تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 18 من 45 الأولىالأولى ... 8910111213141516171819202122232425262728 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 341 إلى 360 من 898

الموضوع: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

  1. #341
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (28)
    الحلقة (340)
    تفسير سورة المائدة (34)




    ما يلزم المحرم من الميقات حال توجيه الرحلة إلى المدينة

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    معاشر المستمعين! بين يدي الدرس سئلت عن مجموعة من المؤمنين جاءوا محرمين بالحج أو بالعمرة، أحرموا من الميقات وهم على متن الطائرة ظانين أنهم يذهبون إلى مكة وإذا بالمسئولين عنهم حولوهم إلى المدينة؛ ليزوروا المسجد النبوي الشريف ويسلموا على رسول الله وصاحبيه، ثم بعد ذلك يعودون إلى مكة، فهل يبقون على إحرامهم أو يتحللون؟ الجواب: يجب أن يبقوا على إحرامهم، ويلبون ويهللون ويكبرون ويدعون، وهم في أشرف عبادة وأفضلها، ولو بقوا في المدينة خمسة أيام أو أسبوع، فهي نعمة كبيرة ساقها الله إليهم؛ لأنهم لله، تجردوا له وهم يلبون التلبية المطلوبة، هذا هو الواجب، ومن تحلل منهم جهلاً لعدم علم فليعد إلى إزاره وردائه وإلى تلبيته وعبادة ربه، ومن قال: أنا لا أعود إلى الإحرام وتحلل فيجب أن يذبح شاة في المدينة أو في مكة، ثم بعد ذلك يحرم إذا أراد الدخول إلى مكة.
    مرة أخرى أقول: مجموعة من إخواننا المؤمنين أحرموا ودخلوا جدة محرمين ظانين أنهم يذهبون إلى مكة ليطوفوا لعمرتهم أو لحجهم، فأمروا أن يذهبوا إلى المدينة، فمنهم من تحلل ومنهم من بقي على إحرامه، فما هو الجواب لهذه القضية؟
    أقول: المحرم يبقى على إحرامه وهو في خير وعافية، ويشغل وقته بذكر الله والتدبير والعبادة، إذ كان المؤمنون يحرمون من مدينة الرسول عشرة أيام وهم في الطريق يلبون.
    إذاً: فليبقوا على إحرامهم وهم في نعمة كبيرة، ومن جهل الوضع وتحلل وهو لا يدري فليعد إلى إحرامه ولا شيء عليه، ومن أصر على أن يبقى متحللاً وتحلل بالفعل وأصر على تحلله فإن عليه أن يذبح شاة في المدينة أو في مكة؛ لأنه كالمحصر، ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ )[البقرة:196]، أحصر رسول الله وألف وأربعمائة صحابي فذبحوا هديهم وعادوا إلى المدينة، خرجوا ملبين بالعمرة حتى وصلوا قبل عشرين كيلو متر من مكة، فمنعتهم قريش، فماذا يصنعون؟ ذبحوا وتحللوا ونزل في هذا قرآن يقرأ إلى يوم القيامة: ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ )[البقرة:196] عليكم يا من أتيتم محرمين تريدون مكة ثم منعتم منها بواسطة القائمين عليكم ومسئوليكم وقالوا: اذهبوا إلى المدينة أولاً. فمن بقي على إحرامه فهنيئاً له، فليبق على إحرامه حتى يزور ويعود إلى مكة، ومن تحلل بدون علم جهلاً ظن أنه يجوز فعليه أن يعود إلى إحرامه، ومن أصر على ألا يعود إلى إحرامه فليذبح شاة غداً في المدينة أو بعده في مكة وجوباً، مقابل أنه أحصر وتحلل فيجب أن يذبح شاة.

    تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ...)

    ها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )[المائدة:73-76].

    قوله تعالى: ( لَقَدْ كَفَرَ )[المائدة:73]، كفروا بالله ولقائه ورسله وكتبه، كفراً لم يبق لهم معه حظ في الإسلام، من هم الذين كفروا؟ ( الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73]، اليعقوبية قالوا: إن الناسوت حل في اللاهوت، بدعة شيطانية إبليسية يسخر منها كل ذو عقل، ما معنى أنه حل الناسوت في اللاهوت وأصبح الإله واحداً، فعيسى هو الإله؟! أعوذ بالله، كيف يصبح عيسى ابن مريم هو الله؟! أي عقل هذا، أي فهم، أي ذوق؟!

    وفرق أخرى قالت: ( إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73]، الأقانيم ثلاثة: الأب والابن وروح القدس، الله وعيسى وجبريل! وهذه سخرية واستهزاء وعبث، كيف يقبل ذو العقل هذا الكلام: ( اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73]، الآلهة ثلاثة والله واحد!

    ما هو الإله يا غافل؟ الإله: المعبود، ولا يستحق عبادتي كائن إلا من خلقني ووهب حياتي وبيده مصيري وهو مالكي ومالك كل أمر عندي، ذاك الذي هو إلهي أعبده، أما الذي ما خلقني ولا رزقني ولا دبر حياتي فكيف يكون إلهاً لي؟! أمجنون أنا؟! لم لا يفكرون؟
    إعلان كفر القائلين بالتثليث وإبطال فريتهم

    فأعلن تعالى عن كفرهم، فقال عز وجل في كتابه المنزل على رسوله: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73]، والحال أنه: لا إله إلا الله، ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ )[المائدة:73]، ألا وهو خالق السماوات والأرضين وما بينهما وما فيهما، هذا هو الذي يستحق الإلهية، هذا الذي هو الإله الحق، أما الآلهة الكاذبة المكذوبة المزعومة فهي هراء وأباطيل لا قيمة لها ولا وزن، لو سئلت يا عبد الله: من خلقك؟ فهل تقول: عيسى؟ هل تقول: مريم، هل تقول: سيدي عبد القادر ، من خلقك؟ الله. إذاً: هو الذي يجب أن تؤلهه، أي: تعبده بالذلة له والحب والتعظيم والرهبة والرغبة، فكيف يكون عيسى إلهاً وهو ابن مريم ؟ كيف تكون مريم إلهاً وهي ابنت عمران وأمها حنة ، كيف تكون إلهاً؟ إن الإله الذي يملك كل شيء، وهذا هو الله رب العالمين، رب السماوات والأرض وما بينهما وإليه مصير كل شيء.فهذه الفرق النصرانية غلبت عليها الشياطين والأهواء والشهوات والأطماع والتقاليد العمياء حتى ( قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73]، فأبطل الله زعمهم هذا وحكم بكفرهم: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73].
    ثم قال تعالى: ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ )[المائدة:73]، ألا وهو الله رب العالمين خالق عيسى والأنبياء والمرسلين ورب كل شيء ومالك كل شيء.


    معنى قوله تعالى: (وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم)

    ثم قال: ( وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ )[المائدة:73]، إن لم ينتهوا عن هذا الباطل والخرافة والكذب ودعوى أن الله ثالث ثلاثة ( لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:73]، ما قال: ليمسنهم عذاب أليم. بل بين علة هذا العذاب وهي الكفر والعياذ بالله، فالذي ينسب إلى الله الولد كافر، والذي ينسب إلى الله الزوجة كافر، والذي ينسب إلى الله العجز كافر، ومن كفر فمصيره عالم الشقاء جهنم دار البوار.وما هو سر هذا الحكم يا أهل القرآن؟ لأن الذي كفر بالله نفسه خبيثة، روحه منتنة عفنة كأرواح الشياطين والكافرين، وهل صاحب الروح الخبيثة يدخل دار السلام؟ والله ما يدخلها، لقد صدر حكم الله على البشرية، بل على عالم الإنس والجن، وهو قوله: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، فمن زكى نفسه بمعنى: طيبها وطهرها بأداة الإيمان وصالح الأعمال؛ فقد أفلح وفاز بدخول الجنة والنجاة من دار الشقاء النار، ومن دسىى نفسه وأخبثها وعفنها بالشرك والكفر والذنوب والآثام فمصيره الخسران التام، فلم لا يسألون حتى يعملوا؟ لم لا يقول المسيحي: يا مسلم! بلغني أننا كفار، فما الدليل على كفرنا؟ يقول: لأنكم كذبتم على الله، وادعيتم أن الله ليس بواحد بل ثلاثة، أو أدعيتم أن عيسى هو الله وهذا هو كفر منتن عفن، الله الذي يقول للشيء: كن فيكون، الذي كون هذه الكائنات وأوجدها وهو يدبرها طول حياتها، أهذا يكون له ولد؟ وكيف يكون له ولد ولا زوجة له؟ والذي يخلق ما يشاء بكلمة: كن هل يحتاج إلى ولد يساعده أو زوجة يستأنس بها؟ كيف هذا الفهم؟! حرام هذا الكلام، عيب هذا الكلام أن يقال في حق الله عز وجل، ولكن كتب الله دار الشقاء والسعادة، وعلم أهلهما قبل أن يخلقهما.
    ملخص لما جاء في تفسير الآية

    هذه الآية الأولى: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73]، والواقع ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ )[المائدة:73]، الجواب: ( لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:73]، هذا العذاب الموجع الأليم متى يكون؟ بعد الموت، بعد الانتقال من هذه الدار إلى الأخرى، أو من هذا العالم السفلي إلى العالم الذي هو أسفل. أعيد تلاوة الآية الآية، فيجب أن تفهموا يا عرب، كيف لا تفهمون كلام الله؟ لم أنزله، اسمع قوله تعالى: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73]، من حكم بكفرهم؟ الله. ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ )[المائدة:73] والله ( إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ )[المائدة:73]، والله! لا يوجد إله حق إلا الله؛ لأن الإله الحق هو الذي خلقني ووهبني سمعي، بصري، دقات قلبي، أوجد الكون من أجلي، خلقني وخلق كل شيء من أجلي، هذا الذي أؤلهه، هذا الذي أعبده، هذا الذي أعظمه، هذا الذي أكبره، أما مخلوق مثلي فكيف أجعله إلهاً؟!

    وقد هبط الناس وعبدوا الفروج، وعبدوا البهائم، وعبدوا الأشجار والأحجار، وألهوا الشهوات: ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ )[الفرقان:43]، ومد عنقه لشهوته يجري وراء شهوته، يجري وراءها كالكلب، يجري إلى الزنا، إلى اللواط، إلى الكذب، إلى الخيانة، إلى التعفن، كل ما زين له هواه يعبده، أعوذ بالله.

    (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ )[المائدة:73]، وعزة الله وجلاله ( لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:73]، أما من تاب فقد تاب الله عليه، من أصر على قول الكفر له عذاب أليم.
    تفسير قوله تعالى: (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم)

    هيا إلى الثانية، قال تعالى: ( أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ )[المائدة:74]، فيغفر لهم، ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:74]، فتح لهم باب التوبة على مصراعيه، يا من قضى الله بكفركم وحكم بعذابكم! ها هو ذا تعالى يفتح باب التوبة لكم ويدعوكم إلى أن تتوبوا فيغفر لكم، ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:74]، فالحمد لله، هذا فضل الله، والهمزة للاستفهام، مالهم ( أَفَلا يَتُوبُونَ )[المائدة:74]، أفلا يتأملون، أفلا يسألون، أفلا يعقلون، فيعرفون أنهم على كفر وباطل، فيتوبون إلى الله ويرجعون إليه فيوحدونه ويعبدونه وحده؛ فيغفر لهم، ومن صفات الله وشأنه: أنه الغفور لمن تاب، الرحيم به، هذا عطاء إلهي. (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ )[المائدة:74]، أولئك الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وقالوا: عيسى هو الله، ( أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ )[المائدة:74]، أي: يطلبون المغفرة لذنوبهم. والتوبة معناها: الرجوع إلى الحق، قلنا: الله ثالث ثلاثة، ولكن عرفنا الحق، فالآن نقول: لا إله إلا الله، تبنا، رجعنا إلى كلمة الحق، وهي: أنه لا معبود إلا الله، ثم نقول: اللهم اغفر لنا ذنوبنا السالفة التي ارتكبناها بكفرنا، اللهم اغفر لنا. فإن تابوا واستغفروا تاب الله عليهم وغفر لهم؛ لأن من صفاته: الغفور الرحيم.

    تفسير قوله تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة ...)

    وفي الثالثة ماذا يقول تعالى؟ اسمع هذا البيان: ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ )[المائدة:75]، ما هو بالله ولا بابن الله، ولا هو الله، ما هو إلا رسول من جملة الرسل، ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، من نوح، إلى إبراهيم، إلى فلان وفلان، ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، عيسى واحد منهم، إي والله. ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ )[المائدة:75] من جملة الرسل الذين هم ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، على عدة قوم طالوت، على عدة أهل بدر، سبحان الله! عدة أهل بدر ثلاثمائة وأربعة عشر، وعدة قوم طالوت الذين غزا بهم وانتصر على جالوت ثلاثمائة وأربعة عشر، وأربعون ألفاً انهزموا ورجعوا إلى الوراء، وثلاثمائة وبضعة عشر انتصروا، وكان النصر بسبب داود عليه السلام.إذاً: ( مَا الْمَسِيحُ )[المائدة:75]، ما عيسى ابن مريم ( إِلَّا رَسُولٌ )[المائدة:75]، ما هو بابن الله ولا هو الله ولا هو بإله مع الآلهة أبداً، هو عبد الله ورسوله: ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ )[المائدة:75]، مضت من قبله الرسل في ثلاثمائة واثني عشر، وهو كملها ورسول الله تممها، جاء بعده، ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )[المائدة:75] بإله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة مع الله، ما هو إلا رسول، وهذا شرف، عظيمة هذه المنزلة، رسول من جملة الرسل، ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ )[المائدة:75]، أي: مضت، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو خاتمهم، ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ )[المائدة:75]، ( وَأُمُّهُ )[المائدة:75] ما هو شأنها، ما صفتها، ما تعرفون عنها؟ هل هي كذابة، دجالة، فاجرة؟ لا. بل ( صِدِّيقَةٌ )[المائدة:75]، من شهد لها بهذه؟ الله جل جلاله، كثيرة الصدق لا تعرف الكذب أبداً بحال من الأحوال، وعندنا نحن صديقة هي عائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق، فهي والله صديقة، حبيبة رسول الله وزوجته، بنت أبي بكر .

    إذا: مريم صديقة، فكيف تجعلونها إلهاً مع الله وهي صديقة صادقة لا تعرف الكذب والافتراء والباطل بحال من الأحوال؟ قال تعالى: ( صِدِّيقَةٌ )[المائدة:75]، ما قال: نبية أو رسولة، ما هي بنبية ولا رسولة، ولكن صديقة، يكفيها هذا الفخر والشرف، الله أثبت لها هذا الوصف وشهد به لها، فمن يساوي مريم عليها السلام العذراء البتول.

    معنى قوله تعالى: (كانا يأكلان الطعام)

    إذاً: ( كَانَا )[المائدة:75]، أي: هي وولدها ( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ )[المائدة:75]، كان عيسى يأكل الطعام، يأكل البقلاوة والتمر والفاكهة، والصديقة التي قالوا فيها في الأقانيم الثلاثة: إنها إله كانت تأكل الطعام، إي: الخبز واللحم والفاكهة، كيف الذي يأكل الطعام يكون إلهاً؟ إذا انقطع عنه الطعام مات بالجوع، أهذا يقود الخلق ويدبر الكائنات فيعبد مع الله ويقال فيه: إله؟ أين يذهب بعقولكم؟ وفوق ذلك الذي يأكل الطعام يمتلئ بطنه فيخرأ أم لا؟ يفرز العفن والنتن أم لا؟ هذا الذي يذهب إلى المرحاض ويخرأ هل يصلح أن يكون إلهاً؟ أعوذ بالله.. أعوذ بالله! أين الذوق؟ أين الفهم؟ أين المنطق؟ أين العقول؟ الشياطين تسخر بالبشرية وتستهزئ بها، الذي لا يستطيع أن يعيش بدون طعام وشراب هل يكون إله الخلق ويدبر حياتهم؟ مستحيل هذا، فهذا الفهم وسخ ما هو بعقل هذا أبداً.فما المسيح ابن مريم بنبي ، ما المسيح ابن مريم بإله، ولا ثاني اثنين مع الله، ولا هو الله، وأمه كذلك صديقة.
    (كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ )[المائدة:75]، والذي يأكل الطعام يتغوط أم لا؟ والذي يفرز العفن يصلح أن نعظمه ونعبده ونسجد له ونرفع أيدينا نسأله ليعطينا؟ لو انحصر الطعام في بطنه لمات، فلا إله إلا الله! ما هذا البيان الإلهي! قولوا: آمنا بالله.. آمنا بالله.. آمنا بالله. هذا كتاب الله فيه العجب، رضي الله عن إخوان لنا من الجن قالوا: ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا )[الجن:1-2]، مجموعة من الجن مروا بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الصبح في بطن نخلة بين مكة والطائف، ما إن سمعوا حتى التفوا حوله، وسمعوا، وعادوا إلى أقوامهم: ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا )[الجن:1]، وقالوا: ( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأحقاف:31-32].

    أنتم الآن تذوقتم ما تذوق الجن أم لا؟ هذا الكلام أليس بعجب؟ أبطل التثليث وانتزعه من قلوب الناس، أنهاه، أنهى فكرة أن عيسى إله وأن مريم إله، بالعقل والمنطق: ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ )[المائدة:75] فقط، ما هو بالله ولا بابن الله ولا ثالث ثلاثة مع الله، ( وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ )[المائدة:75]، ما هي بأقنوم من الأقانيم المكذوبة، صديقة لا تعرف الكذب

    و( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ )[المائدة:75]، الذي يأكل الطعام يخرأ أم لا؟ والذي يفرز العفن هل يصلح أن يعبد؟ كيف يسأل أو يدعى؟ آمنا بالله.. آمنا بالله.. آمنا بالله.

    معنى قوله تعالى: (انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون)
    ثم ختم تعالى الآية بقوله: (
    انظُرْ )[المائدة:75] يا عبد الله، ( انظُرْ )[المائدة:75] يا رسولنا، ( كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ )[المائدة:75]، أي تبيين أعظم من هذا التبيين؟ ( انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ )[المائدة:75] الحاملة للحجج والحاملة للبراهين الساطعة على أنه لا إله إلا الله، وأن عيسى ليس بالله ولا بابن الله، ولا ثالث ثلاثة مع الله، انظر بعيني قلبك ( كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ )[المائدة:75] أيضاً ( أَنَّى يُؤْفَكُونَ )[المائدة:75]، كيف يصرفون عن الحق وهم يشاهدونه؟ أنت بين يديك طعام فتأكل وتقول: ما عندنا طعام. كيف هذا والطعام بين يديك وأنت تمضغ وتقول: لا. ما عندنا طعام؟ (ثُمَّ انظُرْ أَنَّى )[المائدة:75]، أي: كيف ( يُؤْفَكُونَ )[المائدة:75]، من يأفكهم؟ ومن يصرفهم؟ الشياطين والأهواء والشهوات والذين يريدون أن يكونوا رؤساء عليهم يسودونهم ويحكمونهم.



    تفسير قوله تعالى: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً ...)

    ثم قال تعالى في الآية الرابعة لرسوله وحبيبيه والمبلغ عنه: ( قُلْ )[المائدة:76] يا رسولنا، وجه إليهم هذا الخطاب: ( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا )[المائدة:76]، ( أَتَعْبُدُونَ )[المائدة:76]، أما تخجلون، أما تستحون، أما تفهمون؟ تعبدون من لا يملك ضراً ولا نفعاً! كيف يعبد من لا يملك لي ضراً ولا نفعاً؟ ومن يملك الضر والنفع؟ إنه الله.
    هذا سيد الخلق الحبيب صلى الله عليه وسلم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وقفت على قبره ألف سنة تقول: يا رسول الله! إني مريض، يا رسول الله! إني جائع، يا رسول الله! بلادنا استعمرت، يا رسول الله! امرأتي غضبى؛ فلن تسمع منه كلمة، ولا يجيبك في قضية، فكيف تعبده إذاً؟!
    أما فهمتم هذا التعجب: ( قُلْ )[المائدة:76] يا رسولنا ( أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا )[المائدة:76]، لا يدفع عنكم ضراً ولا يكسبكم نفعاً، اعبدوا الذي إذا رفعت كفيك إليه وقلت: يا رب سمعك وأجابك وقضى حاجتك إن كان في ذلك خير لك. ‏

    معنى قوله تعالى: (والله هو السميع العليم)

    (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )[المائدة:76]، (السَّمِيعُ) لأصوات كل من يناديه ويدعوه، (الْعَلِيمُ) بحال كل من يسأل ويطلب، يعرف ما يحتاج الآن وما يحتاج مستقبلاً. انظروا يا عباد الله لتفهموا أن الدعاء هو العبادة، من دعا غير الله كفر، من دعا غير الله أشرك، من دعا غير الله جهل الله، من دعا غير الله اعتدى على الله، من دعا غير الله خاب وخسر، وأصور لكم ذلك في رجل يرفع يديه إلى السماء يدعو الله، وأبين ذلك فأقول:
    إن هذا الرجل فقير محتاج، فما الدليل على فقره واحتياجه؟ الدليل: رفعه كفيه يستعطف ويسترحم، فهل هو فقير أم لا؟ محتاج أم لا؟
    ثانياً: الذي رفع كفيه إليه يعلم أنه يراه، لو لا يقينه بأن الله يراه ما رفع كفيه إليه وهو بعيد عنه، لكن علم أن الله يراه، ولهذا رفع كفيه إليه.
    ثالثاً: ها هو يدعو يقول: اللهم اغفر لنا.. اللهم ارحمنا، لولا علمه أن الله يسمع كلامه فهل سيسأله بلسانه؟ لولا يقينه أن الله يسمع كلماته التي ينطق بها ما كلمه ولا قال: أعطني ولا اغفر لي، لكنه موقن أن الله يسمعه، أليس كذلك؟
    رابعاً: لو كان الله ما هو فوق عرشه فوق سماواته لم يرفع يديه هكذا؟ موقن أن الله فوقه.
    فلهذا الدعاء هو العبادة، الدعاء مخها، من دعا غير الله حبط وتمزق وكفر وتلاشى، فلهذا أحذر الغافلين أن يسألوا غير الله شيئاً، لا نبياً ولا رسولاً ولا ولياً ولا حاضراً ولا غائباً، اللهم إلا ما أذن الله فيه لنا: أخي إلى جنبي وأنا ظمآن، فأقول: اسقني ماء، فلا بأس، هربت دابتي أو تعطلت سيارتي فقلت: يا عبد الله! تعال أعني عليها، لا بأس، أما أن تقف في الطريق وتقول: يا راعي الحمراء، يا مولى بغداد، وبينك وبينه ألف سنة وعشرة آلاف كيلو وتدعوه وتقول: يأتي ليساعدني؛ فأين يذهب بعقلك يا عبد الله؟ كيف يصح هذا؟!
    (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )[المائدة:74-76]، هو الذي ندعوه ونسأله؛ لأنه يسمع نداءنا ويعرف أحوالنا، ويقدر على إعطائنا أو منعنا؛ لأن بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير.

    ومع هذا ما زال إخوان لنا وأبناء يقولون: يا سيدي فلان، يا فلان يا فلان! وهذا صفوة الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وقفت غير عام ولا عشرة على الحجرة تناديه ما أجابك، ولو فرضنا أنه أجابك فلن يعطيك ريالاً ولا كأس ماء، فالذي تدعوه ويستجيب هو الله، لا إله إلا الله ولا رب سواه، فلا ندعو إلا الله عز وجل.
    هذا والله تعالى أسأل أن يغفر لي ولكم ولسائر المؤمنين والمؤمنات وأن يرحمنا أجمعين، وأن يتوب علينا أجمعين، وأن يحفظنا حتى نلقاه صالحين. اللهم آمين.
    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #342
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (29)
    الحلقة (341)
    تفسير سورة المائدة (35)




    وقفة مع إرسال السلام على الرسول مع زائر المدينة


    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن ما زلنا مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة.
    وبين يدي الدرس أعلم بعض الأبناء والإخوان الجاهلين بالسلام على الحبيب صلى الله عليه وسلم، إذ يقول أحدهم: لقد أوصاني فلان بأن أسلم له على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتيت المدينة النبوية، ويقول: لقد نسيت فما بلغت الأمانة ولا سلمت له على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الجهل وعدم العلم، من عدم المعرفة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يبلغ السلام بالواسطة أبداً، فنحن نصلي عليه وسلم بأي مكان من العالم العلوي أو الأرضي السفلي فيبلغه سلامنا مباشرة، فلا يحتاج إلى واسطة، ويدلك على هذا أننا ما صلينا في ليل أو نهار فريضة أو نافلة إلا قلنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ما نصلي ركعتين إلا ونحن جالسون بين يدي الله، ونبدأ بتحية الله: التحيات لله والصلوات والطيبات، أي: كلها لله، ثم نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ووالله إنه ليسمعها أكثر من سماعكم لي، وقبل أن يكشف الله الغطاء ويزيح الستار عن هذه المغيبات كان المسلمون يؤمنون بما أمرهم الرسول أن يقولوه، ولا يدرون كيف، أما نحن ففي بيوتنا نتكلم مع الناس في الشرق والغرب في السماء والأرض، هل هناك من ينكر أن شخصاً في نيويورك تسلم عليه وأنت في المدينة؟ هل تقول: مستحيل؟ ما هو بمستحيل.
    ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ارتبك بعض الأصحاب، فقال الآن نقول: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، لا نقول: السلام عليك أيها النبي، فأيام كان يصلي بنا وأمامنا نواجهه بالخطاب ونقول: السلام عليك أيها النبي، أما وقد مات صلى الله عليه وسلم وهو في الملكوت الأعلى فنقول: السلام على النبي. فقال أهل العلم كـأبي بكر وعمر وغيرهما: لقد أمرنا الرسول أن نقول هكذا فيجب أن نقول هكذا، لا عبرة بحياته وموته، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
    وقال صلى الله عليه وسلم: ( صلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني، وسلموا علي حيثما كنتم فإن سلامكم يبلغني )، آمن المسلمون قروناً عديدة وهم موقنون بأن السلام يصل والصلاة تبلغ، إلا أننا الآن بهذه الاكتشافات التي أزاح الله بها الستار وأصبحنا نحيي من بيننا وبينه آلاف الأميال، ويسمعنا ونسمعه بهذا الهاتف، والآن هل يبقى شك في قلبك إذا قلت: السلام عليك أيها الرسول أنه يسمع؟ يبلغه، فلست في حاجة إلى أن تقول: يا عبد الله! سلم لي على الرسول إذا زرت المدينة، لا معنى لهذا الكلام أبداً، إلا أن الشيطان يريد أن يحرمكم من الأجر فلا تصلي ولا تسلم، وتقول: سلم لي على الرسول، بل صل وسلم عليه أنت في مكانك يبلغه، هل فهمتم معشر المستمعين هذه الحقيقة؟ ألستم تقولون: السلام عليك أيها النبي في كل صلاة؟ أنت بين يدي الله، والله نصب وجهه لك ويسمع كلامك وتصلي وتسلم على نبيه فيبلغه ذلك، فالحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.

    تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ...)

    وها نحن مع هذه الآيات المباركات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ )[المائدة:77]، هذه الآية عجب، يأمر الله رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم؛ لأن (قُلْ) فعل أمر أم لا؟ من الآمر؟ الله جل جلاله. من المأمور؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قُلْ) يا رسولنا، قل أيها المبلغ عنا، ( قُلْ )[المائدة:77]، ماذا؟ ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )[المائدة:77]، من هم أهل الكتاب؟ اليهود والنصارى.

    وتقدم في آخر سورة النساء: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ )[النساء:171]، فلا تكذبوا وتقولوا: عيسى ابن الله، ولا هو الله، ولا هو ثالث ثلاثة مع الله، هذا غلوا وافتراء وباطل، وهنا قال تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ )[المائدة:77]، أولاً: النصارى قالوا: عيسى ابن الله، وقالوا: هو الله، وقالوا: هو ثالث ثلاثة، وهذا التثليث، هذا كذب، والله إنه لكذب، والله إنه لباطل، والله إنه لمنكر، وهذا هو الغلو والعياذ بالله، عيسى عبد الله وتقول: هو الله؟! تقول: دخل الناسوت في اللاهوت؟! والشياطين تزين الباطل وتحسنه ويمد الناس أعناقهم ويقبلون كل ما يقال لهم ويسمعون، فأين العقول؟

    (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ )[المائدة:77]، والغلو: هو الزيادة، وضد الغلو الهبوط، ضد الزيادة النقصان، إذاً: الوسط الوسط، وقد قال تعالى في تكريمنا: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا )[البقرة:143]، أمة الإسلام أمة وسط، لا إفراط ولا تفريط، لا غلو وازدياد ولا نقصان، ولكن العدل العدل.

    إذاً: ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ )[المائدة:77]، النصارى قالوا: عيسى ابن الله. واليهود قالوا: عيسى ابن زنا، وليس ابن مريم ولا هو كلمة الله، فلاحظ الغلو في الذين قالوا: هو الله وابن الله، والنقصان والتفريط في الذين قالوا: ابن زنا وقالوا: ساحر، فاليهود يقولون: عيسى ساحر، أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بسحره، ليس هو برسول الله.

    (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا )[المائدة:77]، (أَهْوَاءَ): جمع هوى، والهوى -والعياذ بالله- هو ما تمليه النفس وتزينه الشياطين ويهوي به الإنسان إلى أن يصبح كالحيوان، ويسقط به ويهوي في جهنم، ( وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا )[المائدة:77]، من هم؟ غلاة اليهود والنصارى، ( وَأَضَلُّوا كَثِيرًا )[المائدة:77]، أضلوهم وأخرجوهم عن الحق؛ لأنهم يريدون أن يتبعوهم على هواهم وباطلهم، ( وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ )[المائدة:77]، وخرجوا عن الطريق المستقيم الموصل إلى رضا الله وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، هذا من رحمة الله، هذا من إحسان الله لعباده، يأمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن ينادي أهل الكتاب اليهود والنصارى بهذا العنوان، ويقول لهم: ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ )[المائدة:77].

    وجوب عبادة الله بما شرع من غير زيادة ولا نقصان

    وإذا كان اليهود والنصارى نهو عن الغلو فهل نحن مسموح لنا بذلك؟ نحن قبلهم مأمورون بالعدل والاستقامة، لا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا نقصان، ولكن ما جاءنا عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان عقيدة اعتقدناها، قولاً قلنا به، عملاً عملنا به، ولا نقدم ولا نؤخر ولا نزيد ولا ننقص، إذ الزيادة كالنقصان تبطل العمل وتفسده، ويصبح العمل لا يزكي النفس ولا يطهر الروح.إذاً: نؤمن بما آمن به رسول الله وأصحابه، ونقول ما قاله رسول الله وأصحابه، ونعمل ما عمل به رسول الله وأصحابه، ولا نزيد ولا ننقص لا غلو ولا إفراط ولا تفريط، نحن أولى بهذا، وإن كانت رحمة الله تجلت في بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا )[الأعراف:158]، أبيضكم كأصفركم، وأولكم كآخركم، أنا مبلغكم عن الله ما به تسعدون وتكملون، فآمنوا واتبعوا، أما الزيادة والنقصان في الدين فمن شأن هذه الزيادة والنقصان أن تبطل الدين وتعطل الدين، وتعطل مفعوله ولا يصبح منجحاً ولا منجياً ولا يفوز به أحد، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ).


    سنة الله تعالى في تحصيل الطهارة بالعبادات

    وإليكم سر هذا: إن الطعام يشبع والماء يروي الشارب، والنار تحرق الأجسام، والحديد يقطع، هذه سنن لا تتبدل، فهل سيأتي يوم يصبح الآكل لا يشبع، والشارب لا يرتوي، والنار تدخل وتتمرغ فيها فما تحرق، والحديد لا يقطع أي جسم؟ كلا، سنة الله لا تتبدل. فكذلك العبادات التي شرعها الله لعباده، هذه العبادات سر شرعيتها -والله- من أجل تزكية النفس وتطهيرها؛ لأن السعادة كالشقاء متوقفان على زكاة النفس وخبثها، إذا زكت النفس، بمعنى: طابت وطهرت كما تطهر الثياب والأجسام، هذه النفس إذا زكت وطابت وطهرت قبلها الله ورضي عنها ورفعها إليه؛ لتسعد في عالم السعادة فوق هذه السماوات السبع، في ذلك العالم الأعلى، وإذا خبثت النفس وأنتنت وتعفنت ما قبلها ولا رضي عنها وجعل مصيرها الدركات السفلى في العالم الأسفل، واقرءوا: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ )[التين:1]، الله يقسم: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ )[التين:1-5]، اللهم ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[التين:6]، الإيمان الصحيح والعمل الصالح من شأنهما تزكية النفس وتطهيرها، فمن آمن وعمل صالحاً زكى نفسه وطيبها وطهرها، فبمجرد أن يموت وتنفصل الروح عن البدن يعرج بها الملائكة إلى الملكوت الأعلى، لتبقى هناك فتسعد مع مواكب أربعة، قال تعالى في بيان هذا: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ )[النساء:69]، إنسياً كان أو جنياً، أبيض أو أسود، في الأولين أو الآخرين، ذكراً كان أو أنثى، فقيراً أو غنياً، ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ )[النساء:69]، طاعة الله وطاعة الرسول في أي شيء يا عباد الله ويا إماء الله؟ فيما يأمران به وينهيان عنه، هل هناك شيء غير هذا في الطاعة؟ الذي يأمر الله تعالى بفعله أو قوله أو اعتقاده طاعة الله والرسول فيه تزكي النفس البشرية وتطهرها، وما ينهى الله ورسوله عنه من اعتقاد فاسد أو قول سيئ أو عمل غير صالح، ما نهى الله عنه ورسوله ففعله معصية لله والرسول، هذا الفعل يخبث النفس ويدسيها ويعفنها، ما تصبح أهلاً لأن يقبلها الله عز وجل.

    وقد علمنا الله هذا في كتابه لو كنا ندرس القرآن الكريم، أما جاء في سورة الأعراف قول الله عز وجل: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا )[الأعراف:40]، ما لهم؟ أخبرنا يا رب عنهم؟ ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ )[الأعراف:40-41]، الذين كذبوا بآيات الله ما عملوا بها، لو آمنوا لعملوا، ولكن استكبروا عنها، والمستكبر هل يعبد الله؟ هل يغتسل من جنابة ويصوم ويصلي؟ لا. لأنه مستكبر، هؤلاء المكذبون المستكبرون ماذا يقول تعالى عنهم؟ ( لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ )[الأعراف:40]، حين يأخذ ملك الموت وأعوانه الروح ويستلونها من الجسم يعرجون بها، وحين يصلون إلى السماء الدنيا فيستأذنون للدخول بها فوالله لا يؤذن لهم: ( لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ )[الأعراف:40]، ثانياً: ( وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ )[الأعراف:40]، إلا على مستحيل، هذا من باب أن يفهم البشر كلام الله، هل تعرفون المستحيل؟ إنه الذي لا يمكن أن يتم بحال، المستحيل: هو الذي لا يقبل العقل وجوده.

    إذاً: حتى نعرف ببساطة نقول: هل البعير الأورق -الجمل الكبير- يدخل في عين إبرة؟ مستحيل. إذاً: فصاحب الروح الخبيثة المنتنة المتعفنة بأوضار الشرك والذنوب والمعاصي مستحيل أن تفتح له أبواب السماء أو يدخل الجنة.
    فاسمع قول الله تعالى: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ )[النساء:69] من عربي أو عجمي، أبيض أو أسود أو أصفر، من ذكر أو أنثى، ( فَأُوْلَئِكَ )[النساء:69]، أي: المطيعون، ( مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ )[النساء:69]، كم موكباً؟ أربعة مواكب، وكل من يطيع الله والرسول فهو معهم، ومن لم يطع الله والرسول فوالله ما كان ولن يكون معهم، لماذا يا فقهاء.. يا بصراء.. يا أهل لا إله إلا الله، لماذا؟

    الجواب: لأن طاعة الله وطاعة الرسول تزكي النفس وتطهرها، ومعصية الله والرسول تخبث النفس وتدسيها، أمر واضح وضوح الشمس في النهار، وقد أقسم الجبار قسماً عظيماً عرفناه وكررناه، وهو قوله: ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا )[الشمس:1]، هذه الصيغة صيغة يمين أم لا؟ كأنك تقول: والله الذي لا إله غيره. يقول تعالى: ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا )[الشمس:1-8]، هذه الأيمان من أجل ماذا؟ من أجل ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10].

    يحلف الله بأعظم الأيمان والأقسام على هذه الحقيقة، وهي: ( قَدْ أَفْلَحَ )[الشمس:9]، أي: فاز، نجا من النار ودخل الجنة عبد أو أمة زكى نفسه، وخاب وخسر خسراناً أبدياً عبد أو أمة أخبث نفسه ودساها، رمى فوقها قاذورات الذنوب والآثام.

    البرنيطة ورؤيا الشيخ رسول الله في المنام

    إذاً: معاشر المؤمنين والمؤمنات! الله يأمر رسوله أن ينادي أهل الكتاب؛ لأنه رسول الله إليهم، وإلى الإنس والجن عامة، يقول لهم: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ )[النساء:171]. فيا شيطان.. يا صاحب البرنيطة! اذهب عنا وانزعها من رأسك، أرأيتم كيف يصنع العدو بكم؟ أسألكم بالله: أيجوز هذا لأولادنا؟
    أقص عليكم رؤيا صادقة، منذ ثلاث وأربعين سنة لما أسقط عرش فاروق مصر، وحكم نجيب وعبد الناصر ؛ فماذا فعل الجهل فينا لما صرخ نجيب بالعروبة؟
    يوجد خياط في باب المجيدي يخيط بدلة صغيرة تسمى بدلة نجيب، والبدلة هي السروال والقميص والبرنيطة.
    وكنا قبلها في ديار المغرب، علماؤنا كعوامنا ما يضع برنيطة على رأسه إلا كافر فقط، وكانت الحكومة كافرة، ففرنسا كانت تحكم شمال إفريقيا، فالبوليس المسلم يعمل طربوشاً أحمر وهو بوليس، والبوليس الكافر يعمل برنيطة، حتى في الجيش الفرنسي المسلم يعمل طربوشاً والكافر يعمل برنيطة؛ إذ هي الحد الفاصل بين الكفر والإيمان، فلما جئت مهاجراً من هناك دخلنا المدينة في صفر أو في محرم، وجاء رمضان، فرجالات المدينة وأعيانها يأتون بأطفالهم يوم العيد لزيارة الحبيب صلى الله عليه وسلم، يأتي أحدهم وهو بعمامته وطفله كهذا الشيطان يلبس البرنيطة والبدلة، يسمونها بدلة نجيب.
    البرنيطة كما هي كأنها كابيتان فرنسي أو يطنان، وتألمت وتمزق قلبي: كيف هذا؟ يتحدون رسول الله، يأتون بأطفالهم هكذا يتبجحون؟ ما عرفوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال قاعدة لن تخرق أبداً: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، ليستقل المسلم استقلالاً كاملاً، حتى لا يختلط بأهل الكفر في الزي والمنطق والحال، ( من تشبه بقوم فهو منهم )، لو اجتمع علماء الطبيعة والكون والنفس والسياسة فبالله الذي لا إله غيره ما استطاعوا ولن يستطيعوا أن ينقضوا هذه القاعدة المحمدية: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، يعني: من أراد أن يكون مثل فلان في زيه، في منطقه، في أكله، في مشيته والله لا يبرح حتى يكون مثله، فمن القائل؟ أستاذ الحكمة ومعلمها، أما قال تعالى: ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[البقرة:129]، فكان المسلمون مستعمرين ويحافظون على إسلامهم بالزي، ما يلبس كما يلبس اليهودي أو النصراني؛ ليبقى مستقلاً بدينه.

    وتألم الشيخ وتحرق، ويومها كان شاباً، وبدأنا بالتدريس والحمد لله، رحم الله الملك سعود وتغمده برحمته، قدمنا له معروضاً فقال: باسم الله درس، وإذا بي في رؤيا منامية واحفظوها: رأيتني أمام باب السلام هذا الموجود، ولكن كان بين الباب وبيني حفرة واسعة وعميقة، وفي وسطها جنازتان، نعشان مسجان، وأنا واقف، وإذا بإحدى الجنازتين تجلس على النعش، ألا وهو أحمد الزهراني حبيبنا من شرطة المسجد، يجلس بعمامته الخضراء على رأسه، فقلت: سبحان الله! إذا كان الشرطي حياً فالرسول من باب أولى، ففهمت أن النعش الآخر للرسول صلى الله عليه وسلم، فجأة وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم واقفاً وتلك الحفرة قد انتهت، وأنا أقول: يا رسول الله! استغفر لي.. يا رسول الله! استغفر لي، والله إني لفي رعشة وعجب في ذلك الموقف، فنظر إلي بوجهه النوراني وقال: أرجو، فما تبينت هل هذا فعل مضارع أو فعل أمر؟ إذا كان أمراً يقول لي: ارج، أي: أنا أرجو أن يستغفر لي، وإذا كان الفعل مضارعاً فهو صلى الله عليه وسلم يقول: أنا أرجو أن نستغفر لك.
    وفجأة وإذا كرسي حجري طويل أبيض إلى جنب باب السلام والرسول صلى الله عليه وسلم جالس عليه كالبدر، وأنا واقف مندهش، وإذا بطفل من هؤلاء يقف بيني وبينه ببدلة نجيب وبرنيطة نجيب، فوالله الذي لا إله غيره لقال بيده هكذا: أبمثل هذا يبتغون العزة؟ والاستفهام للإنكار والتعجب، ومن ثم فالعرب في مهانة وذل، واليهود يذلونهم في كل معركة؛ لأن عبد الناصر ونجيباً فرضا على العرب أن يوحدوا جيوشهم بالبرنيطة، ومن ثم هل أعزنا الله؟ هل انتصرنا على اليهود؟ فكم من معركة نخرج منها مهزومين، وهذه عبرة أم لا؟ والحمد لله، فترك أهل المدينة تلك البرنيطة لأولادهم، ما إن سمعوا الرؤية وتكررت كذا يوماً أو شهراً حتى انتهت، وفجأة الآن وجدناها تظهر من جديد، من هم الشياطين؟ الذين يوردونها من التجار ويبيعون لأطفال المسلمين، هم لا يعدون هذا شيئاً أبداً، ولكن أهل البصيرة يعرفون أنهم يريدون أن ينزلوا بنا من علياء السماء إلى هذه الأرض الهابطة شيئاً فشيئاً حتى يصبح نساؤنا كنسائهم، ورجالنا كرجالهم، وحكامنا كحكامهم، وجيوشنا كجيوشهم، إذاً: ماذا بقي للإسلام؟ انتهينا، فزغردي يا إسرائيل فقد انتصرتِ. فهل تذوقتم هذا؟ هل حفظتم القاعدة المحمدية: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، أحب أم كره، يوماً فيوماً وهو يتشبه حتى يصبح على مستواهم العقلي والذوقي في الحياة كلها، فلا إله إلا الله، محمد رسول الله، متى نفيق من صحوتنا؟ متى نرجع إلى طريقنا؟ كبلونا، قيدونا، أبعدونا، هل تقوم لنا الحجة يوم القيامة على الله؟ إذا قلنا: يا رب! هم فعلوا بنا هذا؟ فهل سيقول: لا بأس فأنتم ظُلِمتم، أنتم مقهورون، ادخلوا الجنة؟ والله ما كان، الذي يعذر هو المضطهد المعذب بالحديد والنار على أن يقول كلمة الكفر، أو على أن يسلك سبيل الشياطين بالحديد والنار، هذا معذور، قال تعالى: ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ )[النحل:106]، أما نحن فنجري وراء الغرب، وراء شهواتهم ولذائذهم، ونتفنن بفنونهم في الملبس والمأكل والمشرب والمنكح والمنطق والذوق والعمل ثم نقول: نحن مقهورون! أيقبل هذا الكلام؟

    من قهرنا؟ من أذلنا؟ قلت لكم: فرنسا كانت حاكمة وبريطانيا، وما استطاعت أن تجبرنا على النصرانية أو على اليهودية حتى في الزي، فهيا نخرج من هذه المحنة، باسم الله، وقد يقال: لا نستطيع؟ لم؟ هل هناك أغلال في أرجلنا وأعناقنا؟ لا والله أبداً، بل حرية كاملة، اعبد الله في العالم بأسره، ما هناك من يطردك أو يبعدك عن عبادة الله، لا في أوروبا ولا أمريكا فضلاً عن عالم الإسلام والمسلمين، فقط سحرونا فاستجبنا.


    المخرج من أزمة المسلمين المعاصرة

    هيا نبحث عن المخرج، ولندع الجماعة الهائجة الذين يبحثون عن الحاكمية والخلافة، يحلمون، ولو جاء عمر بن الخطاب أيستطيع أن يفعل شيئاً؟ لا يستطيع، حتى يهذبنا ويربينا وحتى يرانا مؤمنين موقنين مستقيمين، ذكرنا لله، وقلوبنا مع الله، حينئذٍ إذا أمر يطاع، فالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، فهل أمر بأن تقام دولة الإسلام أو يقام حد في مكة؟ هل أذن لأصحابه أن يغتالوا كافراً؟ والله ما أذن. هل أذن لأصحابه أن يلعنوا ويسبوا الكفار والمشركين؟ ما أذن في هذا، واقرءوا سورة الأنعام: ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ )[الأنعام:108]، في مكة ما أذن الله ولا رسوله لمؤمن من أولئك المؤمنين وهم يعذبون ويضطهدون أن يغتالوا أو يقتلوا أو يسبوا أو يشتموا ثلاث عشرة سنة، ولما نزل المدينة النبوية هل أمرهم أن يغتالوا واحداً أو يقتلوا مشركاً أو كافراً أو منافقاً؟ حتى وجدت الأمة وأصبحت قادرة على أن تقاوم الكفر والكافرين، فنزل قول الله تعالى: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ )[الحج:39-40].إذاً: الذين يطالبون بالجهاد والخلافة والله إنهم لمخطئون، بالله الذي لا إله إلا الله غيره! إنهم لواهمون، والله! إنهم ليعيشون في متاهات، وقد ذقنا المرارة وآلام من هذه الصيحة في عدة بلاد حتى هبطنا.
    الطريق: هو أن نؤمن إيماناً حقاً، وأن نجتمع في بيوت ربنا، نبكي بين يدي مولانا، لا نسب ولا نشتم ولا نعير ولا نقبح ولا نكفر ولا نسخر ولا نستهزئ بكافر ولا بمؤمن، ولكن نجتمع في بيوت ربنا نستمطر رحماته نتعلم الكتاب والحكمة، نساءً ورجالاً وأطفالاً، فإذا أهل البلد أو الإقليم عرفوا الله عز وجل معرفة يقينية وأعطوه قلوبهم ووجوههم واستقاموا على منهجه الحق عقيدة وسلوكاً؛ فحينئذٍ طابوا وطهروا، والله لو رفعوا أكفهم وسألوا الله أن يزيل الجبال لأزالها، لو قالوا: الله أكبر ودخلوا فلسطين لشرد اليهود وهربوا ولو بغير سلاح، أما ونحن كل يوم نزداد هبوطاً، العقائد تذوب وتتحلل، الأخلاق تذوب، الأطماع تزداد، الشره والطمع والتكالب على الدنيا وشهواتها، فكيف نعالج، كيف نعود؟
    من أين نبدأ؟ نبدأ بما بدأ الله به ورسوله: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ )[النور:36-37]، من هنا نبدأ، أهل القرية يوسعون جامعهم حتى يتسع لأفرادهم نساءً ورجالاً وأطفالاً، أهل الحي في المدن، كل مدينة فيها أحياء، أهل الحي يوسعون جامعهم حتى يتسع لأفرادهم نساءً ورجالاً وأطفالاً، وإذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف دولاب العمل، وتطهر النساء والرجال وجاءوا إلى بيت ربهم يبكون بين يديه، يصلون المغرب هكذا كما صلينا، والنساء وراء ستارة والفحول أمامهن والمعلم يجلس لهم كمجلسنا هذا، والتعليم: قال الله وقال رسوله، لا مذهبية ولا طائفية ولا حزبية ولا وطنية، مسلمون أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، نور الله بين أيدهم وبرهانه فيهم، هذا رسول الله، وهذا كتاب الله، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُم ْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا )[النساء:174-175].

    سنة واحدة في القرية أو في الحي وأهله يجتمعون يتعلمون فما تبقى فوارق ولا نزعات أبداً، لا تقل: أنا مالكي ولا شافعي ولا حنبلي ولا إباضي ولا زيدي ولا إثني عشري، بل مسلم تدرس كتاب الله، قال الله جل جلاله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا )[آل عمران:102-103].

    ولا تسألني عن نتائج هذا الاجتماع على الكتاب والسنة، والله ما يبقى مظهر من الفقر المدقع ولا الظلم ولا العبث ولا الجهل ولا الشرك ولا الخرافة ولا الضلالة، وتصبح تلك القرية كأنهم أسرة واحدة يعيشون كأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما هناك من يفتح عينيه ظلماً أو يقول كلمة سوء أو يمد يديه اعتداء على إخوانه، والله ما كان ولن يكون، ثم ماذا يظهر؟ تتجلى حقائق الرحمة الإلهية في عباده، وفي يوم من الأيام نقول: الله أكبر فتسقط الدنيا أمامنا، وغير هذا الطريق والله لا طريق، وكل يوم نزداد هبوطاً، فهيا نرجع إلى الله يا عباد الله.
    أسألكم بالله: أي بلد إسلامي منع أهله أن يجتمعوا في بيت الله يدرسون كتاب الله وسنة رسوله؟ نعم وجد الآن في بعض البلاد، لكن بعد أن أوقدنا نار الفتنة وأججناها وأشعلناها فينا، لا بد أن نصلح أولاً، أن نعلن عن خطئنا وزلاتنا ونتوب إلى ربنا في صدق، ويومها يفتح الله أبواب السماء، أما هكذا فسنزداد كل يوم هبوطاً، وفساداً في العقائد، في الآداب، في الأخلاق، تسيطر الشهوات وأطماعها واللذات والملاهي، فلا إله إلا الله! من ينقذنا؟ ما يبقى إلا أن نقول: النجاة.. النجاة. يا عبد الله! اطلب النجاة لنفسك وإن هلك أهل القرية كلهم، يا عبد الله! اطلب النجاة لنفسك وإن هلك كل من في البلاد، اطلب النجاة لنفسك، قل: أنا مسلم فقط، واسأل كيف تعبد ربك وكيف تتملقه بطاعته وعبادته، على ضوء (قال الله قال رسوله)، وانتظر الموت لتنجو من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة، هذا هو الطريق، هذا سبيل الله، هذا سبيل النجاة، يا علماء! أين أنتم؟ اجمعوا أمتكم على كتاب الله وسنة رسوله، علموهم الآداب والأخلاق السامية، لا سب ولا شتم ولا تعيير ولا تكفير ولا نقد ولا طعن، ليس من شعارنا هذا أبداً، المسلم لا يقول كلمة السوء طول حياته، المسلم لا يمد يده بسوء أبداً لأي أحد كان إنسياً أو جنياً، لو قام العلماء بهذا ونهضوا، وقد قدمنا لهم رسالة بعنوان: (كتاب مفتوح إلى علماء الأمة وحكامها)، يا علماء! زوروا حكامكم وتفاهموا معهم، واجمعوا أمتكم في بيوت الله هذه الساعة والنصف، وباقي الساعات في المزارع والمصانع، اشتغلوا وأنتجوا، زكوا أنفسكم وطيبوا أرواحكم وتهيئوا للملكوت الأعلى دار السلام؛ فإن الله قد أصدر حكمه: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10].

    اللهم أعنا على تزكية أنفسنا وتطهير قلوبنا وتطهير أرواحنا، واجمعنا مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يا رب العالمين.
    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #343
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )




    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (30)
    الحلقة (342)
    تفسير سورة المائدة (36)


    قراءة في تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير


    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع هذه الآيات من سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، وشرعنا في دراستنا بالأمس، وها نحن نواصل ذلك اليوم إن شاء الله تعالى، وهيا نستمع إلى تلاوة الآيات المباركات وكلنا يتأمل ويتدبر ويحاول أن يفهم مراد الله من هذه الآيات الكريمة، ثم نأخذ -إن شاء الله- في شرحها كما هي في هذا الكتاب.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:77-81].

    معنى الآيات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ معنى الآيات:

    مازال السياق في الحديث عن أهل الكتاب يهوداً ونصارى، فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ )[المائدة:77] يا رسولنا: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )[المائدة:77]، والمراد بهم هنا النصارى: ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ )[المائدة:77]، أي: لا تتشددوا في غير ما هو حق شرعه الله تعالى لكم، فتبتدعوا البدع وتتغالوا في التمسك بها والدفاع عنها، التشدد محمود في الحق الذي أمر الله به اعتقاداً وقولاً وعملاً، لا في المحدثات الباطلة، ( وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ )[المائدة:77]، وهم اليهود؛ إذ قالوا في عيسى وأمه بأهوائهم، فقالوا في عيسى: ساحر، وقالوا في أمه: بغي. ( وَأَضَلُّوا كَثِيرًا )[المائدة:77] من الناس بأهوائهم المتولدة عن شهواتهم، ( وَضَلُّوا )[المائدة:77]، أي: وهم اليوم ضالون بعيدون عن جادة الحق والعدل في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم، هذا ما تضمنته الآية الأولى ]، وهي قوله تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ )[المائدة:77].

    [ أما الآيات بعد فقد أخبر تعالى في الآية الثانية بأن بني إسرائيل لعن منهم الذين كفروا على لسان كل من داود في الزبور، وعلى لسان عيسى ابن مريم في الإنجيل، وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن، فقال تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ )[المائدة:78]، فقد مسخ منهم طائفة قردة، ( وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ )[المائدة:78]، حيث مسخ منهم خنازير، كما لعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في غير آية من القرآن الكريم، وهذا اللعن هو إبعاد من كل خير ورحمة ومن موجبات ذلك في الدنيا والآخرة، سببه ما ذكر تعالى بقوله: ( ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)[المائدة:78]، أي: بسبب عصيانهم لله تعالى ورسله بترك الواجبات وفعل المحرمات، واعتدائهم في الدين بالغلو والابتداع، وبقتل الأنبياء والصالحين منهم.

    وأخبر تعالى في الآية الثالثة بذكر نوع عصيانهم واعتدائهم الذي لعنوا بسببه فقال: ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ )[المائدة:79]، أي: كانوا عندما استوجبوا اللعن يفعلون المنكر العظيم ولا ينهى بعضهم بعضاً،كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ) ] أي: يأكل معه ويشرب ويقعد [ ( فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوبهم بعضهم ببعض، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:78] إلى قوله: ( فَاسِقُونَ )[المائدة:81] ) ]، أي: تلا الآية كما هي: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:78-81].

    [ ( ثم قال صلى الله عليه وسلم: كلا والله ) ]، معاشر المستمعين والمستمعات! هذه لنا، فتأملوها، اسمعوا رسول الله يحلف، اسمعوا رسول الله يبين، قال: [ ( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقسرنه على الحق قسراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم ) ]، هذه لنا، اسمعوا رسول الله بعدما تلا هذه الآيات الثلاث، قال: ( كلا والله )، هكذا يحلف صلى الله عليه وسلم ( لتأمرن ) أيها المؤمنون المسلمون ( بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقسرنه على الحق قسراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم )، أي: كما لعن اليهود والنصارى؛ إذ ما هناك فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين، الكل عبيد الله، الكل عبيد الرحمن عز وجل، الكل يريد الله منهم أن يعبدوه؛ ليسلموا وينجوا وليسعدوا ويكملوا، فإذا لعن اليهود والنصارى لإتيانهم المنكر واستمرارهم عليه، وعدم رجوعهم عنه؛ فنحن إذا استمررنا على الباطل والمنكر والبدع والضلال ولم نتراجع فهل نسلم من لعنة الله؟ الجواب: لا والله، الكل عبيد الله عز وجل.
    ثم قال المؤلف غفر الله له ولكم: [ وفي آخر الآية قبح الله تعالى عملهم ] قبح عمل أهل الكتاب [ فقال: ( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )[المائدة:79]، ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( تَرَى )[المائدة:80] ] بعينيك [ ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ )[المائدة:80]، أي: من اليهود في المدينة، ( يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:80]، يعني: من المشركين أو المنافقين في مكة والمدينة، يصاحبونهم ويوادونهم وينصرونهم وهم يعلمون أنهم كفار تحرم موالاتهم في دينهم وكتابهم ]، اليهود بالمدينة يوالون المشركين، وهم يعلمون أن المشركين كفار ملعونون، يعرفون أن المنافقين نافقوا وأظهروا الإيمان وهم يكرهون الدين ورسول الإسلام والمسلمين، واليهود يوالونهم، فكيف يوالي المؤمن الكافر؟ لو كانوا صادقين في دعوهم الإيمان ما كانوا يوالون الكافرين والمنافقين.

    [ ثم قبح تعالى عملهم فقال: ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ )[المائدة:80]، نتيجة ما حملتهم عليه من الشر والكفر والفساد، وهو سخط الله تعالى عليهم وخلودهم في العذاب من موتهم إلى ما لا نهاية له ] في دار القيامة [ فقال تعالى: ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ )[المائدة:80]، لا يخرجون منه أبداً.

    ثم زاد تعالى تقرير كفرهم وباطلهم وشرهم وفسادهم فقال: ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )[المائدة:81] كما يجب الإيمان به ( وَالنَّبِيِّ )[المائدة:81] محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من الهدى ودين الحق ( وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ )[المائدة:81] من القرآن والآيات البينات ما اتخذوا الكفار والمشركين والمنافقين أولياء، ولكن علة ذلك أنهم فاسقون إلا قليلاً منهم ] أفراد قلائل فقط، [ والفاسق عن أمر الله الخارج عن طاعته لا يقف في الفساد عند حد أبداً. هذا معنى قوله تعالى: ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:81] ].

    هداية الآيات

    معاشر المستمعين! نضع أيدينا على هداية هذه الآيات، فتأملوا.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ هداية الآيات:

    من هداية الآيات:

    أولاً: حرمة الغلو والابتداع في الدين، واتباع أهل الأهواء ]، فمن أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا )[المائدة:77]، ومعنى هذا: أنه يحرم على المسلم أن يبتدع في دين الله، أو أن يغالي فيه، أو يتبع أصحاب الأهواء في دين الله، ومن هنا عرفنا ما حدث في هذه الأمة بعد القرون الذهبية الثلاثة، انتشرت البدع والضلالات والخرافات وتقسمت الأمة وتجزأت؛ بسبب اتباع الأهواء، وتقليد أرباب الأهواء واتباعهم والتعصب لهم، حتى أصبحنا في أسوأ الأحوال، سبب ذلك أننا ما أخذنا بوصايا الحبيب صلى الله عليه وسلم، أما قال: ( عليكم بستني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )، وقد بين لنا الطريق وقد أعلنها واضحة صريحة عندما قال: ( ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )، ستفترق هذه الأمة كما افترق اليهود إلى اثنتين وسبعين فرقة، وكما افترق النصارى إلى إحدى وسبعين فرقة، والله! لتفترقن هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، ووالله! لقد وقع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرق وطوائف ومذاهب، وكلها في النار، لم يا رسول الله في النار؟ لأنها ما عبدت الله بما شرع، فالعبادة التي شرعها الله تعالى هي التي تزكي النفس وتطهرها، أما ما ابتدعه المبتدعة فالعمل به لا يزكي النفس ولا يطيبها ولا يطهرها.

    فقام رجل من أصحابه في ذلك المجلس المقدس الطاهر وقال: من هي الفرقة الناجية يا رسول الله؟ وهذا السؤال يقع لكل المؤمن، فقال صلى الله عليه وسلم -واحفظوا واعملوا وطبقوا واطلبوا النجاة لأنفسكم- قال: ( هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، فيجب أن تكون عقيدتنا عقيدة رسول لله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا نختلف معهم أبداً فيها، يجب أن تكون عباداتنا كما كان رسول الله يعبد الله بها وأصحابه، لا زيادة ولا نقصان ولا تقديم ولا تأخير، يجب أن تكون آدابنا وأخلاقنا كما كان عليه رسول الله وأصحابه، هذا سبيل النجاة، هذا يتوقف على المعرفة، يجب أن نعرف كيف كان يعتقد رسول الله وأصحابه في الله وفي لقائه وفي الإيمان، وما أمر الله بالإيمان به، يجب أن نعرف كيف كان رسول الله يتوضأ ويغتسل ويصلي ويحج ويعتمر، ونفعل كما كان يفعل، يجب أن نعرف كيف كان الرسول يتعامل مع الناس، فنتعامل كما كان يتعامل مع الناس، في آدابنا، في أخلاقنا، في معاملاتنا، هذا -والله- طريق النجاة، العلم أولاً، كيف كان الرسول يعتقد في الله ولقائه والدار الآخرة والملائكة والأنبياء والرسل السابقين، نعتقد كما كان يعتقد، كيف كان الرسول يعبد الله من التيمم إلى الاغتسال، إلى الرباط، إلى الجهاد، إلى القضاء، إلى الحكم، فنقضي ونحكم ونعمل كما كان الرسول صلى الله وسلم يقضي ويعمل، وليس هذا بالمستحيل ولا بالصعب أبداً، كل ما في الأمر أن نهيئ أنفسنا لأن نعبد الله عبادة تزكي أنفسنا وتؤهلنا لرضا الله والسكن في دار السلام مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فلا عنصرية ولا مذهبية ولا طريقة ولا حزب، إنما نحن مسلمون عباد الله، نعبد الله بما شرع، والحمد لله فقد حفظ الله لنا هذا الدين، حفظه بحفظه الخاص، وإلا لكان منذ مائة سنة فقط قد اختلط وما أصبح فيه ما يعبد به الله، لكن الله تعالى قال: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )[الحجر:9]، فحفظ لنا كلامه آية بعد آية في ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية، وحفظ لنا سنة رسول الله وإن داخلها الزيادة والنقص والتبديل، ولكن هيأ الله لها في كل عصر من يصونها ويحفظها كما هي؛ لتقوم الحجة لله على الناس، وإلا لكان على الله أن يجدد الرسالة ويبعث برسول.

    معاشر المستمعين! في الآية الأولى: حرمة الغلو، والغلو: الزيادة، فلا تزد كلمة في دين الله، ما شأنك أن تزيد أنت وتنقص؟ لقد أنزل الله كتابه وبينه رسوله، الصلاة كما صلى الرسول، لو زدت سجدة في صلاة الصبح أو ركعة في صلاة المغرب بطلت صلاتك بالإجماع، ما هو شأنك أن تزيد، لو حاولت أن تنقص تكبيرة واحدة، فقلت: ما هناك حاجة إلى هذه التكبيرة في هذه الصلاة فصلاتك باطلة، ما معنى: باطلة؟ ما تزكي النفس، لماذا الآن نحن نسأل كيف نحج وكيف نعتمر؟ لعلمنا اليقيني أن هذه العبادة إذا لم نفعلها كما بينها الرسول فلن تؤثر على نفوسنا، أي: ما تزكي أرواحنا ولا تطيبها، وعلة العبادة تزكية النفس وتطهيرها، وطلبنا تزكية نفوسنا لعلمنا بحكم الله علينا، ألا وهو: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، فمن أراد الفلاح -وهو الفوز بالجنة بعد النجاة من النار- فليزك نفسه، أي: فليطيبها وليطهرها، وما هي مواد التطهير؟ الإيمان الصحيح كإيمان الرسول وأصحابه، والعمل الصالح الذي شرعه الله تعالى، وهو هذه العبادات من الصلاة إلى الصدقات وغيرها.

    [ ثانياً: العصيان والاعتداء ينتجان لصاحبهما الحرمان والخسران ]، العصيان، أي: عصيان الله ورسوله بعدم فعل ما يأمران به وعدم ترك ما ينهيان عنه، هذا هو العصيان، والاعتداء: هو الظلم وتجاوز الحد، هذان ينتجان لصاحبهما الحرمان من رضا الله وجواره والخسران بالخلود في النار.
    فمن أين عرفنا هذا؟ أما قال تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ )[المائدة:78]، بسبب ماذا؟ ( بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ )[المائدة:78]، عصوا رسل الله، عصوا الله ما عبدوه بما شرع لهم، ( وَكَانُوا يَعْتَدُونَ )[المائدة:78] بالظلم والطغيان والشر والفساد.

    [ ثالثاً: حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع ]، حرمة السكوت عن المنكر حين نراه ونسمعه ونسكت، ووخامة عاقبته على المجتمع بكامله، قال تعالى: ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )[المائدة:79]، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه: كان الرجل منهم يرى أخاه على معصية، فينهاه: اتق الله واترك هذه، ومن الغد يراه يفعلها ويكون مؤاكله ومجالسه وقاعداً معه، فمن ثم ضرب الله قلوب بعضهم بعض ولعنهم.

    وهذا بإجماع الأمة، فمن رأى منكراً يجب أن يغيره بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه: يا عبد الله! لا تفعل، فإن لم يستطع بلسانه حيث خاف أن يؤذى في نفسه أو ماله أو أهله فليغيره بقلبه، أما أن نسكت عن المنكر ونرضى به فسوف يعمنا العقاب.
    وضربنا لذلك مثلاً: قرية أو حي من الأحياء يخرجون القمامة ويرمونها عند الباب، هذا يرمي وهذا يرمي وليس هناك من يقول: لا تفعل، وليس هناك من يبعد هذه الأوساخ والقاذورات، يوماً بعد يوم وأسبوعاً بعد أسبوع تتحول تلك إلى بعوض وذباب وحشرات، ثم تتحول إلى أوبئة ويهلك أهل القرية كلهم، بسبب ماذا؟ لما رمى الرجل أو المرأة الوسخ عند الباب ما قال له أخوه: يا أخي! لا تفعل هذا، فهذا سبب مرضنا. لكن لما سكت وسكت الثاني والثالث وأصبحوا يرمون القمامة في الشوارع امتلأت الحارة أو الحي بالأوساخ والقاذورات وعمهم المرض، هذه هي الحقيقة، ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )[المائدة:79].

    إذاً: حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع، فالقرية دخلها رجل جاء بمعصية وأعلنها، فأهل القرية عليهم أن يقولوا: يا فلان! ما ينبغي هذا، لا تبع هذا الباطل في بلدنا، لا تفعل هذا. يقول ذلك الأول والثاني والثالث، فيستحي ويخرج أو يترك هذا، أما أن يشاهدوه ويسكتوا ويفعله الكبير والصغير والذكر والأنثى فإنه تعم الفتنة.
    [ رابعاً: حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد ]، الموالاة: هي المحبة والتعاون، حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد، فلا نحبهم ولا نمد أيدينا لعونهم ومعاونتهم، وبذلك نسلم، أما أن نوالي أهل الشر والكفر والفساد بحبنا لهم وتعاوننا معهم؛ فهذا -والله- هو الحالقة، هذا هو الدمار، دل هذا على قوله تعالى في الآية الكريمة: ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ )[المائدة:80].

    حرمة موالاة أهل الكفر، ولو كانوا آباءنا وأبناءنا ونساءنا وأولادنا، وحرمة موالاة أهل الشر والفساد بيننا، لا موالاة، أي: لا محبة ولا تعاون معهم، بل يجب هجرانهم وتركهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الحق.
    [ خامساً: موالاة أهل الكفر بالمودة والنصرة دون المؤمنين آية الكفر وعلامته في صاحبه ]، موالاة أهل الكفر بم تكون؟ بحبهم ونصرتهم على إخواننا المؤمنين، هذه هي آية الكفر، والله ما آمن، والله ما آمن، والله ما آمن من أحب الكافر ونصره على إخوانه المؤمنين؛ لأن الله قال في بيان المؤمنين والمؤمنات بحق وصدق: ( وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )[التوبة:71]، والمؤمنون بحق وصدق والمؤمنات بحق وصدق من هم؟ ( بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )[التوبة:71]، أي: يتحابون ويتعاونون ويتناصرون، فالذي لا يحب المؤمن -والله- ما هو بالمؤمن، والذي ينصر الكافر على المؤمن -والله- ما هو بمؤمن؛ إذاً لا بد من الموالاة بين المؤمنين والمؤمنات، وهي الحب من بعضهم لبعض، والنصرة من بعضهم لبعض، أما أننا نحب أعداء الله وننصرهم على أولياء الله فأعوذ بالله.. أعوذ بالله! هذا هو الكفر الذي ما بعده كفر، دل على هذا قوله تعالى: ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:81]، والفاسق: الخارج عن طاعة الله ورسوله، هو الذي يتحول إلى أن يحب أعداء الله ويكره أولياء الله، يتحول إلى أن يصبح ينصر الظلمة والمشركين والكافرين على المؤمنين والموحدين والمسلمين.

    هذا والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعلى سائر المؤمنين.


    عباد الله! آخر ما نقول: ينبغي أن نعرف كيف نعبد الله؛ إذ لا سبيل إلى النجاة إلا بمعرفة كيف نعبده، ثم نعبده بما شرع، وعبادة فيها ضلالة وفيها خرافة، وعقيدة فيها الزيغ والزيادة كل هذا خسران كامل، لا بد من أن نعبد الله بما شرع، وبذلك تطهر أنفسنا وتزكو أرواحنا وندخل دار السلام بقضاء الله وحكمه، إذ قال تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10].

    اللهم زك أنفسنا أنت خير من زكاها، وآتها تقواها أنت وليها وموالاها يا رب العالمين.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #344
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (31)
    الحلقة (343)
    تفسير سورة المائدة (37)


    تفسير قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن ما زلنا مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات من سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، وشرعنا في دراستنا بالأمس، وها نحن نواصل اليوم إن شاء الله تعالى، فهيا نستمع إلى تلاوة الآيات المباركات وكلنا يتأمل ويتدبر ويحاول أن يفهم مراد الله من هذه الآيات الكريمة، ثم نأخذ -إن شاء الله- في شرحها كما هي في هذا الكتاب.
    فهيا نتلوها ونتغنى بتلاوتها مرتين أو ثلاثاً وكلنا يتأمل ويتفكر ويتدبر، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، فإن كان عقيدة اعتقدناها، وإن كان واجباً نهضنا به، وإن كان محرماً تركناه وابتعدنا عنه، وإن كان أدباً تأدبنا به، وإن كان خلقاً تخلقنا به، وإن كان علماً علمناه من أجل أن نستنير به طول حياتنا، فحقق اللهم تعالى ذلك لنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:82-86].

    هيا نتأمل: من القائل: ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:82] ؟ الله عز وجل، هذه آيات كتابه القرآن الكريم، الذي أنزله على مصطفاه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: ( لَتَجِدَنَّ )[المائدة:82]، كأنما قال: وعزتنا ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:82]، من هم الذين آمنوا؟ والله! إنهم لنحن، ( لِلَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:82]، أي: بالله رباً وإلهاً، وبالقرآن كتاباً وبمحمد نبياً ورسولاً، الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر، هم المؤمنون.

    (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً )[المائدة:82]، والعداوة بغض في النفس يحمل صاحبه على أن يبتعد من المؤمنين، ولا يقربهم ولا يأمل لهم خيراً ولا يحب لهم خيراً.

    سبب عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين

    (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا )[المائدة:82]، عرفنا عن اليهود أن الصورة بينت حالهم وفضحت واقعهم، اليهود المعروفون، ( وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا )[المائدة:82]، هم المشركون الكافرون، ولو قيل لك: من يحب المؤمنين؟ فالجواب: والله! لا يحبهم إلا مؤمن، وكل الناس غيرهم عدو لهم، لكن من أشد عداوة لهم؟ اليهود والمشركون، اليهود لأنهم يحلمون بدولتهم أو مملكتهم التي تسود العالم، والذين يقفون حجر عثرة في طريق حلمهم وتحقيقه هم المؤمنون، فلهذا يبغضونهم ويعادونهم أشد العداوة؛ لأنهم في طريقهم ما يستطيعون أبداً أن يحققوا مملكة وجودهم والمؤمنون موجودون في الطريق.والذين أشركوا لأنهم كفرة، فجرة، لا يريدون ديناً ولا استقامة ولا منهجاً ولا عدلاً ولا حقاً ولا توحيداً، يعيشون على الضلال فيكرهون المؤمنين لهذا.
    (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا )[المائدة:82]، من أخبر بهذا؟ الله جل جلاله، هل يمكن أن يخبر الله بغير الواقع؟ تعالى الله عن ذلك، أليس هو العليم الحكيم؟

    إذاً: والله! لأشد الناس عداوة لكم أيها المؤمنون هم اليهود والمشركون، والله الذي لا إله غيره! لأشد الناس عداوة لكم أيها المؤمنون هم اليهود والكفار المشركون.

    معنى قوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ...)

    ثانياً: قال تعالى: ( وَلَتَجِدَنَّ )[المائدة:82] يا رسولنا ( أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً )[المائدة:82]ومحبة ( لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى )[المائدة:82]، أتباع عيسى ابن مريم عليه السلام، النصارى بحق الذين آمنوا بعيسى وألهوه، من حيث العطف والإحسان والرحمة ورقة القلب، ولكن استولت عليهم اليهودية وحولتهم من نصارى إلى بلاشفة، إلى علمانيين، إلى ملاحدة، لا يؤمنون بالله ولا بعيسى ولا بأمه، يقولون: لا إله والحياة مادة، من هنا ذهبت تلك الرحمة وزال منهم ذلك الإحسان وذلك العطف، وذلك الرفق بالناس حتى بالحيوانات؛ لأن القلوب هي التي كانت تعطف وترحم فقلبوها، حولوها إلى مادة. (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً )[المائدة:82] لنا نحن المؤمنين ( الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى )[المائدة:82]، واسمع التعليل الرباني، يقول عز وجل: ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا )[المائدة:82]، القسيسون: واحدهم قسيس، ويجمع على: قسس وقساوس وقسيسين، والقسيس: هو العالم العابد، العالم بتعاليم المسيح وكلها رحمة، والرهبان: جمع راهب، الذي يرهب الله، وإذا ذكر الله ارتعدت فرائسه وخاف من الله وانقطع إلى عبادته في الأديرة والصوامع، وكانوا قبل أن تلعب بهم اليهودية والماسونية، كان أحدهم ينقطع إلى عبادة الله يبكي على رأس جبل أو على دار أو صومعة، هذا إخبار الله أم لا؟ ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ )[المائدة:82] أيضاً، يتنافى الكبر والعتو والعلو مع من يرهب الله ويخافه ويعبده.
    تفسير قوله تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ...)
    ثم قال تعالى: ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ )[المائدة:83] محمد صلى الله عليه وسلم، ( تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ )[المائدة:83]، من أجل ما عرفوا ( مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:83]، من هم الشاهدون الذين سألوا الله أن يدون أسماءهم معهم؟ والله! إنهم لأنتم أيها المؤمنون، أما شهدتم أن لا إله إلا الله؟ أما شهدتم أن محمداً رسول الله؟ أما شهدتم أنه لا يعبد إلا الله؟ أما شهدتم أنه لا ظلم ولا فسق ولا فجور ولا كذب ولا خيانة؟ أنتم الشاهدون، سألوا الله أن يكتبهم مع الشاهدين.

    تفسير قوله تعالى: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ...)

    ويقولون: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ )[المائدة:84]، من هم القوم الصالحون؟ نحن الذين أدينا حقوق ربنا كاملة غير منقوصة وأدينا حقوق عباده، فلا نسلب مؤمناً حقه في هذه الحياة، يقولون: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ )[المائدة:84]، أي شيء يمنعنا من الإيمان بالله وما جاءنا من الحق بواسطة كتابه ورسوله، ( وَنَطْمَعُ )[المائدة:84] ونرجو ( أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ )[المائدة:84].

    ذكر من نزلت فيهم الآيات الكريمات
    من يعنون بالصالحين؟ والله! إنهم ليعنون المؤمنين المسلمين؛ لأن هذه الآيات نزلت في أصحمة النجاشي ملك الحبشة والجماعة التي آمنت معه، لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجموعة من مكة إلى الحبشة حينما لم يطيقوا التعذيب المسلط عليهم من أبي جهل وأضرابه من المشركين والكافرين، قال: اذهبوا إلى الحبشة فإنه يوجد فيها ملك صالح يقال له: أصحمة النجاشي ، وبالفعل مشوا فآواهم واحتضنهم وأطعمهم وسقاهم وأمنهم، ثم لما أشيع أن صلحاً تم بين محمد -صلى الله عليه وسلم- والمشركين جاءوا، فلم يجدوا شيئاً، فعادوا أيضاً، فلما عادوا وهاجر الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مع من هاجر من المؤمنين وكانت وقعت بدر وهزم الله المشركين هزيمة مرة، حيث قتل منهم سبعون صنديداً، وأسر منهم سبعون آخرون، فاجتمع رجال من قريش وقالوا: إذاً: نبعث برسولين من ديارنا إلى أصحمة ونطلب منه أن يعطينا أولئك المهاجرين فنقتلهم ونشفي صدورنا نقمة منهم ومن محمد صلى الله عليه وسلم، فبعثوا رجلين سياسيين: عمرو بن العاص وآخر، وأتوا بهدايا فقدموها للملك أصحمة على أن يعطيهم جعفر ابن عم رسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، فلما وصلوا أنزلهم وهو الكريم رحمه الله، وجمع رجاله وقال: يا جعفر ! اقرأ علينا شيئاً من القرآن، فقرأ سورة مريم، وإذا بعيون القوم تفيض بالدموع والبكاء ويؤمنون، وقص الله تعالى هذا الخبر: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:84-85]، ففيهم نزلت هذه الآيات، بكوا وفاضت أعينهم بالدموع.وعزم أصحمة على أن يأتي إلى رسول الله، وبعث بأولاده، وشاء الله أن تغرق بهم السفينة بالبحر، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بخبر السماء أن أصحمة قد مات، فخرج برجاله إلى هذا المكان وصلى عليه، صلى على النجاشي صلاة الغائب، فرحمة الله عليك أيها النجاشي، وفي السنة السابعة بعد غزوة خيبر جاء جعفر مع رجاله، وكانت فرحة الحبيب صلى الله عليه وسلم.

    شمول وصف الآيات لكثير من أفراد النصارى
    بهذا عرفنا فيمن نزلت هذه الآية، وهي أيضاً عامة، فكم من قسس ورهبان لما وصلتهم دعوة الرحمن على أيدي أصحاب رسول الله وأحفادهم بكوا ودخلوا في الإسلام وانتظموا في سلك المؤمنين، مئات الآلاف، وإلى الآن لولا السياسة المنتنة واللعبة اليهودية لما ترددوا في قبول دعوة الله لو عرضت عليهم كما هي، فاليهود هم الذين فعلوا ما فعلوا، وما زالوا يعملون على تحقيق أملهم في إيجاد مملكة بني إسرائيل التي تحكم الناس من الشرق إلى الغرب، ولكن عندنا تعاليم وأخبار نبوية صادقة، واسمعوها بالحرف الواحد: ( لتقاتلن اليهود ثم لتسلطن عليهم ) أي: تقتلونهم ( حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله )، ولا عجب أن تنطق الأشجار والأحجار؛ إذ هي آيات النبوة المحمدية، والزمان قريب، ولا نقول: مع المهدي ولا مع عيسى، والله! ما هي إلا أن نسلم في صدق لله قلوبنا ووجوهنا، في يوم واحد والزمان متقارب والبلاد واحدة، ما هي إلا أن يجتمع المسلمون في روضة محمد صلى الله عليه وسلم ويعلن عن وحدتهم وإقامة دين الله بينهم، ثم يزحفون، فيقتلون اليهود حتى ما يبقوا منهم أحداً إلا من هرب وشرد. واليهود يعرفون هذا أكثر مما يعرفه مدرسكم فضلاً عنكم، فلهذا يعملون على نشر الخبث والظلم والشر والفساد والسحر والباطل وحب الدنيا والشهوات والأطماع؛ حتى لا توجد الفئة المؤمنة التي ينطق لها الشجر والحجر كرامة لها، وليس هذا فقط في بلاد المسلمين، بل في العالم بأسره ما يريدون الطهر ولا الصفاء، ولعلكم تسمعون عن أندية اللواط في أوروبا، من أنشأها؟ والبنوك والربا من أنتجه وأخرجه إلى حيز الوجود؟ وقل ما شئت، لا يريدون الطهر ولا الصفاء؛ لأن الطهر والصفاء ينهي وجودهم، وخاصة بين المسلمين.
    فاسمع ما يقول أولئك النصارى: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ )[المائدة:84]، من هم القوم الصالحون؟ الذين أدوا حقوق الله كاملة فعبدوه بما شرع وحده لا شريك له، وأدوا حقوق عباده فلم يظلموا أحداً، لا بإفساد عقيدته ولا بطمس النور من قلبه بتكفيره ولا بسحره، ولا بظلمه بأخذ حقه أو انتهاك حرماته، هؤلاء هم الصالحون، ونحن إن شاء الله منهم، وفي آية الأنبياء قال تعالى: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ )[الأنبياء:105].

    تفسير قوله تعالى: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار ...)

    ثم قال تعالى: ( فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا )[المائدة:85]، أي: جزاهم بما قالوا ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:85]، عجب هذا الكلام! ( وَذَلِكَ )[المائدة:85]، أي: الجنة دار النعيم جزاء من؟ هل جزاء المسيئين المفسدين، أم المحسنين؟ جزاء المحسنين. من هم المحسنون؟ المحسنون -يا أهل الإحسان- هم الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، ففعلت فيهم تلك العبادة فعلها، أحالت نفوسهم وقلوبهم إلى نور وطهر وصفاء، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل وهو يسأله عن الإحسان: ( فأخبرني؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه )، فإن عجزت عن هذه المرتبة فانزل إلى التي تحتها فاعبده وأنت تعلم أن الله يراك، والذي يرزق هذه المراقبة لله ويصبح لا يقول ولا يفعل إلا تحت رقابة الله هل مثل هذا يسيء؟ والله ما يسيء، هذا الذي دائماً مع الله إن قال لا يقول حتى يعرف هل الله أذن له أو لم يأذن في القول، لا يأكل ولا يشرب ولا يعطي ولا يأخذ إلا تحت رقابة الله إن أذن الله في العطاء أعطى، وإن لم يؤذن له ما أعطى، إن أذن له في الكلام تكلم وإن لم يأذن سكت، هذا هو الإحسان وهو ثلث ملة الإسلام، الإسلام مركب من الإيمان والإسلام والإحسان، الدين الإسلامي مركب أو مكون من ثلاثة:

    أولاً: الإيمان.

    ثانياً: الإسلام، أي: إسلام القلب والوجه لله.

    ثالثاً: الإحسان.

    وقد قال جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم: ( أخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره )، يقيناً كاملاً جازماً، وقبل ذلك سأله عن الإسلام فقال: ( الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً )، وبعد ذلك سأله عن الإحسان فقال: ( أخبرني عن الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه )، الذي يعبد الله في الصلاة، في الوضوء، في الجهاد، في الكلام، في كل العبادات كأنه يرى الله هل يمكن أن يخطئ، أو يزيد وينقص أو يقدم أو يؤخر؟ الجواب: لا، فإن عجز عن هذه المرتبة السامية فهو يعبد الله وهو يعلم أن الله يراه، فكذلك لا يمكن أن يسيء في عبادته.
    عرف هذا إخواننا القسس والرهبان المؤمنون فقالوا: ( وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:84-85]، اللهم اجعلنا منهم.
    تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم)

    ثم قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:86] أولاً، ( وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )[المائدة:86] الحاوية لشرائعنا وهداياتنا وتعاليمنا فلم يعملوا بها، ( أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:86]، الجحيم: النار الملتهبة المتقدة، التي لا يقدر اتقادها، مأخوذة من: جحمت في النار إذا اشتعلت واشتد اشتعالها، ( أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:86] في العالم السفلي، نعوذ بالله من النار ومن الجحيم.الآن نسمعكم تلاوة الآيات فتأملوا: ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ([المائدة:82-86] عياذاً بالله.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير




    هداية الآيات

    هذه الآيات بعد شرحها كما شرحنا نقول: فيها هداياتها، فانظروا كيف نجد الهدايات.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ هداية الآيات:
    من هداية الآيات:
    أولاً: عظم عداوة اليهود والمشركين للإسلام والمسلمين ] إذ هم المؤمنون.
    [ ثانياً: قرب النصارى الصادقين في نصرانيتهم من المسلمين ]، أما الذين تحولوا إلى ماديين وبلاشفة وشيوعيون واستعماريين يريدون المال والسلطة؛ فهؤلاء انتهوا لا إحسان فيهم ولا رحمة في قلوبهم، كما هو الوقع.
    [ ثالثاً: فضيلة التواضع، وقبح الكبر ]، لقوله تعالى: ( وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ )[المائدة:82].

    [ رابعاً: فضل هذه الأمة وكرامتها على الأمم قبلها ]، لقولهم: ( فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:83]، ومن هم الشاهدون؟ إنهم المؤمنون الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويطيعون الله ورسوله.

    [ خامساً: فضل الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه ]، أما قال تعالى من آخر سورة الحديد: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ )[الحديد:28]، (كِفْلَيْنِ) أي: أجرين: أجر بإيمانهم بعيسى وموسى، وأجر بإيمانهم بمحمد وطاعته، ( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الحديد:28]، ففرق بين مسيحي كان يعبد الله بالمسيحية فآمن فله أجران، ومن كان كافراً مشركاً ودخل في الإسلام فله أجر واحد.

    [ خامساً: فضل الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه ]، بشرط أن يسلم قلبه ووجهه لله، ويحسن إسلامه فما يبقى لصاً ولا ماجناً.
    [ سادساً: بيان مصير الكافرين والمكذبين، وهو خلودهم في نار الجحيم ] أبداً، خلود في نار جهنم.
    [ سابعاً: استعمال القرآن أسلوب الترغيب والترهيب بذكره الوعيد بعد الوعد ]، ذكر الوعيد بعد ذلك الوعد العظيم، فقال: ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ([المائدة:86]، وهذا من أجل هداية الخلق، يرغب ويرهب، هذا الذي يريد الخير لك يرغبك في الخير ويخوفك من الشر، أما أن يرغبك في الخير فقط ولا يهددك بالشر فستبقى في شرك.

    تذكير بطريق العودة إلى الله تعالى
    معاشر المستمعين! يا أبناء الإسلام! أكرر القول: هيا نسلم قلوبنا ووجوهنا قبل أن تفوت الفرصة، وهي تفوت يوماً بعد يوم، ما من يوم إلا ومات فلان وانقطع عمله، هيا نسلم قلوبنا لله فلا تتقلب قلوبنا إلا في طلب الله، ونسلم وجوهنا لله فلا ننظر إلا إلى الله، وهذا يتطلب منا أن نرجع إلى الطريق، فنجتمع في بيوت ربنا في مدننا وقرانا في صدق كاجتماعنا هذا، من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، وبنسائنا وأطفالنا أيضاً نجتمع في صدق نتعلم الكتاب والحكمة، ولنستمع إلى قول الله وهو يمتن علينا: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2]، دقت الساعة السادسة فوقف العمل، توضأنا وتطهرنا، وحملنا نساءنا وأطفالنا إلى أين؟ هل إلى دور السينما، إلى المراقص والمقاصف كما يفعل الهابطون اللاصقون بالأرض؟ لا، وإنما نحملهم إلى بيوت الرب، وهل للرب من بيوت؟ إي والله إنها المساجد، ونوسعها حتى تتسع لأفرادنا ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً، نصلي المغرب كما صلينا ونجتمع ويكون نساؤنا وراء ستار، والأطفال كالملائكة صفوفاً ننظمهم قبل أن نأخذ في تعلم الكتاب والحكمة، ويجلس لنا عالم رباني لا يقول: قال الشيخ ولا قال إمامنا ولا قال مذهبنا، وإنما قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، يعلم الكتاب القرآن، والسنة، وقد حفظها الله فجمعت في الصحاح والسنن والمسانيد، وليلة آية من كتاب الله نتغنى بها ربع ساعة بنسائنا وأطفالنا ونحفظها، آية فقط، ونصلي بها النوافل فلا ننساها ونعرف مراد الله منها ماذا يريد من هذه الآية، فإن كان عقيدة عقدناها في قلوبنا فلن تحل إلى القبر، وإن كان واجباً عرفناه ومن ثم نعزم على فعله والنهوض به كيفما كانت حياتنا، وإذا كان محرماً مكروهاً لله مبغوضاً له تركناه وتخلينا عنه، إن كان خاتماً في أصبعي رميته كما رماه الصحابي، وإن كانت علبة سجائر دستها عند الباب، ونصدق في إقبالنا على ربنا عز وجل، والليلة الثانية نأخذ حديثاً من أحاديث رسول الله المبينة لكتاب الله، الشارحة والمفسرة لمراد الله من كلامه، وهكذا يوماً آية ويوم حديثاً، ونحن ننمو في صفاء أرواحنا وزكاة أنفسنا وآدابنا وأخلاقنا، والله الذي لا إله غيره! لن تمضي سنة على أهل الحي أو القرية إلا وهم ككوكب في هذه الدنيا، لم يبق خلاف ولا فرقة ولا نزاع ولا شقاق، لم يبق سوء في مظاهر حياتنا، لا خيانة، لا غش، لا كذب، لا خداع، لا زنا، لا فجور، لا ربا؛ لأنها سنة الله، فالطعام يشبع أو لا؟ النار تحرق أو لا؟ الحديد يقطع أو لا؟ فهل الكتاب والحكمة لا يزكيان النفوس؟ مستحيل، وينتهي الفقر والبؤس، ونصبح ككواكب في السماء، ويأتي الناس ويؤمنون بديننا ويدخلون في رحمة ربنا.هل هناك -يا شيخ- حل غير هذا؟ والله لا وجود له، ما هو إلا الكتاب والسنة، نتلقاها بصفاء الروح وصدق النية، وكلنا راغب في أن يسمو ويعلو في الملكوت الأعلى، فهيا نجرب، فالذين يحضرون هذا المجلس هل يوجد بينهم زان، سارق، كاذب، غاش، خادع، لوطي، سباب، شتام؟ لا يوجد، لأنهم تعلموا وعرفوا.

    والله تعالى أسأل أن يمدنا بعونه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #345
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (32)
    الحلقة (344)
    تفسير سورة المائدة (38)


    منهج رسول الله طريق الخلاص من المحن


    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة.
    معاشر المستمعين والمستمعات! نحن مع هذه الثلاث آيات:
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ * لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:87-89].

    معاشر المستمعين! أكثركم حجاج بيت الله الحرام، نحن على نهجنا في هذه الدعوة ندرس أربع ليالٍ كتاب الله عز وجل، وهي ليالي: السبت والأحد والإثنين والثلاثاء، وندرس يوم الأربعاء (عقيدة المؤمن)، ويوم الخميس ندرس السنة النبوية الطاهرة الشريفة من الجامع الصحيح للإمام البخاري ، وندرس السيرة النبوية العطرة يوم الجمعة ليلة السبت، وهذا الذي ندعو إليه إخواننا المؤمنين في ديارهم.
    يا معاشر المستمعين! اعلموا -والعلم ينفع- أنه لا سبيل لنجاتنا والخروج من فتننا وما نتعرض له من الإحن والمحن إلا العودة إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا المنهج الرباني الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتهجه ويدعو أمته إليه، وهو أن نجتمع في بيوت ربنا كل ليلة وطول عمرنا وحياتنا نتلقى الكتاب والحكمة، إن محننا قديماً وحديثاً ومستقبلاً هي ثمرة جهل هذه الأمة، وبعدها عن كتاب ربها وهدي نبيها صلى الله عليه وسلم، إن شئت حلفت لكم بالله على أن ما نشكوه من الكذب والخيانة والظلم والخبث والشر والفساد والفتن والله إنه لثمرة الجهل بالله وبمحابه ومساخطه، وبما هيأه لأوليائه وما أعده لأعدائه، الجهل هو سبب هذا الشقاء، سبب هذه الفتن وهذه المحن، والطريق إلى أن نعلم ونتعلم هو أن نجتمع في بيوت ربنا عز وجل، وذلك كل ليلة، لا يوماً في الأسبوع ولا يومين ولا ثلاثة، دقت الساعة السادسة مساءً فنلقي بآلات العمل من أيدينا ونتوضأ ونحمل نساءنا وأطفالنا إلى بيوت الله عز وجل نتعلم كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والله ما يمضي على المؤمن الصادق في إيمانه الذي يتعلم الكتاب والحكمة سنة واحدة إلا وهو من أفقه الناس وأعلمهم، وأعرفهم بمحاب الله ومساخطه وأقدرهم على فعل المحبوب لله وترك المكروه لله، وهذا هو سبيل النجاة، فها نحن في هذا المسجد طول العام، ومع الأسف الناس في المقاهي والملاهي، وفي المتاجر والملاعب، ويهجرون هذا العلم، ثم نشكو، فماذا نشكو؟ لم يوجد الظلم؟ لم يوجد الخبث؟ لم يوجد الفساد؟ لم يوجد سوء الأخلاق، لم يوجد الهبوط في الآداب؟ كيف نتأدب؟ كيف نكمل؟ كيف نسعد بدون أن نقرأ كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والله يمتن على هذه الأمة ويقول: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2].

    وهذا إبراهيم عليه السلام مع ولده إسماعيل عليه السلام وهما يبنيان الكعبة يقولان: ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ )[البقرة:129]، واستجاب الله لإبراهيم وإسماعيل، وبعث في ذرية إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم، ونبأه الله وأرسله وأنزل عليه كتابه، وكان يجمع أصحابه ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.

    فيخرج من هذا المسجد علماء لم تحلم الدنيا بمثلهم، ربانيون من أهل الصدق والكمال والعلم والمعرفة، والله! ما عرفت الدنيا أفضل من أولئك الأصحاب باستثناء الأنبياء والرسل، كيف كملوا وفازوا، وأصبحوا مضرب المثل في الآداب والأخلاق والعلم والمعرفة والطهر والصفاء، كيف حصلوا على هذا؟ والله! إنه من طريق تعلمهم الكتاب والحكمة.
    العلم سبيل تحقيق التقوى
    وأقول لكم في علم: أقسم لكم بالله على أن أتقى أهل القرية هو أعلمهم بالله عز وجل وبمحابه ومساخطه، في مدينتك، في حيك، أقسم لك بالله أن أتقاهم لله أعلمهم بالله، ونظير ذلك: أفجرنا في قريتنا أجهلنا بربنا وبمحابه ومساخطه، ولا نستطيع أن ننتسب إلى الإسلام بالاسم فقط ونحن ما نعرف محاب الله ولا مساخطه ولا كيف نتملق إلى الله ونتزلف إليه بما يحب أن نتملقه به من أنواع العبادات والطاعات التي شرعها، فكيف نعالج هذا المرض؟ لا علاج إلا بأن نصدق الله في إيماننا وإسلامنا ونجتمع في بيوت ربنا التي بنيناها بأيدينا أو بنيت لنا، نجتمع فيها، النساء وراءنا والفحول أمامنا والأطفال بين أيدينا، ونتعلم الكتاب والحكمة، ليلة آية من كتاب الله، ندرسها بعد أن نتغنى بها ونحفظها ونفهم مراد الله منها وكلنا عزم على تحقيق مراد الله منها، إن كان عقيدة اعتقدناها، وإن كان أدباً على الفور تأدبنا به، وإن كان خلقاً تخلقنا به، وإن كان واجباً نهضنا به، وإن كان محرماً ابتعدنا عنه وكرهناه وتركناه، ولا نزال نعلم ونعمل ونسمو حتى نصبح كالملائكة في الأرض طهراً وصفاء، وها نحن مع هذه الجماعة المؤمنة في هذه الحلقة، هيهات هيهات أن من لازمها سنة يسرق أو يزني أو يكذب أو يفجر أو يرابي أو يغش أو يخدع أو يخلف وعده وهو قادر على الوفاء، هيهات.. هيهات!
    ولكن الذين ما يجلسون في حجور الصالحين ويتعلمون هم الذين تعبث بقلوبهم الشياطين، وتحولهم إلى الكذب والخيانة والفجور والباطل والشر والفساد، فكيف يجيء هذا؟ لأننا ابتعدنا عن فيض الرحمن وأنواره وعن الكتاب والسنة.
    هذه ثلاث آيات لو يحفظها مؤمن أو مؤمنة ويفهم مراد الله منها ويعمل بها فسيسمو ويرتفع.

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ...)
    نداء المؤمنين لكمال حياتهم
    يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، يا أهل الحلقة! أجيبوا. قلنا: لبيك اللهم لبيك، ما إن ينادينا حتى نقول له: لبيك اللهم لبيك. ينادينا ربنا بعنوان الإيمان: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، ومن يعرض فقد كفر، من يغلق أذنيه ولا يسمع فقد كفر، أينادينا ذو الجلال والإكرام رب الأرض والسماء وما بينهما، الحي القيوم، خالقنا ورازقنا ثم لا نصغي ولا نستمع ولا نقول: لبيك، ولا نأخذ ما يعطينا ولا نفعل ما يأمرنا به؟ هل أموات نحن أم أحياء؟ الجواب: أهل الإيمان أحياء، الإيمان بمثابة الروح، والله إنه لبمثابة الروح، المؤمن حي يسمع، يعي، يأخذ إذا أعطي، يمتنع إذا منع؛ وذلك لكمال حياته، والكافر ميت، الكافر بالله ولقائه، بالله وكتابه، بالله ورسوله، بالله ووعده ووعيده، والله! إنه ميت، فلا يؤمر ولا ينهى؛ لأنه ميت، والبرهنة على هذه الحقيقة بلغوها: هل أهل الذمة تحت رايتنا في دولتنا الإسلامية نأمرهم بالصيام إذا دخل رمضان؟ هل نقول: يا يهود! صوموا غداً رمضان؟ لا والله. آن أوان الحج فهل نأمر يهودياً أو مسيحياً ليحج؟ لا نأمره. آن وقت الزكاة، فهل نقول: يا معشر اليهود أو النصارى في بلادنا! أخرجوا زكاة أموالكم؟ لا والله أبداً. لم؟ لأنهم أموات، إذا نفخنا فيهم روح الحياة فحييوا بالإيمان فحينئذ مرهم يفعلون، وانههم ينتهون؛ لكمال حياتهم.
    فهل عرفتم الآن أن الإيمان بمثابة الروح أم لا؟ ها هو ذا تعالى ينادي المؤمنين ليأمرهم ويفعلون، لينهاهم وينتهون، ليبشرهم فيستبشرون، ليحذرهم فيحذرون، ليعلمهم فيتعلمون؛ وذلك لكمال حياتهم، ويعيش المسلمون في قراهم عشرات السنين ما يسمعون نداء الله ولا يستجيبون، فكيف هذا؟ لأنهم محرومون، أبعدتهم الشياطين عن بيوت الله وعن كتاب الله وهدي رسوله، القرآن في ديار العالم الإسلامي لا يجتمع عليه أهل القرية أو أهل الحي إلا من أجل أن يقرءوه على ميت فقط.
    اسمحوا لي أقول لكم: من منكم يقول: يا شيخ! أنا كنت إذا جلست في المسجد أقول لحافظ القرآن: من فضلك تعال اقرأ علي شيئاً من القرآن. أو أجلس في البيت وأقول لمن يحفظ القرآن من الأسرة: من منكم يسمعنا شيئاً من القرآن ؟ أو نعمل في شركة، في مؤسسة، وجاءت ساعة الاستراحة، فمن منكم يقول: نقول لأخينا: أسمعنا شيئاً من كلام ربنا؟ الجواب: لا أحد.
    وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم المنزل عليه القرآن الوحي الإلهي بواسطة جبريل عليه السلام، والله العظيم! لجلس يوماً مع أصحابه فقال لـعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( يا ابن أم عبد -وهذه كنيته- اقرأ علي شيئاً من القرآن، فيعجب عبد الله بن مسعود ويقول: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأ عبد الله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )[النساء:1]، إلى أن انتهى إلى قوله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا )[النساء:41]، وإذا برسول الله تذرف عيناه الدموع وهو يقول: حسبك.. حسبك يا عبد الله ).

    فهل جلس اثنان وطلب أحدهما أن يقرأ عليه أخوه شيئاً من القرآن؟ فلهذا عمنا الظلام، وسادنا الجهل، وإن طرنا في السماء وغصنا في الماء، وحللنا ذرات الكون، وعرفنا علل الحياة، فهذا كله غير مجدٍ ولا محيٍ، وإنما الذي يجدي ويحيي الإيمان بالله ولقائه، الإيمان بالله ورسوله، الإيمان بالله وكتابه، وآية الإيمان بالله وكتابه: أن نقرأ كتابه ونتعرف على ما يحمله من أنور الإله الهادية إلى السعادة والكمال؛ لنعرف ما يحب الله وما يكره الله.
    نهي الله عباده عن تحريم الطيبات والعدوان على المحرمات

    يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87] يناديكم ليقول لكم: ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، فهل نستجيب أم لا؟ أعوذ بالله.. أعوذ بالله! الجبار القهار وليك ومولاك ينهاك أن تحرم طيباً مما أحل لك فلا تلتفت إليه ولا تقبل كلامه؟! (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87] أولاً، ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، ولا تتجاوزوا الحد المحدود لكم، أنتم عبيده، ما أحله لكم فأحلوه وتناولوه، وما حرمه عليكم فحرموه وابتعدوا عنه واجتنبوه، وإن اعتديتم فإنه لا يحبكم، ومن لا يحب الله هل سيسعد؟ هل سيكمل وينجو؟ والله ما كان، بل يخسر ويحترق ويتحطم؛ لأن الله لا يحب المعتدين، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87]، من هم المعتدون؟ المتجاوزون لما حد لهم، أحل لهم كذا وكذا، فتجاوزوا ذلك إلى ما حرم.
    تفسير قوله تعالى: (وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون)
    ثم قال لنا: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، لم يرزقك الله بالحرام أبداً، وكونه طيباً أي: غير مستقذر ولا مستخبث، حلال أحله الله، وليس به قذر أو وسخ يؤذيك ويضرك في بدنك.
    كيفية تحقيق التقوى
    (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88]، كيف نتقيه؟ بماذا؟ بالحصون والأسوار أو بالجيوش الجرارة أو بالدخول في السراديب؟ كيف نتقي الله وبيده كل شيء، وبين يديه كل شيء؟ كيف نتقي الله يا عباد الله؟ لقد أمركم أيها المؤمنون بأن تتقوه، فكيف نتقيه؟ بماذا؟ نحن نتقي الشمس بالمظلة، ونتقي الجوع بالخبز، ونتقي الحر والبرد بالملابس، والله كيف نتقيه؟ بلغنا أن رجلاً بالهند أو بالسند أو بالشرق أو الغرب يعرف بم يتقى الله؛ فوالله لنسافرن إليه أو نبعث برجال منا ليأتونا بخبر منه كيف نتقي الله، بلغنا أن هناك من يعرف بم يتقى الجبار، وأنه يوجد في مكان كذا فيجب أن نرحل إليه، ولا تعجب؛ والله! لقد رحل جابر بن عبد الله من هذه المدينة إلى حمص ببلاد الشام على راحلته مسافة أربعين يوماً ذهاباً وإياباً؛ من أجل خبر واحد، بلغه أن صحابياً بديار الشام بمدينة حمص يقول عن رسول الله كذا وكذا، وسأل أهل المدينة فما عرفوا، فركب راحلته إلى حمص ليعلم هذا منه. ووالله! لقد كان أهل الأندلس يأتون على بواخرهم، تلك البواخر التي الآن لا تركب، يسافرون الشهرين والثلاثة ونصف العام ليجتمعوا هنا على مالك بن أنس وشيخه ربيعة ويتلقون السنة، يحفظونها ويكتبونها وينقلونها إلى أقصى الغرب في ذلك الزمان.
    والآن بم نتقي؟ لقد أمرنا الله ربنا بأن نتقيه فقال: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:57] به، بعظمته وجلاله، بسلطانه وقدرته، بما لديه وما عنده، اتقوه، فبم نتقيه؟

    معشر المستمعين والمستمعات! هل نحن حقاً راغبون في معرفة ما نتقي به الله؟ والله لو أن رجلاً منا فحلاً فهم ما قلت لقال: والله! يا هذا لن تبرح مكانك حتى تعلمنا بم نتقي الله، أقسم بالله! لو أن شخصاً آمن وكان المؤمن وفهم ما قلت لقال: والله! يا هذا لن تقوم من مقامك حتى تعرفنا بم نتقي الله؟ لا يقوم غير مبال، اللهم إلا إذا كان قد عرف من قبل بم يتقى الله؟
    إذاً: يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله، وذلك بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله فقط، أتريد أن تتقي عذاب الله وسخطه؟ اتقه بشيء واحد فقط: أطعه وأطع رسوله فيما يأمران به عباد الله وينهيان عنه عباد الله، من أطاع الله ورسوله في الأمر والنهي جعل بينه وبين عذاب الله وقاية، لا يصل إليه عذاب الله أبداً.
    فالله تعالى لا يتقى بالجيوش والأسوار والحصون أبداً، لا يتقى إلا بطاعته بفعل ما يأمر به وترك ما ينهى عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بأمر الله وينهى بنهي الله.
    العلم سبيل التقوى
    يبقى سؤال آخر: يا علماء.. يا بصراء.. يا رجال السياسة.. يا علماء المنطق! هل يمكنك يا عبد الله أن تطيع الله فيما أمر به ونهى عنه، وفيما أمر به الرسول ونهى عنه وأنت لا تعرف ما أمر الله به ولا ما نهى عنه؟ مستحيل. فمن هنا عدنا من حيث بدأنا، يجب أن نتعلم، أن نعرف محاب الله ما هي، ومكارهه ما هي من أجل أن نفعل المحبوب ونتخلى عن المكروه.ولعلها رخيصة، فوالله الذي لا إله غيره! لأن تعلم هذه القضية خير لك من مليار دولار، ولأن ترجع إلى أهلك وبيتك فرحاً بها -والله- خير من الدنيا وما فيها؛ لأن المائة دولار قد تحترق بها، وتحملك على الفسق والفجور والظلم والشر والفساد وتخسر خسراناً أبدياً.
    إذاً: الحمد لله، عرفنا بم نتقي ربنا، أي: بطاعته وطاعة رسوله فيما يأمران به وينهيان عنه؛ لأن ما يأمر الله به ورسوله يجنب غضب الله وسخطه ونقمه وعذابه، أليس كذلك؟ وترك ما نهى الله ورسوله عنه هو نجاتنا من الأذى والشر والبلاء والسخط في الدنيا والآخرة، فهذا عرفناه، وعرفنا أيضاً كيف نتقي الله وننجو من عذابه بمعرفة ما يحب وما يكره، أما ونحن لا نعرف ما يحب وما يكره، فكيف سنفعل المحبوب ونحن لا نعرفه؟ كيف نتجنب المكروه لله ونحن ما عرفناه؟ ومن هنا كان طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
    وكيف نحصل على هذا العلم؟ قال الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم: ( إنما العلم بالتعلم )، في صحيح البخاري ، والله يقول: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من يعلم من رجل أو امرأة يجب عليه أن يسأل أهل العلم حتى يعلم، وليس شرطاً أن تنقطع عن بستانك أو دكانك أو عن عملك حتى تتعلم، كلا، ابق في عملك ثم اسأل: ماذا يحب ربي من الكلام، يقول لك: يحب كذا وكذا، فقل هذا الكلام وتملق به إلى الله، ما الذي يحب ربي من النيات؟ يقول: يحب النيات الصادقة، ماذا يحب ربي من الأعمال؟ يحب كذا وكذا، وأنت تتعلم وتعمل، ولا تزال تتعلم وتعمل حتى تكمل وتبلغ مستوى الكمال البشري.
    سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ...)

    نادنا الرب جل وعلا فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، لبيك اللهم لبيك، (
    لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:87-88]، على شرط: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88]. أذكر لكم سبب نزول هذه الآية، فهذا القرآن ما نزل مرة واحدة أو جملة واحدة، نزل في خلال ثلاث وعشرين سنة، بدأ نزوله بـ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ )[العلق:1] في غار حراء، وانتهى بآية نزلت في هذه المدينة: ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )[البقرة:281]، ثلاث وعشرون سنة نزل فيها الكتاب المكون من مائة وأربع عشرة سورة، في ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية.

    إذاً: هذه الآية سبب نزولها أن ثلاثة نفر: عبد الله بن مسعود وعثمان بن مظعون وثالث اشتاقوا إلى دار السلام إلى الجنة والرضوان، فأتوا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، والذي في الحلقة لا يعجبه الترضي عنها فليعلم أنه كافر ولعنة الله عليه، وليتب إلى الله، وليدخل في الإسلام وإلا فهو كاليهود والنصارى، أو هو مسكين أضلوه وغلطوه وجهلوه، لكن إن سمع الآن فهو من أهل العلم، إذاً: فليتب إلى الله، وليقل: آمنت بالله.. آمنت بالله، رضي الله عن أم المؤمنين عائشة ، لينجو، وإن أصر على الباطل فوالله لن يدخل دار السلام؛ لأن الذين لا يترضون عنها ساخطون عليها غاضبون يلعنونها؛ لأنهم قالوا لهم: إنها فجرت، زنت! وأعوذ بالله! امرأة رسول الله لا يصونها الله لرسوله، لا يحفظها لنبيه وتفجر وتزني حتى تلعن؟! ما تقولون فيمن يرمي رسول الله بالدياثة؟ هل يبقى مؤمناً؟! أعوذ بالله.. أعوذ بالله.. أعوذ بالله! لقد أنزل الله تعالى في هذه الحادثة -حادثة الإفك- سبع عشرة آية من كتابه من سورة النور، ولا نقرؤها ولا نسمع من يقرؤها ونحولها ونؤولها، وتختم الآية: ( وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )[النور:26]، وأنت تقول: عائشة زنت وملعونة ولا تترضى عنها؟! لا إله إلا الله، آمنا بالله!

    فعائشة أم المؤمنين، قال تعالى: ( وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ )[الأحزاب:6]، هذه الصديقة حب رسول الله بنت حب رسول الله، بنت أبي بكر الصديق ، دخلوا عليها وسألوها عن صيام الرسول وقيامه، وقالوا فيما بينهم: الرسول غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فأحدهم قال: أنا أصوم الدهر ولا أفطر أبداً. والثاني قال: أنا لا آتي النساء. والآخر قال: أنا أقوم الليل ولا أنام، شوقاً إلى الملكوت الأعلى ودار السلام، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المسجد من حجرته وخطب الناس وقال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ )، وهذا من كمال آدابه ورحمته، لم يقل: يا فلان وفلان يفضحهم، وإنما قال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ إني والله ولأتقاكم لله وأشدكم له خشية، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، ونزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، يا ابن مظعون ، يا ابن مسعود، يا فلان! ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، تتجاوزوا الحد، ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:87-88]، فعدلوا عما عزموا عليه، أصبحوا يصومون ويفطرون في حدود طاقتهم ويقومون الليل وينامون في حدود طاقتهم، والرهبان في الصوامع، وبعض المتعنترين من المتصوفين يقولون: فلان لا يأكل اللحم أبداً! أتحرم ما أحل الله لك؟ لا تأكل اللحم إذا كان حراماً، لا تسرق ولا تأكل جيفة، أما وقد أحل الله لك اللحم وتدعى في بيوت إخوانك ويقدم لك فتقول: أنا لا آكل اللحم زهداً فيه، وآخر يلبس ثوباً من الصوف يلفه عليه وعنده القطن وعنده المال، فلم تحرم ما أحل الله لك؟ إذاً: فالعدل العدل: ( وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87].
    التربية المسجدية ودورها في تحقيق التقوى

    معاشر المؤمنين! عرفنا أننا مأمورون بأن نعرف ما يحب الله وما يكره من أجل أن نتقيه بفعل ما أمر وبترك ما نهى، وبذلك نتقي ربنا.ومن فهنا فالطريق -يا عباد الله- هو أن أهل القرية في قريتهم وأهل الحي في مدينتهم إن كانوا صادقين في إيمانهم ودقت الساعة السادسة وقف العمل، واليهود والنصارى في أوروبا وأمريكا واليابان والصين إذا دقت الساعة السادسة يوقفون العمل، رأيناهم بلا عمل، ويحملون أطفالهم ونساءهم إلى دور السينما، إلى المراقص، إلى المقاصف، إلى الملاهي، وهل نحن مثلهم؟ لا، نحن أهل السماء وهم أهل الأرض، نحن الأحياء وهم الأموات، نحن المؤمنون وهم الكافرون، نحن أطهار وهم الأخباث.

    إذاً: هم يذهبون إلى دور السينما ونذهب إلى بيوت الرب الطاهرة، أطفالنا أمامنا ونساؤنا وراءنا ونتلقى الكتاب والحكمة كل ليلة وطول العمر، وحينئذٍ هل يبقى في القرية فاجر، ساحر، دجال، كذاب؟ هل يبقى في القرية عار لا يجد ثوباً يكتسي به، أو يبقى في القرية جائع والجوع يمزقه؟ والله ما كان ولن يكون، وهل نحتاج بعد ذلك إلى بوليس وحرس؟ لا نحتاج ذلك، كلنا كالملائكة في الطهر والصفاء لا خيانة ولا غش ولا خداع، وهل يبقى بيننا وثني أو مشرك أو خرافي أو ضال أو علماني تائه في متاهات الإلحاد؟ لا والله، فإن لم نقبل على الله في صدق كما بينت لكم؛ فوالله لا نزال في الإحن والمحن والبلاء والشقاء حتى نلقى الله تعالى، بلغوا والله معكم.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #346
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (33)
    الحلقة (345)
    تفسير سورة المائدة (39)



    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
    وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، ذات الأحكام الشرعية والقوانين الربانية، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، فهيا نتغنى بها، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما فيها، وهذا هو المطلوب منا إزاء كتاب الله، وليس المطلوب منا أن نقرأه على الموتى في بيوت الهلكى أو على قبورهم، والله ما شرع هذا الله ولا رسوله، وإنما شرع الله هذا الكتاب ليتلى في بيوت الله وبيوت المؤمنين، ويتدبر ويفهم مراد الله منه، هذا الكتاب القرآن الكريم يجب أن يجتمع عليه المؤمنون، وأن يتدارسوه، وأن يفهموا مراد الله منه، وبذلك يمكنهم أن يعبدوا الله عبادة تزكي أنفسهم وتؤهلهم لولاية الله عز وجل.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ * لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:78-89].

    عجب هذا القرآن، عجب والله، وصدق إخوان لنا من الجن لما سمعوه والرسول يصلي الصبح في بطن نخلة عادوا وقالوا: ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا )[الجن:1-2]، فهيا ندارس هذه الآيات الثلاث:

    قول ربنا جل ذكره: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، هذا النداء نداء من؟ نداء الله. إذاً: الله موجود، وكيف يوجد كلامه وهو غير موجود؟ لو تجتمع البشرية كلها فهل ستوجد كلاماً بدون متكلم؟

    هذا الكلام يحوي العلوم والمعارف والحكم والقوانين والشرائع، إذاً: منزله أعلم العالمين وأحكم الحاكمين، وكيف لا وهو خالق كل شيء ومليكه؟ فالحمد لله أن أصبحنا أهلاً لأن ينادينا رب العالمين، هذه نعمة لا يعرف قدرها أحد من المؤمنين الحاضرين أو الغائبين، ملك الملوك جل جلاله وعظم سلطانه، من بيده الحياة والموت، والإعزاز والإذلال والغنى والفقر، والإيجاد والإعدام يتفضل علينا وينادينا، ومن نحن؟ ونادانا بعنوان الإيمان، ما قال: يا بني آدم، ولا يا بني هاشم، ولا يا بني تميم، نادانا بعنوان الإيمان: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، فلبيك اللهم لبيك.

    سر نداء الله تعالى المؤمنين بعنوان الإيمان
    والسر في ندائه تعالى لنا بعنوان الإيمان يا نبهاء ويا شرفاء، السر في ذلك: أن المؤمن بحق حي يسمع النداء ويجيب المنادي، ويفعل ما يأمره به وينتهي عما نهاه عنه، وذلك لكمال حياته، فمن هنا علمنا بعلم الله أن المؤمن الحق حي، وليس بميت، والبرهنة أن الله يناديه إما ليأمره بما ينجيه ويسعده، أو ينهاه عما يشقيه ويخسره، أو يناديه ليبشره فتزداد صالحاته، أو لينذره فيتحفظ من الوقوع في السيئات والمهلكات، أو يناديه ليعلمه، وهذا بالاستقراء والتتبع لنداءات الرحمن في كتابه العظيم القرآن الكريم، وقد جمعناها، وهي تسعون نداءً ألا نداء احتوت على الشريعة الإسلامية بكاملها، تسعون نداء، وهي تحوي شريعة الإسلام من العقيدة إلى العبادة إلى الآداب، إلى الأخلاق، إلى الأحكام، في السياسية، في السلم والحرب، في كل الحياة، وأكثر المؤمنين لا يعرفون عنها شيئاً، تسعون نداء، ودرسناها في ثلاثة أشهر، ورغبنا المؤمنين والمؤمنات في الحصول عليها والاجتماع عليها في البيوت والمساجد وأماكن الاستراحة، يجتمعون على نداء يسمعون بآذانهم نداء الله لهم، فيفهمون ما يريد منهم مولاهم ويطيعونه فيكملون ويسعدون.وذكرنا أن هذه النداءات يجب أن تترجم إلى اللغات، وأن يوضع كل كتاب على سرير في فنادق العالم الإسلامي، إذا جاء النزيل قبل أن ينام يفتح ذلك الكتاب فيسمع نداء ربه إليه، فيبيت قرير العين جذلان فرحاً، وما فعلنا، ومن ثم عرفنا أن المؤمن حي، ولذلك يناديه الله عز وجل إما ليأمره بما يكمله ويسعده، أو لينهاه عما يشقيه ويرديه، أو يبشره بما يزيد في أعماله الخيرية الصالحة، أو ينذره ويحذره ليحذر ويتجنب، أو ليعلمه ما هو في حاجة إليه، أما الكافر فهو ميت.
    والدليل على موت الكافر: أنه أيام كنا في علياء السماء وتحتنا أهل الكتاب من يهود ومجوس ونصارى يعيشون تحت رايتنا وفي ذمتنا آمنين فهل كنا نأمرهم إذا أهل هلال رمضان بأن يصبحوا صائمين؟ لا والله، هل نعلمهم بأن الزكاة قد وجبت فأخرجوا زكاة أموالكم؟ والله ما نأمرهم، هل نقول لهم: إن الحج آن أوانه والمسلمون يتهيئون فحجوا؟ والله ما نأمرهم، لماذا؟ إنهم أموات غير أحياء وما يشعرون، حين ننفخ فيهم روح الإيمان ويصرخ صاحبها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، هنا قل له: اذهب فاغتسل فيفرح ويسر ويذهب ويغتسل، وتقول: هيا لتركع وتسجد فيصلي راكعاً ساجداً، وأصبح متهيئاً لكل أمر الله ورسوله، وهو قادر على فعله؛ وذلك لكمال حياته، وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى لرسوله: ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ )[النمل:80]، وقال تعالى: ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ )[النحل:21].

    وإن قلتم: ها هم يأكلون ويشربون وينكحون؟ قلت: حياة البهائم.

    النهي عن تحريم الحلال والعدوان على الحرام
    يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، لبيك اللهم لبيك، قال لنا ناهياً: ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87]، ينهانا ربنا عن تحريم ما أحل لنا، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحرم طعاماً أو شراباً أو لباساً أو نكاحاً أباحه الله وأذن فيه، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحرم على نفسه أو على غيره ما أحله الله وأذن فيه وأباحه لعباده من طعام أو شراب أو لباس أو نكاح، لم؟ لأن الخالق المولى المالك قال لعبيده: يا عبيدي! لا تحرموا طيبات ما أحللت لكم، أنا أعلم بما ينفعكم ويضركم، فإذا أذنت لكم في شيء فإنه في صالحكم، والله إنه لنافعكم، وإذا نهيتكم عن شيء فما نهيتكم عنه إلا لأنه ضار بكم مفسد عليكم قلوبكم وحياتكم.(لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87] أولاً، ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87] ثانياً، ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87]، يا من يطلب حب الله ويبذل جهده وطاقته في الحصول عليه! انتبه: إياك أن تعتدي وتتجاوز ما حد لك، فإن هذا الاعتداء لا يحب الله أصحابه وأهله، فلهذا المؤمن لا يعتدي؛ لأن مولاه لا يحب المعتدين، وهو يريد أن يكون من محبوبيه، هذه وحدها تجعل المؤمن العارف لا يعتدي، لا على أخ من إخوانه، بل ولا على يهودي في ذمته، ولا يعتدي على ربه بأن يخالفه، فالله يحل وهو يحرم، أو يحرم وهو يحل، فهو اعتداء، ولا يعتدي على أحد في ماله ولا في عرضه ولا في بدنه ودمه، الاعتداء: مجاوزة الحد، التجاوز للمأذون فيه المباح إلى ما هو ممنوع محرم، فسب المؤمن كشتمه، اعتداء عليه، واللفظ عام: ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، لأن الاعتداء ضار لكم، مفسد لحياتكم وقلوبكم.

    وشيء آخر: ما دمتم تطلبون حب الله فاعملوا: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ )[المائدة:87] من عباده ( الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87]، فلا نتجاوز حداً حده الله ورسوله، لم يأذن لنا في كلمة سوء ننطق بها حتى الموت.

    الآن لاحت أنوار الآية الأولى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87].

    أمر الله عباده بالأكل من الحلال الطيب

    الآية الثانية: قال: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، الحمد لله.. الحمد لله، مالك الطعام أذن لنا أن نأكل، والله! لو لم يأذن لنا ما أكلنا، من مالك الطعام والشراب؟ الله لا إله إلا هو، فلهذا إذا أردت أن تأكل خبزاً أو تمراً أول ما تقول: باسم الله، أي: بإذنه هو أكلت أو شربت، لو ما أذن والله ما أكلت ولا شربت، وما إن تفرغ من طعامك وشرابك حتى تقول: الحمد لله الذي أوجد هذا الرزق وأذن لي فيه وأعانني عليه وبارك لي فيه. فالمؤمنون الأحياء البصراء لا يأكلون إلا على اسم الله، ولا ينهون طعاماً ولا شراباً إلا على حمد الله تعالى. (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، فالله لم يجعل رزقنا ما حرم علينا، ولن يجعلنا رزقنا خبيثاً مستقذراً، لا بد أن يكون طيباً، أما النجس المستقذر المستخبث فلا يحل أكله؛ لأن الله ما رزقكه، رزقك الحلال الطيب، أما المستقذر المستخبث من الأطعمة فلا يحل أبداً لهذه الآية الكريمة، ( حَلالًا )[المائدة:88] أولاً، لم يرزقك الله حراماً وحاشاه.

    ثانياً: أن يكون طيباً، ( طَيِّبًا )[المائدة:88] أي: لذيذاً غير مستقذر ولا مستخبث.

    (وَكُلُوا )[المائدة:88]، هذا أمر إباحة وإذن لنا والحمد لله، ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:88]، فلا رازق إلا هو، ومن جهل فليذكر الماء النازل من السماء من أنزله؟ والنابع من الأرض من أنبعه؟ والتراب كيف تحول إلى بر وشعير وفواكه وخضر؟ هل حولته يد أبي أم أمي؟ هذا رزق الله.
    الأمر بالتقوى وبيان حقيقتها ووسيلة تحصيلها

    (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88]، هذا أمر ثالث: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:88]، من يسأل فيقول: كيف نتقي الله؟ بم يتقى الله وهو الجبار بيده ملكوت السماوات والأرض؟ كيف يتقى؟ بالأسوار العالية؟ لا تنفع. بالحصون القوية؟ بالجيوش الجرارة؟ بالسراديب تحت الأرض؟ بالاحتماء بأصحاب الدولة والسلطان؟ بم يتقى الله عز وجل؟ومعنى تقوى الله: أن يتقى بطشه ونقمته وعذابه وسخطه الذي تعرض له المعتدون.
    (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88] رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه، عرفتموه أن بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء.

    وكثيرون يقولون: ما هناك حاجة إلى أن نعرف بما يتقى الله؟ يقول القائل: اتقوا الله فلا يقول واحد: بين لنا كيف نتقي الله؟ لأنهم غير مهتمين ولا حافلين بهذا، أما والله لو عرف أحدهم لقال: والله لا تبارح مكانك حتى تبين لنا كيف نتقي ربنا.
    هل يقول ذلك أحد؟ لأننا نعيش في ظلام منذ ألف سنة وزيادة، من علَّمنا؟ وهل طلبنا العلم؟
    اسمع واحفظ وبلغ أمك وامرأتك: يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله لا بشيء آخر، إن تعلن الحرب عليه وتخرج عن طاعته وعن طاعة رسوله؛ فقد عرضت نفسك للدمار والخراب والخسران الأبدي ولا تجد من يشفع لك أبداً، اتقوا الله، خافوه خوفاً يحملكم على امتثال أمره واجتناب نهيه.
    أولاً: اذكر عظمة الله وسلطانه وقدرته على البطش والأخذ فترتعد فرائصك وتخافه، فتقبل على طاعته فتفعل ما أمرك وتترك ما نهاك عنه.
    ليس تقواه إلا بطاعته وطاعة رسوله؛ لأن فعل ما يأمر به، وفعل ما يأمر به رسوله يجنبكم المضار والمفاسد والمهالك، ولأن ترك ما أمر الله به ورسوله وفعل ما نهيا عنه يعرض العبد للخسران والدمار وفساد القلب وخبث النفس، ولا شك في هذا؛ لأنه من سنن الله القائمة في الأرض، أسألكم يا عقلاء: هل الطعام يشبع؟ هذه السنة باقية إلى يوم القيامة. هل الماء يروي؟ هل الحديد يقطع؟ هل النار تحرق؟
    هذه سنن الله هل تتبدل؟ كلا. فكذلك طاعة الله ورسوله ومعصية الله ورسوله كهذه السنن لا تتخلف آثارها أبداً، من أطاع الله رسوله سما وطهر وصفى وتهيأ للملكوت الأعلى، ومن عصى الله ورسوله وكفر بهما وتمرد على شرعهما تمزق وخسر وهلك هلاكاً أبدياً، سنة لا تتبدل، واسمعوا قوله تعالى: ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا )[فاطر:43].

    معاشر المؤمنين! أفرحتموني عندما قلتم: عرفنا بم يتقى الله، بطاعته وطاعة رسوله. فهيا نمشي الآن، فتلك -والله- ما هي إلا خطوة أولى؛ لأني أسألك: تطيع الله والرسول في أي شيء؟ هل عندك علم بأوامره ونواهيه؟ قال: لا، إذاً: كيف تطيعه؟ نعم تهيأت للطاعة، لكن يجب أن تعرف أوامر الله أمراً بعد آخر، وتعرف أوامر رسوله كذلك، حتى تفعل ما أمرا به وتعرف ما نهيا عنه، أي: ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله نهياً بعد نهي، وإن قيل لك: لا يوجد في مدينتنا هذه من يعرف الأوامر والنواهي إلا في جزائر واق الواق؛ فوالله يجب أن تسافر، ولا يحل لك البقاء في المدينة التي لا تجد فيها من يعرفك بأوامر الله ونواهيه إلا إذا أردت الخسران الأبدي.
    وجوب تفريغ الأوقات لتحصيل التقوى
    قد تقولون: يا شيخ! نحن مشغولون من أجل القوت في مزارعنا ومصانعنا وأسواقنا فكيف نعرف هذا؟ وأقول: هذا السؤال باطل.. باطل.. باطل، يجب أن تفرغ نفسك ساعة في الأربع والعشرين ساعة، كما تسأل عن الدرهم والدينار اسأل عما أذن الله في فعله، أو عما نهى عنه ولم يأذن به، في كل شئون الحياة، وإلا فأنت فاسق عن أمر الله خارج عن طاعته.واسمعوا الله يقول من سورة النحل والأنبياء، آيتان في كتابه تعالى، يقول: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من كان لا يعلم يجب أن يسأل حتى يعلم، وليس يوماً واحداً ولا عشرة، يقرع باب العلماء ويسألهم يومياً: دلوني على ما أمر الله به، أو على ما نهى الله عنه، ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، هل بلغ المسلمين هذا وعرفوه؟ ما عرفوه.

    والآن نبكي ونصرخ طول العام في ملتقى العالم الإسلامي في مسجد رسول الله، الوافدون طول العام يفدون من العرب والعجم، ونحن نقول -وكتبنا للحكام والمسئولين والعالم بأسره-: لا طريق إلى نجاتنا وخلاصنا من محننا وفتننا وجهلنا وظلمنا وخبثنا وشرنا وفسادنا إلا طريق واحد، وما استطاع واحد أن يطبق هذا.
    فإذا قلنا: كيف؟ نقول: أي مانع أن يطبق هذا المنهج المحمدي؟ والله ما وجدنا مانعاً؛ لأنا نقول: إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل، ورأينا اليهود والنصارى والملاحدة والعلمانيين يحملون أطفالهم ونساءهم إلى دور الرقص ودور السينما والمقاصف والملاهي والملاعب، أسألكم بالله يا من تعرفون أوروبا: أليس هذا نظامها؟
    ونحن إذا دقت الساعة السادسة أين نذهب؟ هل نمشي وراءهم ونذهب مذاهبهم وهم كفار ونحن مؤمنون؟ بل نذهب نتوضأ وآمر أولادي وزوجتي وأمي بالوضوء، ونحملهم على السيارة إن بعد بيت الرب عني ونأتي بهم إلى المسجد، مسجد الحي إن كنا في المدينة، ومسجد القرية إن كنا في قرية، حيث لم يبق في الحي رجل ولا امرأة ولا طفل إلا من كان مريضاً أو ممرضاً، الكل حضروا ويصلون المغرب كما نصلي، ويجلسون كما أنتم جالسون، النساء وراء الستارة، والفحول أمام المربي المعلم، وليلة آية من كتاب الله، وليلة حديثاً من أحاديث رسول الله الثابتة الصحيحة، ولا نزال نعلم ونعمل يومياً، فما تمضي سنة إلا وليس في القرية جاهل ولا جاهلة، وليس في الحي من أحياء المؤمنين رجل جاهل ولا امرأة، من أجل هذه الساعة التي يجلسون فيها لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا انتفى الجهل انتفى الخبث انتفى الظلم انتفى الشر، زال الحسد ووجدت أهل القرية كأسرة واحدة، لا تسمع كلمة سوء تقال في فرد من أفرادهم، ولا تجد من يقول السوء بينهم، أو يكيد أو يمكر، وهذا مستحيل مع العلم الرباني.
    ما الذي يكلف المسلمين هذا؟ دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب فوقف العمل، يا صاحب الدكان! أغلق دكانك، يا صاحب المقهى! أغلق مقهاك، يا صاحب المصنع! يا صاحب العمل! انتهى العمل من صلاة الصبح إلى الآن، هيا بنا إلى بيوت الله، بيوت الرب جل جلاله وعظم سلطانه، نجلس بين يديه نستمطر رحماته ونتلقى بركات السماء ونتعلم العلم الضروري فنعرف محاب الله ونأتيها، ونعرف مكاره الله ونتجنبها ونبتعد عنها، ومن ثم تحققت لنا ولاية الله، وأصبح أهل القرية أولياء الله، لو رفعوا أيديهم إلى الله وسألوه أن يزيل الجبال لأزالها.
    مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه

    معشر المستمعين! بلغوا .. بلغوا: لا سبيل إلى النجاة إلا هذا السبيل؛ لأنه منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجتمع النساء في هذا المسجد والرجال فيزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ونسبة من يقرأ ويكتب 1%، وأصبحوا علماء ربانيين نساء ورجالاً، لا يوجد -والله- لهم نظير على الأرض، هل فازوا بشهادات علمية؟ فقط أقبلوا على الله فأسلموا قلوبهم ووجوههم له، ومشوا في صراطه المستقيم، ولكن جلس لهم رسول الله، والله يقول في منته عليهم: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2]، فأيما أهل إقليم أو بلد أو قرية في العالم الإسلامي أرادوا أن يصبحوا كأصحاب رسول الله في الطهر والذكاء والصفاء والربانية فالطريق هو هذا الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم، يجتمعون كل ليلة طول العام، ليلة آية كالتي درسناها الآن أو بعضها، وليلة حديثاً بعدها، تنتهي الفوارق والمذاهب والعناصر، لا يبقى من يقول: أنا شافعي ولا مالكي ولا إباضي ولا زيدي، انتهت الفرق والانقسامات، وهي محرمة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا )[آل عمران:102-103]، من أذن لك أن تقول: أنا مالكي؟ آلله أذن لك بهذا؟ كيف تقول: أنا زيدي أنا إباضي أنا حنبلي؟ قل: أنا مسلم أسلمت قلبي ووجهي لربي، مرني بأمر الله وأمر رسوله أنصاع وأذعن وأعمل، انهني عما نهاني عنه الله ورسوله ننتهي؛ لأني عبده أطلب ولايته وكرامته، فهل يتحقق هذا بدون الاجتماع على كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم؟معاشر المستمعين! هل يبقى في أذهانكم شيء من هذا؟ لم لا تبلغونه عندما تجلسون في بيوتكم أو مع إخوانكم فتقولون: سمعنا في المسجد النبوي كذا وكذا؟
    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #347
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )




    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (34)
    الحلقة (346)
    تفسير سورة المائدة (4)

    الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم هذا الأمل لنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
    وها نحن مع سورة المائدة، ومع هذه الآية المباركة التي تناولناها بالدرس في درس سابق، وما استوفيناها وحق لنا ألا نستوفيها لما تحمله من العلم والحكمة، فهيا نتغنى بها ثلاث مرات، ونحن نتأمل ونتفكر ونتدبر فيما حوته من العلم والمعرفة، ثم نعيد شرحها مرة أخرى بإذن الله.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:3].
    هذه الآية يجب أن يحفظها كل ذي عقل من المؤمنين والمؤمنات، ويصلي بها طول السنة النوافل والفرائض، هذه الآية نزلت ورسولنا صلى الله عليه وسلم في عرفات، ولم يعش بعدها إلا نيفاً وثمانين ليلة وقبضه الله.

    اختصاص الله تعالى بالتحريم لعلمه بما يضر العباد وملكه لهم ولسائر ما خلق

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ )[المائدة:3] من المحرم؟ إنه الله تعالى. فهل يحق لكائن سوى الله أن يحرم أو يحلل؟ الجواب: لا، لماذا؟ لأن الله هو مالك كل شيء، فما أذن فيه فهو حلال، وما لم يأذن فيه فهو حرام، وهل يستطيع أحدنا أن يتصرف في مال غيره يأخذ ويعطي ما يشاء؟ مستحيل، فما دام الله جل جلاله هو المالك لكل خلقه، إذاً: فما أذن فيه فهو الحلال وما لم يأذن فيه فهو الحرام، فلا يحل ولا يحرم إلا الله، والرسول الكريم باسم الله وبعلم الله وإذن الله يحرم أو يحلل؛ لأنه المسئول عن البيان والبلاغ، أما غير الله ورسوله فلا

    ليس من حق أحد أن يحل شيئاً أو يحرم، وكل ما أحل الله وما حرم موجود في كتاب الله وبيانات رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أولاً.
    ثانياً: الله وحده يحلل ويحرم؛ لأنه العليم بمضار ومنافع الأشياء، ونحن قاصروا العلم، فالعليم الخبير هو الذي يحل شيئاً لما فيه من الفائدة والمصلحة والمنفعة، ويحرم آخر لما فيه من الضرر والفساد، أليس كذلك؟ إي والله.
    تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير

    يقول تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ )[المائدة:3] من هم المخاطبون؟ المؤمنون الذين ناداهم بقوله:

    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )[المائدة:1] هذا الذي يتلى عليكم:(الْمَيْتَةُ )[المائدة:3] ما مات حتف أنفه بدون تذكية.

    (وَالدَّمُ )[المائدة:3] معروف، ليس الذي يختلط مع اللحم والعظم، ولكن الدم الذي يسيل ويؤخذ بالسفح والطريقة الخاصة بأخذ الدم من الحيوان، كانوا يأكلون الدماء: يغلونها فتنتفخ وتيبس ويأكلونها، وفيها من الأمراض ما لا يعلمه إلا الله.

    (وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ )[المائدة:3] لحم الخنزير حرام كشحمه كدمه ككله، الخنزير معروف، حيوان أكثر ما يوجد في البلاد الباردة، هذا الحيوان علمنا أن فيه أمراضاً خطيرة عرفها الأطباء الآن وكشفوا عنها، ولكن ما حرمه الله إلا لأن فيه الضرر والخطر على عباده.

    وسبب ذلك: أنه يعيش على القاذورات، يأكل الجيف، لو يجد فأراً ميتاً يفرح به، ويأكل الأوساخ، فمن هنا كان لحمه فيه جراثيم قاتلة، حرمه الله لعلمه بما فيه من الضرر.
    وهنا لطيفة ما ننساها: أنه ديوث الحيوانات، فالجمل عندنا إذا جاء آخر يريد أن ينازعه في أنثاه قاتله، حتى الكلب، والقط ما يرضى أن تمس أنثاه، وهذا الخنزير يأتي بالآخرين يقول لهم: افجروا بها، فالذين يأكلون لحمه ينتقل إليهم هذا المرض مرض الدياثة، ويصبح الرجل لا يبالي بامرأته تغني أو ترقص أو يصاحبها فلان ويسافر معها حيث شاء والعياذ بالله، وخطره على البلاد الحارة عجيب، فلهذا يأكله من في البلاد الباردة.
    تحريم ما ذبح لغير الله تعالى

    (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]، أهل يهل: رفع صوته، ومنه الهلال، أهل بالعمرة: إذا قال: لبيك اللهم عمرة، فالذي ذبح لغير الله وسمي عليه اسم غير اسم الله حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير.

    ولا نغفل عما عليه إخواننا أولئك الذين يذبحون لسيدي عبد القادر ، وسيدي البدوي ، وسيدي العيدروس ، وسيدي إبراهيم، وسيدي الحسين ، وسيدتنا فاطمة ، حتى ولو لم يقولوا: باسمك يا فاطمة أو يا حسين ، فالدافع الباطني نية الذبح لذلك المخلوق، بدليل أنه يقول: هذه شاة سيدي عبد القادر ، هذا العجل عجل سيدي البدوي ، وقد رأينا ذلك بأعيننا، وقد رأينا بأعيننا من يغرس حديقة شجر زيتون ويقول: هذه الزيتونة لسيدي فلان، يغرس نخلاً ويقول: هذه النخلة لسيدي فلان، يشتري قطيعاً من الغنم في آخر الشتاء، فإذا كان الربيع يقول: هذه شاة سيدي فلان، ليرعاها ويحميها ويحرسها، فهذا من هذا.
    (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]، فلا حل لمؤمن ولا مؤمنة أن يذبح لغير الله عز وجل، قد يقول قائل: ها نحن نذبح للضيفان؟! فالضيفان أمرنا رسول الله بإكرامهم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )، لم اشتريت هذه الشاة؟ قال: عندنا ضيوف الليلة، اشتريناها لنطعمهم، فهذا مأذون به وجائز، لكن الممنوع أنك تتقرب إلى ذلك الميت لتحصل على الخيرات والبركات بواسطته، فتعبده كما يعبد الله جل جلاله بذكره والتوسل إليه بالذبح والنذر إلى غير ذلك.

    وإن شككتم فإني أحلف لكم بالله: والذي نفسي بيده! ما جاز لمؤمن ولا مؤمنة أن يسمي شاة أو بقرة أو نخلة أو شجرة لغير الله ويقول: هذا لسيدي فلان، ولا تنفعه صلاته ولا صيامه إذا فعل، فقد قال تعالى: ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ )[الزمر:65] يا رسولنا ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[الزمر:65] ما معنى أشركت؟ أشركت غير الله في عبادة الله، جعلت له عبادة كما هي لله.

    (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]،كان المشركون يذبحون لهبل واللات والعزى ومناة والحجارة التي ينصبونها، وجاء الإسلام فحرم الذبح لغير الله حتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما أجاز عالم عرف الأصول أن تقول: هذه شاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتذبح، وإنها لشرك ومحنة كبيرة، أهنت رسول الله وجعلت له الشاة التي يتقرب بها إلى الله!

    فالرسول صلى الله عليه وسلم ما هو في حاجة أبداً إلى أن تصوم عنه أو أن تتصدق عنه أو تحج عنه؛ لأن حسنات الأمة كلها له مثلها، ما له إلا أن تحبه وتطيعه وتصلي وتسلم عليه، أما أن تتصدق عليه أو تصوم فقد جعلته كسائر الناس، شككت في درجته المرفوعة ومقامه السامي عند الله.
    ما يدخل في الميتة من المحرمات
    فهذه الأربعة المحرمات وردت في عدة سور: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]، والستة الباقية داخلة فيها؛ في الميتة، فالمنخنقة ميتة، والمنخنقة: التي تدخل رأسها بين شجرتين أو كذا وتختنق، انخنقت فهي منخنقة، أو يربطها صاحبها بحبل في عنقها فتحاول أن تمشي بعيداً وتجذب فتختنق، وإن فرضنا أن رجلاً خنق شاة فهذا غير واقع لأن الله سماها المنخنقة، لو كانت تخنق لقلنا: والمخنوقة، لكن ما هناك من يخنق الشاة، المنخنقة هي التي تختنق بنفسها.

    والموقوذة التي ترمى وتوقذ بحجرة أو بعصا أو برصاصة فتسقط ميتة، والمتردية: التي تردت من مكان عال، من السطح فوقعت في الأرض، أو من أعلى الجبل، أو طلعت فوق شجرة وهبطت منها فاندقت عنقها وماتت، هذه الموقوذة، والنطيحة: التي تنطحها أختها نطحة فيغمى عليها وتموت.
    وما أكل السبع، السبع هنا: الذئب والثعالب والضباع وسائر الحيوانات التي تأكل، فالتي يأكلها السبع أيضاً جيفة ميتة، كل هذا داخل تحت الميتة.
    وقوله تعالى: ( إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ )[المائدة:3] استثناء، فالمنخنقة إذا أدركت الحياة فيها مستقرة وذكيتها فلا بأس، المتردية التي سقطت من السطح فوجدتها حية فذبحتها فلا بأس، النطيحة التي نطحتها أختها ووجدت فيها الحياة كذلك، والتي أكلها السبع ووجدت حية حياة مستقرة اذبحها وكل، وعلامة استقرار الحياة أنك إذا أخذت تذبحها تنتفض، تضرب برجليها وتتحرك، فتكون الجراثيم كلها قد خرجت من الدم حين سال، أما إذا ماتت فالجراثيم باقية فيها.
    تحريم المذبوح على الأنصاب

    (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3] سواء قلت: باسم الله أو قلت: بسيدي عبد القادر ، ما دامت مذبوحة على ما ينصب، على عظيم أو زعيم أو ولي أو قبر أو كذا، والنصب: ما ينصب في المدينة دالاً على عظيم من عظماء البلاد، زعيم من زعمائها، ولي من أوليائها، والأولياء يبنون عليهم القباب ينصبونها عليهم ليعرف: هذا سيدي فلان! إذ ما كان يمكن أن يدفن الولي عندنا أيام الجهل في عامة المقبرة، لا بد أن يبرز ويعلم ويظهر ليعرف حتى يستغاث به ويطاف بضريحه، ويتمسح به، وقد رأينا النساء عاكفات على الضريح، والرجال عاكفين! فلا إله إلا الله! وهم يقرءون القرآن لكن على الموتى، أما على الأحياء فلا.

    أحببت أن أقول: الحمد لله؛ الآن صحونا لعوامل كثيرة، منها: تقارب العالم الإسلامي، ووجود الكتاب والطباعة بسرعة والإذاعات، وإذاعة القرآن وحدها كافية، إذاعة القرآن أنا سميتها لما طالبت بها: إذاعة الإسلام، يجب أن تفتح الإذاعة أربعاً وعشرين ساعة، وإياك أن تفتح إذاعة غيرها، تتعلم فيها الكتاب والحكمة، وكم تفقه عليها من النساء، عجائز أصبحن عالمات! والآن هذه الإذاعة تصل إلى المسلمين في الشرق والغرب بلغة العرب البينة الفصيحة.
    قال تعالى: ( وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3]، هل تقولون: ما ذبح على الأصنام فقط؟ كان يذبحون على الأصنام حول الكعبة، ويلطخون الكعبة بالدماء، لكن الشيطان هو هو، هل تغير نظامه وسلوكه؟ لما عرف أننا لا نعبد الأصنام جاءنا بفكرة جديدة، ما هي؟ التوسل بالأولياء رحمهم الله، بالذبح لهم والنذر لهم، تمر المرأة تقول: يا سيدي فلان! إذا تزوجت ابنتي، أو إذا غلبت فلاناً في المحكمة فسنذبح لك شاة! تمر بالضريح هكذا وتنادي، والرجال والنساء سواء، والعلماء يقولون: ماذا في ذلك؟ فهو حسب النية، لكن الله عز وجل أضاء البلاد الإسلامية بنور العلم الآن.

    معنى قوله تعالى: (وأن تستقسموا بالأزلام)

    وقوله تعالى: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ )[المائدة:3]: الأزلام: جمع زَلمَ أو زُلمَ، وأهل الشام يقولون: يا زلمة، والزَلمَ والزُلم واحد: عود من خشب، هذا العود أصله كان من الرماح أو السهام، مصنوع صناعة خاصة، ليس فيه حديد أسفله، ولا فيه ريش، لأن السهم يجعلون فيه ريشاً حتى يقوى ويصل إلى الحيوان الذي يرمونه به أو الإنسان، هذه العيدان التي كانت سهاماً قدمت وأصبحت لا تصلح، فماذا يصنعون بها؟ يأتي رجل من الكهنة أو السحرة أو مدعي الغيب ويجمع ثلاثة عيدان، يكتب على أحدها: أمرني ربي، والثاني: نهاني ربي، والثالث غفل ما عليه أي كتابة، وكان يجلس عند الكعبة، فتأتي تقول: يا شيخ! أريد أن أتزوج امرأة من مصر، ولا أدري هل فيها خير أم لا؟ فدلني، فيجيل الأزلام في الكيس، ثم يخرج واحداً، فإذا وجد فيه: أمرني ربي يقول: تزوج، الخير كله في هذه الزوجة، وإذا جاء العود الذي فيه نهاني قال: لا خير لك فيها، وإذا جاء العود الخالي الغفل يعيد إجالتها، يخلطها مرة ثانية ويخرج.

    (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا )[المائدة:3] أي: أن تطلبوا ما قسم الله لكم من طريق هذه العيدان، هذه كانت في مكة، وكانت في بلاد العرب لها ناس خاصون، والإسلام لا يسمح بهذا، إذاً: جاء الشيطان بأعجب من هذا:

    أولاً: ما يعرف بخط الرمل، في باريس تجد الرجل جالساً والرمل أمامه في شوارع باريس، وأنت تريد أن تسافر أو تتزوج أو تطلب كذا، فيضرب لك القصد، ويكذب عليك ويقول لك: افعل أو لا تفعل، ثم يقول: هات ألف فرانك!
    كذلك تأتي إلى الرجل والمسبحة في يده، فيرسلها، فإذا جاءت أزواجاً قال: افعل، وحط بيضة أو ريالاً!
    وكذلك قراءة الكف، هذه واحدة أخرى، يقرأ في الكف ما يعرف بالعرافة، وكذلك قراءة الفنجان، وهذه كلها من وضع إبليس، وهو الذي يسوق إليها البشرية الغافلة؛ لتأتي بالشرك الحرام من أجل أن يعيشوا، وعندنا يسمونها الكزانة والشوافة كذلك.
    فهذا كله يدخل تحت قوله تعالى: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ )[المائدة:3]، كله خروج عن طاعة الله ورسوله، ( ذَلِكُمْ )[المائدة:3]الذي سمعتم من أكل المحرمات، ومن الاستقسام بالأزلام، كله ( فِسْقٌ )[المائدة:3]، أي: خروج عن طاعة الله ورسوله، ومن خرج عن طاعة الله ورسوله هلك.
    (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ )[المائدة:3] بالقرعة، بالشوافة، بالكف، بالمصحف، كل ذلك.
    الاستخارة الوسيلة المشروعة المغنية عن الاستقسام

    فإن قلت: إذاً: وماذا نصنع يا شيخ إذا منعتمونا من هذا ونحن في حيرة، نريد أن نتزوج، نريد أن نسافر، فكيف نصنع؟ الجواب: هذا الحبيب صلى الله عليه وسلم سن لنا صلاة الاستخارة، إذا هم أحدكم بالأمر وأراد أن يأتيه وهو لا يدري أفي صالحه أم في غير صالحه؛ فليصل ركعتين لله عز وجل، ويحسن أداءهما، ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك لا يملكه إلا أنت، إن كنت تعلم أن في زواجي في سفري في كذا خيراً لي في ديني ودنياي، وفي عاقبة أمري فاقدره لي ويسره وأعني عليه، وإن كنت تعلم أن في هذا شراً لي أو عدم الخير فاصرفني عنه واصرفه عني. وكررها مرتين أو ثلاثاً أو أسبوعاً، فلقد استخرت الله مرة شهرين في قضية، كل يوم مرة! فاقرع باب الرحمن عز وجل، أما أن تذهب إلى المشعوذين والدجالين وأولياء الشيطان، وتعتمد على ما يقولونه لك فهذا حرمه الله عز وجل، عليك بذي الجلال والإكرام، اطرح بين يديه وابك، والذي يحصل لك والله خير لك، حين تستخيره أي: تطلب الخيرة منه، فالذي يتم لك عملاً أو تركاً والله لهو الخير الذي اختاره الله لك، وكن مطمئناً.
    أردت أن تتزوج فلانة وما تدري ما العاقبة فاستخر الله عز وجل يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً وأنت تتردد عليه تعالى وتسأله، فإذا خطبت وقالوا: باسم الله مرحباً، وزوجوك فقد اختارها الله لك، فإذا قالوا: لا، ما نستطيع، فهذا معناه: أن الله صرفك عنها لما فيها من الشر لك.
    وبعض العوام يقول: نرى في المنا! لا منام ولا رؤيا ولا هاتف يهتف بك، انتبه، اقرع باب الله واسأله، وتردد كما قلنا، ما هي بمرة أو مرتين، ثم الذي يقع فعلاً أو تركاً هو الذي اختاره الله لك، وافرح به واحمد الله تعالى عليه.
    وقت نزول قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)

    حرمة الابتداع في الدين وجواز ما كان من المصالح المرسلة
    فلهذا من أراد أن يزيد سنة في الإسلام أو فريضة فليضرب رأسه على الحائط، الله يقول: أكملت، وأنت تقول: ما زال ناقصاً، نزيد فيه شيئاً! ولهذا كل بدعة حرام، وكل بدعة ضلالة، المبتدع كأنه ينتقد الشرع أنه يحتاج إلى زيادة، والله يعلن أنه أكمله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، فقط لنا المصالح المرسلة، فتلك العوام يسمونها بدع حسنة، ليست من باب الابتداع.
    على سبيل المثال: المحراب، ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم محراب في الجدار، أليس كذلك؟ القبلة معروفة، لكن لما دخل الناس في دين الله أفواجاً كان الإنسان يدخل المسجد ما يعرف القبلة، فماذا يصنع؟ يسأل: أين القبلة؟ فجعلوا طاقة في الجدار تسمى المحراب، كل من دخل المسجد عرف القبلة، سواء كان في الشرق أو الغرب.
    وكذلك المنارة، حيث كان يؤذن على سطح المسجد، فاتخذت المنارات ليسمع أهل البلاد عامة، فهذه من المصالح المرسلة.
    والقرآن الكريم ما كان منقوط الحروف أبداً، ويفهمونه، فـالحجاج بن يوسف قال: الناس ما يعرفون الحروف، فنقط الباء والتاء والثاء والجيم وكذا، هذه مصالح مرسلة، ليست بدعة في الإسلام وزيادة فيه.
    والشاهد عندنا: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا )[المائدة:3]، الحمد لله، الحمد لله، رضي الله لنا الإسلام ديناً، لو رضي لنا اليهودية أو المجوسية أو النصرانية لقلنا: الحمد لله، ولكن لم يرض لنا إلا الإسلام، فقولوا: رضينا بالإسلام ديناً.

    قال تعالى: ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ )[المائدة:3]، بعد أن فتح الله مكة، وأصبحت الوفود تأتي من أنحاء الجزيرة بالعشرات وهم يدخلون في الإسلام ما بقي من يفكر في قتال رسول الله والمؤمنين، فكان الخطاب: فلا تخشوهم اليوم واخشون أنا، فأنا ربكم وخالقكم، فمن ثم ارتفعت راية لا إله إلا الله.
    معنى قوله تعالى: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم)

    ثم قال تعالى: ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:3] أي: جاءته الضرورة وهي المخمصة أو المجاعة أو الجوع الشديد، ولكن حال كونه غير مائل إلى إثمه وراض بما حرم الله، الجوع ألجأه إلى أن يأكل من هذه الميتة أو هذا الخنزير أو هذا الدم؛ دفعاً لغاية الموت؛ لأنه إذا مات فلن يعبد الله، إذاً: أذن الله للمضطر اضطراراً قوياً وهو غير مائل بطبعه إلى أن يتلذذ بما حرم الله؛ ولهذا لا يأكل إلا القدر الذي يسد رمقه، لا يشبع، بل يأكل القدر الذي يقيم به صلبه ويمشي.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #348
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (35)
    الحلقة (347)
    تفسير سورة المائدة (40)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون .. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة ومع الثلاث الآيات التي تدارسنا بعضها بالأمس.
    وإليكم تلاوتها مرة أخرى، وتأملوا يفتح الله عليكم:
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ * لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:87-89].
    شرف المؤمنين بنداء الإيمان
    أولاً: أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات أن نداء الله للمؤمنين بعنوان الإيمان فيه شرف لهم عظيم، إذ تأهلوا لأن يناديهم الرب تبارك وتعالى، وهذه فضيلة الإيمان، لولا إيمانهم الصادق الحق الصحيح ما تأهلوا لأن يناديهم، كان سيقول لرسوله: قل لهم، كما قال تعالى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ )[الأعراف:158]، ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )[الكافرون:1]، أما الله فيتنزه أن ينادي المشركين والهابطين من بني الناس، ولكن ينادي الأحياء، فمن هنا عرفنا أن الإيمان الحق بمثابة الروح، المؤمن حي والكافر ميت، وبرهنا ودللنا على أن أهل الذمة في ديارنا نحن -المسلمين- لا نكلفهم بصيام ولا صلاة ولا جهاد ولا رباط ولا زكاة؛ لأنهم كالأموات، يوم يحيون بـ(أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) مرهم يفعلوا، وانههم يتركوا؛ لكمال حياتهم.
    حادثة نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ...)

    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، نادانا هنا ليقول ناهياً مانعاً لنا من أن نحرم ما أحل الله لنا: ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87].
    ذكروا أن لهذه الآية سبباً في نزولها، والقرآن ما نزل دفعة واحدة، نزل في خلال ثلاث وعشرين سنة، بحسب متطلبات الأمة، كلما جد أمر نزل قرآن يبين الحكم فيه.
    وعظ الحبيب صلى الله عليه وسلم رجاله موعظة رقت لها القلوب، فقام عبد الله بن مسعود وعثمان بن مظعون رضي الله عنهما وآخر، وجاءوا إلى أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق ، عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وسألوها عن قيام الرسول في الليل؟ فقالت: كان يقوم وينام. فقال أحدهم: أما أنا فلا أنام بعد اليوم، أحيي الليل كله؛ لأن الرسول مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسألوها عن صيام الرسول؟ فقالت: كان يصوم ويفطر. فقال أحدهم: إذاً سأصوم الدهر ولا أفطر. وسألوها: هل كان يأتي النساء؟ قالت: نعم، فقال أحدهم: إذاً: أنا لن آتي النساء أبداً. رغبة منهم في حب الله وولايته، رغبة منهم في الانقطاع إلى الله.
    وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخبر فقام خطيباً وقال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ إني أصوم وأفطر، وأقوم الليل وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، فسد باب الرهبنة التي يعيش عليها النصارى، يحرمون على أنفسهم ما أحل الله لهم، ونزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87].
    فالنوم طيب يحتاج إليه الآدمي فكيف تحرمه على نفسك؟ وإتيان النساء مشروع وفيه خير، ومما أباح الله وأذن فيه ورغب فيه، فكيف تحرمه أنت على نفسك؟ والصيام ضده الإفطار، فالإفطار يقوي البدن ويزيد في طاقته لينهض بتكاليف الله ومستلزمات هذه الحياة، فكيف تحرم الإفطار لتصوم أبداً؟
    وقال لهم: ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، بينت لكم أن الذي يحرم أو يحلل بدون الله اعتدى على الله، فمن الذي له الحق أن يحرم أو يبيح؟ إنه المالك العالم بمصائر الأمور، أما الجاهل الذي لا يملك فكيف يحرم أو يحلل، بأي حق؟
    (وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، والاعتداء: مجاوزة الحد، قد يكون بينك وبين أخيك بسبه أو شتمه أو انتهاك عرضه أو أخذ ماله، قد يكون بينك وبين نفسك تلزمها بصيام الدهر أو بقيام الليل بدون نوم أو بحرمانها من النساء وإنجاب البنين والبنات، هذا اعتداء على نفسك، واعتداء على الله؛ لأن الله هو المشرع لحكمته وعلمه ورحمته، فلا يصح لآدمي أن يحلل أو يحرم، وإنما الذي يحرم ويحلل هو الله عز وجل، أولاً: لأنه المالك، ثانياً: لأنه العليم بالمنافع والمضار، ثالثاً: لأنه رحيم بأوليائه وعباده، فلا يحرم عليهم طيبات ينتفعون بها.
    أمر المؤمنين بأكل الحلال الطيب وتقوى الله تعالى
    ثم قال لهم ولنا: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:88] حال كونه ( حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، فليس الحرام برزق ولا تقل: هذا رزق رزقنيه الله وهو جيفة أو مال مغصوب أو مال ربا.
    ثانياً: أن يكون طيباً غير مستخبث ولا مستقذر؛ لأنه يسبب مرضك وانحطاط قوتك، فلا بد أن يكون المطعوم والمأكول أولاً مما أذن الله به، والله لم يأذن في مال الربا ولا في مال التلصص ولا السرقة ولا الخيانة أبداً، ولا مال المؤمنين، فما أذن فيه لا بد أن يكون مما أحل الله، ثانياً: أن يكون طيباً ليس بمستقذر ولا مستخبث بحيث تشمئز منه النفس أو يسبب مرضاً للإنسان، هذه مظاهر ربوبية الله ورحمته بعباده.
    ثم قال لنا: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:88]، أي: خافوه، نتقي الله بأي شيء؟ يتقى الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأوامر والنواهي، فيما أمر الله بفعله أو قوله أو اعتقاده، وفيما نهى الله عن اعتقاده أو قوله أو عمله، ومن هنا وجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف أوامر الله بالضبط، ونواهيه كذلك، وإلا فلن يستطيع أن يتقي الله، لا يمكن أن تتحقق تقوى الله للعبد وهو ما عرف أوامره ولا نواهيه، ومن هنا قلنا: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وليس شرطاً أن يكون هناك قرطاس وقلم، وإنما تسأل بلسانك وتطبق بجوارحك يوماً بعد يوم؛ لقول الله تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من كان لا يعلم أوامر الله أو نواهيه يجب عليه أن يسأل العلماء.
    تفسير قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ...)

    لما عرف أولئك الأصحاب رضوان الله عليهم وقد حلف أحدهم أن لا يأتي النساء وآخر أن لا ينام وثالث أن لا يأكل، وارتبكوا ماذا يصنعون في أيمانهم التي حلفوها؛ فرج الله عنهم وأنزل الآية الثانية فبين فيها كيف الخروج من اليمين، وهذا عام لكل مؤمن ومؤمنة، اسمع ما قال تعالى: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ )[المائدة:89]، يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحفظ هذه الآية، هذه مادة من قانون الحياة ودستور دخول الجنة: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ )[المائدة:89]، بماذا؟ ( بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ )[المائدة:89]، والأيمان: جمع يمين.
    أنواع اليمين وأحكامها
    وهنا الأيمان خمس ممكن أن نحصيها ونحفظها، لو كانت تتعلق بالتجارة والبيع لحفظت، لكن هذه علمية ربانية لا يحفظها إلا ولي الله، فكونوا أولياء الله، وليقل أحدكم: لن أبرح مكاني حتى أعرفها.
    أولاً: لغو اليمين، أن يحلف أحدنا على شيء يظنه كذا فيتبين أنه خلاف ما ظن، يا فلان! ناولني عشرة ريالات. فيقول: والله ما عندي يا شيخ الآن معتقداً ذلك، ثم أدخل يده في جيبه فوجد عشرة ريالات، فهل يؤاخذ على هذه اليمين؟
    أو قيل له: أين إبراهيم؟! فقال: والله! إنه في المنزل؛ لأنه تركه في المنزل، وتبين أنه في السوق أو في المسجد، فهذه لغو يمين لا إثم فيها ولا كفارة.
    الثانية: أن يجري على لسانك ما لا تقصد به اليمين، كأن يقال لك: نحن في أي ساعة؟ فتقول: في الساعة السابعة والله، أو هل جاء فلان؟ فتقول: بلى والله جاء، يجري على لسانه الحلف وهو لا يقصده ولا يريده، تعود الحلف فأصبح يجري على لسانه ولا يقصده، هذه أيضاً لغو يمين، ولا إثم فيها ولا كفارة عليها، إذ الكفارة لمحو الإثم، فما دام لا إثم فلا كفارة، فهاتان يمينان من لغو اليمين:
    الأولى: أن يحلف على الشيء يظنه كذا فيتبين خلافه.
    والثانية: أن يجري على لسانه الحلف وهو لا يقصده ولا يريده.
    ويمينان تجب فيهما الكفارة، الأولى: أن يقول: والله! لا أمشي معك، أو: والله! لا أعطيك بعد اليوم درهماً ولم يقل: إن شاء الله، فهذا نسي الله بالمرة، نسي أن الذي يعطي أو يمنع هو الله، وأن ما يريده الله فسيكون، فكان المفروض أن نقول: والله! لا أصاحبك بعد اليوم إلا أن يشاء الله، فالذي يحلف ألا يفعل أو يحلف أن يفعل ثم يحنث تجب عليه الكفارة.
    هذه الصيغة الأولى: أن يقول: والله! لا أكلمك بعد اليوم، كما قال الصحابي: والله! لا آتي النساء بعد اليوم .
    الصيغة الثانية: أن يقول: والله! لتفعلن كذا يلزمك، ولم يقل: إن شاء الله، فلما نسي مشيئة الله، وغفل عن قدرة الله وأنه لا يقع في الكون إلا ما أراد الله تلطخت نفسه بالإثم لنسيانه الله، فبم يزال هذا؟ بمادة معينة وضعها الحليم العليم، فهاتان يمينان تجب فيهما الكفارة؛ لأن فيهما الإثم، ما سبب الإثم؟ أنك تقول: والله لأفعلن ونسيت أن تقول: إلا أن يشاء الله، وإذا لم يشأ الله فهل ستفعل أنت؟ أنت لا تتحرك إلا بإذن الله.
    أو أن تقول لآخر: والله لتفعلن كذا. وهل أنت تقدر على أن تلزمه وتجبره إذا لم يشأ الله؟ هاتان اليمينان فيهما كفارة.
    اليمين الخامسة تسمى باليمين الغموس، من: غمسه ويغمسه في الماء، أو غمس رأسه في الطين، اليمين الغموس: هي التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في جهنم، تغمسه أولاً في أوضار وأوساخ الذنوب والآثام، وبذلك يستحق دار البوار ودار النار، وأعيذكم بالله أن تحلفوها، اليمين الغموس فسرها الحبيب صلى الله عليه وسلم بأن يحلف أحدنا كاذباً ليأخذ مال أخيه أو ليمزق عرضه أو ينال دمه، وهي اليمين التي يتعمدها الحالف وهو يعلم أنه كاذب ليتوصل إلى تحقيق غرض من أغراضه الهابطة.
    هذه اليمين الغموس اختلف أهل العلم: هل فيها كفارة؟ فمالك وجماعات قالوا: هذه لا تكفر بشيء أبداً لا بالصيام ولا بالعتق، لا تكفر إلا بالتوبة النصوح وإرجاع الحق لأهله، يأتي ويقول: يا فلان! حلفت كاذباً لآخذ من مالك، وأتوب إلى الله فخذ مالك الذي أخذت منك، ومع هذا فالأحسن أن يضيف إلى التوبة الكفارة لتطمئن نفسه.

    كفارة اليمين

    خبر انقطاع الوحي لترك رسول الله الاستثناء

    حرص الإسلام على تحرير الرقاب

    ملخص لما جاء في تفسير الآية

    ذكر الله وشكره وعبادته سر الحياة
    معاشر المستمعين! لو قام أحدكم وسأل أهل المنطق والفلسفة وعلوم النفس والاجتماع والسياسة وقال: أطرح هذا السؤال على منتدى أمريكا وإيطاليا: ما هو سر هذه الحياة؟ ما علة هذا الوجود؟ والله ما عرفوا؛ لأنهم أموات غير أحياء، وكيف يعرفونها؟! وهل الميت يعرف؟ لا يعرف، كيف -يا شيخ- وهؤلاء دكاترة في علم النفس، في علم الكواكب، في الذرة، كيف تقول ذلك؟
    والله! إنهم لجهلة أموات حتى يعرفوا ربهم خالقهم ومدبر حياتهم، ثم يخضعوا له ويذلوا ويحبوه ويرغبوا فيما عنده، أما وهم جاهلون بخالقهم فهل يقال: فيهم أحياء؟ هؤلاء أموات.
    والآن تعودون بها إلى دياركم أنكم عرفتم سر هذه الحياة، لم خلق الله الجنة؟ لم خلق الله النار؟ لم خلق الله السماوات؟ لم خلق الله الجبال؟ لم خلق الحيوانات؟ لم خلق الآدميين؟ والجواب واحد: أراد أن يذكر ويشكر فأوجد هذا الكون ليسمع ذكره من أفواه عباده ويرى شكره في أعمالهم، ما أراد بالخلق زوجة ولا ولداً ولا منصباً ولا وجاهة ولا سلطاناً، هو غني عن هذه المخلوقات وهو خالقها، إذاً: ما السر في خلقها؟ السر أن يذكر ويشكر فقط، فلهذا من عاش على ذكر الله وشكره تحققت ولايته وأصبح من أهل دار السلام بما لا جدال فيه، ومن أعرض عن ذكر الله ونسيه وكفر بشكره على آلائه ونعمه فهو هالك مع الهالكين، وخاسر خسراناً أبدياً.
    فانظر: حيث بين الله تعالى لنا هذه الأحكام ثم قال: ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:89]، يا معاشر المستمعين! إذا أكلتم فاشكروا الله، إذا شربتم فاشكروا الله، إذا صليتم فاشكروا الله، بل ادعوا الله أن يعينكم على ذكره وشكره، الرسول يقول لحبيبه: ( يا معاذ ! والله إني لأحبك، لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).
    تعريف بالشرك وبيان بعض صوره
    وقد سمعتم ما قال لقمان لولده: ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )[لقمان:13]، وأنا أعرف موقناً أن من بين الحاضرين عوام وطلبة علم ما جلسوا هذه المجالس، فلا يعرفون الشرك ما هو، فسأضع أيديكم على نقاط: الحلف بغير الله شرك، الذي يقول: وحق النبي، ورأس سيدي فلان، ورأسك يا فلان أشرك بالله عز وجل.

    وهذا رسول الله يقول: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، ما معنى: أشرك؟ أوجد عظيماً من الخلق وأعطاه عظمة الرب وحلف به، ومن هو الأعظم والأكبر: الله أم غيره؟ الله أكبر، فكيف ترفع مخلوقاً وتحلف به تقرنه مع الله؟
    وأنبه الذين يجري على لسانهم الحلف بدون قصد: والله لا نفعل، والنبي، وحق سيدي كذا، هؤلاء كفارة ذنبهم لما يقع في الحلف أن يقول: لا إله إلا الله، فإذا قلت: والنبي فقل: لا إله إلا الله تمحوها، أخبر بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما شاهد المؤمنين الجدد هذا آمن منذ أسبوع وهذا منذ سنة يحلفون كما كانوا يحلفون في الجاهلية، فقال لهم: ( من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله )، تغسلها على الفور.
    فالحلف بغير الله شرك في عظمة الله، سويت مخلوقاً من مخلوقات الله بالله، على المنبر يقول صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، قالها على المنبر.
    فلن يسمع الله منا بعد اليوم الحلف بالأم ولا بالرأس ولا بالكعبة ولا بالنبي ولا بالمصحف أبداً، ومن جرى على لسانه فليقل: لا إله إلا الله يمحها.
    ثانياً: الذي يذبحون للأولياء في نذور على أضرحتهم، أو يقول: هذه لسيدي عبد القادر أو لسيدي مبروك أو لسيدي فلان، هذا النذر لغير الله شرك في عبادة الله، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينذر لغير ربه، النذر لله أن نقول: لك يا رب علي أن أصوم هذا الأسبوع إن فرجت كربي، لك علي يا رب أن أتصدق بألف في هذه الليلة إن فعلت بي كذا وكذا، هذا بينك وبين الله، أما أن تقول: يا سيدي مبروك ويا سيدي فلان لميت تدعوه وتتكلم معه فهذا -والله- لأن يذبح العبد خير من أن يقوله، يحاد الله ويعتدي على شرعه ودينه.
    أما الدعاء فكأن يقف أمام الضريح: يا سيدي .. يا فلان .. يا فلان، هذا من أفضع أنواع الشرك، والله لو تقف أمام علي بن أبي طالب أو عمر بن الخطاب أو رسول الله وتدعو ألف سنة والله ما أجابك، ولا عرف عنك!
    فكل من ينادي ميتاً: يا سيدي فلان! المدد أو الغوث أو كذا؛ فقد أشرك في عبادة ربه غيره ولا ذنب أعظم من هذا الذنب.
    والله نسأل أن يتوب علينا قبل موتنا، من تاب تاب الله عليه، أما من مات يشرك بالله فلا نجاة له من النار، وإليكم بيان الله، يقول تعالى لرسوله: ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[الزمر:65]، ويقول تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا )[النساء:116]، فكيف نفتح أعيننا أمام المخلوقات وننسى خالقها؟! ولكن الجهل هو الذي ساقنا إلى هذا، فهيا نعود إلى قال الله وقال رسوله لننجو من هذه الفتن.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #349
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (36)
    الحلقة (348)
    تفسير سورة المائدة (41)

    قراءة في تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير


    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع هذه الآيات من سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، وشرعنا في دراستنا بالأمس، وها نحن نواصل ذلك اليوم إن شاء الله تعالى، وهيا نستمع إلى تلاوة الآيات المباركات وكلنا يتأمل ويتدبر ويحاول أن يفهم مراد الله من هذه الآيات الكريمة، ثم نأخذ -إن شاء الله- في شرحها كما هي في هذا الكتاب.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:77-81].

    معنى الآيات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات:

    مازال السياق في الحديث عن أهل الكتاب يهوداً ونصارى، فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ )[المائدة:77] يا رسولنا: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )[المائدة:77]، والمراد بهم هنا النصارى: ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ )[المائدة:77]، أي: لا تتشددوا في غير ما هو حق شرعه الله تعالى لكم، فتبتدعوا البدع وتتغالوا في التمسك بها والدفاع عنها، التشدد محمود في الحق الذي أمر الله به اعتقاداً وقولاً وعملاً، لا في المحدثات الباطلة، ( وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ )[المائدة:77]، وهم اليهود؛ إذ قالوا في عيسى وأمه بأهوائهم، فقالوا في عيسى: ساحر، وقالوا في أمه: بغي. ( وَأَضَلُّوا كَثِيرًا )[المائدة:77] من الناس بأهوائهم المتولدة عن شهواتهم، ( وَضَلُّوا )[المائدة:77]، أي: وهم اليوم ضالون بعيدون عن جادة الحق والعدل في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم، هذا ما تضمنته الآية الأولى ]، وهي قوله تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ )[المائدة:77].

    [ أما الآيات بعد فقد أخبر تعالى في الآية الثانية بأن بني إسرائيل لعن منهم الذين كفروا على لسان كل من داود في الزبور، وعلى لسان عيسى ابن مريم في الإنجيل، وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن، فقال تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ )[المائدة:78]، فقد مسخ منهم طائفة قردة، ( وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ )[المائدة:78]، حيث مسخ منهم خنازير، كما لعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في غير آية من القرآن الكريم، وهذا اللعن هو إبعاد من كل خير ورحمة ومن موجبات ذلك في الدنيا والآخرة، سببه ما ذكر تعالى بقوله: ( ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)[المائدة:78]، أي: بسبب عصيانهم لله تعالى ورسله بترك الواجبات وفعل المحرمات، واعتدائهم في الدين بالغلو والابتداع، وبقتل الأنبياء والصالحين منهم.

    وأخبر تعالى في الآية الثالثة بذكر نوع عصيانهم واعتدائهم الذي لعنوا بسببه فقال: ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ )[المائدة:79]، أي: كانوا عندما استوجبوا اللعن يفعلون المنكر العظيم ولا ينهى بعضهم بعضاً،كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ) ] أي: يأكل معه ويشرب ويقعد [ ( فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوبهم بعضهم ببعض، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:78] إلى قوله: ( فَاسِقُونَ )[المائدة:81] ) ]، أي: تلا الآية كما هي: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:78-81].

    [ ( ثم قال صلى الله عليه وسلم: كلا والله ) ]، معاشر المستمعين والمستمعات! هذه لنا، فتأملوها، اسمعوا رسول الله يحلف، اسمعوا رسول الله يبين، قال: [ ( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقسرنه على الحق قسراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم ) ]، هذه لنا، اسمعوا رسول الله بعدما تلا هذه الآيات الثلاث، قال: ( كلا والله )، هكذا يحلف صلى الله عليه وسلم ( لتأمرن ) أيها المؤمنون المسلمون ( بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقسرنه على الحق قسراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم )، أي: كما لعن اليهود والنصارى؛ إذ ما هناك فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين، الكل عبيد الله، الكل عبيد الرحمن عز وجل، الكل يريد الله منهم أن يعبدوه؛ ليسلموا وينجوا وليسعدوا ويكملوا، فإذا لعن اليهود والنصارى لإتيانهم المنكر واستمرارهم عليه، وعدم رجوعهم عنه؛ فنحن إذا استمررنا على الباطل والمنكر والبدع والضلال ولم نتراجع فهل نسلم من لعنة الله؟ الجواب: لا والله، الكل عبيد الله عز وجل.
    ثم قال المؤلف غفر الله له ولكم: [ وفي آخر الآية قبح الله تعالى عملهم ] قبح عمل أهل الكتاب [ فقال: ( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )[المائدة:79]، ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( تَرَى )[المائدة:80] ] بعينيك [ ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ )[المائدة:80]، أي: من اليهود في المدينة، ( يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:80]، يعني: من المشركين أو المنافقين في مكة والمدينة، يصاحبونهم ويوادونهم وينصرونهم وهم يعلمون أنهم كفار تحرم موالاتهم في دينهم وكتابهم ]، اليهود بالمدينة يوالون المشركين، وهم يعلمون أن المشركين كفار ملعونون، يعرفون أن المنافقين نافقوا وأظهروا الإيمان وهم يكرهون الدين ورسول الإسلام والمسلمين، واليهود يوالونهم، فكيف يوالي المؤمن الكافر؟ لو كانوا صادقين في دعوهم الإيمان ما كانوا يوالون الكافرين والمنافقين.

    [ ثم قبح تعالى عملهم فقال: ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ )[المائدة:80]، نتيجة ما حملتهم عليه من الشر والكفر والفساد، وهو سخط الله تعالى عليهم وخلودهم في العذاب من موتهم إلى ما لا نهاية له ] في دار القيامة [ فقال تعالى: ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ )[المائدة:80]، لا يخرجون منه أبداً.

    ثم زاد تعالى تقرير كفرهم وباطلهم وشرهم وفسادهم فقال: ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )[المائدة:81] كما يجب الإيمان به ( وَالنَّبِيِّ )[المائدة:81] محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من الهدى ودين الحق ( وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ )[المائدة:81] من القرآن والآيات البينات ما اتخذوا الكفار والمشركين والمنافقين أولياء، ولكن علة ذلك أنهم فاسقون إلا قليلاً منهم ] أفراد قلائل فقط، [ والفاسق عن أمر الله الخارج عن طاعته لا يقف في الفساد عند حد أبداً. هذا معنى قوله تعالى: ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:81] ].


    هداية الآيات
    معاشر المستمعين! نضع أيدينا على هداية هذه الآيات، فتأملوا.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ هداية الآيات:
    من هداية الآيات:
    أولاً: حرمة الغلو والابتداع في الدين، واتباع أهل الأهواء ]، فمن أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا )[المائدة:77]، ومعنى هذا: أنه يحرم على المسلم أن يبتدع في دين الله، أو أن يغالي فيه، أو يتبع أصحاب الأهواء في دين الله، ومن هنا عرفنا ما حدث في هذه الأمة بعد القرون الذهبية الثلاثة، انتشرت البدع والضلالات والخرافات وتقسمت الأمة وتجزأت؛ بسبب اتباع الأهواء، وتقليد أرباب الأهواء واتباعهم والتعصب لهم، حتى أصبحنا في أسوأ الأحوال، سبب ذلك أننا ما أخذنا بوصايا الحبيب صلى الله عليه وسلم، أما قال: ( عليكم بستني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )، وقد بين لنا الطريق وقد أعلنها واضحة صريحة عندما قال: ( ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )، ستفترق هذه الأمة كما افترق اليهود إلى اثنتين وسبعين فرقة، وكما افترق النصارى إلى إحدى وسبعين فرقة، والله! لتفترقن هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، ووالله! لقد وقع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرق وطوائف ومذاهب، وكلها في النار، لم يا رسول الله في النار؟ لأنها ما عبدت الله بما شرع، فالعبادة التي شرعها الله تعالى هي التي تزكي النفس وتطهرها، أما ما ابتدعه المبتدعة فالعمل به لا يزكي النفس ولا يطيبها ولا يطهرها.

    فقام رجل من أصحابه في ذلك المجلس المقدس الطاهر وقال: من هي الفرقة الناجية يا رسول الله؟ وهذا السؤال يقع لكل المؤمن، فقال صلى الله عليه وسلم -واحفظوا واعملوا وطبقوا واطلبوا النجاة لأنفسكم- قال: ( هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، فيجب أن تكون عقيدتنا عقيدة رسول لله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا نختلف معهم أبداً فيها، يجب أن تكون عباداتنا كما كان رسول الله يعبد الله بها وأصحابه، لا زيادة ولا نقصان ولا تقديم ولا تأخير، يجب أن تكون آدابنا وأخلاقنا كما كان عليه رسول الله وأصحابه، هذا سبيل النجاة، هذا يتوقف على المعرفة، يجب أن نعرف كيف كان يعتقد رسول الله وأصحابه في الله وفي لقائه وفي الإيمان، وما أمر الله بالإيمان به، يجب أن نعرف كيف كان رسول الله يتوضأ ويغتسل ويصلي ويحج ويعتمر، ونفعل كما كان يفعل، يجب أن نعرف كيف كان الرسول يتعامل مع الناس، فنتعامل كما كان يتعامل مع الناس، في آدابنا، في أخلاقنا، في معاملاتنا، هذا -والله- طريق النجاة، العلم أولاً، كيف كان الرسول يعتقد في الله ولقائه والدار الآخرة والملائكة والأنبياء والرسل السابقين، نعتقد كما كان يعتقد، كيف كان الرسول يعبد الله من التيمم إلى الاغتسال، إلى الرباط، إلى الجهاد، إلى القضاء، إلى الحكم، فنقضي ونحكم ونعمل كما كان الرسول صلى الله وسلم يقضي ويعمل، وليس هذا بالمستحيل ولا بالصعب أبداً، كل ما في الأمر أن نهيئ أنفسنا لأن نعبد الله عبادة تزكي أنفسنا وتؤهلنا لرضا الله والسكن في دار السلام مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فلا عنصرية ولا مذهبية ولا طريقة ولا حزب، إنما نحن مسلمون عباد الله، نعبد الله بما شرع، والحمد لله فقد حفظ الله لنا هذا الدين، حفظه بحفظه الخاص، وإلا لكان منذ مائة سنة فقط قد اختلط وما أصبح فيه ما يعبد به الله، لكن الله تعالى قال: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )[الحجر:9]، فحفظ لنا كلامه آية بعد آية في ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية، وحفظ لنا سنة رسول الله وإن داخلها الزيادة والنقص والتبديل، ولكن هيأ الله لها في كل عصر من يصونها ويحفظها كما هي؛ لتقوم الحجة لله على الناس، وإلا لكان على الله أن يجدد الرسالة ويبعث برسول.

    معاشر المستمعين! في الآية الأولى: حرمة الغلو، والغلو: الزيادة، فلا تزد كلمة في دين الله، ما شأنك أن تزيد أنت وتنقص؟ لقد أنزل الله كتابه وبينه رسوله، الصلاة كما صلى الرسول، لو زدت سجدة في صلاة الصبح أو ركعة في صلاة المغرب بطلت صلاتك بالإجماع، ما هو شأنك أن تزيد، لو حاولت أن تنقص تكبيرة واحدة، فقلت: ما هناك حاجة إلى هذه التكبيرة في هذه الصلاة فصلاتك باطلة، ما معنى: باطلة؟ ما تزكي النفس، لماذا الآن نحن نسأل كيف نحج وكيف نعتمر؟ لعلمنا اليقيني أن هذه العبادة إذا لم نفعلها كما بينها الرسول فلن تؤثر على نفوسنا، أي: ما تزكي أرواحنا ولا تطيبها، وعلة العبادة تزكية النفس وتطهيرها، وطلبنا تزكية نفوسنا لعلمنا بحكم الله علينا، ألا وهو: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، فمن أراد الفلاح -وهو الفوز بالجنة بعد النجاة من النار- فليزك نفسه، أي: فليطيبها وليطهرها، وما هي مواد التطهير؟ الإيمان الصحيح كإيمان الرسول وأصحابه، والعمل الصالح الذي شرعه الله تعالى، وهو هذه العبادات من الصلاة إلى الصدقات وغيرها.

    [ ثانياً: العصيان والاعتداء ينتجان لصاحبهما الحرمان والخسران ]، العصيان، أي: عصيان الله ورسوله بعدم فعل ما يأمران به وعدم ترك ما ينهيان عنه، هذا هو العصيان، والاعتداء: هو الظلم وتجاوز الحد، هذان ينتجان لصاحبهما الحرمان من رضا الله وجواره والخسران بالخلود في النار.
    فمن أين عرفنا هذا؟ أما قال تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ([المائدة:78]، بسبب ماذا؟ ( بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ )[المائدة:78]، عصوا رسل الله، عصوا الله ما عبدوه بما شرع لهم، ( وَكَانُوا يَعْتَدُونَ )[المائدة:78] بالظلم والطغيان والشر والفساد.

    [ ثالثاً: حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع ]، حرمة السكوت عن المنكر حين نراه ونسمعه ونسكت، ووخامة عاقبته على المجتمع بكامله، قال تعالى: ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )[المائدة:79]، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه: كان الرجل منهم يرى أخاه على معصية، فينهاه: اتق الله واترك هذه، ومن الغد يراه يفعلها ويكون مؤاكله ومجالسه وقاعداً معه، فمن ثم ضرب الله قلوب بعضهم بعض ولعنهم.

    وهذا بإجماع الأمة، فمن رأى منكراً يجب أن يغيره بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه: يا عبد الله! لا تفعل، فإن لم يستطع بلسانه حيث خاف أن يؤذى في نفسه أو ماله أو أهله فليغيره بقلبه، أما أن نسكت عن المنكر ونرضى به فسوف يعمنا العقاب.
    وضربنا لذلك مثلاً: قرية أو حي من الأحياء يخرجون القمامة ويرمونها عند الباب، هذا يرمي وهذا يرمي وليس هناك من يقول: لا تفعل، وليس هناك من يبعد هذه الأوساخ والقاذورات، يوماً بعد يوم وأسبوعاً بعد أسبوع تتحول تلك إلى بعوض وذباب وحشرات، ثم تتحول إلى أوبئة ويهلك أهل القرية كلهم، بسبب ماذا؟ لما رمى الرجل أو المرأة الوسخ عند الباب ما قال له أخوه: يا أخي! لا تفعل هذا، فهذا سبب مرضنا. لكن لما سكت وسكت الثاني والثالث وأصبحوا يرمون القمامة في الشوارع امتلأت الحارة أو الحي بالأوساخ والقاذورات وعمهم المرض، هذه هي الحقيقة، ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )[المائدة:79].

    إذاً: حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع، فالقرية دخلها رجل جاء بمعصية وأعلنها، فأهل القرية عليهم أن يقولوا: يا فلان! ما ينبغي هذا، لا تبع هذا الباطل في بلدنا، لا تفعل هذا. يقول ذلك الأول والثاني والثالث، فيستحي ويخرج أو يترك هذا، أما أن يشاهدوه ويسكتوا ويفعله الكبير والصغير والذكر والأنثى فإنه تعم الفتنة.
    [ رابعاً: حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد ]، الموالاة: هي المحبة والتعاون، حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد، فلا نحبهم ولا نمد أيدينا لعونهم ومعاونتهم، وبذلك نسلم، أما أن نوالي أهل الشر والكفر والفساد بحبنا لهم وتعاوننا معهم؛ فهذا -والله- هو الحالقة، هذا هو الدمار، دل هذا على قوله تعالى في الآية الكريمة: ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ )[المائدة:80].

    حرمة موالاة أهل الكفر، ولو كانوا آباءنا وأبناءنا ونساءنا وأولادنا، وحرمة موالاة أهل الشر والفساد بيننا، لا موالاة، أي: لا محبة ولا تعاون معهم، بل يجب هجرانهم وتركهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الحق.
    [ خامساً: موالاة أهل الكفر بالمودة والنصرة دون المؤمنين آية الكفر وعلامته في صاحبه ]، موالاة أهل الكفر بم تكون؟ بحبهم ونصرتهم على إخواننا المؤمنين، هذه هي آية الكفر، والله ما آمن، والله ما آمن، والله ما آمن من أحب الكافر ونصره على إخوانه المؤمنين؛ لأن الله قال في بيان المؤمنين والمؤمنات بحق وصدق: ( وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )[التوبة:71]، والمؤمنون بحق وصدق والمؤمنات بحق وصدق من هم؟ ( بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )[التوبة:71]، أي: يتحابون ويتعاونون ويتناصرون، فالذي لا يحب المؤمن -والله- ما هو بالمؤمن، والذي ينصر الكافر على المؤمن -والله- ما هو بمؤمن؛ إذاً لا بد من الموالاة بين المؤمنين والمؤمنات، وهي الحب من بعضهم لبعض، والنصرة من بعضهم لبعض، أما أننا نحب أعداء الله وننصرهم على أولياء الله فأعوذ بالله.. أعوذ بالله! هذا هو الكفر الذي ما بعده كفر، دل على هذا قوله تعالى: ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:81]، والفاسق: الخارج عن طاعة الله ورسوله، هو الذي يتحول إلى أن يحب أعداء الله ويكره أولياء الله، يتحول إلى أن يصبح ينصر الظلمة والمشركين والكافرين على المؤمنين والموحدين والمسلمين.

    هذا والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعلى سائر المؤمنين.
    عباد الله! آخر ما نقول: ينبغي أن نعرف كيف نعبد الله؛ إذ لا سبيل إلى النجاة إلا بمعرفة كيف نعبده، ثم نعبده بما شرع، وعبادة فيها ضلالة وفيها خرافة، وعقيدة فيها الزيغ والزيادة كل هذا خسران كامل، لا بد من أن نعبد الله بما شرع، وبذلك تطهر أنفسنا وتزكو أرواحنا وندخل دار السلام بقضاء الله وحكمه، إذ قال تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

    اللهم زك أنفسنا أنت خير من زكاها، وآتها تقواها أنت وليها وموالاها يا رب العالمين.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #350
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (37)
    الحلقة (349)
    تفسير سورة المائدة (42)

    تفسير قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن ما زلنا مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات من سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، وشرعنا في دراستنا بالأمس، وها نحن نواصل اليوم إن شاء الله تعالى، فهيا نستمع إلى تلاوة الآيات المباركات وكلنا يتأمل ويتدبر ويحاول أن يفهم مراد الله من هذه الآيات الكريمة، ثم نأخذ -إن شاء الله- في شرحها كما هي في هذا الكتاب.
    فهيا نتلوها ونتغنى بتلاوتها مرتين أو ثلاثاً وكلنا يتأمل ويتفكر ويتدبر، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، فإن كان عقيدة اعتقدناها، وإن كان واجباً نهضنا به، وإن كان محرماً تركناه وابتعدنا عنه، وإن كان أدباً تأدبنا به، وإن كان خلقاً تخلقنا به، وإن كان علماً علمناه من أجل أن نستنير به طول حياتنا، فحقق اللهم تعالى ذلك لنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:82-86].

    هيا نتأمل: من القائل: ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:82] ؟ الله عز وجل، هذه آيات كتابه القرآن الكريم، الذي أنزله على مصطفاه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: ( لَتَجِدَنَّ )[المائدة:82]، كأنما قال: وعزتنا ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:82]، من هم الذين آمنوا؟ والله! إنهم لنحن، ( لِلَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:82]، أي: بالله رباً وإلهاً، وبالقرآن كتاباً وبمحمد نبياً ورسولاً، الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر، هم المؤمنون.

    (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً )[المائدة:82]، والعداوة بغض في النفس يحمل صاحبه على أن يبتعد من المؤمنين، ولا يقربهم ولا يأمل لهم خيراً ولا يحب لهم خيراً.

    سبب عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين

    (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا )[المائدة:82]، عرفنا عن اليهود أن الصورة بينت حالهم وفضحت واقعهم، اليهود المعروفون، ( وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا )[المائدة:82]، هم المشركون الكافرون، ولو قيل لك: من يحب المؤمنين؟ فالجواب: والله! لا يحبهم إلا مؤمن، وكل الناس غيرهم عدو لهم، لكن من أشد عداوة لهم؟ اليهود والمشركون، اليهود لأنهم يحلمون بدولتهم أو مملكتهم التي تسود العالم، والذين يقفون حجر عثرة في طريق حلمهم وتحقيقه هم المؤمنون، فلهذا يبغضونهم ويعادونهم أشد العداوة؛ لأنهم في طريقهم ما يستطيعون أبداً أن يحققوا مملكة وجودهم والمؤمنون موجودون في الطريق.والذين أشركوا لأنهم كفرة، فجرة، لا يريدون ديناً ولا استقامة ولا منهجاً ولا عدلاً ولا حقاً ولا توحيداً، يعيشون على الضلال فيكرهون المؤمنين لهذا.
    (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا )[المائدة:82]، من أخبر بهذا؟ الله جل جلاله، هل يمكن أن يخبر الله بغير الواقع؟ تعالى الله عن ذلك، أليس هو العليم الحكيم؟

    إذاً: والله! لأشد الناس عداوة لكم أيها المؤمنون هم اليهود والمشركون، والله الذي لا إله غيره! لأشد الناس عداوة لكم أيها المؤمنون هم اليهود والكفار المشركون.
    معنى قوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ...)

    ثانياً: قال تعالى: ( وَلَتَجِدَنَّ )[المائدة:82] يا رسولنا ( أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً )[المائدة:82]ومحبة ( لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى )[المائدة:82]، أتباع عيسى ابن مريم عليه السلام، النصارى بحق الذين آمنوا بعيسى وألهوه، من حيث العطف والإحسان والرحمة ورقة القلب، ولكن استولت عليهم اليهودية وحولتهم من نصارى إلى بلاشفة، إلى علمانيين، إلى ملاحدة، لا يؤمنون بالله ولا بعيسى ولا بأمه، يقولون: لا إله والحياة مادة، من هنا ذهبت تلك الرحمة وزال منهم ذلك الإحسان وذلك العطف، وذلك الرفق بالناس حتى بالحيوانات؛ لأن القلوب هي التي كانت تعطف وترحم فقلبوها، حولوها إلى مادة. (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً )[المائدة:82] لنا نحن المؤمنين ( الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ([المائدة:82]، واسمع التعليل الرباني، يقول عز وجل: ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا )[المائدة:82]، القسيسون: واحدهم قسيس، ويجمع على: قسس وقساوس وقسيسين، والقسيس: هو العالم العابد، العالم بتعاليم المسيح وكلها رحمة، والرهبان: جمع راهب، الذي يرهب الله، وإذا ذكر الله ارتعدت فرائسه وخاف من الله وانقطع إلى عبادته في الأديرة والصوامع، وكانوا قبل أن تلعب بهم اليهودية والماسونية، كان أحدهم ينقطع إلى عبادة الله يبكي على رأس جبل أو على دار أو صومعة، هذا إخبار الله أم لا؟ ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ )[المائدة:82] أيضاً، يتنافى الكبر والعتو والعلو مع من يرهب الله ويخافه ويعبده.
    تفسير قوله تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ...)

    ثم قال تعالى: ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ )[المائدة:83] محمد صلى الله عليه وسلم، ( تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ )[المائدة:83]، من أجل ما عرفوا ( مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:83]، من هم الشاهدون الذين سألوا الله أن يدون أسماءهم معهم؟ والله! إنهم لأنتم أيها المؤمنون، أما شهدتم أن لا إله إلا الله؟ أما شهدتم أن محمداً رسول الله؟ أما شهدتم أنه لا يعبد إلا الله؟ أما شهدتم أنه لا ظلم ولا فسق ولا فجور ولا كذب ولا خيانة؟ أنتم الشاهدون، سألوا الله أن يكتبهم مع الشاهدين.

    تفسير قوله تعالى: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ...)

    ويقولون: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ )[المائدة:84]، من هم القوم الصالحون؟ نحن الذين أدينا حقوق ربنا كاملة غير منقوصة وأدينا حقوق عباده، فلا نسلب مؤمناً حقه في هذه الحياة، يقولون: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ )[المائدة:84]، أي شيء يمنعنا من الإيمان بالله وما جاءنا من الحق بواسطة كتابه ورسوله، (
    وَنَطْمَعُ )[المائدة:84] ونرجو ( أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ )[المائدة:84].

    ذكر من نزلت فيهم الآيات الكريمات
    من يعنون بالصالحين؟ والله! إنهم ليعنون المؤمنين المسلمين؛ لأن هذه الآيات نزلت في أصحمة النجاشي ملك الحبشة والجماعة التي آمنت معه، لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجموعة من مكة إلى الحبشة حينما لم يطيقوا التعذيب المسلط عليهم من أبي جهل وأضرابه من المشركين والكافرين، قال: اذهبوا إلى الحبشة فإنه يوجد فيها ملك صالح يقال له: أصحمة النجاشي ، وبالفعل مشوا فآواهم واحتضنهم وأطعمهم وسقاهم وأمنهم، ثم لما أشيع أن صلحاً تم بين محمد -صلى الله عليه وسلم- والمشركين جاءوا، فلم يجدوا شيئاً، فعادوا أيضاً، فلما عادوا وهاجر الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مع من هاجر من المؤمنين وكانت وقعت بدر وهزم الله المشركين هزيمة مرة، حيث قتل منهم سبعون صنديداً، وأسر منهم سبعون آخرون، فاجتمع رجال من قريش وقالوا: إذاً: نبعث برسولين من ديارنا إلى أصحمة ونطلب منه أن يعطينا أولئك المهاجرين فنقتلهم ونشفي صدورنا نقمة منهم ومن محمد صلى الله عليه وسلم، فبعثوا رجلين سياسيين: عمرو بن العاص وآخر، وأتوا بهدايا فقدموها للملك أصحمة على أن يعطيهم جعفر ابن عم رسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، فلما وصلوا أنزلهم وهو الكريم رحمه الله، وجمع رجاله وقال: يا جعفر ! اقرأ علينا شيئاً من القرآن، فقرأ سورة مريم، وإذا بعيون القوم تفيض بالدموع والبكاء ويؤمنون، وقص الله تعالى هذا الخبر: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:84-85]، ففيهم نزلت هذه الآيات، بكوا وفاضت أعينهم بالدموع.وعزم أصحمة على أن يأتي إلى رسول الله، وبعث بأولاده، وشاء الله أن تغرق بهم السفينة بالبحر، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بخبر السماء أن أصحمة قد مات، فخرج برجاله إلى هذا المكان وصلى عليه، صلى على النجاشي صلاة الغائب، فرحمة الله عليك أيها النجاشي، وفي السنة السابعة بعد غزوة خيبر جاء جعفر مع رجاله، وكانت فرحة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
    شمول وصف الآيات لكثير من أفراد النصارى
    بهذا عرفنا فيمن نزلت هذه الآية، وهي أيضاً عامة، فكم من قسس ورهبان لما وصلتهم دعوة الرحمن على أيدي أصحاب رسول الله وأحفادهم بكوا ودخلوا في الإسلام وانتظموا في سلك المؤمنين، مئات الآلاف، وإلى الآن لولا السياسة المنتنة واللعبة اليهودية لما ترددوا في قبول دعوة الله لو عرضت عليهم كما هي، فاليهود هم الذين فعلوا ما فعلوا، وما زالوا يعملون على تحقيق أملهم في إيجاد مملكة بني إسرائيل التي تحكم الناس من الشرق إلى الغرب، ولكن عندنا تعاليم وأخبار نبوية صادقة، واسمعوها بالحرف الواحد: ( لتقاتلن اليهود ثم لتسلطن عليهم ) أي: تقتلونهم ( حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله )، ولا عجب أن تنطق الأشجار والأحجار؛ إذ هي آيات النبوة المحمدية، والزمان قريب، ولا نقول: مع المهدي ولا مع عيسى، والله! ما هي إلا أن نسلم في صدق لله قلوبنا ووجوهنا، في يوم واحد والزمان متقارب والبلاد واحدة، ما هي إلا أن يجتمع المسلمون في روضة محمد صلى الله عليه وسلم ويعلن عن وحدتهم وإقامة دين الله بينهم، ثم يزحفون، فيقتلون اليهود حتى ما يبقوا منهم أحداً إلا من هرب وشرد. واليهود يعرفون هذا أكثر مما يعرفه مدرسكم فضلاً عنكم، فلهذا يعملون على نشر الخبث والظلم والشر والفساد والسحر والباطل وحب الدنيا والشهوات والأطماع؛ حتى لا توجد الفئة المؤمنة التي ينطق لها الشجر والحجر كرامة لها، وليس هذا فقط في بلاد المسلمين، بل في العالم بأسره ما يريدون الطهر ولا الصفاء، ولعلكم تسمعون عن أندية اللواط في أوروبا، من أنشأها؟ والبنوك والربا من أنتجه وأخرجه إلى حيز الوجود؟ وقل ما شئت، لا يريدون الطهر ولا الصفاء؛ لأن الطهر والصفاء ينهي وجودهم، وخاصة بين المسلمين.
    فاسمع ما يقول أولئك النصارى: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ )[المائدة:84]، من هم القوم الصالحون؟ الذين أدوا حقوق الله كاملة فعبدوه بما شرع وحده لا شريك له، وأدوا حقوق عباده فلم يظلموا أحداً، لا بإفساد عقيدته ولا بطمس النور من قلبه بتكفيره ولا بسحره، ولا بظلمه بأخذ حقه أو انتهاك حرماته، هؤلاء هم الصالحون، ونحن إن شاء الله منهم، وفي آية الأنبياء قال تعالى: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ )[الأنبياء:105].
    تفسير قوله تعالى: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار ...)

    ثم قال تعالى: ( فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا )[المائدة:85]، أي: جزاهم بما قالوا ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:85]، عجب هذا الكلام! ( وَذَلِكَ )[المائدة:85]، أي: الجنة دار النعيم جزاء من؟ هل جزاء المسيئين المفسدين، أم المحسنين؟ جزاء المحسنين. من هم المحسنون؟ المحسنون -يا أهل الإحسان- هم الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، ففعلت فيهم تلك العبادة فعلها، أحالت نفوسهم وقلوبهم إلى نور وطهر وصفاء، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل وهو يسأله عن الإحسان: ( فأخبرني؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه )، فإن عجزت عن هذه المرتبة فانزل إلى التي تحتها فاعبده وأنت تعلم أن الله يراك، والذي يرزق هذه المراقبة لله ويصبح لا يقول ولا يفعل إلا تحت رقابة الله هل مثل هذا يسيء؟ والله ما يسيء، هذا الذي دائماً مع الله إن قال لا يقول حتى يعرف هل الله أذن له أو لم يأذن في القول، لا يأكل ولا يشرب ولا يعطي ولا يأخذ إلا تحت رقابة الله إن أذن الله في العطاء أعطى، وإن لم يؤذن له ما أعطى، إن أذن له في الكلام تكلم وإن لم يأذن سكت، هذا هو الإحسان وهو ثلث ملة الإسلام، الإسلام مركب من الإيمان والإسلام والإحسان، الدين الإسلامي مركب أو مكون من ثلاثة:أولاً: الإيمان.
    ثانياً: الإسلام، أي: إسلام القلب والوجه لله.

    ثالثاً: الإحسان.
    وقد قال جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم: ( أخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره )، يقيناً كاملاً جازماً، وقبل ذلك سأله عن الإسلام فقال: ( الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً )، وبعد ذلك سأله عن الإحسان فقال: ( أخبرني عن الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه )، الذي يعبد الله في الصلاة، في الوضوء، في الجهاد، في الكلام، في كل العبادات كأنه يرى الله هل يمكن أن يخطئ، أو يزيد وينقص أو يقدم أو يؤخر؟ الجواب: لا، فإن عجز عن هذه المرتبة السامية فهو يعبد الله وهو يعلم أن الله يراه، فكذلك لا يمكن أن يسيء في عبادته.
    عرف هذا إخواننا القسس والرهبان المؤمنون فقالوا: ( وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:84-85]، اللهم اجعلنا منهم.
    تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم)

    ثم قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:86] أولاً، ( وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )[المائدة:86] الحاوية لشرائعنا وهداياتنا وتعاليمنا فلم يعملوا بها، ( أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:86]، الجحيم: النار الملتهبة المتقدة، التي لا يقدر اتقادها، مأخوذة من: جحمت في النار إذا اشتعلت واشتد اشتعالها، ( أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:86] في العالم السفلي، نعوذ بالله من النار ومن الجحيم.الآن نسمعكم تلاوة الآيات فتأملوا: ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:82-86] عياذاً بالله.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    هذه الآيات بعد شرحها كما شرحنا نقول: فيها هداياتها، فانظروا كيف نجد الهدايات.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ هداية الآيات:
    من هداية الآيات:
    أولاً: عظم عداوة اليهود والمشركين للإسلام والمسلمين ] إذ هم المؤمنون.
    [ ثانياً: قرب النصارى الصادقين في نصرانيتهم من المسلمين ]، أما الذين تحولوا إلى ماديين وبلاشفة وشيوعيون واستعماريين يريدون المال والسلطة؛ فهؤلاء انتهوا لا إحسان فيهم ولا رحمة في قلوبهم، كما هو الوقع.
    [ ثالثاً: فضيلة التواضع، وقبح الكبر ]، لقوله تعالى: ( وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ )[المائدة:82].

    [ رابعاً: فضل هذه الأمة وكرامتها على الأمم قبلها ]، لقولهم: ( فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:83]، ومن هم الشاهدون؟ إنهم المؤمنون الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويطيعون الله ورسوله.

    [ خامساً: فضل الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه ]، أما قال تعالى من آخر سورة الحديد: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ )[الحديد:28]، (كِفْلَيْنِ) أي: أجرين: أجر بإيمانهم بعيسى وموسى، وأجر بإيمانهم بمحمد وطاعته، ( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الحديد:28]، ففرق بين مسيحي كان يعبد الله بالمسيحية فآمن فله أجران، ومن كان كافراً مشركاً ودخل في الإسلام فله أجر واحد.

    [ خامساً: فضل الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه ]، بشرط أن يسلم قلبه ووجهه لله، ويحسن إسلامه فما يبقى لصاً ولا ماجناً.
    [ سادساً: بيان مصير الكافرين والمكذبين، وهو خلودهم في نار الجحيم ] أبداً، خلود في نار جهنم.
    [ سابعاً: استعمال القرآن أسلوب الترغيب والترهيب بذكره الوعيد بعد الوعد ]، ذكر الوعيد بعد ذلك الوعد العظيم، فقال: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:86]، وهذا من أجل هداية الخلق، يرغب ويرهب، هذا الذي يريد الخير لك يرغبك في الخير ويخوفك من الشر، أما أن يرغبك في الخير فقط ولا يهددك بالشر فستبقى في شرك.
    تذكير بطريق العودة إلى الله تعالى
    معاشر المستمعين! يا أبناء الإسلام! أكرر القول: هيا نسلم قلوبنا ووجوهنا قبل أن تفوت الفرصة، وهي تفوت يوماً بعد يوم، ما من يوم إلا ومات فلان وانقطع عمله، هيا نسلم قلوبنا لله فلا تتقلب قلوبنا إلا في طلب الله، ونسلم وجوهنا لله فلا ننظر إلا إلى الله، وهذا يتطلب منا أن نرجع إلى الطريق، فنجتمع في بيوت ربنا في مدننا وقرانا في صدق كاجتماعنا هذا، من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، وبنسائنا وأطفالنا أيضاً نجتمع في صدق نتعلم الكتاب والحكمة، ولنستمع إلى قول الله وهو يمتن علينا: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2]، دقت الساعة السادسة فوقف العمل، توضأنا وتطهرنا، وحملنا نساءنا وأطفالنا إلى أين؟ هل إلى دور السينما، إلى المراقص والمقاصف كما يفعل الهابطون اللاصقون بالأرض؟ لا، وإنما نحملهم إلى بيوت الرب، وهل للرب من بيوت؟ إي والله إنها المساجد، ونوسعها حتى تتسع لأفرادنا ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً، نصلي المغرب كما صلينا ونجتمع ويكون نساؤنا وراء ستار، والأطفال كالملائكة صفوفاً ننظمهم قبل أن نأخذ في تعلم الكتاب والحكمة، ويجلس لنا عالم رباني لا يقول: قال الشيخ ولا قال إمامنا ولا قال مذهبنا، وإنما قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، يعلم الكتاب القرآن، والسنة، وقد حفظها الله فجمعت في الصحاح والسنن والمسانيد، وليلة آية من كتاب الله نتغنى بها ربع ساعة بنسائنا وأطفالنا ونحفظها، آية فقط، ونصلي بها النوافل فلا ننساها ونعرف مراد الله منها ماذا يريد من هذه الآية، فإن كان عقيدة عقدناها في قلوبنا فلن تحل إلى القبر، وإن كان واجباً عرفناه ومن ثم نعزم على فعله والنهوض به كيفما كانت حياتنا، وإذا كان محرماً مكروهاً لله مبغوضاً له تركناه وتخلينا عنه، إن كان خاتماً في أصبعي رميته كما رماه الصحابي، وإن كانت علبة سجائر دستها عند الباب، ونصدق في إقبالنا على ربنا عز وجل، والليلة الثانية نأخذ حديثاً من أحاديث رسول الله المبينة لكتاب الله، الشارحة والمفسرة لمراد الله من كلامه، وهكذا يوماً آية ويوم حديثاً، ونحن ننمو في صفاء أرواحنا وزكاة أنفسنا وآدابنا وأخلاقنا، والله الذي لا إله غيره! لن تمضي سنة على أهل الحي أو القرية إلا وهم ككوكب في هذه الدنيا، لم يبق خلاف ولا فرقة ولا نزاع ولا شقاق، لم يبق سوء في مظاهر حياتنا، لا خيانة، لا غش، لا كذب، لا خداع، لا زنا، لا فجور، لا ربا؛ لأنها سنة الله، فالطعام يشبع أو لا؟ النار تحرق أو لا؟ الحديد يقطع أو لا؟ فهل الكتاب والحكمة لا يزكيان النفوس؟ مستحيل، وينتهي الفقر والبؤس، ونصبح ككواكب في السماء، ويأتي الناس ويؤمنون بديننا ويدخلون في رحمة ربنا.هل هناك -يا شيخ- حل غير هذا؟ والله لا وجود له، ما هو إلا الكتاب والسنة، نتلقاها بصفاء الروح وصدق النية، وكلنا راغب في أن يسمو ويعلو في الملكوت الأعلى، فهيا نجرب، فالذين يحضرون هذا المجلس هل يوجد بينهم زان، سارق، كاذب، غاش، خادع، لوطي، سباب، شتام؟ لا يوجد، لأنهم تعلموا وعرفوا.


    والله تعالى أسأل أن يمدنا بعونه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #351
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (38)
    الحلقة (350)
    تفسير سورة المائدة (43)

    منهج رسول الله طريق الخلاص من المحن

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة.
    معاشر المستمعين والمستمعات! نحن مع هذه الثلاث آيات:
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ * لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:87-89].

    معاشر المستمعين! أكثركم حجاج بيت الله الحرام، نحن على نهجنا في هذه الدعوة ندرس أربع ليالٍ كتاب الله عز وجل، وهي ليالي: السبت والأحد والإثنين والثلاثاء، وندرس يوم الأربعاء (عقيدة المؤمن)، ويوم الخميس ندرس السنة النبوية الطاهرة الشريفة من الجامع الصحيح للإمام البخاري ، وندرس السيرة النبوية العطرة يوم الجمعة ليلة السبت، وهذا الذي ندعو إليه إخواننا المؤمنين في ديارهم.
    يا معاشر المستمعين! اعلموا -والعلم ينفع- أنه لا سبيل لنجاتنا والخروج من فتننا وما نتعرض له من الإحن والمحن إلا العودة إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا المنهج الرباني الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتهجه ويدعو أمته إليه، وهو أن نجتمع في بيوت ربنا كل ليلة وطول عمرنا وحياتنا نتلقى الكتاب والحكمة، إن محننا قديماً وحديثاً ومستقبلاً هي ثمرة جهل هذه الأمة، وبعدها عن كتاب ربها وهدي نبيها صلى الله عليه وسلم، إن شئت حلفت لكم بالله على أن ما نشكوه من الكذب والخيانة والظلم والخبث والشر والفساد والفتن والله إنه لثمرة الجهل بالله وبمحابه ومساخطه، وبما هيأه لأوليائه وما أعده لأعدائه، الجهل هو سبب هذا الشقاء، سبب هذه الفتن وهذه المحن، والطريق إلى أن نعلم ونتعلم هو أن نجتمع في بيوت ربنا عز وجل، وذلك كل ليلة، لا يوماً في الأسبوع ولا يومين ولا ثلاثة، دقت الساعة السادسة مساءً فنلقي بآلات العمل من أيدينا ونتوضأ ونحمل نساءنا وأطفالنا إلى بيوت الله عز وجل نتعلم كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والله ما يمضي على المؤمن الصادق في إيمانه الذي يتعلم الكتاب والحكمة سنة واحدة إلا وهو من أفقه الناس وأعلمهم، وأعرفهم بمحاب الله ومساخطه وأقدرهم على فعل المحبوب لله وترك المكروه لله، وهذا هو سبيل النجاة، فها نحن في هذا المسجد طول العام، ومع الأسف الناس في المقاهي والملاهي، وفي المتاجر والملاعب، ويهجرون هذا العلم، ثم نشكو، فماذا نشكو؟ لم يوجد الظلم؟ لم يوجد الخبث؟ لم يوجد الفساد؟ لم يوجد سوء الأخلاق، لم يوجد الهبوط في الآداب؟ كيف نتأدب؟ كيف نكمل؟ كيف نسعد بدون أن نقرأ كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والله يمتن على هذه الأمة ويقول: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2].

    وهذا إبراهيم عليه السلام مع ولده إسماعيل عليه السلام وهما يبنيان الكعبة يقولان: ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ )[البقرة:129]، واستجاب الله لإبراهيم وإسماعيل، وبعث في ذرية إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم، ونبأه الله وأرسله وأنزل عليه كتابه، وكان يجمع أصحابه ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.

    فيخرج من هذا المسجد علماء لم تحلم الدنيا بمثلهم، ربانيون من أهل الصدق والكمال والعلم والمعرفة، والله! ما عرفت الدنيا أفضل من أولئك الأصحاب باستثناء الأنبياء والرسل، كيف كملوا وفازوا، وأصبحوا مضرب المثل في الآداب والأخلاق والعلم والمعرفة والطهر والصفاء، كيف حصلوا على هذا؟ والله! إنه من طريق تعلمهم الكتاب والحكمة.
    العلم سبيل تحقيق التقوى

    وأقول لكم في علم: أقسم لكم بالله على أن أتقى أهل القرية هو أعلمهم بالله عز وجل وبمحابه ومساخطه، في مدينتك، في حيك، أقسم لك بالله أن أتقاهم لله أعلمهم بالله، ونظير ذلك: أفجرنا في قريتنا أجهلنا بربنا وبمحابه ومساخطه، ولا نستطيع أن ننتسب إلى الإسلام بالاسم فقط ونحن ما نعرف محاب الله ولا مساخطه ولا كيف نتملق إلى الله ونتزلف إليه بما يحب أن نتملقه به من أنواع العبادات والطاعات التي شرعها، فكيف نعالج هذا المرض؟ لا علاج إلا بأن نصدق الله في إيماننا وإسلامنا ونجتمع في بيوت ربنا التي بنيناها بأيدينا أو بنيت لنا، نجتمع فيها، النساء وراءنا والفحول أمامنا والأطفال بين أيدينا، ونتعلم الكتاب والحكمة، ليلة آية من كتاب الله، ندرسها بعد أن نتغنى بها ونحفظها ونفهم مراد الله منها وكلنا عزم على تحقيق مراد الله منها، إن كان عقيدة اعتقدناها، وإن كان أدباً على الفور تأدبنا به، وإن كان خلقاً تخلقنا به، وإن كان واجباً نهضنا به، وإن كان محرماً ابتعدنا عنه وكرهناه وتركناه، ولا نزال نعلم ونعمل ونسمو حتى نصبح كالملائكة في الأرض طهراً وصفاء، وها نحن مع هذه الجماعة المؤمنة في هذه الحلقة، هيهات هيهات أن من لازمها سنة يسرق أو يزني أو يكذب أو يفجر أو يرابي أو يغش أو يخدع أو يخلف وعده وهو قادر على الوفاء، هيهات.. هيهات!
    ولكن الذين ما يجلسون في حجور الصالحين ويتعلمون هم الذين تعبث بقلوبهم الشياطين، وتحولهم إلى الكذب والخيانة والفجور والباطل والشر والفساد، فكيف يجيء هذا؟ لأننا ابتعدنا عن فيض الرحمن وأنواره وعن الكتاب والسنة.
    هذه ثلاث آيات لو يحفظها مؤمن أو مؤمنة ويفهم مراد الله منها ويعمل بها فسيسمو ويرتفع.

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ...)

    نداء المؤمنين لكمال حياتهم
    يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، يا أهل الحلقة! أجيبوا. قلنا: لبيك اللهم لبيك، ما إن ينادينا حتى نقول له: لبيك اللهم لبيك. ينادينا ربنا بعنوان الإيمان: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، ومن يعرض فقد كفر، من يغلق أذنيه ولا يسمع فقد كفر، أينادينا ذو الجلال والإكرام رب الأرض والسماء وما بينهما، الحي القيوم، خالقنا ورازقنا ثم لا نصغي ولا نستمع ولا نقول: لبيك، ولا نأخذ ما يعطينا ولا نفعل ما يأمرنا به؟ هل أموات نحن أم أحياء؟ الجواب: أهل الإيمان أحياء، الإيمان بمثابة الروح، والله إنه لبمثابة الروح، المؤمن حي يسمع، يعي، يأخذ إذا أعطي، يمتنع إذا منع؛ وذلك لكمال حياته، والكافر ميت، الكافر بالله ولقائه، بالله وكتابه، بالله ورسوله، بالله ووعده ووعيده، والله! إنه ميت، فلا يؤمر ولا ينهى؛ لأنه ميت، والبرهنة على هذه الحقيقة بلغوها: هل أهل الذمة تحت رايتنا في دولتنا الإسلامية نأمرهم بالصيام إذا دخل رمضان؟ هل نقول: يا يهود! صوموا غداً رمضان؟ لا والله. آن أوان الحج فهل نأمر يهودياً أو مسيحياً ليحج؟ لا نأمره. آن وقت الزكاة، فهل نقول: يا معشر اليهود أو النصارى في بلادنا! أخرجوا زكاة أموالكم؟ لا والله أبداً. لم؟ لأنهم أموات، إذا نفخنا فيهم روح الحياة فحييوا بالإيمان فحينئذ مرهم يفعلون، وانههم ينتهون؛ لكمال حياتهم.
    فهل عرفتم الآن أن الإيمان بمثابة الروح أم لا؟ ها هو ذا تعالى ينادي المؤمنين ليأمرهم ويفعلون، لينهاهم وينتهون، ليبشرهم فيستبشرون، ليحذرهم فيحذرون، ليعلمهم فيتعلمون؛ وذلك لكمال حياتهم، ويعيش المسلمون في قراهم عشرات السنين ما يسمعون نداء الله ولا يستجيبون، فكيف هذا؟ لأنهم محرومون، أبعدتهم الشياطين عن بيوت الله وعن كتاب الله وهدي رسوله، القرآن في ديار العالم الإسلامي لا يجتمع عليه أهل القرية أو أهل الحي إلا من أجل أن يقرءوه على ميت فقط.
    اسمحوا لي أقول لكم: من منكم يقول: يا شيخ! أنا كنت إذا جلست في المسجد أقول لحافظ القرآن: من فضلك تعال اقرأ علي شيئاً من القرآن. أو أجلس في البيت وأقول لمن يحفظ القرآن من الأسرة: من منكم يسمعنا شيئاً من القرآن ؟ أو نعمل في شركة، في مؤسسة، وجاءت ساعة الاستراحة، فمن منكم يقول: نقول لأخينا: أسمعنا شيئاً من كلام ربنا؟ الجواب: لا أحد.
    وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم المنزل عليه القرآن الوحي الإلهي بواسطة جبريل عليه السلام، والله العظيم! لجلس يوماً مع أصحابه فقال لـعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( يا ابن أم عبد -وهذه كنيته- اقرأ علي شيئاً من القرآن، فيعجب عبد الله بن مسعود ويقول: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأ عبد الله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )[النساء:1]، إلى أن انتهى إلى قوله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا )[النساء:41]، وإذا برسول الله تذرف عيناه الدموع وهو يقول: حسبك.. حسبك يا عبد الله ).

    فهل جلس اثنان وطلب أحدهما أن يقرأ عليه أخوه شيئاً من القرآن؟ فلهذا عمنا الظلام، وسادنا الجهل، وإن طرنا في السماء وغصنا في الماء، وحللنا ذرات الكون، وعرفنا علل الحياة، فهذا كله غير مجدٍ ولا محيٍ، وإنما الذي يجدي ويحيي الإيمان بالله ولقائه، الإيمان بالله ورسوله، الإيمان بالله وكتابه، وآية الإيمان بالله وكتابه: أن نقرأ كتابه ونتعرف على ما يحمله من أنور الإله الهادية إلى السعادة والكمال؛ لنعرف ما يحب الله وما يكره الله.

    نهي الله عباده عن تحريم الطيبات والعدوان على المحرمات

    يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87] يناديكم ليقول لكم: ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، فهل نستجيب أم لا؟ أعوذ بالله.. أعوذ بالله! الجبار القهار وليك ومولاك ينهاك أن تحرم طيباً مما أحل لك فلا تلتفت إليه ولا تقبل كلامه؟! (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87] أولاً، ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، ولا تتجاوزوا الحد المحدود لكم، أنتم عبيده، ما أحله لكم فأحلوه وتناولوه، وما حرمه عليكم فحرموه وابتعدوا عنه واجتنبوه، وإن اعتديتم فإنه لا يحبكم، ومن لا يحب الله هل سيسعد؟ هل سيكمل وينجو؟ والله ما كان، بل يخسر ويحترق ويتحطم؛ لأن الله لا يحب المعتدين، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87]، من هم المعتدون؟ المتجاوزون لما حد لهم، أحل لهم كذا وكذا، فتجاوزوا ذلك إلى ما حرم.
    تفسير قوله تعالى: (وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون)
    ثم قال لنا: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، لم يرزقك الله بالحرام أبداً، وكونه طيباً أي: غير مستقذر ولا مستخبث، حلال أحله الله، وليس به قذر أو وسخ يؤذيك ويضرك في بدنك.

    كيفية تحقيق التقوى

    (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88]، كيف نتقيه؟ بماذا؟ بالحصون والأسوار أو بالجيوش الجرارة أو بالدخول في السراديب؟ كيف نتقي الله وبيده كل شيء، وبين يديه كل شيء؟ كيف نتقي الله يا عباد الله؟ لقد أمركم أيها المؤمنون بأن تتقوه، فكيف نتقيه؟ بماذا؟ نحن نتقي الشمس بالمظلة، ونتقي الجوع بالخبز، ونتقي الحر والبرد بالملابس، والله كيف نتقيه؟ بلغنا أن رجلاً بالهند أو بالسند أو بالشرق أو الغرب يعرف بم يتقى الله؛ فوالله لنسافرن إليه أو نبعث برجال منا ليأتونا بخبر منه كيف نتقي الله، بلغنا أن هناك من يعرف بم يتقى الجبار، وأنه يوجد في مكان كذا فيجب أن نرحل إليه، ولا تعجب؛ والله! لقد رحل جابر بن عبد الله من هذه المدينة إلى حمص ببلاد الشام على راحلته مسافة أربعين يوماً ذهاباً وإياباً؛ من أجل خبر واحد، بلغه أن صحابياً بديار الشام بمدينة حمص يقول عن رسول الله كذا وكذا، وسأل أهل المدينة فما عرفوا، فركب راحلته إلى حمص ليعلم هذا منه. ووالله! لقد كان أهل الأندلس يأتون على بواخرهم، تلك البواخر التي الآن لا تركب، يسافرون الشهرين والثلاثة ونصف العام ليجتمعوا هنا على مالك بن أنس وشيخه ربيعة ويتلقون السنة، يحفظونها ويكتبونها وينقلونها إلى أقصى الغرب في ذلك الزمان.
    والآن بم نتقي؟ لقد أمرنا الله ربنا بأن نتقيه فقال: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:57] به، بعظمته وجلاله، بسلطانه وقدرته، بما لديه وما عنده، اتقوه، فبم نتقيه؟

    معشر المستمعين والمستمعات! هل نحن حقاً راغبون في معرفة ما نتقي به الله؟ والله لو أن رجلاً منا فحلاً فهم ما قلت لقال: والله! يا هذا لن تبرح مكانك حتى تعلمنا بم نتقي الله، أقسم بالله! لو أن شخصاً آمن وكان المؤمن وفهم ما قلت لقال: والله! يا هذا لن تقوم من مقامك حتى تعرفنا بم نتقي الله؟ لا يقوم غير مبال، اللهم إلا إذا كان قد عرف من قبل بم يتقى الله؟
    إذاً: يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله، وذلك بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله فقط، أتريد أن تتقي عذاب الله وسخطه؟ اتقه بشيء واحد فقط: أطعه وأطع رسوله فيما يأمران به عباد الله وينهيان عنه عباد الله، من أطاع الله ورسوله في الأمر والنهي جعل بينه وبين عذاب الله وقاية، لا يصل إليه عذاب الله أبداً.
    فالله تعالى لا يتقى بالجيوش والأسوار والحصون أبداً، لا يتقى إلا بطاعته بفعل ما يأمر به وترك ما ينهى عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بأمر الله وينهى بنهي الله.

    العلم سبيل التقوى
    يبقى سؤال آخر: يا علماء.. يا بصراء.. يا رجال السياسة.. يا علماء المنطق! هل يمكنك يا عبد الله أن تطيع الله فيما أمر به ونهى عنه، وفيما أمر به الرسول ونهى عنه وأنت لا تعرف ما أمر الله به ولا ما نهى عنه؟ مستحيل. فمن هنا عدنا من حيث بدأنا، يجب أن نتعلم، أن نعرف محاب الله ما هي، ومكارهه ما هي من أجل أن نفعل المحبوب ونتخلى عن المكروه.ولعلها رخيصة، فوالله الذي لا إله غيره! لأن تعلم هذه القضية خير لك من مليار دولار، ولأن ترجع إلى أهلك وبيتك فرحاً بها -والله- خير من الدنيا وما فيها؛ لأن المائة دولار قد تحترق بها، وتحملك على الفسق والفجور والظلم والشر والفساد وتخسر خسراناً أبدياً.
    إذاً: الحمد لله، عرفنا بم نتقي ربنا، أي: بطاعته وطاعة رسوله فيما يأمران به وينهيان عنه؛ لأن ما يأمر الله به ورسوله يجنب غضب الله وسخطه ونقمه وعذابه، أليس كذلك؟ وترك ما نهى الله ورسوله عنه هو نجاتنا من الأذى والشر والبلاء والسخط في الدنيا والآخرة، فهذا عرفناه، وعرفنا أيضاً كيف نتقي الله وننجو من عذابه بمعرفة ما يحب وما يكره، أما ونحن لا نعرف ما يحب وما يكره، فكيف سنفعل المحبوب ونحن لا نعرفه؟ كيف نتجنب المكروه لله ونحن ما عرفناه؟ ومن هنا كان طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
    وكيف نحصل على هذا العلم؟ قال الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم: ( إنما العلم بالتعلم )، في صحيح البخاري ، والله يقول: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من يعلم من رجل أو امرأة يجب عليه أن يسأل أهل العلم حتى يعلم، وليس شرطاً أن تنقطع عن بستانك أو دكانك أو عن عملك حتى تتعلم، كلا، ابق في عملك ثم اسأل: ماذا يحب ربي من الكلام، يقول لك: يحب كذا وكذا، فقل هذا الكلام وتملق به إلى الله، ما الذي يحب ربي من النيات؟ يقول: يحب النيات الصادقة، ماذا يحب ربي من الأعمال؟ يحب كذا وكذا، وأنت تتعلم وتعمل، ولا تزال تتعلم وتعمل حتى تكمل وتبلغ مستوى الكمال البشري.
    سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ...)
    نادنا الرب جل وعلا فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، لبيك اللهم لبيك، ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:87-88]، على شرط: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88]. أذكر لكم سبب نزول هذه الآية، فهذا القرآن ما نزل مرة واحدة أو جملة واحدة، نزل في خلال ثلاث وعشرين سنة، بدأ نزوله بـ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ )[العلق:1] في غار حراء، وانتهى بآية نزلت في هذه المدينة: ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )[البقرة:281]، ثلاث وعشرون سنة نزل فيها الكتاب المكون من مائة وأربع عشرة سورة، في ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية.

    إذاً: هذه الآية سبب نزولها أن ثلاثة نفر: عبد الله بن مسعود وعثمان بن مظعون وثالث اشتاقوا إلى دار السلام إلى الجنة والرضوان، فأتوا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، والذي في الحلقة لا يعجبه الترضي عنها فليعلم أنه كافر ولعنة الله عليه، وليتب إلى الله، وليدخل في الإسلام وإلا فهو كاليهود والنصارى، أو هو مسكين أضلوه وغلطوه وجهلوه، لكن إن سمع الآن فهو من أهل العلم، إذاً: فليتب إلى الله، وليقل: آمنت بالله.. آمنت بالله، رضي الله عن أم المؤمنين عائشة ، لينجو، وإن أصر على الباطل فوالله لن يدخل دار السلام؛ لأن الذين لا يترضون عنها ساخطون عليها غاضبون يلعنونها؛ لأنهم قالوا لهم: إنها فجرت، زنت! وأعوذ بالله! امرأة رسول الله لا يصونها الله لرسوله، لا يحفظها لنبيه وتفجر وتزني حتى تلعن؟! ما تقولون فيمن يرمي رسول الله بالدياثة؟ هل يبقى مؤمناً؟! أعوذ بالله.. أعوذ بالله.. أعوذ بالله! لقد أنزل الله تعالى في هذه الحادثة -حادثة الإفك- سبع عشرة آية من كتابه من سورة النور، ولا نقرؤها ولا نسمع من يقرؤها ونحولها ونؤولها، وتختم الآية: ( وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )[النور:26]، وأنت تقول: عائشة زنت وملعونة ولا تترضى عنها؟! لا إله إلا الله، آمنا بالله!

    فعائشة أم المؤمنين، قال تعالى: ( وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ )[الأحزاب:6]، هذه الصديقة حب رسول الله بنت حب رسول الله، بنت أبي بكر الصديق ، دخلوا عليها وسألوها عن صيام الرسول وقيامه، وقالوا فيما بينهم: الرسول غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فأحدهم قال: أنا أصوم الدهر ولا أفطر أبداً. والثاني قال: أنا لا آتي النساء. والآخر قال: أنا أقوم الليل ولا أنام، شوقاً إلى الملكوت الأعلى ودار السلام، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المسجد من حجرته وخطب الناس وقال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ )، وهذا من كمال آدابه ورحمته، لم يقل: يا فلان وفلان يفضحهم، وإنما قال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ إني والله ولأتقاكم لله وأشدكم له خشية، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، ونزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، يا ابن مظعون ، يا ابن مسعود، يا فلان! ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، تتجاوزوا الحد، ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:87-88]، فعدلوا عما عزموا عليه، أصبحوا يصومون ويفطرون في حدود طاقتهم ويقومون الليل وينامون في حدود طاقتهم، والرهبان في الصوامع، وبعض المتعنترين من المتصوفين يقولون: فلان لا يأكل اللحم أبداً! أتحرم ما أحل الله لك؟ لا تأكل اللحم إذا كان حراماً، لا تسرق ولا تأكل جيفة، أما وقد أحل الله لك اللحم وتدعى في بيوت إخوانك ويقدم لك فتقول: أنا لا آكل اللحم زهداً فيه، وآخر يلبس ثوباً من الصوف يلفه عليه وعنده القطن وعنده المال، فلم تحرم ما أحل الله لك؟ إذاً: فالعدل العدل: ( وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87].


    التربية المسجدية ودورها في تحقيق التقوى
    معاشر المؤمنين! عرفنا أننا مأمورون بأن نعرف ما يحب الله وما يكره من أجل أن نتقيه بفعل ما أمر وبترك ما نهى، وبذلك نتقي ربنا.ومن فهنا فالطريق -يا عباد الله- هو أن أهل القرية في قريتهم وأهل الحي في مدينتهم إن كانوا صادقين في إيمانهم ودقت الساعة السادسة وقف العمل، واليهود والنصارى في أوروبا وأمريكا واليابان والصين إذا دقت الساعة السادسة يوقفون العمل، رأيناهم بلا عمل، ويحملون أطفالهم ونساءهم إلى دور السينما، إلى المراقص، إلى المقاصف، إلى الملاهي، وهل نحن مثلهم؟ لا، نحن أهل السماء وهم أهل الأرض، نحن الأحياء وهم الأموات، نحن المؤمنون وهم الكافرون، نحن أطهار وهم الأخباث.
    إذاً: هم يذهبون إلى دور السينما ونذهب إلى بيوت الرب الطاهرة، أطفالنا أمامنا ونساؤنا وراءنا ونتلقى الكتاب والحكمة كل ليلة وطول العمر، وحينئذٍ هل يبقى في القرية فاجر، ساحر، دجال، كذاب؟ هل يبقى في القرية عار لا يجد ثوباً يكتسي به، أو يبقى في القرية جائع والجوع يمزقه؟ والله ما كان ولن يكون، وهل نحتاج بعد ذلك إلى بوليس وحرس؟ لا نحتاج ذلك، كلنا كالملائكة في الطهر والصفاء لا خيانة ولا غش ولا خداع، وهل يبقى بيننا وثني أو مشرك أو خرافي أو ضال أو علماني تائه في متاهات الإلحاد؟ لا والله، فإن لم نقبل على الله في صدق كما بينت لكم؛ فوالله لا نزال في الإحن والمحن والبلاء والشقاء حتى نلقى الله تعالى، بلغوا والله معكم.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #352
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (39)
    الحلقة (351)
    تفسير سورة المائدة (44)

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
    وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، ذات الأحكام الشرعية والقوانين الربانية، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، فهيا نتغنى بها، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما فيها، وهذا هو المطلوب منا إزاء كتاب الله، وليس المطلوب منا أن نقرأه على الموتى في بيوت الهلكى أو على قبورهم، والله ما شرع هذا الله ولا رسوله، وإنما شرع الله هذا الكتاب ليتلى في بيوت الله وبيوت المؤمنين، ويتدبر ويفهم مراد الله منه، هذا الكتاب القرآن الكريم يجب أن يجتمع عليه المؤمنون، وأن يتدارسوه، وأن يفهموا مراد الله منه، وبذلك يمكنهم أن يعبدوا الله عبادة تزكي أنفسهم وتؤهلهم لولاية الله عز وجل.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ * لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:78-89].

    عجب هذا القرآن، عجب والله، وصدق إخوان لنا من الجن لما سمعوه والرسول يصلي الصبح في بطن نخلة عادوا وقالوا: ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا )[الجن:1-2]، فهيا ندارس هذه الآيات الثلاث:

    قول ربنا جل ذكره: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، هذا النداء نداء من؟ نداء الله. إذاً: الله موجود، وكيف يوجد كلامه وهو غير موجود؟ لو تجتمع البشرية كلها فهل ستوجد كلاماً بدون متكلم؟

    هذا الكلام يحوي العلوم والمعارف والحكم والقوانين والشرائع، إذاً: منزله أعلم العالمين وأحكم الحاكمين، وكيف لا وهو خالق كل شيء ومليكه؟ فالحمد لله أن أصبحنا أهلاً لأن ينادينا رب العالمين، هذه نعمة لا يعرف قدرها أحد من المؤمنين الحاضرين أو الغائبين، ملك الملوك جل جلاله وعظم سلطانه، من بيده الحياة والموت، والإعزاز والإذلال والغنى والفقر، والإيجاد والإعدام يتفضل علينا وينادينا، ومن نحن؟ ونادانا بعنوان الإيمان، ما قال: يا بني آدم، ولا يا بني هاشم، ولا يا بني تميم، نادانا بعنوان الإيمان: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، فلبيك اللهم لبيك.

    سر نداء الله تعالى المؤمنين بعنوان الإيمان
    والسر في ندائه تعالى لنا بعنوان الإيمان يا نبهاء ويا شرفاء، السر في ذلك: أن المؤمن بحق حي يسمع النداء ويجيب المنادي، ويفعل ما يأمره به وينتهي عما نهاه عنه، وذلك لكمال حياته، فمن هنا علمنا بعلم الله أن المؤمن الحق حي، وليس بميت، والبرهنة أن الله يناديه إما ليأمره بما ينجيه ويسعده، أو ينهاه عما يشقيه ويخسره، أو يناديه ليبشره فتزداد صالحاته، أو لينذره فيتحفظ من الوقوع في السيئات والمهلكات، أو يناديه ليعلمه، وهذا بالاستقراء والتتبع لنداءات الرحمن في كتابه العظيم القرآن الكريم، وقد جمعناها، وهي تسعون نداءً ألا نداء احتوت على الشريعة الإسلامية بكاملها، تسعون نداء، وهي تحوي شريعة الإسلام من العقيدة إلى العبادة إلى الآداب، إلى الأخلاق، إلى الأحكام، في السياسية، في السلم والحرب، في كل الحياة، وأكثر المؤمنين لا يعرفون عنها شيئاً، تسعون نداء، ودرسناها في ثلاثة أشهر، ورغبنا المؤمنين والمؤمنات في الحصول عليها والاجتماع عليها في البيوت والمساجد وأماكن الاستراحة، يجتمعون على نداء يسمعون بآذانهم نداء الله لهم، فيفهمون ما يريد منهم مولاهم ويطيعونه فيكملون ويسعدون.وذكرنا أن هذه النداءات يجب أن تترجم إلى اللغات، وأن يوضع كل كتاب على سرير في فنادق العالم الإسلامي، إذا جاء النزيل قبل أن ينام يفتح ذلك الكتاب فيسمع نداء ربه إليه، فيبيت قرير العين جذلان فرحاً، وما فعلنا، ومن ثم عرفنا أن المؤمن حي، ولذلك يناديه الله عز وجل إما ليأمره بما يكمله ويسعده، أو لينهاه عما يشقيه ويرديه، أو يبشره بما يزيد في أعماله الخيرية الصالحة، أو ينذره ويحذره ليحذر ويتجنب، أو ليعلمه ما هو في حاجة إليه، أما الكافر فهو ميت.
    والدليل على موت الكافر: أنه أيام كنا في علياء السماء وتحتنا أهل الكتاب من يهود ومجوس ونصارى يعيشون تحت رايتنا وفي ذمتنا آمنين فهل كنا نأمرهم إذا أهل هلال رمضان بأن يصبحوا صائمين؟ لا والله، هل نعلمهم بأن الزكاة قد وجبت فأخرجوا زكاة أموالكم؟ والله ما نأمرهم، هل نقول لهم: إن الحج آن أوانه والمسلمون يتهيئون فحجوا؟ والله ما نأمرهم، لماذا؟ إنهم أموات غير أحياء وما يشعرون، حين ننفخ فيهم روح الإيمان ويصرخ صاحبها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، هنا قل له: اذهب فاغتسل فيفرح ويسر ويذهب ويغتسل، وتقول: هيا لتركع وتسجد فيصلي راكعاً ساجداً، وأصبح متهيئاً لكل أمر الله ورسوله، وهو قادر على فعله؛ وذلك لكمال حياته، وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى لرسوله: ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ )[النمل:80]، وقال تعالى: ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ )[النحل:21].

    وإن قلتم: ها هم يأكلون ويشربون وينكحون؟ قلت: حياة البهائم.

    النهي عن تحريم الحلال والعدوان على الحرام
    يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، لبيك اللهم لبيك، قال لنا ناهياً: ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87]، ينهانا ربنا عن تحريم ما أحل لنا، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحرم طعاماً أو شراباً أو لباساً أو نكاحاً أباحه الله وأذن فيه، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحرم على نفسه أو على غيره ما أحله الله وأذن فيه وأباحه لعباده من طعام أو شراب أو لباس أو نكاح، لم؟ لأن الخالق المولى المالك قال لعبيده: يا عبيدي! لا تحرموا طيبات ما أحللت لكم، أنا أعلم بما ينفعكم ويضركم، فإذا أذنت لكم في شيء فإنه في صالحكم، والله إنه لنافعكم، وإذا نهيتكم عن شيء فما نهيتكم عنه إلا لأنه ضار بكم مفسد عليكم قلوبكم وحياتكم.(لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87] أولاً، ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87] ثانياً، ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87]، يا من يطلب حب الله ويبذل جهده وطاقته في الحصول عليه! انتبه: إياك أن تعتدي وتتجاوز ما حد لك، فإن هذا الاعتداء لا يحب الله أصحابه وأهله، فلهذا المؤمن لا يعتدي؛ لأن مولاه لا يحب المعتدين، وهو يريد أن يكون من محبوبيه، هذه وحدها تجعل المؤمن العارف لا يعتدي، لا على أخ من إخوانه، بل ولا على يهودي في ذمته، ولا يعتدي على ربه بأن يخالفه، فالله يحل وهو يحرم، أو يحرم وهو يحل، فهو اعتداء، ولا يعتدي على أحد في ماله ولا في عرضه ولا في بدنه ودمه، الاعتداء: مجاوزة الحد، التجاوز للمأذون فيه المباح إلى ما هو ممنوع محرم، فسب المؤمن كشتمه، اعتداء عليه، واللفظ عام: ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، لأن الاعتداء ضار لكم، مفسد لحياتكم وقلوبكم.

    وشيء آخر: ما دمتم تطلبون حب الله فاعملوا: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ )[المائدة:87] من عباده ( الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87]، فلا نتجاوز حداً حده الله ورسوله، لم يأذن لنا في كلمة سوء ننطق بها حتى الموت.

    الآن لاحت أنوار الآية الأولى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87].
    أمر الله عباده بالأكل من الحلال الطيب

    الآية الثانية: قال: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، الحمد لله.. الحمد لله، مالك الطعام أذن لنا أن نأكل، والله! لو لم يأذن لنا ما أكلنا، من مالك الطعام والشراب؟ الله لا إله إلا هو، فلهذا إذا أردت أن تأكل خبزاً أو تمراً أول ما تقول: باسم الله، أي: بإذنه هو أكلت أو شربت، لو ما أذن والله ما أكلت ولا شربت، وما إن تفرغ من طعامك وشرابك حتى تقول: الحمد لله الذي أوجد هذا الرزق وأذن لي فيه وأعانني عليه وبارك لي فيه. فالمؤمنون الأحياء البصراء لا يأكلون إلا على اسم الله، ولا ينهون طعاماً ولا شراباً إلا على حمد الله تعالى. (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، فالله لم يجعل رزقنا ما حرم علينا، ولن يجعلنا رزقنا خبيثاً مستقذراً، لا بد أن يكون طيباً، أما النجس المستقذر المستخبث فلا يحل أكله؛ لأن الله ما رزقكه، رزقك الحلال الطيب، أما المستقذر المستخبث من الأطعمة فلا يحل أبداً لهذه الآية الكريمة، ( حَلالًا )[المائدة:88] أولاً، لم يرزقك الله حراماً وحاشاه.

    ثانياً: أن يكون طيباً، ( طَيِّبًا )[المائدة:88] أي: لذيذاً غير مستقذر ولا مستخبث.

    (وَكُلُوا )[المائدة:88]، هذا أمر إباحة وإذن لنا والحمد لله، ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:88]، فلا رازق إلا هو، ومن جهل فليذكر الماء النازل من السماء من أنزله؟ والنابع من الأرض من أنبعه؟ والتراب كيف تحول إلى بر وشعير وفواكه وخضر؟ هل حولته يد أبي أم أمي؟ هذا رزق الله.


    الأمر بالتقوى وبيان حقيقتها ووسيلة تحصيلها
    (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88]، هذا أمر ثالث: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:88]، من يسأل فيقول: كيف نتقي الله؟ بم يتقى الله وهو الجبار بيده ملكوت السماوات والأرض؟ كيف يتقى؟ بالأسوار العالية؟ لا تنفع. بالحصون القوية؟ بالجيوش الجرارة؟ بالسراديب تحت الأرض؟ بالاحتماء بأصحاب الدولة والسلطان؟ بم يتقى الله عز وجل؟ومعنى تقوى الله: أن يتقى بطشه ونقمته وعذابه وسخطه الذي تعرض له المعتدون.
    (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )[المائدة:88] رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه، عرفتموه أن بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء.

    وكثيرون يقولون: ما هناك حاجة إلى أن نعرف بما يتقى الله؟ يقول القائل: اتقوا الله فلا يقول واحد: بين لنا كيف نتقي الله؟ لأنهم غير مهتمين ولا حافلين بهذا، أما والله لو عرف أحدهم لقال: والله لا تبارح مكانك حتى تبين لنا كيف نتقي ربنا.
    هل يقول ذلك أحد؟ لأننا نعيش في ظلام منذ ألف سنة وزيادة، من علَّمنا؟ وهل طلبنا العلم؟
    اسمع واحفظ وبلغ أمك وامرأتك: يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله لا بشيء آخر، إن تعلن الحرب عليه وتخرج عن طاعته وعن طاعة رسوله؛ فقد عرضت نفسك للدمار والخراب والخسران الأبدي ولا تجد من يشفع لك أبداً، اتقوا الله، خافوه خوفاً يحملكم على امتثال أمره واجتناب نهيه.
    أولاً: اذكر عظمة الله وسلطانه وقدرته على البطش والأخذ فترتعد فرائصك وتخافه، فتقبل على طاعته فتفعل ما أمرك وتترك ما نهاك عنه.
    ليس تقواه إلا بطاعته وطاعة رسوله؛ لأن فعل ما يأمر به، وفعل ما يأمر به رسوله يجنبكم المضار والمفاسد والمهالك، ولأن ترك ما أمر الله به ورسوله وفعل ما نهيا عنه يعرض العبد للخسران والدمار وفساد القلب وخبث النفس، ولا شك في هذا؛ لأنه من سنن الله القائمة في الأرض، أسألكم يا عقلاء: هل الطعام يشبع؟ هذه السنة باقية إلى يوم القيامة. هل الماء يروي؟ هل الحديد يقطع؟ هل النار تحرق؟
    هذه سنن الله هل تتبدل؟ كلا. فكذلك طاعة الله ورسوله ومعصية الله ورسوله كهذه السنن لا تتخلف آثارها أبداً، من أطاع الله رسوله سما وطهر وصفى وتهيأ للملكوت الأعلى، ومن عصى الله ورسوله وكفر بهما وتمرد على شرعهما تمزق وخسر وهلك هلاكاً أبدياً، سنة لا تتبدل، واسمعوا قوله تعالى: ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا )[فاطر:43].

    معاشر المؤمنين! أفرحتموني عندما قلتم: عرفنا بم يتقى الله، بطاعته وطاعة رسوله. فهيا نمشي الآن، فتلك -والله- ما هي إلا خطوة أولى؛ لأني أسألك: تطيع الله والرسول في أي شيء؟ هل عندك علم بأوامره ونواهيه؟ قال: لا، إذاً: كيف تطيعه؟ نعم تهيأت للطاعة، لكن يجب أن تعرف أوامر الله أمراً بعد آخر، وتعرف أوامر رسوله كذلك، حتى تفعل ما أمرا به وتعرف ما نهيا عنه، أي: ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله نهياً بعد نهي، وإن قيل لك: لا يوجد في مدينتنا هذه من يعرف الأوامر والنواهي إلا في جزائر واق الواق؛ فوالله يجب أن تسافر، ولا يحل لك البقاء في المدينة التي لا تجد فيها من يعرفك بأوامر الله ونواهيه إلا إذا أردت الخسران الأبدي.
    وجوب تفريغ الأوقات لتحصيل التقوى

    قد تقولون: يا شيخ! نحن مشغولون من أجل القوت في مزارعنا ومصانعنا وأسواقنا فكيف نعرف هذا؟ وأقول: هذا السؤال باطل.. باطل.. باطل، يجب أن تفرغ نفسك ساعة في الأربع والعشرين ساعة، كما تسأل عن الدرهم والدينار اسأل عما أذن الله في فعله، أو عما نهى عنه ولم يأذن به، في كل شئون الحياة، وإلا فأنت فاسق عن أمر الله خارج عن طاعته.واسمعوا الله يقول من سورة النحل والأنبياء، آيتان في كتابه تعالى، يقول: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من كان لا يعلم يجب أن يسأل حتى يعلم، وليس يوماً واحداً ولا عشرة، يقرع باب العلماء ويسألهم يومياً: دلوني على ما أمر الله به، أو على ما نهى الله عنه، ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، هل بلغ المسلمين هذا وعرفوه؟ ما عرفوه.

    والآن نبكي ونصرخ طول العام في ملتقى العالم الإسلامي في مسجد رسول الله، الوافدون طول العام يفدون من العرب والعجم، ونحن نقول -وكتبنا للحكام والمسئولين والعالم بأسره-: لا طريق إلى نجاتنا وخلاصنا من محننا وفتننا وجهلنا وظلمنا وخبثنا وشرنا وفسادنا إلا طريق واحد، وما استطاع واحد أن يطبق هذا.
    فإذا قلنا: كيف؟ نقول: أي مانع أن يطبق هذا المنهج المحمدي؟ والله ما وجدنا مانعاً؛ لأنا نقول: إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل، ورأينا اليهود والنصارى والملاحدة والعلمانيين يحملون أطفالهم ونساءهم إلى دور الرقص ودور السينما والمقاصف والملاهي والملاعب، أسألكم بالله يا من تعرفون أوروبا: أليس هذا نظامها؟
    ونحن إذا دقت الساعة السادسة أين نذهب؟ هل نمشي وراءهم ونذهب مذاهبهم وهم كفار ونحن مؤمنون؟ بل نذهب نتوضأ وآمر أولادي وزوجتي وأمي بالوضوء، ونحملهم على السيارة إن بعد بيت الرب عني ونأتي بهم إلى المسجد، مسجد الحي إن كنا في المدينة، ومسجد القرية إن كنا في قرية، حيث لم يبق في الحي رجل ولا امرأة ولا طفل إلا من كان مريضاً أو ممرضاً، الكل حضروا ويصلون المغرب كما نصلي، ويجلسون كما أنتم جالسون، النساء وراء الستارة، والفحول أمام المربي المعلم، وليلة آية من كتاب الله، وليلة حديثاً من أحاديث رسول الله الثابتة الصحيحة، ولا نزال نعلم ونعمل يومياً، فما تمضي سنة إلا وليس في القرية جاهل ولا جاهلة، وليس في الحي من أحياء المؤمنين رجل جاهل ولا امرأة، من أجل هذه الساعة التي يجلسون فيها لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا انتفى الجهل انتفى الخبث انتفى الظلم انتفى الشر، زال الحسد ووجدت أهل القرية كأسرة واحدة، لا تسمع كلمة سوء تقال في فرد من أفرادهم، ولا تجد من يقول السوء بينهم، أو يكيد أو يمكر، وهذا مستحيل مع العلم الرباني.
    ما الذي يكلف المسلمين هذا؟ دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب فوقف العمل، يا صاحب الدكان! أغلق دكانك، يا صاحب المقهى! أغلق مقهاك، يا صاحب المصنع! يا صاحب العمل! انتهى العمل من صلاة الصبح إلى الآن، هيا بنا إلى بيوت الله، بيوت الرب جل جلاله وعظم سلطانه، نجلس بين يديه نستمطر رحماته ونتلقى بركات السماء ونتعلم العلم الضروري فنعرف محاب الله ونأتيها، ونعرف مكاره الله ونتجنبها ونبتعد عنها، ومن ثم تحققت لنا ولاية الله، وأصبح أهل القرية أولياء الله، لو رفعوا أيديهم إلى الله وسألوه أن يزيل الجبال لأزالها.
    مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه

    معشر المستمعين! بلغوا .. بلغوا: لا سبيل إلى النجاة إلا هذا السبيل؛ لأنه منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجتمع النساء في هذا المسجد والرجال فيزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ونسبة من يقرأ ويكتب 1%، وأصبحوا علماء ربانيين نساء ورجالاً، لا يوجد -والله- لهم نظير على الأرض، هل فازوا بشهادات علمية؟ فقط أقبلوا على الله فأسلموا قلوبهم ووجوههم له، ومشوا في صراطه المستقيم، ولكن جلس لهم رسول الله، والله يقول في منته عليهم: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2]، فأيما أهل إقليم أو بلد أو قرية في العالم الإسلامي أرادوا أن يصبحوا كأصحاب رسول الله في الطهر والذكاء والصفاء والربانية فالطريق هو هذا الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم، يجتمعون كل ليلة طول العام، ليلة آية كالتي درسناها الآن أو بعضها، وليلة حديثاً بعدها، تنتهي الفوارق والمذاهب والعناصر، لا يبقى من يقول: أنا شافعي ولا مالكي ولا إباضي ولا زيدي، انتهت الفرق والانقسامات، وهي محرمة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا )[آل عمران:102-103]، من أذن لك أن تقول: أنا مالكي؟ آلله أذن لك بهذا؟ كيف تقول: أنا زيدي أنا إباضي أنا حنبلي؟ قل: أنا مسلم أسلمت قلبي ووجهي لربي، مرني بأمر الله وأمر رسوله أنصاع وأذعن وأعمل، انهني عما نهاني عنه الله ورسوله ننتهي؛ لأني عبده أطلب ولايته وكرامته، فهل يتحقق هذا بدون الاجتماع على كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم؟معاشر المستمعين! هل يبقى في أذهانكم شيء من هذا؟ لم لا تبلغونه عندما تجلسون في بيوتكم أو مع إخوانكم فتقولون: سمعنا في المسجد النبوي كذا وكذا؟
    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #353
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (4)
    الحلقة (352)
    تفسير سورة المائدة (45)

    تابع تفسير قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ...)

    الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم هذا الأمل لنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
    وها نحن مع سورة المائدة، ومع هذه الآية المباركة التي تناولناها بالدرس في درس سابق، وما استوفيناها وحق لنا ألا نستوفيها لما تحمله من العلم والحكمة، فهيا نتغنى بها ثلاث مرات، ونحن نتأمل ونتفكر ونتدبر فيما حوته من العلم والمعرفة، ثم نعيد شرحها مرة أخرى بإذن الله.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:3].
    هذه الآية يجب أن يحفظها كل ذي عقل من المؤمنين والمؤمنات، ويصلي بها طول السنة النوافل والفرائض، هذه الآية نزلت ورسولنا صلى الله عليه وسلم في عرفات، ولم يعش بعدها إلا نيفاً وثمانين ليلة وقبضه الله.
    اختصاص الله تعالى بالتحريم لعلمه بما يضر العباد وملكه لهم ولسائر ما خلق

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ )[المائدة:3] من المحرم؟ إنه الله تعالى. فهل يحق لكائن سوى الله أن يحرم أو يحلل؟ الجواب: لا، لماذا؟ لأن الله هو مالك كل شيء، فما أذن فيه فهو حلال، وما لم يأذن فيه فهو حرام، وهل يستطيع أحدنا أن يتصرف في مال غيره يأخذ ويعطي ما يشاء؟ مستحيل، فما دام الله جل جلاله هو المالك لكل خلقه، إذاً: فما أذن فيه فهو الحلال وما لم يأذن فيه فهو الحرام، فلا يحل ولا يحرم إلا الله، والرسول الكريم باسم الله وبعلم الله وإذن الله يحرم أو يحلل؛ لأنه المسئول عن البيان والبلاغ، أما غير الله ورسوله فلا ليس من حق أحد أن يحل شيئاً أو يحرم، وكل ما أحل الله وما حرم موجود في كتاب الله وبيانات رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أولاً.
    ثانياً: الله وحده يحلل ويحرم؛ لأنه العليم بمضار ومنافع الأشياء، ونحن قاصروا العلم، فالعليم الخبير هو الذي يحل شيئاً لما فيه من الفائدة والمصلحة والمنفعة، ويحرم آخر لما فيه من الضرر والفساد، أليس كذلك؟ إي والله.
    تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير

    يقول تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ )[المائدة:3] من هم المخاطبون؟ المؤمنون الذين ناداهم بقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )[المائدة:1] هذا الذي يتلى عليكم:(الْمَيْتَ ةُ )[المائدة:3] ما مات حتف أنفه بدون تذكية.

    (وَالدَّمُ )[المائدة:3] معروف، ليس الذي يختلط مع اللحم والعظم، ولكن الدم الذي يسيل ويؤخذ بالسفح والطريقة الخاصة بأخذ الدم من الحيوان، كانوا يأكلون الدماء: يغلونها فتنتفخ وتيبس ويأكلونها، وفيها من الأمراض ما لا يعلمه إلا الله.

    (وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ )[المائدة:3] لحم الخنزير حرام كشحمه كدمه ككله، الخنزير معروف، حيوان أكثر ما يوجد في البلاد الباردة، هذا الحيوان علمنا أن فيه أمراضاً خطيرة عرفها الأطباء الآن وكشفوا عنها، ولكن ما حرمه الله إلا لأن فيه الضرر والخطر على عباده.
    وسبب ذلك: أنه يعيش على القاذورات، يأكل الجيف، لو يجد فأراً ميتاً يفرح به، ويأكل الأوساخ، فمن هنا كان لحمه فيه جراثيم قاتلة، حرمه الله لعلمه بما فيه من الضرر.
    وهنا لطيفة ما ننساها: أنه ديوث الحيوانات، فالجمل عندنا إذا جاء آخر يريد أن ينازعه في أنثاه قاتله، حتى الكلب، والقط ما يرضى أن تمس أنثاه، وهذا الخنزير يأتي بالآخرين يقول لهم: افجروا بها، فالذين يأكلون لحمه ينتقل إليهم هذا المرض مرض الدياثة، ويصبح الرجل لا يبالي بامرأته تغني أو ترقص أو يصاحبها فلان ويسافر معها حيث شاء والعياذ بالله، وخطره على البلاد الحارة عجيب، فلهذا يأكله من في البلاد الباردة.
    تحريم ما ذبح لغير الله تعالى

    (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]، أهل يهل: رفع صوته، ومنه الهلال، أهل بالعمرة: إذا قال: لبيك اللهم عمرة، فالذي ذبح لغير الله وسمي عليه اسم غير اسم الله حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير.ولا نغفل عما عليه إخواننا أولئك الذين يذبحون لسيدي عبد القادر ، وسيدي البدوي ، وسيدي العيدروس ، وسيدي إبراهيم، وسيدي الحسين ، وسيدتنا فاطمة ، حتى ولو لم يقولوا: باسمك يا فاطمة أو يا حسين ، فالدافع الباطني نية الذبح لذلك المخلوق، بدليل أنه يقول: هذه شاة سيدي عبد القادر ، هذا العجل عجل سيدي البدوي ، وقد رأينا ذلك بأعيننا، وقد رأينا بأعيننا من يغرس حديقة شجر زيتون ويقول: هذه الزيتونة لسيدي فلان، يغرس نخلاً ويقول: هذه النخلة لسيدي فلان، يشتري قطيعاً من الغنم في آخر الشتاء، فإذا كان الربيع يقول: هذه شاة سيدي فلان، ليرعاها ويحميها ويحرسها، فهذا من هذا.
    (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]، فلا حل لمؤمن ولا مؤمنة أن يذبح لغير الله عز وجل، قد يقول قائل: ها نحن نذبح للضيفان؟! فالضيفان أمرنا رسول الله بإكرامهم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )، لم اشتريت هذه الشاة؟ قال: عندنا ضيوف الليلة، اشتريناها لنطعمهم، فهذا مأذون به وجائز، لكن الممنوع أنك تتقرب إلى ذلك الميت لتحصل على الخيرات والبركات بواسطته، فتعبده كما يعبد الله جل جلاله بذكره والتوسل إليه بالذبح والنذر إلى غير ذلك.

    وإن شككتم فإني أحلف لكم بالله: والذي نفسي بيده! ما جاز لمؤمن ولا مؤمنة أن يسمي شاة أو بقرة أو نخلة أو شجرة لغير الله ويقول: هذا لسيدي فلان، ولا تنفعه صلاته ولا صيامه إذا فعل، فقد قال تعالى: ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ )[الزمر:65] يا رسولنا ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[الزمر:65] ما معنى أشركت؟ أشركت غير الله في عبادة الله، جعلت له عبادة كما هي لله.
    (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]،كان المشركون يذبحون لهبل واللات والعزى ومناة والحجارة التي ينصبونها، وجاء الإسلام فحرم الذبح لغير الله حتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما أجاز عالم عرف الأصول أن تقول: هذه شاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتذبح، وإنها لشرك ومحنة كبيرة، أهنت رسول الله وجعلت له الشاة التي يتقرب بها إلى الله!

    فالرسول صلى الله عليه وسلم ما هو في حاجة أبداً إلى أن تصوم عنه أو أن تتصدق عنه أو تحج عنه؛ لأن حسنات الأمة كلها له مثلها، ما له إلا أن تحبه وتطيعه وتصلي وتسلم عليه، أما أن تتصدق عليه أو تصوم فقد جعلته كسائر الناس، شككت في درجته المرفوعة ومقامه السامي عند الله.
    ما يدخل في الميتة من المحرمات
    فهذه الأربعة المحرمات وردت في عدة سور: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]، والستة الباقية داخلة فيها؛ في الميتة، فالمنخنقة ميتة، والمنخنقة: التي تدخل رأسها بين شجرتين أو كذا وتختنق، انخنقت فهي منخنقة، أو يربطها صاحبها بحبل في عنقها فتحاول أن تمشي بعيداً وتجذب فتختنق، وإن فرضنا أن رجلاً خنق شاة فهذا غير واقع لأن الله سماها المنخنقة، لو كانت تخنق لقلنا: والمخنوقة، لكن ما هناك من يخنق الشاة، المنخنقة هي التي تختنق بنفسها. والموقوذة التي ترمى وتوقذ بحجرة أو بعصا أو برصاصة فتسقط ميتة، والمتردية: التي تردت من مكان عال، من السطح فوقعت في الأرض، أو من أعلى الجبل، أو طلعت فوق شجرة وهبطت منها فاندقت عنقها وماتت، هذه الموقوذة، والنطيحة: التي تنطحها أختها نطحة فيغمى عليها وتموت.
    وما أكل السبع، السبع هنا: الذئب والثعالب والضباع وسائر الحيوانات التي تأكل، فالتي يأكلها السبع أيضاً جيفة ميتة، كل هذا داخل تحت الميتة.
    وقوله تعالى: ( إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ )[المائدة:3] استثناء، فالمنخنقة إذا أدركت الحياة فيها مستقرة وذكيتها فلا بأس، المتردية التي سقطت من السطح فوجدتها حية فذبحتها فلا بأس، النطيحة التي نطحتها أختها ووجدت فيها الحياة كذلك، والتي أكلها السبع ووجدت حية حياة مستقرة اذبحها وكل، وعلامة استقرار الحياة أنك إذا أخذت تذبحها تنتفض، تضرب برجليها وتتحرك، فتكون الجراثيم كلها قد خرجت من الدم حين سال، أما إذا ماتت فالجراثيم باقية فيها.

    تحريم المذبوح على الأنصاب
    (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3] سواء قلت: باسم الله أو قلت: بسيدي عبد القادر ، ما دامت مذبوحة على ما ينصب، على عظيم أو زعيم أو ولي أو قبر أو كذا، والنصب: ما ينصب في المدينة دالاً على عظيم من عظماء البلاد، زعيم من زعمائها، ولي من أوليائها، والأولياء يبنون عليهم القباب ينصبونها عليهم ليعرف: هذا سيدي فلان! إذ ما كان يمكن أن يدفن الولي عندنا أيام الجهل في عامة المقبرة، لا بد أن يبرز ويعلم ويظهر ليعرف حتى يستغاث به ويطاف بضريحه، ويتمسح به، وقد رأينا النساء عاكفات على الضريح، والرجال عاكفين! فلا إله إلا الله! وهم يقرءون القرآن لكن على الموتى، أما على الأحياء فلا.أحببت أن أقول: الحمد لله؛ الآن صحونا لعوامل كثيرة، منها: تقارب العالم الإسلامي، ووجود الكتاب والطباعة بسرعة والإذاعات، وإذاعة القرآن وحدها كافية، إذاعة القرآن أنا سميتها لما طالبت بها: إذاعة الإسلام، يجب أن تفتح الإذاعة أربعاً وعشرين ساعة، وإياك أن تفتح إذاعة غيرها، تتعلم فيها الكتاب والحكمة، وكم تفقه عليها من النساء، عجائز أصبحن عالمات! والآن هذه الإذاعة تصل إلى المسلمين في الشرق والغرب بلغة العرب البينة الفصيحة.
    قال تعالى: ( وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3]، هل تقولون: ما ذبح على الأصنام فقط؟ كان يذبحون على الأصنام حول الكعبة، ويلطخون الكعبة بالدماء، لكن الشيطان هو هو، هل تغير نظامه وسلوكه؟ لما عرف أننا لا نعبد الأصنام جاءنا بفكرة جديدة، ما هي؟ التوسل بالأولياء رحمهم الله، بالذبح لهم والنذر لهم، تمر المرأة تقول: يا سيدي فلان! إذا تزوجت ابنتي، أو إذا غلبت فلاناً في المحكمة فسنذبح لك شاة! تمر بالضريح هكذا وتنادي، والرجال والنساء سواء، والعلماء يقولون: ماذا في ذلك؟ فهو حسب النية، لكن الله عز وجل أضاء البلاد الإسلامية بنور العلم الآن.
    معنى قوله تعالى: (وأن تستقسموا بالأزلام)

    وقوله تعالى: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ )[المائدة:3]: الأزلام: جمع زَلمَ أو زُلمَ، وأهل الشام يقولون: يا زلمة، والزَلمَ والزُلم واحد: عود من خشب، هذا العود أصله كان من الرماح أو السهام، مصنوع صناعة خاصة، ليس فيه حديد أسفله، ولا فيه ريش، لأن السهم يجعلون فيه ريشاً حتى يقوى ويصل إلى الحيوان الذي يرمونه به أو الإنسان، هذه العيدان التي كانت سهاماً قدمت وأصبحت لا تصلح، فماذا يصنعون بها؟ يأتي رجل من الكهنة أو السحرة أو مدعي الغيب ويجمع ثلاثة عيدان، يكتب على أحدها: أمرني ربي، والثاني: نهاني ربي، والثالث غفل ما عليه أي كتابة، وكان يجلس عند الكعبة، فتأتي تقول: يا شيخ! أريد أن أتزوج امرأة من مصر، ولا أدري هل فيها خير أم لا؟ فدلني، فيجيل الأزلام في الكيس، ثم يخرج واحداً، فإذا وجد فيه: أمرني ربي يقول: تزوج، الخير كله في هذه الزوجة، وإذا جاء العود الذي فيه نهاني قال: لا خير لك فيها، وإذا جاء العود الخالي الغفل يعيد إجالتها، يخلطها مرة ثانية ويخرج. (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا )[المائدة:3] أي: أن تطلبوا ما قسم الله لكم من طريق هذه العيدان، هذه كانت في مكة، وكانت في بلاد العرب لها ناس خاصون، والإسلام لا يسمح بهذا، إذاً: جاء الشيطان بأعجب من هذا:

    أولاً: ما يعرف بخط الرمل، في باريس تجد الرجل جالساً والرمل أمامه في شوارع باريس، وأنت تريد أن تسافر أو تتزوج أو تطلب كذا، فيضرب لك القصد، ويكذب عليك ويقول لك: افعل أو لا تفعل، ثم يقول: هات ألف فرانك!
    كذلك تأتي إلى الرجل والمسبحة في يده، فيرسلها، فإذا جاءت أزواجاً قال: افعل، وحط بيضة أو ريالاً!
    وكذلك قراءة الكف، هذه واحدة أخرى، يقرأ في الكف ما يعرف بالعرافة، وكذلك قراءة الفنجان، وهذه كلها من وضع إبليس، وهو الذي يسوق إليها البشرية الغافلة؛ لتأتي بالشرك الحرام من أجل أن يعيشوا، وعندنا يسمونها الكزانة والشوافة كذلك.
    فهذا كله يدخل تحت قوله تعالى: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ )[المائدة:3]، كله خروج عن طاعة الله ورسوله، ( ذَلِكُمْ )[المائدة:3]الذي سمعتم من أكل المحرمات، ومن الاستقسام بالأزلام، كله ( فِسْقٌ )[المائدة:3]، أي: خروج عن طاعة الله ورسوله، ومن خرج عن طاعة الله ورسوله هلك.

    (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ )[المائدة:3] بالقرعة، بالشوافة، بالكف، بالمصحف، كل ذلك.
    الاستخارة الوسيلة المشروعة المغنية عن الاستقسام

    فإن قلت: إذاً: وماذا نصنع يا شيخ إذا منعتمونا من هذا ونحن في حيرة، نريد أن نتزوج، نريد أن نسافر، فكيف نصنع؟ الجواب: هذا الحبيب صلى الله عليه وسلم سن لنا صلاة الاستخارة، إذا هم أحدكم بالأمر وأراد أن يأتيه وهو لا يدري أفي صالحه أم في غير صالحه؛ فليصل ركعتين لله عز وجل، ويحسن أداءهما، ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك لا يملكه إلا أنت، إن كنت تعلم أن في زواجي في سفري في كذا خيراً لي في ديني ودنياي، وفي عاقبة أمري فاقدره لي ويسره وأعني عليه، وإن كنت تعلم أن في هذا شراً لي أو عدم الخير فاصرفني عنه واصرفه عني. وكررها مرتين أو ثلاثاً أو أسبوعاً، فلقد استخرت الله مرة شهرين في قضية، كل يوم مرة! فاقرع باب الرحمن عز وجل، أما أن تذهب إلى المشعوذين والدجالين وأولياء الشيطان، وتعتمد على ما يقولونه لك فهذا حرمه الله عز وجل، عليك بذي الجلال والإكرام، اطرح بين يديه وابك، والذي يحصل لك والله خير لك، حين تستخيره أي: تطلب الخيرة منه، فالذي يتم لك عملاً أو تركاً والله لهو الخير الذي اختاره الله لك، وكن مطمئناً.أردت أن تتزوج فلانة وما تدري ما العاقبة فاستخر الله عز وجل يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً وأنت تتردد عليه تعالى وتسأله، فإذا خطبت وقالوا: باسم الله مرحباً، وزوجوك فقد اختارها الله لك، فإذا قالوا: لا، ما نستطيع، فهذا معناه: أن الله صرفك عنها لما فيها من الشر لك.
    وبعض العوام يقول: نرى في المنا! لا منام ولا رؤيا ولا هاتف يهتف بك، انتبه، اقرع باب الله واسأله، وتردد كما قلنا، ما هي بمرة أو مرتين، ثم الذي يقع فعلاً أو تركاً هو الذي اختاره الله لك، وافرح به واحمد الله تعالى عليه.
    وقت نزول قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)

    ثم قال تعالى: ( الْيَوْمَ )[المائدة:3] وهذا في حج سنة عشر هجرية، ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ )[المائدة:3]، في السنة التاسعة حج أبو بكر رضي الله عنه بالمسلمين، أنابه رسول الله صلى الله عليه وسلم إشعاراً بأنه ينوبه في حكم المسلمين وإدارة مملكتهم، وبعث بـعلي وغير علي أن يؤذنوا في الحج، في مكة في منى في عرفات: أن لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان؛ لأن الفتح كان في سنة ثمان فأصبحت مكة داراً للإسلام، فالرسول ما أذن الله له أن يحج فيشاهد النساء يطفن عاريات بالبيت، أو يشاهد المشركين يتجولون في مكة ومنى وعرفات وهم نجس، وقد كانوا يطوفون عراة؛ تقول الطائفة: اليوم يبدو بعضه أو كله، وما بدا منه فلا أحله، وتضع يدها على فرجها، والمشرك كذلك، يقولون: لا يصح أن تطوف بالبيت إلا بثياب حلال فقط، أو تستعير من الحمس والأشراف، أما ثوب أذنبت فيه فما تطوف فيه، ويطوفون عراة! إذاً: فالرسول لم يأذن له ربه في أن يحج هذا العام والدولة للإسلام، ولكن المشركون في كل عرفات ومنى، فكان إعلام الرسول لعلي وغيره: ( ألا لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن بعد العام مشرك )، وفي السنة العاشرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ليحج بالمسلمين، ولا تسأل عن عددهم، ومن يتأخر والبلاد كلها نور، فلما كان في عرفات نزلت هذه الآية: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )[المائدة:3]، ما ينزل بعد ذلك حلال ولا حرام، انتهى كل شيء، عشر سنين والقواعد تنزل: الحلال، الحرام، الآداب، الأخلاق، الأموال، السياسة، الحياة كلها في عشر سنين حواها القرآن الكريم، واليوم ما بقي شيء: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )[المائدة:3].
    حرمة الابتداع في الدين وجواز ما كان من المصالح المرسلة

    فلهذا من أراد أن يزيد سنة في الإسلام أو فريضة فليضرب رأسه على الحائط، الله يقول: أكملت، وأنت تقول: ما زال ناقصاً، نزيد فيه شيئاً! ولهذا كل بدعة حرام، وكل بدعة ضلالة، المبتدع كأنه ينتقد الشرع أنه يحتاج إلى زيادة، والله يعلن أنه أكمله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، فقط لنا المصالح المرسلة، فتلك العوام يسمونها بدع حسنة، ليست من باب الابتداع. على سبيل المثال: المحراب، ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم محراب في الجدار، أليس كذلك؟ القبلة معروفة، لكن لما دخل الناس في دين الله أفواجاً كان الإنسان يدخل المسجد ما يعرف القبلة، فماذا يصنع؟ يسأل: أين القبلة؟ فجعلوا طاقة في الجدار تسمى المحراب، كل من دخل المسجد عرف القبلة، سواء كان في الشرق أو الغرب.
    وكذلك المنارة، حيث كان يؤذن على سطح المسجد، فاتخذت المنارات ليسمع أهل البلاد عامة، فهذه من المصالح المرسلة.
    والقرآن الكريم ما كان منقوط الحروف أبداً، ويفهمونه، فـالحجاج بن يوسف قال: الناس ما يعرفون الحروف، فنقط الباء والتاء والثاء والجيم وكذا، هذه مصالح مرسلة، ليست بدعة في الإسلام وزيادة فيه.
    والشاهد عندنا: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا )[المائدة:3]، الحمد لله، الحمد لله، رضي الله لنا الإسلام ديناً، لو رضي لنا اليهودية أو المجوسية أو النصرانية لقلنا: الحمد لله، ولكن لم يرض لنا إلا الإسلام، فقولوا: رضينا بالإسلام ديناً.

    قال تعالى: ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ )[المائدة:3]، بعد أن فتح الله مكة، وأصبحت الوفود تأتي من أنحاء الجزيرة بالعشرات وهم يدخلون في الإسلام ما بقي من يفكر في قتال رسول الله والمؤمنين، فكان الخطاب: فلا تخشوهم اليوم واخشون أنا، فأنا ربكم وخالقكم، فمن ثم ارتفعت راية لا إله إلا الله.
    معنى قوله تعالى: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم)
    ثم قال تعالى: ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:3] أي: جاءته الضرورة وهي المخمصة أو المجاعة أو الجوع الشديد، ولكن حال كونه غير مائل إلى إثمه وراض بما حرم الله، الجوع ألجأه إلى أن يأكل من هذه الميتة أو هذا الخنزير أو هذا الدم؛ دفعاً لغاية الموت؛ لأنه إذا مات فلن يعبد الله، إذاً: أذن الله للمضطر اضطراراً قوياً وهو غير مائل بطبعه إلى أن يتلذذ بما حرم الله؛ ولهذا لا يأكل إلا القدر الذي يسد رمقه، لا يشبع، بل يأكل القدر الذي يقيم به صلبه ويمشي.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #354
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (40)
    الحلقة (353)
    تفسير سورة المائدة (46)

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون .. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة ومع الثلاث الآيات التي تدارسنا بعضها بالأمس.
    وإليكم تلاوتها مرة أخرى، وتأملوا يفتح الله عليكم:
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ * لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:87-89].
    شرف المؤمنين بنداء الإيمان
    أولاً: أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات أن نداء الله للمؤمنين بعنوان الإيمان فيه شرف لهم عظيم، إذ تأهلوا لأن يناديهم الرب تبارك وتعالى، وهذه فضيلة الإيمان، لولا إيمانهم الصادق الحق الصحيح ما تأهلوا لأن يناديهم، كان سيقول لرسوله: قل لهم، كما قال تعالى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ )[الأعراف:158]، ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )[الكافرون:1]، أما الله فيتنزه أن ينادي المشركين والهابطين من بني الناس، ولكن ينادي الأحياء، فمن هنا عرفنا أن الإيمان الحق بمثابة الروح، المؤمن حي والكافر ميت، وبرهنا ودللنا على أن أهل الذمة في ديارنا نحن -المسلمين- لا نكلفهم بصيام ولا صلاة ولا جهاد ولا رباط ولا زكاة؛ لأنهم كالأموات، يوم يحيون بـ(أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) مرهم يفعلوا، وانههم يتركوا؛ لكمال حياتهم.
    حادثة نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ...)
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:87]، نادانا هنا ليقول ناهياً مانعاً لنا من أن نحرم ما أحل الله لنا: ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[المائدة:87]. ذكروا أن لهذه الآية سبباً في نزولها، والقرآن ما نزل دفعة واحدة، نزل في خلال ثلاث وعشرين سنة، بحسب متطلبات الأمة، كلما جد أمر نزل قرآن يبين الحكم فيه.
    وعظ الحبيب صلى الله عليه وسلم رجاله موعظة رقت لها القلوب، فقام عبد الله بن مسعود وعثمان بن مظعون رضي الله عنهما وآخر، وجاءوا إلى أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق ، عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وسألوها عن قيام الرسول في الليل؟ فقالت: كان يقوم وينام. فقال أحدهم: أما أنا فلا أنام بعد اليوم، أحيي الليل كله؛ لأن الرسول مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسألوها عن صيام الرسول؟ فقالت: كان يصوم ويفطر. فقال أحدهم: إذاً سأصوم الدهر ولا أفطر. وسألوها: هل كان يأتي النساء؟ قالت: نعم، فقال أحدهم: إذاً: أنا لن آتي النساء أبداً. رغبة منهم في حب الله وولايته، رغبة منهم في الانقطاع إلى الله.
    وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخبر فقام خطيباً وقال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ إني أصوم وأفطر، وأقوم الليل وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، فسد باب الرهبنة التي يعيش عليها النصارى، يحرمون على أنفسهم ما أحل الله لهم، ونزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )[المائدة:87].
    فالنوم طيب يحتاج إليه الآدمي فكيف تحرمه على نفسك؟ وإتيان النساء مشروع وفيه خير، ومما أباح الله وأذن فيه ورغب فيه، فكيف تحرمه أنت على نفسك؟ والصيام ضده الإفطار، فالإفطار يقوي البدن ويزيد في طاقته لينهض بتكاليف الله ومستلزمات هذه الحياة، فكيف تحرم الإفطار لتصوم أبداً؟
    وقال لهم: ( وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، بينت لكم أن الذي يحرم أو يحلل بدون الله اعتدى على الله، فمن الذي له الحق أن يحرم أو يبيح؟ إنه المالك العالم بمصائر الأمور، أما الجاهل الذي لا يملك فكيف يحرم أو يحلل، بأي حق؟
    (وَلا تَعْتَدُوا )[المائدة:87]، والاعتداء: مجاوزة الحد، قد يكون بينك وبين أخيك بسبه أو شتمه أو انتهاك عرضه أو أخذ ماله، قد يكون بينك وبين نفسك تلزمها بصيام الدهر أو بقيام الليل بدون نوم أو بحرمانها من النساء وإنجاب البنين والبنات، هذا اعتداء على نفسك، واعتداء على الله؛ لأن الله هو المشرع لحكمته وعلمه ورحمته، فلا يصح لآدمي أن يحلل أو يحرم، وإنما الذي يحرم ويحلل هو الله عز وجل، أولاً: لأنه المالك، ثانياً: لأنه العليم بالمنافع والمضار، ثالثاً: لأنه رحيم بأوليائه وعباده، فلا يحرم عليهم طيبات ينتفعون بها.
    أمر المؤمنين بأكل الحلال الطيب وتقوى الله تعالى
    ثم قال لهم ولنا: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:88] حال كونه ( حَلالًا طَيِّبًا )[المائدة:88]، فليس الحرام برزق ولا تقل: هذا رزق رزقنيه الله وهو جيفة أو مال مغصوب أو مال ربا.ثانياً: أن يكون طيباً غير مستخبث ولا مستقذر؛ لأنه يسبب مرضك وانحطاط قوتك، فلا بد أن يكون المطعوم والمأكول أولاً مما أذن الله به، والله لم يأذن في مال الربا ولا في مال التلصص ولا السرقة ولا الخيانة أبداً، ولا مال المؤمنين، فما أذن فيه لا بد أن يكون مما أحل الله، ثانياً: أن يكون طيباً ليس بمستقذر ولا مستخبث بحيث تشمئز منه النفس أو يسبب مرضاً للإنسان، هذه مظاهر ربوبية الله ورحمته بعباده.
    ثم قال لنا: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:88]، أي: خافوه، نتقي الله بأي شيء؟ يتقى الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأوامر والنواهي، فيما أمر الله بفعله أو قوله أو اعتقاده، وفيما نهى الله عن اعتقاده أو قوله أو عمله، ومن هنا وجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف أوامر الله بالضبط، ونواهيه كذلك، وإلا فلن يستطيع أن يتقي الله، لا يمكن أن تتحقق تقوى الله للعبد وهو ما عرف أوامره ولا نواهيه، ومن هنا قلنا: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وليس شرطاً أن يكون هناك قرطاس وقلم، وإنما تسأل بلسانك وتطبق بجوارحك يوماً بعد يوم؛ لقول الله تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من كان لا يعلم أوامر الله أو نواهيه يجب عليه أن يسأل العلماء.
    تفسير قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ...)
    لما عرف أولئك الأصحاب رضوان الله عليهم وقد حلف أحدهم أن لا يأتي النساء وآخر أن لا ينام وثالث أن لا يأكل، وارتبكوا ماذا يصنعون في أيمانهم التي حلفوها؛ فرج الله عنهم وأنزل الآية الثانية فبين فيها كيف الخروج من اليمين، وهذا عام لكل مؤمن ومؤمنة، اسمع ما قال تعالى: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ )[المائدة:89]، يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحفظ هذه الآية، هذه مادة من قانون الحياة ودستور دخول الجنة: (
    لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ )[المائدة:89]، بماذا؟ ( بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ )[المائدة:89]، والأيمان: جمع يمين.
    أنواع اليمين وأحكامها
    وهنا الأيمان خمس ممكن أن نحصيها ونحفظها، لو كانت تتعلق بالتجارة والبيع لحفظت، لكن هذه علمية ربانية لا يحفظها إلا ولي الله، فكونوا أولياء الله، وليقل أحدكم: لن أبرح مكاني حتى أعرفها.أولاً: لغو اليمين، أن يحلف أحدنا على شيء يظنه كذا فيتبين أنه خلاف ما ظن، يا فلان! ناولني عشرة ريالات. فيقول: والله ما عندي يا شيخ الآن معتقداً ذلك، ثم أدخل يده في جيبه فوجد عشرة ريالات، فهل يؤاخذ على هذه اليمين؟
    أو قيل له: أين إبراهيم؟! فقال: والله! إنه في المنزل؛ لأنه تركه في المنزل، وتبين أنه في السوق أو في المسجد، فهذه لغو يمين لا إثم فيها ولا كفارة.
    الثانية: أن يجري على لسانك ما لا تقصد به اليمين، كأن يقال لك: نحن في أي ساعة؟ فتقول: في الساعة السابعة والله، أو هل جاء فلان؟ فتقول: بلى والله جاء، يجري على لسانه الحلف وهو لا يقصده ولا يريده، تعود الحلف فأصبح يجري على لسانه ولا يقصده، هذه أيضاً لغو يمين، ولا إثم فيها ولا كفارة عليها، إذ الكفارة لمحو الإثم، فما دام لا إثم فلا كفارة، فهاتان يمينان من لغو اليمين:
    الأولى: أن يحلف على الشيء يظنه كذا فيتبين خلافه.
    والثانية: أن يجري على لسانه الحلف وهو لا يقصده ولا يريده.
    ويمينان تجب فيهما الكفارة، الأولى: أن يقول: والله! لا أمشي معك، أو: والله! لا أعطيك بعد اليوم درهماً ولم يقل: إن شاء الله، فهذا نسي الله بالمرة، نسي أن الذي يعطي أو يمنع هو الله، وأن ما يريده الله فسيكون، فكان المفروض أن نقول: والله! لا أصاحبك بعد اليوم إلا أن يشاء الله، فالذي يحلف ألا يفعل أو يحلف أن يفعل ثم يحنث تجب عليه الكفارة.
    هذه الصيغة الأولى: أن يقول: والله! لا أكلمك بعد اليوم، كما قال الصحابي: والله! لا آتي النساء بعد اليوم .
    الصيغة الثانية: أن يقول: والله! لتفعلن كذا يلزمك، ولم يقل: إن شاء الله، فلما نسي مشيئة الله، وغفل عن قدرة الله وأنه لا يقع في الكون إلا ما أراد الله تلطخت نفسه بالإثم لنسيانه الله، فبم يزال هذا؟ بمادة معينة وضعها الحليم العليم، فهاتان يمينان تجب فيهما الكفارة؛ لأن فيهما الإثم، ما سبب الإثم؟ أنك تقول: والله لأفعلن ونسيت أن تقول: إلا أن يشاء الله، وإذا لم يشأ الله فهل ستفعل أنت؟ أنت لا تتحرك إلا بإذن الله.
    أو أن تقول لآخر: والله لتفعلن كذا. وهل أنت تقدر على أن تلزمه وتجبره إذا لم يشأ الله؟ هاتان اليمينان فيهما كفارة.
    اليمين الخامسة تسمى باليمين الغموس، من: غمسه ويغمسه في الماء، أو غمس رأسه في الطين، اليمين الغموس: هي التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في جهنم، تغمسه أولاً في أوضار وأوساخ الذنوب والآثام، وبذلك يستحق دار البوار ودار النار، وأعيذكم بالله أن تحلفوها، اليمين الغموس فسرها الحبيب صلى الله عليه وسلم بأن يحلف أحدنا كاذباً ليأخذ مال أخيه أو ليمزق عرضه أو ينال دمه، وهي اليمين التي يتعمدها الحالف وهو يعلم أنه كاذب ليتوصل إلى تحقيق غرض من أغراضه الهابطة.
    هذه اليمين الغموس اختلف أهل العلم: هل فيها كفارة؟ فمالك وجماعات قالوا: هذه لا تكفر بشيء أبداً لا بالصيام ولا بالعتق، لا تكفر إلا بالتوبة النصوح وإرجاع الحق لأهله، يأتي ويقول: يا فلان! حلفت كاذباً لآخذ من مالك، وأتوب إلى الله فخذ مالك الذي أخذت منك، ومع هذا فالأحسن أن يضيف إلى التوبة الكفارة لتطمئن نفسه.
    كفارة اليمين
    الآن مع الكفارة، ماذا قال مولانا عز وجل؟ قال: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ )[المائدة:89]، وفي آية أخرى: ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ )[البقرة:225]، أي: التعمد، ( فَكَفَّارَتُهُ )[المائدة:89]، أي: ذلك الحنث، ( إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ )[المائدة:89]، المساكين جمع: مسكين، من أذلته الحاجة ومسكنته من الفقراء، كل مسكين يعطيه كيلو ونصفاً من الأرز، وإن أعطى كيلو جرام يجزيه؛ لأنهم اختلفوا في المد النبوي هل يقدر بمدين أو المد هو المد، فالاحتياط أن تعطي لكل مسكين كيلو ونصفاً من دقيق إن كنت من أهل الدقيق أو أرز إن كنت من أهل الأرز، أو من العنب اليابس بحسب قوتك وأهلك، ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ )[المائدة:89]، لا تعطيه الأرز الياباني الذي يساوي الكيلو منه عشرة ريالات، بل الوسط، والدقيق أنواع أيضاً، هناك دقيق بعشرة ريالات، ودقيق بخمسة، فالوسطية ولا تكلف نفسك ما لا تطيق، ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ )[المائدة:89]، أي: زوجتك وأولادك ومن إليهم.(أَوْ )[المائدة:89]للتخيير، ( أَوْ كِسْوَتُهُمْ )[المائدة:89]، طاقية أو عمامة وثوب يكفي؛ لأن المصلي لا يصلي ورأسه عريان، لا بد -إذاً- من شيء يضعه على رأسه، والثوب لا بد أن يستره، هذا القدر الذي تصح به الصلاة هو الذي تكسو به مؤمناً، تشتري له ثوباً وعمامة أو غترة يغطي رأسه، عشرة نفر تكسوهم لله تعالى؛ لتمحو ذلك الإثم العالق بالنفس يوم نسيت الله وأنه الفعال لما يريد ونسبت القدرة لك ألا تفعل أو تفعل.
    خبر انقطاع الوحي لترك رسول الله الاستثناء
    وأذكركم بأن الحبيب صلى الله عليه وسلم أدبه الله في هذا، بعث قريش رجالاتهم ليتصلوا باليهود وعلمائهم في المدينة ويسألوهم أسئلة يوجهونها للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال علماء اليهود لوفد قريش: سلوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجاب عنها كلها فما هو بنبي، وإن لم يجب عنها فما هو بنبي، وإن أجاب عن البعض وترك البعض فهو نبي فروا رأيكم فيه، وبالفعل رجع الوفد إلى مكة والرسول ما زال بمكة قالوا: تعال الآن نمتحنك: أخبرنا عن فتية في الزمان الماضي كانوا في كذا وكذا ما حالهم وما شأنهم، وأخبرنا عن ملك مَلَك الشرق والغرب وما حاله وما شأنه، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ فقال لهم: غداً أجيبكم، ونسي أن يقول: إن شاء الله؛ لأنه بشر، فتأخر الوحي فلم ينزل جبريل اليوم الأول والثاني والثالث وهو يتطلع صلى الله عليه وسلم، وبلغ خمسة عشر يوماً وإذا بـأم جميل العوراء امرأة أبي لهب تغني في الشوارع وترقص: مذمماً أبينا ودينه قلينا.تغني فرحة، قالوا: الآن انفضح، فما عنده علم، ما هو بنبي، وكرب رسول الله وحزن وبكى، وبعد نهاية نصف شهر جاء جبريل بسورة الضحى: ( وَالضُّحَى )[الضحى:1]، من الذي يحلف؟ ( وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى )[الضحى:2]، من الذي يحلف؟ الله. ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى )[الضحى:3]، إبطال لمزاعم أم جميل أنه قلاه ربه وتركه، ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى )[الضحى:3-4]، فإن كربت اليوم وحزنت لهذا فالآخرة خير لك، ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى )[الضحى:5]، ثم بين له تلك المواقف: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى )[الضحى:6]؟ بلى. ( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى )[الضحى:7]، قبل أربعين سنة ما كان يعرف الله ولا الطريق إليه، ( وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى )[الضحى:8]، إذاً: ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )[الضحى:9-11]، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الله أكبر.. الله أكبر.
    ثم نزلت سورة الكهف: ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى )[الكهف:13]، إلى آخر السياق في كذا آية، ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا )[الكهف:83]، فقص عليهم قصة ذي القرنين من أولها إلى آخرها، وقال تعالى في سورة الإسراء: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا )[الإسراء:85]، فعرف اليهود أنه رسول الله، وعرف المشركون أنه رسول الله، ولكن حملهم العناد وحب الدنيا والشهوات على أن يواصلوا كفرهم وعنادهم، وإلا فقد لاح الحق وتجلت حقائقه.
    ونزل قول الله تعالى له: ( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )[الكهف:23-24]، إلا أن تقول: إن شاء الله، فمن ثم ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً: سأفعل كذا، سأعطي كذا إلا قال: إن شاء الله، ما قال في شيء مستقبل إلا قال: إن شاء الله، غداً -إن شاء الله- نسافر، دائماً: إن شاء الله.
    ومن غريب أحوال عوامنا أن أحدهم يقول: إن شاء الله في الماضي: إن شاء الله تغديت، ويقال له: سافرت؟ فيقول: الحمد لله إن شاء الله! ويكفي أنك جئت، فـ(إن شاء الله) لا تقلها في الماضي، تقولها في المستقبل، لأصلين العشاء إن شاء الله الليلة، أما أن تقول: صلينا المغرب إن شاء الله فلا، فلو ما شاء الله لما صليت.
    حرص الإسلام على تحرير الرقاب
    (فَكَفَّارَتُهُ )[المائدة:89] تعرفون التكفير أم لا؟ تغطية الإثم ومسحه وإزالته، فكفارة من حلف حانثاً ( إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ )[المائدة:89]، في الزمان الأول كانت الرقاب متوافرة، الرجل عنده خمسة عبيد وعشرة كما عندهم الإبل والبقر، في العالم بأسره؛ لأن البشر كان يغزو بعضهم بعضاً ويأسر بعضهم بعضاً ويباعون في الأسواق، فلما جاءت رحمة الله للأرض بهذا الدين وهذا النبي فتح الله الباب لتحرير العبيد، فالذي حلف وحنث يعتق رقبة، الذي ظاهر من امرأته يعتق رقبة، الذي قتل مؤمناً خطأً يعتق رقبة، الذي أراد أن يكون من أولياء الله فليحرر، وهكذا فتح باب التحرير على مصراعيه.وهنا قال: ( أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ )[المائدة:89]، إن شئت أطعمت أو كسوت أو أعتقت كل ذلك جائز، اللهم إلا في حال العجز عن واحدة من الثلاث فيتعين حينئذٍ الصيام، فصيام ثلاثة أيام متتالية متتابعة أو متفرقة كله جائز، أنت وحالك، تصوم ثلاثة أيام، تمتنع عن الطعام والشراب والنكاح من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لتمحو الإثم الذي علق بنفسك؛ لأنك حلفت أن تفعل وأنت عاجز، أو ألا تفعل وأنت عاجز، ونسيت أن الله هو على كل شيء قدير، ولم تقل: إلا أن يشاء الله، تلطخت بإثم كفارته ما وضع الله عز وجل.
    ملخص لما جاء في تفسير الآية
    اسمعوا الآية: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ )[المائدة:89]، بماذا؟ ( بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ )[المائدة:89]، وإذا حصل ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ )[المائدة:89]، فهمنا أن ( مِنْ أَوْسَطِ )[المائدة:89] يعني: ما هو بالعالي ولا الهابط، بل الوسط.(أَوْ كِسْوَتُهُمْ )[المائدة:89]، عرفنا الكسوة، ولكن المرأة كيف تكسوها؟ لا بد من غطاء رأسها وخمار تتخمر به والجلباب الطويل، أكثر من كسوة الرجل، الرجل طاقية أو عمامة وثوب فقط، والمرأة لا بد لها من خمار تتخمر به إذا خرجت.
    (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ )[المائدة:89]، فماذا يصنع؟ ( فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ )[المائدة:89]، قال تعالى: ( ذَلِكَ )[المائدة:89] الذي سمعتم ( كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ )[المائدة:89] وحنثتم أيضاً.
    (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ )[المائدة:89]، ويدل هذا على معنيين: الأول: حلفت الليلة ووجبت الكفارة فلا تنس يمينك، ما دمت حنثت فعجل بتكفير هذا الإثم ولا تنس يمينك.
    ثانياً: ( وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ )[المائدة:89]، لا تكثروا من الحلف، شحوا بها وابخلوا بها حتى لا تقعوا في الإثم. ولا تعترض على الشيخ بأنه دائماً يقول: والله كذا. بعض الطلبة قالوا: هذا الشيخ يحلف بالله ويكثر من اليمين، قلنا لهم: نحن نحلف على أن هذا كلام الله أو كلام رسوله، على أن هذا أباحه الله أو منعه، ونحن أسوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحلف في أخباره: أما والله لكذا وكذا.
    (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ )[المائدة:89]، أي: كهذا التبيين يبين لكم آياته الحاملة للأحكام والشرائع والآداب والقوانين والعبادات، وما زال تعالى يبين لنا، واقرأ التسعين نداء لتشاهد أحكام الله عز وجل.
    والعلة في ذلك يقول: ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:89]، هذه (لعل) الإعدادية: ليعدكم بذلك لشكره؛ لأن من حلف وقال: إن شاء الله فقد شكر الله عز وجل، ومن حلف ولم يقل: إن شاء الله ثم كفر عن يمينه فقد شكر الله عز وجل، ومن أعتق رقبة في سبيل الله كفارة فقد شكر الله، ومن تصدق بطعام فقد شكر الله، ومن كسا عارياً فقد شكر الله، وهكذا هذه العبادات كلها هي شكر الله عز وجل، هكذا يعدكم لتصبحوا من الشاكرين.
    ذكر الله وشكره وعبادته سر الحياة
    معاشر المستمعين! لو قام أحدكم وسأل أهل المنطق والفلسفة وعلوم النفس والاجتماع والسياسة وقال: أطرح هذا السؤال على منتدى أمريكا وإيطاليا: ما هو سر هذه الحياة؟ ما علة هذا الوجود؟ والله ما عرفوا؛ لأنهم أموات غير أحياء، وكيف يعرفونها؟! وهل الميت يعرف؟ لا يعرف، كيف -يا شيخ- وهؤلاء دكاترة في علم النفس، في علم الكواكب، في الذرة، كيف تقول ذلك؟ والله! إنهم لجهلة أموات حتى يعرفوا ربهم خالقهم ومدبر حياتهم، ثم يخضعوا له ويذلوا ويحبوه ويرغبوا فيما عنده، أما وهم جاهلون بخالقهم فهل يقال: فيهم أحياء؟ هؤلاء أموات.
    والآن تعودون بها إلى دياركم أنكم عرفتم سر هذه الحياة، لم خلق الله الجنة؟ لم خلق الله النار؟ لم خلق الله السماوات؟ لم خلق الله الجبال؟ لم خلق الحيوانات؟ لم خلق الآدميين؟ والجواب واحد: أراد أن يذكر ويشكر فأوجد هذا الكون ليسمع ذكره من أفواه عباده ويرى شكره في أعمالهم، ما أراد بالخلق زوجة ولا ولداً ولا منصباً ولا وجاهة ولا سلطاناً، هو غني عن هذه المخلوقات وهو خالقها، إذاً: ما السر في خلقها؟ السر أن يذكر ويشكر فقط، فلهذا من عاش على ذكر الله وشكره تحققت ولايته وأصبح من أهل دار السلام بما لا جدال فيه، ومن أعرض عن ذكر الله ونسيه وكفر بشكره على آلائه ونعمه فهو هالك مع الهالكين، وخاسر خسراناً أبدياً.
    فانظر: حيث بين الله تعالى لنا هذه الأحكام ثم قال: ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:89]، يا معاشر المستمعين! إذا أكلتم فاشكروا الله، إذا شربتم فاشكروا الله، إذا صليتم فاشكروا الله، بل ادعوا الله أن يعينكم على ذكره وشكره، الرسول يقول لحبيبه: ( يا معاذ ! والله إني لأحبك، لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).
    تعريف بالشرك وبيان بعض صوره
    وقد سمعتم ما قال لقمان لولده: ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )[لقمان:13]، وأنا أعرف موقناً أن من بين الحاضرين عوام وطلبة علم ما جلسوا هذه المجالس، فلا يعرفون الشرك ما هو، فسأضع أيديكم على نقاط: الحلف بغير الله شرك، الذي يقول: وحق النبي، ورأس سيدي فلان، ورأسك يا فلان أشرك بالله عز وجل.وهذا رسول الله يقول: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، ما معنى: أشرك؟ أوجد عظيماً من الخلق وأعطاه عظمة الرب وحلف به، ومن هو الأعظم والأكبر: الله أم غيره؟ الله أكبر، فكيف ترفع مخلوقاً وتحلف به تقرنه مع الله؟
    وأنبه الذين يجري على لسانهم الحلف بدون قصد: والله لا نفعل، والنبي، وحق سيدي كذا، هؤلاء كفارة ذنبهم لما يقع في الحلف أن يقول: لا إله إلا الله، فإذا قلت: والنبي فقل: لا إله إلا الله تمحوها، أخبر بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما شاهد المؤمنين الجدد هذا آمن منذ أسبوع وهذا منذ سنة يحلفون كما كانوا يحلفون في الجاهلية، فقال لهم: ( من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله )، تغسلها على الفور.
    فالحلف بغير الله شرك في عظمة الله، سويت مخلوقاً من مخلوقات الله بالله، على المنبر يقول صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، قالها على المنبر.
    فلن يسمع الله منا بعد اليوم الحلف بالأم ولا بالرأس ولا بالكعبة ولا بالنبي ولا بالمصحف أبداً، ومن جرى على لسانه فليقل: لا إله إلا الله يمحها.
    ثانياً: الذي يذبحون للأولياء في نذور على أضرحتهم، أو يقول: هذه لسيدي عبد القادر أو لسيدي مبروك أو لسيدي فلان، هذا النذر لغير الله شرك في عبادة الله، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينذر لغير ربه، النذر لله أن نقول: لك يا رب علي أن أصوم هذا الأسبوع إن فرجت كربي، لك علي يا رب أن أتصدق بألف في هذه الليلة إن فعلت بي كذا وكذا، هذا بينك وبين الله، أما أن تقول: يا سيدي مبروك ويا سيدي فلان لميت تدعوه وتتكلم معه فهذا -والله- لأن يذبح العبد خير من أن يقوله، يحاد الله ويعتدي على شرعه ودينه.
    أما الدعاء فكأن يقف أمام الضريح: يا سيدي .. يا فلان .. يا فلان، هذا من أفضع أنواع الشرك، والله لو تقف أمام علي بن أبي طالب أو عمر بن الخطاب أو رسول الله وتدعو ألف سنة والله ما أجابك، ولا عرف عنك!
    فكل من ينادي ميتاً: يا سيدي فلان! المدد أو الغوث أو كذا؛ فقد أشرك في عبادة ربه غيره ولا ذنب أعظم من هذا الذنب.
    والله نسأل أن يتوب علينا قبل موتنا، من تاب تاب الله عليه، أما من مات يشرك بالله فلا نجاة له من النار، وإليكم بيان الله، يقول تعالى لرسوله: ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[الزمر:65]، ويقول تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا )[النساء:116]، فكيف نفتح أعيننا أمام المخلوقات وننسى خالقها؟! ولكن الجهل هو الذي ساقنا إلى هذا، فهيا نعود إلى قال الله وقال رسوله لننجو من هذه الفتن.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #355
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (41)
    الحلقة (354)
    تفسير سورة المائدة (47)

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة ومع هذه الآيات الأربع:
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )[المائدة:90-92].
    هيا نتدارس هذه الآيات، معاشر المستمعين والمستمعات! من الذي نادانا بعنوان الإيمان فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:90]؟ الله. وهل يوجد تحت السماء من قال: أنا الذي ناديتكم؟ إذاً: فالله موجود، والله متكلم، والله عليم، والله حكيم، والله رحيم، فقولوا آمنا بالله.
    ينادينا بعنوان الإيمان: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:90]، أي: بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً، يا من آمنتم بالله وبرسوله ولقائه، أيها الأحياء! اعلموا ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، نادانا وهو مولانا وهو ربنا وإلهنا الذي لا إله لنا غيره، وهو الذي يكلؤنا بالليل والنهار، وهو الذي إليه مصيرنا، وهو الذي نفزع إليه في حاجاتنا، ينادينا بعنوان الإيمان؛ لأننا مؤمنون والحمد لله، فيقول لنا: ( إِنَّمَا الْخَمْرُ )[المائدة:90]، هذا تعليم منه لنا؛ إذ سبق أن علمنا أن الله لا ينادينا إلا ليأمرنا بما فيه سعادتنا وكمالنا، أو لينهانا عما فيه خسراننا وشقاؤنا، أو ليبشرنا بما يزيد في إيماننا وصالح أعمالنا، أو لينذرنا ويحذرنا مما فيه هلاكنا وخسراننا، أو ليعلمنا، فهذا النداء ليعلمنا، كأنما قال: اعلموا أنما الخمر والميسر.
    معنى الخمر
    (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))[المائدة:90]، لبيك اللهم لبيك، قل يا ربنا نسمع، مر نطع، هذا هو استعدادنا، قال تعالى: (( إِنَّمَا الْخَمْرُ ))[المائدة:90]، ما الخمر هذه؟ لفظ الخمر شاع في الشرق والغرب وعلم بالضرورة، كل ما خامر العقل وغطاه وأصبح الإنسان يقول ما لا يفهم ويهذي في كلامه هو خمر، سواء كان لبناً أو عسلاً، كل ما خامر العقل وغطاه كالخمار على وجه المرأة يغطيه، كل ما خامر العقل وغطاه، سواء كان من أي نوع من الشراب أو الطعام فهو خمر محرم. لماذا يا ربنا تحرم الخمر؟! الجواب: وهبتكم عقولكم لتعرفوا ما يضركم وينفعكم، فتفسدون عقولكم تحدياً لنا وعدم رضاً بما أعطيناكم لتضلوا وتنتكسوا في مفاسد الحياة، كيف يتم هذا من العبد؟ الخمر: كل ما خامر العقل وغطاه وستره فأصبح صاحبه يقول ما لا يفهم ويتحرك ويعمل بما لا يقصد ولا يريد؛ لأن عقله فسد بما صب عليه من إفساد، هذه الخمر، وسواء كانت من التمر أو من الزبيب أو من العنب أو من أي مادة، عمر هنا على المنبر بين هذا، فكل ما خامر العقل وغشيه وغطاه وأصبح صاحبه لا يميز ولا يفهم، أو يخلط ويخبط، مرة يقول كذا ومرة يقول كذا؛ فهذا هو الخمرة التي حرمها الله عز وجل.
    معنى الميسر
    وبعد الخمر الميسر، والمراد من الميسر: ما كان من أنواع اللعب من أجل الدينار والدرهم، وهو ما يعرف بالقمار، وأندية القمار عالمية اليوم في بلاد الكفر، وأنواع الآلات -سواء كانت عظاماً أو كانت تمراً أو كانت حديداً أو خشباً- تلك الآلات التي يستعملونها في الميسر كلها ميسر وكلها حرام. وكان العرب مبتلين بالخمر والميسر؛ لفراغهم، فلما أراد الله هدايتهم حرم عليهم كل ما من شأنه أن يقعد بهم عن السمو والكمال والارتفاع، وما حرمه على العرب حرمه على العجم، حرمه على كل مؤمن ومؤمنة، سواء كانوا عجماً أو عرباً، في الأولين أو الآخرين؛ إذ الكل عبيده وهو مولاهم لا يريد لهم إلا ما يسعدهم ويكملهم، فحرم عليهم الخمر والميسر.
    معاشر المستمعين! عرفتم الميسر: آلة يلعبون بها هذا يضع ريالاً وهذا ريالين، وأيهما يفوز يأخذ المال، مأخوذ من اليسر، لأنه ما عرق ولا تعب بل يشطح بيديه وعقله ويأخذ الفائدة.
    وشاع في المغرب كلمة الديمنو، ولعلها فرنسية، وشاع كلمة الكيرم في المدينة، وكلمة العيدان أو ما يسمونها، كل هذه الألعاب دخلت تحت لفظ الميسر الجامع لها، عرف هذا رسول الله وأصحابه، فلا يستثنى لعبة من اللعب أبداً، حتى ولو كانت بدون ثمن، فالله ما علل بالثمن، بل علل بشيء آخر.
    فهل عرف المؤمنون والمؤمنات الميسر؟ ما هو الميسر هذا؟ كل لعبة باليد أو بالرجل أو بالعقل من أجل الحصول على دينار أو درهم وأنت جالس فهو -والله- الميسر، ومن قال: نلعب الشطرنج بدون مقابل قلنا له: فالله عز وجل ما حرمه لأجل المقابل، حرمه لأجل أنه يثير العداوة بينك وبين أخيك؛ ولأنه يلهيك عن ذكر الله.
    معنى الأنصاب
    قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))[المائدة:90]، لبيك اللهم لبيك، (( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ ))[المائدة:90]، جمع نصب: ما ينصب، سواء هيكل إنسان أو حيوان أو طير أو دجاجة، الأنصاب: ما ينصب من هياكل، المشركون كانوا يعبدونها ويتقربون إليها ويستشفعون بها لله عز وجل؛ لضلالهم، فحرم الإسلام الأنصاب فلا يحل شراؤها ولا بيعها ولا صنعها، والآن اتخذت في بعض بلاد الجهل والظلم والفسق بعنوان التذكار، فيوضع للزعيم أو للرئيس أو للسلطان صنم منصوب في حديقة أو في أي مكان ويقولون: هذا للذكرى، وقد حرم الله هذا، ولا يحل أبداً للمؤمنين أن يفعلوه. حتى تلك التماثيل التي تباع في الأسواق بعنوان لهو البنين أو البنات، أو لعب البنين والبنات، الصورة التي تزيد على الشبر ويكون لها شعر وعينان زرقاوان وهي في صورة بنت أو امرأة والله! لا يحل صنعها ولا بيعها ولا استيرادها، وهي من الأنصاب. إنما أذن الشارع للبنات والبنين في السنة الأولى والثانية والثالثة باللعب مما كان شبراً من عيدان أو خيوط، أما صورة كأنها امرأة بين يدي ابنتك فهذا صنم ونصب ولا يجوز أن يوجد في بيت مؤمن، ولا يحل صنعه ولا بيعه ولا شراؤه، ومن قال: لم؟ قلت: إن الله حرم الأنصاب فقال عز من قائل: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ))[المائدة:90]. فهل عرفنا الأنصاب؟ ما ينصب من تمثال للتذكار ولغيره، أو للتعظيم والتبجيل، وما يصنع الآن بشعار لعب الأطفال، فما كان له هيكل كامرأة، كفتاة بالعينين والشعر وطوله ذراع لا يحل أبداً أن يوجد في بيت مؤمن ولا مؤمنة، لعب الأطفال التي أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانت تزيد عن الشبر، وكانت من عيدان وتلف عليها خرقة وتقول: هذه عروس، وكانت في بيت عائشة ، أما هذه الأنصاب والأصنام فلا تحل أبداً.
    معنى الأزلام
    (( وَالأَزْلامُ ))[المائدة:90] جمع زلم، الأزلام: عبارة عن عيدان، كانوا في الجاهلية يستقسمون بها، والأصل أنهم كانوا يرمون بها السهام، وحين تصبح غير صالحة يجمعها الرجل في خريطة أو كيس، ويجلس في زاوية الكعبة، ومن أراد أن يعرف مستقبله يأتي إليه، أراد أن يسافر إلى الشام للتجارة يقول له: اضرب لي الأزلام؛ حتى أعرف سفري أفيه ربح أو فيه خسران، فيجيلها في الخريطة ويخرج عوداً منها مكتوباً عليه: أمرني أو نهاني، كل عود مكتوب عليه أمرني أو نهاني، فإذا أجالها وخلطها وخرج العود ينظر: فإذا كان فيه (أمرني) يقول: امش، واصل سفرك أنت رابح، وإذا جاء العود (نهاني) يقول: لا خير لك في هذا السفر. والذي يريد أن يتزوج كذلك، والذي يريد أن يطلق، مقابل ثمن يعطيه، يريدون أن يطلعوا على الغيب بهذه الطريقة الإبليسية، فقال تعالى فيما حرم في أول السورة: (( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ))[المائدة:3]. وحل محل هذا ما يعرف بقرعة الأنبياء بين المسلمين في عصر جهلهم، ومثله ما يعرف بخط الرمل، يضع رملاً بين يديه ويخط عليه ويقول: تزوج أو طلق، وعند النساء يعرف أيضاً بالجزانة، امرأة كاهنة خاصة بهذه المهمة، ويستعملون حتى المسبحة، يجيل حباتها هل تأتي بالفرد أو بالزوج، وهذا نفس الاستقسام بالأزلام، كل هذا محرم بهذه الآية الكريمة، ومنه أيضاً التفاؤل، خرج على سيارته فسمع صوتاً ما هو بصالح فرجع، تطير بالصوت هذا وعدل، وقراءة الكف أيضاً، وكذلك القراءة في الفنجان. المهم: أن القرآن الكريم يذكر مسألة ولا يعدد كل ما هو واقع، ومن يقرؤه ويحفظه يستدل بواحدة على مائة، فكل ما كان يدعى فيه غلم الغيب ويظهر تحدياً لله واعتداءً على حقه فهو من هذا، الله ستر الغيب لأجلنا وأنت تريد أن تطلع عليه! وهنا مثل حسي: لو أن شخصاً ستر شيئاً تحت ثوبه، هل يجوز لك أن تأتي وتطلع عليه وتكشفه؟ أليس هذا محرماً عليك؟ فالله عز وجل -وهو علام الغيوب- غيب عنا أموراً فلا نطلع عليها أبداً، ما يجري غداً والله لا يعرفه أحد، فلم تأتي أنت وتحاول أن تكشف هذا وتعرفه؟ مع أن معرفته لن تصح ولن تكون، وإنما هو التدجيل والكذب وأخذ أموال الناس بالباطل. وأيضاً يجب ترك ذلك حياءً من الله، ما دام الله قد ستر هذا وجعله غيباً فكيف أحاول أن أكشفه وأن أعرفه؟! هذا سوء أدب مع الله، بل ظلم واعتداء.
    معنى قوله تعالى: (رجس من عمل الشيطان)
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ )[المائدة:90]، هذه أربعة، كلها ( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، أولاً: ( رِجْسٌ )[المائدة:90]، بمعنى: خبث، نتن، عفونة، فساد، شر.وهي ثانياً ( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، هو الذي يدعو إليها ويزينها ويحسنها ويحمل الآدميين على فعلها، فهل يرضى مؤمن أن يعمل عمل الشيطان؟
    نحن نلعن الشيطان ونستعيذ بالله طول حياتنا منه، فكيف نعمل عمله ونأتيه وأنا أعلم أنه هو الذي دعاني إليه؟! الله نهاني وهو يدعوني، ( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، لأن الشيطان يريد إفساد الآدميين، لا يريد أن يسلم مؤمن وينجو من عذاب الله؛ لأنه وأولاده وذريته وأعوانه أهل خلود في النار، فلا يريدون أن ينجو إنسان ولا جان من عذاب الله، فهم يضعون هذه الشباك ليوقعوا فيها الآدميين ليفسقوا عن أمر الله ويخرجوا عن طاعته فيلعنهم كما لعن الشياطين.
    فهيا نتلوا الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:90]، لبيك اللهم لبيك، ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ )[المائدة:90]، ما لها؟ ( رِجْسٌ )[المائدة:90]، كلمة (رِجس) تجعل المؤمن لا يقدم عليها، هي وسخ، قذر، ما الرجس؟ أليس الإثم والوسخ؟ الرجس: اسم يخبث النفس، الرجس وسخ يفسد العقل، يفسد البدن، ثانياً: ( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، كيف أعمل عمل الشيطان وأنا ألعنه كل يوم؟
    معنى قوله تعالى: (فاجتنبوه لعلكم تفلحون)
    وأخيراً يقول تعالى: ( فَاجْتَنِبُوهُ )[المائدة:90]، هذا أمر الله، فبناءً على ما علمتم أنه رجس ومن عمل الشيطان؛ إذاً: ( فَاجْتَنِبُوهُ )[المائدة:90]، ما معنى: اجتنبوه؟ أعطه جنبك لا تلتفت إليه ولا تنظر إليه، اتركوه. وإن قلت: لم يا رب؟ قال: ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:90]، أي: من أجل أن تفلحوا، والفلاح ما هو؟ النجاة من دخول النار، ثم دخول الجنة دار الأبرار، هذه -والله- هي النجاة، هذا هو الفلاح، هذا هو الفوز، دلوني على مؤمن أو مؤمنة يعرف هذا كما عرفته أنا الآن وعرفتموه أنتم معي، ثم يقدم على واحد من هذه الأربعة؟ والله ما كان، إلا إذا كان إيمانه مهزوزاً، ما هو بأصلي ثابت، بل شاك، ما استقر الإيمان بالله ولا بلقائه في نفسه.
    مراحل تحريم الخمر
    كان عمر رضي الله عنه يقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً. لأن الخمر ما حرمت في يوم واحد، حرمت بالتدريج في عدة آيات في البقرة وفي سورة النساء، لما حرمت في هذه السورة قال عمر : انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا.سأل بعض المؤمنين رسول الله عن الخمر والميسر؟ فأجاب الله بنفسه: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا )[البقرة:219] حيث يصنعون الخمر ويبيعونها، فانكمش كثيرون من المؤمنين لهذه الآية، وبقي آخرون يشربون ويلعبون؛ لأن الصيغة ما هي بصيغة تحرم.
    ثم استضاف أحد الصحابة جماعة وسقاهم الخمر، وحضرت الصلاة فقام يصلي بهم وهم سكارى، فبعدما تغدوا وشربوا أقاموا الصلاة، فقالوا الباطل والمنكر، فنزلت آية النساء: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )[النساء:43]، فأصبح لا يشربها مؤمن في أوقات الصلاة، يشربونها بعد العشاء إلى قبل الفجر، يشربونها بعد صلاة الصبح إلى الظهر، أما الأوقات التي هي قريبة من الصلاة فما يشربون فيها؛ لقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ ([النساء:43] والحال أنكم ( سُكَارَى )[النساء:43]، حتى يزول ذلك الإغفاء وتعرفوا ما تقولون.
    فاضطرب المسلمون أكثر، فـعمر أصبح يصيح: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:90]، فقالوا: انتهينا.
    إيجاز تعريف الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
    يا معشر المستمعين والمستمعات! لو سئلتم عن الميسر ما هو فماذا تقولون؟الجواب: كل لعبة بحديد، بكعاب، بخشب، يجتمع عليها اثنان أو ثلاثة فهي من الميسر، الآن يسمونها الورق، وكذلك البلوط، قل ما شئت حتى ولو كان اللعب ليس من ورائه فائدة فقد حرمه الله؛ لأنه يلهي عن ذكر الله وينهى عن الصلاة، ويوجد عداوة وبغضاء بين اللاعبين وهم المؤمنون.
    وهل عرفتم الأزلام؟ هي التي تسمى قرعة النبي، وخط الرمل، وكذلك بالمسبحة، بالكف، بالكأس، كل هذه الألوان -والله- داخلة تحت كلمة الأزلام، فلا يحل لمؤمن أبداً أن يحاول أن يكشف غيب الله وما هو بقادر عليه.
    وقد فتح لنا الرسول صلى الله عليه وسلم الباب الشرعي، فمن أراد أن يقدم على أمر زواج أو طلاق أو بناء أو هدم أو سفر وهو لا يعرف ما عند الله من الغيب فليصل ركعتين ويسأل الله عز وجل أن يوفقه لما فيه خيره، هذه هي صلاة الاستخارة، ما نحن في حاجة إلى كاهن ولا دجال كدانة ولا خزانة هذا طريقنا نحن، تريد أن تتزوج وما تدري هل في زواجك خير أم لا، فاستخر ربك، صل ركعتين، واخشع لله وقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن في زواجي أو طلاقي أو سفري خيراً فاقدره لي ويسره لي وأعني عليه، وإن كنت تعلم أنه لا خير لي فيه فاصرفه عني واصرفني عنه. ثم امش في عملك، فالذي تفعله هو الذي اختاره الله لك، هذه أبطل الله بها الأنصاب والأزلام وكل هذه الحيل الباطلة.
    ما الأنصاب الذي حرمها الله؟ هي جمع نصب، ما ينصب من تذكار، الآن لا يعبدونها، ولكنهم صنعوها كما صنع المشركون، فلهذا لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يعلق في جدار غرفته صورة لأبيه أو أمه أو أي إنسان كان، فهذا من الأنصاب، وأهل الضلال يجعل تمثال قط أو كلب في سيارته، أو صورة طير أو كلب وراء السيارة، هذه يفعله المؤمنون والله يناديهم ويحرم عليهم الأنصاب!
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، وهل بعد هذا تقدم على مثل هذا؟ فهو أولاً: وسخ وإثم، ثانياً: ( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، فكيف يقوم المؤمن بعمله؟
    ثم قال تعالى: ( فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:90]، من قال: لا أجتنبه فوالله ما أفلح، فربط فلاحنا باجتناب هذه المحرمات، والذي استباح هذه هل يبقى عنده محرم آخر؟ يستبيح كل محرم.
    تفسير قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ...)
    ثم قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ )[المائدة:91]، لا في الأزلام ولا في الأنصاب، في الخمر والميسر، يريد ماذا؟ ( أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ )[المائدة:91]، أن يوقع بين اللاعبين العداوة والبغضاء، فكم تضاربوا وتقاتلوا، وخاصة إذا كانوا يلعبون بالمال، يسب ويشتم وبعد ذلك يضربه. المهم: أن هذه الجلسة بين اثنين أو ثلاثة للعب -سواء كانت بالفلوس أو بدونها- هي من عمل الشيطان ودعوته، وعلل الله تعالى التحريم لنفهم ونفقه، قال: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ )[المائدة:91]، وكل ما يوجد عداوة بين مسلمين أو بغضاء بين مؤمنين فهو -والله*- حرام إلى يوم القيامة؛ إذ لا يحل أن يعيش المؤمنون متعادين أو متباغضين، يجب أن يعيشوا متحابين متعاونين، فكل ما من شأنه أن يحدث العداوة والبغضاء فهو حرام، حتى ولو كان كلاماً، هل يجوز أن تقول كلمة توجد بها عداوة بين الناس؟ حرام لا يحل هذا، هي فتنة أوقدت نارها.فالله عز وجل وهو ولي المؤمنين حرم عليهم هذا؛ من أجل أن يبقوا متحابين متعاونين، لم يأذن لهم بهذا؛ حتى لا يصبحوا أعداء لبعضهم؛ لأنهم يحملون راية لا إله إلا الله، فإذا تعادوا وتباغضوا نزلوا وهبطوا.
    (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ )[المائدة:91]، أتعرفون أن خير أعمالنا وأزكاها عند مليكنا وأعظمها أجراً هو ذكر الله؟ أما تعلمون أن ذكر الله كقوت للقلوب والأرواح، ما تركه أحد إلا هلك، فالشيطان يريد أن يجلس المؤمنون على طاولة اللعب ساعتين وثلاث لا يذكرون الله، ولو ذكروه لقاموا، قد تدوم الجلسة في بعض الأماكن الساعة والساعات لا يذكر فيها الله، فهل يجوز لمؤمن أن يقضي ساعات غير نائم وهو لا يذكر الله عز وجل وهو مخلوق للذكر؟ علة خلقنا ووجودنا أن نذكر الله.
    (وَيَصُدَّكُمْ )[المائدة:91] يصرفكم عن شيئين عظيمين: الأول: ذكر الله الذي لا يفارقنا أبداً. والثاني: الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد رأينا وسمعنا، فهل اللاعبين حين يؤذن الأذان يقومون يصلون؟ لا يصلون.
    وأخيراً يقول الجبار المعز المذل من بيده ملكوت كل شيء، يقول: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، ما إن نزلت حتى قال عمر في غير شعور: انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا. فهذا أبلغ من كلمة: انتهوا، ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91] أم لا؟ من يتحدى ويقول: لن ننتهي ويبقي الكيرم في بيته يعبث به؟ إن المؤمنين في الشرق أو الغرب لو اجتمعوا على دراسة هذه الآية وحفظوها وفهموا معناها، فلا أشك أن هذه الأباطيل لن توجد بينهم ولن يقدم عليها أحد، وأكثر الذين وقعوا فيها وتورطوا ما عرفوا هذا، أو تلقوا فتاوى تائهة ضائعة من أهل الجهل وقالوا: ماذا في ذلك ما دام بدون فلوس ولا مال! فهل الله عز وجل حرمها لأجل الفلوس؟ أما قال: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ )[المائدة:91].
    وأخيراً: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، انتهينا يا ربنا، وإن كنا ما لعبنا طول حياتنا، لكن نقول: انتهينا يا ربنا.
    تفسير قوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ...)
    ويقول تعالى بعد هذا: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا )[المائدة:92]، ماذا نحذر؟ نحذر المعصية، ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )[المائدة:92]، وقد حرم الله هذه المحرمات، وبلغ هذا رسول الله، ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا )[المائدة:92]، ماذا نحذر؟ المعصية لله والرسول، المخالفة لأمر الله والرسول ونهي الله والرسول، فقوله تعالى: (واحذروا) تهديد، لو قالها عسكري أو سلطان لارتعدت الفرائص، ولكن قالها الجبار جل جلاله وعظم سلطانه.(وَاحْذَر ُوا )[المائدة:92] أن تعودوا لمثل ما حرم عليكم ونهيتم عنه وبين لكم علة ذلك وسبب ذلك النهي. ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ )[المائدة:92]، أعرضتم، قلتم: ما نسمع هذا الكلام، ما نترك شيئاً عشنا عليه، ما نترك ما كانا نفعله، ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )[المائدة:92]، وقد بلغ، وأنتم الآن إن توليتم فاعلموا أننا نيابة عن رسول الله بلغناكم، وبعد ذلك أمركم إلى الله العظيم!
    (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )[المائدة:92]، وقد أدى ما عليه، قد بلغ وبلغكم وعرفتم، وحينئذٍ يترك الأمر للرب جل جلاله، هو الذي يبطش بالظلمة والفاسقين والمجرمين في الدنيا وفي الآخرة.
    ملخص لما جاء في تفسير الآيات
    وأخيراً أعيد تلاوة هاتين الآيتين: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:90]، لبيك اللهم لبيك، قل يا رب، ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:90]، وإن قلت: لماذا يا رب هذا؟ قال: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ )[المائدة:91]، أي: في لعبهما، ( وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، انتهينا يا ربنا، قالها عمر بأعلى صوته: انتهينا يا ربنا. ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )[المائدة:92] في كل أمر أمركم به ونهي نهاكم عنه، إذ لا يأمر إلا بما يسعد ولا ينهى إلا عما يشقي ويردي والواقع شاهد، ( وَاحْذَرُوا )[المائدة:92] المخالفة، احذروا المعصية، فإن أبيتم فقد بلغ رسول الله، ( أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )[المائدة:92].والله تعالى أسأل إذا كان بيننا من يتعاطى من هذه المحرمات الأربع أن ينجيه منها وأن يذهبها من قلبه، وأن يصرف نفسه من الآن.

    وبلغوا أنتم إخوانكم، من سمع هدى أو خيراً فليبلغه، احذروا الصور في البيوت فإنها من الأنصاب.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #356
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (42)
    الحلقة (455)
    تفسير سورة المائدة (48)


    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    معشر الأبناء والإخوان المستمعين والمؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل إن شاء الرحمن لنا ذلك؛ رجاء أن نظفر ونفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع، وإن كنا قد درسنا بعضها فيما سبق، إليكم تلاوتها فتدبروا معانيها، وتذكروا ما سبق أن علمتم وما تعلمون.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:90-93].
    هذا نداء من نداءات الرحمن لأهل الإيمان، وتضمن أحكام خلاصة ما نقوله قبل أن نشرع في شرح الآيات في الكتاب، فقد علمنا أن الله ما نادانا بعنوان الإيمان إلا لأننا أحياء، نسمع ونبصر، ونقدر على أن نفعل ونترك، وعلة ذلك وسره الإيمان الحق، الإيمان الصحيح بمثابة الروح، فمن عدم الإيمان كمن عدم الروح، ومن فقد روحه هل يسمع إذا ناديته، هل يفهم إذا فهمته؟ هل يطيعك فيأخذ أو يعطي؟
    نادانا تعالى بقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:90]، ليعلمنا وليأمرنا وينهانا، فقال: ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ )[المائدة:90]، فيها سخط الله عز وجل، هذه الأربعة نجس وسخط لله.
    تعريف الخمر والميسر والحث على اجتنابهما
    والخمر: كل ما خامر العقل وغطاه وستره فأصبح صاحبه يهذي ويقول ما لا يعرف، سواء كانت من التمر أو الزبيب أو العنب أو غير ذلك، كل ما خامر العقل وغطاه وستره فأصبح المرء يقول ما لا يعلم هذا هو الخمر، ولا عبرة بمادة اشتقاقها، فالتمر والعنب من أطيب الفواكه، لكن لما يستعملونهما للخمر يصبحان خمراً.وأما الميسر: فكل الألعاب التي يتعاطاها الناس في الشرق والغرب في المقاهي والملاهي، على اختلاف أسمائها وأنواعها، هي ميسر، وسمي ميسراً من اليسر؛ لأن اللاعبين لا يتكلفون جهداً ولا طاقة، وقد يربح أحدهم الآلاف وهو جالس؛ فلهذا سموه بالميسر، ولنعلم أن الذين يقولون: ما دمنا لا نعلب على مال وإنما للتسلية وقتل الوقت وما إلى ذلك؛ هذا الكلام باطل، فالميسر وأنواع اللعب -سواء كانت بالمال أو كانت بغيره- محرمة بهذه الآية الكريمة، وحاشاه تعالى أن يأذن لعباده في اللعب، وما خلقهم ليلعبوا، أما قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )[الذاريات:56]، فهل يعبد الله باللعب؟
    فالميسر قل ما شئت مما يلعب به الناس، في المدينة يسمونه: الكيرم، في المغرب يسمونه: الديمنو أو كذا.. وكلها ألعاب محرمة، والتحريم تسمعونه عندما تقرءون: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ )[المائدة:91]، ومن يدعي أنه في حاجة إلى ترويح نفسه فيرقص ويسرح ويدعي فهذا كله كلام باطل، اقرأ كتاب الله، اذكر الله والدار الآخرة، قف على الموتى في مقابرهم تعد إليك روحك وحياتك، جالس الطالحين وتذاكر معهم، أما هذه التي يزعمون أنها تنفس عن الروح؛ فهي -والله- خطأ وكذب وباطل، ولا تزيدهم إلا كروباً وهموماً.
    قال تعالى: ( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، هو الذي يزين ويحسن ويدفع المرء إلى أن يعمل هذا الباطل، ( فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:90]، ما معنى: اجتنبوه؟ ابتعدوا عنه جانباً لا تقبلوا عليه ولا تستقبلوه؛ رجاء أن تفلحوا، وما الفلاح؟ هو الفوز، أفلح: فاز، والفوز بينه تعالى بقوله: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )[آل عمران:185]، فالفوز إذا سمعته في كتاب الله فمعناه: النجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار، هذا هو الفوز، هذا هو الفلاح.
    حرص الشيطان على إيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين
    ثم قال تعالى وقوله الحق: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ )[المائدة:91]، والعداوة بين المسلمين محرمة، لا تحل أبداً، من هجر أخاه فوق ثلاث ليال تعرض لغضب الله، والبغضاء: من البغض، فالمؤمنون كأنهم جسم واحد، لا عداوة ولا بغضاء؛ لأنهم حملوا راية لا إله إلا الله، فإذا تنازعوا واختلفوا وتباغضوا سقطت من أيديهم، والواقع شاهد، ما نحتاج إلى برهان، فكل ما من شأنه أن يوجد عداوة وبغضاء بين مؤمن ومؤمن حرام مطلقاً، إذ العداوة بين أولياء الله لا تصح أبداً، وكذلك البغضاء بين أولياء الله، هل ولي الله يبغض ولي الله؟! كيف يكون هذا؟!فالشيطان بتزيينه هذه المحرمات الأربعة يريد منا -والعياذ بالله تعالى- أن يشيع بيننا العداوة والبغضاء، فأين يوجد ذلك؟ قال: في الخمر والميسر، وجد إبليس فرصة لإثارة العداوة والبغضاء بين المؤمنين في تزيينه لهم الخمر والميسر، فالذي يشرب الخمر قد يسب أمه وأباه، قد يقتل، قد يفعل الفاحشة، وصاحب الميسر يغضب ويسخط ويعادي، وكم مرة يتضاربون على اللعب ويبغض بعضهم بعضاً، والله عز وجل لا يريد لأوليائه أن يتعادوا أو يتباغضوا، الشيطان عدو الله يريد ذلك، فالله برحمته ولطفه وإحسانه إلينا حذرنا من هذا الذي يوجد فتنة لنا، فلننته، لا نلعب ميسراً ولا نشرب خمراً ولا مسكراً.
    سعي الشيطان في صد المؤمنين عن الذكر والصلاة
    (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ )[المائدة:91]، أسألكم بالله: هل رأيتم حلقة يلعبون ويذكرون الله: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، لا إله إلا الله، وهم يلعبون؟ لا يذكرون الله قط، فيقضون الساعتين والثلاث لا يذكرون الله بينهم، أية مصيبة أكبر من هذه؟ (وَعَنِ الصَّلاةِ )[المائدة:91]، الذين جلسوا على هذا اللعب هل يصلون إذا دقت الساعة أو نادى المنادي؟ لو دعاه أبوه أو أمه ما يترك الحلقة التي يلعب فيها، وخاصة إذا كانوا بالمال.
    إذاً: بشع الله تعالى وقبح لنا هذه الأربع، فيجب أن نمتثل أمر ربنا، وألا يرانا الله عز وجل نتعاطى أو نعمل شيئاً من هذه المحرمات، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ )[المائدة:90-91]، حتى لا تذكروا الله، ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، انتهينا يا ربنا، قالها عمر بأعلى صوته لما نزلت؛ لأنه رضي الله عنه كان يتململ ما استراح، والآيات تنزل، فأول آية نزلت في سورة النحل: ( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ([النحل:67]، هذه معلنة إباحة الخمر، ) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا )[النحل:67]، ذكر تعالى هذا ليبين لهم نعمه عليهم؛ ليعبدوه ويشكروه، ثم جاءت آية البقرة المدنية فنزل فيها: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ )[البقرة:219]، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم الخمر والميسر، ( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا )[البقرة:219]، فانكمش كثيرون من المؤمنين والمؤمنات لهذا الخبر، لكن ليس صريحاً في التحريم والمنع.
    وفي يوم من الأيام اجتمع جماعة على ضيافة وسقوا الخمر، فحضرت الصلاة فقام أحدهم يصلي فأخذ يقول الباطل في صلاته؛ لأنه سكران، وحصل حتى الضرب بينهم والمقاتلة، ومن ثم نزلت هذه الآية الناهية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )[النساء:43]، فأصبحوا لا يشربونها إلا بعد صلاة العشاء أو بعد صلاة الصبح إلى قبل الظهر، وأما بعد الظهر والعصر والمغرب فلا؛ لأن الصلاة قريبة، فتململ المؤمنون وعلى رأسهم عمر ، فكان يقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت هذه الآية، فقال: انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا.
    تعريف الأنصاب والأزلام وبيان تحريمهما
    وأجمع المسلمون على تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، أتدرون ما الأنصاب؟ جمع نصب: ما ينصب من حجر أو صنم ليعبد ويقدس ويتبرك به، هذه هي الأنصاب، ويسميها المعاصرون التذكارات، النصب يسمونه: التذكار، فيجعلون للرجل صورة من حديد أو خشب لأجل الذكرى، هذه الأنصاب لا يحل صنعها، ولا يحل بيعها ولا يحل الرضا بها، ولا يحل السكوت عليها أيضاً وهي بين يديه، والحمد لله فقد نجانا الله من هذه، ولكن لفتنا النظر إلى أنهم يستقدمون أو يستوردون أصناماً، صور بالعاج أو بالساج، فتاة شعرها أصفر وعيناها زرقاوان، بيضاء كالوجه وعلى طول الذراع؛ بحجة لعبة للأطفال، فهذا لا يجوز أبداً، والملائكة لا تدخل هذا المنزل الذي فيه هذه الصورة، وحجتهم -وهم يبحثون عن كل ما يحل لهم ما يريدون- أنه على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوجد عرائس على عودين من خشب وعليهما قماش أو كذا، قالوا: هذه أجازها الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقول: نعم، ولا تزيد على الشبر، أما هذه الصورة فكأنها تنطق، بل وأصبحوا ينطقونها بالكهرباء أيضاً، ولا إخال أحداً منا يسمع ويبقى هذا في بيته.والأزلام: جمع زلم، عيدان كانوا يتطلعون بها إلى المستقبل، وشاء الله عز وجل أن توجد أزلام غير التي كانت على عهد نزول القرآن، ما يعرف بخط الرمل، اذهب إلى باريس ومر بشوارع فيها العرب تجد أصحاب خط الرمل جالسين على الطريق يطلعونك على ما تخافه أو كذا، وفي النساء امرأة يسمونها الجزانة، ويقال لها: شوافة، وفي بلادي يسمونها الجزانة، هذه يذهب إليها الرجل ويعطيها المال لتطلع على الغيب، إذا أراد أن يتزوج أو يسافر أو يبني أو يهدم ولا يدري الخير فيم يذهب إلى الشوافة أو الجزانة، وتطلعه.
    ومن ذلك أيضاً ما يجعلونه بالمسبحة، يخلط حبات المسبحة فإن جاءت بالزوج أو بالفرد يقول: افعل أو لا تفعل، ويوجد غير هذا أيضاً، والكل داخل تحت كلمة: الأزلام؛ لأنه بحث عن غيب غيبه الله، فهو من شر الاعتداء على الله عز وجل، الله يستر الشيء لصالح البشر وأنت تريد أن تكشف عنه، وقلت غير ما مرة من باب الآداب: هل إذا عرفت أن فلاناً يخفي شيئاً في جيبه في حاجة إليه تأتي وتظهر ذلك؟ هذه شر إساءة وأقبحها، فالله عز وجل ستر الغيب لتنتظم الحياة وتصل إلى نهايتها، فكيف -إذاً- تحاول أن تعرف ما غيبه الله، أليست هذه حرباً على الله؟ الله يغيب ويستر وأنت تريد أن تكشف وتظهر؟! أيجوز لعبد الله أن يفعل هذا؟!
    قال تعالى: ( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:90]، وبين تعالى لنا فقال: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ )[المائدة:91]، ماذا بقي لنا؟ إذا صرفنا عن ذكر الله فأصبحنا لا نذكره، وعن الصلاة فأضعناها وأهملناها؛ فما بعد هذا الإثم إثم.
    وقوله تعالى: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، انتهينا يا ربنا.
    الأمر بطاعة الله ورسوله والتحذير من معصيتهما
    ثم قال تعالى: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا )[المائدة:92]، هذه وصية الله في هذه القضية، ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )[المائدة:92]، فيم؟ فيما يأمرانكم وينهيانكم، الطاعة تكون في الأمر والنهي، ما أمركم بفعله فافعلوه، وما أمركم بتركه فاتركوه، ( وَاحْذَرُوا )[المائدة:92]، احذروا عواقب المعاصي فإنها شؤم وبلاء وعذاب، فالذين يعصون الله ويخرجون عن طاعته يتمزقون، يخسرون حياتهم وآخرتهم، فلو أن شخصاً ما حذر وأصر على الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، فهل سيسعد هذا؟ سيخسر خسراناً أبدياً. ثم قال تعالى: ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ )[المائدة:92]، أي: أعرضتم وما سمعتم ما أمرناكم ونهيناكم؛ إذاً: ( فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )[المائدة:92]، وقد بلغ وبين لكم.
    أولاً: احذروا معصية الله ورسوله، حرم عليكم الخمر والميسر فيجب أن تجتنبوه وتتركوه، فإن أبيتم وتوليتم وأبيتم أن تستجيبوا فما على الرسول إلا البلاغ، وقد بلغ والعقوبة ستنزل عليكم.
    تفسير قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ...)
    ثم جاءت الأخيرة: وهي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لما نزلت هذه الآيات فحرمت الخمر تحريماً قطعياً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن إخوانه الذين ماتوا وهم يشربون الخمر قبل تحريمها، كان الأصحاب يشربون الخمر إلا من ندر، أبو بكر ما شربها ولا لعب الميسر، لكن أكثر الناس كانوا يلعبون، ثم ماتوا قبل أن ينزل التحريم، فقال أبو بكر : ما حكمهم؟ هل هو ذنب يؤاخذون به أم لا؟ فنزلت هذه الآية الأخيرة: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ )[المائدة:93] أي: إثم، ( فِيمَا طَعِمُوا )[المائدة:93]، شربوه أو أكلوه، بشرط: الإيمان والعمل الصالح، أما الكافر والفاسق والفاجر فلا شأن له في هذا الباب، لكن المؤمن التقي العامل الصالحات الذي شرب الخمر ولعب الميسر قبل أن يحرم الله ذلك، ومات قبل نزول الآية، هل عليه إثم؟ قال تعالى: لا جناح، والجناح: الإثم، من جنح إلى الشيء: إذا مال إليه، فلا جناح عليه بهذا الشرط: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:93] أولاً ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:93] ثانياً ( جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا )[المائدة:93]، وأكد هذا بقوله: ( إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:93]، وهذا يتناول أيضاً الأحياء الذين شربوه وما ماتوا حتى حرمت، وهذا التأكيد للتكرار عجيب.أعيد الآية: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا )[المائدة:93]، بشرط: ( إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:93]، هذا يدل دلالة قطعية على أن هذه المحرمات الأربعة من أعظم الذنوب في الإسلام، وهي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وحسبنا أن يقول ربنا: ( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، فكيف تبيح لنفسك شربها أو تعاطيها أو عملها؟ ( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، وفوق ذلك: ( فَاجْتَنِبُوهُ )[المائدة:90].
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير
    معنى الآيات
    والآن أسمعكم ما جاء في الشرح لهذه الآيات الأربع. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ لما نهى الله تعالى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله تعالى لهم بين لهم ما حرمه عليهم، ودعاهم إلى تركه واجتنابه لضرره وإفساده لقلوبهم وأرواحهم ]، لأن الآيات السابقة أحلت لهم الطيبات، [ فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:90]، أي: يا من صدقتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً! اعلموا ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ )[المائدة:90]، أي: سخط وقذر مما يدعو إليه الشيطان ويزينه للنفوس ويحسنه لها لترغب فيه، وهو يهدف من وراء ذلك إلى إثارة العداوة والبغضاء بين المسلمين الذين هم كالجسم الواحد، وإلى صدهم عن ذكر الله الذي هو عصمتهم وعن الصلاة التي هي معراجهم إلى الله ربهم، وآمرتهم بالمعروف وناهيتهم عن المنكر، ثم أمرهم بأبلغ أمر وأنفذه إلى قلوبهم لخطورة هذه المحرمات الأربع وعظيم أثرها في الفرد والمجتمع بالشر والفساد فقال: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91].
    وأمرهم بطاعته وطاعة رسوله وحذرهم من مغبة المعصية وآثارها السيئة فقال: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا )[المائدة:92] مغبة ذلك ] أي: ذلك العصيان، [ ثم أعلمهم أنهم إن تولوا عن الحق بعدما عرفوه فالرسول لا يضيره توليهم ] ولا يضره ذلك [ إذ ما عليه إلا البلاغ المبين وقد بلغ، وأما هم فإن جزاءهم على توليهم سيكون جزاء الكافرين وهو الخلود في العذاب المهين. هذا معنى قوله: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )[المائدة:92].
    وقوله تعالى في الآية الأخيرة: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:93] ] هؤلاء الذين شربوا الخمر ولعبوا الميسر قبل أن يحرم الله ذلك [ ( ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا )[المائدة:93] ]، هذا يتناول الأحياء الذين كانوا يشربونها ثم تركوها، بشرط التقوى والإيمان أيضاً والإحسان، [ ( ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:93]، فقد نزلت لقول بعض الأصحاب ] وقد روي أنه الصديق رضي الله عنه [ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ما بال الذين ماتوا من إخواننا وهم يشربون الخمر ويلعبون الميسر؟ أي: كيف حالهم، فهل يؤاخذون أو يعفى عنهم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأعلم أنهم ليس عليهم جناح -أي: إثم أو مؤاخذة- فيما شربوا وأكلوا قبل نزول التحريم بشرط أن يكونوا قد اتقوا الله في محارمه وآمنوا به وبشرائعه، وعملوا الصالحات استجابة لأمره وتقرباً إليه، فكان رفع الحرج عليهم مقيداً بما ذكر في الآية: ( إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا )[المائدة:93]، كما لا جناح على الأحياء فيما طعموا وشربوا قبل التحريم وبشرط الإيمان والعمل الصالح والتقوى لسائر المحارم، ودوام الإيمان والتقوى والإحسان في ذلك بالإخلاص لله عز وجل ].
    هداية الآيات
    الآن مع هداية الآيات، إذ لكل آية هداية تهدي المؤمنين إلى ما يحب الله ويرضى وإلى ما يسعدهم ويكملهم:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ هداية الآيات:
    من هداية الآيات:
    أولاً: حرمة الخمر والقمار، وتعظيم الأنصاب والاستقسام بالأزلام ]، كل هذه محرمة، تعظيم الأنصاب كما قدمنا كالتذكارات التي ينصبونها ويعظمونها.
    [ ثانياً: وجوب الانتهاء من تعاطي هذه المحرمات فوراً، وقول: انتهينا يا ربنا كما قال عمر رضي الله عنه ]، لو أن أحداً بيننا كان يتعاطى واحدة من هذه كان عليه أن يقول: انتهيت يا رب من الليلة.
    [ ثالثاً: بيان علة تحريم شرب الخمر ولعب الميسر ]، حرم هذه الأربعة لعلة، لحكمة، ليس تحريماً بلا معنى، قال: [ وهي إثارة العداوة والبغضاء بين الشاربين واللاعبين، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهما قوام حياة المسلم الروحية ]، فهذا التعليل ما بعده تعليل، فمن قال: لم؟ فهذا الجواب.
    [ رابعاً: وجوب طاعة الله والرسول والحذر من معصيتهما ]، أما قال تعالى: ( وَاحْذَرُوا )[المائدة:92]؟
    [ خامساً: وجوب التقوى حتى الموت ]، لا يتقي عاماً ويفجر عاماً آخر، بل يتقي الله ويواصل تقوى الله حتى يأتيه الموت وهو تقي لله.
    قال: [ ووجوب الإحسان في المعتقد وفي القول والعمل ]، وجوب الإحسان في ثلاثة: في المعتقد، يكون اعتقاده سليماً صحيحاً، خالياً من الشكوك والاضطرابات والأوهام والخرافات والبدع والضلالات.
    وفي قوله: يجب أن يحسن القول، فلا يقول إلا المعروف ولا يتكلم إلا بالحق، ويجعل ذلك لله هو الذي يجزيه به، وفي العمل: كل أعمالنا التعبدية الإحسان واجب فيها، الذي لا يحسن الوضوء وضوؤه باطل، ما يحسن الصلاة فصلاته باطلة، لا بد من الإحسان، والذي يحقق الإحسان لنا هو مراقبة الله عز وجل، عندما نتوضأ من الحنفية إذا ذكرنا الله عز وجل أغلقناه، والذي لا يذكرونه يتركونه يسيل حتى يتوضئوا إلى هذا الحد، تذكر الله فتخاف كيف يسيل هذا الماء الضائع؟ فمراقبة الله عز وجل أقوى العوامل على الاستقامة، واذكروا لذلك قول الله تعالى: ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ )[العنكبوت:45]، هذه مقومات الاستقامة للعبد، ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ )[العنكبوت:45]، غير ما مرة نقول: أرني مؤمناً يذكر الله ثم يسب أو يشتم، يذكر الله ويتناول المحرم فيأكله، يذكر الله ويؤذي مؤمناً بيده أو بلسانه؟ لا يفعل ذلك إلا الناسي البعيد عن ذكر الله، وأعظم من ذلك في قوله: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ )[العنكبوت:45]، هذه المراقبة، إذا علمت أن الله يعلم ما تصنع من الخير والشر، في الليل أو في النهار، إلا إذا كنت نائماً، فكل حركاتك وسكناتك الله يراها، فمن رزق هذا المراقبة لله أحسن وحقق الإحسان؛ إذ الرسول سئل عن الإحسان ما هو؟ فقال: ( أن تعبد الله كأنك تراه )، الذي ينظر إلى الله وهو يراه هل يستطيع أن يعبث في عبادته؟ هل يقدم أو يؤخر، أو يزيد أو ينقص؟ ما يستطيع، فإن عجز العبد عن هذا المقام السامي فليعبد الله وهو يعلم أن الله يراه، اعلم أن الله يراك فقط، إذا عجزت أن تعبده كأنك تراه، والذي يرى أن الله ينظر إليه -والله-يستحي، يخجل، يخاف ويرهب وما يواصل العبث أبداً، ما يرتكب الجريمة، والشيطان هو الذي يلهيهم عن ذكر الله بأية واسطة، ومن وسائط الإلهاء: اللهو واللعب، وهو مشاهد، والله تعالى نسأل أن يجنبنا هذا اللهو وهذا الباطل.
    تنبيه على كذب رسالة يطلب نشرها للآخرين
    معاشر المستمعين والمستمعات! قدمت لنا هذه الورقة، فإليكموها: بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله، صلوا عليه وسلموا تسليماً، يقول الكاذب أو الكاذبة: فتاة تبلغ من العمر ستة عشر عاماً مريضة جداً، الأطباء عجزوا عن علاجها، وفي ليلة القدر - ولا ندري كيف عرفتها- بكت الفتاة بشدة ونامت، وهي في منامها جاءتها السيدة زينب رضي الله عنها وأرضاها وأعطتها شربة ماء، ولما استيقظت من نومها وجدت نفسها شفيت تماماً بإذن الله، ووجدت قطعة قماش مكتوب عليها: أن تنشر هذه الرسالة وتوزعها على ثلاثة عشر فرداً، ووصلت هذه الرسالة إلى عميد بحري، فوزعها أيضاً على ثلاثة عشر فرداً فحصل على ترقية عالية في وظيفة خلال ثلاثة عشر يوماً، ووصلت إلى تاجر فأهملها فخسر كل ثروته خلال ثلاثة عشر يوماً، ووصلت إلى عامل فوزعها فحصل على ترقية، وحلت جميع مشاكله خلال ثلاثة عشر يوماً!
    ويقول هذا الكاذب: أرجو منك -يا أخي المسلم- أن تقوم بنشرها وتوزيعها على ثلاثة عشر شخصاً، الرجاء عدم الإهمال، الإمضاء: أم الفتاة.
    ملحوظة هامة: قالت: قمت بنشر هذه الرسالة لمجرد أنها تحتوي على (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وفقنا الله وإياكم إلى خير الأمة.
    وأقول: والله! إنه لكذب.. والله! إنه لكذب.. والله! إنه لكذب، ما وقع هذا ولا يقع هذا، وهذا كله من التدجيل والكذب والعياذ بالله، فاحذروا، ومن حصل عليها فليمزقها وليلعن صاحبها.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #357
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (43)
    الحلقة (456)
    تفسير سورة المائدة (49)

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون والمؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي بعدها -إن شاء- الله ندرس كتاب الله عز وجل.
    وها نحن مع سورة المائدة المدنية، ذات الأحكام الشرعية العديدة، بالأمس عرفنا ما حرم الله تعالى علينا من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وأمرنا بالانتهاء فقلنا: انتهينا يا ربنا، فمن كان منا يتعاطى شيئاً من هذه أعلن عن توبته؛ لأن عمر كان يقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فلما نزلت: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، قال: انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا.
    وعرفنا أن الذين شربوا الخمر ولعبوا الميسر قبل تحريمهما لا إثم عليهما بشرط أنهم مؤمنون متقون، والذين شربوها وتعاطوها بعدما نزل تحريمها هؤلاء إن تابوا تاب الله عليهم، وإن أصروا على هذا فهم فساق فجرة أمرهم إلى الله، إن شاء غفر لهم وإن شاء عذبهم.
    وفي هذه الليلة مع هذه الآيات، فهيا نسمع تلاوتها متدبرين متفكرين قبل أن نتناول شرحها وتفسيرها.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُ مُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:94-96]، تحشرنا الملائكة وتجمعنا لساحة القضاء وفصله.
    غاية الابتلاء بالصيد
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:94]، هذا نداء الله لعباده المؤمنين، ناداهم ليعلمهم بما لم يكونوا يعلمون؛ إذ قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُ مُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ )[المائدة:94]، والابتلاء الاختبار، من أجل أن تتجلى حقائق الإيمان في نفوس المؤمنين، بدون ابتلاء كل الناس يقولون: إنهم صالحون مؤمنون، فالابتلاء اختبار بأمور قد تكون صعبة على النفس، فإن حمل الإيمان صاحبه على أن يمتثل أمر الله تجلى إيمانه وصح منه، وإذا عجز ولم يمتثل أمر الله بالفعل أو الترك فإيمانه ضعيف أو مشكوك فيه، الله عز وجل قد علمنا قبل أن نكون وعلم منا الصالح والطالح والبار والفاجر، ولكن هذا الابتلاء اختبار نحن الذين نعرف حقيقته، أما الله فقد علم الصالح منا والطالح، قبل أن يخلق السماوات والأرض، إذ كتب ذلك في كتاب المقادير، ولهذا يقال: هذا علم ظهور؛ لتظهر حقيقتنا بين يدي الله والناس. وما قال: ليبلوكم الله بالصيد، قال: ( بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ )[المائدة:94]، لا بكل الصيد.والصيد: هنا مصدر صاد يصيد صيداً، وأطلق المصدر على الاسم، الصيد بمعنى: المصيد الذي صيد، ( تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ )[المائدة:94]، هنا الابتلاء على حقيقته، بحيث تتناول هذه الصيد بيديك، كالبيض وكالفراخ الصغيرة التي ما تحتاج إلى أن ترميها، تنالها بيدك، وأما الغزال والظباء وحمار الوحش فهذه كلها ما نتناولها بأيدنا، لكن الذين نتناوله بأيدينا: البيض، وصغار الغزلان، تلك الحيوانات التي بإمكانك أن تتناولها بيدك، وأخرى ما نقدر على تناولها إلا بضربها بالنبال والرماح.
    (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ )[المائدة:94]، والعلة: ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ )[المائدة:94]، لم شرع الله هذا وألزم المؤمنين به؟ شرعه ابتلاءً لهم ليظهر المؤمن الصادق الذي يؤمن بالله غيباً، ويظهر من لا يخاف الله بالغيب، هذه هي العلة، ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94]، الذي يصيد بعدما حرم الله الصيد ابتلاءً لنا وامتحاناً ( فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94]، والله إذا قال: العذاب الأليم فهو عذاب ما يطاق، الذي يستبيح ما حرم الله كبراً وعناداً هذا انسلخ من إيمانه وإسلامه، ولهذا يذوق العذاب الأليم.
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُ مُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ )[المائدة:94]، بعضه تناله الأيدي وبعضه تناله الرماح، ما كان من صغار الطير وفراخه وبيضه فباليد، وما كان من كبار الغزلان والظباء فلا بد من الرمح، ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ )[المائدة:94]، هذه لام التعليل، لماذا ابتلانا بهذا الابتلاء؟ من أجل أن يعلم منا علم ظهور من يخافه بالغيب ومن لا يخافه، فمن خاف الله ولم يصد فله جزاء عمله، ومن اعتدى بعد ذلك وصاد ( فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94].
    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ...)
    النداء الثاني: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، الحرم: جمع حرام، فلان حرام إذا هو أحرم، والمرأة حرام والنساء حرم، ( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، أما إن كنتم حلالاً فالأمر واسع إلا ما كان من الصيد داخل الحرم، فلا يجوز صيده لا للمحل ولا للمحرم، ( وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، أي: محرمون بحج أو عمرة، وسواء كنتم في الحرم أو غير الحرم حول المدينة، إذا لبى: لبيك اللهم لبيك حجاً أو عمرة؛ فلا يحل له أن يصيد حيواناً قط.
    جزاء العمد في قتل الصيد
    ثم قال تعالى: ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا )[المائدة:95]، فما الحكم؟ قال: ( فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ )[المائدة:95]، جزاؤه مثل ما قتل، فالغزالة يحكم فيها بالشاة، وبقرة الوحش فيها بقرة إنسية، والنعامة بالجمل والبعير، ولا بد أن يكون هناك عدلان من رجال المؤمنين هما اللذان يقدران ويحكمان، ( فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:95]، أي: من المؤمنين، لا يحكم في هذا كتابي ولا مشرك ولو كان أعلم منا، منكم أيها المؤمنون، ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، مخيرون. (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ )[المائدة:95]، الهدي ما يهدى إلى الحرم كما قدمنا، قد يكون بقرة، قد يكون بعيراً، قد يكون شاة، هذه الأبقار أو الأغنام أو الأبعرة تبعث إلى مكة وإن كنا سقناها في طريقنا قبل مكة بكذا ميلاً، لا بد أن تساق إلى الحرم ولا يصح أن تذبح أو بغير الحرم؛ لأن رب البيت هو الذي أراد أن يكرم أهله.
    (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ )[المائدة:95]، إذا ما حصل على البعير أو البقرة أو الشاة فإنه يقدر هذا البعير بكم؟ ثم يشترى بقيمته طعاماً، والأفضل في الطعام أيضاً أن يساق إلى مكة، ( أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، فإن عجز قدر الطعام كم صاعاً ويصوم عن كل صاع يومين، بهذا التخيير.
    (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، ما يعد ذلك صياماً، كل نصف صاع يصوم عنه يوماً، وإذا تجاوز الستين يوماً فأكثر أهل العلم أنه يعفى عنه؛ لأن الكفارات ستون يوماً، في الظهار وفي غيره.
    وقوله: ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ )[المائدة:95]، أي: كلفه الله عز وجل بما يكفر ذنبه من أجل أن يذوق وبال أمره، أي: ثقل أمره؛ لأنه محرم، والمحرم مشغول بذكر الله وبعبادة الله، فيشتغل بالصيد ويطارده ويأخذه فهذا أمر لا يطاق، فلهذا شرع الله لهم هذا الحكم الثقيل، ليذوقوا وبال أمرهم، فالمحرم في الحقيقة كالذي دخل في صلاة وإن كان يأكل أو يشرب للضرورة، لكن كونه يضحك ويلهو ويعلب ويصيد فهذا يتنافى مع الإحرام أبداً.
    معنى قوله تعالى: (عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه...)
    ثم قال تعالى: ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ )[المائدة:95]، الذي فعلتموه قبل هذه الآية نعفو عنكم، ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ )[المائدة:95] مضى، كما عفا عمن شربوا الخمر قبل أن تحرم، كذلك هؤلاء أعلن عن عفوه عنهم. (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95]، هنا اختلف أهل العلم، فالجمهور على أنه كلما عاد فعليه الكفارة، ولو عشرين مرة، ومنهم من يقول: الآية تقول: من عاد فركب رأسه وتعمد لا تؤخذ منه كفارة، هذا يترك لله ينكل به ويعذبه؛ لقوله: ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ )[المائدة:95]، يتركونه لانتقام لله. ومنهم من يقول: يؤدي الواجب في هذه الكفارة وأمره إلى الله، وهذا أقرب إلى توبته، وإلا فقد شجعناه فيصبح يصيد الليل والنهار.
    (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95]، لا يمانع فيما يريد، لا يغلب فيما يريد أن يفعل، حكيم في انتقامه وفي نفعه وضره.
    تفسير قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة ...)
    والآية الأخيرة: يقول تعالى: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ )[المائدة:96]، أعلن تعالى لعباده المؤمنين: أنه أحل لهم صيد البحر، فالذي يركب السفينة ويحرم من رابغ ويأتي بها إلى ميناء جدة له أن يصيد وهو راكب في البحر، ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ )[المائدة:96]، وطعام البحر: السمك والحوت وغير ذلك، والجمهور -ومذهبهم هو الحق- على أن ميتة البحر حلال، بدليل العنبر الذي أخذه الصحابة وجاءوا باللحم للرسول وأكل منه، لكن إن كان لحم حيوان مستقذر فلا، لكن إن كان سمكاً وحوتاً ميتاً على الشاطئ فهو حلال، ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ )[المائدة:96]، للمقيمين وللمسافرين على حد سواء، هذا امتنان من الله عز وجل على عباده المؤمنين، ( أُحِلَّ لَكُمْ )[المائدة:96]، من يحلل أو يحرم؟ الله عز وجل، ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ )[المائدة:96]، ما يصاد من البحار من أنواع الأسماك على اختلافها وحيوانات البحر، ( وَطَعَامُهُ )[المائدة:96]، ما يلقيه من الحيوانات ميتاً، ( مَتَاعًا لَكُمْ )[المائدة:96]، تتمتعون به، ( وَلِلسَّيَّارَة ِ )[المائدة:96]، أي: المسافرين السائرين في الأرض، ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، وحرم علينا صيد البر ما دمنا حرماً، فإذا تحللنا وأنهينا العمرة أو الحج فالصيد حلال، ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، فإذا تحللتم بانتهاء العبادة فصيدوا إن شئتم، وكانوا يعيشون على الصيد، وكانت أقواتهم وأرزاقهم قليلة جداً، فأكثرهم يعيش على ما يصيد، وقد كان إسماعيل يترك هاجر في الكعبة ويغيب كذا يوماً، فيأتي بغزال أو بظبي، أما أن نصيد للهو فقط والعبث فهذا غير صالح، وقالت العلماء: هؤلاء الذين يخرجون للصيد للهو لا يصح أن يقصروا الصلاة ولا أن يفطروا في رمضان؛ لأن هذا السفر غير سليم ولا صحيح، أما إذا كانوا يصطادون للقوت فلا بأس، أذن الله تعالى فيه بقوله: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ )[المائدة:96]، ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، فإن حللتم فهو حلال، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:96]، واتقوا الله في هذه الأوامر والنواهي، لا نسمعها فنهملها ولا نبالي بها، اتقوا الله: خافوه، ومن خوفه ألا نخرج عن طاعته فيما أمر أو فيما نهى أو فيما أذن وأباح فنحرم ما أحل الله، وقوله: ( الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:96]، تأكيد لهذا الأمر، خف الذي سوف ترجع إليه وتقف بين يديه، طال الزمان أو قصر.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير
    معنى الآيات
    الآن نستمع إلى الشرح من الكتاب:يقول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين ]، قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:94]، ناداهم أم لا؟ [ ليعلمهم مؤكداً خبره بأنه يبلوهم اختباراً لهم؛ ليظهر المطيع من العاصي ]، فلولا هذه التكاليف فكيف سنعرف البار من الفاجر أو الصالح من الفاسد أو المؤمن من غيره؟ كل التكاليف ابتلاء وإن كانت نتائجها معروفة، العمل بها يزكي النفس ويؤهل لدار السلام، وهجرها وتركها والكفر بها يخبث النفس ويؤدي بصاحبها إلى دار البوار والهلاك.
    [ فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُ مُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ )[المائدة:94] ] ومن لا يخافه، فينكشف الأمر، ما إن نزلت هذه الآية حتى تجلى المؤمن من الكافر والمؤمن من المنافق، [ فحرم عليهم تعالى الصيد وهم حرم، ثم ابتلاهم بوجوده بين أيديهم بحيث تناله أيديهم ورماحهم بكل يسر وسهولة على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت ]، بنو إسرائيل حرم عليهم صيد السمك يوم السبت تحريماً كاملاً، ولما لم يستطيعوا أن يثبتوا على ما حرم الله وتجاوزوا حد الله وصادوا بالحيل مسخهم قردة وخنازير.
    قال: [ على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت، فكان السمك يأتيهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا يأتيهم، كذلك بلاهم ربهم بما كانوا يفسقون ]، فلهذا لما حرم الله على المؤمنين المحرمين أصبحت الغزلان والظباء والحيوانات تدخل بين أرجلهم، كانت لا تظهر إلا في الغيران وفي الكهوف، لما حرم الله هذا أصبحت تجري أمامهم ابتلاء، أما قال: ليبلونكم؟ فبنو إسرائيل امتحنهم بترك الصيد يوم السبت، فلما حرم عليهم الصيد يوم السبت أصبح السمك يعلو ويقف ويهبط في الماء؛ حتى كانت نفوسهم تهيج، تغريهم الأسماك بنفسها، فما صبروا، واحتالوا ووضعوا الشباك ليلة السبت وأخذوها صباح الأحد، احتالوا على شرع الله عز وجل، فمسخ الله منهم قردة وخنازير. والحمد لله، فنحن ابتلانا بشيء بسيط، أولاً: في حال الإحرام فقط، والآن إحرامنا كله ساعات، أما هم فحياتهم متوقفة على السمك وأكثر معاشهم، فلما أراد أن يبتليهم ويختبرهم ومنعهم من الصيد يوم السبت أصبح يوم السبت يظهر السمك فيه بصورة عجب على سطح الماء؛ إغراءً لهم.
    قال: [ بيد أن المسلمين استجابوا لربهم وامتثلوا أمره على خلاف بني إسرائيل فإنهم عصوا وصادوا فمسخهم قردة خاسئين.
    وقوله تعالى: ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94]، أي: فمن صاد بعد هذا التحريم فله عذاب أليم ] موجع، وهو عذاب يوم القيامة، [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
    أما الآية الثانية، وهي قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، فأكد لهم تحريم الصيد وبين لهم ما يترتب على ذلك من جزاء، فقال: ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا )[المائدة:95]، فالحكم الواجب على من قتله جزاءً ( مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ )[المائدة:95]، وهى: الإبل والبقر والغنم، ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:95]، فالعدلان ينظران إلى الصيد وما يشبهه من النعم، فالنعامة تشبه الجمل، وبقرة الوحش تشبه البقرة، والغزال يشبه التيس وهكذا، فإن شاء من وجب عليه بعير أو بقرة أو تيس أن يسوقه إلى مكة لفقراء الحرم فليفعل، وأن شاء اشترى بثمنه طعاماً وتصدق به، وإن شاء صام بدل كل نصف صاع يوماً، لقوله تعالى: ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، وقوله تعالى: ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ )[المائدة:95]، أي: ثقل جزاء مخالفته ] وهو العذاب الأليم، [ وقوله تعالى: ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ )[المائدة:95]، أي: ترك مؤاخذتكم على ما مضى ] قبل تحريم الصيد على المحرم، [وأما مستقبلاً فإنه تعالى يقول: ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95] ] أمر عظيم هذا، ( وَمَنْ عَادَ )[المائدة:95] بعد ما عرف فالله ينتقم منه، وقد يصيبه البلاء في الدنيا، ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95]، [ ومعناه: أنه يعاقبه على معصيته ولا يحول دون مراده تعالى حائل، ألا فاتقوه واحذروا الصيد وأنتم حرم. هذا ما دلت عليه الآية الثانية.
    أما الثالثة: فقد أخبر تعالى بعد أن حرم على المؤمنين الصيد وهم حرم، وأوجب الجزاء على من صاد، أخبر أنه امتناناً منه عليهم أحل لهم صيد البحر، أي: ما يصيدونه من البحر وهم حرم، كما أحل لهم طعامه وهو ما يقذفه البحر من حيوانات ميتة على ساحله ]، والرسول يقول في البحر: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ).
    وقوله: [ ( مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ )[المائدة:96]، وهم المسافرون يتزودون به في سفرهم، ويحرم عليهم صيد البر ما داموا حرماً، وأمرهم بتقواه، أي: بالخوف من عقوبته فيلزموا طاعته بفعل ما أوجب وترك ما حرم، وذكرهم بحشرهم جميعاً إليه يوم القيامة للحساب والجزاء فقال تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:96] ].
    هداية الآيات
    هيا مع هداية الآيات، ونسترجع ما علمناه:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ هداية الآيات:
    من هداية الآيات:
    أولاً: ابتلاء الله تعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بكثرة الصيد بين أيديهم ]، سنة ست عام الحديبية كانوا في حاجة إلى الصيد، خرجوا معتمرين فانقلب خروجهم إلى حرب، وابتلاهم فحرم عليهم الصيد، فكانت الظباء وكانت الأرانب والحيوانات تدور بين أيديهم وأرجلهم وصبروا وثبتوا.
    قال: [ وحرم عليهم صيده، فامتثلوا أمر الله تعالى ولم يصيدوا فكانوا خيراً من بني إسرائيل وأفضل منهم على عهد أنبيائهم ]، إي والله.
    وهنا مسألة أخرى: لو أن رجلاً أو امرأة صاد لنفسه وهو حلال وقدم لك فهل تأكل أو لا تأكل؟ الجواب: يحل لك أن تأكل، أما إذا صاده من أجلك فلا يحل لك أن تأكل، وكذلك أذا قلت: أنا لا أصيد، لكن تشير إليه تقول: اضرب الغزال عندك، فهذا لا يحل أكله؛ لأنك ساعدت على صيده، فقط إذا صاد الصائد ولا يريدك ولا يريد أن يعطيك، لكن لما حصل عليه طلبت منه طعاماً فيحل لك أن تأكل؛ لأنه ما صاد وهو محرم ولا صاده من أجلك.
    [ ثانياً: تحريم الصيد على المحرم إلا صيد البحر، فإنه مباح له ]، يصيد كما شاء فإنه مباح.
    [ ثالثاً: بيان جزاء من صاد وهو محرم، وأنه جزاء مثل ما قتل من النعم ]، لا بد من عدلين في القضية، حتى ولو عرفنا أن أصحاب الرسول حكموا بكذا وكذا، لابد من عدلين في قضيتك، غفلت أو استهواك الشيطان فصدت حيواناً فلا بد أن تقدم قضيتك لاثنين من عدول المؤمنين وهما يحكمان بما يعلمان، وقد عرفنا أن بقر الوحش ببقر الإنس، النعام بالإبل، الغزال والظباء بالتيس من الماعز، إلا حمام الحرام فالحمامة بشاة، العقبان والطيور الأخرى تقدر بقيمتها، إلا الحمام فالحمامة بشاة، وإذا قتل طفل حماماً الطفل غير مكلف، كيف يؤاخذ أبوه بعمل ابنه؟
    نقول: إذا صاد حمامة ففيها شاة، حكم بهذا رسول الله وأصحابه، ما عدا هذه يقدره العدلان، وقد عرفنا أننا مخيرون بين أن نشتري الشاة أو البعير أو البقرة ونسوقها إلى مكة؛ ليطعمها أهل الحرم، وإن شئنا اشترينا بقيمتها طعاماً، أرزاً أو دقيقاً أو تمراً، ووزعناه على الفقراء والمساكين وفي الحرم أولى من غير الحرم، وإن شئنا صمنا بقدر كل صاع يومين، بقدر نصف الصاع يوماً، إلا إذا كانت الكمية كبيرة وتجاوزت ستين يوماً فتكتفي بالستين يوماً ويعفى عن الباقي.
    وهنا حكم: وهو أن من صاد وكفر ثم عاد من جديد فهذا قد يترك لله، ولكن أكثر أهل العلم على أنه يخرج الفدية؛ لقول الله تعالى: ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ )[المائدة:95]، معناه: اتركوه لله، ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95].
    عرفنا أيضاً مسألة أنه: إذا أهدي إليك طعام وأنتم محرم أو في الحرم وكان فيه لحم وأنت ما أمرته به، ولا صاده من أجلك يجوز أكله، لكن إذا أشرت إليه أو شجعته أو قلت له: صد لنا كذا، فصاد من أجلك فلا يحل أكله.
    ولو صدم شاة أو غزالاً بسيارته وهو محرم فلا دخل لذلك في باب ما حرم الله من أكل الصيد هنا، هذه لها جزاء كغيرها من الأشياء، إذا كان متعمداً وكانت له قدرته على أن يصرف دابته أو سيارته وقتلها فعليه الجزاء قيمتها.
    قال: [ ثالثاً: بيان جزاء من صاد وهو محرم ]، أما من صاد وهو حلال فلا شيء عليه، إلا إذا كان صاد في الحرم المكي والحرم المدني، فلا يحل أبداً لمؤمن ولا مؤمنة أن يصيد في الحرم سواء كان حلالاً أو حراماً، لو تأتي غزالة على بابك وتنام على العتبة فلا يحل لك أن تطردها وأنت في المدينة أو في مكة، وجدت حيواناً تحت ظل شجرة في وادي العقيق وأنت تحتاج إلى الظل فلا يجوز أن تبعده لتجلس مكانه في الحرمين، فالحرم المكي حرمه إبراهيم بإذن الله تعالى، والحرم المدني حرمه رسول الله بإذن الله عز وجل، والمدينة حرام من عير إلى ثور، لا يختلى خلالها ولا يصاد صيدها مطلقاً. فالصيد في الحرم حرام سواء كنت محرماً أو غير محرم، الصيد في الحرمين حرام دائماً، لكن الصيد في غير الحرمين حرام عندما تكون محرماً.
    [ رابعاً: وجوب التحكيم فيما صاده المحرم ]، لا يقول: أنا أعرف، ولا نحتاج إلى فلان وفلان، بل طاعة لله عز وجل وامتثالاً لأمره لا بد من اثنين يحكمان عليك، ولا بد أن تسلم بهذا، وقد تعجب مرة أحد الأصحاب من عمر فقال: أنت الحاكم وتأتي بمن يحكم!
    قال: [ وجوب التحكيم فيما صاده المحرم، ولا يصح أن يكفر الصائد بنفسه ]، من نفسه يعطي البدل، لا بد من اثنين من أهل العدل يحكمان بالشاة أو بالبعير أو بكذا.
    [ خامساً: صيد الحرم حرام على الحرام من الناس والحلال ]، هذا الذي قررناه، أما صيد الحل فلا يحرم إلا على المحرم فقط، من خرج وراء الحرم فله أن يصيد إذا كان غير محرم، أما وهو محرم فلا يحل له أن يصيد.
    ملخص لما جاء في تفسير الآيات
    إذاً: نستمع مرة ثانية إلى الآيات المباركات وماذا علمنا منها، وتأملوا، يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:94]، لبيك اللهم لبيك، ( لَيَبْلُوَنَّكُ مُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ )[المائدة:94]، قلت لكم: في الحديبية صارت الظباء والأرانب تجري بين أيديهم، هذا هو الابتلاء، ( لَيَبْلُوَنَّكُ مُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ )[المائدة:94]، أي: بعضه تناله أيديكم وبعضه تناله رماحكم، وما الحكمة في ذلك وما السر؟ قال: ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ )[المائدة:94]، من أجل أن يعلم الله علم ظهور لنا أن فلاناً يخاف الله، وفلاناً لا يخاف الله عز وجل، فالذي امتنع عن الصيد وهو قادر عليه هذا مؤمن، والذي ما امتثل أمر الله انكشف أيضاً ضعفه في إيمانه، ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94]، من أهل العلم من يقول: لا نأخذ منه فدية، يترك لعذاب الله، لكن أكثر أهل العلم يقولون: تؤخذ منه فدية، على الأقل تخفف من ذنبه، هذا الذي يعتدي في المرة الثانية.وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، بيان متى يحرم علينا الصيد، والحرم: جمع حرام، أنا حرام ما دمت محرماً، ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ )[المائدة:95]، أي: الصيد ( مُتَعَمِّدًا )[المائدة:95]، وهنا اختلفوا في الذي يصيد بغير عمد، فالجمهور على أنه عليه الجزاء متعمداً وغير متعمد؛ إذ ليس من المعقول أنه محرم يقول: لبيك اللهم لبيك ويقتل صيداً ما هو بمتعمد قتله، قد يكذب علينا يقول: ما عرفت؛ لأن حالة الإحرام تمنعه من أشياء كثيرة وهو في عبادة، فكيف يأخذ الصيد ويقول: أنا ما تعمدت؟! ( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، مخير بين الثلاثة؛ ( لِيَذُوقَ )[المائدة:95]، هذا الذي لزمته الكفارة، ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ )[المائدة:95]، أي: ثقل أمره، ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ )[المائدة:95]، الذي مضى قبل التحريم عفا الله عنه، ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ )[المائدة:95-96]، فقولوا: الحمد لله. حرم علينا الصيد ونحن محرمون، وأحل لنا الحوت طول العام، صيد البحر حل مطلقاً، فلا تقولوا: ضيق علينا، ما هي إلا أيام، ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، فقط، والبَر مقابل البحر، والبِر مقابل الشر، والبُر مقابل الشعير، بالضمة والكسرة والفتحة تختلف المعاني، البَر: الصحراء، البُر: القمح، البِر: الخير، قال تعالى: ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، فإن تحللتم فصيدوا ما شئتم أن تصيدوا، لكن ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:96]، فيم نتقيه؟ في هذه الأوامر والنواهي، نفعل المأمور ونتخلى عن المنهي، وبذلك اتقينا الله عز وجل.

    اللهم قنا عذابك.. اللهم قنا عذابك، وارض عنا يا رب إنك ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #358
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (44)
    الحلقة (457)
    تفسير سورة المائدة (50)


    امتن الله عز وجل على العرب في الجاهلية أن وفر لهم الأمن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش، وذلك بسبب وجود البيت الحرام، والأشهر الحرم، والهدي، والقلائد، والتي كانت تقوم مقام السلطان عند العرب، وتذكير العرب بهذه الفضائل والخصائص ليعلموا أن الله عليم بكل ما ينفع عباده ويصلح أحوالهم، سواء قبل إرسال الرسل أو بعده، وأنه حين يرسل الرسل فإنما يرسلهم لتبليغ الناس مراد الله عز وجل وأمره.

    تفسير قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليلة التي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم لنا هذا الفضل يا ذا الفضل العظيم.
    وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع، فهيا نتلوها وندبر ونتفكر ثم نأخذ في شرحها وبينان مراد ربنا تعالى منها.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97]، أربعة، ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ * قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:97-100]، (لَعَلَّكُمْ): هذه (لعل) الإعدادية، يعدكم للفلاح.
    تعريف الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد

    قول ربنا: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ )[المائدة:97]، ما هي الكعبة؟ البيت الحرام. لم سميت كعبة؟ لأن العرب يسمون البناء المربع: كعبة، مع النتوء والعلو ككعب الرجل لنتوئه وظهوره، فهي كعبة لكونها مربعة البناء، وهي كعبة لكونها ناتئة وظاهرة، وقد تقدم لنا الحرم، والكعبة هي أصله، فكل ما حولها -حوالي عشرين كيلو متر غرباً وثلاثين شرقاً-كلها حرم، وهي بيت حرام لا يحل فيها باطل ولا منكر ولا ضلال ولا فساد ولا شر.(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا )[المائدة:97]، قياماً وقواماً بمعنى واحد، من قام يقوم، أي: حياة أهل مكة قائمة على أساس البيت؛ لأنه يحج ويعتمر ويأتيه الناس من الشرق والغرب، فبذلك فاز ساكنو الحرم بهذه المكرمة؛ لأنهم والوا الله في بيته، إذاً: فهو هيأ لهم سبل عيشهم ورغدهم فيه، ( قِيَامًا لِلنَّاسِ )[المائدة:97]، الذين يسكنون في الحرم، ولم يتركوا بيت الله عز وجل يعبث به العابثون أو يفسد فيه المفسدون.
    (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97] كذلك، أي: وجعل الشهر الحرام حراماً، والشهر: اسم جنس، والمراد به هنا الأشهر الأربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، هذه هي الأشهر الحرم، أشهر السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، ثلاثة متواليات والرابع فرد، أو ثلاثة سرد والرابع فرد، والرابع هذا هو أعظم الشهور عند العرب، ويقال فيه: شهر مضر، ويقال فيه: شهر الأصم والأصب، أما كونه موصوفاً بالأصم؛ فلأنه إذا أهل هلاله لم تسمع صوتاً للسلاح، قعقعة السلاح تنتهي، فهو أصم، يعظمونه أكثر من الأشهر الأخرى، إذا أهل هلال رجب ما بقي واحد يخرج سيفه من غمده، وكونه الأصب؛ لأن الخير يصب فيه صباً، ويقال فيه: شهر الله أيضاً، هذه الثلاثة الأشهر الأربعة هي المراد من قوله تعالى: ( وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ )[المائدة:97]، من جعلها حراماً؟ الله. لماذا؟ لصالح أهل الحرم.
    (وَالْهَدْيَ )[المائدة:97]، ما يهدى لبيت الله من شرق الجزيرة، من غربها، من شمالها، من جنوبها، يهدون الإبل والبقر والغنم يتوسلون بذلك إلى الله ويتقربون إليه، وإن كانوا لا يعرفونه معرفة حقيقة، لكن هكذا غرز الله في قلوبهم؛ لحكمة أرادها؛ ليعيش أهل الحرم في سعادة.
    (وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97]، جمع: قلادة، والقلادة أن تأخذ قشرة من شجر الحرم وتعلقها في عنقك أو في يدك وتمشي إلى البحرين، ما إن يرى الرجل القشرة في يدك حتى يبتعد عنك، وكذلك بعيرك، ناقتك تخاف أن تسلب في الطريق فعلق عليها قلادة وامش، كل من يراها يهاب، يخاف، من طبع القلوب على هذا؟ لا يقوى على هذا إلا الله: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97]، الكل قيام للناس، والمراد من الناس: سكان الحرم، وهذه من أعظم الآيات الدالة على وجود الله، على علم الله، على حكمة الله، على رحمة الله، على قدرة الله، وهذه هي صفات الكمال التي هي صفات الرب تبارك وتعالى. هذا معنى قوله جل ذكره: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97] .
    معنى قوله تعالى: (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ...)
    ثم قال تعالى: ( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[المائدة:97]، ( ذَلِكَ )[المائدة:97] فعلناه من جعل الشهر الحرام والهدي والقلائد والبيت من أجل أن تعلموا ( أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ )[المائدة:97]، فلا يخفى عليه في العوالم العلوية والسفلية شيء، ومعنى هذا: راقبوه، واحذر أن يشاهدك على معصيته، أو يراك على فسق من فسوق الناس وفجورهم، ومعنى هذا: آمنوا به واتقوا؛ لأنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، وهو بكل شيء دق أو جل، صغر أو كبر، في أي مكان عليم، وكيف لا وهو خالقه؟ هو موجده فكيف لا يعلمه؟! هذا الذي يربي في النفس مخافة الله عز وجل، ويصبح الرجل أو المرأة دائماً يراقب الله، ما يستطيع أن يخرج عن طاعته ولو بكلمة، هذا هو التعليل الكريم: ( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا )[المائدة:97]، أي: فعلنا ذلك ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[المائدة:97]، دق أو جل، عظم أو صغر، كون المرء يسترق نظرة والله يعلمها، ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )[غافر:19]، أحياناً العين تريد أن تخون فتنظر إلى امرأة إلى جنبك أو أمامك فيعلم ذلك ربنا عز وجل.
    تفسير قوله تعالى: (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم)
    وقال بعد ذلك: ( اعْلَمُوا )[المائدة:98] يا عباد الله علماً يقنياً، ماذا نعلم؟ ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98]، هذا الرب العظيم، الذي خلق هذا الخلق وأدار الكون بهذه الصورة، اعلموا أنه شديد العقاب، عقابه إذا عاقب شديد ما يقدر عليه ولا يطاق، والعقاب هو العذاب المترتب على الجريمة، كالذي يأخذ من عقبه؛ إذ لا يأتي العذاب إلا بعد الجريمة، ( اعْلَمُوا )[المائدة:98]، علماً يقينياً، ( أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98]، إذا عاقب الأمة أو الفرد أو الجماعة فعقابه شديد. هذه واحدة.والثانية: ( وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:98]، أي: إن تبتم ورجعتم إليه بعد عصيانه والفسق عن أمره تجدوه غفوراً رحيماً، وهاتان الصفتان لا توجدان إلا لله، قوة وشدة ومعفرة ورحمة، وهذا ما يعرف بالموعظة بالترغيب والترهيب، رهبنا بكلمة: ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98]، ورغبنا بقوله: ( وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:98]، غفور لمن تاب، بهذا القيد، لا تفهم أبداً أن شخصاً يستمر على فسقه وفجوره ويموت على ذلك ويغفر له، لا يغفر إلا لمن تاب فقط، أما إذا دخل النار ومكث فيها أحقاباً واحترق فذاك شيء ثان، فأهل التوحيد لا يخلدون في النار.
    إذاً: الترغيب بقوله: ( وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:98]، والترهيب في قوله: ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98].
    تفسير قوله تعالى: (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون)
    قال تعالى: ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ )[المائدة:99]، ما على الرسول إلا أن يبلغ في بيان واضح تصل كلماته إلى النفوس من البلاغة، تبلغ كلماته الطيبة الحكيمة نفوس الناس في صورة حسنة، هذه مهمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا يغني ولا يفقر، لا يمرض ولا يصح، لا يعطي ولا يمنع، مهمته أن يبلغ فمن أجاب البلاغ وسار في مسلك الصالحين نجا، ومن تكبر وأعرض هلك، والرسول ليس مسئولاً عنه، ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ )[المائدة:99]، أي: التبليغ، يبلغ ماذا؟ ما أمر الله أن يحدث به الناس ويبلغه للناس، هذا فرض وهذا واجب، هذا حلال وهذا حرام، آمنوا بربكم وتقربوا إليه وتزلفوا بطاعته، هذا الذي يبلغ، أما المعاقبة والجزاء فبيد الله عز وجل، وفي هذا تخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بشر قد يحمل هماً لإعراض الناس وعدم استجابتهم وعدم هدايتهم وإقبالهم على الله، فخفف الله عنه وبين له: أن مهمتك أن تبين فقط، لا أن تهدي الناس، لا تملك هداية القلوب.(مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )[المائدة:99]، (تُبْدُونَ): أبدى الشيء يبديه: إذا أظهره وأعلنه، وكتمه: إذا أخفاه وجحده، فالرسول مهمته البلاغ، ونحن الذين قد بلغنا الله يعلم حالنا في الظاهر والباطن، ما نعلنه ونظهره يعلمه ويحاسبنا به ويعطينا على قدره، وما نكتمه كذلك لا يخفى عليه، فهو يحاسبنا على الظاهر والباطن، ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ )[المائدة:99]، أي: ما تظهرون من أقوال أو أعمال، ( وَمَا تَكْتُمُونَ )[المائدة:99] أيضاً من نيات واعتقادات.
    تفسير قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ...)
    ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، ( قُلْ )[المائدة:100] يا رسولنا للبشرية كلها، لأمتك، ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ )[المائدة:100]، والله العظيم! ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ )[المائدة:100]، ولا يستويان أبداً، هل العمى كالبصر؟ هل المرض كالصحة؟ هل الغنى كالفقر؟ إذاً: هل العسل كالخمر؟ هل الكذب كالصدق؟ هل الخيانة كالأمانة؟ وهل العبادة والطاعة كالفسق والفجور؟ هل الكفر كالإيمان؟ الجواب: لا، مستحيل أن يستوي الخبيث والطيب، قاعدة عامة: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، كلمة طيبة أحسن من ألف كلمة كذب، كأس من اللبن الحلال -والله- أفضل من برميل حرام، قرص عيش من حلال أفضل من سفرة فيها ألف نوع، قاعدة عامة: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100].ومن الجائز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم يرى في خاطره الكافرين أغنياء، والمؤمنين فقراء ضعافاً، فأخبره ربه بهذا، إلا أن الآية عامة في البشرية كلها: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ )[المائدة:100]، في أي زمان ومكان في أي حال من الأحوال، ( وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، فلا شيء لتلك الكثرة، لا قيمة لها، مليون من حرام تعاقب عليها وقد تودي بحياتك، وريال واحد تقتات به غداء أو عشاء أنفع لك من ذلك المليون، وهكذا، هذه قاعدة لا تنخرم: ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100] أيها السامع.
    معنى قوله تعالى: (فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون)
    وأخيراً: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ )[المائدة:100]، فاتقوا الله يا أولي العقول؛ لأن أصحاب العقول أحياء يعون ويفهمون خطاب الله، أما الذين لا لب لهم فقلوبهم ميتة فليسوا أهلاً لأن يوجه إليهم هذا الكلام، ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ )[المائدة:100]، من منكم يسأل ويقول: كيف نتقي الله؟ بم نتقي الله؟ أي: بم نتقي عذابه وغضبه ونقمته؟ هل يمكن أن نتقي الله بالبناء القوي، أو ندخل تحت الأرض في السراديب والأنفاق، أو نتحصن بالجبال؟ لا يتقى عذاب الله إلا بطاعته وطاعة رسوله، لا بجيش عرمرم، ولا قبيلة ذات شوكة وقوة، ولا أي مكان نتقي فيه عذاب الله في هذه الحياة، ما هو إلا أن نعبده بما شرع لنا أن نعبده، ما كان عقيدة اعتقدناه، وما كان أدباً تأدبنا به، وما كان عملاً قمنا به، وما حرمه علينا نجتنبه بالمرة وندبر عليه ونعرض ولا نلتفت إليه، بهذا يتقى الله.(فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ )[المائدة:100]، وإن قلت: لماذا؟ بين تعالى لأنه حكيم: ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:100]، (لعل) الإعداد، يعدكم للفلاح، وما هو الفلاح؟ هل الحصول على مجموعة من الإبل، على وظيفة سامية، على أولاد صالحين؟ الفلاح تولى الله تعالى بيانه، وهو أن يزحزح العبد عن النار ويدخل الجنة، وذلك في عرصات القيامة؛ لان من دخل النار خلد في العذاب والشقاء، ومن أراد أن يتحسس فليأت بالنار وليدخل أصبعه فيها فقط، هذا عالم كامل كله جحيم، ومن شك أو ارتاب فهذه الشمس الكوكب المضيء النهاري، هذا الكوكب أهل الأرض قالوا: إنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، كله نار، من أوجد ناره؟ وها نحن نستدفئ بهذه الحرارة وتشتد علينا بالصيف عندما تميل، هذه الشمس لو تجمع البشرية كلها وتوضع فيها فلن تسد زاوية من زواياها، فكيف بالعالم الآخر بعدما يتقشع هذا العالم بكامله ويأتي العالم الآخر يخلد فيه المرء خلوداً أبدياً إذا مات على الشرك والكفر والعياذ بالله، فالفلاح: الفوز. والفوز ما هو؟ هل بالربح في التجارة أو في الولد أو الوظيفة؟ لا، قال: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )[آل عمران:185]، حقاً، ( وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ )[آل عمران:185]، أيها العاملون! كل واحد منا عامل، فمتى نتسلم أجورنا؟ يوم القيامة، اعمل الآن ليل ونهاراً بصيام وقيام وجهاد ورباط ولا تطلب أجراً، الأجر ما هو هنا، الجزاء يوم القيامة، فلهذا تعيش فقيراً وأنت من أولياء الله، تعيش مريضاً وأنت من أبر أولياء الله؛ لأن الجزاء على عملك هذا التعبدي ما هو في الدنيا، قال تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )[آل عمران:185]، ما هذه الأجور؟ قال: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )[آل عمران:185]. اللهم اجعلنا من الفائزين.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير
    معنى الآيات
    والآن نعود إلى الآيات في الشرح؛ لنزداد معرفة وعلماً، وتأملوا. قال المؤلف غفر الله له ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ قوله تعالى: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ )[المائدة:97]، المراد من الناس العرب في جاهليتهم قبل الإسلام، ومعنى:(قِيَامًا): أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر، يأمن الآتي إليه والداخل في حرمه ]، يخرج من نجد، فما دام قصده إلى الحج وقد جعل علامة لا يعترضه أحد، الأشهر الحرم تتجول فيها بناقتك بإبلك بطعامك بتجارتك في كل مكان لا يعترضك أحد، لكن إذا كنت في شهر غير حرام فاللصوص والمجرمون والمتربصون قل من يسلم منهم، ينزلونك من فوق ناقتك ويأخذونها؛ لأنه لا حكم ولا دولة ولا سلطان أبداً، ولا قانون ولا شرع، ولكن تدبير الله عز وجل أوجد هذه الهدنة في أربعة أشهر ثلث سنة، لصالح العرب، لو كان لهم دولة أو سلطان فالسلطان يقيم حدود الله ويؤدب من خرج عن طاعة الله، لكن لا دولة ولا سلطان، بل همج، هذا الأمن لن تستطيع الأمم المتحدة أن تحققه، والله ما تقدر عليه بكل ما لديها من آلات، والله عز وجل حققه بما ألقى في روح الإنسان في هذه الديار.
    قال: [ المراد من الناس العرب في جاهليتهم قبل الإسلام، ومعنى (قِيَامًا): أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر، يأمن الآتي إليه والداخل في حرمه، وكذا الشهر الحرام، وهي أربعة أشهر: القعدة والحجة ومحرم ورجب، وكذا الهدي: وهو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام، وكذا القلائد: جمع قلادة، وهي ما يقلده الهدي إشعاراً بأنه مهدى إلى الحرم، وكذا ما يقلده الذاهب إلى الحرم نفسه من لحاء الحرم إعلاماً بأنه آتٍ من الحرم أو ذاهب إليه، فهذه الأربعة: البيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد كانت تقوم مقام السلطان بين العرب ] تقوم مقام الدولة والسلطان بين العرب، [ فتحقق الأمن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش، فهذا من تدبير الله تعالى لعباده، وهو دال على علمه وقدرته وحكمته ورحمته، ولذا قال تعالى: ( ذَلِكَ )[المائدة:97] ] أي: فعلنا ذلك [ ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[المائدة:97]، أي: حقق ذلك الأمن والرخاء في وقت لا دولة لكم فيه ولا نظام؛ ليعلمكم أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سائر الكائنات وشتى المخلوقات لا يخفى عليه من أمرها شيء، وأنه بكل شيء عليم، فهو الإله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه فاعبدوه وتوكلوا عليه واتركوا عبادة غيره والنظر إلى سواه، وإن لم تفعلوا فسوف يعاقبكم بذلك أشد العقوبة وأقساها، فإنه عز وجل شديد العقاب فاعلموا ذلك واتقوه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى والثانية.
    أما الآية الثالثة فقد أكدت مضمون قوله تعالى في الآية الثانية: ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98]، وهو وعيد شديد، فقال تعالى: ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ )[المائدة:99]، وقد بلغ، فأنذر وأعذر، وبقي الأمر إليكم إن أنبتم، أي: رجعتم إلى ربكم وأطعتموه فإنه يغفر لكم ويرحمكم؛ لأنه غفور رحيم، وإن أعرضتم وعصيتم فإنه يعلم ذلك منكم ويؤاخذكم به ويعاقبكم عليه وهو شديد العقاب. وقوله: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )[المائدة:99] وعد ووعيد؛ لأن علمه تعالى بالظواهر والبواطن يترتب عليه الجزاء، فإن كان العمل خيراً كان الجزاء خيراً، وإن كان العمل شراً كان الجزاء كذلك، هذا مضمون الآية الثالثة.
    أما الرابعة: فإنه تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ )[المائدة:100] للناس: أيها الناس! إنه ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ )[المائدة:100] من المعتقدات والأقوال والأعمال والرجال والأموال ( وَالطَّيِّبُ )[المائدة:100] منها]، وقد بينا الطيب والخبيث حتى في الثوب تلبسه.
    قال: [ ولو أعجبتكم -أي: سرتكم- كثرة الخبيث، فإن العبرة ليست بالكثرة والقلة وإنما هي بالطيب النافع غير الضار ولو كان قليلاً، وعليه: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ )[المائدة:100]، أي: خافوه فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه؛ رجاء حصول الفلاح لكم بالنجاة من المرهوب والحصول على المرغوب المحبوب ] في أمور الدنيا والآخرة، وفي الآخرة النجاة من النار والحصول على الجنة.
    مرة ثانية أقرأ عليكم الآيات: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97]، لم؟ ( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُوا )[المائدة:97-98]، ماذا نعلم؟ ( أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )[المائدة:98-99]، والذي يعلم يجزي بحسب علمه، ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، والله لريال حلال خير من ألف حرام، ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:100]، من أراد أن يفلح فليتق الله، أي: لا يعصي الله، فعدم المعصية هو الذي يزكي نفسه ويطهرها، الطاعة تزكي، والمعصية تفسد وتخبث، فمن مات ونفسه زكية قد أفلح، ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10].
    هداية الآيات
    مع هداية هذه الآيات الأربع فتأملوها.
    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ هداية الآيات:
    من هداية الآيات:
    أولاً: بيان عظيم تدبير الله تعالى لخلقه؛ إذ أمن مصالح قريش والعرب فأوجد لهم أمناً واستقراراً، وتبع ذلك هناء عيش وطيب حياة بما ألقى في قلوب عباده من احترام وتعظيم للبيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد، الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله ]، قلت: والله! لا تقدر عليه الأمم المتحدة مهما كانت تملك من الآلات.
    [ ثانياً: بيان مسئولية الرسول إزاء الناس وأنها البلاغ لا غير ]، ما هو بمسئول عن كفر فلان ولا عن ضلال فلان، ما هو إلا مبلغ، وهكذا كل دعاة الأمة ما هم بمسئولين عمن ارتد ولا من فسق، عليهم أن يبينوا الطريق الموصل إلى الله، من سلكه نجا ومن أعرض عنه هلك، ولا يسألون: لماذا ما دخل الناس في دين الله أفواجاً؟
    [ بيان مسئولية الرسول إزاء الناس وأنها البلاغ لا غير، وقد بلغ صلى الله عليه وسلم ]، من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ )[المائدة:99].
    [ ثالثاً: تقرير الحكمة القائلة: العبرة بالكيف لا بالكم ]، العبرة بالكيفية، أما العدد فلا قيمة له، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، المثل يقول: العبرة بالكيف لا بالكم، بالكيفية لا بالعدد.
    قال: [ تقرير الحكمة القائلة: العبرة بالكيف لا بالكم، فمؤمن واحد أنفع من عشرة كفرة، ودرهم حلال خير من عشرة حرام، وركعتان متقبلتان خير من عشر لا تقبل ]، فأبو بكر الصديق صاحب الرسول وحبه أفضل من مليون كافر، ودرهم حلال خير من عشرة بل خير من ألف حرام، وركعتان متقبلتان -لأن العبد أحسن أداءهما وأخلص فيهما لله- خير من عشر لا تقبل، ما أخلص فيها أو ما أحسن أداءها.
    [ رابعاً: الأمر بالتقوى رجاء فلاح المتقين ]، أمر الله بالتقوى رجاء لفلاح المتقين، ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:100].
    والله تعالى أسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، وأن يرزقنا العلم والعمل.
    وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #359
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (45)
    الحلقة (458)
    تفسير سورة المائدة (51)


    حذر الله عز وجل عباده المؤمنين أيما تحذير من السؤال عما لم ينزل القرآن ببيانه؛ لأن هذا السؤال فيه إحفاء للرسول صلى الله عليه وسلم وأذية له، وبين سبحانه أن من كان قبلهم تكلفوا مثل هذه الأسئلة فكلفهم الله عز وجل ما يشق عليهم جزاء تعنتهم، فأصبحوا كافرين بها عندما تركوا العمل بها، وهذا حال كل من يتكلف ويسأل فيما لم يفرض عليه.

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وما زلنا مع سورة المائدة المدنية، المباركة، وها نحن مع هذه الآيات الأربع:
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ * مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ )[المائدة:101-104].
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا نداء الرحمن لأهل الإيمان، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:101]، لبيك اللهم لبيك، سمعاً وطاعة، مر نفعل، انه ننته، أدب نتأدب، انصح نقبل النصيحة، نحن مستعدون؛ لكمال حياتنا، لأن المؤمن الحق الصادق الإيمان حي يسمع ويبصر ويعي ويفهم ويأخذ ويعطي، بخلاف الكافر فإنه ميت، لا يسمع النداء ولا يجيب.
    حادثة نزول الآية الكريمة
    هنا نادانا لينهانا عن أشياء، فنقول: انتهينا ربنا. قال تعالى: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )[المائدة:101]، هذا لما أكثر المؤمنون من سؤال الرسول وأحرجوه وأتعبوه، وكان الباب مفتوحاً قبل نزول هذه الآية، فتألم وقام خطيباً وقال: ( لا تسألونني عن شيء إلا أجبتكم عنه. فسألوه، وقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة )، ولما سمعت أمه غضبت غضباً شديداً، وقالت: أرأيت يا ولدي لو كان نسبك إلى غير أبيك، ماذا يكون حالي وموقفي بين الناس؟ وحمل الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة على هذا السؤال أنه كان إذا تلاوم مع أحد الأصحاب -أي: عذله-فكأنه ينسبه إلى غير أبيه، وهذا في الجاهلية ليس في الإسلام، فأراد التأكد من صحة نسبته إلى أبيه، فسأل وما كان من حقه أن يسأل.
    وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله كتب عليكم الحج فحجوا. فقام رجل فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت الرسول، حتى أعادها ثلاث مرات، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم )، وفي لفظ: ( ولكفرتم )، ومعنى هذا: أن الله أدب المؤمنين مع رسولهم ومع علمائهم، لا يحل لنا الأسئلة التي فيها تعنت وتقعر ولا تجدي ولا ثمر، هذه الأسئلة محرمة بهذا النص: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ )[المائدة:101] وترى ( تَسُؤْكُمْ )[المائدة:101].
    والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها )، وفي الحديث الصحيح: ( نهاكم عن ثلاث، منها: كثرة السؤال )
    وكثرة الأسئلة وطرحها لا توجد أبداً خيراً ولا تثمر خيراً، فمتى نسأل؟ نسأل عند الحاجة، لنريد أن نعلم ما حرم الله علي أو ما أوجب علي.

    تأديب المؤمنين بأمرهم بترك السؤال عما لا ينفع
    والآداب المحمدية منها قوله: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فالذي لا يعنيك بمعنى: لا أنت تريد أن تقوم به وتفعله، ولا أنت تريد أن تتخلى عنه وتتركه، فلم تسأل عنه؟ ولهذا أدبنا الله عز وجل بهذه الآية: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )[المائدة:101]، فلو قال الرسول: نعم لوجب الحج كل سنة، ومن يحج كل عام؟ لو قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن حذافة: أبوك فلان فكيف تكون حاله وحال أمه وأسرته؟ فما دام قد بين الله ما أحل لنا وما حرم فلا حاجة أبداً إلى التعنت والسؤال، ما أحله حلال وما حرمه حرام وما سكت عنه فهو رحمة منه لنا، لا نتعب أنفسنا ولا نشقيها.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ )[المائدة:101]، الآن ما بقي القرآن ينزل، وانتهت تلك الأزمة الأولى، لكن بقينا على مبدأ الآداب الإسلامية والأخلاق النبوية، إذا كنت في حاجة إلى مسألة فاسأل، وإذا ما كنت في حاجة إلى أن تعرف حكمها، أو ما أنت بفاعل ولا تارك فلم تسأل؟ وكثرة السؤال ممنوعة مطلقاً حتى في المال، فالمحتاج أيضاً لا ينبغي أن يلح في أسئلته: أعطوني واكفوني وافعلوا بي، تسأل مرة واحدة؛ لأن هذا أدب عام خالد بخلود هذه الأمة والقرآن الكريم.
    (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ )[المائدة:101] فلا بأس، تنزل الآية ويبين الرسول الحكم، ولكن الله عفا عما سلف مما سألتم، ( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )[المائدة:101]، فلهذا ما آخذهم ولا عذبهم، غفر لهم وحلم عليهم فلم يعذبهم.
    تفسير قوله تعالى: (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين)
    ثم قال لهم: ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ )[المائدة:102]، أسئلة تعنت هذه، من بينها أسئلة اليهود، أما قالوا لموسى عليه السلام: ( أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً )[النساء:153] ننظر إليه، وهل هذا السؤال يطلبه إنسان؟يسمعون كلامه وهو يناجيه بجبل الطور وهم سبعون شخصاً معه أو ستون، ولما سمعوا الكلام قالوا: نريد أن نرى وجه ربنا، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون.
    وقوم صالح في شمال الحجاز قالوا: يا صالح! لتدلل على نبوتك ورسالتك؛ أخرج لنا من هذا الجبل ناقة. وقام يصلي ودعا الله، فانشق الجبل وخرجت الناقة، فما هي النهاية؟ حاولوا عقرها وقتلوها، وكانت النهاية أن دمرهم الله دماراً كاملاً، نتيجة أنهم يسالون عن أشياء ما هم أهلاً لها.
    وأصحاب عيسى قالوا: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ فأنزلها الله واشترط أن من كفر بعدها يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، وهكذا، فالتعنت والأسئلة التي لا تجدي وتثير الفتن والمتاعب والمشاغب -والله- لا تجوز إن تأدبنا بآداب ربنا ورسولنا.
    فلا نسأل عالماً ذا علم إلا عن مسألة أنا في حاجة إلى معرفتها، أيحل لي هذا أو لا يحل، أيجب أن نفعل هذا أو نتركه، في هذه الحدود، أما سؤال التنطع والتقعر فهذا منهي عنه ومكروه ولا يجوز وفيه أذية، فتسأل على قدر حاجتك، فإذا كنت جائعاً تسأل طعاماً، إذا أكلت وشبعت فلا تسأل مرة ثانية، أنت ظمآن فاسأل على قدر ظمئك، أنت عار تريد كسوة تستر عورتك تسأل بقدر حاجتك، وهذا هو حال المؤمنين في كل حياتهم، ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فالذي ما يعنيك ولا تنتفع به ولا يضرك لا تسأل عنه، وهذه المحنة يتخبط فيها المسلمون منذ قرون شرقاً وغرباً، أكثر الفتن والمتاعب والمصاعب ناتجة عن هذه.
    تفسير قوله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ...)
    وفي الآية الثانية قال تعالى: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ )[المائدة:103]، أي: ما سن الله بحيرة ولا سائبة ولا شرع هذا ولا سنه أبداً، هذا من فعل المشركين الكافرين، ولا شك أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن هذه الأربع، فأخبر تعالى أنه: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ )[المائدة:103]، فما البحيرة؟ وما السائبة؟ وما الوصيلة؟ وما الحامي؟ هذه ابتدأت يوم ضعفت الديانة الإسماعيلية، فهذا عمرو بن لحي الخزاعي ذهب إلى الشام، فوجد العمالقة يعبدون الأصنام، فسأل أن يعطوه صنماً يأخذه إلى الحجاز، إلى الجزيرة؛ ليعبدوه، فهو أول من جاء بالأصنام، وجاء بهبل، هو الذي جاء به من الشام ووضعه عند البيت، ولهذا رآه الرسول صلى الله عليه وسلم في النار يجر قصبه -أمعاءه ومصارينه- ممزقة وهو يسحبها في النار، هذا أول من أحدث الشرك في الجزيرة: عمرو بن لحي الخزاعي.
    فالبحيرة: من بحر الشيء: بقرة أو ناقة تشق وتبحر أذنها وتعلم أنها للآلهة، وأنها يتوسل بها ويستشفع بها إلى الله، وتترك فلا تركب ولا تذبح ولا يؤكل منها.
    والسائبة: التي تسيب للآلهة وتترك، لا يؤخذ وبرها ولا صوفها ولا حليبها ولا تؤكل.
    والوصيلة: التي تلد أول ما تلد أثنى، أو تصل أنثى بذكر بحسب ترتيباتهم، هذه الوصيلة أيضاً تترك للآلهة.
    والحامي بمعنى: المحمي، الجمل الذي بلغ كذا يحمونه للآلهة فلا يركبون عليه ولا يبيعونه ولا يأكلون لحمه، يتركونه للآلهة يتقربون به إلى الله عز وجل.
    فلما سئل الرسول أجاب الرحمن عز وجل: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ )[المائدة:103]، أبداً ما سن هذا ولا شرعه ولا قرره، هذا من عمل الجاهلية، ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ )[المائدة:103]، نسبوا هذا إلى الله كذباً عليه والله ما جعل هذا.
    وإذا نظرنا إلى واقع العالم الإسلامي منذ أكثر من ألف سنة نجد لهذا نظائر في قباب وأشجار ومعابد، كل هذا يدعون أنهم يتوسلون به إلى الله، ويستشفعون به إلى الله، والله ما شرعه ولا أمر به ولا جاء الرسول به أبداً، القباب تضرب وتبنى وينزل تحتها من ينزل يحرسها ويحميها، ويأتي نساؤنا ورجالنا يتبركون ويتمرغون ويدفعون مقابل ذلك نقوداً في يد هذا القائم على الضريح، كل هذا من زينه؟ الشيطان الذي يريد أن يضل الإنسان ولا يهتدي، وشجرة -والله- يعكفون عليها ويعبدونها.
    إذاً: عرفنا أن هذا من الشيطان، ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103]، من أين لهم العقل؟ كلهم لا يعقلون إلا ما شاء الله، الذي يفتري الكذب ويختلقه على الله هل هذا مؤمن؟ هل يستحق كرامة؟ تكذب على من؟ على الله فتقول: أحل الله والله ما أحل، وتقول: حرم الله والله ما حرم!
    الرد على مفت بانتفاء تحريم الخمر واللواط في القرآن الكريم
    ومن الغريب أن أحد علماء الزمان في الديار المصرية أعلن في صراحة أن الخمر ليست محرمة في القرآن، وأن اللواط كذلك، هذا الشيخ يقال له: العشماوي ، ورد عليه رجال العلم في مصر والأردن والمملكة.والشاهد عندنا في أن الشياطين تزين الباطل والإجرام والفساد والشر لأوليائها؛ لينشروه، فهذه الكلمة لولا أنه قومها أهل العلم وأسكتوه لكان البسطاء والجهال كلهم يقولون: قال العالم: الخمر ما هي بحرام في القرآن، واللواط ما هناك نص في القرآن على تحريمه.
    والشاهد من هذا: أن الشياطين هي التي تزين الباطل لأوليائها، فهذا الرجل يجب عليه أن يتوب ويعلن عن توبته، وإلا فهو أقبح من المرتد والعياذ بالله، أمر مجمع عليه بالكتاب والسنة وأمة الإسلام إلى اليوم على تحريمه ثم يقول بحليته؟! هل لهذا عقل أو دين؟ ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ )[المائدة:103]، هذا يقول: الخمر ما هو بحرام، فكذب على الله أم لا؟ الله يقول: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، هذا أبلغ من كلمة: (انتهوا)، هذا معناه: تنتهون أو ننزل عقوبتنا ونضرب على أيدكم، أبعد هذا نطلب نصاً للتحريم؟
    أما كلمة اللواط فما كان العرب يعرفونها أبداً ولا يسمعون بها، لولا أن القرآن نزل بها عن قوم لوط لما عرفوها، وما هناك هبوط ولا سقوط ولا موت ولا دمار أكثر من أن ينزو الذكر على الذكر، ثم في هذا يتكلم هذا العالم ويقول: اللواط ما هو بمحرم في الكتاب! هذا افتراء على الله وكذب على الله.
    (وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:103] لظلمة نفوسهم، ولتسجيلهم في عذاب الجحيم ( يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103]، لو كانت لهم عقول يعرفون بها الحق من الباطل والخير من الشر، والضار من النافع لما كانوا يعبدون الأصنام أو يذيعون ويعلنون عن إباحة المحرمات والعياذ بالله.
    تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ...)
    (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، نقول لهذا: أنت تقول: الله ما حرم الخمر ولا حرم اللواط، فتعال إلى الكتاب والسنة؟(قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، هؤلاء المشركون والخرافيون وأصحاب البدع إذا دعوتهم إلى الكتاب والسنة يقولون: ( حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، إلى الآن ما من صاحب بدعة ولا خرافة ولا ضلالة في ديار الإسلام إذا دعوته يقول: وجدنا آباءنا على هذا، علماؤنا قالوا بهذا! فكيف تدعى إلى الكتاب والسنة، إلى الله والرسول ثم ترفض وتقول: يكفيني أبي وأمي أو أجدادي وأهل بلادي؟ فهذه الآية كأنها تنزل الآن؛ لأن هذا القرآن كتاب هداية للبشرية إلى نهاية الحياة.
    (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا )[المائدة:104] نتحاكم، نتقاضى ( إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ )[المائدة:104]، وبياناته لكتاب الله وهداياته وسننه، ( قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، يكفينا هذا.
    قال تعالى: ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ )[المائدة:104]، أيقولون هذا القول ويفزعون إلى هذا المفزع؟ ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا )[المائدة:104] من المعرفة، ولا يهتدون إلى حق وإلى صراط مستقيم، كيف يتبعونهم ويقتدون بهم؟! وفي هذا أنه يحرم الاقتداء بالجهال والاهتداء بهم، لا اقتداء إلا بالعالمين العارفين بالله.
    ملخص لما جاء في تفسير الآيات
    مرة ثانية أسمعكم الآيات: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ )[المائدة:101-102]، سؤال قوم عيسى وسؤال قوم صالح وموسى وغيرهم، وهلك السائلون لأنهم يسألون سؤال تنطع وعناد ومكابرة.(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ )[المائدة:103]، هذا من وضع الضلال ومن وضع الشياطين، فما عندنا قبر يعبد ولا صنم ولا حجر ولا جدار، ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ )[المائدة:103]، خذها قاعدة: الكافر يكذب على الله؛ لأنه لا يعرفه ولا يخافه ولا يرهبه، يكذب فيقول: قال الله، أذن الله، منع الله، حرم الله، وهو يكذب، كما كذب هذا العشماوي، ( وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103]، ولو عقلوا ما تورطوا.
    (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ )[المائدة:104]، أي: إلى الكتاب، ( وَإِلَى الرَّسُولِ )[المائدة:104]، أي: بيانه وسنته وهدايته؛ لأن الرسول لا يبقى حياً دائماً، فالباقي سنته، ولو كان حياً ونحن في نجد أو في الشام أو في العراق فإنا نتحاكم إليه أيضاً؟ والسنة الآن هي التي نتحاكم إليها.
    (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ )[المائدة:104]، هذا من باب التأنيب والإنكار عليهم، ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ )[المائدة:104]، يقولون: نتحاكم إلى آبائنا وهم جهلة لا يعرفون شيئاً!
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير
    معنى الآيات
    لنستمع مرة ثانية إلى شرح الآيات من الكتاب وتأملوا. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ لقد أكثر بعض الصحابة من سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تضايق منهم ] ومن أجله نزلت الآية، [ فقام خطيباً فيهم وقال: ( لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم. فقام رجل يدعى عبد الله بن حذافة
    كان إذا تلاوم مع رجل دعاه إلى غير أبيه، فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة ) ، وقال أبو هريرة : ( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ ) ]، لم يسأل هذا السؤال؟ هل هو في حاجة إلى هذا؟ [ ( فسكت ) ] الرسول صلى الله عليه وسلم غير راض بهذا السؤال [ ( حتى قالها ثلاثاً ) ] قال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت، أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت، أفي كل عام يا رسول الله؟ [ ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. ولو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم ) ]، وإذا ما فعلنا فماذا ينزل بنا؟ [ ( ثم قال: ذروني ما تركتكم )] اتركوني ما تركتكم. [ فنزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )[المائدة:101]، الآيات، أي: تظهر لكم جواباً لسؤالكم يحصل لكم بها ما يسؤكم ويضركم، ( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ )[المائدة:101]، أي: يبينها رسولنا لكم ]، إذا نزلت آية أو حكم في القرآن فاسأل لتعرف معناه، فالرسول يبين، [ أما أن تسألوا عنها قبل نزول القرآن بها فذلك ما لا ينبغي لكم؛ لأنه من باب إحفاء رسول الله وأذيته صلى الله عليه وسلم. ثم قال لهم تعالى: ( عَفَا اللَّهُ عَنْهَا )[المائدة:101]، أي: لم يؤاخذكم بما سألتم ( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )[المائدة:101]، فتوبوا إليه يتب عليكم واستغفروه يغفر لكم ويرحمكم فإنه غفور رحيم.
    وقوله تعالى: ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ )[المائدة:102]، أي: قد سأل أسئلتكم التنطعية المحرجة هذه ( سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ )[المائدة:102]، لأنهم كلفوا ما لم يطيقوا وشق عليهم؛ جزاء تعنتهم في أسئلتهم لأنبيائهم، فتركوا العمل بها فكفروا. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية.
    وأما الثالثة فقد قال تعالى: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ )[المائدة:103]، ومن الجائز أن يكون هناك من يسأل الرسول عن البحيرة وما بعدها ] وهو كذلك [ فأنزل الله تعالى فيه: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ )[المائدة:103]، أي: ما بحر الله بحيرة ولا سيب سائبة ولا وصل وصيلة ولا حمى حامياً، ولكن الذين كفروا هم الذين فعلوا ذلك افتراء على الله وكذباً عليه، ( وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103]، ولو عقلوا ما افتروا على الله وابتدعوا وشرعوا من أنفسهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى، وأول من سيب السوائب وغير دين إسماعيل عليه السلام عمرو بن لحي الخزاعي الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار، أي: أمعاءه في جهنم. هذا ما تضمنته الآية الثالثة ].
    فالرسول عرضت عليه النار والجنة، رآها رؤية واقعة، لكنها عرضت عليه كما تعرض عليكم الآلات في التلفاز، فما بقي عجب، فشاهد عمرو بن لحي يجر أمعاءه في النار والعياذ بالله؛ لأنه أول من سن الشرك وأتى به إلى هذه الديار، جاء بهبل ووضعه عند الكعبة.
    قال: [ أما الرابعة فقد أخبر تعالى أن المشركين المفترين على الله الكذب بما ابتدعوه من الشرك ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ )[المائدة:104]، ليبين لكم كذبكم وباطلكم في بحر البحائر وتسييب السوائب، يرفضون الرجوع إلى الحق ويقولون: ( حَسْبُنَا )[المائدة:104]، أي: يكفينا ( مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، فلسنا في حاجة إلى غيره. فرد تعالى عليهم منكراً عليهم قولهم الفاسد: ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا )[المائدة:104]، أي: يتبعونهم ويحتجون بباطلهم ولو كان أولئك الآباء جهالاً حمقاً لا يعقلون شيئاً من الحق، ( وَلا يَهْتَدُونَ )[المائدة:104] إلى خير أو معروف؟ ]، ولهذا ما زال إلى الآن أصحاب البدع في دارنا الإسلامية يحتجون فيقولون: العلماء قبلكم ما قالوا هذا، وجدنا علماءنا في هذه البلاد يقولون كذا وكذا! فهل هذه حجة؟ دعاك إلى قال الله وقال الرسول وتقول: وجدنا علماءنا يفعلون كذا! هذا تشبه بالمشركين أم لا؟ مهما ما كنت إذا دعيت إلى الكتاب والسنة فقل: آمنت بالله، وصلى الله وسلم على رسول الله، هات الكتاب والسنة.
    والآن لاشك أن المستمعين والمستمعات فهموا هذه الآيات إن شاء الله، لكن تنتفعون بها يوم تقرءونها، لا بد من قراءة القرآن، أما أن تسمع الآيات ولا تعود إليها تتلوها ليلاً ونهاراً فكيف تبقى في ذهنك؟ لكن الذي يرجع إلى الآيات يتلوها في تهجده في أوقات فراغه يمر بها يذكر ذلك.
    هداية الآيات
    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:
    من هداية الآيات:
    أولاً: كراهية الإلحاف ]، ما معنى: ألحف في السؤال؟ أكثر فوق العادة، وقد قلنا: إن المراد مطلق السؤال، حتى لو سألت المال، سألت الدراهم، سألت عن أي شيء، لا تلحف وتلح، تأدب، فضلاً عن أسئلة تتعلق بدين الله وما عند الله.
    [ كراهية الإلحاف في السؤال والتقعر في الأسئلة والتنطع فيها ]، التقعر: أن يذهب بعيداً إلى معان ما تخطر في البال، والتنطع كذلك أن يطلع إلى أشياء ما سمع بها، فاسأل عما أنت في حاجة إليه أن تعبد الله به وتعرفه، بل نحن نقول: لا يجوز أن نؤذي أمياً، حارس عند الباب اسأله بلطف لا تلحف عليه: من أنت وكيف هذا؟ كما يفعل الجهال، فمن أين أخذنا هذا الهدى؟ من قوله تعالى: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )[المائدة:101].
    [ ثانياً: حرمة الابتداع في الدين ]، ليس من حق أي عالم أو رباني أو ولي أن يبتدع بدعة في الإسلام ويدعو الناس إليها؛ لأن هذا تجهيل لله، أو نسبة النسيان إلى الله أو نسبة عدم العلم إلى الله، حتى جاء هو بعبادة يدعو الناس إليها، فلهذا كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، والذين يبتدعون ويزيدون هل الإسلام ما كفاهم حيث أدوا الواجبات والفرائض والنوافل وبقي وقت فأرادوا أن يزيدوا شيئاً؟! إن الفرائض ما أدوها.
    [حرمة الابتداع في الدين وأنه سبب وجود الشرك في الناس ]، سبب وجود الشرك ما هو؟ والله! إنه البدعة، هي التي تنتقل من تحسين بدعة إلى عمل شرك، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103].
    [ ثالثاً: وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة والرضا بحكمهما ]، إذا حصل خلاف بين مؤمن ومؤمن يجب أن يرد ذلك إلى الكتاب والسنة والرضا بالحكم، لا نرده إلى الكتاب والسنة وبعد ذلك ما ترضى وما تقتنع، وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب القرآن العظيم، والسنة سنة الرسول عليه السلام، والرضا بحكمهما، واقتنع وطأطئ رأسك وقل: آمنت بالله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تقل: أنا مذهبي ما يقول بهذا. فهذا الحكم أخذناه من قوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104].
    [ رابعاً: حرمة تقليد الجهال واتباعهم في أباطيلهم ]، يحرم أن تقلد جاهلاً يا عبد الله، لا يحل لك أن تقلد جاهلاً وتعمل بقوله ورأيه وعمله وتتبعه في باطله، الجاهل أعمى فكيف يقودك؟! يقودك من علم وعرف وأصبح ذا نور وهداية، هذا قلده، أما أن تقلد جاهلاً باطلاً فتقع في الهلاك، وأكثر البدع قلد فيها المسلمون الجهال، إذ ما وجدوا علماء دعوهم إليها، يندر هذا، الجهال يقلد بعضهم بعضاً.
    هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #360
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,798

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (46)
    الحلقة (459)
    تفسير سورة المائدة (52)


    أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نحافظ على زكاة أنفسنا وطهارتها، ثم أخبرنا أننا متى ما فعلنا ذلك واهتدينا إلى طريقه المستقيم، فلا يضرنا من ضل عن الطريق وتنكب السبيل، المهم أن نحافظ على هدايتنا ونوفر أسبابها كما بينها لنا رسول الله، وهي التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، فإذا تحققت الهداية للمؤمنين والضلالة للمنحرفين كان مرجعهم جميعاً إلى رب العالمين، لينبئهم بما كانوا يعلمون، ويجازي أهل الهداية بما يستحقون، ويجازي أهل الضلالة بما يستقحون.

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، ومعنا الليلة آية واحدة من أجل الآيات وأعظمها، فيها نتلوها ونكرر تلاوتها رجاء أن نحفظها عن ظهر قلب.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )[المائدة:105].
    هذا النداء أحد نداءات الرحمن لأهل الإيمان، ينادينا خالقنا ورازقنا ومدبر حياتنا، ينادينا معبودنا وإلهنا الحق الذي لا إله لنا سواه، فيقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:105]، أي: يا من آمنتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، يا من آمنتم بالله ولقائه ووعده ووعيده، يا من آمنتم بكل ما أمركم مولاكم أن تؤمنوا به من الغيب والشهادة، أنتم أيها المؤمنون الأحياء، والحي يسمع النداء، والحي يفعل إن أمر أن يفعل، ويترك إن أمر أن يترك؛ ولذلك لكمال حياته.
    وقد علمنا: أن الإيمان الحق بمثابة الروح للبدن، فالمؤمن الإيمان الصحيح الذي إذا عرضناه على القرآن والسنة وافقا عليه، صاحب هذا الإيمان -والله- حي، وحسبه شرفاً أن يناديه الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:105]، فجوابنا: لبيك اللهم لبيك، مر نفعل، انه ننته، بشر نستبشر، أنذر نحذر، علم نتعلم، عبيدك بين يديك، هذه حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم.
    الأمر بتهذيب النفس وتزكيتها وتطهيرها
    نادانا هنا ليقول لنا: ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105]، ماذا نفعل بها؟ نزكيها ونطهرها، نهذبها ونربيها؛ لتكون في عداد مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. يا عبد الله! عليك نفسك لا تهملها، لا تغفل عنها، لا تضيعها، لا تصب عليها أطنان الذنوب والآثام فتمسخها وتحولها إلى نفس شيطانية والعياذ بالله، أنت المسئول عنها لا غيرك، واللفظ يحمل معنى عاماً: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105] من المؤمنين، مروهم وانهوهم، وربوهم وعلموهم، هذبوهم، اهدوهم، أرشدوهم؛ لأنكم كالجسم الواحد.
    وتتناول ما بدأنا به أن كل مؤمن عليه أن يحفظ نفسه من أن تتلوث أو تسقط وتهبط وتصبح في عداد الشياطين والمجرمين، هذا أمر الله، فهل نطيع؟ يا ويحنا إذا لم نطع، فهيا نحفظ لأنفسنا طهارتها.
    أولاً: نطهرها بمواد التطهير، وهي الإيمان والعمل الصالح، والعمل الصالح: ما وضعه الله لنا لنعبده به من كلمة لا إله إلا الله إلى إماطة الأذى عن طريق المؤمنين، كل العبادات من صلاة، من زكاة، صيام، بر الوالدين، قول المعروف، ذكر الله، تلاوة كتاب الله، الجهاد، الرباط، كل عبادة هي عبارة عن مادة لتزكية النفس، إذا استعملها العبد على الوجه المطلوب أثرت في نفسه بالطهر والصفاء، حتى تصبح روحه كأرواح الملائكة، ثم علينا إذا طهرناها أن نحافظ على طهارتها، لا نغفلها بحيث تنظف اليوم وغداً نصب عليها برميل زبل فنسودها ونلطخها، لا بد من المحافظة على طهارتها وزكاتها حتى الموت، وإن زلت القدم واستغفلك العدو يوماً في الدهر فالتوبة النصوح تزيل ذلك الأثر وتذهبه ويحل محله الأثر الطيب، قال تعالى: ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ )[الفرقان:70]، ما كان ظلماً ونتناً في النفس يصبح نوراً وطهارة وريحاً طيباً.
    يا عبد الله.. يا أمة الله! حافظ على نفسك، لا تهملها، لا تضيعها، لا ترمها في مزابل الشياطين، جنبها كل ما من شأنه أن يلوثها كالكذب، كالحسد، كالشرك، كالبخل، كالخيانة، كل الذنوب، ما من ذنب حتى النظرة تتعمدها وتنظر إلى امرأة في الشارع أو على النافذة بقصد النظر إليها؛ ما ذنب إلا يحول نفسك إلى نتن وعفونة إذا لم تبادر بغسلها وتطهيرها.
    أقول: أمرنا مولانا عز وجل أن نحافظ على زكاة أنفسنا وطهارتها، أولاً: نستعمل التزكية والتطهير، وحين تطهر لا نسمح أبداً لأدنى دخن يصيبها، وإن زلت القدم قلت: أستغفر الله.. أستغفر الله، أتوب إلى الله، تمرغ بين يدي الله وأنت تبكي في صدق عازماً على ألا تعود إلى هذا الذنب ولو قطعت وصلبت، فإن هذا الأثر يمحى بإذن الله مع التوبة الصادقة، ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا )[الفرقان:70].
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105]، قلت: إن الآية تتناول أمة الإسلام لأنها جسم واحد، ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105] أيها المسلمون، ولا تبالوا بأولئك عبدة الأصنام والأحجار وأصحاب البحيرة والسائبة وما تقدم، شأنهم إلى جهنم، لكن أنتم أيها المسلمون حافظوا على طهارة أرواحكم وزكاة نفوسكم: ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105].
    ضلال الضالين لا يضر المهتدين
    وقوله: ( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ )[المائدة:105] بقيد: ( إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، من ضل الطريق الموصل إلى رضوان الله ودار السلام ومواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين لا يضرنا أبداً إذا نحن اهتدينا، أنت هديت لتعبد الله عز وجل فاستقم على منهجه ولا يضرك بلايين الكفار والمشركين، ( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ )[المائدة:105] الطريق وأخطأه وسلك سبيل الشياطين، ولكن بشرط ( إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، إذا اهتدينا أولاً إلى الإيمان الصحيح والتوحيد لله رب العالمين، ثم عبادته بما شاء أن نعبده، ثم تجنب كل ما من شأنه أن يؤثر على أنفسنا بالخبث والتدسية، أي: باجتناب كل ما حرم الله ورسوله من النظرة إلى أكل الربا.وهنا ألفت النظر -وقد سبق أن عرفتم- إلى أنه لا بد من معرفة ما نعبد الله به، ومعرفة ما نتجنبه مما حرمه الله، فالعلم ضروري يا عبد الله، كيف يقال: اغسل ثيابك وهو لا يعرف بم يغسلها، لا بد أن أقدم له مادة الصابون أو الماء. فأنت تقول: يا عبد الله! زك نفسك. فكيف يزكيها؟ دله على مواد التزكية وعلمه كيف يستعملها، قل له: حافظ يا عبد الله على زكاة روحك وطهارتها، بين له ألا يأتي ذنباً من الذنوب فيلوثها ويخبثها، فلا بد من معرفة محاب الله ومكارهه، لا بد -يا عبد الله.. يا أمة الله- من أن تعرف محاب الله ومكارهه، فإذا عرفت محاب الله عرفت وعد الله، وإذا عرفت مكارهه عرفت وعيده، إذ لله وعد ووعيد، الوعد لمن أطاعه، والوعيد لمن عصاه، ومحاب الله هذه العبادات، ما شرعها إلا لأنه يحبها، واذكروا قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن )، إذاً: الله يحب بعض الكلم، ما أمرنا بأن نقول كلمة أو نعبده بها إلا لأنه يحبها، فهل أنتم تأخذون بهذا الهدي المحمدي؟ من منكم يقول: أنا عندي ورد يومي أقول مائة مرة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، أتملق الله وأتزلف إليه ليحبني؟ لنقل: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، تغن بها وأنت تسوق في سيارتك، تغن بها والقدوم في يدك تنجر خشبتك، اذكري يا مؤمنة وأنت تعجنين طحينك ودقيقك؛ لأننا خلقنا للذكر، ما عندنا كلم نلهج به ويسمع منا قط إلا ذكر الله عز وجل، أليس لذلك خلقنا؟
    إذاً: هل عرفتم سر الحياة وعلة الوجود أيها الفلاسفة؟ علة الوجود كله وسر هذه الحياة: أن يذكر الله ويشكر، فمن شكر وذكر؛ قربه إليه وأدناه وأنزله الفراديس العلا، ومن كفره وجحد ولم يذكره أرداه وأشقاه.
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، أما إذا ضللتم فإنه يضركم الضال، لكن إذا اهتديت فلا يضرك، والاهتداء إلى أين؟ إلى الجنة. وهل للجنة طريق؟ أي نعم، وهو الإيمان والعمل الصالح فعلاً، وترك الشرك والمعاصي تركاً، هذا هو الطريق نهايته دار السلام، وإذا تعجبت فأبشر عما قريب وأنت على سرير الموت والملائكة تتوافد عليك وأنت تستبشر بهم وتضحك: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ )[فصلت:30] في سياق الموت، وتقول لهم ماذا؟ ( أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا )[فصلت:30-32]، ضيافة، ( مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ )[فصلت:32]، هؤلاء أهل الأرواح الطاهرة، والنفوس الزكية، أما أصحاب النفوس الملوثة المخبثة المنتنة فلا.
    معنى قوله تعالى: (إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون)
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ )[المائدة:105]، مرجع الطغاة والبغاة والظلمة والمشركين والكافرين، والربانيين والمؤمنين والصالحين، وهل نرجع إلى غيره؟ ما هناك -والله-مرجع إلا إليه في ساحة فصل القضاء.(فَيُنَبّ ِئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )[المائدة:105]، وإذا نبأنا وأخبرنا فإنما ليقيم الحجة علينا، وتأتي السجلات الضخمة، ووالله! ما ترك لنا من عمل صالح أو فاسد إلا دون وكتب وسجل، ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ )[الحاقة:19-23]، يقولون لهم: ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ )[الحاقة:24]، الماضية، وهذه الجلسة منها.
    ثم قال تعالى: ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ )[الحاقة:25]، فالأول: كتابه حسنات ذات أنوار يعطونه بيمينه، والآخر سيئات منتنة وشرك وخبث يعطى كتابه بشماله ووراء ظهره، لا يواجهونه ليأخذها، ( فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ )[الحاقة:25]، أي: لم أعط كتابيه، ( وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ )[الحاقة:26-27]، يود الانتحار ولا ينفعه انتحار، يود لو يموت في تلك الساعة، ( يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ )[الحاقة:27-29]، هاتان مصيبتان: المال والسلطان، من طبع الإنسان حب أن يسود ويعلو ويتكبر ويترفع، من طبيعته أن يحب المال حباً جماً، ومن يقول: أنا لا أحبه؟ قد يكون ذلك من شاخ أو أصبح على شفا حفرة، ومع هذا قد يشيب المرء ويشب معه حب المال والدنيا.
    إذاً: ( خُذُوهُ )[الحاقة:30]، من الآمر؟ الله جل جلاله. من المأمور؟ ملائكته، زبانيته، ( خُذُوهُ )[الحاقة:30] أولاً ( فَغُلُّوهُ )[الحاقة:30]، الغل يوضع في عنقه، ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ )[الحاقة:31-32]، يدخلونها من فيه ويخرجونها من دبره كخيط المسبحة، ( ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا )[الحاقة:32]، هل من أذرعتنا أو أذرعة السلطان؟ كلا؛ لأن ضرسه كأحد، وعرض أحد مائة وخمسة وثلاثون كيلو متر، فكم طول هذه السلسلة؟
    (ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ )[الحاقة:32]، لم؟ ما العلة؟ ( إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ )[الحاقة:33-37]، والغسلين: الغسالة، العرق والدماء والأوساخ التي تتجمع في أطنان، ذلك هو طعامهم، لا بقلاوة ولا حلاوة ولا لوبيا ولا جزر، الطعام ما يسيل من عرق ودماء ودموع وأوساخ تتجمع بكميات، وهي طعامهم، فقولوا: آمنا بالله.
    توقف الهداية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
    معاشر المستمعين! اسمعوا الآية من جديد: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، قالت العلماء: لن تتم هدايتنا إلا إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، قال ذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم، لا تتم هدايتنا ونطمئن إلى أننا مهتدون حتى نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؛ لأننا لو رأينا المنكر يرتكب بيننا وما نهينا عنه، ورأينا المعروف ضائعاً وما أمرنا به ولا فعلناه فهل نهتدي؟ كلا. بل ننتكس، إذا انتشر الباطل في قرية أو مدينة أو في بيت فلا تتم هداية حقة إلا إذا أمرنا ونهينا عن المنكر.وإليكم حديث الحبيب صلى الله عليه وسلم، روى أبو داود والترمذي وغيرهما -والحديث حسنه الترمذي وقال: حسن غريب، ولا تضر غرابته- عن أبي أمية الشعباني من التابعين، قال: ( أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ )، وهي قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )[المائدة:105]، ويجزيكم الخير بالخير والشر بالشر. ( فقال: أية آية؟ قلت: قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم )، أنا خبير، فكيف حصلت لي هذه الخبرة؟ قال: سألت أنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر )، (ائتمروا) أي: ليأمر بعضكم بعضاً بالمعروف، و(تناهوا) أي: لينه بعضكم بعضاً عن المنكر.

    كنت أفكر في الآية وأمامنا مصلون بينهم أحد الإخوان ثوبه يسحب في الأرض، فقلت: هل أقول لأحد: امش إليه وقل له: تعال إلي؟ قد لا يحصل، فهل أسكت وأنا الآن في الدرس؟ فكيف نعمل؟ فتوكلت على الله ومشيت إليه، وأخذته من ذراعه وسلمت عليه، وقلت له: يا بني! ثوبك طويل، لا يصح هذا، فقصره. ففرح والحمد لله.
    فكل من رأى بينكم منكراً فليغيره، ابدأ بالبيت الذي أنت فيه، زوجتك وأولادك، أمك وأبوك، موضع تلاقيك بإخوانك في عملك أو في سفرك، وهكذا، مره بالمعروف إن ترك معروفاً، ولكن بالكلمة الطيبة والوجه الباش الهاش، لا تعنف ولا تغلظ وتشدد فما يقبل منك حتى ولو كان من كان، وإذا رأيت أيضاً معروفاً متروكاً فقل: يا فلان! افعل كذا فهو خير لك، فتنجو وتسعد وتكمل، وهكذا، فإذا أمرنا بالمعروف وتناهينا عن المنكر ما يشيع فينا الباطل والمنكر ولا نضل، لكن إذا اهتدينا ثم سكتنا وظهر الباطل والمنكر وترك المعروف كذا يوماً فسنتحول إلى ضلال، من كان لا يكذب فإنه يصبح يكذب.
    شرح حديث: (ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر)
    لنسمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: ( ائتمروا بالمعروف )، أي: ليأمر بعضكم بعضاً، المرأة تأمر الرجل، الخادم يأمر السيد، السيد يأمر الخادم، الجار يأمر جاره وهكذا؛ لأننا نفس واحدة: ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105]، فنفسي هي نفسك.قال صلى الله عليه وسلم: ( حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة )، نسأل الله ألا يوجدنا في وقت كهذا.
    معنى الشح المطاع
    يقول: ( ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ) إلى متى؟ ( حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً )، وهل الشح يطاع؟ قال تعالى: ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ )[الحشر:9]، فالشح فطري في النفس، مغروز بها، فإن وقاك الله إياه وحفظك منه نجوت، وإذا نبت فيك وأثمر فهذا الشح يصبح صاحبه يطيعه، لو أمره أن يسرق من جيب أخيه فإنه يسرق لأنه أطاع شحه، لو أمره أن يكذب ألف كذبة لأجل الحفاظ على ماله فإنه يكذب، الشح أشد من البخل، وهو منع الحقوق، هذا مرض إذا وقانا الله منه نجونا، ونسأل الله أن يقينا.وقالت العلماء: من أدوية علاج الشح الصدقات، تمرن وتعود على الصدقة، في يدك سبع تمرات فتصدق بتمرة، بين يديك خمس لقيمات طعام وجاء سائل فأعطه لقمة، في يديك عشرة ريالات فجاء سائل فأعطه نصف ريال أو ريالاً، تمرن على هذا تبرأ من هذا المرض، لا علاج له إلا الصدقة، بها يعالج شح النفس أو بخلها، قد تبخل بالمال، وقد تبخل ببدنها، تبخل بعرضها، تبخل بحياتها كلها.
    معنى الهوى المتبع
    ثانياً: ( وهوى متبع )، هوى النفوس متبع، الناس يتبعون أهواءهم، أيما شيء تزينه النفس يفعله، هل لهذا مثال؟ مثال هذا الذي شاع بين الناس الدشوش التي على السطوح، هل أمر الله بهذا؟ هل بلغكم أن هذا حلال وطيب مما يرضي الله؟ الجواب: لا، بل أعلن رسمياً في الصحف والإذاعة أنه حرام، فكيف تجده الآن على السطوح، ما سببه؟ والله! ما هو إلا الهوى المتبع، اتبعوا أهواءهم وما اتبعوا دين الله ولا دين رسوله ولا ما جاء في كتاب الله ولا سنة رسوله، والله ما هو إلا هوى متبع.هؤلاء الذين يبيعون البرانيط، والعامة لا يفهمون البرنيطة، عرفناها يوم عشنا مع فرنسا المستعمرة، وهي ما تسمى بالقبعة، وقد بينا غير ما مرة أن الرسول الكريم يقول: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، وقلت: بالله الذي لا إله غيره! لو يجتمع علماء الكون والطبيعة والنفس والطب على أن ينقضوا هذا الخبر والله ما نقضوه ولن يقدروا على نقضه، ( من تشبه بقوم فهو منهم )، فلهذا أمرنا ألا نتشبه بيهودي ولا نصراني ولا مشرك أبداً، فمن تشبه بقوم كيف يكون منهم؟ لأن لفظ (تشبه) على وزن تفعل، أراد أن يكون مثل مسيو، امرأة شاهدت عاهرة على التلفاز أو الفيديو فأحبت أن تكون مثلها، فأخذت تأخذ المساحيق واللباس وكل ما تريده لتكون مثلها، هذه لا تلبث أن يكون في قلبها نفاق فتنسى الله والدار الآخرة، رأى رجل منا مائعاً ضائعاً مخنثاً في زيه، في لباسه، في منطقه، فأحبه وأراد أن يكون مثله، وأخذ يتشبه به، والله لا يلبث أن يكون مثله، رأيت بطلاً شجاعاً فارساً هماماً، فأحببت أن تكون مثله، فأخذت تقلده، لا تلبث أن تكون مثله؛ لأنك أردت، رأيت عبداً صالحاً فأحببته وأردت أن تكون مثله، فتأخذ بالتشبه به في عمامته، في مشيته، في جلسته، في منطقه، في أذكاره، في عباداته، والله! ما تلبث أن تكون مثله، هذه قاعدة وضعها أبو القاسم من وحي السماء: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، فهذه البرانيط من يصدرها لنا؟ اليهود. فكيف يا تاجر في مدينة الرسول، في مكة بلد الله عز وجل تستورد البرانيط لتبيعها لأبناء المسلمين؟ فأصبحوا يتبجحون في الشوارع حتى في المسجد، لولا أنا طردناهم من الحلقة لأتوا إلى الحلقة؟ فهل هذا منكر أو معروف؟ والله! إنه لمنكر، وإن لم تنكروه فالله ينكره، نحن تنازلنا عن لباس العسكر؛ لأنه يواجه العساكر والجيوش، أما المدنيون فبأي حق يلبسون البرانيط؟ فيا ويل التجار الذين يستوردونها ويبيعونها، زوروهم في دكاكينهم وأنتم تبتسمون، وسلموا عليهم وصافحوهم، وعانقوهم، وقولوا: استيراد هذه لا خير فيه، بلغنا أن هذا من زي الكافرين والنصارى. نحن رأينا اليهود، فهل تلبس برنيطة يهودي؟ أعوذ بالله! مضت فترة على المسلمين ولا يضع برنيطة على رأسه إلا كافر.
    على سبيل المثال: عايشنا الديار المغربية: المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، والله ما كان مدني يلبس برنيطة والحاكم فرنسا! واحتراماً للإسلام والمسلمين وتقديراً لهم من السيدة فرنسا والله! إن الجيوش التي تجيش من العرب لا تجعل لهم اللباس العسكري الفرنسي، إما برنس أو عمامة، عمامة هؤلاء الفرسان الذين تفتح بهم البلاد، والبوليس بوليسان في الشارع، في العاصمة أو في المدينة، فرنسي بالقبعة ومسلم بطربوش أحمر كأنه عثماني، والله الذي لا إله غيره؛ حفاظاً على شعور المسلمين، ونحن نهبط هذا الهبوط؟! فإن شاء الله لا نرى بعد اليوم قبعة على رأس ولد ولا كبير، لكن مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر.
    معنى إيثار الدنيا والإعجاب بالرأي
    قال: ( ودنيا مؤثرة )، مؤثرة على الآخرة، مؤثرة حتى على العرض والشرف والكمال، الدنيا آثروها وفضلوها على غيرها. ( وإعجاب كل ذي رأي برأيه )، هذه محنة أخيره، كل من عنده رأي ما يقبل رأي الآخر أبداً ولا يعترف للعالم، العالم لا يعترف للعالم، كل ذي رأي معجب برأيه ما يتنازل وما يقبل الحق أبداً.
    التوجيه للمسلم حال ظهور الشح المطاع وغيره
    يقول هنا: ( فعليك بخاصة نفسك )، انج، إن هبطت الأمة هل تهبط أنت؟ إذا رأيت هذه الأربعة ظاهرة ما أصبح يقبل منك معروف ولا منكر فماذا تصنع؟ عليك بخاصة نفسك، أقم صلاتك وأد زكاتك، واذكر ربك وتجنب ما حرم عليك، وإن خفت أن يلحقك أذى فارحل، اسكن في الجبال أو الشعاب أو الأودية، حتى تموت طاهراً نقياً، فتنجو وتسعد.قال: ( ودع عنك أمر العامة؛ فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر )، اللهم لا تحينا إليها، ( للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم )، أيها الأصحاب! للعامل في ذلك الزمان مثل أجر خمسين صحابي في البلاء الذي عم وانتشر وثبت هو وصبر، إن غنَّى الناس فوالله ما يغني، إن أدخلوا التلفاز والفيديو فوالله ما يدخله في بيته، إن ألبسوا أولادهم البرانيط فوالله ما يلبسها، إن وضعوا البنوك وأسسوها فوالله ما يفعل، إن كشفوا وجوه نسائهم وبناتهم فوالله ما يكشف، هذا له أجر خمسين صحابياً.
    ملخص لما جاء في تفسير الآيات
    إذاً: أعيد الآية ولا تنسوا ما سمعتموه: (
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:105]، لبيك اللهم لبيك، ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105]، هذبوها طهروها، احفظوها؛ حتى لا تضيع وتهلك، ( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، لا تتم هداية أمة إلا إذا أمرت بالمعروف وتناهت عن المنكر؛ لأنها إذا سكتت يعمها المنكر ويغشاها الباطل وما يبقى فيها من ينجو ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ )[المائدة:105]، وهل هناك غير الله نرجع إليه فينبئنا بما كنا نعمل ويجزينا به؟اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

    وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •