه بما أنعم به عليهم من نعيم لا يفنى ولا يبيد، ( ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[المائدة:119]، إنه النجاة من النار ودخول الجنات.
    وفي الآية الأخيرة يخبر تعالى أن له ( مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ )[المائدة:120] من سائر المخلوقات والكائنات خلقاً وملكاً وتصرفاً يفعل فيها ما يشاء فيرحم ويعذب، ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[المائدة:120]، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ].
    هداية الآيات
    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [هداية الآيات:
    من هداية الآيات:
    أولاً: توبيخ النصارى في عرصات القيامة على تأليه عيسى ووالدته عليهما السلام.
    ثانياً: براءة عيسى عليه السلام من مشركي النصارى وأهل الكتاب.
    ثالثاً: تعذيب المشركين وتنعيم الموحدين قائم على مبدأ الحكمة الإلهية ]، فالنفس الزكية يرحمها والخبيثة يعذبها.
    [ رابعاً: فضيلة الصدق وأنه نافع في الدنيا والآخرة، وفي الحديث الصحيح: ( عليكم بالصدق؛ فإنه يدعو إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) ]، والعياذ بالله.
    [ خامساً: سؤال غير الله شيئاً نوع من الباطل والشرك ]، طلب شيء من غير الله ممن لا يملك ذلك شرك والعياذ بالله تعالى؛ لأن غير الله لا يملك شيئاً، [ ومن لا يملك كيف يعطي ومن أين يعطي؟ ].
    أقول: الذين يسألون الموتى والغائبين والأحجار والكواكب والأنبياء هؤلاء يسألون من لا يسمع دعاءهم ولا يجيب نداءهم، فهذا السؤال شرك والعياذ بالله، وهم مؤلهون لمن سألوه ودعوه، أما أن تسأل أخاك وهو إلى جنبك أو على مقربة منك ويسمع صوتك ويقدر على أن يعطيك فلا بأس، أذن الله لنا في هذا ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى )[المائدة:2]، لكن كونك تأتي إلى خربة من المباني ما فيها أحد وتقف عند الباب: يا أهل الدار! أعطونا، أغنونا، أشبعونا؛ فإنك تضحك الناس عليك؛ لأن الدار ما فيها أحد، هي خربة من الخرائب، فالذي يقف أمام قبر علي أو فاطمة أو الرسول ثم يقول: يا رسول الله.. يا فلان! أعطني؛ والله لقد أشرك في عبادة الله؛ لأن الذي تدعوه معناه: أنك أعطيته منزلة الله، أصبح يسمع ويرى ويقدر على أن يعطي ويمنع وهو غائب عن الناس، فكيف يصح هذا؟
    فالله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعليهم، وأن يوفقنا وإياهم لما فيه حبه ورضاه.
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #367
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (6)
    الحلقة (366)
    تفسير سورة المائدة (59)


    الوضوء شرط من شروط صحة الصلاة فريضة كانت أو نافلة، فلا تصح صلاة بدون طهارة، لذلك فقد ذكر الله عز وجل في كتابه صفة هذه الطهارة، وهي أن يغسل المرء وجهه مع ما يشمله من مضمضة واستنشاق، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، ثم يمسح برأسه مع الأذنين، ثم يغسل الرجلين مع الكعبين، وبذلك يكون قد أتم الوضوء.
    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل.
    وها نحن مع سورة المائدة المباركة المدنية الميمونة، وقد تساءل بعض المستمعين وقالوا: ما تأكدنا من صحة ما فهمنا من آيتي البارحة، فإليكم معاشر المستمعين والمستمعات بيان تلك الأحكام مرة أخرى.
    تحليل الله تعالى لعباده طيب المآكل وتحريم الخبيث كالميتة ونحوها
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4].هذه الآية الكريمة أولى الآيتين، وقد روي أن عدي بن حاتم الطائي وزيد الخير سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أحل لهم من الصيد، فأجابهم الله تعالى بقوله: ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4]، فكل طيب لذيذ ما فيه جراثيم ولا ميكروبات ولا تعفن ولا أذى فهو حلال، كل وسم الله تعالى.
    أما العشرة المحرمات فهي خبيثة، وهي المذكورة في الآية التي قبلها: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3]، هذه العشر محرمات، وما عداها طيبات.
    تحليل أكل صيد الحيوان المعلم بشروطه
    ثم أعطانا الله عز وجل نعمة أخرى فقال: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4]، فالمراد من هذا: أن يكون لك كلب من كلاب الصيد، أو يكون لك حيوان غير الكلاب كالفهود والسباع، روضتها ومرنتها فأصبحت تصيد لك، أو يكون لك فهد أو طير من الطيور كالبازات، هذه إذا أنت علمتها وأصبحت تطيعك وتصيد لك فباسم الله استعملها، أرسلها وقل: باسم الله عند إرسالها، سواء كانت كلباً من كلاب الصيد، أو كانت سبعاً من السباع، أو كانت طيراً من الطيور.(وَمَا عَلَّمْتُمْ )[المائدة:4] على شرط أن تعلم هذا الحيوان، وعلامة أنه تعلم أنك إذا أرسلته ينطلق، وإذا دعوته يرجع إليك، أما إذا قلت له: ائتني بكذا وما تحرك، أو يمشي ثم يرجع، فمعناه أنه ما تعلم، هذا لو صاد لا يحل أكل صيده إلا إذا وجدته حياً وذكيته.
    أما الذي علمته فتعلم وأصبحت إذا أرسلته ينطلق، وإذا دعوته رجع فهذا قل: باسم الله عند إرساله فقط، فإذا هو صاد غزالاً أو ظبياً أو حيواناً وأكل منه فلا يحل لك؛ لأنه ما صاد لك، صاد لنفسه، والله يقول: ( مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4] لا عليهن، فإن فرضنا أنه جرح هذه الغزالة، وأدركتها حية مستوفية الحياة كما تقدم فذكها وكل، أما إذا أدركتها قد ماتت وقد أكل منها فهي جيفة منتنة لا تحل لك: ( مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4].
    فحيوانات الصيد أبرزها الكلاب المعدة لذلك، يقال فيه: الكلب السلوقي، نوع خاص، هذا الكلب السلوقي إذا علمته يوماً بعد يوم أصبح طوع يدك، إذا قلت له: اذهب ذهب، إذا قلت له: ائت أتى، إذا قلت له: قف وقف! وهذا كله ممكن وواقع.
    هذا الذي علمته وأصبح مكلباً معلماً إذا أرسلته على حيوان تريد صيده ينبغي أن تقول: باسم الله اذهب، لا بد من ذكر اسم الله، فإذا كان معلماً وسميت الله عز وجل ولم يأكل من ذاك الحيوان حل لك أكله، فإن أكل منه فقد صاده لنفسه لا لك، فإن فرضنا أنه وجدت الحياة مستقرة فيه وذكيته فلك ذلك، فإن وجدته قد مات فلا يحل أكله.
    أما إذا كان معلماً وسميت الله تعالى وأرسلته فانطلق وأخذ الحيوان وقتله، ولكن ما أكل منه، فهذا إن وجدته ميتاً فهو حلال لك، وذلك لحديث الصحيحين، ففي البخاري ومسلم : ( إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله عليه ) عند الإرسال ( فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة ).
    يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم معلماً كما في البخاري ومسلم: ( إذا أرسلت كلبك المعلم ) بهذا الشرط، ثانياً: ( فاذكر اسم الله عليه عند إرساله، فإن أمسك عليك ) لأنه إذا أمسك علي صاحبه فإنه يقف عند الصيد، أو يمسكه ويبقى ينتظرك، أو يحمله ويأتي به إليك، لكن إذا أمسك على نفسه هو فسوف يأخذ في أكله، ( فإن أمسك عليك فأدركته حياً ) فلا تنتظر حتى يموت، تقول: آكله، لا يجوز؛ لأنك أدركته حياً فذكه، لكن لو أدركته ميتاً وبالشروط الثلاثة فهو حلال.
    قال: ( فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله )، أما إذا أكل فمعناه: أنه ما صاده لك، ما هو بمعلم، ( فإن أخذ الكلب ذكاة )، قتل الكلب له ذكاته.
    المعنى الإجمالي لقوله تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم ...)
    يقول تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ )[المائدة:4] أي: أجبهم يا رسولنا. ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4] الفواكه، الخضار، اللحوم، كل الطيبات، لكن كل واذكر اسم الله واحمده في النهاية، كل أكل لا بد أن تستفتحه باسم الله، وأن تختمه بحمد الله.(وَمَا عَلَّمْتُمْ )[المائدة:4] أي: وأحل لكم ما أحل لكم ( مِنَ الْجَوَارِحِ )[المائدة:4]، الجوارح: جمع جارحة وهي التي تجرح، أي: تكتسب، الكلاب السلاقية والبازات والفهود وبعض الحيوانات التي يصيدون بها، مرنوها وروضوها وأصبحت تستجيب لهم.
    (مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4]حال كونكم مكلبين، أي: معلمين، ( تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:4] ما الذي علمنا الله؟ علمنا كيف نعلم الحيوانات، ( فَكُلُوا )[المائدة:4] إباحة وإذن، ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4] أما الذي أمسكنه عليهن فلا يحل لكم، وكيف نعرف أنها أمسكت لها؟ إذا وجدتها تأكل من الصيد فقد صادت لنفسها، ما هي بمعلمة، أما إذا ضربتها ووقفت عندها ولو ماتت فهي حلال بإذن الله عز وجل وإذن رسوله صلى الله عليه وسلم.
    (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4] متى؟ عند إرسال الكلب، أو إرسال الرصاصة، أو إرسال الآلة التي تصيد بها، فإن أدركت ذلك الحيوان حياً فاذبحه، لا تقل: أنا صدت وضربه الكلب وتتركه يموت، لا بد من تذكيته لأنه حي، لكن إن أدركته قد مات فكله.
    وقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:4] أي: فيما أحل لكم وحرم عليكم، في هذه التعاليم الدقيقة راقبوا الله، وائتوا بها على الوجه المطلوب، فلا يحل لك أن تأكل حيواناً إلا إذا توافرت شروط الإذن من الله عز وجل.
    أما الأربعة الأولى: الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله وذكر عليه اسم غير اسم الله؛ فهذه لا خلاف فيها، فهي بالإجماع محرمة، يبقى الصيد له أهله ورجاله، فالذي تعلم وتدرب وأصبح يعرف كيف يرسل البازي أو العقاب أو الفهد من الطيور، وكيف يأتي له بالأرنب أو بالطير، إذا علمه وعرف أنه متعلم فحينئذ يقول: باسم الله ويرسله، فإن وجده أكل مما صاده فلا يحل أكله، فإن أدركه حياً كامل الحياة ذبحه وأكله، فإن أدركه ميتاً والكلب ما أكل منه أكله وإن وجدته ميتاً.
    هذا ما دلت عليه الآية الأولى، وهي قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4].
    التحليل العام للطيبات وطعام أهل الكتاب
    في الآية الثانية يقول تعالى: ( الْيَوْمَ )[المائدة:5] من أواخر أيام الحياة النبوية، وذلك في عرفة، ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:5] عموماً ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، والذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى فقط، وإن نحن أضفنا إليهم المجوس فمن أهل العلم من يقول: المجوس كان لهم كتاب، لكن الذي عليه أكثر أهل العلم أنهم اليهود والنصارى فحسب.(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:5] فاحمدوا الله، وكذلك ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، يجوز أن يستدعيك يهودي أو نصراني على غداء أو عشاء فتأكل، لكن إن قدم لك لحم خنزير فقل: أنا مسلم لا آكل، أو قدم لك خمراً فقل: لا، أعطني لبناً أو عصيراً، وكل ذلك الطعام، أو دعاك نصراني مسيحي فكذلك، جاءك نصراني مسيحي فقال: الغداء عندكم اليوم؛ فكذلك تطعمه، وقدم له اللحم المشوي، ولكن إن قال: نريد خمراً فقل: لا، نحن مسلمون لا نشرب الخمر، قال: أرأيت لو طبخت لنا شيئاً من لحم الخنزير، فقل: هذا فيه مرض، وهو خبيث وحرام.
    ودل على جواز أكل طعامه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل في بيت اليهودي الذي استدعاه لضيافة.
    (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، هذا بشرط: أن يكون اللحم الذي طبخه مذكى، اليهود إلى اليوم يذكون كما يذكي المسلمون، لكن النصارى غلبت عليهم البلشفة الشيوعية والكفر فما أصبحوا يذكون، فإذا علمت أن هذا اللحم شاته ما ذبحت أو بقرته ما ذبحت أو بعيره ما ذبح فلا يجوز أكله، لا تقل: أذن الله لي! أذن لك إذا كان مذكى ما هو بجيفة، فهل لو قدم لك اليهودي في الضيافة جيفة يجوز لك أكلها؟ لا يجوز.
    إباحة نكاح المحصنات المؤمنات والمحصنات الكتابيات
    (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ )[المائدة:5]، أي: مما أذن الله لكم وأباحه لكم وأحل لكم: المحصنات من المؤمنات. والمحصنة: المحفوظة المصونة، تلك التي ما عرفت بالزنا والعهر، محصنة محمية محفوظة بحفظ الله، ما قيل عنها: إنها زنت، وهي أيضاً مؤمنة تؤمن بالله ولقائه، وتقيم الصلاة وتعبد الله، فتزوجها، من أذن لنا في هذا؟ مالكها وسيدها، الله الذي أذن.وكذلك ( وَالْمُحْصَنَات ُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5] اليهود والنصارى، يجوز أن تتزوج مسيحية أو يهودية، ولا تقل: هي أفضل، إن وجدت المؤمنة فهي أفضل وخير، لكن أن لم تجد مؤمنة، أو وجدت هذه تنتفع بها، وترجو أن يهديها الله ويدخلها في رحمته فلا بأس، أو تكون في بلادها، فيجوز أن تتزوج الكتابية المحصنة الحرة، فإن كانت أمة مملوكة لواحد فلا يحل نكاحها وهي كافرة، وإن كانت حرة ولكنها غير محصنة غير عفيفة -أي: زانية- فلا يصح نكاحها.
    قال تعالى: ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5]، والمحصنة: العفيفة الطاهرة، التي لم يسمع عنها زنا، ولم تعرف به أبداً، فإن كانت مشهورة بذلك معروفة فلا يحل نكاحها ولو كانت مسلمة -فضلاً أن تكون كتابية- حتى تتوب فيتوب الله عليها.
    شروط إباحة المحصنات من المؤمنات والكتابيات
    ثم قال تعالى: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5]، يقول تعالى: هذه الإباحة إذا أنت آتيتها مهرها، لا تتزوج مسلمة ولا كتابية بدون مهر، المهر لا بد منه، فأركان النكاح أربعة: المهر ويسمى بالصداق، ثانياً: ولي المرأة أبوها أو أخوها، والقاضي ينوب عنه، أو شيخ القبيلة إذا لم يكن هناك قاض، لا بد من ولي، ثالثاً: شاهدان عدلان، رابعاً: الصيغة، أن تقول: زوجني وليتك فلانة فيقول: زوجتك على كتاب الله، فتقول: قبلتها ورضيتها زوجة، هذه الصيغة ركن من أركان النكاح.قال تعالى: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ )[المائدة:5] غير زناة، لا أن تعطيها مليوناً وتقول: قال الله تعالى: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )[المائدة:5]، فخذي الأجر! بل لا بد من القيد الأول: حال كونكم محصنين أعفاء غير زناة.
    فالله تعالى يقول: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ )[المائدة:5] أي: النساء العفيفات أو المحصنات من المؤمنات وأهل الكتاب، إذا آتيتموهن أجورهن حال كونكم محصنين غير زناة، لا أن تأتي إلى امرأة وتزني بها، وتقول: أنا أعطيت أجرها! فأنت لست بمحصن في هذه الحال، أنت زان وعاهر، لا بد أن تكون حال كونك محصناً عفيفاً طاهراً.
    (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ )[المائدة:5] والسفاح الزنا، فالذي يأتي دور بغاء في العالم ويزني ويعطيها المال فهل يكفي هذا المال في الحل؟ لو أعطاها ملياراً لا يحل له نكاحها؛ لأنه زان، فالقيد الأول: ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ )[المائدة:5].
    (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5] ثانياً، والمتخذ الأخدان: رجل يظهر أنه عفيف ما يعرف بالفاحشة، ويتخذ له خليلة من الصغار أو الكبار، ويلازمها ويأتيها في الخفاء على أنها صديقته، فهذه حرام ولا فرق، ما هناك فرق بين الزنا العلني وبين السري، لا تقل: هذه تحبني وأحبها منذ كذا وكذا!
    (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5]، وفي النساء: ( وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ )[النساء:25] أي: هن كذلك. هذا الذي أراد الله عز وجل.
    أثر الكفر والردة على العمل الصالح قبلهما
    ثم قال تعالى: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ )[المائدة:5] بالإسلام ( فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ )[المائدة:5]، لو عبد الله سبعين سنة لا يثاب على ركعة ولا على صيام ساعة، كل ذلك العمل هبط واحترق، فإن مات على غير توبة فإلى دار الخلد في جهنم، وإن تاب يستأنف الحياة من جديد، يحج من جديد ويصوم ويكتب له ما كتب الله، أما ما مضى فقد انتهى بالردة والكفر: ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ )[الزمر:65]، وهذه الآية: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ )[المائدة:5] والمراد من الإيمان: الإسلام ( فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ )[المائدة:5]، فما هي المناسبة؟ إن الذي يستبيح الزنا والعهر معناه: أنه كفر بالإيمان، الذي يستبيح ما حرم الله مرتد وكافر بالإجماع! بخلاف ما إذا كان يعرف أنه حرام ويفعله، فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، أما أن يقول: أيش فيه؟ ولا يبالي فهو مرتد كافر، ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[المائدة:5] الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم، وهذا هو الخسران المبين.
    الأسئلة
    حكم سؤال الكتابي عن أصل اللحم حال الشك فيه
    السؤال: هل يجوز أن أسأل الكتابي إذا شككت أن اللحم الذي قدمه لي لحم خنزير؟ الجواب: اسأله، وإذا غلب على ظنك أنه لحم غنم أو بقر فلا تسأله، وإذا شككت فـ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )، والغالب أنه يقول من أول مرة: هذا اللحم حلال ما هو بخنزير أو كذا.
    حكم الأكل مع أهل الكتاب على مائدة يشربون عليها الخمر
    السؤال: هل يجوز الأكل مع أهل الكتاب على سفرتهم وهم يشربون الخمر؟ الجواب: إذا لم يخف من أنهم يقتلونه أو يضربونه إذا سكروا له فأن يأكل معهم، وإذا خاف أن يضرب على رأسه على رأسه فليترك.
    ولو كنت مع مسلمين يضعون الخمر على المائدة فلا يحل لك أن تجالسهم ولا أن تأكل معهم، بل غَيِّر المنكر، لكن هذا يهودي أو نصراني يستبيح الخمر، فليشرب، وأنت لا تشرب، تقول: أنا مؤمن، لكن إذا خفت أنه إذا سكر يؤذيك فاجتنبه، أو تجالسه في الطعام على شرط ألا يقدم خمراً في المائدة.
    كيفية التذكية
    السؤال: ما هي كيفية التذكية؟الجواب: لا بد من قطع الأوداج والحلقوم، ولو ذبحها من قفاها فلا يصح أبداً.
    الفرق بن المخلَصين والمخلصِين
    السؤال: ما الفرق بين المخلِصِين والمخلَصِين؟ الجواب: ورد هذا في القرآن بلفظ: المخلَصِين، وبلفظ: المخلِصِين، والمخلِصِين باسم الفاعل أنا وأنت إن شاء الله والسامعون، كل من يعمل عملاً لوجه الله فقط لا رياء ولا سمعة ولا شهرة، أخلص فيه فهو مخلِص.
    وأما المخلَصِين فهم الذين استخلصهم الله واصطفاهم، وأغلب ما يطلق لفظ المخلَصِين على الأنبياء والرسل الذين عصمهم الله واصطفاهم لعبادته، وغيرهم يقال فيه: مخلِص، بدليل أنه يخلص عمله لله، فهو من المخلِصِين، وإذا قلت: أنا أريد أن أرقى إلى مستوى أن أكون من المخلَصِين فالسلم موجود، أسلم لله وجهك وقلبك وأعرض عن كل أسباب الحياة يستخلصك الله له، ما يقوى عليك الشيطان.
    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...)
    والآن هيا نتلو هذه الآية الكريمة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6]. يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:6] لبيك اللهم لبيك. هل نادانا نحن؟! إي والله! فنحن مؤمنون أم لا؟ إذاً: لبيك اللهم لبيك! مر نفعل، انه نترك، هذا استعداد المؤمنين لحياتهم الكاملة.

    أي: يا من آمنتم بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، أيها الأحياء! يأمركم ربكم فيقول: ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ )[المائدة:6] أي: إذا أردتم أن تدخلوا في الصلاة، فماذا تفعلون؟ قال: توضئوا. وبين لنا كيف الوضوء؟
    صفة الوضوء
    ومعلوم أن الوضوء -وهو الطهارة- شرط في صحة الصلاة، فريضة كانت أو نافلة، فلا تصح صلاة بدون طهور أبداً، فذكر أركان الوضوء: وهي غسل الوجه وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين، أربعة، والنية لا بد منها، ما أنت تلعب أو تعبث، ثم الترتيب هذا كما رتبه هو تعالى. تبقى السنن: غسل اليدين ابتداء ثلاث مرات قبل إدخالهما في الإناء إن قمت من نومك، والمضمضة ثلاثاً، والاستنشاق والاستنثار ثلاثاً، هذه سنن بينها الحبيب صلى الله عليه وسلم، لا بد منها، ومسح الأذنين داخل في مسح الرأس.
    إذاً: ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ )[المائدة:6] بعد أن تغسل كفيك، وتتمضمض، وتستنشق الماء بأنفك وتنثره تطهيراً له وتطييباً، بعد ذلك تغسل وجهك، وحد الوجه: من منبت الشعر إلى منتهى الذقن طولاً، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضاً، فإن كانت اللحية خفيفة فاغسلها مع البشرة، وإن كانت كثيفة فيكفي أن تمسح فوقها، وتخليلها مستحب، وغسل اليدين مع شيء من العضدين أحسن، لكن لا توصل الماء إلى كتفك، فقط اغسل المرفق وأدخله في هذا؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء ).
    ثم امسح رأسك مرة واحدة، اذهب بيديك من الأمام إلى الوراء، ثم عد بهما هكذا لكامل الرأس، ابدأ بمقدمه وقد بللت يديك بالماء، لا تغترف الماء، بلهما فقط بالماء وامسح رأسك، وامسح أذنيك ظاهراً وباطناً، فإذا بقي بلل ماء في كفيك كفى، وإذا جف الكفان فلا بد أن تبل يديك وتمسح أذنيك، ثم اغسل رجليك، ابدأ بالرجل اليمنى؛ لأن الله يحب التيامن في كل شيء، وفي غسل اليدين أيضاً تبدأ باليد اليمنى، فتغسل الرجل اليمنى إلى الكعبين، والكعب هو هذا العظم الناتئ عند ملتقى الساق بالقدم، والكعب تغسله أيضاً احتياطاً، والأفضل أن تخلل أصابع رجليك، وتخليل أصابع اليدين ضروري لا بد منه. هذا هو الوضوء، سواء لفريضة أو لنافلة، أو للطواف أو لمس المصحف، لا بد من هذه النية.
    ثواب الوضوء
    أقول: هناك جائزة هي الجائزة العظمى، وهي إذا فرغت من الوضوء على هذه الطريقة ترفع رأسك إلى السماء وإن كنت تحت سقف وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. فإن الجائزة أن تفتح لك أبواب الجنة الثمانية، فلو كنت عندها دخلتها! وإذا ما وصلت إليها انفتحت وتغلق، كالأبواب التي تفتح بالكهرباء، إذا قربت من الباب ينفتح، فإذا ما دخلت يرجع ويغلق! فالحمد لله حيث كشف عن عجائب، وإلا قلنا: كيف تفتح له أبواب الجنة الثمانية؟ فالآن عرفنا، بمجرد أن العبد المؤمن الموحد يرفع رأسه ويشهد هذه الشهادة وهو لا يخالفها بقلبه ولا بسلوكه، فإن أبواب الجنة تفتح، فإن كان عند الباب دخل، وإن لم يكن فإنه يفتح ويغلق، وما يزال كذلك حتى يموت فيغلق الباب. ولا يشترط الوضوء لقراءة القرآن، الوضوء يشترط لمس المصحف الكامل، أما أن يقرأ القرآن عن ظهر قلب، أو يقرأ في جزء من أجزاء المصحف فما قال أحد بالوضوء، وإذا أراد أن يتوضأ فليتوضأ حتى لذكر الله، إنما أمرنا الله عز وجل إذا قمنا لأداء الصلاة أن نتوضأ، والطواف بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا بد له من الوضوء، ومس المصحف يقول الله تعالى فيه: ( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )[الواقعة:79] وهكذا.
    معنى قوله تعالى: (وإن كنتم جنباً فاطهروا)
    يقول تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]، وإن كنتم معاشر المؤمنين والمؤمنات جنباً، والواحد جنب، والجماعة جنب، كواحد عدل وجماعة عدل. والجنب هو الذي تلبس بجنابة، وهي إيلاج رأس ذكره في فرج امرأته، ولو لم ينزل ولم يخرج منه ماء: ( إذا التقى الختانان وجب الغسل ) تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ثانياً: إذا خرج منه المني في يقظة أو منام، من أفرز تلك المادة البيضاء الثخينة في منامه أو بلذة في يقظته فهو جنب، يجب أن يغتسل، وإن كان نائماً في المسجد واحتلم يجب أن يخرج فيغتسل ويرجع، هذا هو الجنب، إذا أولج رأس ذكره في فرج امرأته وإن لم يمن فقد وجب الغسل؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى الختانان ) أي: موضع الختانين ( فقد وجب الغسل ).
    ثانياً: أن يفرز مادة المني بلذة، سواء بتفكر أو بلمس أو بكذا أو في منامه، رأى نفسه يجامع امرأة، إذا أفرز منياً وجب الغسل بلا تردد، هذا معنى الجنب: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا )[المائدة:6] ماذا عليكم؟ ( فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6] أي: فتطهروا، فأدغمت التاء: فاطهروا، أي: اغتسلوا.
    صفة الغسل
    وكيف نغتسل؟
    الغسل الصحيح الذي ما نعدل عنه هو الذي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيفيته -أيها الجنب- أن تغسل كفيك ثلاث مرات وأنت ناو رفع الجنابة، ثم تستنجي فتغسل فرجيك وما حولهما غسلاً حقيقياً، ثم تتوضأ وضوءك للصلاة، فإذا فرغت من الوضوء فاغمس يديك في الماء وخلل أصول شعرك ليستأنس بالماء ولا تصاب بالزكام، هذه حكمة من حكم محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا خللت شعرك فخذ غرفة بكفيك وضعها على يمين رأسك واغسل رأسك كله، زد الثانية بكفيك وضعها على الجهة اليسرى واغسل كامل الرأس، ثم ثالثة تضعها على الوسط واغسل رأسك مع أذنيك ظاهراً وباطناً ثلاث مرات، فإذا غسلت رأسك مع أذنيك فحينئذ اغسل شقك الأيمن من رقبتك إلى كعبك، هذه هي الجهة الأولى، والجهة الثانية اليسرى بعدها من عنقك إلى كعبك، وتعهد المغابن: تحت الإبط، فإذا ما تعهدته لا يبتل، وتحت الركبة، فإذا لم تمد رجلك لا يبتل ما تحت الركبة، وكذلك السرة إذا كان فيها تجاعيد، فإذا لم تتبع لم تبتل، لأنك مأمور أن تغسل كل جسمك، ولا تبقى لمعة، والظهر تدلكه بيديك، وإذا أتممت تصب بالماء حتى تطمئن إلى أن الماء قد عم جسمك، هذا هو الغسل الذي أراد الله تعالى.
    (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا )[المائدة:6] فماذا تفعلون؟ ( فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6] رجالاً ونساء، المرأة إذا كان عندها ضفائر الشعر فما تحل ضفائرها، تجمعها فقط وتصب الماء وتخللها رحمة بها، إذ قد يشق عليها النقض والبرم مرة ثانية، هذا هو الغسل من الجنابة، وغسل الجمعة هكذا، وغسل الإحرام هكذا، وغسل دخول مكة هكذا، وغسل العيد هكذا، إلا أن النية تختلف، غسل الجمعة سنة، غسل الإحرام كذلك، لكن غسل الجنابة واجب.

    ومن أراد أن يغتسل بالصابون والليف فإنه أولاً يغتسل الغسل الواجب، وبعده يغسل بالصابون، هذا أحوط له، وإذا خاف من الماء أن ينفد فإنه يغسل بالصابون، وبعد ذلك يغسل بالماء.

    وغسل الميت هكذا إن أمكن، ويجوز أن تغسل جسمك كاملاً وبعد ذلك تتوضأ، فذلك يجزئك، لكن الطريقة الأولى هي السنة النبوية.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #368
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (7)
    الحلقة (367)
    تفسير سورة المائدة (60)


    بعد أن بين الله لعباده كيفية التطهر للصلاة وذلك بالوضوء، ذكر بعد ذلك نواقض هذا الوضوء من جنابة أو غائط أو إتيان للنساء، وذكر كيفية التطهر لهذه النواقض، وهي الوضوء لمن أتى الغائط، والغسل لمن كان على جنابة أو أتى امرأته، ومن كان واجباً في حقه الغسل ولم يجد ماء، أو وجده ولم يستطع استعماله فله أن يتيمم عوضاً عن ذلك، ويدخل في هذا من أراد الوضوء ولم يجد الماء.
    تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة المائدة ومع هاتين الآيتين الكريمتين، وقد تدارسنا الأولى منهما الليلة الماضية، ونحن مع الآية الثانية، ولكن نريد الدراسة للكل بعد تلاوة الآيتين:
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:6-7].
    أسباب الجنابة
    عرفنا كيف نتوضأ، وكيف نغتسل استجابة منا لأمر ربنا تعالى في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6] هذا هو الوضوء، ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]، وعرفنا أبناءنا كيف يتطهرون، ولا بأس أن نعيد بيان ذلك.فقوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا )[المائدة:6] من هو الجنب؟ من هي الجنب؟ من هم الجنب؟ من هن الجنب؟ كلمة (جنب) تطلق على الواحد والاثنين والثلاثة، وعلى الذكر والأنثى، والجنب: من قامت به الجنابة، وسببها: إما التقاء الختانين، أي: موضع ختان الذكر وختان الأنثى، بمعنى: إذا أولج الرجل ذكره في فرج امرأته ولو لم ينزل ولم يمن فقد وجب الغسل.

    والأمر الثاني: هو أن يفرز المني في نوم أو بلذة في يقظة، نظر إلى امرأته أو مسها فانتعش ذكره وانتصب فأمنى فقد وجب الغسل، نام فرأى نفسه أنه يأتي امرأته أو غير ذلك فتدفق ماؤه فوجب الغسل، فالجنابة بشيئين:
    بالتقاء الختانين، أو بإفراز المني، والمني: ماء أبيض ثخين دافق شبيه بلقاح ذكر النخل، هذا هو الجنب، الذي يولج رأس ذكره في فرج امرأته وإن كان ذكره غير منتصب ولا لذة له، فضلاً عن أن يمني، بمجرد أن يحصل دخول رأس الذكر في الفرج يجب الغسل، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ) الختانان: تثنية ختان، وهل المرأة تختتن؟ نعم، ختان المرأة مكرمة لها، لكن ليس بسنة واجبة كختان الذكور، ويقال فيه: الخفاض.
    صفة الغسل من الجنابة
    إذاً: وإن كنتم جنباً فماذا تفعلون؟ نتطهر، كيف نتطهر؟ نغتسل غسل الجنابة، وهو كما علمتم: يأتي أحدنا إلى الماء فيغسل كفيه ثلاث مرات ناوياً رفع الحدث الأكبر، أو ناوياً امتثال أمر الله، حيث أمر بالاغتسال فهو يغتسل، أو ينوي رفع هذا الحدث عن نفسه أو الجنابة، لا بد أن يحدث نفسه بهذا، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة كأنه بين الناس، فإذا فرغ من وضوئه حينئذ من باب الطب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه وعلمهم أن يغمس يديه في الماء أو يصب الماء على كفيه، ثم يخلل أصول شعر رأسه بالماء خشية أن يصاب بالزكام؛ حتى تستأنس البشرة، وتقبل الماء هكذا، بعد ذلك يغرف غرفة بكفيه معاً، ويضع الماء على يمين رأسه ويغسل رأسه كله وأذنيه، ثم يأخذ الثانية على الشق الأيسر ويغسل بها عامة رأسه وأذنيه، ويأخذ الثالثة فيضعها على وسط رأسه، ويغسل بها كل رأسه وأذنيه، والأذنان يغسلهما ظاهراً وباطناً، وإذا ما اكتفى بالماء ذاك يزيد ماء، خاصة لأذنيه، لا بد أن يغسلهما من ظاهرهما وباطنهما.ثم يفرغ الماء على شقه الأيمن من رقبته إلى قدمه، فإذا فرغ من الشق الأيمن يأتي إلى الشق الأيسر ظاهراً وباطناً، من الظهر إلى البطن إلى كعبه، ويتعهد المغابن، كتحت الإبطين، والرسغين والسرة وأي مكان يخفى ما يدخله الماء يتعهده ليطمئن، وأما اللحية فإنه يخللها كما يخلل شعر رأسه، لا بد من هذا، وإنما عفي عن المؤمنة إذا كان شعرها مفتولاً بخيوط أحياناً أو مضفوراً، فليس عليها أن تحله، تجمع شعرها على رأسها وتصب الماء وتغسله إن شاءت، هذا هو الغسل.
    وإذا كنت تغتسل وفسوت أو ضرطت فماذا تصنع؟ أكمل غسلك، وحين تفرغ منه توضأ بعدما تلبس ثيابك أو قبل ذلك.
    وإذا كنت تغتسل فمسست بباطن كفك ذكرك فحينئذ انتقض وضوؤك، إذا فرغت من غسلك توضأ، كالذي فسا أو ضرط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ )، أما إذا مسست فرجك بظاهر الكف فليس عليك وضوء، أو مسست وأنت عليك الثياب فلا ينتقض الوضوء؛ لأن الغريزة الجنسية في الكف واللمس، أما ظاهر الكف فما يضر.
    وقد بينا وقلنا: هناك صورة ثانية للغسل، هي أن ينوي الغسل ويغتسل بكامله ثم يتوضأ، أما أن تقول: يغسل جسده ولا يتوضأ فلا، لا بد من الوضوء، إنما الصورة الأولى بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدث بها نساؤه، والصورة الثانية عامة، يدخل فيغتسل بالنية، وبعد ذلك يتوضأ.
    مشروعية التيمم للمريض والمسافر

    ثم قال تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6]، والمريض ذاك الذي ما يقوى على أن يقوم ويغتسل، ذاك الذي فيه جراحات يخشى من مرض وتعب إذا ابتلت، ذاك الذي ما يقدر على أن يستعمل الماء، والمرض قد قام به فلا يستطيع أن يغتسل أو يتوضأ، ( أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6] في الغالب أن المسافر يفقد الماء، أيام كنا نسافر على الإبل والبغال والحمير في المغرب والحجاز كان الماء في الغالب يفقده المسافر؛ فلهذا أذن الله عز وجل للمسافر أن يتيمم، لكن بينت السنة أنه إذا لم يجد ماء، أو وجد ماء ولكن لا يكفيه لشربه، والغالب في السفر في الزمان الأول أن المسافر يحتاج إلى الماء ويفقده، عنده قليل ماء يتوضأ به فيموت من العطش، فإن توافر الماء فيجب أن يتوضأ ويغتسل.(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6] والسفر معروف، وهو الذي تقصر به الصلاة، ثمانية وأربعون كيلو متر فما فوق إلى آلاف.
    معنى قوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط)

    (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ )[المائدة:6] الغائط ما هو؟ أصله المكان المنخفض، وعادة الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته أن يأتي إلى مكان منخفض ليستتر عن أعين الناس، ما يأتي على جبل يكشف عورته، لا بد أن يأتي إلى مكان منخفض يقال له: الغوط والغائط، فهذا المكان إذا جاء أحدنا منه، يعني: خرئ أو بال، لكن كلام الله أعلى، فما قال: الخرء كما نقول، ولا البول، نحن نقول ذلك للتفسير فقط، وإلا فما نقول هذا.لقد كان نساء المؤمنين يتغوطن في الأربع والعشرين ساعة مرة واحدة فقط، ويخرجن إلى مكان منخفض وراء البقيع، ما عندهم مراحيض ولا مياه، وأنتم اليوم كيف حالكم؟ فمن منكم إذا توضأ ذكر هذا وقال: الحمد لله، أو إذا دخل مرحاضاً بالرخام والبلاط والكراسي يخرج فيقول: الحمد لله؟
    إذاً: فمن بال أو تغوط وجب عليه الوضوء، والذي يفسو أو يضرط يجب عليه الوضوء، والفساء ريح منتن بلا صوت، والضراط: ريح منتن بصوت.
    وعندي لطيفة نفعني الله بها: وهي أن الذي عنده مرض في القولون والمعدة قد يشعر أن فساء خرج منه، والشيطان هذه مهمته، ينفخ في دبرك ليفسد عليك عبادتك، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: إذا لم تشم ريحاً ولم تسمع صوتاً فلا تخرج من صلاتك. فإن الشيطان ينفخ في مقعدك ليفتنك، إذا لم تجد ريحاً كريهة، إذا لم تسمع صوتاً ولم تشم رائحة، وإنما تشعر بحركة في دبرك فتلك نفخة العدو ليفتننا، فلا تخرج من صلاتك، والذي عافاه الله فما عنده مرض فهنيئاً له.

    ما ينقض الوضوء من مس النساء

    قال تعالى: ( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ )[المائدة:6] رجل أو امرأة ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6] والملامسة مفاعلة، والغالب أن تكون بين اثنين، وتطلق ويراد بها فعال الواحد، وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنه إذا أراد أن يفسر هذه الآية وسألوه يدخل أصبعيه في أذنيه حتى ما يسمع ويقول: إننا نستحي أن نقولها. يقول تعالى: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6] بمعنى: جامعتموهن، نكحتموهن، ما هو اللمس باليد، لم يدخل ابن عباس أصبعيه في أذنيه؟ حتى لا يذكر هذا، والملامسة تكون بين اثنين، هذا هو الجماع، ويبقى مس المرأة بيده، فإذا قصد أن يتلذذ بمسها ولمسها بهذه النية فقد انتقض وضوؤه.

    ثانياً: إذا لم يقصد أن يتلذذ بامرأته إذا مسها، ولكن لما وضع يده انتعش باطنه ووجد لذة فقد انتقض وضوؤه، فإن لم يقصد ولم يجد لذة فلا ينتقض وضوؤه، أما إذا قصد أن يتلذذ فقد انتقض وضوؤه ولو لم يجد لذة، فإن لم يقصد ولم يجد اللذة لم ينتقض وضوؤه ولو تمرغ عليها.
    أم المؤمنين الصديقة عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني )، وقالت وهي الحكيمة: ( وكان أملككم لأربه )، ما هو مثلكم أنتم، لا تملكون أنفسكم ولا حاجاتكم، أما هو فمصدر الكمال، يقبلها رحمة لها ورفقاً بها، ولكن لا يقصد أبداً لذة ولا يريدها.
    المهم القاعدة الأولى التي وضعها أهل العلم: إن قصد اللذة باللمس أو التقبيل ولو لم يجد اللذة انتقض وضوؤه، وإذا ما قصد ولكن لما لمسها وقبل وجد اللذة انتقض وضوؤه، وإذا ما قصد ولا وجد اللذة فلا انتقاض، قبلها أو لامس أو مس.
    إذاً: إذا كان مس الكف ينقض الوضوء فكيف بالذي يقصد اللذة من امرأته ويمسها، فقوله تعالى: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6] إن شئتم قولوا كما قال الحبر: أو جامعتم، وهو الأصل، ويبقى المس بشهوة ثابتاً بالسنة النبوية.
    مشروعية التيمم لمن فقد الماء أو عجز عن استعماله

    يقول تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6] أي: ولم تجدوا ماء، ما الماء؟ هذا السائل العذب، سواء كان ملحاً أو كان عذباً، أو ماء البحر فتوضأ منه واغتسل، ولهذا يقول المشرع صلى الله عليه وسلم عن البحر: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته).إذاً: فإن لم تجد ماء طهوراً، وإذا وجدت ماء وهو نجس فلا، أو ماء تغير لونه أو ريحه بطعام أو بكذا فلا تتوضأ منه، لا يرفع الحدث إلا الماء الذي على أصل خلقته، كماء نبع من الأرض أو نزل من السماء، أما الماء إذا كان عذباً فأصبح صالحاً بأن صببت فيه مادة أخرى فلا يجوز التطهر به.
    فالماء الطهور: هو الباقي على أصل خلقته، فإن صببت فيه ريح مسك وأصبح ذا رائحة فما يصح التطهر به، أو صببت فيه عسلاً وتغير لونه بالعسل فما يصح، الماء الطهور هو الباقي على أصل خلقته التي خلقه الله عليها، ملحاً كان أو عذباً.
    (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6] فماذا تصنعون؟ قال: ( فَتَيَمَّمُوا )[المائدة:6] اقصدوا ( صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6]، الصعيد كالصاعد: ما علا وارتفع، فوجه الأرض كله صعيد، وجه الأرض صاعد فوقها؛ فلهذا إذا أصبحت محتاجاً إلى التيمم مضطراً إليه فاقصد الأرض سواء كانت تراباً أو رملاً أو سبخة أو حجارة، كل ما صعد على الأرض تيمم به، إلا أن التراب أفضل؛ لأن فيه الاعتراف بذلك وهوانك، يمسح المتيمم وجهه بالتراب لوجه الله، أما الحجر الأصم فما فيها شيء، ما يصيبه منه هون ولا دون، لكن التراب أولى، فإن لم يوجد فكل أجزاء الأرض يتيمم بها: ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6] هذا الطيب بمعنى: الطاهر، أما إذا كان فيه بول غنم أو حمار فما يجوز التيمم به، وبول الغنم وروثه طاهر ولكن لا تتيمم عليه؛ ما يأذن الله لك أن توسخ وجهك ويديك، لا بد أن يكون طاهراً.

    صفة التيمم

    (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6]، ماذا تفعلون؟ ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ )[النساء:43] آية النساء، وهنا: ( وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6]، كيف أمسح التراب بوجهي؟ الأصل أن أمسح وجهي بالتراب، وليس أن تأخذ وجهك وتمسح به، إذاً: نقول: لا تفهم أنك تأخذ وجهك وتمسح به التراب، ما هو بمعقول هذا، بل المعنى: امسح وجهك بالتراب.وللتيمم كيفيتان سهلتان ميسرتان:
    إحداهما: أن تمسح وجهك وكفيك، والثانية: أن تمسح وجهك ويديك إلى المرفقين؛ لقوله تعالى: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ )[المائدة:6].

    فالصورة الثانية في الموطأ عن ابن عمر وهي أكمل، وهي أن تقول: باسم الله، فتضرب بكفيك على الأرض، وتمسح وجهك مسحة واحدة، ثم اضرب بيديك على الأرض وامسح إلى المرفق، تمسح وجهك وكفيك مع ذراعيك، هكذا كان ابن عمر يفعل، ويقول: لأن الله قال: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ )[المائدة:6] واليد يدخل فيها المرفق أم لا؟ لكن الله في الوضوء قال: ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ )[المائدة:6]، بين الحد، وفي التيمم ما بين: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ )[المائدة:6]، والصورة الأولى الطيبة الهينة وإن كانت قد تقل عن الأجر؛ لأن عمار بن ياسر كان قد أجنب باحتلام في سرية من السرايا، فلما أجنب قام فتمرغ في التراب، نزع ثيابه وتمرغ، فلما جاء إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وقص القصة على نبيه صلى الله عليه وسلم قال له: ( إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وهكذا ) والله إن ذلك ليكفي! ما السر؟ ما الحكمة؟ إن مس التراب هذا ما يزيل القذى ولا الوسخ، فما السر؟ أقول: لما كان التطهر فريضة الله لمن أراد أن يناجي الله، الوضوء والغسل مفروضان، فأيما مؤمن يريد أن يتصل بذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه ليبثه آلامه ويذكر له حاجته فلا بد أن يتطهر، وإلا فلا يقبل، فإذا عجز عن الماء أو عن استعماله فماذا يصنع؟ علمه الله عز وجل أن يعلن عن إذعانه واستسلامه وانقياده، كأنه يقول: لو كنت قادراً يا رب على الماء أو وجدته لاغتسلت أو توضأت، ولكن عجزت. إذاً: أظهر بيان أنك صادق في عجزك ونيتك، فامسح وجهك بالتراب ويديك؛ فلا يخطر ببالك أنك تتصل بالله، وتجلس بين يديه، وينصب وجهه لك وأنت على غير طهارة! لن يكون هذا، وبهذا يبقى المؤمن مع طهره دائماً لا ينسى.

    قال تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6] إذ مع وجود الماء ما هناك إلا الوضوء والغسل، ( فَتَيَمَّمُوا )[المائدة:6] اقصدوا ( صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6] إن اكتفيت بوجهك مرة وكفيك؛ ولا تخلل أصابعك لأن العبرة بأن تمتثل أمر الله، حتى تألف الطهر فما تتركه أبداً، مرضت أو صححت.

    (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6] أي: نمسح الوجه والكفين، وهذا أرحم بنا؛ إذ كم من إنسان يلبس ثياباً في الشتاء في البلاد الباردة فيحتاج أن ينزع كل ثيابه إذا أراد أن يتيمم، وفي ذلك مشقة كبيرة ويعانون منها، فنأخذ بهذه الرحمة الإلهية وهذه الرخصة فنقول: يمسح كفيه بعد وجهه ويجزئه.
    معنى قوله تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ...)

    ثم ختم تعالى الآية بقوله: ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )[المائدة:6]، الحرج: الضيق، مأخوذ من الحرج وهو المكان الكثيف الشجر، مكان ضيق، ما يريد الله تعالى أن يضيّق علينا، وسع علينا، علامة التوسيع أننا إذا ما وجدنا الماء أو ما قدرنا على استعماله نضرب الأرض بالكف ونمسح الوجه والكفين ونصلي أو نناجي ربنا أو نطوف أو نقرأ القرآن.(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )[المائدة:6]، أي حرج، والدليل على هذا هو أنه أذن لك أيها الجنب الذي يجب عليك أن تغتسل إن لم تجد الماء أن تضرب الأرض بكفيك وتمسح وجهك وكفيك، أو مريض ما يستطيع أن يستعمل الماء ولو كان بين يديه، لجراحات ونحوها، فيضرب الأرض بكفيه ويمسح وجهه وكفيه.

    (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ )[المائدة:6]، يريد أن يطهرنا؛ لأنه يحب التوابين ويحب المتطهرين، إذا طهرنا أحبنا، لو تركنا أنجاساً فوالله لن يحبنا، بل لكي يرفعنا إلى مستوى حبه ورضاه علمنا كيف نتطهر وأمرنا بذلك.

    (لِيُطَهِّرَكُمْ )[المائدة:6]، أولاً، ( وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ )[المائدة:6] ثانياً، ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6] ليعدكم بذلك إلى الشكر، (لعل) هنا الإعدادية: ليعدكم لشكره، ليطهرنا وليتم نعمة الإسلام علينا، نعمة هذه العبادات التي هي أدوات تزكية وتطهير للنفس ولنصبح من الشاكرين لآلائه وإفضاله وإنعامه.

    (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ )[المائدة:6] أولاً، ( وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ )[المائدة:6]، وهي نعمة الطهارة نعمة الإسلام، نعمة الإيمان كما تقدم: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي )[المائدة:3].

    (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، نشكر المنعم الله جل جلاله وعظم سلطانه، والشكر يكون أساساً: بإظهار النعمة، يقال: دابة شكور، كلما أكلت ظهر السمن فيها، وأخرى كفور: تأكل وتأكل وما يظهر عليها شيء، إذاً: الشكر: إظهار النعمة، وهو:

    أولاً: بالاعتراف بالقلب بالنعمة لله، كانت أو طعاماً أو عافية، تعترف في قلبك بالنعمة وأنها لله.
    ثانياً: أن تحمد الله تعالى عليها بكلمة: الحمد لله.
    ثالثاً: أن تصرفها فيما يحب أن تصرف فيه، إذا كانت مالاً تنفقه حيث يريد الله أن تنفقه، إذا كانت صحة بدنية تنفقها حيث يريد الله أن تنفقها، في الجهاد والعبادة والعمل الصالح، وإذا كانت جاهًا وحمدت الله تعالى على هذه النعمة فأعن إخوانك المحتاجين إلى جاهك واقض حاجاتهم، وإذا كانت علماً فعلّمه وبينه للناس، فكونوا من الشاكرين.
    (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، قلت: إنها (لعل) الإعدادية، أي: ليعدكم بذلك إلى شكره، علّمنا كيف نعبده؛ من أجل أن نصبح شاكرين، ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، هيأنا لأن نشكره، علمنا كيف نتوضأ ونغتسل وكيف نتيمم ونرفع الأحداث حتى نشكره بالطاعة، لنصبح شاكرين لله، والذي لا يتوضأ هل شكر الله؟ الذي ما يغتسل هل هو شاكر؟ والذي ما يصلي ولا يذكر كافر ما هو بشاكر.
    تفسير قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا...)
    وأخيراً يقول تعالى: ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ )[المائدة:7] أولاً، ( وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ )[المائدة:7]. (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ )[المائدة:7]، أي: نعمة خلقنا، نعمة إمدادنا، نعمة هدايتنا، فأول شيء أننا مخلوقون خلقنا الله تعالى، فاشكروه على نعمة الخلق والإيجاد، ونعمة الإمداد، فمن أمدنا بالطعام والشراب والهواء الذي نتنفس فيه، والغذاء والهواء عنصرا البقاء والحياة، فمن رب هذا الأكسجين؟ إنه الله تعالى. هل الدولة هي التي صنعته؟ والماء والطعام من خالقهما؟ الله، إذاً: فنشكر الله على نعمة الإيجاد والإمداد، أوجدنا بفضله وأمدنا بما يبقىي علينا حياتنا إلى نهايتها، إذاً: فليشكر الله عز وجل.

    (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ )[المائدة:7]، في الخلق والإيجاد، في الإيمان والإسلام والإحسان، غيركم كفرة فجرة فساق يأكل بعضهم بعضاً، وأنتم أنعم الله عليكم بهذه النعمة: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي )[المائدة:3]، فالوضوء والتيمم والعبادة مظاهر الشكر لله عز وجل، والذي لا يعبد الله ما شكر ولا يعتبر من الشاكرين.

    (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ )[المائدة:7]، ما هذا الميثاق الذي واثقنا الله وربطنا به؟ هو أنك لما قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقد بايعت الله، هذا هو الميثاق، وهو أن تعبد الله تعالى وحده بما شرع لك أن تعبده به، ولا تشرك به أبداً أحداً في عبادته، اذكر هذا الميثاق، فمن كفر نقض الميثاق، من ترك الصلاة والعبادة ترك الميثاق ونقضه.

    (وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ )[المائدة:7]، متى؟ ( إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا )[المائدة:7]، من هو الذي قال: سمعنا وأطعنا؟ كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قال: سمعت وأطعت وقام اغتسل وصلى.

    (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ )[المائدة:7]، بشكره وبالثناء عليه وبامتثال أمره وبطاعته وبحمده، ( وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ )[المائدة:7]، لما دخلنا في الإسلام كيف دخلنا؟ دخلنا بـ(لا إله إلا الله، محمد رسول الله).

    إذاً: أقول واسمعوا: الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قد عاهد الله على الاستمرار في هذا الدين وعلى عبادة الله بما شرع وبين، وعليه أن لا يشرك في عبادة الله كائناً من كان، لا يشرك ملكاً ولا نبياً ولا رسولاً ولا ولياً ولا كائناً من الكائنات؛ لأنه يقول: أنا أشهد على علم أنه لا يوجد إله إلا الله، فكيف يخون إذاً ويوجد له من يعبده مع الله ولو بكلمة؟
    ثانياً: أن لا يرضى بأن يعبد مع الله غيره أبداً؛ لأنك أقررت بأنه لا يستحق العبادة إلا الله وها أنت تعبده وحده، فكيف ترضى بعبادة غيره لفلان وفلان؟ فلهذا لا نرضى بالشرك والكفر أبداً، ويوم نقدر على نقل هذه الأنوار فإننا ننقلها إلى الأبيض والأسود كما فعل أصحاب رسول الله وأحفادهم، ما نرضى أن تبقى دولة أو أمة لا تعبد الله عز وجل، وإلا فقد رضينا بالكفر.
    معنى قوله تعالى: (واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور)
    (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:7]، هذا الأمر الأخير: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:7]، كيف نتقيك يا رب وأنت الجبار؟! ومن نحن حتى نتقيك! الجواب: يقول: تتقوني بطاعتي، من أذعن لأمري ونهيي وانقاد فقد اتقى عذابي، أما الذي لا يعبد ربه ولا يطيعه فبم يتقيه؟ هل بالجبال والصخور والجيوش؟ إن الخليقة كلها في قبضة الجبار.
    إذاً: لا يتقى الله بالأسوار ولا الحصون ولا الجيوش ولا الحيل أبداً، وإنما يتقى بالإسلام له والإذعان، أذعن لربك، إذا قال: قل فقل، وإذا قال: اسكت فاسكت، بهذا فقط يتقى الله عز وجل، أي: بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
    وأخيراً قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:7]، هذه من يطيقها، كل ما يجول في خاطرك وتتحدث به في نفسك الله عليم به كالظاهر، فكيف -إذاً- تستطيع أن تخونه في الوضوء أو التيمم أو العبادة وهو يعلم ذات صدرك؟ ما في باطنك يعلمه كما يعلم ظاهرك، هذه المراقبة التي يفوز بها من هيأهم الله لذلك، يعيش العبد أو الأمة يراقب الله في كل حركاته وسكناته، حين يأخذ يتوضأ إذا رأى الماء كثيراً يقلله؛ لأن الله معه، فكلما صببنا الماء من الصنبور نغلقه ونذكر مراقبة الله لنا، إذا أردت أن تأكل أن تشرب أن تقول أن تعطي دائماً تذكر أن الله معك ويراك ويعلم ما في صدرك.

    وهذه جاءت في الآية العظيمة التي هي سلم الوصول إلى الكمال: ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ )[العنكبوت:45]، أولاً، ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ )[العنكبوت:45]، ثانياً، ( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ )[العنكبوت:45]، ثالثاً، ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ )[العنكبوت:45]، الرابعة، فهذا سلم الوصول إلى الكمال:
    أولاً: قراءة القرآن بالليل والنهار.
    ثانياً: إقام الصلاة كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ثالثاً: ذكر الله في كل الأحايين إلا إذا جلست على المرحاض تتغوط.
    رابعاً: أن تعلم أن الله يعلم ما تصنع فتراقبه في كل حركاتك وسكناتك، فإذا وصلت إلى هذا فأبشر واعلم أنك من خيرة أولياء الله عز وجل.

    اللهم اجعلنا منهم.. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وتوفنا وأنت راضٍ عنا وألحقنا بهم يا رب العالمين.

    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #369
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (8)
    الحلقة (368)
    تفسير سورة المائدة (61)


    شرع الله عز وجل الطهارة لعباده، وجعلها شرطاً لأداء عبادة من أهم العبادات ألا وهي الصلاة، والطهارة للصلاة تكون نوعان؛ أما الغسل لرفع الحدث الأكبر، وإما الوضوء لرفع الحدث الأصغر، وقد يسر الله عز وجل على عباده في هذا الشأن، فمن لم يجد ماء لغسله أو وضوئه فله أن يتيمم صعيداً طيباً فيمسح به وجهه وكفيه ظاهراً وباطناً، وهذا من رحمته سبحانه بعباده.

    تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ ذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة المائدة، ومع هاتين الآيتين، سبق أن درسناهما ولكن لم نستوفهما كما ينبغي أن ندرسهما.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:6-7]. ‏

    توجيه معنى القراءتين في (أرجلكم) والرد على الرافضة في ذلك
    ألفت النظر إلى أنه قرأ بخفض ( وَأَرْجُلَكُمْ )[المائدة:6]، هناك قراءة بالكسر: ( وأرجلِكم )، عطفاً على (برءوسكم).ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم هو المسئول عن بيان كلام الله لقول الله تعالى: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )[النحل:44]، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ ويغسل رجليه ولا يمسحهما طيلة عشر سنين، وإنما المسح لمن لبس الشراب أو الجورب أو الخف، لكل من ستر رجله وقاية لها من البرد أو الحر أو الشوك، له أن يمسح على ذلك الغطاء الذي على رجله.

    وهنا إخواننا من الشيعة يمسحون أرجلهم ولا يغسلونها وهي عارية عن الجورب أو الموق أو الخف، وجاءني أحدهم في الحلقة وقال لي: لماذا أنتم لا تمسحون على أرجلكم والآية الكريمة تقول: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ )[المائدة:6]؟

    فمما فتح الله به علي وأسكته أن قلت له: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساؤه وأصحابه وبناته والأمة معه كم سنة وهو يتوضأ؟ عشر سنين، والله ما مسح رجليه إلا إذا كان عليهما الخف أو الجورب، وكان يغسل رجليه ويقول: ( ويل للأعقاب من النار )، فالذي لا يهتم بغسل رجليه ويبقى العقب هذا غير مغسول تأكله النار، فوالله لقد سكت الرجل، وماذا يقول؟
    فقراءة الجمهور: ( وَأَرْجُلَكُمْ )[المائدة:6]، عطفاً على: (وجوهكم): اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم إلى الكعبين، وليس معقولاً أبداً أن الرجل التي تمشي بها في المزابل في الطرقات تمسح عليها ووجهك تغسله!

    ألم يُقصد بهذه الطهارة للجسم أيضاً؟ فرجلك التي تمشي بها في كل مكان لا تغسلها وتمسح فوقها هكذا، ووجهك النظيف الذي ما يتعرض للوسخ يجب أن تغسله ثلاث مرات، وكذلك يداك!
    والشاهد عندنا لفت نظركم إلى أن هذه القراءة بالكسر أفادت المسح إذا كان على الرجل خف أو جورب أو موق، فما أضعنا القراءة هذه، نفعنا الله بها.
    وأما قراءة الجمهور فهي عطف على الوجوه: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6]، أي: واغسلوا أرجلكم -بقراءة الجر- وامسحوا بأرجلكم إذا كان على الأرجل خفاف أو جوارب أو ما إلى ذلك.

    إذاً: عرفتم المسح على الخفين أو على الجورب أو على الموق وعلى كل ما يستر الرجل من أجل وقايتها من الحر أو البرد أو الحجارة والأشواك، ففي غزوة ذات الرقاع لفوا على أرجلهم قطعاً من القماش أو خرقاً وكانوا يمسحون عليها.

    أثر الخلاف في معنى (من) في قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)
    (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6]، كيف نفعل؟ قال تعالى: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6]، و(من) هل هي ابتدائية أو تبعيضية؟بعض أهل العلم قالوا: هذه تبعيضية، فلا بد من مسح جزء من التراب، وقالوا: ينبغي أن يكون المسح من التراب حتى يعلق بيدك جزء منه، وخالفهم الجمهور وقالوا: (من) للابتداء، كقولك: خرجت من القاهرة أو من البصرة، ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6]، أي: بابتداء من ذلك الذي صعد على وجه الأرض، سواء كان حجارة أو سبخة أو رملاً أو تراباً، إلا أن التراب أولى، متى وجد فهو أولى من الحجارة، فإن انعدم التراب فكل ما علا على الأرض وارتفع فوقها فهو صاعد عليها، فتضرب يديك -كما سيأتي وكما سبق- وتقول: باسم الله، وتمسح وجهك وكفيك.


    رحمة الله تعالى بعباده الظاهرة في بيان مقاصد تشريع التيمم

    (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )[المائدة:6]، أي: ضيق ومشقة وتعب. فلهذا إن كنت مريضاً أو كنت صحيحاً والماء بارداً ولا تستطيع أن تغتسل تخاف أن تمرض؛ فإنك تتيمم، فعمرو بن العاص تيمم في غزوة وصلى وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وما أنكر عليه.إذاً: ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ )[المائدة:6]، ليطهر أبداناً وأرواحاً، هذه مواد التطهير للبدن وتعود أيضاً بالطهارة على الروح، من فعل هذا الوضوء أو هذا الغسل إيماناً بالله وطاعة له وامتثالاً لأمره؛ فهذه الطاعة تحيل نفسه إلى كتلة من النور، فكما تزكو النفس يزكو البدن ويطيب ويطهر، ( لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ )[المائدة:6]، ألا وهي نعمة الإسلام، نعمة عبادة الله عز وجل والحياة على هذا الدين الإسلامي؛ رجاء أن نشكره في كل أحوالنا وفي كل أمورنا.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات
    الآن نريد أن ندرس الآيتين من الكتاب: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ معنى الآيتين:
    نادى الرب تعالى عباده المؤمنين به وبرسوله وبوعده ووعيده] ناداهم فقال: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:6]، نادى الرب تعالى عباده المؤمنين به وبرسوله وبوعده لأوليائه ووعيده لأعدائه [ ليأمرهم بالطهارة ] الوضوء، الغسل، التيمم.[ ليأمرهم بالطهارة إذا هم أرادوا الصلاة ]، فقوله تعالى: ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ )[المائدة:6] أي: أردتم أن تصلوا؛ لا أنه يكون غير متطهر ويقوم ليصلي. [ وهي مناجاة العبد لربه لحديث: ( المصلى يناجي ربه )]، كأنما يقول: أيها المؤمنون! من أراد منكم أن يناجيني فليتطهر، لا يأتني وهو غير طاهر. فالصلاة مناجاة، يقال: فلان يتناجى مع فلان: يتكلم معه سراً، والرسول يقول: ( المصلي يناجي ربه )، فالحمد لله، نحن في الأرض وهو فوق العرش بائن من خلقه فوق السماوات ونتكلم معه ويسمعنا ويرانا أكثر مما يسمع بعضنا بعضاً ويرى بعضنا بعضاً.

    فلهذا من ذنوبنا إساءة المناجاة، كيف نخلو برب العالمين نتكلم معه ونعرض عنه بقلوبنا ونصبح واقفين بين يديه مشغولين عنه حتى بالمطبخ وما فيه من طعام، فهذه زلة كبيرة وقل من يشعر بها، أيقبل عليك سيدك يسمع منك وينظر إليك وأنت تائه في متاهات أخرى؟! هذه من ذنوبنا.
    [ وبيّن لهم الطهارة الصغرى منها: وهي الوضوء، والكبرى: وهي الغسل ]، وقد عرفنا الوضوء والغسل وما زلنا نتعلم، [ وبين لهم ]، أي: للمؤمنين به وبرسوله، بين لهم [ ما ينوب عنهما ]، أي: عن الوضوء والغسل، ينوب عنهما التيمم، [إذا تعذر] وصعب [وجود الماء الذي به الطهارة، أو] الماء موجود ولكن [عجزوا عن استعماله] لمرض ونحوه، [وهو التيمم، فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ )[المائدة:6]، وحدُ الوجه طولاً من منبت الشعر أعلى الجبهة إلى منتهى الذقن أسفل الوجه ]، منبت الشعر في الجبهة في الغالب معروف، أي: حتى وإن كان أصلع، [إلى منتهى الذقن أسفل الوجه، وحده عرضاً من وتد الأذن اليمنى إلى وتد الأذن اليسرى ]، والوتد: الشحمة، ذلك اللحم الذي كأنه يثبت الأذن ويرسخها كالوتد الذي تشد به الخيمة.

    قال: [ ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ )[المائدة:6]، فيشمل الغسل الكفين والذراعين إلى بداية العضدين، فيدخل في الغسل المرفقان ]، المرفقان: ما ترتفق به حين تتكئ، فقوله: إلى المرفقين، (إلى) بمعنى: مع المرفقين، تقول: وصلت إلى المدينة. يعني: ما دخلت فقط فوصلت إلى الباب، لا بد أنك دخلت فيها، فـ(إلى) تكون بمعنى:(مع).

    قال: [ ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ )[المائدة:6]، واللفظ محتمل للكل والبعض ]، فقوله تعالى: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ )[المائدة:6]، هل الباء للتبعيض فيكفي بعض الرأس؟ أو الباء للإلصاق أي: لا بد أن تلصق يدك مع رأسك؟ على كل حال نحن مسلمون لا نتمذهب ولا نتعصب، ما بلغنا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم وبلغه لنا أئمتنا وهداتنا نعمل به ولا نخالفه، فمن هنا فالمسح الحقيقي الوافي الكامل: أن تبدأ بيديك من أول الرأس وتمضي بهما إلى القفا وتردهما، وقد مسح رأسك كله، هذا المطلوب.

    ولكن تأتي رخص، حيث يكون على رأسك عمامة مشدودة وأنت في سفر أو في حال برد ما يقتضي موقفك أن تحلها، فتزحزحها هكذا وتمسح بعض الرأس وتتم الباقي على عمامتك، فنكون قد أخذنا بمعنى الباء من الجهتين: التبعيض والإلصاق.
    والنساء كالرجال، فإذا رأسها مربوطاً برباط شديد فإنها تزحزحه عن بعض الشعر وتعمم المسح على خمارها، وما عصينا الله وما خرجنا عن قول أئمة الإسلام.
    أما أنك لا لشيء تمسح هكذا فقط، فما أظن هذا إلا لعباً واستهزاءً وعنترية فقط؛ تقول: لأن الباء للتبعيض، والرسول صلى الله عليه وسلم ما غسل رجليه وما مسح رأسه! لقد مكث عشر سنين وهو يمسح، فهل قال هكذا بيديه فقط؟
    قال: [ ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ )[المائدة:6]، واللفظ محتمل للكل والبعض ] أي: لكل الرأس ولبعضه، [ والسنة بينت أن الماسح يقبل بيديه ويدبر بهما فيمسح جميع رأسه، وهو أكمل، وذلك ببلل يكون في كفيه، كما بينت السنة مسح الأذنين ظاهراً وباطناً بعد مسح الرأس ]؛ لأن الأذنين جزء من الرأس، فمن مسح رأسه يمسح أذنيه ظاهرها وباطنهما على حد سواء، فإذا بقي البلل في كفيه مسح أذنيه، وإن جف الكفان فإنه يجدد الماء من جديد فيصب على يديه ويمسح أذنيه.

    فقوله تعالى: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ )[المائدة:6]، يدخل في الرأس الأذنان، لأنهما جزء من الرأس.

    قال: [ وقوله: ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6]، أي: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، والكعبان: هما العظمان النائتان عند بداية الساق ] ساق الرِّجل، عظم من هنا وعظم من هنا، عظمان نائتان، أي: بارزان عند بداية الساق.


    بعض المسائل المتعلقة بالوضوء وأحكامه
    قال: [ وبينت السنة ] سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: طريقته ومنهجه الذي كان عليه وورثه المؤمنين من بعده. [ وبينت السنة رخصة المسح على الخفين بدلاً من غسل الرجلين، كما بينت غسل الكفين والمضمضة والاستنشاق والاستنثار، وكون الغسل ثلاثاً ثلاثاً على وجه الاستحباب ]. السنة هي التي بينت غسل الكفين ثلاثاً ثم المضمضة، ثم الاستنشاق والاستنثار، النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي بين هذا، والآية مجملة والرسول المبين صلى الله عليه وسلم.
    والغسل ثلاثاً ثلاثاً على وجه الاستحباب، المفروض أن تعمم وجهك بالماء ويديك بالماء، فإن اكتفيت بغسلة واحدة أجزأك ذلك، لكن السنة أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً؛ لأن الله وتر يحب الوتر؛ ولأنها أضمن أن تغسل عضوك غسلاً كاملاً.
    وإذا لم تكف الغسلات الثلاث فيجب أن تعود فتغسل ثالثة ورابعة وخامسة، المهم أن تعم وجهك ويديك بالماء بغسلة بغسلتين بثلاث وذلك أفضل.
    قال: [ و] بينت السنة أيضاً [ قول باسم الله عند الشروع، أي: البدء في الوضوء ]، قبل أن تفرغ الماء على كفيك تقول: باسم الله، باسمه تتوضأ، لولا أنه أذن لك أن تتوضأ باسمه وبعونه وقدرته لشللت على الفور، ما تستطيع أن تفعل شيئاً.
    قال: [كما بينت السنة وجوب الترتيب بين الأعضاء المغسولة الأول فالأول ]، الوجه فاليدان فالرأس فالرجلان، لو أن شخصاً يقول: أنا أغسل رجلي أولاً لأستريح ثم أغسل بعد ذلك وجهي ويدي، لقلنا: ما يصح هذا، أو يغسل أولاً يديه ورجليه ثم يقول: أترك وجهي الأخير حتى أجففه، ما يصح غسله؛ فالله تعالى ذكرها مرتبة فقال: ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6]، فالذي يركب رأسه ويقول: أيش في ذلك؟ أنا سأبدأ بكذا، فإنه يكفر، لأنه يرد على الله عز وجل، لكن في حال العجز أو النسيان لا بأس، أما أن يتعمد المخالفة فهذا على شفا حفرة من النار.

    قال: [ ووجوب الفور أيضاً بحيث لا يفصل بزمن بين أعضاء الوضوء حال غسلها، بل يفعلها في وقت واحد إن أمكن ذلك].
    الترتيب عرفناه، الوجه فاليدان فالرأس فالرجلان، وترك الموالاة كأن يغسل كفيه فيتمضمض فيستنشق فيغسل وجهه ثم يقول: نستريح، يا أم فلان! أعطنا كأس قهوة، وبعد أن يشرب يأخذ في غسل رجليه بعد ذلك أو يديه، فهل يجوز هذا؟ لا يجوز؛ فلا بد من الفورية، اللهم إلا في حال العجز، كما لو أن الماء انقطع فوقف وذهب يأتي بالماء، فقد يبقى نصف أو ربع ساعة حتى يحصل عليه، فيبني على ما غسل، أو انكفأ الإناء الذي كان فيه الماء وهو ما غسل رجليه، فلا بد أن يطلب الماء، أو ينتظر حتى تجيء أمه بالماء، وليس عليه شيء؛ لأنه مضطر ما هو بمتعمد.
    وهل يصح أن يتوضأ ويقول: سأترك رجلي لأغسلهما عند المسجد؟
    الجواب: لا يصح، فالموالاة والفورية ركنان من أركان الوضوء وفريضتان من فرائص الوضوء إلا في حال العجز أو النسيان، نسي رأسه ما مسحه وقد جفت أعضاؤه فيمسحه وهو في البيت أو في السوق ولا حرج، نسي يده ما غسلها فإن كان في المجلس في موضع الوضوء فإنه يغسل يديه ويكمل وضوءه، ولكن إذا جفت أعضاؤه وبعد فترة قال: أنا ما غسلت يدي اليمنى فيغسلها وحدها ولا حرج.
    قال: [ وأكدت السنة وجوب النية حتى لكأنه شرط في صحة الوضوء ]؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات )، لو تدخل الحمام وتغتسل أربع ساعات بالماء الصابون ولم تنو رفع الجنابة فأنت -والله- ما زلت جنباً، لو تدخل النيل بكامله ولم تنو رفع الحدث الأكبر فأنت جنب، فالنية شرط في صحة الوضوء وفي كل العبادة، وفريضة من فرائض العبادة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى ).

    ذكر بعض موجبات الغسل
    [ وقال تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا )[المائدة:6]، أي: وإن أصابت أحدكم جنابة وهي الجماع والاحتلام، فمن جامع زوجته فأولج ] أي: أدخل [ ذكره في فرجها ولو لم ينزل ] أي: يخرج منه الماء [أي: لم يخرج منه المني فقد أجنب، كما أن من احتلم في منامه فخرج منه مني فقد أجنب، بل كل من خرج منه مني بلذة في نوم أو يقظة فقد أجنب ] وعلى الجنب الغسل، وقد عرفناه، يستنجي ويتوضأ وضوء الصلاة ثم يخلل شعر رأسه ويغسل رأسه ثلاث مرات مع أذنيه ويغسل شقه الأيمن إلى الكعب والأيسر إلى الكعب ظهراً وبطناً، هذا هو الغسل.قال: [ وانقطاع دم حيض المرأة ودم نفاسها كالجنابة يجب منه الغسل ]، إذا انقطع دم الحيض، والحيض من النساء ولذا يقال: امرأة حائض، لأن الرجل ما يحيض، فما يحتاج إلى أن تأتي بتاء التأنيث لتفرق بين الذكر والأنثى، إذ هل يقال: رجل حائض؟! لا يصح، يقال: رجل واقف، وامرأة واقفة، رجل آكل، وامرأة آكلة، رجل مستحٍ، وامرأة مستحية، أما الذي هو خاص بالأنثى فما يؤنث، فهذه التاء تسمى تاء التأنيث للفرق بين الذكر والأنثى، وفي الحيض والنفاس لا يقال ذلك للرجل.
    قال: [ وقوله: ( فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]، يريد: فاغتسلوا، وقد بينت السنة كيفية الغسل، وهي: أن ينوي المرء رفع الحدث الأكبر ]، أن ينوي المغتسل رفع وإزالة الحدث الأكبر، فالحدث الأصغر الوضوء والأكبر الغسل، وسمي حدثاً لأنه حادث ما هو بلازم ودائم، وإنما حدث له.

    [وهي: أن ينوي المرء رفع الحدث الأكبر بقلبه ]، لا يقول: اللهم إني نويت أن أغتسل، اللهم إني أريد أن أرفع الجنابة، لا حاجة إلى هذا، بقلبه فقط ينوي رفع الحدث، أو ينوي طاعة الله: أمرني ربي إذا أجنبت أن أغتسل فأنا أغتسل. [ ثم يغسل كفيه قائلاً: باسم الله ]، وإذا كان في المرحاض فلا يقول: باسم الله، ما يذكر اسم الله، يسكت، ويذكر ذلك في قلبه، [ ويغسل فرجيه ] القبل والدبر [ وما حولهما، ثم يتوضأ الوضوء الأصغر المعروف، ثم يخلل أصول شعر رأسه ببلل يديه ] حتى تستأنس البشرة ولا تتألم من الماء البارد، [ ثم يغسل رأسه ثلاث مرات، ثم يفيض الماء على شق جسده الأيمن كله من أعلاه إلى أسفله، ثم الأيسر، ويتعاهد الأماكن التي ينبو عنها الماء فلا يمسها؛ كالسرة وتحت الإبطين والرفقين وهما أصل الفخذين ]، ويغسل الأذنين مع الرأس، يغسل أذنيه ظاهراً وباطناً مع رأسه ثلاث مرات.

    مشروعية التيمم ومتى ينتقل إليه من الوضوء والغسل
    [ وقوله تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6]، ذكر تعالى في هذه الجملة الكريمة نواقض الوضوء وموجب الانتقال منه إلى التيمم فقال: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى )[المائدة:6]، فالمريض قد يعجز عن الوضوء؛ لضعف جسمه بعدم القدرة على التحرك، وقد تكون به جراحات أو دمامل يتعذر معها استعمال الماء حيث يزداد المرض بمس الماء] فيتيمم.[ وقوله: ( أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6]، إذ السفر مظنة عدم وجود الماء ] كما قدمنا، فالذي يسافر على ناقته وبعيره مسافة يوم وليلة من أين يأتي الماء وكيف يحصل عليه؟ فالغالب أن المسافر في الزمان الأول يحتاج إلى الماء، فقال تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6].

    قال: [ هذه موجبات الانتقال من الوضوء إلى التيمم ]؛ ينتقل من الوضوء إلى التيمم حال انعدام الماء أو العجز عن استعماله.
    [ وقوله عز وجل: ( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6]، ذكر في هذه الجملة الأولى نواقض الوضوء إجمالاً: وهو الخارج من السبيلين ]، وهما طريق الماء وطريق الخرء، والطريق: هي السبيل، فالمراد من السبيلين: القبل والدبر.

    قال: [ وهو الخارج من السبيلين من عذرة وفساء وضراط وبول ومذي ]، ومني أيضاً، فالخارج من القبل كالخارج من الدبر ناقض للوضوء، والفساء: هواء يخرج مع رائحة كريهة، والضراط صوت يسمع، والمذي: ماء رقيق يخرج عند انتعاش الذكر أو انتصابه فيوجب الوضوء ولا يوجب الغسل، والمني أيضاً قد يخرج بدون لذة.
    كان عندنا في القرية رجل حشاش غفر الله لنا وله، وكان يجادلنا ونحن طلبة علم صغار يقول: أنتم تدرسون العلم؟ أنا أسألكم سؤالاً: ما هي النجاسة التي لا تطهر إلا بنجاسة؟ قلنا: مستحيل هذا، كيف تكون نجاسة لا تطهر إلا بنجاسة! قال: اذهبوا تعلموا إذاً، ما تعلمتمز وبينها لنا، وهي: أنه إذا بال الفحل يخرج منه الودي، وهو ماء أبيض ساخن كالمني، هذا الودي إذا خرج لا يمكن أن يزول بالماء، لا يغسل إلا بالبول، أي: إذا بلت انقطع، وقبل أن تبول يبقى معك فأنت تصلي وهو يسيل، وهو نجاسة، فلا تطهر إلا بنجاسة وهي البول، وهذه لطيفة فقهية.
    وعندنا هنا ثلاثة أشياء: المني والمذي والودي: فالمني: ماء متدفق يخرج عند انتعاش الذكر، هذا يوجب الغسل إجماعاً في يقظة أو في نوم.
    والثاني: المذي، وكان علي رضي الله عنه مذاء، قال: استحييت من رسول لمنزلتي منه، أنا زوج فاطمة ، فقال للمقداد بن الأسود : اسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المذي. فقال: ( يغسل ذكره ويتوضأ )، فالمذي هذا: ماء رقيق يوجد عند النظر أو اللمس وانتعاش الذكر، هذا ينقض الوضوء بالإجماع ويغسل بالإجماع، ولكن ليس بجنابة.
    والودي: يوجد في الفحول، هذا يخرج عندما يتبول المرء يخرج بعد بوله ماء ثخين أبيض ما ينقطع إلا إذا بلت، فحاول أن تبول ولو بعد خمس دقائق، أو قف واجلس فإذا خرج منك بول انقطع، فهو نجاسة لا تطهر إلا بنجاسة، هذه الفذلكة يذكرها الفقهاء ولا حرج.
    قال: [وهو الخارج من السبيلين من عذرة وفساء وضراط وبول ومذي، كنى عنه بقوله: ( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ )[المائدة:6]، وهو مكان التغوط والتبول، وذكر موجب الغسل وهو الجماع، وكنى عنه بالملامسة، تعليماً لعباده المؤمنين الآداب الرفيعة في مخاطباتهم.

    وقوله: ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6]، ماءاً للوضوء أو الغسل، بعد أن طلبتموه فلم تجدوه فتيمموا، أي: اقصدوا، من أم الشيء: إذا قصده ]، أم الدار: إذا قصدها، أم الناس: كانوا وراءه وهو أمامهم، [( صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6] يريد ما صعد على وجه الأرض من أجزائها؛ كالتراب والرمل والسبخة والحجارة ]، ومع هذا التراب أفضل؛ لأن فيه أن تذل لله عز وجل وأن تمسح كفيك ووجهك بالتراب، وهذه مظاهر العبودية لله عز وجل، لو أن متكبراً قال: كيف أمسح وجهي بالتراب، لا أمسح إلا بالحجارة، فهل يصح هذا من مؤمن؟ هذا هو الكبر، لكن إذا ما وجد التراب فإنه يمسح على أي شيء ظهر على الأرض من أنواع أجزائها التي تصعد عليها.

    قال: [ وقوله: ( طَيِّبًا )[المائدة:6]، يريد به: طاهراً من النجاسة والقذر، وقوله: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6]، بيّن فيه كيفية التيمم، وهي: أن يقصد المرء التراب الطاهر وإن تعذر ذلك فما تيسر له من أجزاء الأرض، فيضرب بكفيه الأرض فيمسح بهما وجهه وكفيه ظاهراً وباطناً مرة واحدة ]، هذا الذي علم الرسول صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر .

    ولا يجوز المسح على الحائط ونحوه مما دخلت فيه يد العمران، إذ ما هو بأصلي هذا، ما هو من أصل الأرض، وإنما ما صعد على الأرض من أجزائها.
    قال: [ وقوله تعالى: ( مِنْهُ )[المائدة:6]، أي: من ذلك الصعيد، وبهذا بيّن تعالى كيفية التيمم، وهي التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله عنهما.


    تسهيل الله على عباده بالرخص في العبادات
    وقوله تعالى: ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )[المائدة:6]، يخبر تعالى أنه يأمرنا بالطهارة بقسميها: الصغرى وهي الوضوء، والكبرى وهي الغسل، وما ينوب عنهما عند العجز، وهو التيمم، ما يريد بذلك إيقاعنا في الضيق والعنت، ولكنه تعالى يريد بذلك تطهيرنا من الأحداث والذنوب، لأن الوضوء كفارة لذنب المتوضئ كما جاء بيانه في السنة.وقوله تعالى: ( وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، أي: بهدايتكم إلى الإسلام وتعليمكم شرائعه، فيعدكم بذلك لشكره وهو طاعته بالعمل بما جاء به الإسلام من الأعمال الباطنة والظاهرة، وهو معنى قوله: ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]. هذا ما دلت عليه الآية الأولى.

    أما الآية الأخيرة وهي قوله تعالى: ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:7]، فإنه تعالى يأمر عباده المؤمنين أن يذكروا نعمته عليهم بهدايتهم إلى الإيمان؛ ليشكروه بالإسلام، كما يذكروا ميثاقه الذي واثقهم به: وهو العهد الذي قطعه المؤمن على نفسه لربه تعالى بالتزامه بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم عندما تعهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

    وأما قوله: ( إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا )[المائدة:7]، قد قالها الصحابة بلسان القال عندما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وقد قالها كل مسلم بلسان الحال لما شهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة.

    وقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:7]، أمر بالتقوى التي هي لزوم الشريعة والقيام بها عقيدة وعبادة وقضاء وأدباً، وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:7]، يذكرهم بعلم الله تعالى بخفايا أمورهم؛ حتى يراقبوه ويخشوه في السر والعلن، وهذا من باب تربية الله تعالى لعباده المؤمنين لإكمالهم وإسعادهم؛ فله الحمد وله المنة ].

    هداية الآيات
    [ أولاً: الأمر بالطهارة وبيان كيفية الوضوء وكيفية الغسل، وكيفية التيمم ] كما في هذه الآية.[ ثانياً: بيان الأعذار الناقلة للمؤمن من الوضوء إلى التيمم.
    ثالثاً: بيان موجبات الوضوء والغسل.

    رابعاً: الشكر هو علة الإنعام.
    خامساً: ذكر العهود يساعد على التزامها ].
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #370
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (9)
    الحلقة (369)
    تفسير سورة المائدة (62)


    يدعو الله عز وجل عباده المؤمنين إلى أن يكونوا قائمين بعبادته سبحانه، شاهدين بالعدل ولو على الآباء أو الأبناء أو الإخوان، وحتى لو كانت الشهادة لصالح عدو أو مبغض فينبغي أن تؤدى على وجهها، وبهذا يمتاز المؤمن عن غيره، ويستحق أن يكون مقرباً عند الله، لأنه حقق التقوى التي أمره الله بها.

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    ما ينتقض به الوضوء من اللمس

    قوله تعالى: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6]، فسرنا الملامسة بمعنى: الجماع، وكان ابن عباس رضي الله عنه يدخل أصبعيه في أذنيه؛ حتى لا يغتر بلفظة أخرى معروفة عند العامة، فهو يقرر أن معنى قوله تعالى: ( أَوْ لامَسْتُمُ )[المائدة:6]، أي: جامعتم النساء، فمجامعة النساء -وهي أن يغيب رأس الذكر في الفرج- موجبة للغسل، أمنى أو لم يمن، انتعش ذكره أو لم ينتعش؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى الختانان وجب الغسل ).ثم قضية لمس الذكر: ( من أفضى منكم بيده إلى فرجه فليتوضأ )، أفضى بمعنى: ما هناك حائل لا ثوب ولا سراويل ولا أي شيء فمس ذكره بباطن كفه، فقد انتقض وضوؤه ووجب عليه الوضوء، لأن اللمس لا يكون بظهر اليد، هذا اللمس مظنة وجود لذة، إذا مس ذكره بكفه فذلك مظنة أن يحدث في نفسه لذة، هنا وجب الوضوء، أما إن أفضى ولكن كان بينه وبين ذكره ثوب أو سراويل فلا شيء عليه، أو وهو يغتسل مس ذكره بظاهر كفه فلا ينتقض وضوؤه، لا ينتقض الوضوء إلا بمس الذكر بباطن الكف: ( من أفضى منكم بيده إلى فرجه ).
    وهنا يأتي اللمس بمعنى: المس، فمن أراد أن يتلذذ من امرأته فمسها بقصد أن يتلذذ انتقض وضوؤه ولو لم يجد لذة، وإذا ما قصد شيئاً ولكن ما إن مسها حتى حدث في نفسه انتعاش وشهوة فقد انتقض وضوؤه.
    وقد يقال: كيف نفعل حال مزاحمة النساء؟ فنحن نقول: أولاً: لا يحل لنا أن نماس النساء لا بأجسامنا ولا يأيدينا، لكن إذا حصل في الطواف فكونك تقصد اللذة هذا ما يعقل ولا يقوله مؤمن، إلا إذا كان امرء فاسقاً يطوف ليعصي الله عز وجل، أما مؤمن يطوف وينوي اللذة فمستحيل، لكن إن حصلت فما إن مسها حتى انتعش فقد انتقض وضوؤه فيخرج ليتوضأ.
    أحكام المسح على الخفين

    بقي المسح على الخفين والجوربين والشرّابين، والتقشيرين باللغة المغربية، سمي تقشيراً لأنه يقشر، ينزع كالقشرة، والقول الأسلم الذي ما فيه كلفة: أن كل ما غطى الرجل وسترها من أجل دفع الحر أو البرد، كل ما ستر القدم مع الكعبين فهو يصح أن تمسح عليه، فإن كان بعض الرجل مكشوفاً فلا، إلا إذا كان جزءاً قليلاً فلا بأس، أما ثلث الرجل وربعها يكفشف فما عندك شيء.وسواء كان من جلد أو كان من صوف أو كان من ورق أو كان من ورق الشجر، المهم أنه يستر الرجل، هذا القول أسلم وأقرب إلى الرحمة الإسلامية، أما الفقهاء فمنهم من يشترط أن يكون من جلد، فنقول: ما دام أنه ما شدد الشرع علينا فلم نشدد؟
    وأما كيفية المسح ففيها طريقتان:
    الطريقة معروفة عند الفقهاء: أن تضع قدمك بين يديك وتمسح بيد فوق الرجل وأخرى تحتها، وهذا فيه كلفة.
    وحديث علي رضي الله عنه برد قلوبنا وهدأ نفوسنا، حيث قال رضي الله عنه: لو كان الدين بالعقل لكان مسح أسفل الخف أولى من ظاهره. لأن هذا يلي التراب فهو الذي يمسح، لكن الشارع مسح أعلاه.
    وقد عرفتم السر يا علماء الأسرار، وهو أنه ليبقى المؤمن ملتزماً بغسل رجليه، لو كان كل من لبس شراباً يمسح فممكن أن ينسى غسل رجليه؛ فليبقى مرتبطاً بغسل رجليه فإنه إذا غطاهما بشيء يسمح فوقهما، فلهذا لا تكلف نفسك، وإنما بُل يدك بماء وامسح بها ظاهر الخف، ونحن هنا ما التزمنا بمذهب معين، نحن مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأئمة الإسلام ما خرجنا عما قال أئمة الإسلام الأربعة، لكن لا ننتسب إلى واحد ونترك السنة.
    وأما شروط جواز المسح فهي: أن يلبس خفيه أو شرابيه على طهارة بلا خلاف، يكون قد توضأ أو اغتسل، ثم لبس خفيه أو شرّابيه، أما أن يكون قد لبسهما على غير وضوء فلا يجوز المسح أبداً، لا بد من نزعهما وغسل رجليه، هذه ما فيها خلاف.
    ثم المدة: فمنهم من يقول: يمسح أسبوعاً، ومنهم من يقول: بلا حد، فإذا ما نزعهما ولا أصابته جنابة مسح دائماً.
    والقول الراجح الذي به العمل هو الذي حدده صلى الله عليه وسلم: يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، توضأ لصلاة الصبح ولبس شرابه فإنه يتوضأ الظهر ويمسح وفي العصر يمسح وفي المغرب يمسح وفي العشاء يمسح، ثم جاءه الصبح فيجدد ويمسح يوماً وليلة، وإن سافر ثلاثة أيام بلياليها فيمسح على شرط ألا ينزع الخفين وألا يصاب بجنابة، فإذا أجنب فإنه يغتسل، انتهى المسح.
    وإذا انتقض وضوؤه بفساء أو بضراط وتوضأ فإنه يمسح فقط على خفيه ليوم وليلة، مثلاً: لو مسح على خفه بعدما توضأ للعصر فإنه يمسح المغرب والعشاء والصباح والظهر.
    هذه أحكام قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]، معنى ( فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]؟ أي: اغتسلوا، ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6]، فماذا نصنع؟ ( فَتَيَمَّمُوا )[المائدة:6] اقصدوا ( صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، فالحمد لله، والشكر لله.
    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط...)
    والآن مع نداء من نداءات سورة المائدة، حيث يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:8]، لبيك اللهم لبيك، نادانا مولانا ونحن نسمع، أما نقول: لبيك وسعديك؟ لقد قالها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.وكان عبد الله بن مسعود يقول: إذا سمعت (يا أيها الذين آمنوا) فأعرها سمعك. إياك أن تغفل أو تلوي رأسك؛ فأنت منادى، والله يقول: (يا أيها الذين آمنوا)، فقل: نعم رب، ماذا تريد؟
    وقد علمنا أن الله لا ينادينا لهواً ولا لعباً ولا باطلاً، ما ينادينا إلا ليأمرنا بما فيه خيرنا وسعادتنا، أو لينهانا عما فيه شقاؤنا وضلالنا، أو يأمرنا فيبشرنا بما يزيد في طاقة أعمالنا وصالحها، أو ينادينا ليحذرنا مما يؤذينا ويضرنا، أو ينادينا ليعلمنا، ينادينا لخمسة مقاصد.
    هنا ماذا يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ )[المائدة:8]، كونوا قائمين له، ( قَوَّامِينَ )[المائدة:8] بعبادة الله وطاعته، وقد تقدم من العبادة الوضوء والغسل والتيمم، وأعظم من ذلك العهد الذي أعطيناه له: ( وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا )[المائدة:7]، إذاً: ( كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ )[المائدة:8]، بالقيام بتلك الواجبات والمهام فعلاً أو تركاً.

    ثانياً: ( شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ )[المائدة:8]، كونوا شاهدين بالعدل عندما تشهدون ولو شهدت على أبيك أو أمك، والقسط: العدل، بخلاف الميل والجور، لا حيف ولا جور، ( كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ )[المائدة:8]، أي: قائمين أعظم قيام بما أوجب، وبما نهى وحرم.

    معنى قوله تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)
    قال تعالى: ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا )[المائدة:8]، ولا يحملنكم بغض قوم أو إنسان على ألا تعدلوا، فكونه عدوك آذاك أو ضربك ودعيت لتشهد وأنت على علم فيجب أن تعدل في شهادتك، ولا تشهد على هذا الذي آذاك وعاداك ولو كان يهودياً أو نصرانياً، وبهذا نمتاز نحن عن البشر، تجد أحدنا يشهد على أبيه أنه قتل؛ حيث يحتاج القاضي إلى اثنين يشهدان على أنه قتل، فيأتي الابن يقول: لقد قتل أبي هذا.وآية النساء التي سبق أن درسناها لاحظ كيف تختلف عن هذه في اللفظ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا )[النساء:135]، فهذا الموقف لا يقفه إلا الربانيون من هذه الأمة، يشهد على أبيه، على أمه، على ابنه، على أخيه بالعدل، ولا يلوي لسانه ولا يحرف الشهادة.

    وليس عندنا تقية، التقية عند الروافض، بل عندنا: ( فَاصْدَعْ )[الحجر:94]،كأنه قذيفة، ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ )[الحجر:94].

    نقول: يا عباد الله .. أيها المؤمنون! أمرنا بأن نكون قوامين لله في طاعته وطاعة رسوله، من الوضوء إلى الغسل، إلى التيمم، إلى الصلاة إلى العبادات، وأن نكون شهداء بالعدل، ولا يحملنا بغض إنسان أو كفره على أن نقول فيه الباطل ونشهد بالزور أبداً، كن مطمئناً، هذا نظام حياتنا.
    الأمر الثاني: ( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )[المائدة:8]، أقرب إلى أن تظفروا بتقوى الله، التي هي ملاك أمركم وتحقيق ولايتكم لربكم، العدل يقود إليها، فالذي يعيش على العدل هل يخون الله في أمره ونهيه؟ كلا، الذي يعيش على العدل والقسط توجد لديه ملكة نفسية ما يعصي بها الله عز وجل ولا رسوله، ومن لم يعص الله ولا رسوله فقد ظفر بالتقوى، والتقوى ما هي؟ أليست طاعة الله والرسول؟ فملكة العدل تورثك التقوى، وتجعلك من أهلها.

    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ )[المائدة:8]، (شُهَدَاءَ) هنا: جمع شاهد، ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ )[المائدة:8]، أي: لا يحملنكم، ( شَنَآنُ قَوْمٍ )[المائدة:8]، الشنآن: البغض والعداء والعداوة، ( عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )[المائدة:8]، هذا هو شأن الله عز وجل مع أوليائه، فمن هؤلاء الذين يخاطبهم ويبين لهم ويهديهم؟ أليسوا أولياءه؟ يريد منهم أن يكملوا ويسعدوا، يريد أن يجاوروه في الملكوت الأعلى، ومن هنا أمرهم بتزكية النفس وتطييبها.
    تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم)
    ثم قال تعالى: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:9]، وعدهم بماذا؟ وهل وعد الله حق أم لا؟ فإذا وعدك الله بالشيء فهل ممكن أن يخلف؟ هل يعجز أو ينسى؟ لا عجز ولا نسيان أبداً، فوعد الله ناجز.يقول تعالى: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:9]، وعدهم بماذا؟ قال: ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ )[المائدة:9] لذنوبهم، ( وَأَجْرٌ عَظِيمٌ )[المائدة:9]، هو نزولهم في الملكوت الأعلى في الجنة دار السلام في جوار ربهم تعالى، فهل هناك أجر عظيم أكثر من الجنة؟ لو أعطيت بنوك الدنيا كلها فذلك أجر عظيم، لكن هل يبلغ عظم الجنة؟

    فقوله تعالى: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:9]، ما المراد من الصالحات هذه؟ هل هي علاج المرضى كما يفعل القسس والرهبان؟ هل توزيع الخبز على الجياع؟ ما المراد من الصالحات؟
    الصالحات: كل اعتقاد أو قول أو عمل أمر الله به وفرضه أو ندبنا إليه أو رغبنا فيه، من عمله طهر به نفسه وزكى روحه، فهو لذلك عمل صالح؛ لأنه يزكي النفس ويطهرها، يدخل فيه الصلاة والزكاة والرباط والجهاد وبر الوالدين والأمر بالمعروف.. كل العبادات تحت شعار: العمل الصالح.
    صفة المؤمن الموعود بالمغفرة والأجر العظيم
    (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:9] أولاً، لأن الصالحات إذا لم يعملها المؤمن إيماناً لا تنفعه، لا تنتج له زكاة ولا طهراً، فالإيمان شرط، بدليل أن الكافر لو تصدق بملء الأرض ذهباً لا يفديه يوم القيامة: ( وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ )[الزمر:47]، ولكن هل يقبل منهم؟إذاً: وعد الله الذين آمنوا حق الإيمان، فالشيوعيون يقولون: نحن مؤمنون، اليهود مؤمنون، النصارى، المجوس، كلهم مؤمنون، فمن هو المؤمن بحق؟
    المؤمن بحق هو ذاك الذي آمن بوجود الله رباً وإلهاً وآمن بكل ما أمر الله أن نؤمن به، من الملائكة، من الكتب، من الرسل، من البعث، من الجزاء، من الدار الآخرة، من القضاء والقدر، وأعظم من ذلك أن آمن بمحمد رسولاً ونبياً، فلو آمن بكل الرسل وكفر بمحمد فوالله إنه لكافر، لو آمن بكل الرسل وكفر بعيسى فوالله إنه لكافر، لو آمن بكل الملائكة إلا جبريل فوالله إنه لكافر، آمن بيوم القيامة إلا أنه قال: ما نؤمن بجنة ولا نار، فوالله إنه لكافر، فالمؤمن عبد آمن بالله رباً وإلهاً ثم صدق بكل ما أخبر الله به من شأن الغيب والشهادة، وبكل ما أمر الله أن نؤمن به، ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا )[التغابن:8]، هذا المؤمن، ومن أراد أن يعرف هل هو مؤمن أو لا فعندنا شاشة قرآنية، ما هي بتلفاز ولا فيديو، شاشة بيضاء قرآنية، من وجد نفسه فيها قال: الحمد لله، ومن لم يجد نفسه فليعلم أنه ما هو بمؤمن، فليمش إلى أهل العلم ويسألهم: كيف نؤمن؟
    قال تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ )[الأنفال:2]، أي: بحق وصدق، لا بالادعاء والنطق، ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ )[الأنفال:2]، من هم يا رب؟ ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )[الأنفال:2-4].

    وفي شاشة أخرى قال تعالى من سورة التوبة: ( وَالْمُؤْمِنُون َ )[التوبة:71]، أي: بحق وصدق، ( وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )[التوبة:71]، امرأة صينية وأنت أمريكاني، فأنت أخوها وهي أختك، فانصرها إذا احتاجت إلى نصرك، وتحبها كما تحب أختك وأمك، مؤمن أسود غربي وأنت أبيض صقلبي، يجب أن تحبه وأن تنصره، متى استغاث بك واستنصرك نصرته، ( وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )[التوبة:71]، شاشتان في القرآن، فانظر تجد نفسك في الشاشتين إن شاء الله، وإن غبت في موطن فعجل لتظهر فيه.
    حاجتنا إلى التخلص من الذنوب
    (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ )[المائدة:9]، مغفرة لأي شيء؟ لذنوبهم، وهل يعقل أن العبد ما يذنب؟ هل هو معصوم؟ لو كان ابن سنة أو سنتين أو عشر فممكن، وإذا عاش سبعين سنة فمن الجائز ألا يذنب، وقد عرفنا أن الذنب ليس دائماً هو أن تسرق أو تزني، بل تقصيرنا في شكر الله من ذنوبنا، أما أمرنا بالشكر؟ فالذي يأكل وما يقول: الحمد لله، أو يركب الطائرة ولا يقول: الحمد لله أليس بمذنب؟ فطهر نفسك وبعد ذلك تدخل الجنة، يدل لذلك قول الله تعالى: ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ )[آل عمران:133] أولاً، وإلى ( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ )[آل عمران:133]، فأولاً: التوبة، ثم العمال الصالح، أما الذي ما زال على الشرك ويعمل الصالحات فما تنفعه.

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #371
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (1)
    الحلقة (370)
    تفسير سورة المائدة (1)


    الله عز وجل هو خالق السماوات والأرض، وخالق الظلمات والنور، ومدبر الخلائق والأكوان، لا يكون شيء في السماوات أو في الأرض أو بينهما إلا بإذنه، وهو الذي خلق هذا الإنسان من طين، وعلم ما يختلج في صدره وما يتردد في فكره وسره، ومع ذلك تجد الجهال من خلقه يكفرون به سبحانه، ويعدلون به أصنافاً وأوثاناً لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً، فضلاً عن أن تملكه لغيرها، فسبحان من بيده الهدى والضلال.
    بين يدي سورة الأنعام
    القضايا العقدية المقررة في سورة الأنعام
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات، إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
    وها نحن الليلة مع فاتحة سورة الأنعام، سورة الأنعام من السبع الطوال، هذه السورة -معاشر المستمعين والمستمعات- زفَّها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعون ألف ملك ولهم زجل وتسبيح.
    هذه السورة المكية تقرر ثلاثة مبادئ:
    أولاً: توحيد الله تعالى.
    وثانياً: إثبات لقاء الله تعالى.
    وثالثاً: رسالة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    توحيد الله، لقاء الله، تقرير النبوة المحمدية.
    وهذه السورة لجلالتها وددنا لو أنها يحفظها كل مؤمن ومؤمنة، وخاصة طلاب العلم، سواء الذين يطلبون الصناعة أو الكيمياء، أو الطب، أو علم الفلك، حفظ هذه السورة خزينة من خزائن النور، صاحبها لا يضل بإذن الله تعالى.
    فهيا ندرس هذه الآيات الثلاث منها:
    تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ...)
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:1-3] من خير وشر.
    السور المفتتحة بالحمد
    معاشر المستمعين والمستمعات! السور التي افتتحت بحمد الله عز وجل في كتاب الله خمس: أولاها: الفاتحة. وثانيتها: الأنعام. وثالثتها: الكهف. ورابعتها: سبأ. وخامستها: فاطر.أول سورة في كتاب الله هي: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الفاتحة:2]، افتتح الله تعالى بها كتابه، فهي فاتحة الكتاب، ولا تصح صلاة بدون قراءتها.
    والسورة الثانية الأنعام، وسميت بالأنعام لذكر لفظ الأنعام فيها أربع مرات، والأنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم: الضأن والماعز، هذه هي الأنعام التي أحلها الله تعالى لنا.
    معنى قوله تعالى: (الحمد لله)
    فهذه السورة مفتتحة بكلمة: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ )[الأنعام:1]، أي: المدح والثناء الجميل الحسن هو لله، الحمد: الثناء بالجميل، فالثناء الحسن هو حق الله عز وجل. و(أل) هنا للاستغراق، جميع المحامد هي حق الله عز وجل، هي لله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ )[الأنعام:1] عز وجل.و(الله) هذا الاسم علم على ذات الرب عز وجل، كل ذاتٍ لها اسم تعرف به، حتى الإنسان والحيوان بل والنباتات، هذا عنب وهذا تفاح، والله جل جلاله بارئ النسم وخالق الخلق له اسم هو (الله)، وله تسعة وتسعون اسماً منها (الله)، ناده: يا ألله، ناده: (اللهم) وسل حاجتك، وارفع إليه شكواك، والله يسمع دعاءك أينما كنت ولو كنت في جوف سمكة بالبحر الأسود المظلم، يسمع صوتك، وقد سمع صوت يونس ذي النون عليه السلام وهو في ظلمة بطن الحوت، في ظلمة البحر، في ظلمة الليل، إذ قال تعالى عنه: ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )[الأنبياء:87]، إذ نادى في الظلمات: ظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، ( لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )[الأنبياء:87] ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ )[الأنبياء:88].
    أبشروا يا من هم مؤمنون صادقون في إيمانهم، هذا وعد الله كما نجى يونس ينجي المؤمنين من ظلمات الجهل، من ظلمات الفقر، من أية ظلمة من الظلمات، ادع وارفع يديك إليه واسأل حيثما كنت فإنه قريب مجيب، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه.
    (الحمد): الوصف بالجميل، الثناء الحسن، إذ كل جميل يليق بالله عز وجل، كل حسن الله أهله، كل ثناء بالطيب والخير هو لله عز وجل، ( الْحَمْدُ لِلَّهِ )[الأنعام:1].
    آداب مدح الناس وحمدهم
    وهنا ألفت النظر إلى أننا لا يصح منا أن نحمد من ليس هو بأهل للحمد، وإلا كنا كاذبين، فلا يُحمد شيء إلا إذا كان له وصف جميل يستحق به الثناء والحمد، ومن حمد أو مدح وأثنى على من ليس لذلك بأهل فهو كاذب والعياذ بالله، وهذا الله عز وجل في هذه الفواتح الخمس يذكر الحمد له ويذكر سببه.الحمد لله لم؟ كيف؟ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )[الفاتحة:2-4]، أما يحمد على هذا؟ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )[الأنعام:1]، أما يحمد على هذا؟ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا )[الكهف:1]، ( قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا )[الكهف:2]، كيف لا يحمد؟ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ )[سبأ:1]، تحمد الذي له بعير أو شاة، فكيف بالذي له ما في السماوات والأرض؟ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[فاطر:1]، وخالقها.
    فمن هنا بيَّن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم آداباً فزنا بها:
    أولاً: لا نحمد إلا من كان أهلاً للحمد، وإذا حمدناه أو مدحناه فلا ينبغي أن نمدحه في وجهه، نذكره بالخير وهو غائب، أما أن نمدحه في وجهه فقد قال في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قطعت عنق صاحبك ).
    وقد قررنا -والحمد لله والله شاهد- وبينا منذ عشرات السنين أنه حين يأخذ العرب يمدحون رئيسهم ويتبجحون ويحمدونه؛ لا يشعر حتى يطغى ويتجبر ويتكبر ويفعل العجب، ولفتنا النظر وقلنا: لا يصح هذا أبداً، الرسول صلى الله عليه وسلم ما أذن لصاحب أن يمدح رجلاً بين يديه، وقال: ( قطعت عنق صاحبك)، ولو شئنا لسمينا الزعماء الذين أضللناهم وألقيناهم في الضلال بسبب مدحنا وثنائنا وتبجحنا حتى طغوا، ومن أبسط ما يكون: طالب علم يشاهد ذكاءه أو فطنته أو حرصه فيأخذ في مدحه ينتكس، يرى نفسه أنه أعلم الناس، أذكى الناس، فيهبط من حيث لا يشعر.
    إذاً: فالله عز وجل يحمد نفسه وهو أهل للحمد والثناء، ومع هذا يذكر علة ذلك الحمد وسببه، وحسبنا أن يعلمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أننا إذا مدحنا لا نغالي ونبالغ، ولا نمدح في وجه الشخص حتى لا يتأثر أو يصاب بمحنة، فنذكره بخير في حال غيبته لا مواجهة.
    فها هو تعالى يحمد نفسه، ويذكر سبب ومقتضى هذا الحمد: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ )[الأنعام:1]، ما بنى قصراً أو سفينة، أو حرر إقليماً، أو غزا وانتصر على جيش، خلق السموات والأرض، ووالله ما كانا موجودين وأوجدهما، وأنت لا تدعى إلى غيب، بل ارفع رأسك إلى السماء تشاهد كواكبها ونجومها وهواءها وأمطارها وشهبها، ضع رأسك للأرض تشاهد هذه المخلوقات، من خلقها سوى الله؟ والله لا خالق إلا هو، ولم يوجد في البشرية من ادعى خلق كوكب من الكواكب، خلق السموات السبع والأرضين السبع أيضاً، وقد كان الله ولا شيء، لا سماوات ولا أرضون، وأوجدهما العزيز الجبار، أهذا لا يستحق الحمد؟ إذا لم يحمد هو فمن يحمد؟
    (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ )[الأنعام:1] فهذه الأجرام التي تشاهد ويلمس بعضها ويحس أوجدها الله عز وجل.
    معنى قوله تعالى: (وجعل الظلمات والنور)
    (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )[الأنعام:1]، أوجد الظلمات والنور أيضاً، هل تستطيع الخليقة أن توجد ظلمة؟ ما تستطيع. هل تستطيع أن توجد نوراً؟ ما تستطيع. من جعل الظلمات والنور؟ والحياة البشرية متوقفة على هذا، لولا الظلمة والنور لما استطاعت البشرية أن تعيش وتوجد، والظلمات والنور من الأجرام المحسوسة، وهناك ظلمات الجهل والكفر والظلم، ظلمات أشد حلوكة وظلاماً من ظلام الليل، وهناك أيضاً نور أشد من نور الشمس وأقوى وأصفى كثيراً، هو نور العلم والإيمان. فمن جعل الظلمات والنور؟ هل ثم من يرفع يده ويقول: فلان الفلاني، أو بنو فلان، أو بنو فلان؟ فاحمد يا ألله نفسك، فأنت أهل الحمد والثناء، ونحن نحمدك يا ربنا: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )[الأنعام:1].
    فالسموات السبع وما فيهن والأرضون السبع وما فيهن من مخلوقات الله عز وجل الله خالقها وموجدها، هذه الأجرام المحسوسة، وظلمات البر والبحر، الظلمات في الليل والنهار، والأنوار التي نعيش عليها في أيامنا من أوجدها؟ الله عز وجل.
    معنى قوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)
    (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، ومع ذلك فالذين كفروا يعدلون بربهم، يا للعجب؟! يا للغرابة؟! مع هذا يعدلون بربهم أوثاناً وأصناماً، مخلوقات هابطة ساقطة، ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1] به غيره من المخلوقات، هذا يعبد الملائكة، وهذا يعبد الشمس، وهذا يعبد القمر، وهذا يعبد النار، وهذا يعبد الظلام، هذا يعبد عبد القادر ، هذا يعبد عيسى، هذا يعبد أمه، لأنهم كفروا فلهذا عدلوا غير الله بالله، وأقبلوا على غير الله يتضرعون ويبكون ويسألون ويتمسحون، معرضين عن الله عز وجل، حالهم تستدعي التعجب لنا، ولهذا جيء بـ(ثم) للفصل والبعد: ( الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، يعدلون به غيره، عدل بفلان فلان، عدل بفلانة امرأته الأخرى، فالذين أقبلوا على غير الله يركعون، يسجدون، يسبحون، يغنون، يصلون، يدعون، يتقربون بذبيحة بكذا ولو بشمعة يوقدونها، والله لقد عدلوا بربهم سواه، وسبب ذلك ظلمة الكفر، لو كانوا مؤمنين حق الإيمان، صادقين في إيمانهم لمعرفتهم بربهم وجلاله وعظمته وكماله، ولمعرفتهم بأن المخلوقات كلها مفتقرة إلى الله محتاجة إليه، لولا الله ما كانت ولن تكون، هؤلاء المؤمنون لا يعدلون بربهم، لكن ظلمة الكفر، وظلمة الجهل هي التي تجعل الإنسان يغمض عينيه عن خالق السموات والأرض وهذه المخلوقات، ويفتح عينيه في حجرة أو شجرة يستغيث بها ويدعوها، سواء كانت من الملائكة أو من البشر والرسل، أما عبدوا عيسى عليه السلام؟ أما استُشهِد يوم القيامة: ( أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[المائدة:116]، معنى هذا أنهم اتخذوه إلهاً، عبدوه، أعطوه قلوبهم، ونياتهم، وأقوالهم، وعكفوا على عبادته.
    الجهل وأثره على المسلمين في إيجاد مظاهر الشرك والبعد عن الهداية القرآنية
    (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، يا عبد الله! ما معنى يعدلون؟ يعدلون به غيره. بدل أن يطرح بين يديه يطرح تحت صنم، بدل أن يرفع يديه إلى ربه يستغيث به يرفع يديه يستغيث بـعبد القادر ، بـمبروك ، يا مولاي إدريس ، يا سيدي البدوي ، يا عيدروس ، يا فلان يا فلان! هذا الجهل عم ديار الإسلام أكثر من ثمانمائة عام، وهذه اليقظة الجديدة لها عوامل وأسباب، وإلا فالقرية الواحدة تجد فيها كذا معبوداً يُعبد من دون الله، القرية الواحدة تجد فيها كذا طريقة، تجانيون وقادريون وعلوانيون وفلانيون، والقرية صغيرة، أصاب الأمة ظلام لا حد له، وعلة ذلك أن الثالوث الأسود -المجوس، واليهود، والنصارى- عرفوا سر حياة هذه الأمة وسر هدايتها، ألا وإنه القرآن العظيم، كتاب الله النور الإلهي، فصرفوهم عن الاجتماع عليه من تلاوته وتدبره، وفهم مراد الله وما يريد لهم في كتابه، وجعلوه موقوفاً على الموتى، لا يجتمع اثنان على قراءة القرآن إلا على الميت، من إندونيسيا إلى موريتانيا، حتى مدينة الرسول ومكة بلد الله، قبل هذه الدولة دولة عبد العزيز كانوا كغيرهم من العالم الإسلامي، لا يجتمعون على قراءة القرآن إلا ليلة الميت، وإياك أن تقول: قال الله، فإنك تكفَّر، وقالوا القاعدة: (تفسير القرآن صوابه خطأ، وخطؤه كفر)، فتقول: قال سيدي فلان، قال الشيخ، قال كذا، أما قال الله فلا! فكمموا هذه الأمة، وألجموها وأسكتوها، فانتظمها الجهل من الشرق إلى الغرب، وظهرت جاهلية أفظع من جاهلية الأولين، ورحم الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب الذي كانوا يكفرونه ويقولون: صاحب مذهب خامسي أيام الظلام العاتي، والآن خفَّ هذا، يقول رحمه الله تعالى: المشركون إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين.
    وهذا عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه سبب إسلامه أنه لما فتح رسول الله مكة بإذن الله هرب رؤساء الطواغيت وشردوا، ومن بينهم عكرمة هرب إلى البحر، ما يريد أن يرى وجه محمد بعد يومه، وصل إلى ميناء من الموانئ، فوجد سفينة تريد أن تقلع، وسفن ذاك الوقت بلا بنزين، فركب، وتعمقت السفينة في البحر كيلو متر أو كذا، قال ربان السفينة أو ملاحها: يا معشر الركاب! الحمولة ثقيلة، فانظروا ماذا تصنعون أو نرجع. قالوا: نرجع.
    سبحان الله! ربان السفينة غير ربانها مع يونس، سفينة يونس عليه السلام قال ربانها: يا إخواننا! الحمولة ثقيلة، ولا بد من إسقاط واحد، من منكم يتبرع ويحيي الآخرين فيلقي بنفسه في البحر، وينجو إخوانه. فما استطاع واحد أن يتبرع، قالوا: إذاً: القرعة، فمن خرجت القرعة عليه نرميه بالقوة، فاقترعوا، فوقعت على يونس بن متى، ( فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ )[الصافات:141]، جمعوا ثيابه عليه ودفعوا به في البحر، فأمر الله سمكة من عظام السمك ففتحت فاها فدخل يجري فيها، لا مضغته ولا آذته، ( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ )[الصافات:142]، لأنه هرب من الدعوة، ما واصلها، ما كان من حقه أن يخرج من بلاد نينوى، هذه حادثة.
    والذي نريده شاهداً لما نقول ما ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، قال: يا للعجب: مشركو العرب كانوا يوحدون الله في الشدة، ويشركون به في الرخاء، أما مشركو اليوم ففي الرخاء والشدة على حد سواء!
    ومن ذلك خبر عكرمة ، فـعكرمة لما فتح الله على رسوله مكة هرب حتى لا يواجه الرسول ويؤمن به أو يذل، فوجد سفينة تريد أن تقلع فركب، لما ركب السفينة واضطربت بموج البحر قال الربان: يا قوم! ادعوا الله، ارفعوا أيديكم لينجيكم من الغرق، فعكرمة تفطَّن فقال: سبحان الله! أنا هربت من التوحيد، والآن يلحقني حتى في البحر! ارجع بي إلى الشاطئ حتى أذهب إلى محمد وأسلم، أنا ما هربت إلا من كلمة: لا إله إلا الله، والآن في حال البحر تقول: ادعوا الله ولا تدعوا غيره لينجيكم؟ فقال: والله لترجعن بي إلى الساحل. ورجع وأتى الرسول وبكى، وشهد إن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
    قال تعالى: ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ )[العنكبوت:65]، أيُّ حال أحسن: حال المشركين الأولين، أم حال المشركين المحمديين المنسوبين إلى الإسلام؟ الأولون على الأقل في حال الشدة يفزعون إلى الله وحده، هذا ما هو كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، هذا -والله- كلام الله: ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )[العنكبوت:65]، لماذا دعوه؟ لأن السفينة تضطرب والأمواج تكاد تغرقها، ففزعوا إلى الله عز وجل فأنجاهم، فإذا نجاهم إلى البر رجعوا إلى الشرك والتبرك بالأحجار.
    ذكر قصة الحجيج المستغيثين بغير الله تعالى لاضطراب سفينتهم
    ورحم الله الشيخ رشيد رضا صاحب المنار، حقاً إن تفسير المنار منار هداية، يذكر أن شيخه محمد عبده قال: كنا أيام الدولة العثمانية، وكانت سفينة كبيرة تجمع الحجاج، تبدأ من طرابلس في الغرب، إلى الإسكندرية إلى اللاذقية أو أحد هذه الموانئ على البحر الأبيض، وتحمل الحجاج من كل إقليم خمسة أو عشرة في ذاك الزمان.قال: فلما مشت السفينة وتعرضت لهزة شديدة من الأمواج أخذ الحجاج يستغيثون: يا سيدي عبد القادر ، يا رسول الله، يا فاطمة ، يا حسين ، يا بدوي ! أنجنا.. أنقذنا، نحن بكم وبالله! وكان بينهم رجل، فرفع يديه إلى الله وقال: اللهم أغرقهم فإنهم ما عرفوك.
    كأنكم حاضرون، وجربنا هذا، أنا قلت لكم: كان سائق يسوق بي من أهل العلم، فالسيارة خرجت بنا عن الطريق، وإذا به: يا رسول الله.. يا رسول الله! ولو هلك لكان إلى جهنم، فلا عجب في هذا أبداً.
    أما قلت لكم -والله يشهد- الرجل يذكر الله بالألف وأكثر: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، ثم حين تأخذه سنة من نوم فتسقط المسبحة من يده إذ به يقول: يا رسول الله! أو يأتي بـعبد القادر ، فما معنى: لا إله إلا الله إذاً، لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، وعند الحاجة: يا سيدي فلان!
    هذا هو معنى ظلمة الجهل، فالإيمان ليس مجرد أن تقول: أنا مؤمن، أو تكون ابن مؤمنين، الإيمان أن تسأل عن الله وتعرفه بأسمائه وصفاته، وجلاله وكماله، وعظمته ورحمته، فتمتلئ نفسك وقلبك بحبه والخوف منه، ثم حينئذ إذا قلت: الله لا تبالي بأي مخلوق من المخلوقات، هذا هو الإيمان وهذا هو المؤمن، لا مجرد مؤمن ما عرف من هو الله، ولا كيف الله، فتأتي أدنى محنة فينسى الله ويفزع إلى غير الله عز وجل.
    (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، يا للعجب! يا للغرابة! ماذا نقول؟ هذا كلام الله، لكن نلفت النظر إلى العلة، قال: ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا )[الأنعام:1]، عرفت السبب أم لا؟ ظلمة الكفر هي التي رمت بهم في هذه المزبلة، فأصبحوا يعدلون بالرب العظيم مخلوقات لا تبدي ولا تعيد، ولا تحيي ولا تميت، ولا أوجدت ذرة من الكون، يسوونها بالله فيستغيثون بها وينادونها، كما نقول: يا الله! ويتقربون إليها بالقرب التي لا تكون إلا لله، من الذبح، والنذر، والحلف، وما إلى ذلك.
    تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون)
    ثم قال تعالى ( هُوَ )[الأنعام:2] لا غيره ( الَّذِي خَلَقَكُمْ )[الأنعام:2] يا بني آدم، أبيضكم كأسودكم، أولكم كآخركم، ( خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ )[الأنعام:2]، إذ خلق أبانا آدم من مادة الطين، تراب مبلل حتى يتغير ويصبح كالحمأة، ومنه صنع الله عز وجل بيديه آدم عليه السلام، ونفخ فيه من روحه، وخلق أنثاه حواء من ضلعه الأيسر، ونحن تناسلنا من آبائنا وأمهاتنا، أصلنا من طين، والفواكه.. الحبوب.. الثمار.. كلها من الطين، دماؤنا من الطين، أعصابنا وعظامنا مكونة من الطين. هذا الذي خلقنا من الطين نغمض أعيننا عنه، ولا نسأل عنه، ونلتفت إلى غيره ونعبده بالتمجيد والتعظيم والطاعة!
    المراد بالأجلين في الآية الكريمة
    (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا )[الأنعام:2]، هذه أعظم من الأولى، قضى أجل الموت، هل استطاع الحزب الشيوعي لما شاب لينين وبعده ستالين هل استطاعوا أن يحتفظوا بحياة هذا الزعيم؟ وزعماء العرب الذين قدسناهم ورفعناهم إلى السماء حتى ضلوا هل استطعنا أن نحفظ حياتهم، ينقلونهم إلى روسيا للعلاج وما نفع.(ثُمَّ قَضَى )[الأنعام:2]، حكم وقدر، ( أَجَلًا )[الأنعام:2] ألا وهو أجل كل إنسان ذكر أو أنثى، محدد -والله- باللحظة، بأقل من الدقيقة والثانية، هل استطاعت البشرية أن تنقض هذا الحكم لو كان لها علم أو قدرة، أو لها آلهة تستطيع أن ترد على الله هذا القضاء وتحيي من تشاء، هل تم هذا أو وجد؟ ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )[آل عمران:185]، هذا قضاء الله وحكمه، قضى أجلاً وأجل آخر مسمى عنده، وهو أجل نهاية هذه الحياة.
    آجالنا كما تشاهدون: توفي فلان، توفيت فلانة، آجال محدودة باللحظة، وقبل أن يخلق الله السموات والأرض كتب في كتاب المقادير.
    والأجلُ الآخر معروف لله تعالى ولم يطلع عليه أحد سواه، أجل نهاية الحياة وبداية الحياة الآخرة، هذا لا يعرفه إلا الله، ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً )[الأعراف:187]، هذا الأجل الثاني، ( قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ )[الأنعام:2]، ولو كان إنسان يستحي لذاب حياء من الله، ثم أنتم يا بني آدم تشكون في ربكم، وفي لقائه وقدرته، وفي رسله وشرعه وكتابه، أين يذهب بعقولكم؟
    والامتراء: الشك والعصيان، فكل من عبد غير الله شك في الله وارتاب، كل من عصى الله وخرج عن طاعته وفسق عن أمره ما آمن الإيمان الحق، ما عرف الله معرفة تجلب حبه في قلبه والرهبة منه في نفسه فيخافه ولا يعصيه.
    تفسير قوله تعالى: (وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون)

    (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ
    )[الأنعام:3] المعبود في السموات كما هو المعبود في الأرض، إذ قال تعالى من سورة الزخرف: ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ )[الزخرف:84]، وهنا يقول: ( وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ )[الأنعام:3]، سواء كنتم في السموات، في الجبال، في السحب، أو في أعماق الأرض، ( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ )[الأنعام:3] أي: ما تخفونه من كلام، وما تجهرون به، وفوق ذلك: ( وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3].(وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3] من الكلمة، أو بعض الكلمة، من الحركة والخطوة ودونها، كل ما نكسبه بأسماعنا، بأبصارنا، بألسنتنا، بأيدينا، بفروجنا، ببطوننا، إذ هذا هو الكسب، كل ذلك معلوم عند الله عز وجل، ويجزي به، ويرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، لكن رحمته قائمة على مبدأ عدله، وتعذيبه كذلك.
    فيا معشر المؤمنين! هيا نقبل على ربنا صادقين، نذكره، نمجده، نحمده، نعمل على طاعتنا له، حتى يتوفانا وهو راض عنا، اللهم حقق لنا ذلك، اللهم توفنا وأنت راض عنا، إنك ولينا وولي المؤمنين.
    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #372
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (10)
    الحلقة (371)
    تفسير سورة المائدة (2)


    النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا بشر، وتظهر بشريته في حزنه وتألمه حين يعرض عنه المشركون ويكذبونه، والله عز وجل يعزيه ويواسيه بإخباره أنهم إنما يكذبون بآيات الله ورسالاته، وحالهم هذا شبيه بحال من أنكروا الرسالات السابقة، وكذبوا الأنبياء الذين جاءوا من قبل، فما عليه إلا الصبر على ما يلاقي في سبيل دعوته؛ لأنه لا يمكنه أنه يأتيهم بغير ما آتاه الله من الآيات والبراهين، ولو شاء الله لهم الهداية جميعاً لهداهم، ولكنها حكمة بالغة منه سبحانه بأن يكون من عباده المؤمن والكافر، وهو الحكيم الخبير.
    تفسير قوله تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلك السورة التي علمنا أنها زفت بسبعين ألف ملك من ملائكة الله، ولهم زجل وتسبيح، وعلمنا أنها تقرر تلك الأصول الثلاثة:
    أولاً: توحيد الله عز وجل بألا يعبد في الملكوت سواه.
    ثانياً: تقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته.
    ثالثاً: تقرير مبدأ البعث الآخر أو الحياة الآخرة، البعث والجزاء.
    فهذه السورة على جلالتها تقرر هذه الأصول الثلاثة، وقد علمنا أن العبد إذا عرف الله ثم عبده وحده حيي وأصبح حياً يسمع ويبصر ويعطي ويأخذ، فإذا آمن بالله رباً لا رب غيره وإلهاً لا إله سواه، فكيف يعبده؟ لا بد من طريق محمد صلى الله عليه وسلم، فآمن بالرسالة، ولِمَ يعبده؟ يعبده لأن يكرمه يوم يلقاه، وينزله في منازل الأبرار، فهو -إذاً- مؤمن بهذه القواعد أو الأصول الثلاثة، وهنا هذه الآيات الثلاث قبل الشروع في تفسيرها نسمع تلاوتها من أبي بكر المدني تلميذ شيخكم فتح الله عليه وعليكم.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:33-35].
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )[الأنعام:33]، وفي قراءة سبعية: (ليُحزِنُك) من: أحزنه يحزنه، وقراءة (لَيحزُنَك) من: حزنه يحزنه.
    من القائل: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )[الأنعام:33]؟ إنه الله تعالى، والله إنه الله، إذ هذا كلامه في كتابه، من المخاطب بهذا؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    (قَدْ نَعْلَمُ )[الأنعام:33]، وعزتنا وجلالنا ( إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )[الأنعام:33]، ومعنى يحزنك: يصيبك بالحزن والغم والكرب، لماذا؟ لأنهم يقولون: كذاب، ساحر، شاعر، مجنون، مفتر، ويأتون بالأباطيل والترهات وكلها يضفونها عليك، فنحن نعلم منك هذا.
    (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )[الأنعام:33]، أي: يدخلونك في دائرة الحزن والغم والكرب، ونحن أرحم بك منك بنفسك، فاصبر يا رسولنا! وهذا يتفق -أيضاً- مع كل مؤمن يدعو إلى الله ليعبد وحده، فيجد من يسخر منه ويهزأ به، ويكذبه ويعترض طريقه، إذاً: فليذكر هذا فيجد فيه الأسوة والقدوة فيتحمل ويصبر على دعوة الله.
    تكذيب الكفار ليس لشخص النبي وإنما لما جاء به من دين
    (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ )[الأنعام:33]، وقرئ: ( فإنهم لا يَكْذِبونك )، والكل صحيح، ( لا يُكَذِّبُونَكَ )[الأنعام:33] عندما يردون عليك ويقولون كذا وكذا هم في نفس الوقت يعلمون أنك ذو الصدق وأنك أصدق الخلق، وأنك لا تكذب، وما جربوا عليك كذبة واحدة قط، فإذا اعترضك المعترضون وأخذوا يطعنون ويصفونك بتلك الصفات الباطلة فلا تفهم أنهم يعتقدون ذلك، بل يعلمون أنك رجل الصدق، وكبارهم كالأخنس بن شريق وأبو جهل وأبو سفيان كلهم يعرفون أنه صادق فيما يقول، وحاشاه أن يكذب، ولكن الدفاع عن المصلحة عن الموقف عن الشرف عن المركز أصحابه يقولون الباطل، لكن -يا عبد الله- لا تحزن ولا تكرب إذا هم وصفوك بما أنت بريء منه؛ لأنهم لا يعتقدون ذلك فيك أبداً، وإنما حملهم على ذلك أن يبقوا على ألهتهم وعبادتهم وعاداتهم، وأن تبقى الأمة مجتمعة عليهم، فيدفعون بهذا القول، وهذا فيه تسلية لرسول الله وتعزية له، فإذا لم يعزه الله ويصبره فكيف سيصبر؟ كيف سيثبت وهو فرد ضده العالم بأسره.
    عماية الظالمين عن الحق مكابرة وعناداً
    (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ )[الأنعام:33]، ماذا؟ ( وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ )[الأنعام:33]، هذه صفتهم، هذه شنشنتهم وعادتهم، الظالمون يكذبون، ولكن الظالمين يكذبون بآيات الله، ومنها أنت يا رسول الله، أنت آية من آيات الله، يكذبون بآيات الله المقررة للتوحيد والداعية إليه، الآيات المبطلة للشرك والمحاربة له، ظلمهم يحملهم على التكذيب، وهذه أيضاً سنة بشرية، فالظالم الذي يعيش على غير صراط الله المستقيم لا بد أن يجحد وينكر ويكذب، ديدنه: لا أعترف، لا أقول بهذا، هذا باطل، هذا كذا، دفاعاً عما يحميه ويذود عنه، هل تتبدل هذه السنة؟ لا تتبدل.إذا أصبح المرء ظالماً يضع الأمور في غير موضعها، وظلم نفسه وظلم غيره؛ فهذا الذي يدافع عن الباطل ويكذب بكل آية، لو شاهد الملائكة تنزل لقال: ما شاهدنا. كما قال تعالى في سورة الحجر: ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ )[الحجر:14]، رحلة إلى الملكوت الأعلى هذا صاعد وهذا هابط، نزهة يوم كامل، ففي المساء لن يعترفوا، ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ )[الحجر:14-15]، فقط أصاب أبصارنا السكر فهي فاقدة الشعور فظننا أننا نصعد إلى السماء ونهبط، أو لقالوا: سحرنا محمد صلى الله عليه وسلم، ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا )[الحجر:14] طول النهار ( فِيهِ يَعْرُجُونَ )[الحجر:14]، والذي يعرج يهبط، ( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ )[الحجر:15]، من أخبر بهذا؟ إنه خالق قلوبهم وغارز غرائزهم وطبائعهم، وإلى يوم القيامة، هذا شأن المنكرين للحق المحاربين له ولأهله، لا ينفعهم آي ولا ينفعهم معجزة، ما يريدون أن يتبعوا.
    (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ )[الأنعام:33]، هذا يسليك، ما اتهموك بالكذب أبداً، بل يعرفون أنك صادق أمين، ما جربوا الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم أربعين سنة قبل النبوة، ويعترفون بهذا ويقررونه حتى أبو جهل ، ولكن العلة أن الظالمين يجحدون بآيات الله؛ لأنها تتنافى مع ظلمهم وما هم عليه.
    تفسير قوله تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ...)
    الآية الثانية: يقول تعالى: ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34]، هذه هي التعزية والتسلية وحمل الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يثبت ويصبر؛ لأنه يعاني شدائد وآلاماً ما عرفناها، وأنت طول عمرك لو يكذبك أحد يوماً من الأيام ويتهمك تكرب وتحزن.(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ )[الأنعام:34]، كذب نوح، كذب هود، كذب صالح، كذب شعيب، كذب موسى، كذب هارون، كذب إبراهيم، رسل كذبوا من قبلك، ( فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا )[الأنعام:34]، فاصبر أنت يا رسولنا كما صبر إخوانك الذين سبقوك من الرسل، اصبر على دعوة الله لا تتركها أو تتنكر لها، أو تصبح تدعو يوماً وتغيب آخر تطلب إجازة وراحة، بل صبر متواصل.
    ذكر خبر نبي الله يونس عليه السلام
    وقد أعلمنا الله عن نبيه ذي النون، وقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) من باب إكرام الرسول له، فيونس عليه السلام ما أطاق وما اصطبر فترك القوم وهرب، وشاء الله أن يحدث له حادث في البحر، ثم يعود فيجدهم كلهم مؤمنين، ولا يوجد على سطح الأرض أمة آمنت كلها إلا قوم يونس، والقصة كما هي في سورة: ( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا )[الصافات:1]، حين تألم وضاق وما أطاق، هذا يسب وهذا يكذب وهذا يشتم، يستجيب واحد وينكر مائة، فهرب إلى ساحل البحر -البحر الأحمر هذا أو الأسود- ووجد سفينة مبحرة أوشكت أن تبحر فركب، لما ركب السفينة صاح ربانها وقال: الحمولة ثقيلة ولا بد من غرق السفينة أو تسقطون واحد منها تخففون حملها. من يتطوع.. من يتبرع لإنقاذ الركاب؟ ما وجدوا أحداً، فاضطروا إلى الاستهام -أي: الاقتراع- فاستعملوا القرعة، فمن خرجت القرعة عليه كان هو الذي يلقى في البحر وتسلم السفينة بركابها، فاقترعوا فجاءت على يونس: ( فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )[الصافات:141-144] إلى يوم القيامة، ولكن كان في ظلمات البحر وبطن الحوت يسبح: لا إله إلا أنت سبحانك إنك كنت من الظالمين، كما قال تعالى: ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ )[الأنبياء:87-88].وورد أن من أصابه غم أو هم أو كرب ففزع إلى الله بهذا الذكر فرج الله ما به، لكن يصبر، ما هي ساعة أو ليلة، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فلما استجاب الله له ولفظه الحوت على ساحل البحر أنبت الله عليه شجرة اليقطين الدباء؛ لأن ورقها ناعم من جهة، ومن جهة أخرى لا يقع الذباب عليها، وهو قد نضج لحمه من الحرارة في بطن الحوت، فبقي حتى تماثل للشفاء وهو تحت تلك الشجرة، ومن أين يشرب ويأكل؟ سخر الله له وعلاً من الوعول تأتي من الجبل فتقرب منه وتدنو منه فيرتضع ثديها بفمه حتى تماثل للشفاء وعاد وإذا بأهل القرية كلهم مؤمنين، أسلم أهل القرية كلهم.
    والشاهد عندنا ماذا؟ ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا )[الأنعام:34]، السخرية التي تلقاها نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً، ما سخرت أمة برسولها كما سخرت أمة نوح بنوح، ومن أراد أن يرى فرعون يسخر من موسى فليقرأ القرآن.
    أهمية الصبر في حياة الأنبياء والدعاة
    الشاهد عندنا أن الله تعالى يوجه رسوله أن: اصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، فقد كذبوا وأوذوا ( حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34]، إذاً: فاصبر أنت فلا بد أن يأتي نصرنا، وهكذا دعاة الخير والحق إذا صبروا لا بد أن ينتصروا.
    أخشى أن يفهم هؤلاء المكفرون للمسلمين والمدعون للجهاد أنهم الذين سينتصرون، والله لا ينتصرون، ما هم بأولياء الله، ما هم بدعاة إلى الله، بل دعاة الفتنة والضلال.
    فقول ربنا جل ذكره وهو يخاطب مصطفاه وحبيبه: ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا )[الأنعام:34]، ما هو بتكذيب فقط، الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند الكعبة لما سجد جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور، والسلا: ما يخرج من بطن البهيمة عند الولادة، حيث نتجت ناقة عند الصفا وبقي سلاها، فجاء بالسلا ووضعه بين كتفي رسول الله وهو ساجد، هل هناك أعظم من هذا الأذى؟ أما في أحد فقد كسرت رباعيته وشج وجهه ودخل خوذتا المغفر في وجنتيه.
    والشاهد عندنا: ( وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34]، اسمع! ( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ )[الأنعام:34]، كلمات الله التي فيها الوعد والوعيد هل تتبدل؟ إذا وعد بالنصر تحقق النصر، وإذا أوعد بالعذاب نزل العذاب.
    النصر نتيجة المسلك الصحيح في الدعوة لا مسلك العنف
    أقول: إن الدعاة الصالحين البررة دعاة الحق الذين يسلكون مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان الحق والهدى، لا بالاغتيالات والسب والشتم والتكفير، هؤلاء لو صبروا ينصرهم الله، لهذا الوعد الإلهي: ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا )[الأنعام:34]، إلى متى؟ ( حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34]، وإن ارتبت أو شككت فالله يقول: ( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ )[الأنعام:34]، إذا قضى الله تعالى أمراً فلن تستطيع دولة ولا أمة ولا شخص أن يمحوه ويستبدله بآخر، إذا قدر أمراً ينفذ كما أراد الله، وقد قضى أن ينصر أولياءه، ما وجد أولياء لله في صدق وحق يدعون إلى الله وإن أوذوا وإن كذبوا إلا نصرهم الله، ولا نشك في نصرة الله لهم، لكن الآن أين هؤلاء؟ أين هؤلاء الدعاة؟أما جماعة التكفير والتفجير فهؤلاء أبرأ إلى الله من أن يكونوا أولياء الله أو يكونوا مع الله حتى ينصرهم، ولن ينتصروا، هل فهمتم هذا التعقيب أم لا؟
    هم يقولون: كذبت رسل قبلنا وأوذوا حتى نصرهم الله ولا مبدل لكلمات الله، وسينصرنا الله، ونقول: الذي يقول هذا القول هو الذي يدعو إلى الله بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول في مكة مكث ثلاث عشرة سنة، فهل أمر صلى الله عليه وسلم أن يغتال واحداً من المشركين؟
    لقد أوذي وأوذي أصحابه، وكان يمر بهم وهم يعذبون ويقول: ( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة )، فلِمَ لم يوعز إلى حمزة البطل أو عمر أن: اغتل أبا جهل وأرحنا منه؟ فأين الاغتيالات؟
    ولما جاء إلى المدينة ماذا فعل؟ صالح اليهود من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وكتب عقداً عجباً لو تقرءون وتعرفون ما فيه، لكن لما نقضت كل قبيلة عقدها استحلت العقاب والعذاب، فأول من نقض بنو قينقاع فأجلاهم، وما قتلهم ولا صلبهم ولا سلب أموالهم، أجلاهم وأبعدهم عن المدينة، فالتحقوا بديار الكفر.
    وبنو النضير كذلك هموا بقتله وتآمروا عليه وأرادوا أن يقتلوه، وحاصروهم وانقادوا واستسلموا وأخذوا أموالهم وما يملكون والتحقوا بالشام.
    وبنو قريظة لما انضموا إلى المحاربين قتلهم، لكن ما قتل أطفالهم ولا قتل نساءهم، وإنما قتل مقاتلتهم من رجالهم، فهذا دين الله يشوهونه ويدوسونه بنعالهم ويقولون: هذا دين الله.
    معنى قوله تعالى: (ولقد جاءك من نبأ المرسلين)
    (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ )[الأنعام:34]، ولقد جاءك -يا رسولنا- من نبأ المرسلين السابقين، قص عليه قصة موسى وهارون، فموسى دعا إلى الله أربعين عاماً، ونوح دعا تسعمائة وخمسين عاماً، وإبراهيم دعا ثمانين أو ومائة وعشرين سنة، وهكذا جاء من نبئهم، وكذلك يوسف عليه السلام، كل الأنبياء صبروا، فحين تجيئك أنباؤهم تحملك على الصبر والثبات كما صبروا وثبتوا. (وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ )[الأنعام:34]، جاءه بأي واسطة .. بأي طريق؟ بطريق القرآن والوحي الإلهي، مفرقاً في سور القرآن هنا وهناك.
    تفسير قوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ...)
    وقوله تعالى: ( وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ )[الأنعام:35]، هل هذا فيه عتاب للرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا. بل فيه حمل له على زيادة الصبر والثبات، وإن كان كبر عليك إعراض قومك وما استطعته وما أطقته، إعراضهم عن دينك وعما جئت به، يسمعون كلمة لا إله إلا الله فيلوون رءوسهم ويلتفتون إلى غيرك، إذا كبر عليك هذا الإعراض وما أطقته لضعفك لبشريتك؛ فماذا تصنع؟(فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ )[الأنعام:35]، أي: سرباً تحت الأرض وتغوص فيه وتبحث عن آية من الآيات، ( أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ )[الأنعام:35]، درجة بعد أخرى؛ حتى تصل إلى الملكوت الأعلى وتأتيهم بآية فافعل، لكن ما هو من شأنك وما ذلك في قدرتك ولا تستطيع، إذاً: ما عليك إلا الصبر. أرأيتم هذه المواجهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هذه لو قيلت لواحد منا لذاب؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يعاني في مكة ما يعاني.
    وإن استطعت أن تبتغي تطلب لك نفقاً في الأرض سرباً من الأسراب فتأتي بآية، أو تتخذ سلماً إلى السماء فتأتيهم بآية فافعل، ولكن ما هو شأنك هذا ولا تستطيعه ولا تقدر عليه، فلم يبق -إذاً- إلا التحمل والصبر على الأذى، لكن وعد الله آت ونصرته حقيقية، فقد مكث ثلاث عشرة سنة، أضف إليها سنة في المدينة، وفي السنة الخامسة عشرة هزمهم في بدر، قتل فيها سبعون طاغوتاً من طواغيت المشركين وعلى رأسهم أبو جهل .
    هكذا يقول تعالى له: ( وَإِنْ كَانَ )[الأنعام:35]من باب الفرض ( كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ )[الأنعام:35]، وما أطقته، وما المراد من إعراضهم؟
    إعطاؤه عرضهم، أي: لا يسمعون كلامه، ولا ينظرون إليه، إما أن يدخلوا أصابعهم في آذانهم، إما أن يستغشوا ثيابهم، إما أن يقولوا: اتركوه فإنه يقول الباطل، فهل هذا يؤلم أم لا يؤلم، أنا مقبل عليكم، أدعوكم إلى ربكم، إلى سعادتكم وأنتم إما تضحكون وإما تقولون: دعوه يصيح، سبحان الله! هذا يتكرر مع البشرية إلى يوم القيامة، والله لا يوجد داع بحق إلا وسيلحقه هذا الأذى، وما عليه إلا أن يصبر فينصره الله، فالعاقبة له، وإلى الآن ما ظهرت جماعة تدعو وتصبر، ما رأينا.
    (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ )[الأنعام:35]، النفق: هو السرب في الأرض، والجمع: أنفاق.
    (أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ )[الأنعام:35]، قالوا: السلم مأخوذ من السلامة؛ لأن الهابط لا يسلم، لكن الصاعد يسلم.
    (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ )[الأنعام:35]، ما المراد من الآية؟ ما هي آية قرآنية، الآية هنا هي المعجزة، كأن ينزل ملك الموت ويميت عشرة أو عشرين منهم، أو ينشق القمر، أو يخرج ميت من المقبرة، أو ينزل الذهب من السماء وهم يشاهدون، فالآية: هي الخارقة للعادة التي ما جرت العادة بها، وهي المعجزة؛ من أجل أن يؤمنوا، وقد أعلمه الله أنهم لا يؤمنون ولو رأوا كل آية؛ لأن الله كتب عذابهم في جهنم.
    معنى قوله تعالى: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى)
    (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، فلهذا لا يكلفك الله ولا تكلف نفسك بما هو غير مطاق ولا مستطاع، لا تبحث في الأرض ولا في السماء، فوض الأمر إلى الله، فالله لو شاء هدايتهم لهداهم، ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، وقد فعل؛ فما هي إلا ثلاث عشرة سنة وأضف إليها ثماني وإذا مكة كلها أنوار لله، ليس هناك من يقول: يا عزى ولا يا لات، كلهم يعبدون الله عز وجل، وقبل أن يقبض والجزيرة كلها على: لا إله إلا الله، فهل جاء النصر أم لا؟ ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، وهم الآن مجتمعون على الباطل، والهدى متفرقون عنه معرضون، لكن لو أراد الله لصرف قلوبهم عن الباطل إلى الحق، ولأصبح كل من يسمع لا إله إلا الله يجيب، لو شاء تعالى ذلك، لكن لم لا يشاء؟ لقد عرفنا أن الله حكيم، أوجد عالم الشقاء وعالم السعادة، النار والجنة، الجنة فوقنا والنار تحتنا، أوجد هذين العالمين وأوجد لكل إنسي وجني منزلاً فيه، منزل في الجنة وآخر في النار، هذا ملكه وتدبيره، فهل إذا قمت تبني في دارك يقال لك: لماذا؟ أو تغرس فيه غرس يقال: لا تفعل هذا؟ فهكذا أراد الله هذا، فأعد الجنة والنار، ثم وضع القانون الذي يدخل الجنة والذي يدخل النار، هذا القانون أن يبعث الرسول في أمة من الأمم، في جماعة من الجماعات، يدعوهم إلى الله، يحببهم إلى ربهم، يعرفهم به، فإن استجابوا وأقبلوا وتابوا وطهروا فمنازلهم دار السلام، وإن استكبروا وأعرضوا وأدبروا وحاربوا فمآلهم دار البوار جهنم، أليس كذلك؟
    إذاً: فلو شاء لهدى الناس أجمعين، لكن إذا هداهم فمن سيدخل النار؟ ولماذا أوجدهاسبحانه؟! لا بد من وجود الكافرين، فلو شاء الله لهداهم أجمعين، لكن تلك الهداية القسرية القهرية بأن يدخل الإيمان في قلوبهم لا تنفعهم، لكن لا بد من هداية يطلبونها، ويجرون وراءها؛ حتى يظفروا بها ويحصلون عليها.
    ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، ومعنى هذا: خفف من كربك وحزنك وألمك يا رسولنا! وهذه الآيات ما نزلت إلا للتخفيف عن الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه الآيات الثلاث ما فيها إلا معنى التخفيف عن رسول الله؛ لما يعاني من الكرب والحزن والألم.
    معنى قوله تعالى: (فلا تكونن من الجاهلين)
    وقوله أخيراً: ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35]، هذه صفعة على وجوهنا، هل الجهل محمود أم مذموم؟ والجواب: مذموم، لو كان محموداً لما قال الله لرسوله: ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35]، ولقال: كن من الجاهلين، قال: إياك أن تكون من الجاهلين، وكل كافر جاهل، كل مشرك جاهل، كل ظالم فاسق فاجر -والله- جاهل، إذ لو علم لما فسق ولا فجر، ولما كذب ولما كفر. إذاً: هذه الآية تذم الجهل، فهيا نبتعد عنه، ووالله العظيم! للكروب والآلام والمصائب التي تنزل بالمسلمين اليوم وقبل اليوم منذ مئات السنين سببها الجهل، فهل قيل: العالم الفلاني عالم بحر وهو فاجر؟ والعالم الفلاني يقتل الناس؟ والعالم الفلاني يعذب امرأته؟ والله لأعلمنا أتقانا، قرر هذا الله في كتابه: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )[فاطر:28]، والرسول قال: ( أنا أعلمكم بالله وأتقاكم له )، لكن العلم خلاف الجهل، فالعلم بم يكون، بصنع البقلاوة والحلاوة؟
    يكون بمعرفة الله معرفة يقينية، وبما يحب الله وبما يكره الله، وبوعده لأوليائه ووعيده لأعدائه، هذا العلم هو الذي تتم به سعادة الفرد والجماعة، أما الجهل فيقول الله لرسوله عنه: ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35] الحمقى الذين فقدوا الحلم والبصيرة، الذين فقدوا المعرفة والطريق إلى الله، لا تكن منهم.
    ملخص لما جاء في تفسير الآيات
    مرة ثانية أسمعكم الآيات فتأملوا، وقد قلت لكم: إنها نزلت من أجل ماذا؟ تسلية رسول الله وتعزيته حتى يخف عليه الحمل الذي هو عليه.(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ )[الأنعام:33-34]، وقد يأتيك نصرنا إذ وعدك الله به، ( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ )[الأنعام:34]، قصص تضمنها القرآن الكريم فيها العزاء وفيها الحمل على الصبر، فيها ما فيها من عجائب الدعوة، جاءته صورة القصص بما فيها، الشعراء، النمل، ثم قال له: ( وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ )[الأنعام:35] يا رسولنا وما أطقت وما استطعت، فماذا تفعل؟ ( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ )[الأنعام:35] فافعل، وهل يستطيع؟ وحين يحفر في الأرض ألف كيلو هل يجد ما يريد؟ أيجد آية، أخرجها؟ ولو غاص في الأرض وجاءهم بعجيبة ما صدقوا، ما كانوا مستعدين لأن يؤمنوا، أو سلماً في السماء، فتصعد وتأتي بعجيبة من السماء ولا يؤمنون؛ لأنهم ظالمون وعارفون أنك على حق، لكن يريدون البقاء على حالهم ومركزهم وديانتهم.
    (وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ )[الأنعام:34-35]، فافعل ولكن لا تستطيع، ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35].

    إذاً: فلا تكرب ولا تحزن، وادع فقط، وبَيِّن، استجاب من استجاب فما أنت بمسئول، وهذه هي دعوة الله إلى اليوم، فإذا رأيت شخصاً على وسطه برنيطة فقل له: يا عبد الله! ما ينبغي هذا. فإن نزعها حمدت الله، وإن قال: ماذا فيها؟ فاسكت، وكذلك تقول: يا أمة الله! غطي وجهك، لا ترفعي صوتك، فإن سكنت ورضيت فالحمد لله، وإن قالت: ماذا في ذلك؟ فاسكت؛ لأن القلوب بيد الله عز وجل، واذكر قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، إذاً: ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35].
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    هداية هذه الآيات نسمعكموها، أربع هدايات تأملوا فيها: [ أولاً: ثبوت بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ]، فالرسول بشر، فكيف ثبتت بشريته؟ لأنه يكرب ويحزن، فهذا بشر أم ملك؟ ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ )[الأنعام:33]، يقع في الحزن.
    [ أولاً: ثبوت بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذا هو يحزن لفوت محبوب كما يحزن البشر لذلك ]، كما يحزن الناس لذلك.
    [ ثانياً: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر حتى يأتيه موعود ربه بالنصر ]، وصبر ثلاثاً وعشرين سنة وجاء النصر.
    [ ثالثاً: بيان سنة الله في الأمم السابقة ]، فالتكذيب والعناد والوقوف في وجه الدعوة هذا شأن الأمم السابقة، ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34].
    [ رابعاً: إرشاد الرب تعالى رسوله إلى خير المقامات وأكمل الحالات بإبعاده عن ساحة الجاهلين ]، ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35]، وعلى كل مؤمن ومؤمنة ألا يكون مع الجاهلين في فسقهم وظلمهم وفجورهم وخطئهم وباطلهم، وبهذا يجب أن نجتمع على كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتنا وبيوت ربنا؛ حتى نخرج من هذه المحنة فتنة الجهل والعياذ بالله تعالى.
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #373
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (11)
    الحلقة (372)
    تفسير سورة المائدة (3)


    يرسل الله عز وجل الرسل وينزل معهم الكتب لتبليغ شرعه سبحانه للناس، لكن سنة الله التي لا تتبدل أنه لا يقبل هذه الدعوة كل أحد، ولا يذعن لها كل المدعوين، فمن كان قلبه حياً قبلها وانتفع بها، أما من كان أصم لا يسمع وأبكم لا ينطق فإنما يعيش في ظلمات الكفر وحاله كحال الميت الذي لا ينتفع بدعوة ولا ذكرى، وهؤلاء وأولئك داخلون تحت مشيئة الله، فمن أراد له الله الهداية اهتدى، ومن أراد له الضلالة هلك في مهاوي الردى.

    تفسير قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، وها نحن نستمع إلى تجويد الآيات الثلاث التي ندرسها إن شاء الله.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[الأنعام:36-39].
    الاستجابة للحق لا يكون إلا ممن يسمعون
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ )[الأنعام:36]، إي والله، إنما يستجيب لدعوة الحق ويقبلها ويأخذ بها الذين يسمعون، أما الذين لا يسمعون فأولئك الذين يدخلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا، أولئك الذين يستغشون ثيابهم حتى لا يسمعوا، أولئك الذين إذا سمعوا صوت الحق أو كلمته أدبروا وأعرضوا، ما يريدون أن يسمعوا، فهؤلاء لا يستجيبون، فلا تأسف يا رسولنا ولا تكرب ولا تحزن عليهم.(إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ )[الأنعام:36]، والسماع بواسطة هذه الحاسة أو الآلة: الأذنين، ولو شاء الله ما سمع أحد، ولكن وهبنا الله هذه الآلة التي نسمع بها، فإذا أراد المرء أن يسمع سمع، ولكن إذا أبى أن يسمع كره كلام المتكلم؛ لتعارضه مع مصالحه وفوائده، فهذا لا يستجيب أبداً، فادع أنت بأعلى صوتك: أيها الناس! توبوا إلى الله إلى ربكم. فالذين يسمعون النداء لأنهم متهيئون وليس هناك موانع ولا حجب تحجبهم سيستجيبون لك، والذين لا يسمعون لإعراضهم وكبرهم وعدم رغبتهم في الدعوة الإسلامية، هؤلاء لا يستجيبون، فلا تتألم ولا تحزن ولا تكرب.
    فحصر الله تعالى استجابة دعوة الداعي فيمن يسمعونه، أما الذين فقدوا حاسة السمع بمكرهم وكفرهم وخداعهم وباطلهم؛ فهؤلاء لا يستجيبون ولو ظللت يومك كاملاً تقول: أيها الناس! أنقذوا أنفسكم، زكوا أرواحكم، هذبوا عقولكم، لا يستجيبون.
    تشبيه حال المعرضين عن سماع الحق بالموتى
    فبهذا خفف الله تعالى عن رسوله ألم النفس الذي يلحقه من إعراض المتكبرين واستكبار المشركين: ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )[الأنعام:36]، فالذين لا يسمعون في الحقيقة هم الموتى، ضع ميتاً بين يديك وناده: يا فلان ثلاثاً أو سبع مرات فإنه لا يستجيب؛ لأنه ميت.والذين أعرضوا عن الحق وتعمدوا الإعراض؛ لأنه تنافى مع ما هم عليه من الباطل والشر شأنهم شأن الموتى، فهم موتى وسوف يبعثهم الله ويحاسبهم ويجازيهم.
    (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )[الأنعام:36]، أي: يرجعهم الملائكة ويقودونهم إلى ساحة فصل القضاء، فالجملة -كما بينت لكم- فيها تخفيف عن رسول الله، وعن كل مؤمن يدعو إلى الله ويعارض، ولا يسمع له ولا يستجاب لدعوته، فليذكر هذا ليخف ألمه عن نفسه، إذ الذين يستجيبون هم أهل السمع المتهيئون لأن يسمعوا الحق والخير ويقبلوه، والموتى لا يستجيبون، ومصيرهم أن يحشرهم الله إليه ثم يجمعوا إلى ساحة فصل القضاء ليلقوا جزاءهم، فاتركهم لذلك.
    وقوله تعالى: ( وَالْمَوْتَى )[الأنعام:36] فيه لطيفة: هي أن الذي لا يسمع الحق ويعرض عنه كالميت؛ لأن الميت -والله- لا يسمع أبداً، أما الحي فالمفروض أنه يسمع، فإذا كان لا يسمع وأنت تصرخ في وجهه وتدعوه إلى الحق والخير والفضيلة وهو مكب على الباطل والرذيلة فإنه ميت.
    (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ )[الأنعام:36] من قبورهم، ثم يساقون ويجمعون في ساحة فصل القضاء ليجزيهم الله عز وجل على كفرهم وشركهم وعنادهم، هكذا يسلي الله تعالى رسوله، ويبين للمؤمنين هذه الحقيقة، فالذي لا يسمع نداء الحق والخير اعتبره من الأموات؛ إذ لو كان حياً لكان يسمع، واتركه إلى الله فسوف يحشره الله عز وجل في ساحة فصل القضاء ويرجع إليه ويجزيه بما هو أهل له، هذا معنى قوله تعالى: ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )[الأنعام:36].
    تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه...)
    ثم قال تعالى: ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، من القائل هنا؟ المشركون، أبو جهل وعقبة بن أبي معيط والأخنس بن شريق ، أولئك الطغاة العتاة، ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، وبذلك نؤمن ونتبعه ونمشي وراءه، أما إذا لم يعط الآية وما شاهدناها فلا نؤمن، والمراد من الآية كأن يحيي لهم ميتاً، أو أن يروا الملائكة ينزلون وهم يشاهدونهم، أو يأتيهم بخارقة من خوارق العادات التي تعجز الناس عادة، وبذلك يقولون: نؤمن، والله يعلم أنهم لا يؤمنون.(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، بمعنى: هلا أنزل عليه آية من ربه، كما كانت تنزل على أنبياء ورسل من قبله. ‏
    معنى قوله تعالى: (قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون)
    فعلم الله تعالى رسوله الجواب كيف يرد عليهم، فقال لهم: ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً )[الأنعام:37]، ما هو بعاجز أبداً، ( إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً )[الأنعام:37]، ولو كانت كوكباً من السماء ينزل إلى الأرض، أو الملائكة يشاهدونهم، أو ينادي أهل القبور فيأتون أحياء يمشون، وقد طالبوا بانشقاق القمر فانشق القمر.(وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )[الأنعام:37]، وهذا هو السر والحكمة في عدم استجابة الله لهم، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )[الأنعام:37]، لو كانوا يعلمون لعلموا أولاً: أنهم إذا نزلت الآية ولم يؤمنوا يهلكون ويدمرون كما هي سنة الله، فلو كانوا يعلمون الحكمة في عدم إنزال الآية ما طالبوا بها، ولكن جهلهم هو الذي حملهم على أن يطالبوا بهذه المطالب.
    ثانياً: لو كانوا يعلمون الحكمة والسر في عدم إنزال الآية لعلموا أن الله عز وجل يبعث رسوله وينزل عليه كتابه ويأمره بالبيان والبلاغة والدعوة إليه، فمن استجاب فزكى نفسه وطيبها وطهرها بالإيمان والعمل الصالح فاز بولاية الله وكرامته، وأسكنه الله فسيح جناته، ومن استكبر وآثر الدنيا والشهوة وأعرض اسودت نفسه وخبثت روحه وكان من أهل الجحيم والعياذ بالله.
    لكن هم لا يعلمون هذا، ولهذا قال تعالى: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )[الأنعام:37]، كلهم لا يعلمون، ولكن من باب الاحتراز قال: (أكثرهم)، فقد يكون بينهم من يعلم شيئاً من هذا.
    عظيم جهل المشركين في طلب الآيات الكونية وإعراضهم عن الآيات القرآنية
    (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، هم يؤمنون بالله رب محمد والعالمين ورب البيت العتيق، وهذه المطالبة كانت ليصروا على كفرهم وشركهم وعنادهم، وحتى يصرفوا الجهلاء والعوام والأتباع عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هذا الكلام يقوله بعضهم لبعض؛ حتى لا يؤمن أحدهم ولا يستجيب، فقالوا: ( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، لو كان كما يدعي أنه رسول الله وأنه لا إله إلا الله؛ فهلا أنزل عليه آية تدل على ما يقول؟ وسبحان الله! إن الآيات القرآنية النازلة أعظم من الآيات المطلوبة؛ لأن الآية المطلوبة أن تنشق السماء أو ينزل مطر أو ينطق ميت ثم تنتهي بعد ساعة، لكن آيات القرآن خالدة، كيف يكون لأمي لا يقرأ ولا يكتب أن يتكلم بهذا الكلام، ويتلقى هذه العلوم والمعارف؟ إنها ليست من عنده، بل من الله.فكيف لا يكون نبياً ورسولاً؟ كيف يطلب الحجة على أنه رسول الله وهو يتكلم بكلام والله يأمره ويقول: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ) [الأنعام:109]، ولكن من كتب الله شقوتهم وضلالهم لا يستجيبون، بل يعاندون ويكابرون حتى يموتوا على كفرهم وعنادهم وشركهم.
    (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ )[الأنعام:37] يا رسولنا، قل لهم: ( إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً )[الأنعام:37]، ما هو بعاجز أبداً، الذي رفع السموات فوق بعضها، الذي أوجدهم وأطعمهم وسقاهم وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً وقلوباً هل هو عاجز عن أن ينزل آية؟ وآياته في الكون كله ظاهرة، ليرفعوا رءوسهم إلى السماء فيشاهدوا الشمس والقمر والكواكب، ولكنه الجهل: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )[الأنعام:37]، فأكثر المعاندين والمجادلين والمخاصمين والمحافظين على الباطل وعلى الفساد والشر أكثرهم -والله- لا يعلمون العلم الحقيقي، العلم الذي هو أسرار وحكم الله عز وجل في خلقه وعباده.
    تفسير قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ...)
    ثم قال تعالى: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )[الأنعام:38]، هذا خبر من أخبار الله تعالى، يقول عز وجل: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ )[الأنعام:38]، والدابة كل ما دب دبيباً على الأرض، أسرع في مشيه أو تباطأ، يدخل في هذا الإنسان والحيوانات التي تمشي على الأرض.(وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ )[الأنعام:38] في الملكوت الأعلى في السموات، في الكون كله ( بِجَنَاحَيْهِ )[الأنعام:38] احتراس؛ لأن العرب يقولون: طار فلان ويطير فلان مبالغة في سرعته، فأعلمهم أن الطائر الذي يطير بجناحيه، ويدخل فيه أنواع الطير على اختلافها، وهي أنواع وأمم، انظر إلى العصافير وانظر إلى الغربان والبازات، كل هذه الطائرة وكل هذه الدابة على الأرض ( أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )[الأنعام:38]، والأمم: جمع أمة، والأمة ما يجمعها وقت واحد، أو يجمعها لسان واحد، أو يجمعها إقليم وأرض ومكان واحد، يقال فيه: أمة.

    فارفعوا رءوسكم وانظروا إلى الكون، افتحوا أعينكم وأبصاركم في هذا الخلق العظيم، ومن ثم تستحون أن تقولوا: لو أنزل الله عليه آية وهذه الآيات كلها بين أيديكم.
    (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ )[الأنعام:38] تدب وتمشي من إنسان أو حيوان، ( وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ )[الأنعام:38] في السماء ( إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )[الأنعام:38].
    من تكون لها الرسالة من أمم الأرض
    وهنا سؤال: هل يرسل الله تعالى إلى تلك الأمم رسلاً يدعونهم إليه ويعرفونهم به ليعبدوه وحده؟ أما الإنس فهذا أمر مقطوع به، وهذا رسول الله وهذا كتاب الله، أما الجن فلم يرسل الله تعالى إليهم رسلاً بمعجزات، ولكن يرسل إليهم من ينذرونهم، وهم النذر، يفهمون عن عيسى وموسى أو نوح ويبلغون إخوانهم من الجن، ويعلمونهم ما يعمله الآدميون بواسطة نبيهم أو رسولهم، وهذا دل عليه القرآن الكريم في آخر سورة الأحقاف: ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأحقاف:29-32].
    أقول: يجب أن نعلم أن عالم الإنس يرسل الله تعالى فيهم الرسل، وقد بلغت الرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، والأنبياء عشرات الآلاف، والجن عالم وأمة من أمم خلق الله، هؤلاء يأتيهم الحديث والنبأ والخبر والعلم من طريق الرسول الذي يرسله الله في البشر، إخوانهم ينقلون عنه ويبلغونهم.
    وأما الدواب -الطير في السماء، والحيتان في الماء، وباقي الحيوانات على الأرض- فالذي نعلمه يقيناً أنها تسبح الله عز وجل: ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ )[الإسراء:44]، والتسبيح تنزيه الله وتقديسه عن كل النقائص وعن الإشراك به والعياذ بالله، ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ )[الإسراء:44]، فالحيوانات تسبح الله عز وجل.
    لكن كيف وصلها ذلك؟ هل هي غرائز غرزها الله فيها؟ هذا معقول، أن يكون فطرها على هذا، وإن شاء الله عَلََّم منها من شاء من جنسها وبلغها.
    جمع الله الحيوانات يوم القيامة وتصييره لها تراباً بعد القصاص بينها
    والذي يجب القطع به أن هذه الحيوانات أمة من أمم الخلق مثلنا، وسوف تجمع يوم القيامة ويقتص منها، ولهذا تحرم أذية الحيوان، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يؤذي حيواناً من الحيوانات إلا ما أذن فيه الشارع مما هو ضار مؤذ، فهذا يقتل ولكن قتله لا يكون بصورة بشعة كالتمثيل به مثلاً أو قطع بعض أجزائه، بل بالقتل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة )، وعلمنا أن الله تعالى: ( يقتص من الشاة القرناء للشاة الجماء ) التي ليس لها قرن، فكل هذه الدواب وهذه المخلوقات تحشر في ساحة فصل القضاء ويجزي الله تعالى المحسنين ويعاقب المسيئين.وهل تدخل الدواب الجنة دار النعيم أو النار دار العذاب؟ الجواب: بعدما يتم فصل القضاء ويقتص للضعيف من القوي يقول الله تعالى لتلك الأمم: كوني تراباً. فتتحول كلها إلى تراب، لا يبقى أسد ولا ثعلب ولا ذئب ولا طير ولا أحد، ودليل ذلك قول الله تعالى من آخر سورة النبأ: ( يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا )[النبأ:40]، حين يشاهد تحول تلك الحيوانات المخلوقات العظيمة إلى تراب يتمنى لو كان مثلها.
    أما الإنس والجن فهم يدخلون الجنة ويدخلون النار بأجسام عرفنا الرسول بها، أجسام خلقها الله لذلك العالم، عالم الخلد والبقاء.
    إذاً: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ )[الأنعام:38] في السماء، ( إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )[الأنعام:38]، في ماذا؟ في الأكل والشرب، في المرض في الصحة، في قبول الحق في الإعراض عنه أمثالكم.
    معنى قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)
    ثم قال تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:38]، والتفريط: الإهمال والترك وعدم المبالاة بالشيء، ما فرطنا في الكتاب الذي هو كتاب المقادير، الذي هو اللوح المحفوظ، الذي هو الإمام المبين، كتب فيه الشقاوة والسعادة، وكتب فيه الأشقياء والسعداء، وكتب فيه عوامل السعادة وعوامل الشقاء، أسباب الشقاء وأسباب السعادة، كل هذا مكتوب مدون محصى قبل أن يخلق الله الإنس والجن، وسوف يتم الجزاء بحسب ذلك الكتاب اللوح المحفوظ والإمام المبين.ثم هنا لطيفة أخرى: قد يراد بالكتاب القرآن العظيم، نعم ما فرط الله عز وجل في القرآن من شيء تحتاج إليه العقول أو الأفكار أو الفهوم أو الأبدان إلا وبينه تعالى، إما بالتنصيص عليه أو بالإشارة إليه أو بالقياس عليه، لا يوجد شيء تفتقر إليه البشرية من أجل تزكية نفوسها أو إصلاح أعمالها أو دنياها ولم يشر إليه تعالى في القرآن، وبالتتبع ظهر هذا، لا توجد عبادة من شأنها تنقية النفس ولا عمل من شأنه إصلاح البدن إلا وفي القرآن ما يشير إليه ويذكره، فلهذا صارت هذه الجملة صالحة لكون المراد اللوح المحفوظ الكتاب المبين، وللقرآن العظيم.
    ولك أن تقول: ما فرط الله في كتابه القرآن من شيء، كل ما تحتاج إليه الأمة موجود مبيّن يعرفه من عرفه ويجهله من جهله، وهذا فضل الله تعالى وإنعامه علينا والحمد لله.
    معنى قوله تعالى: (ثم إلى ربهم يحشرون)
    ثم قال تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ )[الأنعام:38]، ثم إلى خالقهم ومالك أمرهم ومدبر حالهم -وهو الله- يحشرون كلهم: الإنس، والجن، والحيوانات على اختلافها وتنوعها، الكل يحشر إلى الله، من يحشره ويجمعه؟ الملائكة المكلفون بالحشر والجمع، هم الذين يرجعون بالناس إلى ربهم، هذا الحشر، هذا الجمع في ساحة فصل القضاء ليتم القضاء والحكم العادل بين تلك الخلائق إنسها وجنها وحيواناتها.ولا تنسوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا في غير حديث، من ذلك: أن الله يقتص للشاة القرناء من الشاة الجماء التي لا قرن لها، ثم يقول بعد ذلك لتلك العوالم من الحيوانات: كوني تراباً فتكون تراباً.

    دلالة حمل الكتاب في الآية الكريمة على القرآن الكريم
    فلنتأمل قوله تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ )[الأنعام:38].
    وهنا إذا قلنا: الكتاب هو القرآن فمعناه أنه لم تبق حجة لإنسان يحتج بها على الله يوم القيامة إذا هو قرأ القرآن وآمن به، ويقول: ربنا ما بينت لنا كذا، أو ما علمتنا كذا. فكل ما من شأنه تزكية النفس وتطهيرها موجود في القرآن، وكل ما من شأنه أن يحفظ الجسم الآدمي سليماً والعقل البشري كذلك في القرآن، فجميع محاب الله وما يأمر به هو لتزكية النفس والحفاظ على الجسم والعقل والبدن، وكل ما حرم الله من السحر، والغش، والخداع، والقتل.. كله من أجل الحفاظ على تزكية النفس وتطهيرها، فما فرط الرحمن في القرآن من شيء.
    تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ...)
    ثم قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ )[الأنعام:39] يعني: بعد هذا البيان كله فالذين كذبوا بالآيات هم الصم الذين لا يسمعون، البكم الذين لا ينطقون، العمي الذين لا يبصرون؛ لأنهم يمشون في الظلام، والماشي في الظلام هل يهتدي إلى شيء؟ لا يهتدي. آية البقرة قالت: ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ )[البقرة:18]، وهنا قال: ( صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ )[الأنعام:39] من باب تلوين العبارة، فالماشي في الظلام لا يشاهد شيئاً، وقد فقد سمعه فهو لا يسمع ونطقه فهو لا ينطق، ويضاف إلى ذلك أنه لا يرى شيئاً، وإلا فكيف يكفر الإنسان بربه؟ هو يعلم أنه مخلوق، يعلم أن الله عز وجل هو الذي أوجد له هذه الأقوات التي يأكل ويشرب، هو الذي أوجد له هذه الأرض عليها يسكن، هو الذي رفع السماء فوقه، فكيف يجحده وينكره؟ كيف يتأتى؟
    ولكن التكذيب الذي ينشأ أولاً عن الجهل، ثم عن الاغترار والتقليد الأعمى، واتباع أصحاب الهوى، فإذا كذب وعرف بين الناس بأنه ينكر هذا الدين أو هذه الملة أو هذا الخلق؛ فحينئذ يفقد سمعه، تتكلم معه طول الليل فلا يسمع صوتك، يفقد لسانه فلا ينطق بمعروف أبداً، أبكم لا يستطيع أن يقول: يا بني فلان، أو يا فلان! الحق كذا وكذا. ثم هو يمشي في الظلام لا يعرف الحق ولا يهدي إليه غيره؛ وذلك لتكذيبه.
    ماذا قال تعالى؟ قال: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )[الأنعام:39] القرآنية التنزيلية، وآيات الله الكونية العلوية والسفلية؛ إذ كل كائن آية على وجود الله، البعوضة دلالة على وجود خالقها، السمكة في بطن البحر وعمقه من خلقها؟ من أوجدها؟ من غذاها؟ لا بد أن تقول: الله، فالمحنة كما كانت أولاً في الجهل هي الآن في التكذيب، المكذب من هو؟ الذي يعرف الحق وينكره، هذا التكذيب، يعرف ما تقوله أنه حق، ويقول: هذا كذاب فلا تسمعوا له. فهذا المكذب هو بمثابة الأصم الذي لا يسمع كلمة، والأبكم الذي لا يقوى على النطق بحرف واحد، والأعمى الذي لا يبصر أو الماشي في الظلام الذي لا يشاهد شيئاً. ‏
    عاقبة الجهل والتكذيب بالحق
    معاشر المستمعين والمستمعات! عرفتم الجهل والتكذيب، البلاء والشقاء كله من هاتين الفتنتين: الجهل: وهو عدم معرفة الأسرار والحقائق والأحكام، هذا من شأنه أن يجعل العبد يتكبر ويعرض ولا يسمع، ولكن التكذيب أعظم من ذلك، إذا كذّب الإنسان بالشيء فإنه لا يستجيب، ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ )[الأنعام:39] ظلمات الحياة، بمعنى إنهم عميان لا يبصرون.ومرة ثانية: لماذا يكذب الإنسان؟ أنا أخبركم أننا في المسجد النبوي، فهل هناك من يقول: لا؟ فالذي يكذب يقول: أنت تكذب، ما أنت في المسجد النبوي! لفائدة، لمصلحة، لغرض يتعلق به، هذا المكذب -والعياذ بالله تعالى- يفقد سمعه وبصره ولسانه، لا ينطق بالحق أبداً؛ لأنه كذب فكيف يعترف به؟ يفقد بصره فما يرى شيئاً كأنه في الظلام، ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ )[الأنعام:39]، فالتكذيب: هو إنكار الحق الثابت من أجل صرف الناس عنه، أو تحقيق فائدة ومصلحة للمكذّب.

    فهذا الذي يصاب بهذا الداء -داء التكذيب- مثله مثل الأصم الأعمى الأبكم، لا يقول كلمة الخير أبداً، ما يعرف أن ينطق بها، فاقد حاسة النطق، لا يبصر ولو عرض عليه الكون كله، لا يشاهد والعياذ بالله تعالى، هكذا يقول تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ).
    معنى قوله تعالى: (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم)
    وأخيراً يقول تعالى: ( مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ )[الأنعام:39] رد الأمر إليه عز وجل، من يشأ الله إضلاله أضله، بيده الهداية وبيده الإضلال، ثق في هذا واطمئن، من يشأ الله أن يضله أضله، فيصبح لا يسمع ولا يبصر ولا يرى، في متاهات لا يسمع كلمة الحق ولا ينطق بها، ولا يبصر آية من آيات الله الدالة عليه؛ لأن الله أراد إضلاله: ( مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[الأنعام:39].معاشر المستمعين! أريد أن أقول: الهداية والإضلال بيد الله، فهو الخالق المدبر للكون والحياة، من شاء إضلاله أضله، ومن شاء هدايته هداه إلى الصراط الموصل إلى سعادته ونجاته.
    وهنا ما الذي ينبغي أن ننتقل إليه بعدما علمنا أنه لا يملك الهداية والإضلال إلا هو؟ والله العظيم إنه لهو الذي بيده الهداية وبيده الإضلال، كما بيده أن الموت وبيده الحياة على حد سواء.
    ثانياً: إذا آمنا بهذا واطمأنت إليه نفوسنا يجب أن نطلب الهداية منه ونستعيذ به من الضلال، نطرح بين يديه في كل صلاة وفي كل سجود، نسأله هدايتنا ونستعيذ به من إضلالنا؛ لأنه يملك الإضلال ويملك الهداية، هذه الثانية، وهي بعد اعترافنا بأن الهداية والإضلال بيد الله، يجب أن نعرف أن للهداية أسبابها وللإضلال أسبابه.
    ويجب أن نطلب الهداية من الذي يملكها، وأن نستعيذ به من الإضلال الذي يملكه، ومعنى هذا: أنه لا بد من الافتقار اللازم للعبد، فلا تستغن أبداً عن الله.
    الهداية لها أسباب، فما أسبابها؟ أن تصغي، أن تسمع، أن تستخدم حواسك وتنظر، أن تجرب فتظهر لك النتيجة فتحصل على هدايته، تسأل فقط: أنا أريد مكة فدلوني على الطريق، فيقال لك: خذ كذا وكذا ولا تلتفت إلى كذا وكذا؛ لأنك راغب في الهداية.
    والذي يطلب الضلال ويعرض عن الهداية يسلك سبل الضلال: الكذب، والجهل، والعناد.. هذه كلها عوامل إضلاله، فلا تفهم أن الله عز وجل يضل مهتدياً أبداً، أو طالب هداية يحرمه لأنه قادر على إضلاله! ما قرع باب الله أحد يريد الهداية إلا هداه، ما طلب إنسان الهداية إلى الصراط المستقيم إلا هداه الله إلى ذلك، ومن أعرض واستكبر وعاند وأعرض ضل بسبب إعراضه واستكباره وعناده وتكذيبه.
    هكذا يقول تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ) كيف يهتدون؟ ( مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[الأنعام:39].
    تسلية الرسل والدعاة إلى الله تعالى في حزنهم لإعراض المدعوين عن الحق
    أخيراً: هذه تعزي المؤمنين والدعاة وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يكربوا ويحزنوا؛ لعلمهم أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، من كتب الله ضلاله فلن يهديه، ومن كتب هدايته فلن يضله، ولكن لا بد من أن تقرع باب الله وتسأله الهداية، ولا بد أن تستعيذ به من الضلال.
    هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا دائماً وإياكم بما ندرس من كتاب الله ونسمع.

    وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #374
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (12)
    الحلقة (373)
    تفسير سورة المائدة (4)


    كان العرب في الجاهلية يؤمنون بالله عز وجل رباً، ويلجئون إليه في الشدائد والملمات، أما حين يكونون في حال من اليسر والأمن انشغلوا بعبادة الأصنام والأوثان، وقد عاب الله عز وجل عليهم هذا الفعل، مخبراً إياهم أنه إنما يبتلي عباده ليتضرعوا إليه، ويتذللوا وينكسروا بين يديه، فمن تاب وآب قبله الله، ومن استبد به شيطانه، واستمر في طريق الغواية أملى له الله سبحانه وفتح عليه من خير الدنيا، حتى إذا فرح بها واطمأن إليها أخذه الله بغتة، ومن أخذه الله لم يفلته.
    تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة الأنعام المكية التي تعالج أصول العقيدة: التوحيد، النبوة المحمدية، البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا، إما بالجنة دار النعيم، وإما بالنار دار البوار والعذاب الأليم.
    وها نحن مع هذه الآيات فليتفضل الابن بتلاوتها ونحن مصغون مستمعون، نسأل الله أن ترق قلوبنا ونحصل على أجر ومثوبة.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:40-45].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40] من الآمر؟ الله جل جلاله، فالقائل الله عز وجل، والمأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله يأمره أن يقول حتى يقرر مبدأ لا إله إلا الله: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ )[الأنعام:40] أيها العادلون بربكم أصناماً وأحجاراً وتماثيل، أخبروني ) إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:40] بالقحط والجدب، بالأوبئة والأمراض، بالصواعق وألوان العذاب ( أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ )[الأنعام:40] ساعة الموت، حشرجت النفس وغرغرت، ساعة القيامة ونهاية الحياة، في هذه الحالة ( أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40]؟ والله لا تدعون إلا الله.
    وهذه حال العرب المشركين، قد يختلفون مع بعض الأمم، فالعرب والمشركون سكان هذه الجزيرة كانوا يؤمنون بالله رباً لا رب غيره، وكانوا يلجئون إليه ويدعونه عند الشدائد، ولكن إذا كانوا في حال يسر وخير ينشغلون بالتماثيل والأصنام.
    فها هو تعالى يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ )[الأنعام:40] أي: أخبروني ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:40] والعذاب ألوان وأنواع كما بينا: مرض عام، فقر، قحط، حرب، ( أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ )[الأنعام:40] الساعة هي ساعة القيامة أو ساعة الموت أيضاً، ( أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ )[الأنعام:40] وتستغيثون، وتبكون، وترفعون أيديكم (إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40]؟ الجواب: لا يدعون مع الله يومها غير الله.
    ذكر خبر إسلام عكرمة بن أبي جهل لاستغاثة راكبي السفينة بالله خشية الغرق
    ولنذكر تلك اللطيفة التي رويت عن عكرمة بن أبي جهل ، ورضي الله عن عكرمة ولعن أبا جهل ، لما فتح الله على رسولنا مكة ودخلها بجيشه الغازي الفاتح فر غلاة الظلمة، ومن بينهم -كما تقول الرواية- عكرمة ، فنزل على ساحل البحر الأحمر يريد الخروج من الجزيرة، فوجد سفينة أوشكت على الإقلاع، فركب، ولما توسطت السفينة البحر قال الملاح: أيها الركاب! ادعوا ربكم، أخلصوا له الدعاء لينقذكم من الغرق، فأخذوا يدعون: يا ربنا! يا إلهنا! يا رب إبراهيم! يا رب العالمين! ولم يذكروا اللات ولا العزى ولا مناة ولا هبل، ففكر عكرمة وقال: هذا الذي هربت منه يلحقني حتى في البحر؟ والله لترجعن بنا إلى الساحل، وأمشي إلى محمد وأسلم بين يديه.
    صور وقصص من شرك بعض المسلمين في حال الشدة

    وهذه الحقيقة واضحة عندنا كالشمس، مشركونا لجهلهم لا يخلصون الدعاء لله وحده في الرخاء ولا في الشدة، والمشركون من العرب يخلصون لله الدعاء في الشدة ويشركون في الرخاء، وآيات القرآن في هذا كثيرة وواضحة، آيات القرآن المثبتة أن المشركين كانوا يستغيثون بالله ويفزعون إليه في حال الشدة، ولا يدعون اللات ولا هبل ولا إلهاً آخر، أما عوامنا وضلالنا في فترة سبعمائة سنة فكانوا يشركون في حال الشدة والرخاء على حد سواء، وقد قلت لكم: كانت المرأة تمسك بحبل الوضع في الولادة وهي تقول: الله يا سيدي فلان! فهل هناك موقف أصعب من هذا؟ وسفينة الحجاج التي ركب فيها الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه مبحرة من طرابلس في طريقها إلى الإسكندرية، وهي تحمل الحجاج أيام الدولة العثمانية، يقول: اضطربت السفينة وخافوا الغرق، فأصبحوا يرفعون أصواتهم: يا رسول الله! يا بدوي ! يا سيدي فلان! يا سيدي فلان! وبينهم رجل معلم بصير، فما تمالك نفسه حتى قام ورفع يديه وقال: اللهم أغرقهم فإنهم ما عرفوك! وماذا يفعل غير هذا؟ في حال الموت ما عرفوا الله!
    وذكرت لكم حادثة السيارة التي خاف صاحبها أن تنقلب وهو من إخواننا الموحدين، لكن دخله التوحيد على كبر سنه، وإذا به يقول: يا ألله، يا رسول الله.. يا ألله، يا رسول الله؛ خشية أن تنقلب، هذه صورة ومثلها ملايين.
    أمة أبعدوها عن هذا الكتاب، هذه الآيات ما عرفوها ولا سألوا عنها قط، فكيف -إذاً- تهتدي بدون هذه؟ كيف تمشي بدون نور وتهتدي؟ لا يمكن.
    إذاً: فلنستمع إلى هذه الآيات الست تقرر أنه لا إله إلا الله، لا أحد يدعى ولا يستغاث به ولا يستعاذ بجنابه ولا يطلب منه إلا الله في حال الخير والشر، والرخاء والشدة، في البأساء والضراء.
    (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ )[الأنعام:40] قل لهم، حدثهم ( أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:40] وقد عرفنا العذاب ألوانا وأنواعاً: فقر، مجاعة، قحط، عدو يتسلط عليهم، وباء يجتاح بلادهم، ( عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ )[الأنعام:40] ساعة القيامة أو ساعة الموت، في هذه الحالة حالة الشدة ( أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40] لا والله لا يدعون إلا الله.
    تفسير قوله تعالى: (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون)
    قال تعالى: ( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ )[الأنعام:41] اسبقهم إلى الجواب، بل إياه جل جلاله وعظم سلطانه تدعون لا تدعون غيره ولا سواه؛ لأنكم تعرفون أنه لا يكشف كربكم ولا يزيل همكم وغمكم إلا الله، أما هذه التماثيل فلا قيمة لها.إذاً: ( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ )[الأنعام:41]، يكشف ما تدعون إليه من الغم والكرب إن شاء، ما هو بمقهور أو ملزم ولا بد؛ لأنه يعذب بحكمة ويرحم بحكمة، يعطي بحكمة ويمنع بحكمة، فلهذا كان التقييد من ألطف ما يكون ( فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ )[الأنعام:41] أي: ما تدعونه لكشفه وإبعاد ما نزل بكم ( إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:41]، لا يبقى في ذهنهم اللات، ولا العزى، ولا مناة، ولا سيدي عبد القادر، ولا العيدروس ، كل هذا يزول من آذانهم، إلا عند ضلالنا نحن فلا يزول أبداً، ولعل من الحاضرين من يشك في هذا الكلام! هل تتصور أن شخصاً يكذب على المسلمين في مسجد رسول الله؟ من جرب علينا كذباً منذ أربعين سنة؟ انزعوه من أذهانكم، إن لم يكن هذا هو الحق فما هو الحق؟

    (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ )[الأنعام:41] أنتم ( مَا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:41] به، فما تقولون: يا هبل، ولا يا إبراهيم، ولا إسماعيل.. هذه حقيقة واضحة أم لا؟ المشركون العرب بخلاف مشركي النصارى أو غيرهم؛ لأن بعضهم يتصور الله في الشمس أو في القمر ويعبدهما، ولا يستغيث بالله ولا يعرفه، هذه أمة أخرى تتصور أن الله حل في جسم عيسى، فهم يدعون عيسى كأنهم يدعون الله، وهذا شرك هابط، شرك العرب الذي نزلت الآيات فيه شرك معقول، يؤمنون بخالقهم ورازقهم، ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )[الزخرف:87]، ما ينكرون هذا أبداً، يحلفون بالله وينذرون له أيضاً، فشركهم أخف من شرك الذين ألهوا عيسى والذين يؤلهون الشمس والقمر والمخلوقات.
    تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون)
    ثم قال تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ )[الأنعام:42] يا رسولنا ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ )[الأنعام:42]، البأساء مؤنث البؤس والشدة، كالحرب، كالجوع، والضراء ما يضر ويهلك الأجسام والعقول من أنواع العذاب، فعلنا بهم ذلك لحكمتنا العالية، هم عبيدنا، لكن ابتلاءهم وامتحانهم لأجل صالحهم، سنتنا أننا بلوناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون إلينا، والتضرع هو التذلل والانكسار أمام الجبار بالصوت المنهزم، والهيئة المنهزمة، وقد بينا أيضاً في يوم من الأيام حول قوله تعالى: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[الأعراف:55] وقلنا: إن العنز ربيناها وعشنا معها في قرانا، حين تلد الجدي تراه بعينيك يأتي وله نغم خاص يطلب اللبن ليرضع، فالعنز تدنوا من الجدي، والجدي تسمع له نغماً ورعدة وصوتاً، هذا الذي بينه تعالى، هذا التضرع، فلهذا دعاء الله ما هو بالعنترية، ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا )[الأعراف:55] أي: متضرعين، متذللين، مرتعدين، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنا إذا دعوت عرفت أنه استجيب دعائي أو لم يستجب، فقيل لها: كيف تعرفين؟ قالت: إذا أخذتني الرعدة وسالت الدموع عرفت أن دعوتي استجيب لها.وهذا ربنا يدعونا إلى هذا: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[الأعراف:55].
    إذاً: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ )[الأنعام:42] يا رسولنا، أمة نوح، أمة هود، أمة صالح، أمة إبراهيم .. ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ )[الأنعام:42] أي: بالبلاء والشقاء وبالعذاب امتحاناً لهم ( لَعَلَّهُمْ )[الأنعام:42] أي: كي ( يَتَضَرَّعُونَ )[الأنعام:42]، رجاء أن يتضرعوا، فما تضرعوا، والمفروض أنهم يتضرعون، فإذا تضرعوا رفع الله عنهم العذاب والبلاء.
    تفسير قوله تعالى: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون)
    يقول تعالى: ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:43]. فالمفروض فينا نحن -أبناء الإسلام- إذا أصابنا كرب، هم، غم أن نفزع إلى الله عز وجل، وأن نتضرع ونبكي وترتعد فرائصنا، وتوجل قلوبنا حتى يفرج الله ما بنا، لكن هذا الباب ما فتح، أغلق عن المسلمين، هل بلغنا أن أهل إقليم مصابون بكذا وكذا فزعوا إلى الله وتضرعوا وبكوا؟ ما فعلوا، حصل عندنا في هزات اليهود حين يضربون العرب، حيث كان في الزمان الماضي يفزع العرب إلى الله، ومن مظاهر ذلك: ترك الغناء والمزامير في الإذاعات، وتبقى فقط تبث ذكر الله والكلام الطيب، وما إن يعلن عن وقوف الحرب والمصالحة حتى تعود حليمة إلى عادتها القديمة، وضع سيئ كأننا لا نعرف كلام الله ولا كتاب الله.
    فربنا سبحانه وتعالى يقول: ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:43]، أي: فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا وبكوا واطرحوا بين أيدينا وسألونا العفو أو النجاة؟ ولكن العكس هو الذي كان، حيث قست قلوبهم، لهذا لم يبكوا بين أيدينا ولم يسألونا، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الشرك والمعاصي والفسوق والظلم والكفر، الشيطان زين لهم ما كانوا يعملونه، فلم يتخلوا عنه ولم يتركوه مع أنهم أصابهم ما أصابهم.
    تفسير قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ...)
    قال تعالى: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ )[الأنعام:44] الذي ذكرتهم به أنبياؤهم ورسلهم من وعيد الله ووعده نسوه، ( فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ )[الأنعام:44]، فالمياه تدفقت والأمطار والنباتات والزروع والضروع؛ لأنهم ممتحنون.(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ )[الأنعام:44] مما هو معروف بين الناس من المال، والذرية، والسلطان.. وقل ما شئت، ( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا ([الأنعام:44] وزغردوا وولولوا، وصفقوا وعقدوا حفلات الرقص ( أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ )[الأنعام:44]. ‏

    الواجب على العبد حال تقلبه في الرخاء والبلاء
    هذه الآية يقول عنها الحبر وغيره: إنها تبين لنا امتحان الرب لنا. فيا أمة الله، يا عبد الله! إن كنت في خير وعافية فإنك مبتلى، وإن كنت في شر وبلاء فإنك مبتلى، فاعرف كيف تعيش، إذا كنت في عافية ونعمة فأكثر من العبادة والطاعة والتضرع لله عز وجل والدعاء، لا تصرف تلك النعم في معاصي الله، ولا تشتغل بها فتنسى ذكر الله؛ فإنك مهيأ لأن تسلب من يديك، ثم تيأس -والعياذ بالله* وتبلس، وينقطع رجاؤك، وإذا كنت في بلاء فاعلم أن هذا البلاء له سبب هو الذنب، إذاً: فاصبر على طاعة الله، وواصل البكاء بين يدي الله وكلك صدق حتى يفرج الله تعالى ما بك، أما أنك في ساعة الرخاء تشتغل باللهو والباطل والغناء وتنسى ذكر الله، وإذا جاءتك المحنة والبلاء تفزع إلى غير الله، أو تصاب باليأس والقنوط وتعرض عن ذكر الله؛ فهذا لا يليق بالمؤمن ولا يفعله مؤمن حق أبداً.
    الخيرية الكلية في حياة المؤمن في السراء والضراء
    والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ( عجباً لأمر المؤمن ) المؤمن بحق وصدق ( إن أمره كله له خير )، سواء أكان شراً أو خيراً، كله خير ( وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء ) حالة مسرة مفرحة، غنى وراحة وأمن وطمأنينة ( شكر فكان خيراً له )؛ ليبقى ذلك الخير، ( وإن أصابته ضراء ) من الضر والأذى ( صبر فكان خيراً له ).( عجباً لأمر المؤمن ) عجباً لأمر من؟ المؤمن، و(أل) تدل على الوصف المتين العريق، ما قال: عجباً لأمر مؤمن، بل قال: المؤمن، أي: الحق الثابت الإيمان ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير )، بيان ذلك: ( إن أصابته سراء شكر ) ما السراء؟ الحالة المسرة المفرحة التي تفرح وتسر، سواء صحة في بدن، أو مال في الجيب، عز في البلاد، كرامة.. قل ما شئت من أنواع السراء.
    ففي هذه الحالة ماذا يصنع المؤمن؟ يغني، يرقص، يكثر من الطعام والشراب، يتنقل في عواصم الدنيا يتبجح؟ أهذا هو المؤمن؟
    إن المؤمن حينئذ يشكر بقلبه ولسانه، لا يفتأ يحمد الله على كل لقمة يأكلها، على كل خطوة يخطوها، شكر الله فامتثل أوامره في صدق واجتنب نواهيه في صدق كذلك، وهو لا يبرح أن يحمد الله ويثني عليه طول يومه وطول عامه، هذا كان خيراً له، تلك النعمة من صحة بدن، أو مال، أو جاه أنفقها في مرضاة الله، أنفقها في سبيل الله، ليزيد رضا الله عنه، فهو في خير.
    حال غير المؤمن في تقلبه في السراء والضراء
    ( وليس ذلك إلا للمؤمن )، غير المؤمن إذا حصل له دولة صال وجال وظلم وفعل كما نشاهد ونسمع، وإذا أصابه ذل انكسر وتحطم؛ لأنه فاقد البصيرة أعمى، ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ )[البقرة:18]؛ لأن الإيمان الحق هو بمثابة الروح للإنسان، المؤمن الحق حي والحي لا يسلك إلا مسالك الخير والرحمة والهدى، ويتجنب مسالك الشر والباطل والفساد؛ لأنه حي، وغير المؤمن ومن كان إيمانه لا يساوي شيئاً، إيمان عن تقليد وجهل، ما عرف الله ولا سأل عنه ولا بكى يوماً بين يديه، هذه الصور كالجنسيات. أذكركم بحادثة مضت، وهذه الحوادث هي عظات وعبر لمن يعتبر، قال كاتب في مجلة أو صحيفة منذ حوالي ثلاثين سنة: إنه لقي فتاة في جدة، فسألها عن جنسيتها فقالت: مصرية، قال: والتدين؟ قالت: أظنني مسلمة! فهل هذه مؤمنة؟ أهذا هو المسلم؟
    بل بأذني سمعت خارج البلاد من بين إخواننا هنا من يقول: إنما هي أوقات محدودة، وسوف ترتقي ديارنا، ويزول الحجاب والعمى ويقع ويقع ويقع! والله بأذني سمعته، انتبهتم؟ يقول: إنما هو زمن، ولن تستمر المملكة هابطة هكذا، سيأتي يوم ليس فيه هذا الحجاب وهذا التستر ، فهل هؤلاء مؤمنون مسلمون؟ ما عرفوا الإيمان ما هو ولا الإسلام.
    يقول صلى الله عليه وسلم: ( عجباً لأمر المؤمن ) بحق ( إن أمره كله له خير )، بيان ذلك: ( إن أصابته سراء شكر )، بينوا لنا الشكر يرحمكم الله؟
    هو الاعتراف بالنعمة بالقلب، والنطق باللسان: الحمد لله.. الحمد لله، وتسخير تلك النعمة في مرضاة الله، أعطيت ملايين الريالات فلا تنفق ريالاً واحداً في معصية الله أبداً، أعطيت صحتك وبدنك وكل هذه الطاقة فلا تمش خطوة واحدة في سخط الله، أعطيت بصرك فلا تفتح عينيك مرة واحدة في غير ما يرضي الله.. هذا هو شكر الله على نعمه.

    معنى قوله تعالى: (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)
    يقول تعالى: ( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا )[الأنعام:44] والذي آتاهم هو الله تعالى، أعطاهم من الخير والأمن، ( أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ) بدون علامات سابقة ( فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ )[الأنعام:44] آيسون قانطون، لاصقون بالأرض كلهم كروب وهموم، يقال: أبلس الشيء: إذ أيس وانقطع أو تهشم وتحطم.
    تفسير قوله تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)
    وختم الله عز وجل بيانه لعباده المؤمنين بقوله: ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:45].(فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا )[الأنعام:45] الظالمون قطع دابرهم، فأخْذ من وراءهم ومن أمامهم من باب أولى، بمعنى: لم يبق منهم شيء، آخرهم أخذ فكيف بالوسط والأول؟ ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ )[الأنعام:45] ماذا فعلوا؟ ( ظَلَمُوا )[الأنعام:45]، ماذا تقولون في الظلم؟ هل ينجون؟

    الظلم أعلاه الشرك بالله عز وجل، كل من صرف عبادة الله لغير الله فقد ظلم ربه وأخذ حق مولاه وأعطاه لمن لا يستحقه، كل من عبد غير الله بعبادة ولو كانت الدعاء فقط، أو الذبح فقط، أو النذر فقط، أو الاستغاثة فقط.. كل من وضع عبادة الله التي تعبد بها عباده وأنزل بها كتابه وبعث بها رسوله وصرفها لولي من الأولياء، لصالح من الصلحاء، لملك من الملائكة فقد ظلم؛ إذ الظلم -كما علمنا وتقرر عندنا- وضع الشيء في غير موضعه.
    فالعبادة التي شرع الله لتزكية النفوس وتطهير الأرواح هذه ليس من حق أحد أن يصرفها لغير الله عز وجل، إن صرفها لغير الله أظلمت نفسه وخبثت، وأنتنت وتعفنت، ولكن لا يرضى الله تعالى بهذا، أيخلقه ويرزقه ويغدق عليه نعمه، ثم يلتفت إلى غيره يدعوه ويرفع إليه يديه هكذا ويترك ربه؟ هذا ينبغي أن يقطع دابره.
    بهذا لا يبقى بيننا من يفكر في الظلم أو يحاول أن يظلم، وإذا خطر بباله خاطر الظلم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وفزع إلى الله ولجأ إليه.
    درسنا الليلة عرفنا أن الله يمتحن ويبتلي بالسراء والضراء، لا تقل: نحن في خير وعافية والأموال كذا وكذا..وهذا دليل أنه مرضي عنا! والله ما هو إلا اختبار، فإن شكرنا دامت مدة النعمة، واستمر زمانها، ويوم نكفرها قد نمتحن فترة من الزمن -السنة والسنوات والعشر-، فإذا لم نرجع سلبت من بين أيدينا ولا ترد، إلا أن هذه الأمة لا تؤخذ بعذاب الاستئصال والإبادة الكاملة، لكن تؤخذ بألوان من العذاب، ومن مظاهر ذلك العذاب أن أذلنا وسلط علينا الكفار قرناً من الزمان وهم يسوسوننا، أليس هذا من عذاب الله؟ بلى.
    لزوم المؤمن حمد الله تعالى في سائر أحواله
    وأخيراً يقول تعالى: ( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:45] هذه الجملة تقال عند كل خير وغيره، عندما تتجلى وتظهر آيات الله، إنعامه، عذابه، قل: الحمد لله رب العالمين، شبعت فقل: الحمد لله، نزلت من على دابتك سليماً فقل: الحمد لله رب العالمين، بلغك أن إسرائيل أخذتها العواصف وغرق اليهود فقل: الحمد لله رب العالمين.. وهكذا كلما تجددت نعمة أو ظهرت نقمة من الله لخصومه وأعدائه تقول: الحمد لله رب العالمين، علمنا الله هذا؛ إذ قال تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:45] على قطع ذلك الدابر، وإنهاء أولئك المجرمين، وكم من ظالم وجبار ومفسد بين العرب عاشرناهم نحمد الله إذ قطع دابرهم. نتلو الآيات مرة أخرى: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40] لا يدعون غير الله ( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ )[الأنعام:41] دعوه لرفع المرض، أو لكذا فيكشفه إن شاء ( وَتَنسَوْنَ )[الأنعام:41] في تلك الحالة ( مَا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:41]، ما يبقى من يقول: سيدي عبد القادر، ولا مبروك. وهذا حال المشركين الأولين، أما جماعتنا فيزدادون شركاً أكثر، لأنهم جهال ما عرفوا، لقد أضلوهم.
    هذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لولا الحرس ولولا البوليس والهيئة لرأيتهم يركعون ويسجدون كأنهم ما هم بمؤمنين، أما الاستغاثات فحدث ولا حرج: يا رسول الله! يا أبا فاطمة ! يا كذا افعل وافعل، وينسون الله نهائياً، وذلك للجهل وظلمته، حرموا هداية القرآن وأبعدوا عنها.
    (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ )[الأنعام:42]، والبأساء والضراء أنواع من العذاب. ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:43]، إذاً: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ )[الأنعام:44] من الخير ( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:44-45].
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #375
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (13)
    الحلقة (374)
    تفسير سورة المائدة (5)

    يذكر الله عز وجل عباده في هذه الآيات بالنعم التي أنعم بها عليهم في أنفسهم، سائلاً إياهم عمن يمكنه أن يعوضهم عنها من المخلوقات إن أخذها الله منهم وحرمهم منها، وإن انتقم الله من أهل قرية أو أمة من الأمم فإنه لا يهلك إلا الظالمين المكذبين، وينجي الله المؤمنين من عباده، المصدقين بآياته ورسالاته، ويأتون يوم القيامة آمنين، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
    تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
    وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، سورة التوحيد، تلكم السورة التي زفت من الملكوت الأعلى بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، هذه السورة التي تعالج أركان العقيدة الضرورية:
    أولاً: توحيد الله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فلا رب غيره ولا إله سواه، ولا يشبهه كائن من الكائنات لا في صفاته ولا في أفعاله.
    ثم تقرير النبوة المحمدية، وهي: أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العدناني من ذرية إسماعيل بن إبراهيم رسول الله حقاً وصدقاً.
    ثالثاً: عقيدة البعث والجزاء، البعث من تحت الأرض للوقوف في ساحة فصل القضاء من أجل الحساب الدقيق ثم الجزاء الأوفى: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه )[الزلزلة:7-8]، هذه السورة بآياتها تقرر هذه الحقيقة، وها نحن مع هذه الآيات بعد أن نسمع تلاوتها من الأستاذ أبي بكر.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )[الأنعام:46-49].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ )[الأنعام:46] من الآمر لرسول الله أن يقول؟ إنه الله جل جلاله، والآن نحن نسمع كلام الله، إي والله، ما أسعدنا، ما أرفعنا وأسمانا، وصلنا إلى أن أصبحنا نجلس فنسمع كلام الرب! وأعجب من هذا أن ملايين الخلق لا يسمعون كلام الله ولا يعرفونه.
    خطاب المعرضين عن ربهم ببيان عجز الأوثان عن رد ما ذهب الله تعالى به من أبدانهم

    يقول تعالى لرسوله ومصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ ) لقومك العادلين بنا أصناماً وأوثاناً، قل لهؤلاء المشركين المعرضين عن الله: ( أَرَأَيْتُمْ ): أي: أخبروني، ( إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ ) ففقدتم السمع فأصبحتم لا تسمعون، وفقدتم البصر فأصبحتم لا تبصرون، ( وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ ) فأصبحتم لا تعقلون ولا تفهمون، ولا يصل إلى قلوبكم شيء، أصبحتم كالأصنام وكالحجارة، إن فعل الله بكم هذا هل هناك من إله غير الله يأتيكم بهذه التي أخذت منكم؟ والله لا أحد. خطاب يصل إلى أعماق النفس، ما فيه تهيج، ولا فيه تنطع، ولا فيه إهانة، ولا فيه إذلال، فقط أخبروني إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم هل يوجد إله غير الله يأتيكم بذلك؟ والله لا يقول أحد: نعم يوجد إله عندنا يفعل بنا هذا، وقل هذا اليوم وبعد اليوم ولكل إنسان في الحياة ممن يعرضون عن الله عز وجل فلا يذكرون ولا يشكرون، قل لهم: أخبرونا أيها المعرضون، أيها الملاحدة، أيها العلمانيون، أيها الشهوانيون، أيها الماديون الذين لا تذكرون الله ولا تدعونه، ولا تستغيثون به، أخبرونا إن أصابك الله بفقد بصرك، والله لو اجتمعت أطباء الدنيا كلها ما ردوا بصرك، أو أخذ سمعك فأصبت بالصمم، والله لا يوجد من يرد إليك سمعك أبداً، أرأيت إن فقدت العقل وأصبحت كالمجانين تهرف بما لا تعرف، وتعمل ما لا تريد أن تعمل، هل هناك من يرد عليك عقلك؟ والله ما كان إلا الله، إذاً: لم لا نؤمن به ونعبده، ونتحبب إليه ونتملقه بفعل محابه واجتناب مكارهه؟
    لا تقل: هذه نزلت في كفار مكة! فهذا كتاب الله للإنس والجن، لهدايتهم ما داموا على سطح الأرض، ولن يفقد هذا النور تأثيره إلا يوم يرفعه الله.
    (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ )[الأنعام:46]؟ الجواب: لا أحد، أولاً: لا يوجد إله حق مع الله، لا إله إلا هو، والآلهة المدعاة المفتراة المكذوبة سواء كانت من الملائكة، أو الإنس، أو من الأنبياء والرسل، أو من الصالحين، أو من الجمادات.. كل هذه لا تملك أن ترد سمعكم وأبصاركم، ولا أن ترد إليكم وعيكم في قلوبكم.
    (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ )[الأنعام:46]؟ والله لا أحد.
    معنى قوله تعالى: (انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون)

    ثم قال لرسوله ومصطفاه: ( انظُرْ )[الأنعام:46] يا رسولنا ( كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ )[الأنعام:46]، يا للعجب! انظر كيف نلون الأساليب والعبارات، ونضرب الأمثلة المتنوعة لعلهم يرجعون، لعلهم يفيقون، لعلهم يصحون، ومع هذا هم يصدفون، يغلقون آذانهم ولا يسمعون! حالة تدعو إلى العجب.ونقتبس من نور الله فنقول: ما لإخواننا الذين انغمسوا في المعاصي بيننا يسمعون المواعظ والهداية والآيات والسنة من إذاعة القرآن، ما لهم صادفين معرضين عن بيوت الله وذكر الله، منهمكين في اللهو واللعب والباطل والشهوات، ما لهم وقد صرف الله الآيات، وها نحن نسمعها ليل نهار، لم نصدف ونعرض ولا نلتفت؟
    تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون)
    ثانياً: قل لهم: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ )[الأنعام:47] أي: أخبروني ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:47] أي: أخبروني إن جاءكم عذاب الله عز وجل سواء بالإبادة والاستئصال أو بفقد السمع والبصر، أو بفساد القلب ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً )[الأنعام:47] وأنتم غافلون لا شعور ولا تأمل ولا فكر في نفوسكم، فجأة يأتي العذاب، أو يأتيكم بعدما تلوح آياته في الآفاق وعلامته بينكم، أو يأتيكم ليلاً وأنتم نائمون، أو نهاراً وأنتم يقظون تعملون، لا فرق بين هذا وذاك.أخبروني ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:47]؟ الجواب: لا والله، لا يهلك إلا الظالمون؛ لأنهم ظالمون بأفحش الظلم وأقبحه، وهو أخذ حق الله عز وجل بالعبادة وصرفها للأصنام والأحجار، حق الله الذي ما خلق الإنسان إلا ليعبده بذكره وشكره، يسلب هذا الحق ويعطى لغير الله.
    الشرك أفحش الظلم وأقبحه
    ولهذا -كما علمتم- فلا ظلم أعظم من ظلم الشرك، ظلمك لأخيك الإنسان بأخذ دابته أو ضربه على وجهه ظلم، لكن أخذ حق الله وإعطاءه لمن ليس له بحق أي ظلم أعظم منه! ظلمك لنفسك ظلم، ظلمك لأخيك ظلم، ولكن أفحش وأقبح الظلم هو من يأخذ حق الله الذي أوجد الكون كله من أجله، بل أوجدك -أيها الظالم- من أجل أن تذكره وتشكره، فتعرض عن الله وتكفر، ولا تلتفت إليه وتعبد غيره.ولهذا لما نزلت آية الأنعام -وعما قريب نصل إليها إن شاء الله- في أي الفريقين أشد ظلماً: نحن الموحدون أم أنتم المشركون، كما في خطاب إبراهيم الخليل لقومه، فكان الجواب: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:82]، فلما تليت هذه الآية على أصحاب رسول الله قالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ خافوا، لأنه لا يتحقق الأمن والنجاة والسلامة بالبعد عن عالم الشقاء ودخول الجنة إلا للذين آمنوا حق الإيمان ولم يخلطوا إيمانهم بأي ظلم، فكبر هذا على المؤمنين لما سمعوا هذه الآية، فوجههم رسول الله الحكيم إلى ما قال لقمان الحكيم لابنه وهو بين يديه يعظه ويقول له: ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ )[لقمان:13]، لم يا أبتاه؟ ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )[لقمان:13].
    ونحن نقول: لا أعظم من الشرك، فظلمك لنفسك شيء، ظلمك للناس شيء، ظلمك للحيوان شيء، لكن ظلمك لخالقك واهب وجودك المنعم عليك تسلب حقه الذي من أجله أعطاك وجودك وتعطيه لغير الله! تصوروا هل هناك أبشع من هذا؟!
    شخص يكسوك، يطعمك، يسقيك، يسكنك، يؤويك ويحفظك يحرسك، فتترك خدمته وتخدم آخر تتملق إليه وتتزلف، كيف يقبل هذا؟ الذي يطعمك ويسقيك ويؤويك ويرعاك ويحفظك يقول لك: اخدمني ساعة أو ساعتين في اليوم، فتعرض عن ذلك ويزين لك الشيطان خدمة من يعاديه وتخدمه، فهل فينا من يقبل هذا؟ هذا هو عين الشرك، فلهذا كان أقبح أنواع الذنوب وأسوأها.
    الهلاك عاقبة الظالمين
    فماذا قال تعالى لرسوله؟ قال: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:47] عذاب الله بالاستئصال والإبادة، أو بفقد السمع والبصر، أو بالقحط أو بما شاء الله من أنواع العذاب، ( بَغْتَةً )[الأنعام:47] وأنتم غافلون، ( أَوْ جَهْرَةً )[الأنعام:47] وأنتم يقظون، ( هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:47]؟ اللهم لا، والله لا يهلك إلا القوم الظالمون.مجموعة على حصير قدم لهم طعام فيه سم، وقيل لهم: احذروا، من أكله مات، فأكل منهم البعض وترك البعض، فهل يهلك غير الآكل؟ والله ما يهلك إلا الآكل وإن كانوا على حصير واحد والطعام بين أيديهم، فلا يقتل السم إلا الذي شربه أو أكله فقط.
    كثرة الخبث سبب للهلاك
    علمنا الله عز وجل أنه إذا جاء عذاب الاستئصال والإبادة للأمم السابقة ينجي الله المؤمنين مع نبيهم ورسولهم، يرحلون قبل نزول العذاب بيومين أو ثلاثة من تلك الديار وينزل العذاب بالآخرين، إلا أن عذاب هذه الأمة هو عذاب غير استئصال ولا إبادة كاملة، فإنه إذا كثر الفسق والفجور والشر والفساد وأنزل الله نقمته بهم يتأذى ويهلك بها الفاسق والبار والصالح، والفاسقون هذا جزاؤهم، والصالحون يثابون ويؤجرون على هذه المصيبة، وترتفع درجتهم يوم القيامة، قال تعالى: ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً )[الأنفال:25] من شأنها ( لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[الأنفال:25]، وقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( نعم إذا كثر الخبث ) لأم المؤمنين زينب حين سألته: أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟ وذلك أنه قال: ( ويل للعرب من شر قد اقترب ثلاث مرات وهو فزع، لما شاهد الغيوم والسحاب والعواصف، فقالت: أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟ قال: نعم إذا كثر الخبث ).
    أهمية اتقاء نقمة الله تعالى بتوسيع دائرة الصلاح وتضييق دائرة الفسق في المجتمعات
    ولهذا نقول لأبناء هذه الديار فقط؛ لأن إخواننا في بلادنا الأخرى الفسق فيهم أكثر من الصلاح، لكن هذه البلاد التي فيها الصلاح أكثر، ويظهر فيها الفسق، نقول لهم: اعملوا ليل نهار على تقليل هذا الفسق وتقليل أصحابه وفاعليه بوعظهم، بإرشادهم، بالاتصال بهم، بكل وسيلة فيها رفق ورحمة وعطف، بإبعاد هذه الموجبات للفساد، يا عبد الله! لا تدخل الدخان في دكانك، من ألزمك يا بائع الفيديو، لم تبيع الفيديوهات في مدينة الرسول؟ يا بائع الأشرطة الباطلة! من حملك على هذا؟ يا عبد الله المؤمن! لم تفتح بنكاً ربوياً في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ عجل فحوله إلى مصرف إسلامي وارفع رأسك إلى السماء، ويغفر الله لك ذنبك ويرفع درجتك، ويغنيك بأكثر مما في يدك.على كل مواطن أن يعمل على إصلاح بيته، أولاده، أقربائه، حتى نعيش دائماً والفسق أقل نسبة من الصلاح، فما دام الصلاح أكثر فالأمن حاصل، لكن إذا كان جانب الفسق أكثر فإننا ننتظر الساعة لا محالة.
    من ألزمنا *-أيها المواطنون السعوديون- بمعصية الله؟ أنرغب فقط بواسطة الشياطين فنستجيب؟ لم لا نعمل على صيانة أنفسنا؟ يا رب البيت! احفظ بيتك، زوجتك وأولادك، أمك وأباك، لقنهم الهدى وعلمهم، اجتمع معهم على آية من كتاب الله يطهر بيتك من الخبث.
    أولادكم من حين يخرجون من المدرسة استقبلوهم في باب المدرسة وهم معكم ملازمون لكم، يصلون العصر معكم، يصلون المغرب والعشاء، يتعلمون في هذه الأوقات، لا يلعبون بالكرة ويعبثون في الشوارع ويصيحون ويتعلمون أوسخ الكلام وأفسده، فيصبح الجيل من أسوأ وشر جيل، لم لا نعرف هذا؟
    (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:47]؟ والله ما يهلك إلا القوم الظالمون، هذا كلام الله أم لا؟ فالظالمون الذين خرجوا عن طاعة الله ورسوله، فبدل أن يطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر أطاعوا الشيطان والشهوات والهوى والدنيا، كيف لا يهلكون؟
    قل لهم: أخبروني ( أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:47] والجواب: لا. لا يهلك إلا الظالمون كما بينا، الذي يحتسي السم هو الذي يموت.
    تفسير قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ...)
    ثم قال تعالى مسلياً رسوله: ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ )[الأنعام:48]، ما نرسلهم لأجل أن يهدوا الخلق، ويصلحوا الفاسد، ما هذه مهمتهم، لا يقدرون، فرسول في مليون شخص ماذا يصنع؟ فالمرسلون نرسلهم مبشرين المستجيبين للدعوة، المقبلين عليها، العاملين بها، يبشرونهم بسعادة الدنيا والآخرة، ومنذرين الذين يستكبرون ويعرضون ويشتغلون بأهوائهم وشهواتهم ويعبدون الشياطين، ينذرونهم العذاب قبل أن يحل بهم وينزل بساحتهم، ما لهم مهمة سوى هذه.فالرسول يبشر قطعاً، ولا بد أن يبين كيف تتم البشارة، وينذر ولا بد أن يبين ما ينذر: الشرك، اللواط، الجرائم.. يحذر منها، هذه مهمة الرسل من نوح ومن بعده إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم.
    ما مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل هي عمارة الدنيا! إن مهمته التبشير للمقبلين على الله، والإنذار والتحذير ممن يعرضون عن الله عز وجل، فلا تكرب -يا رسولنا- ولا تحزن، وأنتم -أيها المشركون- لم تطالبونه بالآيات والخوارق والمعجزات؟ فما هذه مهمته، ما يستطيع أن يدخل يده في قلوبكم ويقلبها، هذا ليس له، إنما هو مبشر من أجاب الدعوة، ومنذر من أعرض عنها وكفر بها، هذا معنى قوله تعالى: ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ )[الأنعام:48].
    عدد الرسل وذكر بعض خبر من أشبههم في العدة من فئات المؤمنين
    كم عدد الرسل؟ ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً على عدة أهل بدر، وعلى عدة قوم طالوت الذين قاتلوا ومعهم داود وانتصروا على جالوت ، لما هبط بنو إسرائيل بسبب سفور النساء، حيث كشف النساء عن وجوههن وأصبحن يتجولن في الأسواق كنساء العالم الإسلامي اليوم إلا من رحم الله، ولبسن الكعب العالي، أتعرفون الكعب العالي؟ اذهبوا إلى الدكاكين التي هبط أصحابها، فهم يوردونه بشعور أو بدون شعور ليباع ويهلك به المؤمنون، الكعب العالي هذا أول من لبسه نساء بني إسرائيل، الكعب العالي: حذاء أسفله رقيق وطويل، فحين تمشي تصبح تتبختر وتتمايل، فيذوب قلب الحاضر وراءها، والشيطان هو الذي زين هذا.فلما فسقوا وأضاعوا الصلاة وتعاطوا الربا سلط الله عليهم البابليين فاجتاحوا ديارهم ومزقوهم وأبعدوهم، مضى قرنان أو ثلاثة فنشأت ناشئة جديدة وقالوا: هيا نعيد ملكنا وديننا وسيادتنا، فأتوا أحد أنبيائهم -والأنبياء فيهم بالآلاف- فقال: أنا أخاف ألا تستطيعوا أن تقاتلوا، شاهد فيهم الهبوط والخلاف والفرقة والفسق، فألحوا عليه، فعين لهم بأمر الله طالوت يقودهم، لما عين طالوت قالوا: كيف يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال؟ لا تول علينا قائداً من هذا النوع.
    فقال لهم نبيهم: الآية التي تدل على أن الله هو الذي اختاره لكم أن يأتيكم التابوت الذي فيه بقية من بقايا موسى وهارون من دار الكفر، من عاصمة البابليين، وجاءت فشاهدوها معجزة خارقة، فآمنوا ومشوا في أربعين ألفاً، امتحنهم في الطريق قبل وصولهم إلى نهر الأردن، فقال: إن نهراً سيأتي أمامكم ولم يأذن الله لكم بالشرب منه، إلا من اغترف غرفة بيده فقط، فإياكم. فلما وصلوا إلى النهر أكبوا عليه كالبهائم يشربون، فلما شربوا بقي منهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، والباقون كلهم انهزموا، ما يستطيعون القتال، قالوا: كيف نقاتل هذه الأمة وكيف وكيف؟ وقاتل الموحدون المؤمنون ونصرهم الله عز وجل.
    معنى قوله تعالى: (فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
    يقول تعالى: ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[الأنعام:48]؛ لأن الإيمان والصلاح هما دعائم الولاية، كقول الله تعالى: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[يونس:62] من هم؟ ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ )[يونس:63]، وهنا ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فكل مؤمن صادق الإيمان يعمل الصالحات تحققت له ولاية الله، فإذا والاه الله وأصبح وليه فمن يقوى على أذاه؟ فلا خوف عليهم في الدنيا ولا في القبر ولا يوم القيامة ولا حزن في كل ذلك.هكذا يقول تعالى في مكة: فمن آمن وعمل صالحاً مع أي نبي ومع أي رسول، ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[الأنعام:48].
    وقد بينا أن أولياء الله بيننا لا يخافون عندما يخاف الناس، ولا يحزنون عندما يحزن الناس، إن جاءت فاقة فنفوسهم طيبة مرتاحة، والآخرون في حزن وكرب وألم، وإن جاءت حرب أو فتنة فأولياء الله مع الله نفوسهم طيبة، نفوسهم طاهرة، قلوبهم ساكنة يفزعون إلى الله، والآخرون ترتعد نفوسهم، وتتمزق قلوبهم، فهذا عام في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة، أولياء الله لا يخافون ولا يحزنون، وقد ذكرت لكم ولياً شاهدناه، ابتلاه الله بوفاة أبنائه وأطفاله، كانوا يدفنون الطفل وهو يبتسم والناس على القبر يبكون، ولا يبكي ولا يحزن، يخرج ماله كله فلا يبكي عليه ولا يحزن ولا يكرب، وهذا تحقيق قول الله تعالى: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[يونس:62].
    فالله تعالى يقول: ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ )[الأنعام:48] ثم ( فَمَنْ آمَنَ )[الأنعام:48] بهم وبالله ووحد الله ( وَأَصْلَحَ )[الأنعام:48] نفسه وزكاها بطاعة الله ورسوله ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[الأنعام:48] في الدنيا ولا في الآخرة.
    تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون)
    (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )[الأنعام:49] جحدوا بها، لم يعترفوا بها أو لم يعملوا بما تدعو إليه وتأمر به أو تنهى عنه وتحذر منه، ليس بشرط أن يقول: لا أؤمن، قد يقول -كالمنافق-: أنا مؤمن، ثم لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً، ولا ينهض بواجب، ولا يتخلى عن مكروه، فأين الإيمان؟ لا قيمة لدعوى الإيمان إذا لم تتحقق بالاستجابة لله والرسول في طاعتهما بفعل الأوامر وترك المناهي.(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )[الأنعام:49]، ما قال: كفروا بالله، كذبوا بآياتنا الحاملة لشرائعنا وتعاليمنا وهدايتنا، فلهذا لم يعملوا بها، ( يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ )[الأنعام:49] أي: عذاب الدنيا والبرزخ والآخرة، لا بد أن يمسه ويذوق ألمه ومرارته.

    ثم قال تعالى مبيناً العلة: ( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )[الأنعام:49]، أي: بسبب فسقهم. فالباء سببية، ما معنى (يفسقون)؟ يرقصون ويغنون، يلهون ويلعبون، يشركون ولا يوحدون، يعصون ولا يطيعون، فالفسق: هو الخروج عن طاعة الله ورسوله.
    أتدرون ما الفويسقة؟ الفأرة، سماها الرسول الفويسقة؛ لأنها تفسق وتخرج على أهل البيت في الليل، فتفسد عليهم طعامهم أو تحرق عليهم بيتهم.
    إذاً: فكل من ترك واجباً متعمداً وهو قادر عليه، أو فعل محرماً بدون إكراه عليه فقد فسق، أي: خرج عن الطاعة، فإن فسق في الأمر كله والنهي كله فهو الفاسق بـ (أل) الدالة على الوصف العريق المتين، ففرق بين (فاسق) وبين الفاسق، فسق فلان فهو فاسق بترك واجب أو فعل معصية، لكن الفاسق ذاك الذي أعرض عن أحكام الله وشرعه وأخذ لا يلتفت إلى أمر يقوم به ولا إلى نهي ينتهي عنه ويجتنبه.
    إذاً: قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ )[الأنعام:49]، هل بمجرد التكذيب؟ لا؛ لأن التكذيب يحول بينك وبين فعل مزكيات النفس، فالعبد إذا آمن أصبح قادراً على أن يزكي نفسه بأدوات التزكية والتطهير، لكن إذا كذب لا يستعمل أدوات التزكية، إذاً: فالذين كذبوا ما استعملوا أدوات التزكية أبداً، والله يقول: ( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )[الأنعام:49]، ما استعملوا أدوات التزكية والتطهير.
    معاشر المستمعين والمستمعات هل عرفتم أن زكاة النفس ضرورية؟ إن ربنا تبارك وتعالى يقول: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، فلنعمل على تزكية أنفسنا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح بعد البعد الكامل عن الشرك والكفر والفسق والفجور، وبذلك يتحقق الهدف لمن طلب الله ومشى يطلب هدايته.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    لهذه الآيات هداية فتأملوا هل تهتدون إليها:[ أولاً: افتقار العبد إلى الله في سمعه وبصره وقلبه ]، وهل نملك نحن أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا؟ [ وفي كل حياته]، هذا الافتقار وهذا العجز وهذا الضعف [موجب عليه عبادة الله وحده دون سواه]، فما دمت عاجزاً عن حفظ سمعك وبصرك وقلبك إذاً فاعبد الذي يحفظ لك ذلك ويهبه لك. فمن أين أخذنا هذا؟
    من قوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ )[الأنعام:46] لا أحد.
    [ ثانياً: هلاك الظالمين لا مناص منه عاجلاً أو آجلاً ]، والله العظيم! إن هلاك الظالمين لا بد منه، إما أن يكون عاجلاً أو يؤجل إلى أمد محدود، فالظالمون الآن الخارجون عن طاعة الله ورسوله هم تحت النظارة، يمهلهم الله ولكن لا يهملهم، يوم تدق الساعة تنزل المحنة وينزل العذاب.
    [ ثالثاً: بيان مهمة الرسل ]، ما هي؟ البشارة والنذارة، ما معنى البشارة؟ تبشير من أطاع بالمستقبل الحسن والسعادة في الدنيا والآخرة، والنذارة لمن عصى وكذب وأعرض، هذه مهمتهم.
    [ بيان مهمة الرسل، وهي البشارة لمن أطاع والنذارة لمن عصى، والهداية والجزاء على الله تعالى ]، فعلى الرسول البشارة والنذارة، أما الهداية فليست له، والذي يجازي العباد هو الله، ليس الرسول، فالرسل ليست مهمتهم الجزاء أبداً، وإنما مهمتهم البشارة والنذارة.
    [ رابعاً: الفسق عن طاعة الله ورسوله ثمرة التكذيب والطاعة ثمرة الإيمان ]، فمن شك في كتاب الله أو في سنة فإنه لا يعمل، هذه سنة الله، كل الذين لا يستقيمون سبب ذلك شكهم وعدم إيمانهم اليقيني في قلوبهم، ومن صدق واطمأن لا يستطيع أن يفسق، إن فسق الآن يتوب غداً ولا يستمر على فسقه.
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #376
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (14)
    الحلقة (375)
    تفسير سورة المائدة (6)


    النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه سبحانه وتعالى ليبلغ دينه للناس، وليتبع ما أوحى الله إليه دون زيادة أو نقصان، وما أعطاه الله عز وجل خزائنه، ولا أطلعه على الغيب الذي يختص به سبحانه، ولا جعله ملكاً، وإنما جعله بشراً يمشي بين الناس، ويتكلم بلسانهم، لينذرهم ويخوفهم من عذاب الله ونقمته إن هم أعرضوا وكذبوا، ويبشرهم بالجنة والنعيم إن هم أطاعوا وصدقوا.
    تفسير قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    هذا وما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات التي نسمعها من مرتلها علينا ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد ربنا منها:
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ * وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )[الأنعام:50-53] بلى.
    أمر الله تعالى رسوله بنفي اختصاصه بخزائن الله وعلم الغيب وكونه ملكاً
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات، هيا نتدارس هذه الآيات:أولاً: من القائل: ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ )[الأنعام:50]؟
    هذا كلام الله عز وجل، يأمر رسوله ونبيه ومصطفاه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لخصومه لأعدائه لنفاة التوحيد والعادلين بربهم، لأولئك الذين كذبوا بنبوته ونفوها ونسبوه إلى السحر والشعر والأساطير التي مضت في الزمان السابق، هؤلاء هم رؤساء الشرك في مكة، والله ولي رسوله والمؤمنين، فها هو ذا تعالى يوجه رسوله ويبين له كيف يدحض حججهم الباطلة وكيف يبطل تخرصاتهم وأكاذيبهم التي لا وجه لها من الصحة.
    قل يا رسولنا: ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ )[الأنعام:50]، تطالبونني بالأموال وتطالبونني بكذا وكذا وأنا ما عندي خزائن ذلك، ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ )[الأنعام:50]، والخزائن مستودعات الأرزاق، خزانة وخزائن، فخزائن الله التي أودع فيها أرزاق العباد لا أملكها وما هي عندي.
    ثانياً: ( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ )[الأنعام:50].
    الغيب استأثر الله تعالى به، هو الذي يعلم ما ينزل بكم وما يصيبكم في المستقبل، وأنا لا أعلم الغيب، ومرده إلى الله، فلا تطالبوني بما لا قدرة لي عليه، بما ليس في طوقي ولا في استطاعتي، وقوفكم هذا وقوف المعرضين فقط، وإلا فليس من شأني أنني أملك خزائن الله وأفتحها على من أشاء وأحجبها عمن أشاء، ولست أنا أبداً بالذي يدعي علم الغيب فيقول: سيصيبكم كذا، سينزل بكم كذا. أنا لا أملك هذا وليس عندي منه شيء.
    ثالثاً: ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ )[الأنعام:50]، ما قال: أنا ملك أستطيع أن أزيل الجبال، أو أضرب الجبال برءوسكم، بل قال: أنا بشر ما أنا بملك من الملائكة.
    فعلمه ربه أن ينفي عنه هذه الثلاث الصفات:
    الأولى: أن ينفي عنه أنه يملك خزائن المال وغير ذلك، هذا استأثر الله به.
    ثانياً: أنه لا يعلم الغيب، ما غاب عن العيون لا يملكه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الغيب الحقيقي، وهو ما في الملكوت الأعلى وما تجري به أقضية الله وأقداره.
    ثالثاً: ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ )[الأنعام:50] حتى تطالبوني بأن أحول الجبال أو أن أفعل كذا وكذا، هذا ما هو بشأني.
    حصر مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم في اتباع ما يوحى إليه
    يقول تعالى له: انف هذه الثلاثة وقرر شيئاً واحداً، وهو: ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ )[الأنعام:50]، هذه مهمتي، أنا عبد الله ورسوله مهمتي أن أتبع ما يوحي الله إلي، فإن قال: اسكت سكت، وإن قال: تكلم تكلمت، إن قال: بلغ بلغت، إن قال: أنذر أنذرت، إن قال: اترك تركت، ما أنا إلا متبع لما يوحي ربي إلي من الأوامر والنواهي. وهذا لا ينفي أن يجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل أيام التشريع، فإن أصاب وأقره الله فذاك، وإن لم يصب فالله عز وجل يرشده إلى الصواب، لكن بالصورة العامة رسول الله لا يقول ولا يفعل، لا يأمر ولا ينهى إلا بما يوحي الله إليه، لا يتبع غير ما يوحي الله إليه، ومعنى هذا: أنه لا يتبع رأي ذي رأي ولا فكر ذي فكر، بل يتبع فقط ما أوحاه الله إليه وأذن له فيه، سواء قاله صلى الله عليه وسلم أم فعله أم أمر به أم نهى عنه، وهكذا.(إِنْ أَتَّبِعُ )[الأنعام:50] ما أتبع ( إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ )[الأنعام:50]، من الموحي إليه سوى الله؟
    وقد عرفنا طريق الوحي: إما أن يلقي في روعه الكلمة فيفهمها عن الله، أو يخاطبه الله من وراء حجاب، أو يرسل إليه ملكاً يجلس إليه ويعلمه عن الله ويبلغه.
    معنى قوله تعالى: (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون)
    ثم قال له أيضاً: ( قُلْ )[الأنعام:50] لهم، وهذه هي صور الحجاج وإبطال الباطل ودحض المنكر، قل لهم يا رسولنا: ( هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ )[الأنعام:50] هل يستوي الجاهل والعالم؟ هل يستوي الحي والميت؟ هل يستوي المهتدي والضال؟ هل يستوي الجائع والشبعان؟ من يقول بالاستواء؟ ومعنى هذا: أنكم ضلال وأنا مهتد فكيف نتفق معكم؟ إنكم عميان لا تبصرون الحق لعمى قلوبكم وأنا على بصيرة، أنا على نور من ربي وأنتم على ظلمة الشياطين، فكيف نستوي معكم؟ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ )[الأنعام:50] يا عباد الله! لو تفكروا لقالوا: لا يستوي من يوحى إليه ويعلم ومن لا يوحى إليه شيء ولا يعلم شيئاً، أنت رسول ونحن عباد الله، آمنا برسالتك، آمنا بما جئت به. ومن ثم يهتدون ويدخلون في رحمة الله، ولا تظن أن هذا الكلام ما كان له أثر، بل كل من اهتدى في مكة اهتدى بهذه الآيات الربانية.
    (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ )[الأنعام:50] الجواب: لا. إذاً: ( أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ )[الأنعام:50]، تفكروا فمن استخدم فكره عرف الحق، أما من يريد ألا يتفكر ولا يتأمل ولا يتذكر فإنه يبقى أعمى ويبقى في الضلال.
    وهذه لفتة عندكم: هل يستوي الأعمى بينكم والبصير؟ الجواب: لا. هل يستوي الضال والمهتدي؟ لا. هل يستوي الحي والميت؟ لا. إذاً: كيف تهتدون وأنتم معرضون عن نور الله؟ كيف تهتدون وأنتم لا تؤمنون بوحي الله ولا برسول الله؟ فكروا.
    وهذه مظاهر رحمة الله بعباده، لو شاء الله لأنزل الهداية في قلوبهم، لو شاء لولدتهم أمهاتهم مؤمنين، ولكن هذه حكمته، يدخل في رحمته من يشاء، ولكن يعلم ويهدي ويبين، فمن أجاب الله واستجاب له هداه، ومن أدبر وأعرض أضله وأشقاه، وهذا إلى يوم القيامة.
    تفسير قوله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون)
    ثم قال تعالى: ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:51].هذه الآية تكون للمؤمنين، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة مؤمنون أقلاء، هؤلاء هم الذين تنذرهم بالقرآن الكريم وتخوفهم بما فيه من الأحكام والشرائع، وما يهدي إليهم من الهداية وما يبين من الضلال؛ لأن المؤمنين -كما علمتم- أحياء مبصرون، والحي المبصر السميع يستجيب، إذاً: اترك هؤلاء الضلال -يا رسولنا- وأنذر بالقرآن من هم مؤمنون أحياء غير أموات، كقوله تعالى من آخر سورة ق: ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ )[ق:45]، هذا الذي إذا ذكرته ذكر، أما الذي قلبه ميت وهو في ظلمة فإنك تقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فلا يسمع شيئاً ولا يستفيد، وهذه كرامة المؤمنين وإن كان منهم المذنبون، فإنظارهم يستفيدون منه، إذا خوفهم يوم القيامة وخوفهم بعذاب الله يتوبون إلى الله، من كان على معصية من تلك اللحظة أو الساعة يعزم على تركها فيستفيد بإنذارك بالقرآن يا رسولنا، أما الأموات المشركون الكفرة فكيف يستفيدون؟
    وقد يدخل في هذا بعض اليهود والنصارى، إذ هم يؤمنون بالله وبلقائه، كذلك أنذرهم، وأنذر به ( وَأَنذِرْ بِهِ )[الأنعام:51] أي: بالقرآن العظيم، أو بيوم القيامة ( الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ )[الأنعام:51]، والحشر إلى الله هو السوق بواسطة الملائكة إلى ساحة فصل القضاء، واقرءوا لهذا: ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا )[الزمر:68-69]، إذا جاء الرب لفصل القضاء استنارت تلك الأرض كلها بنور الله، ( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ )[الزمر:69-70]، ثم سيق أهل النار إلى النار وأهل الجنة إلى الجنة، كما في آخر سورة الزمر.
    (وَأَنذِرْ بِهِ )[الأنعام:51] أي: بالقرآن، أو بيوم القيامة، كل ذلك صالح، فالقرآن حمال الوجوه، الذين يؤمنون بيوم القيامة أنذرهم به حتى يقللوا من الشر والفساد ويقللوا من الباطل، فينتفعوا بهذا.
    جهة ما يثبت من الشفاعة وجهة ما ينفى منها
    (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:51]، هل لأحد يوم القيامة في عرصات القيامة في ساحة الحكم والقضاء، هل هناك من له شفيع وولي سوى الله؟ والله لا أحد، فإذا أراد الله أن يكرم أحدنا قال: أي فلان! شفعناك في فلانة أو فلان. إذا أراد الله أن يشفع امرأً قال: شفعناك فاشفع. ويحدد له فيمن يشفع، ولا تظن -كما يقول المبطلون وكما زور الضالون وضللوا أمة المؤمنين والمسلمين- أن فلاناً القطب هو الذي يشفع، فهذا كله باطل. فنحن لا ننفي وجود من يشفع يوم القيامة لبعض الناس، ولكن ننفي أن يقول أحد: أنا أشفع لفلان، ومن الآن أعطني بستانك أو أعطني منزلك لأشفع لك، فهم يخرجون من بيوتهم وبساتينهم للمشايخ ليشفعوا لهم، يضمنون لهم الشفاعة.
    إذاً: لا يملك الشفاعة يوم القيامة أحد إلا الله، هو الذي يأذن لمن شاء أن يشفع تكريماً له، ويبين له من يشفع فيه أيضاً، فلو أراد محمد صلى الله عليه وسلم -وهو رسول الله- أن يشفع في أبي جهل وعقبة بن أبي معيط فلا يصح ذلك ولا يأذن الله له، ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى )[النجم:26] عمن يشاء، فلا بد أن يأذن الله لك بأن تشفع، ولا بد وأن يرضى عمن تشفع له، فإذا لم يرض له أن يدخل جنته فلن تستطيع أنت أن تشفع له.
    ولا ننسى ذاك المنظر العجيب الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء، فإن إبراهيم عليه السلام يقول: يا رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون -وهذا جاء في كتاب الله في سورة الشعراء- وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي يا رب؟ أراد أن يشفع في أبيه، فما كان إلا أن قال الله له: انظر تحت قدميك، فنظر فإذا والده آزر في صورة ذكر من ذكران الضباع ملطخ بالدماء، فما إن نظر إليه إبراهيم حتى اقشعر جلده وصاح: سحقاً سحقاً، أي: بعداً بعداً، فأخذته الملائكة من قوائمه الأربع وألقوه في اصل الجحيم وطابت نفس إبراهيم.
    التقوى غاية الإنذار بالقرآن الكريم
    إذاً: ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ )[الأنعام:51] يتولى أمرهم، ( وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:51] يشفع لهم، بل الله هو الولي وهو الشفيع.ثم علل لهذا بقوله: ( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:51] الله فلا يعصونه، بم يتقى الله يا عباده؟ بتقواه، لا بالحصون ولا بالأسوار ولا بالسحر ولا بالجيوش أبداً، إنما يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله فقط، لا شيء آخر إلا بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله -أي: أطاعه فلم يعصه- فقد زكت نفسه وطابت وطهرت وأصبحت كأرواح الطاهرين، فهذه الروح لا يمكن أن يتلاءم معها العذاب أو الخزي والعار، بل تتلاءم مع أهل الجنة وما فيها من نعيم مقيم.

    (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:51]، أنذر بالقرآن يا عبد الله، أنذروا أيها المؤمنون بالقرآن من يخافون الله ويخشون الوقوف بين يديه؛ رجاء أن يتقوه فيتركوا معاصي الله، فكل من يخالط معصية ويباشرها وأنت تعلم ذلك فعلمه وأنذره وخوفه بلقاء الله، فأنت نائب عن رسول الله.
    تفسير قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ...)
    ثم قال تعالى: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )[الأنعام:52].
    سبب نزول الآية الكريمة
    هذه نزلت في حادثة معينة وقد تكررت، وهي أنه أيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة جاءه وفد من المشركين من غلاتهم وكبارهم، وقالوا: إن أردت أن نسمع منك ونفهم ما تقول فأبعد عنا هؤلاء الفقراء والمتسخين لنجلس إليك جلسة خاصة ونفهم ما تقول، أما أن نجلس مع بلال وصهيب وفلان وفلان فلا نستطيع، وقالوا: اكتب لنا بهذا صكاً، وتقول الرواية: استدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ليكتب، فلما هم صلى الله عليه وسلم بهذا الفعل رجاء أن يدخل هؤلاء الرؤساء في الإسلام فيتبعهم الجهال والعوام وتنتهي هذه الحرب، وهذا من باب الرشد والفهم والبصيرة، فلو أسلم أبو جهل وعقبة وفلان وفلان لأسلمت مكة كلها، هكذا فهم ورغب وأراد أن يطبق، قال سعد بن أبي وقاص : أنا وعبد الله بن مسعود وفلان واثنان معنا لا أسميهما، فلما هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يطبق هذه المسألة أنزل الله تعالى قوله: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )[الأنعام:52]، لا تطردهم من أين؟ من مجلسك ليجلس الطغاة والمشركين، إذ كان يجلس حول الكعبة ويجلس حوله الفقراء، وأما الأغنياء فيلوون رءوسهم متكبرين، يقال لهم: اجلسوا لتسمعوا، فيقولون: لن نسمع؛ فهؤلاء يجترئون علينا ويقولون فينا. وهذه الصفة باقية إلى يوم القيامة، أهل الكبر لا يجلسون في مجالس العلم ولا يجالسون الفقراء بحال من الأحوال إلى يوم القيامة، والكتاب كتاب هداية للأبيض والأصفر إلى يوم القيامة.إذاً: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )[الكهف:28]، لما أمر بألا يفعل أصبح يجلس مع المؤمنين ثم يقوم عنهم ليتعرض لأولئك الطغاة لعلهم يهتدون، فأنزل الله تعالى: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ )[الكهف:28] احبسها، ( مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )[الكهف:28-29]، هداية من هذه؟ هداية الله، قولوا: آمنا بالله، كيف يكفر بالله؟
    ذكر خبر عتاب الله تعالى لنبيه في شأن ابن أم مكتوم
    ولا ننسى أيضاً عتاب الله له صلى الله عليه وسلم في سورة عبس، تلك حادثة خاصة؛ حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكلم كبار الطغاة ويدعوهم ليهديهم وعبد الله بن أم مكتوم الأعمى وراءه بعصاه يقول: يا رسول الله! علمني، يا رسول الله! أجبني، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يلتفت لأنه مشغول لعل الله يهدي عمرو بن هشام أو عقبة بن أبي معيط ، فأنزل الله تعالى فيه: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى )[عبس:1-2]، عبس بوجهه وتولى وأعرض، يلتفت إليه ثم يتركه، ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ )[عبس:1-11]، ما إن نزلت هذه حتى كان صلى الله عليه وسلم إذا جاء ابن أم مكتوم فرش له بعض ردائه وأجلسه إلى جنبه، ويقول: مرحباً بالذي عاتبني ربي من أجله! هل تستطيعون هذا؟ هل تقدرون عليه؟ لو أخذتم قبساً من الأخلاق النبوي فذلك يمكن، شخص سجنت أو اتهمت أو أوذيت من أجله ثم تنسى ذلك كله وترحب به وتؤهل وتسهل وتكرمه، من له نصيب من الخلق النبوي من خلق محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يفعل هذا.
    المراد بالدعاء في الآية الكريمة وبيان مقصد الداعين
    (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )[الأنعام:52]، وهنا الدعاء بمعنى الذكر والصلاة: صلاة الصبح وصلاة العصر، والغداة قال أهل العلم: هي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والعشي: من العصر إلى غروب الشمس.قال تعالى: ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ )[الأنعام:52]، يسألونه ما يريدون أن يكملوا به ويسعدوا، هؤلاء تعرض عنهم وهم يدعون ربهم بالغداة والعشي وتلتفت إلى الآخرين!
    (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )[الأنعام:52]، أي: وجه الله عز وجل، فحين يصلون ويذكرون ويبكون ويدعون هل يريدون الدينار والدرهم؟ يريدون ماذا؟ أن ينظر الله إليهم ويحبهم ويغفر لهم ويرفعهم، ما يريدون ديناراً ولا درهماً ولا شهوة، يريدون وجه الله فقط، هؤلاء ( مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:52]، لن تحاسب عليهم أنت أبداً، ( وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:52] وهم كذلك لا يحاسبون عليك من شيء، إذاً: أنت في طريقك إلى الله وهم في طريقهم إلى الله عز وجل.
    حكم طرد الفقراء والمساكين من مجالس الأغنياء ونحوهم
    قال تعالى: ( فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:52]، إذاً: فطرد الفقراء أو المساكين من مجالس أهل العلم أو مجالس أهل الفضل محرم عندنا لا يجوز، بل إذا جلس فقير ثيابه رثة تكرمه كما تكرم الغني إذا جلس وثيابه جميلة، عرفتم هذه؟ لا تقل: أبعدوه فهذا وسخ فيه كذا، وإذا دخل الغني تهش في وجهه وتفرح!كنت اليوم عند باب المعارج هذه، وكان هناك اثنان أو ثلاثة على رأسهم إمامنا الشيخ علي ، فنزلت من العربة وصافحت الشيخ علياً وأولئك الأغنياء، وكان أمامي فقير لاصق فجئت وسلمت عليه، فتعجب؛ لأنه ليس معتاداً أن يسلم عليه، فذكرت هذه.
    يجب ألا ننسى هذه الهداية الربانية، لا فرق بين الغني والفقير، وإن كان هناك فرق بين العاصي والمطيع، بين المذنب والسليم من الذنوب والآثام، أما النسب والحسب والمال واللباس فهذا لا قيمة له أبداً، ها هو الله يؤدب رسوله بقوله تعالى: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:52]، ما أنت بمسئول عنهم ولا هم بمسئولين عنك يوم القيامة.
    (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ )[الأنعام:52] من أين؟ من جماعة الظلمة. فهل بعد هذا شيء؟ ( فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:52]، وجزاء الظالمين معروف، ومن تلك الساعة والرسول صلى الله عليه وسلم لا يفرق بين غني وفقير، ولا بين شريف ووضيع، وكذلك أصحابه وأتباعه إلى اليوم وإلى يوم القيامة.
    تفسير قوله تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ...)
    ثم قال تعالى في بيان حكمة الفقر والغنى: ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ )[الأنعام:53]، ابتلاء واختبار من الله لعباده، هذا سليم وهذا مصاب، وهذا مريض وهذا مبتلى، هذا غني وهذا فقير، هذا جميل الوجه وهذا ذميمه، لم فعل الله هذا؟ ما الحكمة؟ ما السر؟ لِمَ لَمْ يخلق الكل على أجمل إنسان؟ لم جعلنا كذا وكذا؟ لم فرق بيننا: هذا أسود وهذا أصفر، هذا مريض وهذا صحيح، هذا فقير وهذا غني، هذا جاهل وهذا كذا، ما الحكمة؟قال: ليختبرهم؛ لأنهم مهيئون لحياة الخلد والبقاء في عالم السماء وعالم الأرض، إذاً: فهذه الدنيا دار امتحان واختبار؛ فلهذا يوجد الفقير والغني والمتسخ والنظيف، وأنت مبتلى بذلك.
    (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا )[الأنعام:53]، من القائل؟ إنه الله. ( بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ )[الأنعام:53]، الأغنياء بالفقراء، والصالحين بالفاسدين، فتنا بعضهم ببعض ( لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا )[الأنعام:53]، أهؤلاء منَّ الله عليهم وأكرمهم وأعزهم ونحن ما فعل بنا هذا؟
    معنى قوله تعالى: (أليس الله بأعلم بالشاكرين)
    قال تعالى: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )[الأنعام:53]؟ بلى. من هم الشاكرون؟ الذين يعترفون بنعمة الله عليهم ويذكرونها بقلوبهم، ويترجمون ذلك بألسنتهم، ويفصحون عن ذلك بكلمة: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.ثم إن تلك النعمة إذا كانت جاهاً، بحيث صار فلان عنده جاه عند الدولة وعند الأغنياء، أو إذا كنت ذا جاه وجاهك يرتفع ويقبل؛ فأعط للناس شكراً لله عز وجل، إذا كنت ذا صحة بدنية فاشكر نعمة الله، فإذا وجدت من يحمل زنبيلاً ثقيلاً فاحمله معه، أو رأيت من يدفع سيارته فتجرد وادفعها معه، رأيت من يبني جداراً وأنت ليس عندك عمل فشمر ثيابك واشتغل معه في جداره شكراً لله على نعمة هذه الصحة، أو كان عندك مال، أغناك الله وفضلك على غيرك من الناس فاشكر الله بأن تنفق هذا المال فيما يرضي الله عز وجل ويحبه، لا تبخل به، عندك علم فضلك الله به فاشكر الله عز وجل واحمده وعلم، وإذا سألك مؤمن فأجبه ولا تقل: اذهب عني. وبذلك يتم شكرك لله على نعمته، ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )[الأنعام:53]؟ الجواب: نعم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، إنك ولينا ووليهم.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #377
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )




    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (15)
    الحلقة (376)
    تفسير سورة المائدة (7)


    على المسلم الداعي إلى ربه أن يكون على علم كاف بالله عز وجل، وبتوحيده ووعده ووعيده، وبأحكام شرعه ودينه، وأن يكون عالماً بما يحبه سبحانه وبما يكرهه، وأن يوطن نفسه على الصبر في سبيل دعوته، فيصبر على مدعويه والمقبلين عليه، ويتلطف بهم، ويقربهم إليه، ويصبر على معارضيه من أهل الزيغ والضلال، والله عز وجل كاف عباده الصالحين.
    تفسير قوله تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة ومع هذه الآيات التي نسمع تلاوتها مجودة مرتلة من أحد الأبناء، وبعد ذلك نأخذ في شرحها وبيان ما جاء فيها من الهدي الإلهي:
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ * قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ * قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )[الأنعام:54-58].
    توجيه النبي صلى الله عليه وسلم بالحفاوة بمن يجيئه من المؤمنين
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نحن الآن مع ربنا تعالى جل جلاله وعظم سلطانه، ومع نبينا ومصطفانا محمد صلى الله عليه وسلم، فلنستمع، فيا لها من حضرة ربانية لقوم يفقهون، اسمع ما يقول ربنا تبارك وتعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا )[الأنعام:54]، وإذا جاءك يا رسولنا ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا )[الأنعام:54] الحاوية لشرائعنا وأحكامنا، المبينة لسبيل النجاة، فماذا تعمل معهم؟ أهل لهم ورحب بهم وسهِّل: ( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ )[الأنعام:54]، ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ )[الأنعام:54].تقدم بالأمس أنه هم بإبعاد فقراء المؤمنين الذين طالبه المشركون بأن يبعدهم عنه ليخلو لهم رسول الله ويجلس إليهم وحده، فلما هم ولم يفعل أنزل الله قوله: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )[الأنعام:52]، والآن ها هم قد جاءوا، فقال له: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ )[الأنعام:54].
    و(السلام عليكم) و(سلام عليكم) بمعنى واحد، وهي كلمة تدل على الأمن والستر وعدم الأذى بحال من الأحوال، أي: سلمتم، فالسلامة من نصيبكم.
    بيان ما كتبه تعالى على نفسه من الرحمة بالمذنب عن جهالة بعد توبته وإصلاحه
    (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )[الأنعام:54]، أي: أوجبها على نفسه، ولا يوجد من يوجب على الله شيئاً؛ إذ هو القاهر فوق عباده، ولكن لما اعتدنا نحن كلمة: كتب على نفسه كذا، أو كتب له بكذا، بطريق الوجوب؛ خاطبنا بما يزيد في علمنا ومعرفتنا: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ )[الأنعام:54] أي: خالقكم ورازقكم ومدبر حياتكم، كتب إلهكم الذي لا إله غيره ( عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )[الأنعام:54]، فلهذا من تاب إليه مهما جنى وقارف وارتكب من عظائم الذنوب؛ فإنه إذا تاب إليه وأصلح ما أفسده يجد الله غفوراً رحيماً، هذا الخطاب للبشرية كلها إلى يوم القيامة ونحن من بينهم.(كتب) أي: أوجب تعالى على نفسه الرحمة، من مظاهر تلك الرحمة أن من أذنب منا أعظم الذنوب ثم تاب ورجع وعاد إلى الحق والطهر وأصلح ما أفسد، وكان ارتكابه ذلك الإثم بجهالة، لا عن تعمد واستهزاء وكبرياء وكفر والعياذ بالله؛ إذ مثل هذا قد لا يتوب عليه، كما قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )[البقرة:6].
    لكن هذا ارتكب الذنب جهالة، ما عنده علم بأن الله يكره كذا أو لا يحب كذا، ما عنده علم أن الله يغضب لأجل كذا أو كذا، غلبته شهوته فارتكب معصية كبيرة أو صغيرة، هذا أوجب الله تعالى على نفسه الرحمة له بأن يغفر له ويرحمه إذا تاب.
    أثر اقتراف المحرمات على النفس في غير حالة الإكراه والنسيان
    وتأملوا الآية الكريمة: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ )[الأنعام:54] لأنه في جواب (إذا)، ( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ )[الأنعام:54]، والسوء: كل ما يسيء إلى النفس البشرية، يخبثها ويعفنها ويفرض عليها الظلم والنتن، إذ كل معصية لله بترك واجب أو بفعل حرام يتولد عنها هذا الأذى للنفس والقلب، واحلف على ذلك بالله ولن تحنث، اللهم إلا إذا كان فاعل المعصية غير متعمد، أو كان مكرهاً بالحديد والنار، فالمكره كالناسي لا يتأثر أحدهما بهذا، فالمكره على أن يقول كلمة الباطل أو يرتكب جريمة معفو عنه، لأنه لا إرادة له، والناسي غير متعمد كذلك فما يتأثر قلبه بهذا العمل.أقول: المعصية لله والرسول تكون إما بترك واجب يجب أن يفعل، أو بارتكاب منهي يجب أن يترك، هذه هي المعصية، إذا ارتكبها عبد ناسياً كما لو أفطر ناسياً أن اليوم من رمضان، أو ارتكبها مكرهاً بالحديد والنار، فهل هذا تؤثر فيه تلك المعصية؟ لا تؤثر، لا تنتج خبثاً ولا تنتن قلبه ونفسه؛ لأنه فاقد الإرادة أو ناس، وفي الحديث: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )، قاعدة مبينة، أما إذا ارتكب ذلك بجهالة، كأن يقول: سوف أتوب، أو لعل هذا لا يغضب ربي، أو أنا معذور.. أو نحو ذلك من أنواع الجهالات كثيرة، ليخرج ذاك الذي يحارب الله وشرعه علناً وعمداً، إذ هذا لا يتوب الله عليه، فهذا الذي فعل هذه المعصية بجهالة ثم تاب وأصلح، أي: أنه ترك المعصية ونفسه مظلمة ليزكيها ويطهرها بالصلاة بالصدقات بالذكر بالدعاء حتى يزول ذلك العفن والنتن في نفسه، وأصلح ما أفسد، سواء أفسد أموال الناس أو أفسد قلبه ونفسه؛ فإن الله تعالى يتوب عليه.
    توجيه الرسول وأتباعه المؤمنين إلى الهدي الرباني في التعامل مع المعترف بذنبه الراغب في التوبة
    (ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ )[الأنعام:54] أي: الله عز وجل ( غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الأنعام:54]، يغفر له ذلك الذنب ويرحمه، أمر الرسول أن يبلغ هذا للمؤمنين، أيما مؤمن يجيء ويعتذر ويقول: أذنبت يا رسول الله، يقول له الرسول: مرحباً وأهلاً وسهلاً، سلام عليكم، توبوا يتوب الله عليكم، استغفروا يغفر لكم، ما يواجههم بغلظة ولا بشدة ولا بعنف ولا بغضب أبداً، وهذا منهج الرسول الذي سلكه ويجب أن نسلكه نحن، إذا أذنب أخوك أو أذنبت أختك من المؤمنين والمؤمنات فلا تواجه بالمواجهة القاسية أو الشديدة وهو يقول: قد فعلت فاستغفر الله لي، ادع له بالمغفرة وبشره وهنئه بالتوبة التي رزقهم الله إياها، عملاً بهذا التوجيه الإلهي.ماذا قال تعالى؟ ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا )[الأنعام:54]، هؤلاء ليسوا بمشركين ولا كافرين، ( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الأنعام:54]، وقرئت: (فإنه غفور رحيم) يغفر له ويرحمه، يستر ذلك الذنب ويمحوه ويرحمه، هذه بشرى عاجلة، وهل من المؤمنين من لا يذنب طول الدهر؟ أيما مؤمن يذنب ذنباً ويأتيك يستفتيك أو يعرض عليك ذنبه ويسألك عما يصنع فلا تغلظ القول عليه ولا تعبس ولا تقطب، بل قل: مرحباً وسلام عليك، واصبر وتحمل وإنك كذا وكذا، هذه هداية الله للمؤمنين.
    (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ )[الأنعام:54] أي: الله ( غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الأنعام:54]، يغفر له ذلك الذنب ويرحمه برضاه وإدخاله جنة النعيم مع الأبرار والصالحين، أما تفرحكم هذه؟
    تفسير قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)
    الآية الثانية: يقول تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55]، كهذا التفصيل الذي نفصل به الآيات المبينة للشرائع والأحكام والعبادات؛ كهذا التفصيل نفصل الآيات من أجل أن تظهر طريق المجرمين وتترك وتهجر ويبتعد عنها.(وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ )[الأنعام:55]، أي: كهذا التفصيل بذكر الحادثة أو ذكر ما يتبعها وما يترتب عليها، وطريق التوبة والنجاة، هذا التفصيل من أجل ماذا؟ ( وَلِتَسْتَبِينَ )[الأنعام:55] تتضح ( سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55] فيتركها المؤمنون ويهجرونها ولا يلتفتون إليها، ولو لم يكن هناك تفصيل وبيان فسنقع فيما يقع فيه الآخرون، ومن هنا نستنبط أن طلب العلم واجب وفريضة، حتى تعرف طريق الحق من طريق الباطل، حتى تعرف سبيل النجاة من سبيل الخسران، فالله عز وجل يمتن علينا ويقول: هكذا نفصل الآيات من أجل ماذا؟ ( وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55] وتتضح، ويعرف الإجرام والمجرمون والكفرة والكافرون حتى يتجنب طريقهم ويبتعد عنهم، فهل هذه منة إلهية أم لا؟ لو ما بين لنا طريق الهدى فكيف سنهتدي؟ لو ما بين لنا طريق الضلال وفصلها في الكتاب بعد ذلك فسنفعل ما يفعله الناس ونحن لا ندري؟
    أقول: الحمد لله أن فصل الله آياته فبين طريق الهدى وطريق الضلال، فمن أخذ في طريق الهدى اهتدى، ومن أخذ في طريق الضلال ضل أحب أم كره.
    (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ )[الأنعام:55] وفي قراءة: (سبيلَ المجرمين) لتعرف يا رسولنا سبيل المجرمين، من هم المجرمون؟ اللصوص والسراق والزناة والمشركون الكافرون، هذا اللفظ يشمل كل معصية، إذ كل من أذنب ذنباً فقد أجرم على نفسه، لوثها وعفنها وأبعدها عن رضا الله ومحبته، كل من أجرم جريمة على نفسه فهو مجرم، وفعلته جريمة.
    (سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55] سبيل الظالمين الكافرين المشركين اللصوص، قل ما شئت، وقد بين تعالى هذا في كتابه، ما بقي إثم غير معلوم في القرآن، ما بقيت جريمة غير مبينة في القرآن بسبب هذا التفصيل.
    (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ )[الأنعام:55] أي: كهذا التفصيل، ( وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55].
    أطرح هذا السؤال: ما زلت أشك أن كثيرين لا يفهمون معنى الجريمة، فما الجريمة؟ كل من أذنب ذنباً ولو بنظرة محرمة فقد أجرم على نفسه، أفسدها، صب عليها الدخن والنتن والعفن، فهو مجرم، كل من ضرب أخاً أو سلب ماله أو سبه أو شتمه فقد أجرم أم لا؟ فهو مجرم مرتين: أجرم على ذلك العبد وأجرم على نفسه؛ فلهذا كان كل مذنب مجرم.
    (وَلِتَسْتَبِين سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55]، لولا هذا الكتاب فهل سنعرف الذنوب والمعاصي؟ لن نعرفها، إن عرفنا شيئاً جهلنا أشياء.
    تفسير قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ...)
    ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ )[الأنعام:56] أيها المبلغ عنا. هنا رسول الله مع ربه، قل يا رسولنا لهم وأعلن: ( إِنِّي نُهِيتُ )[الأنعام:56]، من نهاه؟ الله ربه وخالقه.(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[الأنعام:56]، فابكوا أو اضحكوا، نهاني ربي أن أعبد الذين تدعونهم من أصنامكم وأوثانكم وحجارتكم، أو من شهواتكم وأهوائكم، أو مما اتخذتموه آلهة وعبدتموه كعيسى ومريم .. وما إلى ذلك، نهاني ربي أن أعبد الذين تدعون من دون الله، وتدعون بمعنى: تعبدون، إذ الدعاء هو العبادة ومخها، فمن دعا غير الله فقد عبده، كل من دعا غير الله فقد عبد من دعاه، إذ الدعاء هو العبادة؛ فلهذا قال: ( نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[الأنعام:56]، لا أدعو اللات ولا العزى ولا وثناً ولا حجراً، أدعو الله وحده فقط، فلا تلومونني إذاً فأنا مأمور، سيدي ومولاي نهاني أن أعبد الذين تدعون من دون الله، فهل نعصيه من أجلكم؟

    هذه الآيات تزيل مفاهيم من نفوس المشركين وتوجب فهوماً أخرى، يندهشون مما يقول محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: نهاني ربي أن أعبد الذين تدعون، فلا تلومونني أنا، أنا منهي، أنا مأمور، وأنتم لا تنتهون وتعبدون غير الله.
    معنى قوله تعالى: (قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين)
    ثم قال له مرة أخرى: ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]، ومعنى هذا: أن كل من عبد غير الله بدعاء.. بحلف.. بذبح.. باستغاثة.. بنذر.. بركوع.. بسجود؛ والله ما فعل ذلك إلا اتباعاً للهوى، لا يملك من الحق في ذلك شيئاً، ولا مقدار واحد من مائة من دليل.(قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]، معنى هذا: لا أعبد ما تعبدون، ولا أعتقد ما تعتقدون، ولا أسلك ما تسلكون؛ لأنكم على غير علم ولا على بينة، وإنما بالأهواء فقط، كيف أترك بيان ربي وهداية مولاي وأتبع أهواءكم؟ هل يوجد من عرف من أبنائنا وإخواننا التوحيد ويستجيب للخرافة فيدعو غير الله؟ ما ذلك بممكن أبداً مهما كان، تدعو رسول الله: يا رسول الله أغثني، أعطيني! هل هناك من يرضى بهذا الكلام؟ لأن هذا هوى؛ فمن فعله فقد اتبع هواه، آلله أمره بهذا؟ في أي آية أمره أن يدعو غير الله والآيات كلها تندد بهذا؟
    فكل من عمل ببدعة أو ضلالة والله لا يملك من الهدى شيئاً، إنما ذلك هوى واتباع النفس والشيطان، والآية نص: ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]، يخاطب من؟ أبا جهل وفلاناً وطغاة مكة، لا أتبع أهواءكم لأنكم لا علم لكم، وإنما هي أهواء فقط وإملاءات إبليس والشيطان، فكيف أتبع أهواءكم؟
    ثم يقول: ( قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ )[الأنعام:56]، إذا أنا اتبعت أهواءكم ومشيت معكم ورافقتكم على ما أنتم عليه ( قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ )[الأنعام:56]، سبحان الله! ما وراء هذا البيان من بيان؟
    قل يا رسولنا لهؤلاء الضالين المجرمين الداعين غير الله العابدين سواه من أهوائهم وأحجارهم، قل لهم: ( لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56] ما قال: قل لا أتبعكم، قال: ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]؛ لأن ما يعبدونه كله من الهوى والشهوات، ما شرعه الله على لسان إبراهيم ولا إسماعيل ولا أنزل به كتاباً ولا بعث به رسولاً، بل مجرد اتباع هوى.
    (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا )[الأنعام:56] إذا أنا اتبعت أهواءكم ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ )[الأنعام:56]، فكيف أرضى لنفسي أن أضل وأرجع من الهداية إلى الضلال؟ هذا لا يقبله عاقل أبداً، كيف أرضى به لنفسي؟ من الذي علم الرسول أن يقول هذا؟ إنه الله جل جلاله، حتى لا يبقى في ذهنك ولا في قلبك شيء، هذه تعاليم الله لرسوله، وأمته تابعة له إلا ما دل الدليل على الخصوصية، فكلنا يجب أن نقول هذه الكلمة: لا أتبع أهواءكم في بدعكم وضلالاتكم، فكيف بعد أن نهتدي ونعرف الطريق ننتكس ونرجع إلى الباطل والخرافة والضلالة، كيف يمكن هذا؟
    تفسير قوله تعالى: (قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ...)
    ثم قال تعالى: ( قُلْ )[الأنعام:57]، لا إله إلا الله! الله بين يديه رسوله وهو يأمره ويعلمه: ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ )[الأنعام:57].أنا على بينة واضحة كالشمس من أنه لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن البعث حق، وأن الجزاء لازم، وهذا جاء به كتاب الله وكذبتم أنتم به، فيا ويلكم.
    قل يا رسولنا وبلغ: ( إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي )[الأنعام:57]، ما أنا بجاهل ولا في هوى وعمى وضلال، أنا على بينة أكثر من وضوح الشمس، كيف لا والله يكلمه وهذا كلامه يوحيه إليه وينزله عليه؟ أبعد هذا شك؟ ( إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ )[الأنعام:57] أنتم ( بِهِ )[الأنعام:57] أي: بالقرآن.. بالتوحيد.. بما جئت به من الهدى، كل هذا كذبوا به، فماذا نصنع معكم إذاً؟
    معنى قوله تعالى: (ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين)
    قل: ( مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ 9[الأنعام:57]، أما قالوا: ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )[الأنفال:32]؟ اللهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق فأهلكنا حتى لا نراه بعد الآن، ( فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )[الأنفال:32]، فهنا قال لهم الرسول بتعليم الله: ( مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ 9[الأنعام:57]، لا أملك أنا العذاب بحيث متى طلبتم أنزله عليكم، لست بملك أبداً، أنا بشر، لا أملك سوى أن أبين الطريق بأمر الله عز وجل.(مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ )[الأنعام:57]، (إن) بمعنى: (ما)، ما الحكم إلا لله، هو الذي يعذب متى شاء ويرحم متى شاء، يبين ويهدي ويعلم ويرشد، أما أنا فعبد من عبيده.
    فهم كانوا يستعجلونه بالعذاب: إن كنت صادقاً فيما تقول فأنزل علينا كذا، مر ربك ينزل علينا العذاب. وهي حماقة وجهالة وضلال.
    (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ )[الأنعام:57]، فلا حكم لأحد، الحكم لله فقط، والله ما الحكم إلا له، هو إن شاء أعطى وإن شاء منع، إن شاء أضل وإن شاء هدى، وإن شاء أدخل الجنة وإن شاء أدخل النار، افهم فهماً سليماً أن الحكم ليس لأحد، لا لملك ولا لنبي ولا لولي ولا لأي أحد، الحكم لله، فافزع إلى الله والجأ إليه واطلبه وابك بين يديه ولا تلتفت إلى غير الله تعالى، والله ما الحكم إلا لله.
    (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ )[الأنعام:57]، فالقرآن الكريم فيه قصص، والله ما فيه قصة واحدة كذباً، لا والله ولا كلمة واحدة ليس فيها حق، فكل ما يقصه من حال عاد وثمود وفرعون وقوم شعيب والأمم وكيف دمرها، وكيف صرخ أهلها وطالبوا بالعذاب ونزل بهم، كل ذلك يقصه قص الحق.
    (يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ )[الأنعام:57]، خير من يقضي ويفصل بين الحق والباطل، بين الشر والفساد، بين الخبث والطهر والصفاء، فقولوا: آمنا بالله.
    تفسير قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم ...)
    وفي الآية الأخيرة يقول له ربه سبحانه وتعالى: ( قُلْ )[الأنعام:58] يا رسولنا، ( قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ )[الأنعام:58]، ما الذي يستعجلون به؟ العذاب، يريدون أن ينزل الرسول عليهم العذاب بأمر الله، فلو كانوا يعقلون إذا نزل بهم العذاب وهلكوا فماذا سينتفعون؟ ولكن ما هم بمؤمنين بنزول العذاب، بل يريدون أن يتحدوا رسول الله ويعجزوه، حتى إذا قال: ما عندي ذلك قالوا: إذاً ما هو برسول، فالأمم السابقة كعاد لما تحدوا وطالبوا بالعذاب استجاب الله لرسوله هود فأرسل عليهم عاصفة ثمانية أيام وسبع ليال فما بقي أحد منهم، لكن اقتضت حكمة الله ألا ينزل العذاب بتلك الأمة أو الجماعة التي طغت وطالبت بالعذاب؛ لأن الله يعلم أن منهم من يسلم، وأن منهم من يخرج من صلبه مسلمون يعبدون الله عز وجل، فقال لمصطفاه: قل يا رسولنا: ( لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ )[الأنعام:58] أي: من العذاب ( لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ )[الأنعام:58] وانتهينا، لو كان عندي الآن فسأقول: يا رب أنزل بهم وباء فلا يتنفسون حتى يموتوا، لكن ما يستطيع وما يقدر، اللهم أنزل صاعقة من السماء أو اخسف بهم الأرض من تحتهم حتى تنتهي المشكلة، لكن الرسول لا يملك هذا، ومع هذا أيضاً لو كان يملكه فإنه لا يفعل، إذ هو أرحم الناس، لكن هذا هو الجواب لسؤالهم: ( قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )[الأنعام:58].لو نزل العذاب يعذب الله به الظالمين، أما غير الظالمين فينجيهم، وقد فعل مع عاد قوم هود، أما نجى الله هوداً والذين آمنوا معه؟ أما فعل هذا مع ثمود فنجى صالحاً ومن معه؟ أما فعل هذا مع فرعون فنجى بني إسرائيل في ستمائة ألف وأغرق فرعون ومن معه؟ وهكذا مع نوح في السفينة أنجى ثلاثة وثمانين رجلاً وامرأة، وأغرق العالم بكامله.
    قبح الظلم بالإشراك بالله تعالى
    (قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ )[الأنعام:58] وانتهينا، ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )[الأنعام:58]، تكرر معنى الظلم، وأفظعه وأبشعه وأقبحه ظلمك لربك، تأخذ حقه وتعطيه لأعدائه، بعض الإخوان لا يستسيغون هذه الكلمة، أي ظلم أفظع من أن تأخذ حق مولاك وتعطيه لعدوه، هل هناك أعظم من هذا الظلم؟ الظلم المعتاد أن تأخذ مشلح هذا وتعطيه لفلان، أو تخرج هذا من داره وتعطي الدار لفلان، تسقط هذا عن دابته وتعطيها فلاناً، هذا هو الظلم، وظلمك لربك أن تأخذ حقه، تلك العبادة التي ما خلقك إلا من أجلها، ما رزقك ولا أطعمك إلا لها، فتصرفها عنه إلى غيره، أي ظلم أعظم من هذا؟ ولهذا جاء في القرآن: ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )[لقمان:13]، والظلم قاعدته عندنا: وضع الشيء في غير محله، ويتفاوت الظلم، فالآن لو أدخلت أصبعك في أذنيك وقلت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ليلى غني لنا. فهذا ظلم؛ إذ المكان ما هو بمكان غناء، لكنه ليس كظلم من وقف يبول على سارية المسجد، فالظلم يتفاوت ولكنه كله قبح وشر والعياذ بالله، أعظمه الشرك بالله تعالى، الكفر به عز وجل، الكفر بكتابه بشرعه بأوليائه بما عنده وما لديه.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    [ أولاً: وجوب الرفق والتلطف بالمستفتين وعدم الشدة والغلظة عليهم ].من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الأنعام:54]، فإذا استفتاك مؤمن أو مؤمنة وقال: أنا زنيت أنا كذا فلا تعبس في وجهه، يجب أن تتلطف، وتقول له: تاب الله علي وعليك، غفر الله لك، الله غفور رحيم، والحمد لله وأقبل على الله.. وهكذا، أخذنا هذا من هذه الآية.
    قال: [ وجوب الرفق والتلطف بالمستفتين وعدم الشدة والغلظة عليهم ]، فالله أمر الرسول ألا يغلظ ولا يشتد عليهم، بل يقول: سلام عليكم، أهلاً وسهلاً.
    [ ثانياً: اتباع أهواء أهل الأهواء والباطل يضل ويهلك ]، لقوله تعالى: ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56] لم؟ خشيت أن أهلك، ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]؛ لأن أصحاب الهوى في طريق الدمار والخسران، فكيف يتخلى من معه نور الله وهدايته ويمشي مع المبتدعة والخرافيين؟ تترك قال الله وقال رسوله وتجلس تسمع الخرافات والضلالات!
    [ ثالثاً: على المسلم الداعي إلى ربه أن يكون على علم كاف بالله تعالى وبتوحيده ووعده ووعيده وأحكام شرعه ]، من أين أخذ هذا؟ من قوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي )[الأنعام:57]، ما أتكلم عن جهل أو ضلال أو تقليد، أنا على بينة، فعلى الذين يدعون إلى الله عز وجل أن يكونوا علماء عالمين بما يحب الله وبما يكره وبما شرع وبما بين من أنواع العبادات والأحكام، أما قال تعالى لرسوله: ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي )[الأنعام:57]؟ والذي لا بينة له يتكلم بهواه وبالخرافات ليتبعه الناس.
    قال: [ثالثاً: على المسلم الداعي إلى ربه] وما بيننا إلا داع، كل مؤمن داع مع امرأته.. مع أولاده.. مع جيرانه، ما هو بشرط أن يجلس في المسجد أو في الجامع ليدعو، كل مؤمن يجب أن يخلف رسول الله في الدعوة، لكن لا بد أن يكون على علم.
    [ رابعاً: وجوب الصبر والتحمل مما يلقاه الداعي من أهل الزيغ والضلال من الاقتراحات الفاسدة ].
    أخذنا هذا من قوله تعالى: ( مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ )[الأنعام:57].
    معاشر المستمعين! هذا كتاب الله، الحمد لله أن قضينا ساعة أو بعضها مع ربنا ورسولنا في بيت مولانا، فما أسعدنا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأعطنا ولا تحرمنا، وارض عنا ولا تسخط يا رب العالمين.
    وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #378
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (16)
    الحلقة (377)
    تفسير سورة المائدة (8)


    الله عز وجل محيط بكل شيء، عنده مفاتيح الغيب، لا يعزب عنه مثقال حبة في السماء أو في الأرض، يعلم ما يجترحه عباده من أعمال صالحة وطالحة، له الجبروت والملكوت، فهو القاهر فوق عباده، وهو الذي يحفظهم بملائكته، حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته الملائكة، فإن كان مؤمناً صالحاً خرجت روحه كالقطرة تخرج من في السقاء، وإن كان غير ذلك انتزعت روحه انتزاعاً يجد أثره في كل مفصل من مفاصله، وكل عرق من عروقه، ثم مرد الجميع إلى الله مولاهم الحق.
    تفسير قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين آملين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة والتي زفت بسبعين ألف ملك من الملكوت الأعلى إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم.
    وها نحن مع هذه الآيات الخمس، فهيا نستمع إلى تلاوتها مرتلة مجودة، وبعد ذلك نشرع في تفسيرها وبين مراد الله تعالى منها.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ )[الأنعام:59-62]. سبحانه لا إله إلا هو.
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ )[الأنعام:59] آمنا بالله..آمنا بالله. يخبر تعالى أن خزائن الغيب عنده ومفاتيحها عنده، إذاً: فمن احتاج منكم إلى شيء فليقف أمام ربه وليسأله فإنه عنده مفاتح الغيب، وقرئ (مفاتيح)، و(مفاتح) جمع مفتح، وهو الخزانة المستودعة لما أودع الله فيها من الأرزاق، والمفاتيح أيضاً بيده، فلم يبق مجال لعاقل أن يضع حاجته بين يدي كائن من كان سوى الله عز وجل.
    (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ )[الأنعام:59]، ليس هناك من ملك ولا نبي ولا ولي يعلم هذا الغيب، هذه المستودعات، هذه الخزائن الله خالقها وموجدها وهو العليم بها، فيا بني الإنسان ويا بني الجان! عليكم بربكم تعالى لا تلتفوا إلى غيره فإنه بيده مفاتح الغيب، هكذا يريد تعالى أن يقول لنا.
    (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[الأنعام:59]، وما هناك إلا بر وبحر، وقدم البر لأن البر أقل من البحر والبحر أوسع، كل الكائنات الموجودة في البر والبحر الله بها عليم، من الذرة إلى المجرة في الملكوت الأعلى، هذا أبلغ من كلمة (عالم الغيب)؛ حتى تنشرح الصدور وتطمئن النفوس وتهدأ القلوب.
    يقول تعالى: ( وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[الأنعام:59] من كائنات على اختلافها وعلى فوائدها وعلى مضارها ومنافعها، ولا يحصيها إلا الله، ويعلم ما يسقط من ورق هذه الأشجار في الجبال والسهول وفي الأماكن المطلقة، والله ما تسقط ورقة من شجر إلا يعلمها.
    فهذا الذي يجب أن يعبد، هذا الذي يجب أن يدان له بالطاعة، هذا الذي يجب أن يحب، هذا الذي يجب أن نطرح بين يديه ونسأله ما نحن في حاجة إليه، أما الأهواء والشهوات والأصنام والأحجار والشياطين فكل هذا ضلال مبين.
    إحاطة علم الله تعالى بكل شيء وتسطيره في اللوح المحفوظ
    (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا )[الأنعام:59]، والورق ورق الشجر، ( وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ )[الأنعام:59]، أي: ولا توجد حبة من البذور على اختلافها وتنوعها من بذرة الكزبرة إلى بذرة الدبا ( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )[الأنعام:59].علمه الذي أحاط بكل شيء، وأضف إلى ذلك أن كل شيء دونه في ذلك الكتاب، فكيف ينجو الظالمون وكيف يسعد المشركون، وكيف تهنأ نفوس البغاة والظالمين وهم بين يدي الله أكثر من كونك أنت بين يدي أمك أو أبيك؟
    هذا العلم الذي أحاط بكل شيء صاحبه يسب ويشتم وينسب إليه الولد ويدعى معه غيره ويتوسل إلى غيره! أمر عجب، وهو الإعراض عن الله وذكره وعن عبادته وحده دون من سواه.
    مرة ثانية: تأملوا هذه الآية: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )[الأنعام:59]، ألا وهو كتاب المقادير، ألا وهو اللوح المحفوظ، ألا وهو الإمام المبين؛ إذ جاءت أسماؤه في القرآن ثلاثة: الإمام المبين واللوح المحفوظ وكتاب المقادير.
    هذا هو الله فكيف نعرض عنه وعن ذكره وطاعته ونقبل على طاعة الشياطين وما تزينه من الأهواء والخبائث والرذائل؟ ما يبقى إلا أن يقول قائل: ما عرفناه، لو عرفنا هذا لما أعرضنا عنه.
    إذاً: لم لا نعرف هذا؟ أما أنزل كتابه وهو بين أيدينا محفوظاً في صدورنا ومكتوباً بسطورنا على أوراقنا؟! وإنما العدو من الإنس والجن هو الذي صرفنا عن دراسة كتاب الله ومعرفة ما جاء فيه من سبل الهداية وطرق الضلال؛ لنبقى هابطين ساقطين حيارى مفتونين، ما هناك جواب إلا هذا.
    تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ...)
    هيا إلى الآية الثانية: يقول تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ )[الأنعام:60]، ينيمكم لتناموا. أوتظنون أن النوم سهل؟ والله لولا الله أراده لما استطاع أحد أن ينام، ما هناك فرق بين النوم واليقظة، وقد ننام بالنهار، لكن نوم الليل هو الأكثر وهو الذي تتجه الموعظة به. من يتوفانا في الليل؟ إنه الله تعالى، فالأعمال التي كنا نعملها في اليقظة لها حد تنتهي إليه، إذاً: ينيمنا فإذا نمنا وقف العمل فإذا استيقظنا بدأ التسجيل علينا والعمل، لكن الظاهرة هي ظاهرة النوم، فكيف ننام لولا تدبيره ولولا حكمته ولولا قدرته ومشيئته؟ من منكم يغمض عينيه ويقول: أنا نمت الآن؟ والله لا يغمض ولا يقدر.
    وقد جاء من سورة يونس من مظاهر قدرة الله وعلمه أنه تعالى يتوفانا بالنوم، وهنا يقول تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ )[الأنعام:60]، والجرح يكون بالسكين أو بالعود، والمراد من الجرح هنا العمل بالجوارح، أولاً: تجرح بعينك فتنظر ما لا يحل لك أو ما لا يجوز لك ويسجل عليك، تجرح بأذنك فتسمع الخير أو الشر والحق أو الباطل، تجرح بلسانك فتقول المعروف أو المنكر، تجرح بيديك فتسرق وتخطف أو تتصدق، تجرح برجليك فتمشي إلى الحانات ودور الباطل أو إلى المساجد ودور المعرفة والعلم، فكم جارحة هذه؟ خمس.
    ويبدو لي أن الجوارح الخمس لا بد أن نجترح بها، أما جرح الأنف والبطن والفرج فتابع، لأننا نجترح فننظر ونسمع ونقول أو نأكل ونشرب ونأخذ بأيدينا ونمشي بأرجلنا.
    (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ )[الأنعام:60] والنهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، أو قل: من اليقظة من النوم إلى النوم، نجترح أي: نكتسب بجوارحنا، وهو تعالى يعلم هذا أم لا؟ وإذا كان يعلمه فهل يجزي به أو يهمله؟
    إذا: فوالله إننا لمؤاخذون بجوارحنا إن نحن اجترحنا السيئات، أما إذا اجترحنا الحسنات فليهننا ذلك، لكن إذا اجترحنا السيئات من النظرة المحرمة إلى سماع كلمة الباطل إلى النطق بالسوء إلى الأخذ باليد أو العطاء لما لا يجوز إلى المشي بالرجل إلى ما لا ينبغي؛ فكل هذا يسجل علينا ونجزى به، إلا من تاب وتاب الله عليه فإنه يمحى ذلك الأثر ويزول من نفسه ومن كتاب الملائكة.
    معنى قوله تعالى: (ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون)
    (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ )[الأنعام:60]، أي: في النهار، يتوفانا بالليل ويبعثنا في النهار، لماذا؟ ( لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى )[الأنعام:60]، ننام ونستيقظ إلى أن ينتهي النفس الأخير، انظروا كيف يرعانا نائمين ومستيقظين نعمل الحسنات والسيئات، وهكذا قال: ( ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى )[الأنعام:60]، والذي يقضي هو الله، والأجل هو نهاية العمر، الأجل المسمى نهاية الحياة للإنسان. (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ )[الأنعام:60] مرجعنا إلى من؟ إلى الله، والله ما لنا من مرجع نرجع إليه إلا الله عز وجل، ( ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ )[الأنعام:60] يخبركم بما كنتم تعملونه من الخير والشر، من الحق والباطل، من العبادات الصالحة ومن الشركيات الباطلة، ومن شك في هذا كفر وما آمن بالله، وهذه الحقائق ثابتة ثبوت هذا الكون.
    (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ )[الأنعام:60] أي: في النهار ( لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى )[الأنعام:60]، أي: لتتم مدة الحياة للفرد والجماعة، ( ثُمَّ ) بعد الموت ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ )[الأنعام:60]، ثم بعد ذلك إذا وقفنا في ساحة فصل القضاء ينبئنا بما كنا نعمل ويجزينا به الخير بمثله والشر بمثله، فقولوا: آمنا بالله، هكذا يتعرف إلينا لنعرفه معرفة يقينية فيزداد حبنا فيه وله وخوفنا منه، فهذه نتائج العلم بالله.
    تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ...)
    ثم يقول تعالى: ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )[الأنعام: 61]، وهو القاهر المتحكم المسيطر المذل المعز المعطي المانع ( فَوْقَ عِبَادِهِ )[الأنعام: 61]، وليس فوق الله شيء. فهذا هو الذي يتحاب الناس من أجله، هذا هو الذي يطلب ويبحث عنه حتى يعرف معرفة يقين فيتأهل العارف بعبادته وطاعته، وبحبه والمهابة والخوف منه، وهو القاهر وحده، ولا أحد آخر معه.
    (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )[الأنعام: 61] أولاً ( وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً )[الأنعام:61]، والحفظة من بينهم الكرام الكاتبين، إذ يتعاقب فينا ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، اثنان أحدهما يقعد عن اليمين والثاني عن الشمال من صلاة الصبح إلى نصف إلى أن نصلي العصر، يتركانك بعد صلاة العصر وينزل اثنان من صلاة العصر إلى صلاة الصبح.
    وهناك قرين ملازم لا يفارقنا ليلاً ولا نهاراً، وهناك حفظة يحفظوننا من الجن والشياطين أيضاً غير هؤلاء، فمن يرسل هذا الجيش لحمايتك كأنك سلطان؟ ( وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً )[الأنعام:61]، ينزلهم من الملكوت الأعلى يرسلهم علينا لا لنا.
    معنى قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون)
    (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ )[الأنعام:61]، والموت قادم، والله إنه لآت، متى؟ لا ندري، قد يكون الآن أو بعد ساعة أو بعد يوم، فلم ننسى الله ونعرض عن ذكره؟ لم نصاب بهذه المحنة: الإعراض عن ذكر الله والإقبال على الشهوات والأهواء ونحن محكوم علينا بالموت؟ ومن حكمة الله ألا يطلعنا عليه حتى يأتي مفاجأة، وبذلك تتم حكمة الله. لو علمت أنك تموت بعد أسبوع أو بعد شهر فستستقيم، لكن ما دمت في دار الابتلاء والعمل فإنك لا تدري حتى تؤخذ على ما أنت عليه.
    (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً )[الأنعام:61] إلى متى؟ (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ )[الأنعام:61]، هل لله رسل؟ كل من أرسله الله من الملائكة رسول، وكل من أرسله من الأنبياء رسول.
    (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا )[الأنعام:61] ملك الموت وأعوانه، ملك الموت هو الذي يأخذ الروح ويستلها من الجسم ويسلمها للموكب الذي ينتظره، والموكب إما أن يكون من أهل السعادة أو من أهل الشقاء، فإن كان الميت من أهل الشقاء فلا تسأل عن هذا الموكب كيف وجوههم وكيف أصواتهم، وإذا كان من أصحاب الأرواح الزكية والأرواح الطاهرة فلا تسأل عن طهارة هذا الموكب.
    (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ )[الأنعام:61]، والله ما يفرطون أبداً، مستحيل أن يأتي ملك الموت وأعوانه ثم يقول: نرى أن نؤجل هذا إلى غد أو إلى ساعة من الآن، مستحيل أن يعصوا الله كما نعصيه نحن، ( وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ )[الأنعام:61]، لا بد أن يمضي هذا الحكم الإلهي، إذا جاءت الرسل المرسلة منه لقبض روح فلان فإنهم يأخذونها بالوقت المحدد باللحظة وبأقل من اللحظة ولا يفرطون في ذلك أبداً.
    آمنا بالله.. آمنا بالله. هذا كلام الله، أسألكم بالله: هل هذا يقرأ على الموتى؟ أسألكم بالله: هل هذا يهجر ولا يدرس ولا يتدبر ولا يتفكر فيه؟
    تفسير قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ...)
    قال تعالى: ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ *
    ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )[الأنعام:61-62]، بعد الموت نرد إلى من؟ إلى ملكنا وإلى ولي أمرنا الله تعالى، ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )[الأنعام:62]، مولاهم مالكهم سيدهم ربهم إلههم الذي يملكهم حقاً وصدقاً؛ إذ هو خالقهم ورازقهم وخالق الكون كله من أجلهم، أليس هو مولاهم؟! (ثُمَّ رُدُّوا )[الأنعام:62] بعد استلال الروح من هذا الجسد واستلامها والعروج بها أو الهبوط، وقد علمنا من غير هذه الآية أن الأرواح الطاهرة إذا أخرجت وعرج بها تفتح لها أبواب السماء سماء بعد سماء حتى ينتهي الملائكة بها إلى تحت العرش، ويسجل الاسم في كتاب عليين، وإذا كانت الروح خبيثة منتنة عفنة بأمراض الشرك والمعاصي والكفر والآثام فلا تفتح لها أبواب السماء، وينزلون بها إلى أسفل سافلين، واقرءوا: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ )[الأعراف:40]، ومتى يدخل البعير في عين الإبرة؟ مستحيل! فصاحب النفس الخبيثة مستحيل أن تدخل نفسه دار السلام، هل عرفت البشرية هذا؟ ما عرفت، خمسة وتسعون في المائة -بل تسعة وتسعون- ما عرفوا هذا، معرضون مصروفون، وإلا فلو فكر أحدهم فقال: أنا مخلوق أم لا؟ أي نعم، ومصنوع، فأين صانعي؟ من هو؟ فإن قالوا: يوجد في الصين من يعرفه؛ فإنه -والله- يرحل ليعرفه، وإذا وجد من يعرف صانعه قال: ماذا يريد مني؟ علمني عرفني. يقول: يحب منك كذا وكذا ويكره لك كذا وكذا وقد أعد لك كذا وكذا. فيعبد الله ويسعد بتلك العبادة وإن كان مريضاً أو جائعاً، هذا واقعنا والله يدخل في رحمته من يشاء.
    قال: ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )[الأنعام:62]، وهل هناك موال آخرون؟ هناك ولايات لكنها باطلة، لا مولى لك حق إلا الله، كل من ادعى أنك عبده وأنه ولي أمرك فادعاؤه باطل، فمولانا معبودنا ربنا خالقنا الحق هو الله: ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )[الأنعام:62]. ‏
    معنى قوله تعالى: (ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين)
    ثم قال تعالى: ( أَلا )[الأنعام:62]، ونحن اليوم نستخدم كلمة (ألو) هذه التي شبعنا بها حتى الأطفال الصغار، القرآن يقول: ( أَلا )[الأنعام:62] استمع انتبه، هل أنت واع، هل أنت تفهم؟ هذا معنى ألو. (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ )[الأنعام:62]، اجتمعوا على صعيد واحد في عرصات القيامة ثم لا حكم إلا لله، ليس مع الله أحد في ذلك الموطن يحكم معه، ( أَلا لَهُ الْحُكْمُ )[الأنعام:62]، وقد يقول قائل: إذاً قد يطول الزمان، فلا بد أن يسند ويساعد! والجواب: لا تفهم هذا الفهم فإنه أسرع الحاسبين، أسرع من يحاسب ويجزي كلاً بكسبه وعمله.
    فاللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الكسب الصالح، ومن أهل الإيمان والتقوى يا رب العالمين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما تعلمنا واجعلنا من الراشدين، اللهم اجمعنا على كلامك في بيوتك يا رب العالمين، وارزقنا اليقين، اللهم ارزقنا اليقين، وتوفنا وأنت راض عنا وأدخلنا يا ربنا برحمتك في عبادك الصالحين.

    وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #379
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (17)
    الحلقة (378)
    تفسير سورة المائدة (9)


    كان المشركون في جاهليتهم يدعون مع الله آلهة أخرى، حتى إذا وقعوا في الشدة والكرب دعوا الله مخلصين له الدين، فإذا نجاهم من ذلك عادوا لما كانوا عليه سابقاً، وهذا برهان عظيم على بطلان فعلهم وفساد معتقدهم، فالله سبحانه وتعالى الذي تفرد بخلقهم ورزقهم وإحيائهم وإماتتهم قادر على أن ينزل على من يشاء منهم عذاباً من فوقهم، أو من تحت أرجلهم، ولن يجدوا لهم من دونه ولياً ولا نصيراً.
    تفسير قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ) .
    وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلك السورة التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح.
    هذه السورة تقرر أصول العقيدة: توحيد الله عز وجل، إثبات النبوة لمصطفى ربنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتقرير البعث الآخر والجزاء على الكسب والعمل في الدنيا، وها نحن مع هذه الآيات فلنستمع إلى تجويدها من أحد الأبناء ثم نشرع في بيان ما جاء فيها بإذن الله.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:63-67].
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[الأنعام:63]، قل يا رسولنا أيها المبلغ عنا، وهو النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، والذي خاطبه فأمره هو الله ربنا ورب العالمين، وتلقى هذا الخطاب بواسطة الوحي الإلهي الذي ينزل به جبريل عليه السلام.
    قل يا رسولنا للمشركين من قومك للعادلين بربهم أصناماً وأحجاراً، قل لهم: ( مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[الأنعام:63]، وما ينزل عليكم من بلاء، سواء كنتم في البر بالأمطار والعواصف والرياح أو في البحر، (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً )[الأنعام:63]، تدعون الله عز وجل وتطلبون منه أن يكشف ما بكم من كرب وأن يزيل ما بكم من غم وهم عندما يصيبكم ذلك.
    المفارقة بين شرك العرب الأولين وشرك المعاصرين من المسلمين حال الشدائد
    (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا )[الأنعام:63] أي: حال كونكم متضرعين إليه بالأصوات الخافتة الخفية الدالة على الاستكانة والفقر والحاجة، ما هي بأصوات التجبر والتكبر كما تكونون خارج الهم والكرب، تدعونه تضرعاً وخفية وتحلفون له لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين له العابدين له الموحدين له، وهذه حقيقة قررها القرآن وأثبتها في آيات كثيرة. فالعرب المشركون في الجاهلية إذا كانوا في حال الشدة يفزعون إلى الله يدعونه ويتضرعون له بأصوات الضراعة، وإذا زال الهم والغم أو البؤس أو الشدة نسوا ذلك وأقبلوا على الأصنام يعبدونها بالتقرب إليها بالذبح والنذر والتمسح بها والعكوف حولها، هكذا كانوا.
    وهنا نذكر الجهل الذي أصاب أمة القرآن لما صرفت عنه وحول إلى الموتى وحرمه الأحياء، تجد في ديارنا في العرب والعجم إلى الآن إذا أصاب إخواننا هم أو غم أو كرب يفزعون إلى الأولياء وإلى القبور يستغيثون ويستعيذون ويطلبون ويتوسلون، وإذا رفع الله ذلك البلاء وأزال ذلك الكرب والهم كذلك لا يشكرون الله عز وجل، فكانت حالنا أسوأ من حال المشركين، وبيان ذلك أن المشركين في حال الشدة يفزعون إلى الله وفي حال الرخاء يفزعون إلى أصنامهم وينسون شكر الله عز وجل، وذلك لجهلهم، ولجهل أمة الإسلام بعد أن صرفت عن كتاب الله ودراسته حصل لها ما حصل للمشركين، ولكن الذي يؤسف أنه حتى في الرخاء نستغيث بأولياء الله ونستعين بهم إلى غير ذلك، فحالنا أحط من حال المشركين الأولين.
    فاسمع ما يقول تعالى عن العرب في جاهليتهم، يقول: (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً )[الأنعام:63] قائلين مقسمين حالفين (لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ )[الأنعام:63] التي نزلت بنا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ )[الأنعام:63] له، فإذا زال ذلك الهم والغم نسوا الله عز وجل وما عبدوه ولا شكروه، هذا إخبار الله، يقول لرسوله: بلغهم ذكرهم ليفيقوا وليرجعوا إلى الحق.
    تفسير قوله تعالى: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون)
    ثم قال تعالى لرسوله: ( قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ )[الأنعام:64]، قل لهم يا رسولنا: الله ينجيكم من هذه المحنة أو هذه الأزمة التي حصلت، ينجيكم منها ومن كل كرب، ومع الأسف أنتم تشركون، لماذا؟ الجواب: لأنهم ما عرفوا الله وما عرفوا ما عنده وما لديه وما فقهوا ولا علموا، فلهذا يجب أن يصغوا وأن يستمعوا وأن يعلموا ويعملوا، وما بعث الله رسوله فيهم إلا من أجل هدايتهم والأخذ بأيديهم إلى سبيل النجاة والسعادة، لكن الرؤساء منهم يصرفونهم بأساليب الصرف كما تقدم وسيأتي.
    تفسير قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم ...)
    ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ )[الأنعام:65]، ( قُلْ هُوَ )[الأنعام:65] أي: الله عز وجل ( الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ )[الأنعام:65]، كالصواعق التي تنزل، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ )[الأنعام:65]،كالخسف والزلزال، وتمضي الأيام والأعوام ويصبح ما ينزل من السماء الصواريخ التي تدمر البلاد والعباد، وتحت الأرض المتفجرات التي تحول الديار إلى بلاقع، وسبحان الله! هذا كلام الله. ‏
    معنى قوله تعالى: (أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض)
    (قُلْ هُوَ )[الأنعام:65] جل جلاله وعظم سلطانه، هو وحده لا غيره ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )[الأنعام:65]، ما معنى (يلبسكم شيعاً)؟ أي: يوجد الفرقة بينكم وتفترقون وتصبح كل جماعة تدعو إلى ما تدعو إليه وتبغض الأخرى وتحاربها، تنقسم دولتكم إلى دويلات كل يطلب الملك والسيادة والعز، وتستمر الفتنة بينكم فلا سعادة في الدنيا ولا في الآخرة، فهو القادر على هذا وقد فعله بأمة القرآن وبأمة الإسلام، أليست مفرقة؟ أليست مقسمة؟ أليست شيعاً وطوائف وأحزاباً وجماعات؟ وهي اليوم أذل العالم.
    ذكر خبر التسليط على الأمة بتفرقها وتناحرها
    وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله زوى لي الأرض ) أي: جمعها ( فرأيت مشارقها ومغاربها )، جمع له الأرض ككتلة بين يديه، وتشاهدون هذا، قد تشاهد نيويورك في صفحة كعرض الكف، كالتلفاز، ولا عجب.قال: ( وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها )، وقد جمعت الأرض بين يديه يشاهدها، قال: ( وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ) الذهب والفضة، ( وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكهم بسنة عامة ) من الجدب والقحط أو البلاء والأوبئة التي تأتي على آخرهم، ( وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها -أو قال: من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ) .
    دعا ربه بعدما عرف على وجه شاشة شاهد فيها الكرة الأرضية، وقد كنا قبل أن توجد هذه الآلات نؤمن بما يخبر به الله والرسول، ولا نقول: كيف، والآن -كما قلت لكم- تكون جالساً أمام تلفاز عرضه وطوله ذراع وتشاهد نيويورك بكاملها أو القارة الخامسة.
    إذاً: فلا غرابة ولا عجب أن زوى له الأرض وجمعها بين يديه فشاهد مشارقها ومغاربها كما هي، وأعلمه أن ملك أمته سيبلغ هذا -وقد بلغ وتم- وأنه أعطي الكنزين الأحمر والأبيض، وقد كانت أمة العرب فقرها لا وصف له، فأصبح المسلمون في القرن الأول والثاني والثالث أغنى البشر والعالم بالذهب والفضة.
    ثم سأل ربه ألا يهلكها بسنة عامة فاستجاب الله له، وسأله أن لا يسلط عليها عدواً من غير نفسها يذلها ويهلكها فاستجاب، ولكن بشرط أن تكون أمتك متفقة متحدة، فإن افترقت واختلفت مذاهب وطوائف وشيعاً وأحزاباً ودويلات؛ فلا بد أن يسلط عليها أعداءها ليذلوها، وكذلك حصل وتم هذا الخبر كما هو، أما استعمرت أمة الإسلام كلها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب وأذلهم الغرب إذلالاً لا حد له؟ ومن مظاهر ذلك الآن أن حفنة من اليهود أذلوا العالم الإسلامي بكامله إذلالاً كاملاً، ومن هنا نعرف أن الفرقة هي سبب البلاء والشقاء، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو سبب الجهل العميق، بحيث أصبحوا لا يعرفون الله ولا يحبونه ولا يخافونه، فضلاً على أن يعرفوا ما يحب وما يكره، وتحقق هذا.
    دعوة لاجتماع الأمة على كتاب الله وسنة رسوله وتوحيد أقاليمها
    فهيا نرجع إلى الله عز وجل، فما أخبر الرسول بهذا إلا لأنه لا بد أن نسلم أنفسنا وننقاد، علمنا لنحذر ونتقي هذه الفتنة، فأي مانع يمنع أن يجتمع المسلمون على كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يبقى مذهب حنبلي ولا شافعي ولا مالكي ولا جعفري ولا زيدي ولا إباضي؟ آالله أمرنا بهذا؟ والله ما أمر. ثانياً: إذا أنهينا الفرقة في أربع وعشرين ساعة فإن معنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك بيان الحلال والحرام والآداب والأخلاق والعبادات والسياسة المالية والاقتصادية والعسكرية، كل ما نحتاجه موجود في كتاب الله وسنة رسوله.
    في أربع وعشرين ساعة نكون أمة واحدة، ذلك أن ولاة الأقاليم الإسلامية يجتمعون في هذه الروضة ويبايعون إمام المسلمين وكل يعود والياً على إقليمه، فماذا يكلف هذا؟ لا شيء. وماذا يثمر هذا؟ كل الخير، أما أن نرضى بالفرقة والخلاف حتى في العقائد والعبادات، ونعرض عن الشريعة بما فيها ونعرض عن كتاب الله فلا ندرسه ولا نجتمع عليه وإنما نقرؤه على الموتى؛ فما الذي يرجى لنا سوى الذل والهون والدون؟
    أقسم لكم بالله على أنه لا ينتظم أمرنا وتستقيم حياتنا ونقود البشرية إلى سعادتها بعد أن ننجو نحن ونسعد إلا بترك الفرقة كيفما كانت، البلد الآن مذهبه واحد وفيه جماعات مفترقة: هذا صوفي وهذا كذا وهذا كذا وهذا كذا، مفترقون في بلد واحد، المذاهب متفرقة ومتعددة، كل جماعة تعتز بمذهبها، آالله أمر بهذا؟ حاشاه تعالى أن يأمر بهذا وهو القائل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا )[آل عمران:102-103] هذا أمره ونهيه أم لا؟
    صور من الفوضى في الحياة الإسلامية البعيدة عن الهدي الإلهي
    عجب هذا القرآن! اسمع ما يقوله تعالى لرسوله والأمة تسمع، يقول له: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ )[الأنعام:65] يخلطكم ( شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )[الأنعام:65] وحصل هذا أم لا؟ قبل وجود الاستعمار بسنوات في بدايته كيف كان حال المسلمين؟ في بلاد المغرب لا تمشي من قرية إلى أخرى حتى تدفع جزية بين العرب أنفسهم! هنا في المدينة كان يؤخذ باب منزلك كي يباع في السوق ولا تستطيع أن تتكلم.
    عندنا نخلة كبيرة يقول لنا آباؤنا عنها: هذه علق بها مائة رأس من قبيلة عدوة لنا! مائة شخص ذبحوهم وعلقوا رءوسهم، وهذا في بلاد العالم الإسلامي بكامله، ولولا ذلك لما سلط عليهم النصارى، سلطهم عليهم رحمة بهم وشفقة عليهم، تدبير الله عز وجل، وما عرف العرب الأمن هكذا إلا بعد أن حكموا ببريطانيا وبفرنسا وغيرها، وهذا هو شأن من يرضون بالانقسام والفرقة والبعد عن الله عز وجل.
    وها هم تحت النظارة، لا تظنوا أن الله غاب أو عجز، ما زال هو القوي القاهر القادر على ما يشاء، فإما أن نسلم قلوبنا ووجوهنا له ونصبح أمة واحدة كشخص واحد، وإما ينزل بنا بلاء أصعب وأشد من البلاء الأول، وبلغوا هذا.
    معنى قوله تعالى: (انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون)
    ثم قال تعالى لرسوله: ( انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ )[الأنعام:65]، انظر يا رسولنا كيف نصرف الآيات هذه التي تتلى وننوعها ونبين ما فيها من هداية رجاء أن يفقهوا. وأكثرهم فقه وعرف، لكن الآن لما هبطنا لم يعد كثير من المسلمين يفقهون أبداً ولا يعرفون، أما الأولون ففقهوا ودخلوا في الإسلام، ما هي إلا سنيات -خمس وعشرون سنة- وما بقي كافر في الجزيرة، لكن نحن هل أقبلنا على الآيات وقد صرفت؟ أسألكم بالله: كم درساً يوجد في العالم الإسلامي مثل درسنا هذا في تفسير كتاب الله؟ بعض العلماء يقول: لا يجوز تفسير كلام الله، ويقرءون القرآن على الموتى! وأوضح من هذا أننا دائماً نقول: من منكم جلس يوماً في ظل شجرة أو جدار أيام العمل أو جلس تحت سارية المسجد وقال لأحد المارين: تعال اقرأ علي شيئاً من القرآن؟ هذه آية الإعراض أم لا؟
    الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـابن مسعود : ( يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن، فيعجب عبد الله فيقول: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: أحب أن أسمعه من غيري. فيقرأ عليه من سورة النساء قرابة الثلاثين آية حتى بلغ: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا )[النساء:41-42] قال: حسبك. قال: فالتفت فإذا بعيني رسول الله تذرفان ) ، عرفتم أننا تحت النظارة أم لا؟
    سئل أحدهم: أين الله؟ فقال: بالمرصاد وقرأ ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ )[الفجر:14]، فلا تظن أنه راض عن أمة الإسلام وهي في هذه الفتنة، أعرضوا عن كتاب الله عن أحكامه عن شرعه، أباحوا المحرمات علناً، فهل هم آمنون؟ هل خوفوا الله؟! والله ما هو إلا الإمهال والإنظار.
    (انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ )[الأنعام:46]، وتصريفها من موضوع إلى موضوع ومن حكم إلى حكم ( لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ )[الأنعام:65] أسرار هذا التشريع، ويعرفون حكم هذا التشريع، ويتذوقون ذلك بإيمانهم وإقبالهم على ربهم يذكرون ويشكرون.
    تفسير قوله تعالى: (وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل)
    ثم قال تعالى: ( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ )[الأنعام:66]، (وكذب به) أي: بهذا القرآن المنزل عليك يا رسولنا المفصل الآيات المبينة، كذب به قومك الذين أرسلت إليهم، ولكن كما قلت لكم: في أقل من خمس وعشرين سنة دخلوا في الإسلام. (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ )[الأنعام:66] الذي لا حق أبداً بعده، أليس هذا كلام الله؟ ثم قال له: ( قُلْ )[الأنعام:66] أي: لقومك وأنت توجه وأنت تبين وأنت تهدي، ( قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )[الأنعام:66]، ما أنا وكيل الله ولا وكيل السلطان ولا وكيل الملك فأكون ملزماً بهدايتكم، ما أملك هذا أبداً، ما علي إلا أن أبين الطريق فمن سلكها اهتدى ومن أعرض عنها شقي وهلك، ما أنا بوكيل عليكم ومتصرف فيكم ألزمكم بالإيمان وأكرهكم على الدخول في الإسلام وأجبركم على أن تصلوا أو تصوموا.
    (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )[الأنعام:66]، اعرف هذا يا رسولنا وبلغه لهم؛ لأنهم يطالبونه -كما تقدم- بالمعجزات والآيات، ما هو من شأن الرسول هذا، ما شأنه إلا البيان: ( إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ )[الشورى:48]، بلغ فقط كلامنا للبعيد القاصي والقريب الداني، هذه مهمتك، أما أن تصلح الناس وتهديهم فما هذا شأنك، ما كلفناك بهذا ( قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )[الأنعام:66].
    تفسير قوله تعالى: (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون)
    ثم يقول له: ( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ )[الأنعام:67]، لكل نبأ من أنباء الله وأخباره مستقر يستقر فيه لن يخطئه، فكل ما أوعد الله به أو وعد يتم كما أخبر، لا تظنوا أبداً أن شيئاً أخبر الله به لا يقع، فخبره تعالى بقوله: ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) [الأنعام:65] هل حصل أم لا؟ هل تم كما أخبر أم لا؟ (لِكُلِّ نَبَإٍ )[الأنعام:67] والنبأ: الخبر العظيم ذو الشأن ( مُسْتَقَرٌّ )[الأنعام:67] زمان ومكان يستقر فيه ولا يخطئ، طال الزمان أو قصر، في الدنيا والآخرة، ( وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:67]، وقد علموا.
    ملخص لما جاء في تفسير الآيات
    أعيد تلاوة الآيات فتأملوا:
    (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً )[الأنعام:63] وتقولون حالفين ( لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ )[الأنعام:63]، من هذه الأزمة التي حلت بهم ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ )[الأنعام:63-64] به غيره، تشركون به الأهواء والشهوات والأطماع والدنيا والباطل فضلاً عن دعاء غير الله والاستغاثة بغيره.
    ثم قال لرسوله: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ )[الأنعام:65]، والآن عرفنا العذاب من فوقنا بالصواعق والصواريخ، ومن تحت الأرجل بالمتفجرات، ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ )[الأنعام:65] يخلطكم ( شِيَعًا )[الأنعام:65] كما يخلط الثوب بالبدن، ( شِيَعًا )[الأنعام:65] أي: طوائف وأحزاب وجماعات يتشيع بعضها لبعض، ( وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )[الأنعام:65] وقد فعل، فكم من أرواح أزهقت، وكم من أجسام مسلمة كسرت بأيدي المسلمين.
    وإلى الآن يوجود هذا، الآن في ديارنا الجزائرية أكثر من خمسين ألفاً، وفي ديار الأفغان إلى الآن، وقد شاهدوا آيات الله كأنهم عمي لا يبصرون، قبل أمس في لبنان ماذا حصل؟ مع مرور أكثر من عشرين سنة بلاء، وها هي دائرة في كل مكان؛ لأن الله تعالى قال: ( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ )[الأنعام:67] لا بد أن يستقر في مكانه.
    وها نحن في هذه الديار الطيبة المباركة أيضاً نهدد ونخوف، وما سبب ذلك إلا إعراضنا وغفلتنا وإقبالنا على الدنيا وأباطيلها، ولو أننا رجعنا إلى الحق وقلنا: الله أكبر، لا إله إلا الله، ورضينا بالقليل من الطعام والشراب وأقبلنا على عبادة الله؛ فوالله لو كادنا أهل الأرض لما استطاعوا أن يزلزلوا أقدامنا، لكن هم ينفخون الذنوب والمعاصي بوسائل عجب، ونحن كالأبقار مددنا أعناقنا ونرحب بكل ما يأتينا حتى برانيط أولادنا، هذا مثال، وأمثلة الأغاني والمزامير والربا وغير ذلك لا تسأل عنها، كل هذا من يد الأعداء حتى يزول هذا النور وتنطفئ هذه الأنوار الإلهية، والله نسأل أن يبقيها إلى يوم القيامة، اللهم من كاد هذه الديار بكيد فعجل بهلاكه يا رب العالمين، واصرفه وكيده يا حي يا قيوم.
    ثم يقول تعالى لرسوله: ( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ )[الأنعام:66]، إذاً قل لهم: ( لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )[الأنعام:66]، أنا لا أملك هدايتكم ولا أقدر على أن أنزل العذاب بكم، هذا موكول إلى الله ليس لي أنا، ما علي إلا أنني أعلم من أراد أن يتعلم وأبلغ من لم يبلغه كلام ربه عز وجل.
    (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ )[الأنعام:67] والله ( تَعْلَمُونَ )[الأنعام:67] هذا.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    معاشر المستمعين! هيا مع هداية هذه الآيات، هل تعرفون ما هي الهدايات؟ كل آية تحمل نوراً، ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية كل آية تؤكد معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله وأن البعث الآخر حق، ذلك أن هذه الآية أنزلها وقالها الله تعالى. هل هناك من يقول: أمي أو أبي أو جدي أو فلان أو فلان؟ والله قوي قدير رحيم عليم موجود، أخبر عن نفسه أنه لا إله إلا هو، فكل آية تقول: لا إله إلا الله، وهذا الذي نزل عليه هذا الكلام كيف يكون غير الرسول؟ فهو -إذاً- رسول الله، كل آية تقرر (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، من أجل أن يعبد الله في الأرض وينزل أولياؤه في السماء بعد موتهم، فهذه العبادة لتزكية نفوسهم وتطهيرها حتى يصبح المرء منهم أهلاً لتفتح له أبواب السماء ولينزل بدار السلام.
    [ من هداية الآيات:
    أولاً: لا برهان أعظم على بطلان الشرك من أن المشركين يخلصون الدعاء لله تعالى في الشدة ].
    مرة ثانية: لا برهان ولا دليل ولا حجة أعظم على أن الشرك باطل من أن المشركين أنفسهم يخلصون الدعاء لله في الشدة، لو كان ينفعهم عيسى عليه السلام أو غيره فلماذا لا يفزعون إليهم في الشدة؟ عرفوا أنهم لا ينفعونهم، لو صرخوا أمام اللات ألف صرخة فوالله ما استجيب لهم.
    فلماذا -إذاً- في الشدة يفزعون إلى الله؟ معنى هذا أنه ليأسهم وعلمهم أنه لا يدفع الكرب ولا ينجي من الهم والغم إلا الله، فهذا أكبر برهان على التوحيد وبطلان الشرك.
    [ ثانياً: لا منجي من الشدائد ولا منقذ من الكروب إلا الله سبحانه وتعالى ]، وهذا لا يرده ذو عقل.
    [ ثالثاً: التحذير من الاختلاف المفضي إلى الانقسام والتكتل ]؛ لقوله تعالى: ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )[الأنعام:65]، فلا يصح أن يفترق المسلمون أبداً في بيت ولا في قرية ولا في مدينة ولا في إقليم، أمرهم واحد، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى الله وإلى رسوله، إلى الكتاب والسنة، ولا تبقى الفرقة أبداً.
    [ ربعاً: ( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ )[الأنعام:67] أجري مجرى المثل، وكذا ( وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:67] ] كالمثل.
    والله تعالى نسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونتعلم ونسمع، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #380
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,610

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة الانعام - (18)
    الحلقة (379)
    تفسير سورة المائدة (10)



    كان المشركون وخاصة كبراؤهم وصناديدهم يجتمعون حول البيت ويجلسون في ظل جدرانه ويأخذون في الطعن في آيات الله سبحانه وتعالى، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا كان هذا حالهم أن يعرض عنهم ولا يجالسهم إلا أن يخوضوا في حديث غيره، فمثل هؤلاء إنما غرتهم الحياة الدنيا، وظنوا أنهم مخلدون فيها فاتخذوا الدين لهواً ولعباً، فكان جزاؤهم أن يدخلهم الله النار وبئس القرار.

    تفسير قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره...)
    الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .
    وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية الميمونة المباركة، تلكم السورة التي نزلت في مكة وزفها سبعون ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، هذه السورة تدور كلها على تقرير المبادئ الثلاثة: التوحيد، نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، عقيدة البعث والجزاء في الدار الآخرة.
    والآن مع هذه الآيات الثلاث نسمع تلاوتها مرتلة مجودة ثم نشرع في تفسيرها إن شاء الله.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )[الأنعام:68-70].
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68]، من المتكلم بهذا الكلام؟ من المخاطب به: ( وَإِذَا رَأَيْتَ )[الأنعام:68] من هو هذا؟ هذا محمد صلى الله عليه وسلم.
    فهذه الآية تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أيعقل أن يوجد كلام حكيم راق سام بدون متكلم؟ مستحيل، إذاً: فالله موجود، وهذا كلامه وهو العليم الحكيم، والذي خوطب بهذا الكلام ونزل عليه أيعقل أن يكون غير نبي ورسول؟ مستحيل.
    وهكذا كل آية في كتاب الله -وهي ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية- كل آية تقرر مبدأ (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
    يقول جل ذكره لمصطفاه ولرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا )[الأنعام:68] إذ كان المشركون -وخاصة رؤساءهم- يجتمعون حول البيت ويجلسون في ظلال الجدران ويأخذون في الطعن في القرآن ومن أرسل به، يستهزئون ويسخرون بآيات الله.
    إذاً: حصل هذا وتم ووجد، فيقول الله تعالى لرسوله ولأتباعه وأصحابه ولكافة أمته: إذا رأيت من يتكلم بالباطل في كلام الله فيجب أن تقوم من مجلسه، وحرام أن تجلس إليه: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ )[الأنعام:68]، أعطهم ظهرك ولا تلتفت إليهم ولا تجلس إليهم.
    إذا اجتمع ثلاثة أو أربعة من العلمانيين من الملاحدة من البدعيين الضالين، وأخذوا يطعنون في كتاب الله وكلامه مستهزئين ساخرين؛ فلا يحل لك -يا ولي الله- أن تجلس معهم، فبمجرد أن يشرعوا في هذا الطعن والنقد قم وأعطهم ظهرك، وهذا أمر الله عز وجل لرسوله وأمته تابعة له فيه.
    (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ )[الأنعام:68]، والخوض كخوض الإنسان في الماء وتخبطه فيه، إذاً: فأعرض عنهم ولا تلتفت إليهم ولا تجلس معهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68]، إذا تكلموا في تجارة أو في مال أو في حرب أو في نحو ذلك فلا بأس، أما أن يتكلموا طاعنين ناقدين ساخرين من أولياء الله تعالى وكتابه ورسوله؛ فلا يحل لك يا مؤمن أن تبقى جالساً معهم.
    معنى قوله تعالى: (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين)
    ثم قال له: ( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ )[الأنعام:68]، ومما يدل دلالة واضحة على أن الأمة -ونحن من أفرادها- معنية بهذا الخطاب ذكر النسيان؛ فالشيطان قد لا يقوى على أن ينسي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ينسينا نحن، ومع هذا يقول أهل العلم: إن النبي ينسى، كما قال: ( إني أنسى كما تنسون ) . والشيطان لا سلطان له على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو معصوم بعصمة الله، لا يوقعه في مخالفة أو معصية، ولكن من الجائز أن يصرف قلبه إلى شيء آخر يتكلم فيه أو يفكر فيه فينسى نفسه أنه بين أناس يطعنون في الإسلام أو ينتقدونه.
    (وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ )[الأنعام:68] إن حصل هذا. وـ(إما) أصلها (إن) و(ما) زيدت لتقوية الكلام، إما ينسينك الشيطان ثم ذكرت فقم ولا تجلس.
    فهذا التعليم وهذا التوجيه، أنه كلما خاضوا في كلام الله بالسب والنقد يجب أن تعرض وتقوم، وإن نسيت فجلست ثم ذكرت نهي الله لك فقم على الفور: ( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى )[الأنعام:68] بعد أن تذكر ( مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:68].
    وهذا قد يقع للمؤمنين نساءً ورجالاً، فالمؤمن قد يعلم أنه لا يحل أن يجلس مع قوم يطعنون ويتكلمون، ولكن ينسى، لكن بمجرد أن يذكر أنه لا يحل له البقاء هنا ولا الجلوس في هذا المجلس يجب أن ينهض ويقوم.
    مرة ثانية: ( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ 9[الأنعام:68] ينسيه ماذا؟ النهي عن الجلوس مع المجرمين والمبطلين والطاعنين في الإسلام والفاسدين، قد يحصل هذا بنسيان، أو هو لأمته كما قدمنا، أي: لنا نحن، ( فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:68] لأنهم مشركون كافرون، وكل من يطعن في كتاب الله وفي شريعة الله فهو كافر ومشرك، هذه الآية الأولى.
    فهل عرفتم -معاشر المؤمنين والمؤمنات- أنه يجب علينا أن لا نجلس مجلساً يطعن فيه في الإسلام وتنتقد فيه شرائعه وينتقد فيه أولياؤه ودعاته وهداته، هذا المجلس لا يجوز أن نجلسه أبداً، وإن نسينا فما إن نذكر أن هذا لا يجوز حتى نقوم، خذ نعلك واخرج ولا تبق جالساً، هذا توجيه الله أم لا؟
    تفسير قوله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ...)
    الآية الثانية: يقول تعالى: ( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:69]. (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ )[الأنعام:69] من هم؟ رسول الله والمؤمنون، هؤلاء الذين يتقون ليس عليهم من حساب هؤلاء الملاحدة أو العلمانيين أو الضلال من شيء، الله الذي يتولى ذلك، ولكن حين ننهض ونقوم ونأخذ نعالنا غير راضين بمجلسهم يكون ذلك ذكرى لهم لعلهم يفيقون ويرجعون إلى الحق.
    قال الشيخ مسعود تغمده الله برحمته: دعيت ليلة إلى بدعة، ولما بدأ المبتدعة يبتدعون ذكرت، فأخذت نعلي ووليت هارباً، فقالوا: يا مسعود ، يا شيخ! ما لك؟ قال: فأعرضت عنهم تطبيقاً لهذه الآية.
    فحين تقوم وأنت من أهل القرية أو البلد وأنت محترم فيهم وتتركهم؛ هذا قد يجعلهم يفكرون: لماذا يقوم؟ لماذا ما رضي بحديثنا؟ لابد أن يخطر هذا ببال واحد منهم، فيقول: لعلنا نحن على باطل، لعلنا لسنا على الحق. فيحمله ذلك على أن يسأل فيهتدي، وهذا تشريع الله الحكيم لا يخلو أبداً من فائدة.
    (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ )[الأنعام:69] وهم المؤمنون الذين جلسوا مع أهل الباطل واللهو، ما عليهم من حسابهم من شيء، ( وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:69] ذكرى فقط لعلهم يتقون، لعل أولئك المعرضين المفسدين يتقون ويرجعون إلى الحق.
    تفسير قوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا ...)
    ثم قال تعالى: ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، يخاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول له: ( وَذَرِ )[الأنعام:70] أي: اترك، ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا )[الأنعام:70]، أصل اللعب: أي قول أو عمل لا ينتج لك حسنة لمعادك يوم القيامة ولا درهماً لمعاشك اليوم، ومثاله لعب الأطفال، يلعبون عند الباب ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً، ثم هل يعودون بحسنة؟ لا، يعودون بريال؟ لا. فكل قول وكل تفكير وكل عمل لا ينتج لصاحبه حسنة ليوم القيامة أو درهماً لمعاشه الآن فهو لعب وباطل، ولا يفعله المؤمن، ومعنى هذا أن الله تعالى أغلق علينا باب اللعب، إي والله، نحن قوم نتهيأ لأن نخترق السماوات السبع وننزل في الفردوس، فلا ينبغي لنا أن نتجرد للهو واللعب ونصبح كغيرنا، ما هذا بشيء عظيم أبداً، نحن عقلاء وأئمة للبشر وهداة للناس، فكيف نلعب؟! كيف أقضي نصف ساعة أو ربع ساعة أو عشر دقائق ولا أجلب لنفسي حسنة ولا درهماً؟! أيجوز للعقلاء هذا؟ هذا للمجانين، هذا للكافرين؛ لأنهم أهل النار.
    أما المؤمنون الذين يرجون أن ينزلوا الفراديس العلى فليس هذا من صفتهم ولا شأنهم، وها هو تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( وَذَرِ )[الأنعام:70] اترك ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا )[الأنعام:70]، كالفساق والفجار منا والعلمانيين والملاحدة الذين يجتمعون فيسخرون من الدين، وهذا الدين هو دينهم، فالإسلام دين البشرية جمعاء أبيضها وأسودها.
    فالمشركون في مكة اتخذوا دينهم الإسلام لهواً ولعباً، وما هو دينهم؟ أما بعث الله رسوله لهم؟ أما أنزل الوحي عليهم من أجلهم؟ فكل من اتخذ الإسلام لهواً ولعباً يصدق عليه أنه اتخذ دينه لعباً ولهواً.
    اللهو المشروع في الإسلام
    وإن قلتم: ليس في الإسلام لعب، ليس فيه لهو، فقد وضع الشارع لذلك نقاطاً محددة، أنت تلاعب طفلك الصغير خمس دقائق أو ربع ساعة وأمه تطبخ الشاي أو الأزر وهو يبكي، تأخذه أنت وتجعل نفسك كأنك حمار يركب على ظهرك، كل هذا مأذون فيه: ( لاعب ابنك سبعاً )، وهذا وإن كان في الظاهر لعباً لكنك أحسنت به إلى أمه وإليه هو، فهي حسنة لك. وكذلك تلاعب فرسك، تروضه على السير والقفز؛ لأنك تعده للجهاد، هذه رياضة ظاهرها لعب، ولكنها تنتج أنك روضت فرسك، وكذلك رماحك، أو نبالك، أو رصاصك، الآن يجلسون الجيش تحت جبل ويأمرونهم بأن يضربوا، ويجعلون لهم أهدافاً معينة ليصيبوها، فهو في الظاهر لهو ولعب وفي الحقيقة مأذون فيه؛ لأجل أن يتعلموا كيف يصيبون أهداف العدو، وكذلك لهوك مع زوجتك تداعبها مأذون فيه.
    فالزوجة، والولد، والفرس، والرماية -سواء كانت بالبنادق أو بالمدافع- كل ذلك أذن الشارع صلى الله عليه وسلم باللهو فيه، لاعب ابنك، داعب امرأتك لتسليها وتخرج عنها همها، روض فرسك، مرن نفسك على رمي الأهداف بالرصاص أو بالصواريخ، وفيما عدا هذا لا وجود للهو واللعب عندنا، نحن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
    (وَذَرِ الَّذِينَ )[الأنعام:70]، اترك ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا )[الأنعام:70]، واللهو ما هو؟ اللهو: كل ما يلهيك ويشغلك عما يكسبك حسنة لمعادك أو درهماً لمعاشك.
    معنى قوله تعالى: (وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت)
    اترك هؤلاء ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، كيف تغرهم الحياة الدنيا؟ افتح عينيك وتأمل في العالم الإسلامي، تجد ثلاثة أرباع المسلمين مغرورين بالحياة الدنيا، منهم من لا يصلي، منهم من لا يحضر الصلاة في المساجد، منهم من يتعاطى الربا، منهم من يعمل كذا وكذا.. كل هذا اغترار بالحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون، غرتهم الحياة الدنيا.(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70] يا رسولنا! يا عبدنا! ذكر بالقرآن، ذكر بهذا الكلام الإلهي، ذكر به ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ )[الأنعام:70]، ومعنى: (تبسل): تؤخذ، ترتهن وتحبس ثم تدخل العذاب في جهنم، من قبل أن تبسل نفس، وإبسال النفس أن تؤخذ وترتهن وتحبس فترة ثم تساق إلى عذابها، تحبس في البرزخ وترتهن، ثم إذا بعثت يوم القيامة فإلى جهنم رأساً.
    (وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70] يا رسولنا، ذكر بهذا القرآن، بهذه الكلام، ذكر به مخافة أو كراهة ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:70]، تبسل نفس بما كسبت أو بما كسب لها؟
    بما كسبت. ما هذا الذي كسبته فأبسلت به؟ الذنوب والآثام، الشرك والمعاصي، فهل هذا كسبها أم لا؟ تقول الكلمة فينعكس رأساً دخانها أو نورها على نفسك، تمشي خطوة واحدة بحسب ما تريد فينعكس أثرها على نفسك، هذه محطة وضعها الله في الناس، ما من كلمة ولا حركة متعمدة يفعلها العاقل البالغ إلا وجد أثرها، إن كانت حسنة ينكس إشعاعها على قلبه، وإن كانت سيئة ينعكس دخانها على قلبه كذلك، وهذا معنى قوله تعالى: ( بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )[المطففين:14].
    قال صلى الله عليه وسلم: ( إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء فى قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها قلبه، فإن عاد رانت حتى يغلق بها قلبه، فذاك الذى ذكر الله عز وجل فى كتابه: ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )[المطففين:14] )، فلهذا كانت التوبة عندنا فريضة، ولا يحل تأخيرها، فبمجرد الوقوع في الزلة تقول: أستغفر الله وأتوب إليه؛ لأنه إذا تراكمت الذنوب تأتي ساعة تقول له: اتق الله فيضحك ويسخر منك.
    قال تعالى: ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70]، أي: بهذا القرآن، ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ )[الأنعام:70] ذكراً أو أنثى، عربياً أو عجمياً، ( بِمَا كَسَبَتْ )[الأنعام:70]، أي: بسبب كسبها حبست وارتهنت لتدخل جهنم وتخلد فيها.
    معنى قوله تعالى: (ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع )
    قال تعالى: ( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:70]، وهل هناك نفس لها ولي يتولى أمرها ويدخلها الجنة وينقذها من النار دون الله؟ والله لا وجود لذلك. وهل هناك نفس مظلمة عفنة منتنة تجد من يشفع لها ويخرجها من النار أو يدخلها الجنة؟ والله ما كان، اللهم إلا المؤمنون الصادقون الربانيون، يتفضل الله عليهم فيأذن لنبيه أو لأوليائه أن يشفعوا فيهم، إكراماً للشافع والمشفوع، والذي لم يرض الله له أن يدخل الجنة لا تقبل فيه شفاعة أحد، قال تعالى: ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى )[النجم:26]، أيضاً لمن يشاء، أولاً: يأذن الله لك يا عبد الله أن تشفع فيمن؟ في أمك؛ لأنها أهل لأن تدخل الجنة. فلا يشفع شافع إلا بإذن الله، ولا يشفع شافع في إنسان إلا إذا رضي الله عز وجل أن يدخل الجنة، والآية نص وصريحة لو كنا لا نقرأ القرآن على الموتى فحسب. اسمع: ( وَكَمْ )[النجم:26]، ملايين، ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى )[النجم:26] أيضاً عمن يشاء.
    وهنا يقول تعالى: ( وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ )[الأنعام:70]، أي: بسبب كسبها الشرك والكفر والذنوب والآثام والجرائم والموبقات.
    معنى قوله تعالى: (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها)
    (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا )[الأنعام:70]، لو أتت بمثل الأرض كلها ذهباً فوالله لا يقبل منها، ولو أتت بملايين البشر بدلها فوالله لا يقبل منها، ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ )[الأنعام:70]، من باب الفرض، جاءك الله بجبال التبت كلها ذهباً، فقلت: خذ يا رب هذه الجبال الذهبية واسمح لي أن أدخل الجنة؛ فوالله لا يقبل منك. ولو جاء بجيل أو أجيال وقال: بهؤلاء جميعاً أفدي نفسي هل يقبل منه؟ ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا )[الأنعام:70]، لا تفكر أن هناك من يقف بين يديه تعالى ويقول: أنا أشفع لفلان، أو يقول: أدفع كذا لفلان ليدخل الجنة، ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا 9[الأنعام:70]، (أُبْسِلُوا) بمعنى: ارتهنوا، فهم محبوسون بذنوبهم، إذاً: يدخلون النار ولا يخرجون منها.
    معنى قوله تعالى: (أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون)
    (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، وأي كسب؟ الأغاني، المزامير، الغيبة، النميمة، الفحش الباطل، الزنا، اللواط، الخيانة، الغش، الكذب، الكبر، العجب.. أمراض كسبوها، ما أفرغت عليهم، ما ألزموا بها وأكرهوا، كسبوها عن عقل ووعي، لو فعلوها وهم نائمون فإنهم لا يحاسبون، وإن فعلوها وهم ناسون فلا يحاسبون، وإن فعلوها وهم مكرهون بالحديد والنار فلا يحاسبون، ولكن فعلوها وهم مريدون ذلك، مختارون لأنفسهم.(أُوْلَئِكَ )[الأنعام:70] البعداء ( الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، لا بظلم نزل بهم وحصل بهم، بسبب كسبهم الكفر والظلم والشرك والذنوب والمعاصي.
    (لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ )[الأنعام:70]، هم الآن في دار البوار في النار، فهل شرابهم المسك؟ ما هناك كوكاكولا ولا عصير البرتقال ولا زمزم، ( لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ )[الأنعام:70]، لا يطاق من درجة الحرارة، حيث تتمزق أمعاؤهم.
    (لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ )[الأنعام:70]، موجع غاية الإيجاع، ولا نستطيع تقديره أبداً، وقد عرفتم أجسامهم طولها وعرضها، فضرس أحدهم كجبل أحد، ما بين كتفيه مائة وخمسة وثلاثون كيلو، من مكة إلى قديد.
    إذاً:فهل شرابهم الحميم، وطعامهم البقلاوة والحلاوة؟ لا، بل الزقوم، والضريع.
    هكذا يقول تعالى: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا )[الأنعام:70]، ما معنى: (أُبْسِلُوا)؟
    ارتهنوا وحبسوا لأجل أن يدخلوا النار، وما معنى: ( بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]؟
    أي: بكسبهم، كسبوا خيراً أو شراً كسفك الدماء، الكفر، الشرك.. قل ما شئت من الذنوب والآثام، إذا اسودت نفوسهم وأظلمت أرواحهم وتعفنت؛ فلا يصلحون لدار السلام، للقاعدة التي حفظها المؤمنون والمؤمنات: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، هذا حكم الله، بلغوه يا عباد الله، يا إماء الله.
    لقد صدر حكم الله على البشرية وعلى الجن أيضاً معهم بأن من زكى نفسه بالإيمان وصالح الأعمال فزكت وطابت وطهرت فقد أفلح، أي: فاز بالنجاة من النار وبدخول الجنة، ومن دساها وخبثها ولوثها وعفنها بأوضار الشرك والذنوب والمعاصي فقد خاب، أي: خسر نفسه وأهله، ومن يعقب على الله؟
    (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ )[الأنعام:70]، ثم قال تعالى في الختم الأخير: ( بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )[الأنعام:70]، أي: بسبب كفرهم، كانوا يكفرون بالله، ويكفرون بشرائع الله، ويكفرون حقوق الله، فكلمة الكفر: هي الجحود والتنكر لله، لرسوله، لشريعته، للقائه، لوعده، لوعيده.
    مجمل تفسير الآيات
    مرة ثانية أسمعكم الآيات: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68]، فهل ستفعلون هذا من الآن؟(وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:68]، غفلت أو نسيت فجلست وهم يطعنون في نبيك أو في أمته، ثم ذكرت؛ فخذ نعلك واخرج.
    (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:69]، ما نحن بمسئولين نحاسب على كفرهم وشركهم، ولكن حين نقوم ونتركهم نذكرهم علهم يذكرون فيتقون.
    (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، اتركهم في جرائم معاصيهم وباطلهم ولا تجلس إليه ولا تسمع منهم، ولا تخالطهم ولا تعاشرهم، ولا تنزل حتى في ديارهم.
    (وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70]، بماذا نذكر يا ربنا؟ بهذا القرآن، نحن نذكر به الموتى، أما الأحياء فلا، لا يجتمع أهل القرية في قريتهم، أو أهل الحي، أو أهل البيت ليقرءوا القرآن ويتدبروه، فكيف يذكرون به، نقرؤه على الموتى فقط، مات الشيخ الفلاني فنقرؤه ثلاث ليال أو سبع ليال، طلبة القرآن موجودون، سمعتم بهذا أم لا؟ من إندونيسيا إلى موريتانيا والعالم الإسلامي هكذا، عدة قرون لا يجتمع اثنان على دراسة كتاب الله وفهم مراد الله منه وما فيه.
    إذاً: ( وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، كسبوا بأنفسهم أم لا؟ ( لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )[الأنعام:70].
    كيفية تحصيل ولاية الله تعالى
    معاشر الأبناء والإخوان! دائماً نقرر تلك القاعدة تعليماً لغير العالمين وتذكيراً للناسين، وهذا حسبنا والله يهدي من يشاء، ونقول: ما من عاقل إلا وهو يرغب في ولاية الله تعالى؛ لأنك إذا لم تواله تعاديه، ومن يعادي الله هل يفلح؟فكلنا يريد أن يواليه الله ويصبح من أوليائه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فنقول: تريد أن توالي الله؟ وافقه تكن وليه، وافق ربك تصبح وليه، توافقه في ماذا؟ فيما يحب، وفيما يكره، أحبب ما يحب واكره ما يكره فأنت -والله- وليه، واعكس بحيث يحب وتكره، ويكره وتحب فإنك حينئذ عدوه، وهذا إيجاز عجيب للولاية.

    فالموافقة تكون في المحاب والمخالفة في المكاره، فهنا يجب على كل من يريد ولاية الله أن يعرف محاب الله محبوباً بعد محبوب، وأن يعرف مكاره الله مكروهاً بعد مكروه، وأن يرحل ولو إلى الصين أو إلى اليابان حتى يعرف محاب الله ومكارهه.
    أحد الصالحين قال: يا شيخ! نريد أن تكتب لنا رسالة تجمع محاب الله ومكارهه، فقلت له: لا بأس، أعمل إن شاء الله، وكتبنا الرسالة، وسنقدمها الليلة للمطبعة، هذه الرسالة اتخذنا لها بعد كل درس خمس دقائق أو عشر دقائق نقرأ منها صفحة واحدة، وقد اشتملت على خمسين محبوباً ومكروهاً، خمسة وعشرون من محاب الله، وخمسة وعشرون من مكاره الله، صفحة للمحبوب والصفحة المقابلة للمكروه، وقلنا لمن يقرأ: إذا قرأت الصفحة الأولى في المحبوب فلا تتجاوز إلى الأخرى حتى تعرف محاب الله، وتكره نفسك على أن تحب ما يحب ربك، فإذا فرغت من هذا فانتقل إلى الصفحة الثانية التي فيها المكروهات فاعرفها واكرها، وإذا ما أحبت ذلك نفسك فإنك تكره نفسك حتى تكره ما يكره ربك، وبذلك تخرج وقد أصبحت ولي الله، وهناك صك تأخذه أيضاً.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •