تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 10 من 45 الأولىالأولى 1234567891011121314151617181920 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 181 إلى 200 من 898

الموضوع: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

  1. #181
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (39)
    الحلقة (180)

    تفسير سورة آل عمران (44)


    لا تزال أمة الإسلام بخير، ولا يزال الدين في منعة، ما اعتصم المسلمون بحبل الله المتين، وما كانت كلمتهم واحدة ورأيهم غير مختلف، وقد امتن الله على عباده من أمة الإسلام أن جمعهم على كلمة الحق، فكانوا بنعمته إخواناً، وأن أنقذهم من ظلمات الضلال والكفر وهيأ لهم الهداية والرشاد، وكل هذا من آيات الله التي يهتدى بها المهتدون.

    تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل -القرآن الكريم- رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن ما زلنا مع هذا النداء الإلهي من سورة آل عمران عليهم السلام، وتلاوة هذا النداء بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103].

    مناداة الله لعباده بأن يتقوه حق التقوى
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نادانا الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه فكان هذا شرفاً لنا وإلا فمن نحن؟ وما نحن حتى ينادينا ملك الملوك، ذو الملك والجبروت، المحيي المميت، الذي يضع الأرض في كفه ويطوي السموات السبع في أخرى؟! لكنها منة الله علينا حيث رزقنا الإيمان به وبلقائه وبكتابه وبرسوله وبقضائه وبقدره فحيينا، أي: أصبحنا أحياء نسمع ونبصر وننطق ونأخذ ونعطي لكمال حياتنا، فلما أحيانا نادانا: يا أيها الذين آمنوا، فأجبناه: لبيك اللهم لبيك، مر نفعل، انه نترك، بشر نفرح، أنذر نحذر، علم نتعلم، هذا استعدادنا معشر الأحياء، أما الأموات فأنى لهم ذلك، وهذا النداء الكريم اشتمل على ما يلي: أولاً: على الأمر بتقواه عز وجل حق التقوى، وعرفنا -زادنا الله معرفة- أن الله يُتقى عذابه وسخطه وغضبه بطاعته وطاعة رسوله، فيا من يريد أن يتقي عذاب الله فلا ينزل عليه، وغضب الله وسخطه فلا يكون عليه، أطع الله ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم. كما عرفنا أن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله تكون بفعل الأوامر المستلزمة للوجوب، وبترك النواهي المستلزمة للتحريم، فبهذا يُطاع الله ورسوله، وبهذا يتقى الله جل جلاله وعظم سلطانه.

    طريق معرفة أوامر الله ونواهيه
    وهنا بكينا وقلنا: ما هي أوامر الله؟ وما هي نواهيه؟ ما عرفنا؟ ماذا نصنع؟ ما نستطيع أبداً أن نطيعه في شيء ما عرفناه، فتقرر عندنا أنه لابد من طلب العلم، ومن أعرض ولوى رأسه وأبى فمصيره معروف، من أعرض أعرض الله عنه، لابد من معرفة أوامر الله ونواهيه، والطريق إلى ذلك سؤال أهل العلم، إذ قال تعالى في آيتين من كتابه العزيز من سورة النحل والأنبياء: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] والمراد بالذكر: القرآن الكريم، فمن سأل وعلم عرف واتقى الله، ومن لم يسأل لم يعرف، وإذا لم يعرف كيف يتقي الله؟! مستحيل.

    مصير المسلمين عند جهلهم بأوامر الله ونواهيه وإعراضهم عن شرعه
    لو نظرنا إلى أمة الإسلام ذات الألف مليون -مضت عليها قرون- لوجدنا خمسة وتسعين في المائة لا يعرفون أوامر الله ولا نواهيه، إذاً كيف يتقون الله؟! كيف يتقون نقمه وعذابه وبأسه؟! ومن ثم سلط الله عليهم أعداءه وأعداءهم فسادوهم، وحكَموهم، وأذلوهم، وتحكموا فيهم، وأهانوهم، وأخرجوهم عن دائرة الكمال، وما زلت أقول: إن العالم الإسلامي لينتظر ساعة من أسوأ الساعات وأشدها؛ لأن الله تعالى مكَّن لهم في الأرض فأبوا أن يعبدوه، وأعرضوا عنه وعن كتابه وذكره، وغرتهم الحياة الدنيا بزخارفها، وقد كررنا القول: أين ربكم؟ بالمرصاد، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14]. إذاً: فالعالم الإسلامي تحت النظارة، وفي إمكانهم أن يعلنوا عن وحدتهم في أربع وعشرين ساعة، والصوت يدوي فيدخل كل بيت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وهذا كان متعدياً ومستحيلاً فيما مضى، لكن الآن في إمكانهم أن يجتمعوا على كتاب واحد يدرسونه، كلهم رجالاً ونساءً في العالم الإسلام بأسره، ولا مشقة في ذلك، بل في الإمكان أن يبايعوا إماماً لهم -الله أكبر إمامنا فلان- وإذا بالأمة الإسلامية تحت راية لا إله إلا الله محمداً رسول الله، وأسهل من أكلها البقلاوة وشربها الشاي، فقط تسلم قلوبها ووجوهها لله، وتصبح بلاد المسلمين حقاً بلاد المسلمين، لا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي، كما في إمكانهم أن يطبقوا شريعة الله -فيزول الجهل ويظهر العلم- فيجتمع علماء الفقه ليضعوا الدستور الإسلامي في أربعة أيام، وفي أربعين يوماً يُطبع منه مئات الآلاف، ويوضع في يد كل حاكم ويقول لمسئوله: طبقوا شرع الله، وهذا كان مستحيلاً في القرون الماضية، ولو فعلنا ذلك فإننا سنطير في السماء كالملائكة، فما المانع أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله تعالى حتى تنتهي الفوارق، فلا عنصريات ولا تحزبات ولا مذاهب ولا تجمعات، وإنما مسلم فقط؟إن هذا الخير متوفر والمسلمون معرضون، فماذا عسى أن يكون مستقبلهم؟ أهملهم الله، إن لله سنناً، صدقت يا أبا عبد الله، قال: أمهلهم، إي نعم، إن الله يمهل ولا يهمل، وكأننا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على منبره ذاك يخطب في المؤمنين، ثم قال لهم: ( إن الله ليملي للظالم ) يزيده ( حتى إذا أخذه لم يفلته )، وقرأ قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، ما المراد بالقرى؟ العواصم، الحواضر، ما يقول: البادية، إذ البلاء في المدن، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102]، والحال أنها ظالمة، ظالمة لربها، ظالمة لنفسها، ظالمة لغيرها، أي: ما نهجت منهج الله المؤدي إلى سعادتها وكمالها، كالذي يحتسي السم ويشرب الخمر ويلاعب الأفاعي والحيات، فهل يسلم هذا؟! إذاً: فعلى المسلمين أن يتعلموا محاب الله ومكارهه، وكيف يؤدون تلك الفرائض على الوجه الذي من شأنه أن يولد لهم الطاقة النورانية في قلوبهم،وقد تكرر العلم عندنا أن هذه العبادات مولدة للنور، فأنت لا تدري إذا صمت ماذا حصل؟ وإذا صليت لم تدر ماذا حصل؟ إن هذه العبادة التي شرعها الله العليم الحكيم لعباده شرعها لهم من أجل تزكية نفوسهم وتطهير أرواحهم، فإذا كان الماء والصابون من شأنهما تطهير الأجسام أو الأبدان أو الثياب فكذلك العبادة إذا أداها عبد الله أو أمة الله بإخلاص لله -أداها وقلبه مع الله لا يتلفت إلى سواه، وأداها كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا زاد فيها ولا نقص منها، ولا قدم جزءاً ولا أخر آخر- فإنها تولد النور المسمى بالحسنات، فإذا زكت روح العبد أو الأمة رضيه الله وقبله ورفعه إليه.أما إذا كانت روحاً خبيثة عفنة من أوضار الذنوب والآثام، ولم تزك يوماً، ولم تطهر ساعة، فإن مصيرها سجين أسفل الكون، ولا ترتفع إلى الله، ولن تصل إلى الملكوت الأعلى، وهذا بنص كتاب الله تعالى، أما قرأنا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]؟ متى يدخل البعير في عين الإبرة؟! مستحيل، فكذلك صاحب الروح الخبيثة المنتنة بأوضار الشرك والمعاصي، مستحيل في حق روحه أن ترقى إلى الملكوت الأعلى. أيضاً: عرفنا حكم الله الصادر علينا إنساً وجناً، أولين وآخرين، حكم الله الذي لا يُوارِب، إذ قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فهل في الإمكان أن يُنقض هذا الحكم؟ من يقوى على نقضه أو التعقيب عليه والله القائل: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]؟! وهنا تقرر مصيرك يا ابن آدم ويا ابن الجان، فإن أنت عملت على تزكية نفسك فزت وأفلحت ونجوت من عذاب النار، وسكنت الجنة دار الأبرار. وإن أنت لوثتها بأكل الربا وتعاطي الزنا وسب العلماء وسب المؤمنين و.. و.. و.. أصبحت عفنة كأرواح الشياطين، فهيهات هيهات أن تقبل هذه الروح في الملكوت الأعلى، فالذي خلق الماء العذب والصابون المطهر للأبدان هو الذي أوجد كلمة: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، أو الله أكبر، أو الحمد لله، وما قالها مؤمن موقناً بها عالماً بمعناها إلا وعملت في نفسه الزكاة والطهر والصفاء، ولن تتخلف، ولا قال كلمة سوء أو نطق بكلمة باطل أو خبث إلا وانعكس أثره على نفسه ظلمة وعفناً ونتناً والعياذ بالله تعالى. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، وقد علمتم أننا نذكره ولا ننساه، ونشكره ولا نكفره، ونطيعه ولا نعصيه، وبذلك نكون قد اتقينا الله حق تقاته، وبهذا أمرنا.

    معنى قوله تعالى: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
    لننتقل إلى الأمر أو النهي الثاني، وذلك بعد أن نادنا وأمرنا بتقواه حق التقوى، نهانا أن نموت على غير الإسلام، فقال تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] و(اللام) هنا ناهية، فلا تمت يا عبد الله إلا وأنت مسلم، وقبل ذلك أمرنا بتقواه حق التقوى من أجل أن يرفعنا إليه بعد أن يطهرنا ويزكي نفوسنا، وهو ذا ينهانا عن الموت على غير الإسلام، لماذا؟ خشية أن ننقطع؛ لأنك قد تزكي نفسك أربعين سنة، بل سبعين سنة، ثم تقول كلمة الكفر فتتحول إلى عفن وإلى نتن والعياذ بالله، وعند ذلك يحال بينك وبين الملكوت الأعلى. وكلمة الكفر إن أردتم لها مثلاً فبحبة الهيدروجين أو الذرة، إذ إنها في وزن حمصة، لكنها تنسف مدينة بكاملها، فكذلك كلمة الكفر كلمة واحدة تبطل كل عمل صالح قد عملته، ولا عجب. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فإن من مات غير مسلم حرم من لقاء الله، استحال أمره أن يرفع إلى الملكوت الأعلى.

    معنى الإسلام المطلوب تحقيقه
    وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] قد سبق أن بينا للصالحين والصالحات معنى الإسلام، إذ إن الإسلام هو: أن تسلم قلبك ووجهك لله، فيا فلان هل أسلمت؟ نعم. هل أديت حق فلان؟ ما معنى: أسلم يا عبد الله؟ وأُسلم ماذا؟ أسلم قلبك ووجهك لله، فالمسلم الحق عبدٌ أسلم قلبه ووجهه لله تعالى، وفي القرآن: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، كيف أعطي وجهي لربي؟ لا ننظر إلا إليه، لا نرى إلا هو، كيف أسلم قلبي لله؟ لا يتطلب أربع وعشرين ساعة إلا في طلب رضا الله. فهذا إسلام القلب والوجه لله، فما لنا إلا الله، نأكل ونشرب لله، نبني ونهدم لله، نبيع ونشتري لله، ننام ونستيقظ لله، نتزوج ونطلق لله، لا تخرج أعمالنا أبداً عن دائرة رضا الله عز وجل، فهل عرف المسلمون هذا؟ وهل في إمكانهم أن يفعلوه؟ ما يستطيعون، ما عرفوا. إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، إذ كان صلى الله عليه وسلم يقول: ( إني أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية )، فأعلمنا بالله أتقانا لله، وأجهلنا بالله أفجرنا عن طاعة الله. عرف هذا الثالوث المكون من المجوس واليهود والنصارى معرفة يقينية، فأبعدونا عن العلم ووضعونا في برك الجهل نشرب منها ونرتع، والقرآن يُقرأ على الموتى منذ قرابة ألف سنة ولا يُقرأ على الأحياء وإنما على الموتى فقط من إندونيسيا إلى الدار البيضاء. أي سخرية هذه؟ أي استهزاء هذا؟ أي أجنون هذا؟ أي أموت هذا؟ تضع بين يديك ميت وترغبه وتعظه وتخوفه وتهدده بعذاب الله في الآيات، هل يقوم يتوضأ ويصلي؟! هل يقوم يستسمح منك ويقول: سامحني؟! كيف هذا؟! أين عقولنا؟! لا إله إلا الله! القرآن يُقرأ على الموتى؟! من فعل هذا بنا؟! اليهود.وأيضاً بقيت الأنوار المحمدية -السنة النبوية- ماذا فعلوا بها؟ قالوا: السنة فيها الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والصحيح والضعيف، اتركوها ويكفينا مصنفات الفقه التي صنفها علماؤنا! وما أصبح الرسول يُذكر بينهم، من يقول: قال رسول الله؟ أبعدهم العدو عن مصدر حياتهم كاملة، لا كتاب ولا سنة، فكيف نعرف الله والطريق إليه؟! معاشر المستمعين -وخاصة الغرباء والزوار- هل بلغكم هذا الكلام وسمعتموه؟ هل فهمتم ما سمعتم؟ دلوني على شخص يقول: تعال أسمعني شيئاً من القرآن، في قرية أو في حاضرة أو في أي مكان، هُجِر كتاب الله، والذين يقرءونه إنما يقرءونه على الموتى ليأكلوا الخبز والحليب، لا ليُعرف الله ومحابه ومكارهه.

    تعاليم ربانية لمن أراد أن يموت مسلماً
    يا من صح عزمه على ألا يموت إلا مسلماً، أنصح لك بالتالي، إليك هذه التعاليم:

    أولاً: أن لا ننسى الله أبداً
    أولاً: أن لا تنسى الله أبداً، دائماً اذكره، فإذا أكلت: باسم الله، شربت: باسم الله، فرغت من الطعام: الحمد لله، نمت: باسم الله، استيقظت: باسم الله، أخذت المعول أو الفأس: باسم الله، ضربت: باسم الله، وعندها تصبح حياتك كلها مع الله، ومثلك لا يموت على غير الإسلام، وأما الذين يتعرضون للموت على غير الإسلام هم الذين يعرضون عن ذكر الله، هم الذين ينسون الله.إذاً: فأول ما ينبغي أن نعلم ونعمل ألا ننسى الله أبداً، نذكره طول النهار والليل، حتى عند الدخول إلى المرحاض تقول: باسم الله الذي لا إله إلا هو، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، الرجس النجس الشيطان الرجيم، وثم تسكت فلا تتكلم، فإذا خرجت ألقيت برجلك اليمنى خارج المرحاض وقلت: الحمد لله الذي رزقني لذته وأبقى في جسمي قوته.

    ثانياً: أداء الواجبات باجتهاد وصدق
    ثانياً: أداء الواجبات باجتهاد وصدق -ومن أعظمها: الصلوات الخمس- إذ إن أداء هذه الفرائض والمحافظة عليها فيه ضمان للموت على الإسلام، والذي يتلاعب أو يتهاون بها، يأتيها يوماً ويترك يوماً، والله إنه لعرضة لأن يموت على غير الإسلام.وبالتال فالذي يسلك الطريق في صدق، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، يُرجى له أن يصل إلى غايته، والذي يتلاعب ويمشي خطوات ويرجع للوراء، أو يميل ذات اليمين وذات الشمال، قد لا يبلغ هدفه، ولا يصل إلى غايته.

    ثالثاً: الابتعاد عن الكفر وأهله
    ثالثاً: الابتعاد كل الابتعاد عن الكفر وأهله، فلا تقيمن بين كافرين، فإنك لا تأمن أن تنتكس وتنقلب على رأسك، فلهذا حذر أبو القاسم من ذلك وقال: ( لا تتراءى نارهما ) ، فالبعد كل البعد عن أهل الكفر.

    رابعاً: البعد عن أهل الفسق والفجور
    رابعاً: البعد عن أهل الفسق والفجور، فإنهم يعدونك بالعدوى، فلهذا قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28] أي: احبس نفسك مع أهل لا إله إلا الله، ألزمها بالعيش معهم والبقاء بينهم، وتجنب مجالس الباطل والسوء.

    خامساً: الحذر من كتب ومصنفات أهل الكتاب
    خامساً: الحذر من كتب ومصنفات كتبها المجوس واليهود والنصارى، إذ إن هذه الكتب قراءتُها تفتح لك أبواب الردة وتصاب بها وأنت لا تشعر، فهذا عمر رضي الله عنه كان في يده ورقات من التوراة، فنظر إليه رسول الله وسأله ما هذا؟ فقال: ورقات من التوراة، فقال له صلى الله عليه وسلم: ( ألم ائتكم بها بيضاء نقية؟! كيف يهدونكم وقد ضلوا؟! ارمها يا عمر )، وقد عرفنا أن مئات الآلاف من المسلمين هلكوا بتتلمذهم لعلماء الإلحاد والشرك والكفر، والانقياد لهم والإذعان لتعاليمهم، فماتت قلوبهم وأصبحوا أجساماً بلا أرواح، وأكثرهم يموت على سوء الخاتمة.

    سادساً: تطهير البيوت من المعاصي والآثام
    سادساً: طهروا بيوتكم كما طهرتم مجالسكم، أنصح لكم فأقول: أخرجوا كل آلة تعرض صور الخلاعة والدعارة والنساء والرجال، وتسمعكم أصوات الكفر والكافرين، إذ إن هذه أخذ يظهر أثرها ويموت أهلها على سوء الخاتمة، فانتبهوا، وإذا أُلزمتم بالحديد والنار فهاجروا، اتركوا البلاد التي ألزموكم فيها بأن تعمروا بيوتكم بالشياطين وترحِّلوا منها الملائكة لتعيشوا مع الشياطين، كيف يرحمونكم؟! أسألكم بالله، الذي امتلأ بيته بالشياطين كيف يستطيع أن يموت على الإسلام؟! ومرة ثانية أقول: من أُجبر وأُلزم بأن يدخل الفيديو والتلفاز والسينما في بيته بالقوة فيجب عليه أن يهاجر، يلتحق بالجبال وبالسهول والأودية أو بمناطق أخرى، ولا يرضى أبداً أن يتهيأ لأن يموت على غير الإسلام، وقد سمعت اليوم خبراً عظيماً: جاءت امرأة تشكو زوجها فقالت: زوجي لا يصلي! كيف لا يصلي؟! شكته للمحكمة فصلى فترة ثم ترك الصلاة، فقلت لها: ماذا يصنع؟ قالت: لا يعمل شيئاً، فقط هو جالس في البيت عند التلفاز أمام الأغاني والمسلسلات، وعنده مال أودعه في بنك، وهو يعيش على فوائده! فلأول يوم سمعنا هذا! كم يعطونهم؟! خمسة في المائة؟ اجعلها سبعة، إذا كان عنده سبعمائة ألف؟ كم يعطونه؟ سبعين ألفاً، ومع ذلك لا يصلي ولا يعمل شيئاً، وإنما يفجر فقط ويغني. الآن تبين لنا آثار الربا أم لا؟ إن هذه البنوك من وضع الثالوث وتخطيطه، ومد المؤمنون أعناقهم واستسلموا للشيطان، والمؤمن بحق يرضى أن يموت جوعاً ولا أن يأكل لقمة حراماً، يرضى أن يعمل الليل والنهار من أجل الخبز والزيت -إن أمكن- ولا يرضى أن يجاهر ربه بالمعاصي، لكن الشياطين التي ملأت بيوت القوم وطردت الملائكة هي التي تزين لهم هذا وتحسنه. إذاً وهو أخيراً: طهروا بيوتكم من الشياطين، فإنها لا يخلو منها بيت، ترى فيه تلك الصور في فيديو أو تلفاز أو آلة سينما أو أي آلة، ومن كذب بهذا فقد كذب رسول الله وكفر، ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ) والذي يعيش زمناً وهو مرتاح النفس، يضحك مع أهله، مع عاهرة تغني أو ترقص، والله ما نستطيع أن نجزم له بالموت على الإسلام، ولكن كيف ينجو ويموت وقلبه مع الله؟! فهل عرفتم نهي مولاكم: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]؟ فابعثوا، فاعملوا، فابعثوا على كل وسيلة من شأنها أن تحفظ لك إيمانك وطهرك وصفاءك في قلبك حتى تُسلَّم روحك لملك الموت وهي كأرواح الملائكة في الطهر والصفاء، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا [آل عمران:102] والحال أنكم مسلمون، قلوبكم ووجوهكم لله.

    تفسير قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا...)
    قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103]. ‏

    معنى قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً)
    جاء أمر آخر لنا نحن أولياء الله المؤمنين المتقين: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103] أغنياؤكم فقراؤكم أمراؤكم علماؤكم خدمكم نساؤكم أولادكم، كلكم، والمراد بحبل الله الممتد من السماء إلى الأرض: الإسلام بشرائعه، بأحكامه، بآدابه، بأخلاقه، والذي يمثله القرآن الكريم، فتمسكوا به، عضوا عليه بالنواجذ، وإياكم والفرقة، فلا تقل: أنا شافعي وتستبيح ما شئت، ولا يقول هذا: أنا حنفي ويفعل ما يشاء، ولا يقول هذا: أنا حنبلي، أنا مالكي، فلا فرقة، وإنما الجمع فقط، وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل القرون الذهبية -خير القرون- وهم لا ينتمون إلا إلى الله ورسوله، مسلمٌ، قال الله قال رسوله.وهذا يتطلب منا أن ندرس كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهما نرد ومنهما نصدر، فهيا بنا نعد إلى دراسة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيهما الغناء الكامل، لكن للأسف أصبحت السنة تُقرأ للبركة، فنقرأ كتاب البخاري إلى اليوم للبركة، مع أننا قد استيقظنا، وها نحن ندرس كتاب الله من أربعين سنة -الحمد لله- فهل ضللنا بقراءة كتاب الله ودراسته؟ والله ما ضللنا، وإنما اهتدينا، وهل دراستنا لأحاديث رسول الله تفرق شملنا وتشتت جماعتنا، وتجري العداوة والبغضاء بيننا؟! لا. أبداً.

    الفرقة والاختلاف سبب في طمع الأعداء في الأمة الإسلامية
    قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103] أغنياؤكم فقراؤكم أمراؤكم علماؤكم خدمكم نساؤكم أولادكم. كلكم يا أهل الإسلام اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، فإن الفرقة هي الحالقة، ما إن تفرق المسلمون وأصبحوا مذاهب وطرقاً حتى تسلط عليهم عدوهم، فسادهم وحكمهم وأذلهم كما علمتم وكما تعلمون. الآن لنا أربعة وأربعون دولة، آلله أمر بهذا؟ هل الرسول أوصى بهذا؟ أسألكم بالله، هل هذه تفرقة أم جمع؟ لمَ لا نعلن عن الوحدة في أربع وعشرين ساعة؟ تعالوا إلى الحرم الشريف، إلى الروضة ونقول: بايعنا فلاناً، هاتوا كتاب الله واحكمونا به، وتصبح ديارنا واحدة، لا شامي ولا يمني، لا شرقي ولا غربي، لا عربي ولا أعجمي، وبذلك نأمن ونسود ونقود وننقذ البشرية من وهدة الضلال والفقر والعياذ بالله، ما المانع؟ قلوبنا مريضة، ما تربينا في حجور الصالحين، وعندنا براهين قاطعة، ونحن مع أبنائنا وإخواننا مللناهم من هذا الكلام . أبرهن لكم أم لا على أننا لسنا بأهل للكمال والإسعاد؟ دبر الله الأمر -ولا مدبر إلا هو- فوضع العالم الإسلامي تحت أقدام بريطانيا وبلجيكا وهولندا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال، إنها آية من آيات الله، سبحان الله! المسلمون أصبحوا مسودين محكومين تطبق فيهم شرائع الكفر؟! إنها أعظم آية من آيات الله، وفجأة وبعد سبعين مائة من السنين أزال الله سلطان الكفر وحرر المسلمين من اندونيسيا إلى بريطانيا، فاستقلوا وتحرروا، وهذه فتنة أخرى. وقد قلت والله يعلم: لو ربينا في حجور الصالحين، وكانت نفوس علمائنا ورجالنا ونسائنا ومشايخنا وأهل البصيرة فينا، لو كانت البصيرة حقة، والنفوس طاهرة، كان المفروض -واسمعوا- أيما إقليم يستقل عن فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، أيما إقليم يأتي إلى الدولة القرآنية، لكن قد يقول قائل: يا شيخ أين هذه الدولة؟ إنها ليست بموجودة، لا، أوجدها الله جل جلاله وعظم سلطانه، وهي آية من آياته، ومعجزة من معجزات الأنبياء، وإلا فكيف والعالم الإسلامي تحت أقدام الكفار، ويأتي عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ويعلن عن دولة القرآن في الرياض! أين بريطانيا؟ أين فرنسا؟ أين أمريكا؟ كيف يتم هذا؟! والله ما تم إلا بالله، ومن شك فلينظر إلى إخوانه في كل ديارهم، هل لهم أن يطبقوا الشريعة؟ لا، إنهم يخافون من الكفار وهم مستقلون! يمالقون ويتملقون الكفار بإعراضهم عن الشريعة وعدم تطبيقها، ويأبى الله ويأتي بهذا الرجل فيعلن عن دولة القرآن، ويؤسسها على دعائم وضعها الله لا سقراط ولا نابليون ولا فيلسوف، أربع دعائم وضعها الله عز وجل، كم سنة ونحن نذكر هذا، والعالم الإسلامي يستقل من الوقت إلى الوقت، ولا استطاع إقليم عربي أو أعجمي أن يقيم دولته على قواعد وضعها الله بنفسه؟ ما هذه القواعد؟ اطلبوها في الدساتير البريطانية لا توجد، إنها لا توجد إلا في القرآن الذي حوَّلوه ليُقرأ على الموتى فقط. جاء في سورة الحج المدنية المكية قوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، كلام من هذا؟ هل يحتاج إلى تفسير؟ الذين إن مكناهم، أي: سوَّدناهم، حكَّمناهم، ملكوا، ماذا فعلوا؟ أقاموا الصلاة إجباراً، إذا قيل: حي على الفلاح وقف دولاب العمل، ووقفت الحياة كلها، وأقبل المؤمنون على بيوت ربهم، إذ لذلك خُلِقوا، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، على هذه الدعائم أقام عبد العزيز دولته هذه التي بقيت باقية، أقامها على هذه الدعائم فأقيمت الصلاة، وجبيت الزكاة، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، واستقل العالم الإسلامي قطراً بعد آخر، وهذا محل الشاهد. فلو كنا أهلاً للسيادة والعزة والطهر والكمال، فأيما إقليم يستقل يأتي وفد منه ويقول: يا عبد العزيز، استقل الإقليم الفلاني، جزء الدولة الإسلامية، ابعث لنا قضاة، وابعث والياً عاماً يدير هذا الإقليم، فهمتم هذه اللغة أو لا؟ ممكن ما تقبلونها، والله الذي لا إله غيره لو كنا أهلاً للكمال لكان كل إقليم يستقل ولو كان كالباكستان مائة مليون، يأتي رأساً إلى عبد العزيز ويقول: استقل القطر الفلاني، ابعث قضاة يطبقون شرع الله، ابعث والياً عاماً يطاع بطاعة الله ورسوله، وهكذا في ظرف سبعين سنة والعالم الإسلام كل عام عامين يستقل إقليم، وإذا بأمة الإسلام أمة واحدة، فلمَ لا نفعل هذا؟ أجيبوا؟ إنه الجهل المركب، وظلمة النفس، وحب الدنيا والشهوات والأهواء، والإعراض عن ذكر الله وشرعه ودينه، فهل هناك غير هذا؟ والله ما هو إلا هذا. من يرضى بهذه الدويلات والأقاليم؟ إن بلاد المسلمين بلد واحد، حكمهم واحد، شريعتهم واحدة، فلمَ تفرقوا؟ عصوا الله وفسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته، ولم يعتصموا بحبله، وتفرقوا، فأذاقهم الله المرارة، في هذه الظروف التي أصبحنا كأننا نقرب من الجنة، فلو كان العالم الإسلامي أمة واحدة لكنت تشاهد ماذا؟ما تستطيع أن تدرك النعيم الذي يفيض على المسلمين. حب وولاء، طهر وصفاء، مودة وإخاء، ربانية لا تحلم بها، لكن استجابوا للعدو، وأعرضوا عن الله ورسوله وكتابه، فهم إذاً تحت النظارة، ولا تبكي وتقول: الخلافة والدولة؛ لأننا لو كنا رشداً فأيما إقليم يستقل يُقدِّم مفاتيحه، وحتى دول الجزيرة -البلد الواحد- جزيرة الإسلام، كل إقليم منطقة للاستقلال، ماذا ينتظرون؟ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14] فاتت الفرصة وضاع الأمل إلا أن يشاء الله يقلب تلك القلوب ويلويها. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:102-103] بهذا أمرنا، فنعيش -والحمد لله- لا على مذهبية ولا وطنية ولا إقليمية، وإنما مسلم أعيش لله.

    معنى قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم)
    وأخيراً يقول تعالى لنا: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [آل عمران:103]، هذه وإن نزلت في أصحاب رسول الله فهم آباؤنا وأجدادنا، لما اجتمعت كلمتهم بعد التفرق جاء النور والهداية، وجئنا للإسلام والمسلمين، فهي نعمة ما تنسى، نذكر الله تعالى ونشكره عليها. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #182
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (40)
    الحلقة (181)

    تفسير سورة آل عمران (45)


    يدعو الله عز وجل عباده المؤمنين إلى طاعته، ويحضهم سبحانه وتعالى على تقواه واتباع سبيله، وأن يكونوا عباده المسلمين، وحتى يكون العبد من المسلمين فعليه أن يلتزم الآداب الإسلامية، ومن هذه الآداب أن يبقى لسانه رطباً بذكر الله عز وجل، وأن يؤدي واجباته الشرعية باجتهاد وصدق، وأن يفارق أهل الكفر والعصيان والفجور، وأن يطهر نفسه وبيته من المعاصي والآثام، وغير ذلك من الآداب الإسلامية.

    تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقط رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! ما زلنا على عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع ذلكم النداء الإلهي العظيم من سورة آل عمران، وتلاوته بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103].

    التقوى طريق تحقيق ولاية الله تعالى
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نادانا مولانا أولاً ليأمرنا بتقواه، إذ تقواه عز وجل -كما علمتم- هي الخطوة المؤكدة لولاية الله لعبده الله المؤمن وأمته المؤمنة، والأمر بتقوى الله عز وجل معناه تحقيق ولاية الله للعبد، إذ لا يكون العبد ولياً لله إلا إذا كان تقياً لله. واذكروا قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فهذه التقوى عليها مدار تحقيق سعادة الدنيا والآخرة، إذ إن أهلها لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وقد نبهنا إلى أنه لا يتأتى لعبد ولا لأمة من إماء الله وعبيده أن يتقي الله بدون ما لم يعلم ما يتقيه فيه، فثبت أن طلب العلم فريضة أكيدة، فالذي لا يعرف ما أوجب الله ولا ما حرم الله -أسألكم بالله- كيف يفعل واجباً ما عرفه؟! كيف يحذر ويتقي محرماً ما عرفه؟! غير ممكن أبداً. فوجب على كل من دخل في الإسلام أن يعرف ما أمر الله به وما نهى عنه بنية أن يفعل المأمور، وأن يجتنب المنهي.وكما قد علمتم أكثر من هذا، أن كل أوامر الله ونواهيه تدور على تزكية هذه النفس وتطهيرها، ففعل الأوامر أدوات تزكية، وترك المحرمات إبقاء على التزكية كما هي، فالذي يصلي ركعتين ويشتم مؤمناً كأنما غسل ثوبه ثم أفرغ عليه زنبيلاً من الوسخ، وهذا عابث ولاعب، والذي أدى الزكاة فزكت بها نفسه ثم انغمس في أكل الحرام من السرقة والربا، كان كمن اغتسل بالماء والصابون ثم أفرغ عليه زنبيلاً من القاذورات والأوساخ. ففعل الأوامر أدوات تزكية، واجتناب المنهيات إبقاء لتلك التزكية على ما هي، فإنه إذا ارتكب كبيرة معنى ذلك أنه عم ذلك الأثر وأفسده، ولهذا أرشدنا الرسول الكريم بقوله: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها )، وقعت نجاسة في يدك أفرغ عليها الماء واغسلها، وقعت لطخة من دم في ثوبك أفرغ عليها الماء واغسلها، كذلك قلت كلمة سوء، نظرت نظرة محرمة، تناولت ما لا يحل لك، عجل بالتوبة، واعمل الصالحات، فإنها تحيلها إلى كتلة من النور، ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ). إذاً: هذه هي التقوى التي أمر بها المولى عز وجل لصالحنا قطعاً.

    معنى قوله تعالى: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
    ثانياً: نهانا الله فقال: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فنهانا أن نموت على غير الإسلام فيفسد كل ذلك الذي بنيناه وينهدم كما علمنا، فلو أن عبداً عبد الله سبعين سنة ليلاً ونهاراً، ثم قال كلمة الكفر أو الشرك ومات عليها انمحى ذلك كله ولم يبق له أثر، ومن هنا أرشدنا ولينا -وله الحمد والمنة- على أن نحافظ على إسلامنا لله، أي: نسلم قلوبنا ووجوهنا لله حتى يتوفانا ونحن مسلمون، والإنسان لا يدري تقلبات الحياة، فقد يأتي يوم يكره فيه العبادة ويبغض فيه الصالحين.وهذا الصديق ابن الصديق ابن الصديق، يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول في ابتهاله بينه وبين ربه: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، أتدرون متى قال هذه الكلمة؟ قال هذه الكلمة لما جلس على أريكة الملك، وحكم الديار المصرية، وأصبح مالكها، ودانت له بالطاعة، وجاء الله بأبويه وإخوته، وتم له كل مطلوب في هذه الحياة، فبدل أن يقبل على النساء وعلى اللهو والطعام والشراب، إذ إنه كان في نِعم متوالية، بدل أن يقبل على اللذات والشهوات، بعد أن حضرت بين يديه، وتم له السلطان عليها والقدرة، رغب عنها بالمرة، واتصل بذي العرش يقول له: يا رب، يا خالقي، ويا رازقي، يا إلهي الذي ليس لي إله سواه، قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف:101]، وهي النبوة وتعبير الرؤى -ولا ننسى تعبيره لرؤيا الملك وهو في السجن- فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يوسف:101]، يا خالق السموات والأرض، أنت لا غيرك، أنت وحدك، وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [يوسف:101] . إذاً: توسلتَ إليك رب بإنعامك عليّ، وها أنا أريد منك شيئاً واحداً وهو أن تتوفني مسلماً وتلحقني بالصالحين، فهل عرفتم هذا؟ إخواننا آباؤنا أبناؤنا من أهل الجهل والغفلة بمجرد ما يجلس على أريكة، سواء كانت وظيفة أو شركة، بدل أن يفزع إلى الله ويشكو ويبكي بين يديه يستفرغ ذلك كله في الشهوات، وكأنما أعطاه الله ما أعطاه ليعصيه به وحاشا لله. تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، هل تسألون ربكم هذا أو لستم في حاجة إليه؟! لم لا نسأل؟! يا فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي [يوسف:101] وليس لي ولي سواك في الدنيا والآخرة معاً، أطلب منك أن تتوفني مسلماً، أي: على الإسلام، إسلام قلبي ووجهي لك، وقد علمنا من قبل معنى إسلام القلب والوجه، فأسلم قلبك لله، فلا تفكر أبداً إلا في ما يرضي الله، لا تلتفت بقلبك إلى غير الله، لا مانع ولا معطي ولا ضار ولا نافع ولا رافع ولا واضع إلا هو، أعطه قلبك ووجهك، فلا تلتفت إلى أحد سواه، أنت وليي فليس لي ولي سواك.

    بعض التعاليم لمن أراد أن يموت مسلماً
    كما بينت لكم ما ينبغي أن نسلكه لنحصل على هذه الجائزة العظمى وهي أن نموت مسلمين، فمن ما بينت لكم: البعد عن مجالس السوء والباطل حتى لا تسري العدوى إلى قلبك من قلوبهم، فهذا الله جل جلاله يوصي رسوله ويقول له: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28]، فاحذروا مجالس السوء -وأنتم تعرفونها- كمجالس الغيبة والنميمة والقمار والكذب والأغاني والمزمار والأباطيل والأضاحيك فأهلها قلوبهم ميتة. ثم طهروا بيوتكم ونقوها، اطردوا الشياطين منها -وقد أعطاكم الله قدرة على ذلك- واملئوها بالملائكة أهل النور، فلا يرى الله تعالى في بيتك في حجرتك في غرفتك شاشة للتلفاز أو الفيديو، كما لا يرى الله عاهرة من عاهرات الدنيا تغني أو تتبجح وتتكلم، أو يرى كافراً أو فاسقاً في بيتك يتكلم بالباطل وينطق بالسوء. وقد ظهرت آثار هذه الفتنة، وأصبح الناس يموتون على سوء الخاتمة، إذ إن لله سنناً لا تتبدل أبداً، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، ومجالسة السوء والإقبال عليه وإعطاؤه القلب والنفس نهايته أن يموت العبد وهو لا يقول: لا إله إلا الله. واذكروا قول الله عز وجل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وإرشاد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن )، والله عز وجل يقول -وقوله الحق- في سورة النساء: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، حق أوجبه على نفسه تفضلاً منه وتكرماً على عبده، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، ما السوء؟ موسى؟ سكيناً؟ سماً؟ ما السوء؟ قيل: إن عالماً بالرياض يعرف السوء، فهل نبعث إليه واحداً يعلمنا السوء أو ليس هناك حاجة؟ وإن قالوا: إنه غير موجود في الرياض، فقد التحق بالهند، فهل نبحث من نبعث إليه أو ليس هناك حاجة؟ ما السوء؟ السوء: كل ما أساء إلى نفسك، فلوثها بالعفن والنتن والظلمة من سائر الذنوب والآثام، كل ما يسيء إلى تلك النفس الطاهرة فيخبثها أو يلوثها فذلكم هو السوء، وعليه فيدخل في السوء كل معصية صغرت أم كبرت، وإنما التوبة على الله حقاً وصدقاً منته تفضله إحسانه، وإلا فمن يوجب على الله شيئاً وهو قاهر الخلق وملك الكل؟! لكن من إحسانه يوجب على نفسه اطمئناناً لقلوبنا، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17] أولاً، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] ثانياً. ما معنى: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]؟ أنواع الجهالة كثيرة، منها: أن يقول: هذا العالم الفلاني يفعل في هذا، فلو كان حراماً ما فعله، فهذا نوع من الجهالة، ومنها: أن يقول: هذا أحسن من أن أقتل فلاناً أو أفعل كذا وكذا، يهون هذا الذنب ويخففه، كذلك من الجهالة أن يقول: سيتوب الله عليّ وأتوب، أو يقول: إذا فعلت كذا أتوب، فهذه أنواع الجهالة، ويخرج منها ذاك الذي يتعمد معصية الله والفسق عن أمره عناداً ومكابرة على علم، ومثل هذا لا يتوب الله عليه، إنما يتوب الله على من فعل المعصية بجهالة من الجهالات، ثم يتوب من قريب، لا يؤجلها العام والأعوام، أما الذي يعرف أن الله حرم هذا ويفعله ساخراً وضاحكاً، فمثل هذا لا يتوب أبداً، ولا تقبل له توبة، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17] عليم وحكيم يضع كل شيء في موضعه. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، الباب أُغلق، ما تنفعه تلك التوبة، وقد بين الحبيب صلى الله عليه وسلم هذا الإجمال بقوله: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) إن الله يقبل توبة العبد والأمة ما لم يغرغر، تعرفون الغرغرة؟ آه، ما يُفصح، عندنا لها مثل الحاضرون ما عرفوه، أيام كانت البطارية -الحجر- التي نُشغِّل بها الإذاعة -سبحان الله- الكهرباء كالروح لا محالة، وهي الطاقة، لما تفرغ تلك الطاقة تصبح تلك البطارية تغرغر، فتسمع لها خشخشة، وكأن الروح كادت أن تخرج، فسبحان الله! الكهرباء هذه سواء بسواء، فإذا غرغرت وحشرجت الروح في الصدر فلا تقبل توبة العبد، ونحن لا ندري متى نموت؟ أو فينا من يعلم ذلك؟ يكذبكم من يدعي أبيضاً كان أو أسوداً. إذاً: فمن هنا وجب علينا أن نأخذ بالإرشاد المحمدي: أتبع السيئة الحسنة، والتوبة بإجماع أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة على أنها تجب على الفور، فلا توجد توبة يقول لك: أخرها أسبوعاً، أو انتظر بها حتى يأتي فلان، أو انتظر حتى تتوظف، أو انتظر حتى تتزوج، فهذا كله باطل ولا وجود له، وكل هذا من أجل أن نحقق مطلوب الله منا، ألا وهو: أن نموت مسلمين، فقلوبنا لله لا للشيطان ووجوهنا لله لا للشياطين.

    أمر الله لعباده بأن يعتصموا بحبله ولا يتفرقوا
    ثم جاء الأمر الثاني: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، كيف نعتذر اليوم إلى الله؟ واعتصموا، الاعتصام: الالتفاف حول الشريعة، وأخذها بعقائدها وعباداتها وآدابها وأخلاقها وأحكامها، اعتصامٌ كامل بذلك الحبل الممتد من العرش إلينا، ألا وهو الإسلام وكتابه وشرائعه. كيف حالكم معاشر المسلمين؟! كم مذهباً عندكم؟ سبعون، كم طائفة؟ كم حزباً؟ كم دولة؟ أين الاعتصام بحبل الله؟! أين عدم التفرق؟! وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وقد خلعنا أيدينا من حبل الله وتركناه مدلى، وقلَّ من يُمسكه، فغضب فانتقم، لما تفرقنا وتمزقنا سلط الله علينا أوروبا التي كانت ترتعد فرائصها إذا قيل: عربي عند الباب. حدثنا الشيخ رشيد رضا في مناره عن شيخه محمد عبده رحمهما الله ورضي عنهما -وهناك فئة لا هم لها إلا النقد والطعن! وإنه لضلال في ضلال- قال: كنت في فندق في باريس -أستغفر الله- أو سويسرا فقلت لربة الفندق: أريد ماءً أتوضأ به، فجاءته بإناء فيه ماء -الشيخ محمد عبده يتوضأ ليصليَ المغرب أو الظهر- قال: فلما فرغت من الوضوء من ذلك الماء -ممكن في صحفة أو غيرها- جاءت طفلة جويرية صغيرة تحبو كعادة الأطفال الصغار، وأرادت أن تمس الماء، فقالت لها أمها: كخ كخ. فقالت البنت: ماما ماما ديدان ديدان. أي: العربي هذا سقطت منه هذه الديدان! فانظر كيف حذرت الأم الطفلة وقالت لها: كخ كخ، ابعدي، لمَ يا أماه؟ فيه وسخ هذا العربي، فالبنت انحسرت عنه فقالت: ماما ماما، ديدان، حشرات موجودة، جراثيم! فإذا أرادت هذه الأم أن تخوف ابنتها تقول: عربي عند الباب! فهل عرفتم أوروبا؟ واسألوهم، إذا أرادت الأم أو الأب أن يخوف ولده يقول له: عربي عند الباب! وكلمة: (عربي) عندهم يعني: مسلم، فكل مسلم عربي، صيني هندي بخاري، كل مسلم عربي، فكلمة: (عربي) هذه طغت؛ لأنهم هم الذين نشروا نور الله، وأخذوا الإسلام وبلغوه الشرق والغرب. فهؤلاء عرفوا كيف يعاملوننا، فمزقوا جمعنا وشتتوا شملنا، فقط الطرائق في قرية واحدة سبع طرائق: التجانية، القادرية، العيساوية، الرحمانية، الأحمدية، وكل طريقة يجتمع أهلها فيشربون الشاي ويأكلون، لا رابطة ولا جامعة، فهم على مذاهب شتى، فإذا قلت لأحدهم: هذا هو الحديث، يقول لك: لا، أنا مالكي! اسأل كذا، فيأتي للآخر فيقول لك: لا، أنا حنفي! آلله جاء بهذا؟! هذه مظاهر الخلاف والفرقة، كما جاءت مصيبة أكبر وهي الحزبية، فهذا حزب فلان، وهذا حزب فلان، وهكذا لما هبطنا سلط الله علينا أوروبا فساسونا وسادونا، من يقول: لا، والله إلا هذه البقعة فقط، كرامة الله لرسوله ولبيته، والعالم الإسلامي تحت أقدام الكفار، لمَ؟ لأنهم عصوا ربهم.قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وهؤلاء نفضوا أيديهم من حبل الله وتركوه وتفرقوا، وبالتالي حقت عليهم كلمة العذاب. وإلى الآن ما زال المسلمون متفرقين جاهلين متخاصمين متباعدين، فلا إله إلا الله! وتأتينا مجلة كشمير اليوم إلى البيت فنشاهد الدماء مسفوكة والعظام مكسرة، فماذا نصنع؟ تأتي أنباء البوسنة والهرسك و.. و.. والشيشان فماذا نفعل؟ جاءتني اليوم ورقة منشورة عن أحد الإخوان قال: وصل إلى البوسنة والهرسك من المدينة ثلاثة آلاف مجاهد. كذب هذا! ثلاثة آلاف مجاهداً؟! أين تدربوا؟! أين تعلموا؟! كيف يجاهدون؟! يذهبون ليزاحموا أولئك المبتلين الممتحنين في قرص العيش؟! بماذا يجاهدون؟! أهكذا الجهاد؟! إن الجهاد في أمة لا إله إلا لله أن يقودها أمام واحد، هو الذي يبعث بالكتائب ويرسل بالفيالق التي تغزو وتفتح، أما أن ننتكس هذه الانتكاسة ونجاهد هذا الجهاد فلا عندما نكون أمة هابطة لا نستطيع أن نجاهد في أي بلد؛ لأننا ما ربينا في حجور الصالحين، ولا تجمعنا جامعة ولا تربطنا رابطة، وليس لنا من الآداب والأخلاق ما يوحد كلمتنا أو يؤاخي بيننا، فنحتاج إلى تربية ربع قرن على الأقل، خمسة وعشرين سنة حتى نعرف قيمة الجهاد. إخوانكم في الجزائر أربع سنوات أو ثلاث إلى الآن يريقون دماء بعضهم بعضاً، ويمزقون لحوم بعضهم بعضاً من أجل الجهاد، وإقامة الدولة الإسلامية؟ هل ستقوم؟! أين الذين تقوم عليهم الدولة؟ أين أولئك الأبرار الصادقون الصالحون أولوا البصائر والنهى الذين يذوبون في ذات الله، الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟ أمة هائجة تجري وراء الشهوات والأطماع هل يمكنها أن تتلاءم وتنحني بين يدي الله فتعطيه القلب والوجه حتى يسودها شرع الله؟ واحسرتاه! ولكن ماذا يجدي البكاء والتأوه، من الآمر بهذا الأمر: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] إنه الله.

    معنى قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم)
    وآخر أمر: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [آل عمران:103]، المسلمون في الهند قبل دخول الإسلام عليهم كانوا أعداء لبعضهم البعض، المسلمون في الشام، في إفريقيا، في أي مكان قبل وجود الإسلام ما كانوا على المودة والإخاء، بل كانوا على الفرقة والبلاء، وبخاصة أهل المدينة -الأوس والخزرج- فقد دارت رحى الحرب بينهم أربعين سنة، وذلك بين قبيلتين من أصل واحد أيضاً، ولكنه الجهل والكفر والعمى والضلال، فجمع الله بين قلوبهم بصورة عجيبة بالإسلام

    امتنان الله على رسوله بأن ألف بين قلوب المؤمنين
    واسمع قول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63]، فلو تأتي الآن دولة كبيرة كأمريكا، وتأتي بباخرة كلها دينار أمريكاني أو دولار وتقول للجزائريين: تحابوا، تعاونوا، تلاقوا، تعانقوا، خذ شيكاً بمليار، خذ شيكاً بكذا، فهل تزول الأحقاد والإحن والبغضاء والفتن؟ والله ما تزول، يأخذون المليارات، ويأخذون في الإسراف فيها والفساد والشر، فلا ننفع. لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63]، ما معنى: مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [الأنفال:63]؟ من الأموال؟ لا تفهم أن المال يوحد بين الناس، بل والله إنه يزيد الفتنة، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]، ألف الله بينهم بهذا النور القرآني، بمعرفة الله ومعرفة محابه ومساخطه، ومعرفة ما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه. هذه هي المعرفة التي ألفت القلوب ووحدت بينها، ألف الله بينهم أن هداهم للإيمان، وأن جمعهم حول رسوله الكريم، يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وفترة من الزمن وإذا هم على قلب رجل واحد.وإن قلت: هذه القضية تتعلق بالأوس والخزرج أو بالأنصار والمهاجرين، ونحن بيننا وبينهم قرون، فكيف يذكرنا الله بها؟ فأقول لك: أما سمعت الله يقول: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [إبراهيم:6]؟ يذكرهم بأن أنجاهم من آل فرعون، فكم بينهم من الزمن؟ ثلاثة آلاف سنة. ويقول ليهود المدينة: اذكروا هذه النعمة، فلا يقولون: أوه هذه بعيدة؛ لأن تلك الوحدة وذلك التآلف والحب هو الذي نقل إلينا هذا النور والإسلام فعشنا عليه. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، كانت القبائل العربية تتقاتل، والقبائل في كل بلاد العالم قبل الإسلام تتقاتل.

    وجوب شكر نعم الله علينا
    وهنا معاشر المؤمنين والمؤمنات! نذكر النعم فلا ننساها، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع بين يديه طعام، لا بقلاوة ولا رز بخاري ولا مصلي ولا.. ولا..، بل طعامه من تمر أو غيره لا يقول: ما هو؟ وما هذا؟ بل يأكل قرص عيش، أو كسرة خبز ثم يقول: ( الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة )، فالحمد لله رأس الشكر، فاحفظوا هذا يا عباد الله، فمن لم يحمد الله ما شكره. ثم تأتي السنة الأخرى وهي: ما رفع طعام الرسول أو مائدته أو صحفته من بين يديه إلا وقال: ( الحمد لله -لا تستعجلوا- حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنىً عنه ربنا ) فالصحابي يقول: ما رفع رسول الله صحفة أو مائدة إلا قال هذا اللفظ حتى مات، فكيف حالكم أنتم؟ هل تقولون هذا؟ إذا أردت أن تركب سيارتك والمفتاح بيدك ماذا تقول؟ هل تشكر الله؟ أليست هذه السيارة نعمة؟ والله لنعمة، إنها تسير بنا في الطرقات، وتقطع المسافات التي كنا نقطعها في الأيام في ساعات، والدابة التي تدب على الأرض، سواء كانت حماراً أو بغلة أو فرساً أو جملاً ماذا علَّمنا الله تعالى عند ركوبها؟ ماذا قال؟ قال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13-14]، فارفع رجلك يا عبد الله وضعها على جانب السيارة وقل: الحمد لله الذي سخر لي هذا وما كنت له مقرناً. والسفينة علمنا إذا ركبناها أن نقول: باسم الله مجراها ومرساها. أما الطائرة فلا تسأل، وطائراتكم أيها المسلمون -باستثناء هذه الأمة الطاهرة أو الحكومة الإسلامية- تباع فيها أنواع الخمور، تباع في السماء! ولا يذكر اسم الله، ولا يقال فيها: الله أكبر، فأين شكر الله على هذه النعم؟ إذاً: الشاهد عندنا: اذكر النعمة تشكرها، أما أن تنساها والله ما تشكر، فنحن مأمورون بذكر النعمة أو بشكرها؟ بذكرها؛ لأننا إذا ذكرناها شكرناها، لو قال: اشكروا، لا نستطيع ونحن لا نعرف النعمة ولا نذكرها، فأولاً: اذكروا النعمة؛ لأنك إذا ذكرتها شكرت الله، فإذا مشيت فاذكر قدميك وساقيك ورجليك، وأخوك يمشي على عصا، فهلا قلت: الحمد لله؟ وإذا مشيت وترى أخاً أعمى بين يديك أو ضعيف البصر وأنت تبصر، فهلا قلت: آه! هذه نعمة، أذكر الله وأشكره عليها. في جيبك ريال وعشرة وعشرون، وآخر ليس في جيبه ريال ولا قرش واحد، فهلا قلت: الحمد لله والشكر له. كذلك تجلس على مائدة فتأكل ما شاء الله من الأطعمة، فتذكر أن أناساً بجوارك وفي بلدك وغير بلدك ما وجدوا هذا الطعام، فهلا قلت: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله. ولنذكر حادثة حتى نعمل بما نعلم والشكر لله، فإذا تعلمنا المسألة والله من جريدة وما هي من كتاب، ما نستطيع إلا أن نعمل بها!كنا بمدينة بريدة في رحلة للدعوة أو محاضرة، واستدعانا أستاذ من أساتذة البلاد للغداء، فوضع السفرة والغداء، وله شيخ أكبر مني، فلما وضعت السفرة وأقبلنا عليها نأكل وذاك الشيخ يقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، ينظر في تلك النعم من الرز واللحم ويقول: الحمد لله، والله حتى فرغنا وهو يقول: الحمد لله، الحمد لله، وإن شاء الله تنتقل إليكم. ومضت سنتان أو ثلاث وحدثت بها في هذا المسجد وانتشرت، وجمعني الله بآخر في الرياض، كذلك ما إن وضعت السفرة وأخذ الأكلة يأكلون إلا وهو يقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله. إذاً: ذكر النعمة يا أبنائي يحملك على شكرها، وأما أن تتجاهل النعمة وتغمض عينيك عنها ولا تلتفت إليها، فلا يمكن أن تشكر الله عليها، بل اذكر تشكر. ولا تسألني عن نعمة الشكر، فالشكر قيد النعم، إذا النعمة حاصلة فقيدها الذي تقيدها به هو شكر الله، وهو أيضاً يجلب النعم ويأتي بها، فإن فقد عبد الله الشكر خرجت النعم من بين يديه، ولا يطمع في أن يحصل على مثلها، واقرءوا قول الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ [إبراهيم:7] هذه فيها معنى: وعزتي وجلالي لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ [إبراهيم:7] فماذا؟ إِنَّ عَذَابِي [إبراهيم:7] ما قال: ولئن كفرتم لأسلبنها أو لأحرمنكم منها، فهذه العبارة لا تؤدي الغرض، لكن التي تؤدي إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء، يمشي في صحة فيصبح مشلولاً، يمشي في رغد من العيش فيصبح فقيراً ، يصبح في أمن وإذا به في مخاوف، فهذا ألوان العذاب إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، فاذكروا معاشر الأبناء هذا، ولا تنسوا نعم الله، فإنها أداة الشكر، اللهم اجعلنا وإياكم من الشاكرين. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #183
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (41)
    الحلقة (182)

    تفسير سورة آل عمران (46)


    إن طاعة كثير من علماء اليهود والنصارى بالأخذ بنصائحهم وتوجيهاتهم وما يشيرون به على المسلم تودي به إلى الكفر، شعر بذلك أم لم يشعر، فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم، وإنما يعصم المسلم من مثل ذلك التمسك بكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن تمسك بهما لم يضل، وعن سبيل الهداية لم يزل.

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، حقق اللهم لنا هذا الموعود، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران، وما زلنا مع النداءين الكريمين أتلوهما وتأملوا ما جاء فيهما، وقد عرفتم الكثير ولا ينقصكم إلا أن تتذكروا ما علمتم، ثم ندرس الآيات دراسة في الكتاب -أي: التفسير- إذ لو درسناها بدون قراءة لما جاء فيها في التفسير، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:100-103].

    معنى الآيات
    هذه الآيات شرحها في هذا التفسير، فلنستمع ولنتأمل، قال الشارح غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ بعد أن وبخ الله تعالى اليهود على خداعهم ومكرهم وتضليلهم للمؤمنين، وتوعدهم على ذلك، نادى المؤمنين محذراً إياهم من الوقوع في شباك المضللين من اليهود، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وذلك أن نفراً من الأوس والخزرج ] والأوس والخزرج سكان هذه المدينة، وقد كان يقال لها: يثرب، وهم من قبائل اليمن، وذلك لما تحطم السد وشرد أهل البلاد نزح من نزح إلى الشام، ومن نزح نزح في طريقه، فبقي الأوس والخزرج هنا، وبعد أن طلعت الشمس المحمدية فيهم سماهم الله بالأنصار، إذ نصروا دين الله ورسوله والمؤمنين. قال: [ وذلك أن نفراً ] سبعة أنفار أو ثمانية [ من الأوس والخزرج كانوا جالسين في مجلس ] من مجالسهم في مدينتهم [ يسودهم الود والتصافي ] أي: جالسين يسودهم الود والتصافي والحب [ وذلك ببركة الإسلام الذي هداهم الله تعالى إليه، فمر بهم شاس بن قيس اليهودي ] عليه لعائن الله، فلما رآهم صامتين مبتسمين هادئين ساكنين مسرورين اغتاظ، وما طابت له الحياة [ فآلمه ذلك التصافي والتحابب، وأحزنه بعد أن كان اليهود يعيشون في منجاة -بعيدة - من الخوف من جيرانهم الأوس والخزرج؛ لما كان بينهم من الدمار والخراب ] أي: من الحروب، فقد دامت حرب أخيرة بينهم في الجاهلية أربعين سنة، واليهود ينعمون ويضحكون، أعداؤهم يتقاتلون وهم في راحة. قال: [ فأمر شاس شاباً ] من شبيبة المدينة [ أن يذكرهم بيوم بعاث ]. أرأيتم الإعلام اليهودي؟ إن اليهود اليوم أخبث من اليهود الذين مضوا لما علمتم أن الدنيا ما تنتهي حتى تشيخ البشرية فيزول ذلك الكمال البشري شيئاً فشيئاً، كنشأة الإنسان، ينشأ ذكياً طاهراً نقياً أربعة عشر سنة أو خمسة عشر ثم بعدها يشب، ويبدأ الطيش والمكر وكذا.. وإذا عرج على الستين أخذ يهبط حتى يخرف، فالدنيا هكذا، الكمال الذي كان في العرب لا يوجد الآن في خريجي كليات المشركين في أوروبا وغيرها.والشاهد عندنا -وهي لطيفة-: ما يمضي عام إلا والذي بعده شر منه، وعلة ذلك أن البشرية تكبر وتشيخ شيئاً فشيئاً، فتصبح تعبث بالحياة.قال: [ فأمر شاس شاباً أن يذكرهم بيوم بعاث، فذكروه وتناشدوا الشعر، فثارت الحمية القبلية بينهم، فتسابوا وتشاتموا حتى هموا بالقتال ] عرفتم ما فعل شاس؟ جاء بشاب مغرور لا يدري، فقال له: ذكرهم بأيام بعاث، فذكرهم فأخذوا يتناشدون الشعر كما كانوا، ويشتم بعضهم بعضاً حتى هموا بالقتال. قال: [ فأتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم ] ذهب من ذهب إليه وقال: تعال، الأنصار كادوا يقتتلون [ فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم وذكرهم بالله تعالى وبمقامه بينهم ] أي: بمقام الرسول بينهم ووجوده فيهم [ فهدءوا، وذهب الشر ونزلت هذه الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، فحذَّرهم من مكر أهل المكر من اليهود والنصارى، وأنكر عليهم ما حدث منهم، حاملاً لهم على التعجب من حالهم لو كفروا بعد إيمانهم؛ فقال عز وجل: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ [آل عمران:101] صباح مساء، في الصلوات وغيرها، وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] هادياً ومبشراً ونذيراً، وأرشدهم إلى الاعتصام بدين الله. وبشر المعتصمين بالهداية إلى طريق السعادة والكمال، فقال: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ [آل عمران:101] أي: بكتابه وسنة نبيه، فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]، ثم كرر تعالى نداءه لهم بعنوان الإيمان تذكيراً لهم به، وأمرهم بأن يبذلوا وسعهم في تقوى الله عز وجل، وذلك بطاعته كامل الطاعة، بامتثال أمره واجتناب نهيه، حاضاً لهم على الثبات على دين الله حتى يموتوا عليه، فلا يبدلوا ولا يغيروا، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وأمرهم بالتمسك بالإسلام عقيدة وشريعة، ونهاهم عن التفرق والاختلاف، وأرشدهم إلى ذكر نعمته تعالى عليهم بالألفة والمحبة التي كانت ثمرة هدايتهم للإيمان والإسلام، بعد أن كانوا أعداء متناحرين مختلفين، فألف بين قلوبهم فأصبحوا بها إخواناً متحابين متعاونين، كما كانوا قبل نعمة الهداية إلى الإيمان على شفا جهنم، لو مات أحدهم يومئذ لوقع فيها خالداً أبداً، وكما أنعم عليهم وأنقذهم من النار، ما زال يبين لهم الآيات الدالة على طريق الهداية الداعية إليه؛ ليثبتهم على الهداية ويكملهم فيها، فقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103] ] هذا شرحٌ لتلك الآيات، فهيا نضع أيدينا على ثمارها، وعلى نتائجها وعبرها علَّنا ننتفع بذلك.
    هداية الآيات
    قال الشارح: [ هداية الآيات: ] ولكل آية هداية تهدي المؤمن إلى رضوان الله وجواره الكريم[من هداية الآيات: ]

    أولاً: أن طاعة علماء اليهود والنصارى يؤدي بالمسلم إلى الكفر
    [ أولاً: أن طاعة كثير من علماء اليهود والنصارى بالأخذ بنصائحهم وتوجيهاتهم وما يشيرون به على المسلم تؤدي بالمسلم إلى الكفر، شعر بذلك أم لم يشعر، فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم ]، وبينا هذا بياناً شافياً، وسمعتموه في إذاعة القرآن، فانتبهوا، إذ إن طاعة كثير من اليهود -لا كل اليهود- والنصارى والأخذ بنصائحهم التي يقدمونها لنا وبتوجيهاتهم السياسية والمالية والعلمية والاجتماعية والديمقراطية وما يشيرون به على المسلم، افعل كذا، لا تفعل كذا، يؤدي بالمسلم إلى الكفر، شعر بذلك أم لم يشعر، فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم.وقد بلغني اليوم من أحد الناس: أن امرأة مصرية زوجها ملحد علماني فرفعت أمرها إلى المحكمة وطالبت بالطلاق لأنه كافر، فطلقها القاضي، فأذاع اليهود من إذاعة لندن فقالوا: إن المصريين تأخروا بهذا الحكم خمسين سنة إلى الوراء! كيف تُطلِّق المرأة عن زوجها لأنه علماني، أو لا يؤمن بالله واليوم الآخر؟! تبجحت إذاعة لندن بهذا.والشاهد عندنا: قولوا: صدق الله العظيم، أقول على علم: إن الكثيرين ممن يسوسون العالم الإسلامي من وزراء وخبراء وفنيين ومسئولين، كثيرون منهم لما كانوا يدرسون هذه العلوم المادية في روسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، تخرجوا وقد سمموهم وأفسدوا قلوبهم، ومن قال: لمَ؟ ما الدليل؟ أقول: الدليل: أنهم مصرون على الباطل، وتطبيق الهوى، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله، ولو كانوا أحياء بإيمانهم بصراء لا يثبتون على هذا، لا بد وأن يطالبوا بالإسلام وتطبيق شريعته، لكنهم كالمسحورين. أو ما فهمتم هذه اللغة؟ أنت تجلس بين يدي كافر يربيك عشرين سنة حتى تأخذ الدكتوراه، عشر سنوات وأنت تسمع منه وتتلقى منه وهو كافر، أما ينتقل كفره إليك؟ هل أنت معصوم؟ شاب يجلس في مجلس فاسد سبعة أيام أربعة أيام فيقلبوه إلى خبيث منتن، فكيف بالذي نضعه بين أيدي مربين علماء مسيح ويهود ونصارى يتعلم منهم؟! ما يسلم إلا أن يشاء الله، وهذا كلام الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:100-101]. من أين يأتي الكفر؟ يا للعجب وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، وهذا قد بيناه مئات المرات، لكن صوتنا هذا لا يسمع. هل يمكن أن اليهود سحرونا؟! نقول: ينبغي إذا أردنا أن نبتعث بعثة من أبنائنا أن نبعث معهم عالَمين، وأن نسكنهم في منزل واحد، وأن يكون في المنزل مسجداً، فإذا خرجوا من المدرسة يأتون إلى تلك القاعة النورانية، فيتعلمون الكتاب والحكمة، ويعبدون الله عز وجل، فيعودون أطهر مما كانوا؛ لأنهم حبسوا كذا سنة في بيت الله يتلقون الكتاب والحكمة، أما أن نبعث بهم وهم شبان، حمقى، طائشين، هائجين، شهواتهم عارمة، نبعث بهم يدرسون، من يسلم منهم من الزنا والعهر؟ ومن يسلم منهم من الباطل؟ ومن ومن؟ إلا أن يشاء الله.في بلادنا هذه المكرمة السعيدة بدولة الإسلام، يأتون ولكن ما يُفصحون، لا بد وأن يصلي ويقول: لا إله إلا الله، لكن بلاد حرة أخرى يسب فيها الله والرسول ويسخر منك، فهل فهمتم هذه أم لا؟ لمَ لا تبلغونها؟ والمحنة أيضاً: أنهم يبعثون بناتهم وفتياتهم يتعلمن في سويسرا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا! كيف يعدن هؤلاء؟ عواهر مائة في المائة، ومن أجل ماذا؟ ومن شرع لنا تعليم بناتنا الكفر والباطل؟ إنهم اليهود والنصارى، الذين يقولون: حتى لا تبقى المرأة ميتة في البيت، ميتة في البيت! تعال نبين لك حياتها في البيت، فأنت الميت وأمك وامرأتك، المرأة في بيتها تعبد الله أربعاً وعشرين ساعة، فهي تذكره دائماً، فهل هذه ميتة؟! إنها تربي البنين والبنات وتخرجهم صالحات، وتقوم بشئون زوجها، وتسعده في فراشه وفي طعامها وشرابها، كل هذا العمل لا تأتي به فرنسا كلها، قولوا: مسجونة في البيت! ونحن نمد أعناقنا لأننا جهالاً لا نعرف شيئاً، ماذا أنتج لهم تعليم بناتهم في الضلال والزندقة والباطل؟ هل لهم أن يدلونا؟ والشاهد عندنا: قول الله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101]، والحال أنكم تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]؟ هذه هي المناعة، هذه هي الحصانة، أما أن نبعدهم عن الكتاب والسنة بالمرة ونطرحهم ونضعهم بين أيدي مربين كفرة، ونقول: يؤمنون، فهذا ليس بمعقول، بل إنهم يكفرون، فبلغوا هذا للمسلمين.

    ثانياً: أن العصمة في التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
    [ ثانياً: العصمة] كل العصمة [ في التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن تمسك بهما لم يضل ] ولن يضل، وأخذنا هذا المعنى من قول الله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، فأيما أسرة أو قرية أو أمة أو جيل من الناس يعيشون على كتاب الله وسنة الرسول، فلا يضلون ولا يكفرون ولا يفسقون -ووالله ما كان- بل مستحيل، فإنها سنن الله التي لا تتبدل، فالطعام يشبع، والماء يروي، والحديد يقطع، والنار تحرق. فلماذا لم تتوقف هذه السنن؟ هل أصبحنا في وقت الماء لا يروي أبداً؟ هل تشرب برميل ماء فلا تروى؟! هل أصبحت النار لا تحرق؟ هل هذه السنة تبدلت؟! لا. إذاً: الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله من سنن الله أن صاحبهما لن يزيغ ولن يكفر ولن يهلك أبداً.

    ثالثاً: الأخذ بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال
    [ ثالثاً: الأخذ بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال، وأخيراً من الهلاك والخسران ] في الدنيا والآخرة، فلا زيغ في القلب ولا ضلال في الحياة، ولا هلاك في الدنيا والآخرة، ولا خسران للذين تمسكوا بالإسلام. والبرهان على هذا: ما زلنا نقول: أنت في بيتك تمسِّك بالكتاب والسنة، وانظر هل تزيغ أو تهلك؟ هل تخسر؟ والله ما كان، سواء أسرة أو قرية، وقد بينا غير ما مرة: القرون الثلاثة الذهبية، هل اكتحلت عين الوجود بمثلها؟ والله ما كان، وعرف هذا الأعداء، فهم يشوهون ويزيدون وينقصون كالكلاب يلهثون، ولكن مستحيل أن يوجد جيل أو أمة تبلغ ذلك المستوى الذي بلغته تلك القرون الذهبية من الصحابة وأولادهم وأحفادهم، إنه الكمال المطلق في عقولهم، في آدابهم، في سلوكهم، في حياتهم كلها. سبب ذلك ماذا؟ تعاليم سقراط؟ الفلسفة الكاذبة؟ التاريخ الهائج؟ إذاً ماذا؟ ما هو إلا قال الله وقال رسوله، التمسك بالكتاب والسنة عقيدة وخلقاً وآداباً وشرائع وأحكاماً وقوانين. وقلنا لهم: تعالوا نريكم بأعينكم يا حسدة، لما هبط العالم الإسلامي إلى الأرض أين كان؟ كان في السماء، هبط فوضع الغرب قدميه أو أقدامه على العالم الإسلامي، ممالك الهند حكمتها شركة تجارية بريطانية، أُسود المغرب وأبطاله شمال إفريقيا كان يضرب بهم المثل، وضعت فرنسا أقدامها على رقابهم وبالت عليهم. الشرق الأنور الأوسط كله يرزح تحت وطأة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. فكيف هذا؟ ما السبب يا فلاسفة، يا علماء الاجتماع، يا علماء النفس؟ دلونا؟ والله ما يعرفون، هبطوا لأنهم احتالوا عليهم منذ قرون، أبعدوهم عن القرآن إي والله، حوَّلوا القرآن ليُقرأ في المقابر والمآتم، ليُقرأ على الموتى فقط، ويحك! أن تقول: قال الله، اسكت، كيف تقول بدون علم: قال الله؟! والسنة تُقرأ للبركة، ففقدوا مصدر الحياة فماتوا، انتشر الشرك، وعمَّ علماء أزهريين بعمائمهم وهم يركعون ويسجدون على القبور! لا إله إلا الله! قرون فقدوا العقيدة، فقدوا النور، فقدوا الهداية، وأصبح في القرية خمس طرق، الآن مصر المعزية بها سبعون طريقة، وإن كان خفت صوتها لكن ما زالت أصولها سبعين طريقة، من التجانية إلى القادرية إلى.. إلى..، لا إله إلا الله! المذاهب مفرقة، الطرق.. و.. وبالتالي سلط الله علينا الغرب فحكمونا، وشاء الله عز وجل أن يريهم آية من آياته، ومع هذا عموا وصموا، لا إله إلا الله! ففجأة طلعت شمس الإسلام من جديد، قالوا: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود احتل الرياض وأعلن عن دولة القرآن! كيف هذا؟! قالوا: نعم، زحف من بلد إلى بلد، ووصل إلى المدينة فحاربوه وقتلوا رجاله، ثم انتقل إلى مكة وجلس عبد العزيز على كرسي الملك.لطيفة ذكرها الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار فقال: زرت الملك عبد العزيز وهو في قصر المعابدة، وقصر المعابدة كان لدولة الأشراف، قال: فلما دنوت تلوت آية من سورة يونس، وهي قوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [يونس:13] الله أكبر! لما ظلموا أو لا؟ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:13-14] قال: وإذا عبد العزيز يغلبه البكاء والنشيج، فأين أنت نازل يا عبد العزيز ؟ في قصر المعابدة تبع الأشراف، من أجلسك هناك؟ من ملَّكك؟ أليس الله؟ لمَ؟ ليبتليك، لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14]. ونحن صبية في الكُتّاب نتعلم القرآن لنقرأه على الموتى فقط، حتى أمي رحمة الله عليها -وهي من الصالحات إن شاء الله- قالت: يا رب! أسألك أن تجعل ولدي إما طالب قرآن وإما جزار. لماذا؟ لأن اللحم عندنا من العام إلى العام، أو كل ستة أشهر مرة، وسلوا أجدادكم، الجزار لا بد أن يأتي باللحم وبالكرشة وبكذا، أو طالب قرآن يقرأ على الموتى ويأتيها بقطعة اللحم يلفها في منديله ويأتي بها، رحمة الله عليها. إذاً: هذا الشيخ يعلمنا القرآن ونحن صبية، فقال: الآن السلطان عبد العزيز في مكة ومر رجل معه كيس في الشارع فيه دقيق، ومسه آخر بأصبعه -هذا الرجل- فبلغ السلطان أن هذا الرجل أراد أن يسرق أو كذا، فقام فقطع له أصبعه -وهذه مبالغة- قطع أصبعه لأنه مسَّ كيساً ليس له، وليس له ذلك، وبالتالي ساد الأمن في هذه الديار، وما عرفته والله إلا أيام الخلفاء الراشدين والقرون المفضلة. أمن حارت به الدنيا، لا يوجد في أوروبا ولا في أي مكان، ما عنده تلفوناً ولا رشاشاً ولا طيارة ولا..، يخرج المؤمن من المدينة إلى حائل، إلى الأحساء، إلى أبها، إلى الرياض لا يخاف إلا الله، فلا إله إلا الله! أمن وطهر، فقد انتهت الجريمة، فلا خلاعة ولا زنا ولا فجور ولا.. ولا..، وما شذ فلا قيمة له، إذ قد شُذَّ حتى على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن منذ ثلاث وأربعين سنة قلت لكم: كنا ننزل في بيت بلا أبواب أبداً، ودكاكين الذهب والله ما هي إلا خرق تلقى عليها، ويذهب صاحب الذهب إلى بيته يقيل ويتغدى وينام ثم يأتي! سحر هذا أم ماذا؟ كيف تحقق هذا؟ إذاً: أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. هذه هي النعمة. والشاهد عندنا: العرب والمسلمون يقولون: هؤلاء وهابيون، خوامس! وقد جاءني - وأنا طفل- أحد الصالحين من تلامذة العقبي في العاصمة بالأصول الثلاثة، وقد طبعت في الجزائر لأن دعوة الإصلاح منتشرة على عهد العقبي ، فأعطيت الكتاب لشيخي الذي يعلمنا القرآن، وكان ذكياً وفطناً، فتصفح الكتاب وهو على المنصة أو الدكة، ثم قال لي: يا أبا بكر ! هذا الكتاب طيب، ولكن قالوا: مؤلفه خامسي، مذهب خامسي! وأخذ العالم الإسلامي ينهش ويعض ويكسر ويحطم، لا يريد هذا النور أن يبقى أبداً، لكن الله قهرهم.وجاء دور الاستقلال، وهنا قلت: إن القوم عموا وصموا - فجاء دور الاستقلال- فأول قطر استقل -اسمعوا يا أحداث- هو انسحاب فرنسا من سوريا ولبنان، فكان المفروض والواجب القرآني الإسلامي الإيماني بمجرد ما خرجت فرنسا أن يبعثوا وفداً إلى السلطان عبد العزيز، وكان يومها هو هو، ويقولون: استقل هذا الإقليم عن دولة الكفر فلينضم إلى دولة القرآن. افهموا أن الشيخ يتكلم معكم ولا يعتبر ساسة الدنيا ساسة، بل هم جهلة يعيشون في الظلام، وأعود فأقول: كان المفروض أن يأتوا إلى عبد العزيز ويقولون له:يا سلطان عبد العزيز! استقل هذا الإقليم، ابعث لنا قضاة يطبقون شريعة الله، يحكموننا بالإسلام، وابعث خليفة لك يضيء هذا القطر وينضم إلى المملكة، وتطبق شريعة الله في دمشق وفي بيروت وفي تلك البلاد كما هي في المدينة والرياض والأحساء وحائل وتبوك. يسعدون أو لا؟ أو ما تعرفون؟ والله لو فعلوا لسعدوا في الدنيا والآخرة. ثم فجأة استقل العراق عن بريطانيا، فلو قالوا: يا سلطان عبد العزيز! ابعث قضاة، كنا نُحْكَم بالهوى، وابعث والياً عاماً يخلفك في تلك الديار، وهكذا استقل الأردن، استقلت مصر، استقلت كذا.. خمسة وثلاثون سنة والخلافة قائمة، أمة الإسلام أمة واحدة. لمَ ما فعلوا هذا؟ كل إقليم يستقل ماذا يصنع؟ الجمهورية، الديمقراطية، الوطنية، كذا.. مضى هذا من أجل أن يذوق المسلمون الذل والهون والدون والشقاء والخسران في الدنيا قبل الآخرة. أليس هو هذا أيها المسلمون؟ أين ثمار الاستقلال ونتائجه؟! فهل عرفنا الآن أو لا؟ قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103]، فما حبل الله سوى دينه وكتابه وهدي رسوله وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101] لن يضل ولن يشقى أبداً. إذاً الهداية الثالثة: [ الأخذ بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال، وأخيراً من الهلاك والخسران ] والله الذي لا إله غيره! لو أن دولة في أوروبا تسلم غداً بلجيكا أو بريطانيا أو هولندا أو أي دولة، وتقيم الدولة كما أقامها عبد العزيز، للاحت في آفاق أوروبا أنوار لا حد لها، ولدخل الناس في دين الله أفواجاً، آيات الله، لكن اليهود والنصارى لا يريدون هذا، فهاهم الآن في البوسنة والهرسك فقط ما هم بالمسلمين، فقط قالوا: مسلمون، وإلا لا شريعة ولا ولا ولا، وأوروبا في كرب وهمّ وحيرة، يعقدون مؤتمرات في الداخل والخارج من جهة أن هؤلاء مظلومين، ومن جهة أنهم يريدون الإسلام، وهم في فتنة، فكيف لو أسلمنا قلوبنا ووجوهنا لله؟! أربعة وعشرون ساعة فقط ويهتز العالم بأسره.وكيف نسلم يا شيخ؟ بينا الطريق، فليس فيه كلفة، فقط معاشر المسلمين! من الليلة يجب أن نجتمع في بيوت ربنا بنسائنا وأطفالنا ورجالنا، نتلقى الكتاب والحكمة، ونبكي بين أيدي ربنا؛ فإنه سوف يعزنا ويرفعنا. فهل هذا يكلف شيئاً؟ ما إن تقبل الأمة على ربها، وتجتمع في بيوته يقودها نور الله -الكتاب والسنة- حتى تنتهي الخلافات، وينتهى الباطل والشر والخداع والتكالب على الدنيا والعبث والسخرية والفجور، كل هذا يمحى، سنة الله لا تتبدل، وتعود أمة الإسلام من جديد، بالحجارة تهدم كل سور من أسوار الكفر، بل ما يتركها الله للحجارة، وإنما يفتح عليها أنواعاً من السلاح ما عرفته أوروبا؛ لأن الله معها.معاشر المستمعين! هذا كلام اليهود والنصارى على علم به وعلى يقين، والمسلمون ولا واحد في المائة يعرف هذا ويسمع به، أما هم فيعرفونه يقيناً على علم.

    رابعاً: وجوب التمسك بالدين الإسلامي وحرمة الفرقة والاختلاف فيه
    قال: [ رابعاً: وجوب التمسك بشدة بالدين الإسلامي، وحرمة الفرقة والاختلاف فيه ] فلا مذهبية ولا طرقية ولا وطنية ولا.. ولا..، وإنما مسلم، وهذا شأن المسلم، لكن ما يريد الأعداء ذلك، فقد قسمونا مذاهب وطرقاً، قسمونا دياراً ووطنيات، فهل في الإسلام وطنية؟ وطن الإسلام الأرض كلها، ليس فلسطين فقط، أوروبا كاملة يجب أن تكون للمسلمين، أمريكا وكل ما فيها، ما هي قضية طين وتراب، وإنما يجب أن يُعبد الله في الأرض ولا يعبد غيره، لكن الوطنية درسناها في كتب السياسة.

    خامساً: وجوب ذكر النعم لأجل شكرها
    قال: [ خامساً: وجوب ذكر النعم لأجل شكر الله تعالى عليها ] بمَ يشكر الله؟ بطاعته وطاعة رسوله، بعد الحمد لله الطاعة لله ورسوله، وهي شكر النعمة. هل أمر تعالى بهذا؟ أما قال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [آل عمران:103]؟ لمَ نذكرها يا رب؟ من أجل أن تشكروها، فمن ذكر شكر، ومن جحد وأنكر كيف له أن يشكر؟! الذي لا يعترف أنك أعطيته سيارتك كيف يقول: جزاك الله خيراً؟ فإذا اعترف أنك أعطيته سيقول لك: جزاك الله خيراً، فاذكروا تشكروا، ومن لم يذكر والله ما يشكر.

    سادساً: أن القيام على الشرك والمعاصي وقوف على شفير جهنم
    قال: [ سادساً: القيام] أي: البقاء [ على الشرك والمعاصي وقوف على شفير جهنم ] القائم الواقف على الشرك في عقيدته، في عبادته، في أحكامه، القائم على المعاصي، ارتكاب المحرمات، غشيان الذنوب، ترك الواجبات؛ هذا معناه أنه واقف على شفير جهنم. أتعرفون الشفير؟ إنه حافة البئر، والواقف على حافة البئر يكاد أن يسقط. ثم قال: [فمن مات على ذلك وقع في جهنم حتماً بقضاء الله وحكمه ] وقد قال الله: وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ [آل عمران:103]. أسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #184
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )




    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (42)
    الحلقة (183)

    تفسير سورة آل عمران (47)


    أمة الإسلام هي خير الأمم، لأنها حملت مهمة تبليغ الدين بعد انتقال نبيها صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وقد حث الله أفراد هذه الأمة أن تحمل لواء الدعوة إلى التوحيد، والأمر بالمعروف في أوساطها، والنهي عن المنكر؛ لأن ذلك هو طريق الفلاح والفوز برضا الله عز وجل ودخول جنته.

    تفسير قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي تليها ندرس كتاب الله عز وجل -القرآن العظيم- رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، حقق اللهم لنا هذا الموعود، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران، ومع قول ربنا جل ذكره بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:104-109].

    معنى قوله تعالى: (ولتكن منكم)
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من القائل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران:104] وصفها كذا وكذا؟ والله لهو الله، إذ هذا كلامه في كتابه أوحاه وأنزله على المصطفى الذي اصطفاه من كافة الخليقة، واجتباه لهذه الرسالة، محمد صلى الله عليه وسلم. إذاً: هذا أمر، والأمر مثل: قم، صلِ، انطق، افهم، والآمر إذا كان الله فهل يُعصى؟! لا يصح العصيان أبداً، لا يصح عصيانه وإلا العصا، إذاً: ولتكن منكم يا معشر المسلمين، و(اللام) هنا لام الأمر يجب أن تكون منا. أُمَّةٌ [آل عمران:104]، والأمة: العدد الكبير من الرجال الذين أمرهم واحد، معتقدهم واحد، منهجهم واحد، أملهم واحد، تجمعهم جامعة، فلا يكونون أفراداً متفرقين.

    صفة ومهمة: (الأمة) في قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة)
    وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران:104] ما مهمتها؟ ما الذي وصفت به؟ قال تعالى: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]، والخير ضد الشر، الخير ما يحصل به كمال الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، وما يحصل به شقاؤه وخسرانه ونقصانه في الدنيا والآخرة فهو شر وليس بخير.

    تفسير معنى: (الخير) في قوله تعالى: (يدعون إلى الخير)
    يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] الخير ما يحصل به الكمال والسعادة للإنسان، وينجو به من الشقاء والنقصان والخسران، وبالتالي فما هو هذا الخير؟ ألا إنه الإسلام بعقائده وآدابه وأخلاقه وعباداته وشرائعه وأحكامه، هذا هو الخير الذي يجب أن يكون من المسلمين من يدعون إليه، يدعون الأبيض والأصفر، الأحمر والأسود، العربي والعجمي من بني آدم أجمعين. وَلْتَكُنْ [آل عمران:104]، يجب أن تكن؛ لأن الله أهلَكم لذلك، وهيأكم له وأعدكم، فبعث فيكم رسوله، وأنزل عليكم كتابه، ورزقكم الإيمان الصادق به وبما جاء به رسوله، فأنتم متأهلون لهذه المهمة. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ [آل عمران:104] أيها المسلمون، أُمَّةٌ [آل عمران:104]، كم عددها؟ لا يقال: لها عدد، إنما المهم أن يوجد بين المسلمين من يغزو ويفتح ويعلن كلمة التوحيد ويدعو البشرية إليها، هل امتثل المسلمون هذا؟ إي والله، لو ما امتثلوا هذا ما اجتمعنا هذه الليلة، ولا كان فينا إسلام ولا مسلمون، ولكن الذين امتثلوا هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأولادهم وأحفادهم وأحفاد أحفادهم، فهم طيلة ثلاثمائة سنة وهم ينشرون راية العدل والحق في العالمين، حتى انتهى الإسلام إلى المحيط الأطلنطي، فقال أحدهم وقد رمى بفرسه في البحر: لو أعلم أن وراء هذا البحر أمة لمشيت إليها. وشرقوا وانتهوا إلى ما وراء نهر السند أداءً لهذا الواجب، ويعلم الله لقد قاموا به، فلقد كانت منهم أمة الجهاد والغزو والفتح، لا للدنيا ولا للمال، ولكن لامتثال أمر الله. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]، ألا وهو الإسلام، فهل وراء الإسلام من خير؟ قولوا! لا، فهيا بنا نتجول في ربوع العالم، نبدأ بالبرازيل وننتقل إلى كندا، ونترك أمريكا في الوسط، ونشرق ونغرب إلى اليابان، إلى الصين، أي خير هم فيه وعليه؟! الفجور، الخداع، الكفر، الباطل، المقاطعة، بلاء عظيم! أين الخير؟ الخير هو الإسلام، فهو نعمة الله، إذ قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].

    واجب العلماء الربانيين في السعي لتوحيد الأمة
    الآن هل أمة المسلمين وِجدت من هذه الأمة؟ من هم؟ يجب أن يكون للمسلمين إمام يؤمهم، قائد يقودهم، هادي يهديهم، مرشد يرشدهم، مصلح يصلحهم، هذا الإمام يجب أن يعد العدة، وأن يجيش الجيش ويهيئوه ويغزو به بلاد العالم، هل لاستعمار الأمم واستغلال أموالهم وثرواتهم واستذلالهم وإهانتهم؟! لا والله، وإنما لإدخالهم في رحمة الله، لتطهيرهم وتصفيتهم وتزكيتهم، وإعدادهم لسعادة الدنيا والآخرة.بعبارة أقرب: من أجل أن يعرفوا ربهم وخالقهم، رازقهم ومدبر أمرهم، ثم يعبدوه بما شرع، فتلك العبادة هي التي تكملهم في آدابهم وأخلاقهم ومعارفهم، وتسعدهم في دنياهم وأخراهم، إذ ليس للبشرية سوى هذه الأمة، فمن يقوم بهذه الرسالة؟ الكاثوليك عبدة الأهواء والشهوات، أم الملاحدة، أم المجوس؟ من يحمل هذه الرسالة؟ هل يوجد غير المسلمين؟! فهيا نطيع ربنا، دلونا على الطريق، جماعات تقول: الحاكمية، الجهاد، الحكام كفار، الأمة كافرة، وصاحوا وذُبِحوا، وصاحوا وخُنِقوا، وصاحوا وماتوا ولا شيء، لعلي واهم؟ قم وقل لي: أما رأيت كذا؟ حينئذ نقول: نستغفر الله ونتوب إليه.هل أقمتم حكماً إسلامياً؟ أطلعت شمس تلك البلاد وأصبحت تضيء الحياة للناس، وأصبحت مضرب المثل؟ تعالوا وزوروا هذا البلد وشاهدوا الأنوار، الصفاء والطهر، والأخوة والولاء، العزة والكرامة، انظروا إلى تحكيم شرع الله! ماذا نصنع؟ هيا دلونا، لو تقوم جماعة من الربانيين الصادقين أولياء الله الذين إذا رفعوا أكفهم إليه ما ردها خائبة أبداً ولا صفراً، لو سألوه أن يزيل الجبل لأزاله، لو أقسموا على الله لأبرهم وما حنثهم، هذه الجماعة الربانية تزور العالم الإسلامي إقليماً بعد آخر، وتقرع باب كل حكم وحكومة، وتقول: هيا بنا نتعانق، نحيي هذه الأمة بعد موتها، ويبتدئون من بلد إلى بلد وهم يعركون ويُلَيِّنون و.. و.. وفجأة وإذا بحكام العالم الإسلامي وعلمائه قد اجتمعوا في هذه الروضة، إذ ما هو صعب الآن، بالطيارة خلال أربع وعشرين ساعة وهم فيها، ما هو كالزمان الأول مستحيل. فيقولون: بايعناك يا إمام المسلمين، ثم يا علماء! لا تخرجوا من هذه الروضة حتى تضعوا دستور أمة الإسلام، القرآن والسنة وما عليه فقهاء وعلماء الأمة، في خلال أربعين يوماً والدستور يطبق من إندونيسيا إلى موريتانيا بأيدي القضاة والحكام -الكتاب موجود- أربعون يوماً فقط وأمة الإسلام أمة واحدة، فإذا قلت لها: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] وجدتها قائمة، الجيوش العربية الإسلامية أصبحت تقام فيها الصلاة ويعبد فيها الله، وانتهت الضلالة والخرافة، وانتهى هذا الفسق والمجون والباطل، ولاحت أنوار الصدق والوفاء، وأصبحت كلمتهم كلمة أولياء الله، فيغزون ما شاء الله، بل إذا اتجهوا صوب إقليم دخل في رحمة الله، فماذا ترون؟ أو ما هناك حاجة إلى هذا الدرس يا شيخ! اترك هذا؟! أيجوز هذا؟ نقرأ ونمشي، ألسنا مأمورين؟ وَلْتَكُنْ [آل عمران:104] من؟ مِنْكُمْ [آل عمران:104] نقول: لا، نحن غير مؤمنين، تكون من غيرنا، نرضى بهذا؟ نقول: ما نحن بمؤمنين، اتركنا! لا أبداً، نرضى أن نُحرَّق، نصلب، نقتل وما نرضى أن نكفر ونتخلى عن إيماننا. وَلْتَكُنْ [آل عمران:104] هل الأمر صعب؟ لا، بل سَهُل الآن، وكما قلت لكم وأعيد القول من فتوحات الرحمن: لو بيننا ربانيون سالمون، صالحون، صادقون، خمس عشرة عالماً، عشرون، مائة من العالم الإسلامي، وتتكون لجنة من خيارهم وتقوم بزيارة مسئولي أمة الإسلام وحكامهم، وتعرض عليهم منهجاً ربانياً لجمع كلمة هذه الأمة، وتوحيد صفها؛ لتنهض بواجباتها، وتقوم بأداء رسالتها، فلا أظن أنهم يخيبون أبداً؛ لأنهم يعرفون كيف يعرضون، وأنوار الله تلوح من أفواههم ومن أبصارهم، وفجأة وإذا موعدنا شهر كذا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يخرجون من هذه الروضة إلا وقد بايعوا إمامهم: أنت إمام المسلمين، ويعودون يطبقون شرع الله، وفجأة وإذا بالبلاد كلها أنوار؛ لأن الوقت مناسب، والزمان مواتي، لكن قبل وجود هذه المواصلات كان هذا من أبعد البعيد، كيف تزور هذه البلاد وأنت تحتاج إلى أربع سنوات وأنت تمشي حتى تصل، بينما الآن يطوفون بالعالم الإسلامي في ثلاثين يوماً، بل أقل، فأين هؤلاء الأولياء الصالحون؟ ما وِجِدوا بيننا؟! لمَ؟ لأن آباءهم وأمهاتهم ما رُبُوا في حجور الصالحين، فما تربوا هم في حجور الصالحين، فكيف يوجدون بهذا الصلاح؟! كيف يحصل هذا؟! ونقول: كيف؟ نقول: ما وجدوا، فأين هؤلاء؟ لو وجِدوا لجمعوا كلمة المسلمين، لوحدوا صفوفهم، لطهروا قلوب المؤمنين من الشرك والضلالات والخرافات والأوهام والأطماع والشهوات، لكن إن وجد هذا فقد قلت لكم: قطعاً هذا أمر سهل ويسير في هذه الظروف.

    الطريق الموصل إلى الله تعالى
    قد تقولون: هذه بعيدة، أنى لنا أن نصل إليها، كيف توجد هذه؟ ماذا نصنع؟ نعود من حيث بدأنا، وأنا أحلف بالله، وبعض الإخوان يلومونني لماذا أحلف؟ لا تلوموني، فأنا أحلف اقتداء بربي، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والحلف من أجل أن تطمئن النفس إلى القول وتقبله، فمن أراد أن يرحم أناساً يحلف لهم، من أراد أن يصدقوا الخبر يحلف لهم، والحلف الحرام بسيدي عبد القادر ورسول الله وفاطمة والحسين، فهذا من الشرك والعياذ بالله، الحلف بالباطل حرام، والحلف بالكذب فسق وفجور، لكن الحلف على الحق دين الله عز وجل. فأقول: الطريق السهل الميسر الذي نُري الله تعالى فيه قلوبنا وصدقنا في إيماننا، ورغبتنا في لقائه والسير في الطريق الموصل إليه، هو أن نأخذ بمبدأ: أن أهل القرية كأهل الحي في بلاد العرب والعجم على حد سواء، إذا دقت الساعة السادسة مساءً يقف دولاب العمل، لا دكاناً ولا مقهى ولا مطعماً ولا مصنعاً ولا مزرعة ولا.. ولا.. أهل القرية أهل الحي يتوضئون بسرعة، يلبسون أحسن ثيابهم ويحملون نساءهم وأطفالهم في صدق إلى بيت ربهم، وهل لربهم بيت خاص؟ إي نعم، المسجد، وإن ضاق وسَّعوه، وليسوا في حاجة إلى الحديد والإسمنت، يوسعونه بالخشب والحطب، باللبن والتراب، يجتمعون في بيت ربهم، أذَّن المغرب في الساعة السابعة والربع وإذا بأهل الحجاز كلهم في بيوت الله، أما الجهة الشرقية فبيننا وبينها نصف ساعة، والأمة كلها في بيوت الله، فيصلون المغرب والنساء وراء الستائر، والأطفال النورانيون دونهن، والفحول من أمثالكم أمامهن، ويجلس لهم عالم من ذاك النوع الرباني، فيدرسون كتاب الله وحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقط قال الله وقال رسوله، لا أباضي ولا زيدي ولا نخولي ولا رافضي ولا مالكي ولا شافعي ولا حنبلي ولا حنفي ولا حزبي ولا وطني، وإنما أمة لا إله إلا الله، أمرها واحد، يخاطبها رب واحد، يهديها إلى الصراط المستقيم إله واحد، لا فرق بين عربي ولا عجمي، ولا أبيض ولا أسود، أهل القرية أهل الحي يتعلمون كتاب الله وحكمة رسوله، ليلة بعد ليلة، وفي عام وعامين تصبح تلك القرية وكأنها في عهد رسول الله وأصحابه. ما الذي يحصل بالعلم؟ يحصل به المودة، الإخاء، الحب، الولاء، التعاون، الزهد في أوساخ الدنيا وأوضارها وشهواتها وأطماعها، يتوفر المال عند الناس فماذا يصنعون به؟ من كان ينفق في الشهر عشرة آلاف ينفق ألفين ويفيض الزائد، ماذا يصنع به؟ لعلي واهم؟ والله لكما تقولون، عندما يصبح أهل الحي كأمة واحدة، جسم واحد، ماذا يصنعون بالمال؟ يفيض عليهم، وتنتهي مظاهر الضعف: الخيانة، الغش، الخداع، الكذب، الكبر، الحسد، الزنا، اللواط، ال.. ال.. انتهت، مُسِحَت، وهل تُمسح يا شيخ؟ إي نعم، سنة الله التي لا تتبدل، ونضرب المثل دائماً فنقول: أعلم أهل القرية اليوم في بلاد العرب أو العجم أعلمهم بالله ومحابه ووعده ووعيده أتقاهم لله، وأقلهم فجوراً، وأقلهم خيانة وكذباً، وأقلهم باطلاً وشراً، والله العظيم، فهل في من يشك بهذا؟ ومن ثَمَّ ما تكلفنا شيئاً، كل ما في الأمر أن النتاج يقوى، قلوبنا تتغير، يصبح ما يحصل عليه العامل وينتجه أضعاف ما كان قبل، فنحن نصلي الصبح ونقبل على الأعمال في البساتين، في المزارع، في المصانع بصدق وجد، بإخاء ومودة وتعاون، والله لننتج أكثر ما تنتجه مصانع الشرك والباطل والكفر، لا تقولوا: إذاً نعوِّق الحياة ونقف بها والناس يتقدمون، والله نصبح في وضعية يفتح الله أبواب العلم والمعرفة، فننتج ما لا تنتجه دول الكفر، وبهذا نكون قد أطعنا ربنا وامتثلنا أمره في قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104].وهنا قد يقول قائلٌ: أنت فسرت الخير بالإسلام، وهذه الأمة -كما هو معروف- أمة الجهاد والغزو، كما أنك تقول: لو اجتمعنا في بيوت الله بنسائنا وأطفالنا نتلقى الكتاب والحكمة، فسننتقل من وضعية إلى وضعية أحسن، ونصبح.. ونصبح.. فكيف ونحن قد تركنا الجهاد؟! الجواب: نحن الآن لسنا في حاجة إلى أن نغزو، لا بريطانيا ولا إيطاليا، ولا تخوفوهم؛ لأن بلادهم مفتوحة لنا، فادخل وابن المسجد، وادع إلى الله، ووزع الكتاب والنَشْر ولا تخف، ولسنا في حاجة إلى أن نرسي سفننا في ميناء كذا لندخل إلى كذا، أبداً، انتهى هذا، فقط هيا ندعو إلى ربنا، كيف يا شيخ؟لقد بينا وقلنا: لمَ لا تتكون لجنة عليا، والمسئول عنها رابطة العالم الإسلامي، هذه التي بكينا وصحنا كذا سنة حتى تكونت، فتكوَّنت الرابطة، وتكوَّنت الجامعة الإسلامية، وتكون صوت الإسلام أو نداء الإسلام، هذا كله بسبب هذه الدعوة، فهل انتبهتم أو لا؟ أو نحلف لكم؟ والله العظيم، لو أن عندي الآن الرسالة التي رفعتها إلى جلالة الملك سعود، لاشتريتها بألفين ريال وهي ما تساوي عشرة قروش، لكن ضاعت، رفعنا رسالة وطبعتها بالآلة، ورفعناها إلى المسئولين، وكان مفتي الديار السعودية الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، أحد كبار العلماء في أيام الملك سعود رحمة الله عليه، وقلنا: لابد من القيام بهذا الواجب، أي: إنشاء جامعة أو معهد لتخريج الدعاة، فأمة الإسلام يأكلها الجهل ويغشيها ويعميها الضلال والشرك، فمن ينقذها؟ لابد من مصدر لتخريج العلماء أهل التوحيد والمعرفة لتطهير القلوب والنفوس، فوافق على تكوينها، فكذلك لابد من جماعة تربط العالم الإسلامي بعضه ببعض، وقد أخذ العالم يستقل إقليماً بعد إقليم. لا بد من هيئة عليا للعلماء تتكلم باسم العالم الإسلامي فتكونت الرابطة فكانت صوت الإسلام ولكن النتاج قليل؛ لمعوقات، ولأن القائمين عليها ما هم من النوع الذي نحلم به من الربانيين والأصفياء، أهل كرامة الله هم من نوعنا، فلهذا ما خطونا الخطوة الواسعة.الشاهد عندنا: الآن تتكون لجنة عليا من العالم الإسلامي تضم من كل إقليم -كبير وصغير- عالماً أو عالمين، وإذا بمجلس العلماء أفراده ينيفون على الثمانين، فكل دولة تبعث عالمين، هذه اللجنة العليا للإسلام لما تجتمع تكوِّن منها لجنان؛ لجنة إلى أمريكا، لجنة إلى أوروبا الشرقية، إلى أوروبا الغربية، لجنة إلى اليابان، أخرى إلى الصين.. إلى بلاد الكفر، وتدرس أوضاع الجاليات الإسلامية، وتتعرف إلى أعدادهم، وإلى مذاهبهم، وإلى سلوكهم، وإلى حاجاتهم، وبعد أربعين يوماً أو شهرين تأتي بخريطة، الإقليم الفلاني فيه كذا، الدولة الفلانية فيها كذا.إذاً: فهيا ننشر الإسلام، وحينئذ يكوِّنون ميزانية سرية خفية حتى لا نفزع اليهود أو الصليبيين، يسهم فيها كل مؤمن ومؤمنة بقرش؛ لأنها ضريبة الجهاد، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران:104]، يشارك فيها كل مؤمن، فأهل كل إقليم العلماء الذين منه يتولون الاتصال بالأفراد نساء ورجالاً يعلمونهم بأنه لا بد من المشاركة في هذه الميزانية في نشر الإسلام ودعوته في العالم، وفي خلال أربعين يوماً يعرفون أكبر ميزانية في العالم، فتكرس وتأخذ اللجنة العليا أولاً: تنتقي الكتاب اللائق بتدريسه وتعليمه، تنتقي العلماء الربانيين الصادقين، وتبعث العالم والكتاب بيده، وتتولى نفقة المسجد أو المدرسة على حسابها، وفجأة وإذا بتلك الجالية من أمريكا إلى أوروبا إلى اليابان أمرهم واحد؛ لأن مصدر النفقة واحد، ولأن الكتاب الذي يدرس واحد.وعلى سبيل المثال: منهاج المسلم، فأيما مسلم يقول: أنا لا أدرس هذا، مُسح اسمه من الإسلام، ما هو بمسلم؛ لأن هذا الكتاب يجمع المسلمين، فلا فرق بين شرقي، لا بين شافعي ولا حنفي، لا بين زيدي ولا أباضي، ولا بين مسلم ومسلم، يجتمعون في بيت الله، يتلقون الكتاب والحكمة، وتنمو أخلاقهم، وتسمو معارفهم، وإذا بالنور ينتشر، وإذا بالكفار من جيرانهم يغمرهم نورهم، فيطلبون هذا النور ويظفرون به، والله العظيم لو شاهد الكفار أنوار الإيمان حولهم لما رغبوا عنها ولطلبوها.وبالتا ي نكون قد قمنا بواجب نشر الدعوة وبرئت ذمتنا، العوام والعلماء والحكام والأغنياء والفقراء.. كلهم برئت ذمتهم، وأصبحوا قد أدوا واجبهم، وكوَّنوا ما طلب الله أن يكوِّنوا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]، فهل فهمت هذه يا دكتور أحمد؟ واضحة أم لا؟ ما الذي يمنع أن تكوَّن لجنة عليا وقد طالبنا بهذا في كتاب مكتوب إلى مسئولي الأمة علماء وحكاماً، ومضت عليه سنة، وما تحرك عالم ولا حاكم؟ أنا لا ألوم الحكام وإنما ألوم العلماء أولاً؛ لأن العالم لم يأت الحاكم فيبين له، وعليه فإننا آثمون، ما أدينا واجبنا، ما قمنا بأمر ربنا، عفوك يا عفو يا كريم، رحماك يا رب العالمين.

    أهمية وجود هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مدن وقرى المسلمين
    قوله تعالى: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا توجد في العالم الإسلامي قط إلا في هذه المملكة، وقد أوجدها عبد العزيز رحمه الله؛ لأنه استقل عن العالم الكافر، والمسلمون مازالوا تحت سماء بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا، فكيف يكوِّنون هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم محكومون؟!إذاً: أعذرناكم أيام كنتم محكومين، لكن لما حكمتم واستقللتم وسدتم، وأصبحت لكم الحكومة المستقلة، لم لا تكوِّنون هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! نادوهم، ادعوهم: يا حكام كذا وكذا وكذا، من إندونيسيا إلى المغرب، لمَ لا تكونون هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أهم عصاة؟ إي والله، لم يطيعوا الله تعالى، أما وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]؟ لمَ نكوِّن أنواع البوليس على اختلافها؛ الدَرَك، الشُرَط ولا يوجد من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟! البوليس في يده الكُرْبَاج والصفارة يدور طول الليل والنهار، يشاهد منكراً ما يقول: هذا منكر، يشاهد معروفاً متروكاً ما يقول: يا عبد الله ما لك؟ لا، ما هي مهمتي؟! لا، لا، ما تتهمهم بهذا يا شيخ عبد الله اتركنا، اسمع، أنا ماشي في الطريق لمَ تعترضني سامحك الله؟! أنا أقول: استقل الإقليم عن بريطانيا، فيجب أن تكوِّن فيه هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووالله لو وجد في ذلك الإقليم -الذي استقل أمس عن بريطانيا أو فرنسا- علماء ربانيون صادقون لألزموا الحاكم أن يفعل، ولفرح بذلك؛ لأن الحكام ليسوا بجهلة، علمتموهم؟ جُهال وضلال؛ لأنهم تخرجوا من مدارس روسيا وأمريكا وبريطانيا، كيف يصبح وزيراً أو حاكماً وهو أمي؟! معقول هذا الكلام؟ لابد وأن يحمل الماجستير، الدكتوراه في علم السياسة، في علم النفس، فأين درسوا؟ في المسجد النبوي؟! أنفي ما قال تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101]؟ نحن الذين بعثناهم فدرسوا حتى كفروا، أنلومهم؟ ما لنا؟ أين عقولنا؟ سنقول: لو كان هناك علماء ربانيون لطالبوا الحاكم عندما استقل البلد أن يوجد هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يفرض إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ لأمر الله تعالى بذلك عند وجود الحكم والاستقلال، ما ننسى آية الحج: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].لكن قد يقول قائل: يا شيخ، هذا الكلام نظريات قرآنية، فأين الواقع؟ ما رأينا الواقع، أقول: تعالوا إلى السعودية تشاهدون الواقع -إذا قالوا لهم: هذه رجعة إلى الوراء- تشاهدون هذا البلد المبارك، لولا الخليط الآن والارتكاسات، وماذا نقول؟ الذين يحاربون هيئات الأمر بالمعروف في داخل المملكة أكثر من خارجها، فهم يتقززون منها، ومع هذا والله لا يوجد بلد آمن من هذا البلد، ولا أطهر من هذا البلد، ومن يرد علي يخرج معي إلى البيت ويقول: أنا آخذك إلى البلد الفلاني الذي ليس فيه زنا ولا عهر ولا خيانة ولا كذب ولا.. ولا..، هاتِ، والله لا آمن ولا أطهر من هذا البلد، بسبب ماذا؟ الحكومة السعودية؟! هل عندها سحر؟ والله ما هو إلا إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووالله العظيم -لا تقولوا: الشيخ يحلف- يا ويل الذين يثبطون الحكومة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكتبون في الصحف، إنهم مرضى؛ لأنهم درسوا في الخارج، فيتقززون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بينما هو أمر الله يجب أن يكون في كل قرية من قرى المسلمين، رجالٌ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، حتى لا ينتشر المنكر بينهم فيهلكوا، حتى لا يختفي المعروف فينزلقوا ويتحطموا، ويسلط الله عليهم من يذلهم ويدوسهم بنعاله. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] إي: الإسلام، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، كذا أو لا؟ فهيا نعتذر إلى ربنا، يا ربنا ما نستطيع، ما نقدر على أن نكوِّن، يقبل هذا العذر؟ نبحث عن الأسباب.

    معنى قوله تعالى: (وأولئك هم المفلحون)
    قال: وَأُوْلَئِكَ [آل عمران:104]السامون الأعلون، أشار إليهم بالبعد لعلو منزلتهم، والآن الحكومات والشعوب الإسلامية والكافرة كلها هابطة، والحكومة هذه البقية الباقية عالية والله العظيم، أو ما تثقون بهذا الكلام؟ أو لعلكم تقولون: هذا الشيخ يتملق! إن هذه كلمات يوحيها إبليس يمرض بها القلوب والعقول، ما يسمحون لمؤمن يقول كلمة حق أبداً، يتملق فقط، والتملق إذا قال الكذب أو قال الباطل، إذا دعا إلى المنكر من أجل إرضاء أصحابه، أما أن تكتم الحق، فهل هذا يصح من مؤمن؟! هذه البلاد من عفَّنَها؟ العالم الإسلامي يهشمها ويحطمها في كل مكان، فتجد السب والشتم والتضييع، ولا يقولون فيها خير أبداً ويذكروه، جبنا ديارنا وعرفناها في الشرق والغرب، والله لولا الله ما بقيت إلى اليوم أبداً. وَأُوْلَئِكَ هُمُ [آل عمران:104] لا غيرهم، الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] فالله يكذب؟ أعوذ بالله! تعالى الله عن الكذب، عرف الأشياء قبل أن يخلقها، كونها قبل أن توجد، فهل يجهل هذا؟ وأولئك الذين كونوا أو كانت منهم أمة تدعو إلى الإسلام وتجاهد وتبتع، وأمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في ديارها، هؤلاء هم وحدهم المفلحون، ما قال: (وأولئك المفلحون)، وإنما قال: وَأُوْلَئِكَ هُمُ [آل عمران:104] فلمَ أتى بالضمير(هم)؟ ليقصر الفلاح عليهم، ووالله لكما قال تعالى: هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، فما معنى الْمُفْلِحُونَ ؟ الفائزون، وما معنى: الفائزون؟ هل الفائزون بجائزة نوبل؟! الله أكبر! أهل القرآن يقولون: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] إي والله، واقرءوا هذه الآية الكريمة: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، من يقول: إلا نفوس بني هاشم، إلا نفوس الطِليان. هل هناك من يستثني؟ لا. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، من حكم بهذا الحكم؟ الله، فهل استطاع أن ينقضه كائن في الكون؟ نافذ أو لا؟ إذاً: اسمع: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، أيتها الشغيلة، أيتها العملة، يا عمال! اعملوا، واصلوا العمل في الليل والنهار، ولا تطالبون اليوم بالأجر، إذ هذه دار عمل وليست دار أجر وجزاء، لا إله إلا الله! اعمل الصالح والطالح، والجزاء ليس هنا أبداً، فهي ليست دار جزاء، وإنما هي دار عمل، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ [آل عمران:185] متى؟ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، أجور العمل سواء كان شراً أو كان خيراً وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]. ما هذه الأجور؟ دولارات، مليارات، إبل، أغنام، قصور؟! بين الأجور فقال: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185] أي: أُبعد عنها وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فهل عرفتم الفوز أو لا؟ وأخيراً: اذكروا حكم الله فينا وقد صدر: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].معاشر المستمعين والمستمعات! هيا نزكي أنفسنا ولا يضرنا سقوط البشرية كلها في الهاوية، ليعمل كل واحد منا على تطهير نفسه بهذه العبادات المتقنة المقننة، وبالبعد عن كل ما حرم الله، من نظرة محرمة، أو لقمة محرمة، أو كلمة سيئة، أو حركة باطلة، بهذا تفلح يا عبد الله، وتفلحين يا أمة الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].اللهم اجعلنا من المفلحين الفائزين يا رب العالمين، اللهم إن بيننا من يشكو الألم والمرض، فاشف مرضانا يا رب العالمين، وزكِ نفوسنا، وطهر قلوبنا ونورها لنا يا رب العالمين، وتوفنا وأنت راض عنا، وأدخلنا -يا ربنا برحمتك- في عبادك الصالحين.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #185
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (43)
    الحلقة (184)

    تفسير سورة آل عمران (48)


    الأمة المحمدية هي أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأجل أن تكون دعوتها على بصيرة فلابد لكل داعية فيها أن يعلم محاب الله عز وجل فيأمر بها، ويعلم مكاره الله ومساخطه فينهى عنها، ومتى ما قامت الأمة بهذا الواجب العظيم حفظ الله أمرها في الدنيا، وكتب لها الفلاح في الآخرة.

    تابع تفسير قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات المباركات من سورة آل عمران عليهم السلام، وتلاوة الآيات -التي شرعنا في درسها البارحة- بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:104-109]. ‏

    وجوب وجود جماعة من المسلمين تدعو إلى الإسلام
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! عرفنا وعلمنا وفهمنا وأيقنا أن على أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل أزمنتها وعصروها أن توجد فيها من يدعو إلى الإسلام، قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]، فلا خير أعظم من الإسلام، وبالتالي فلابد من إمام تبايعه أمة الإسلام، وأن يكون له جيش عظيم يغزو ويفتح من أجل نشر دعوة الله، وإدخال البشرية في الإسلام الذي هو رحمة الله، وهذا واجب ضروري، سواء قلنا: كفائي أو عيني، فأين إمام المسلمين؟ تفرقوا عنه ومزقوا بلاده وكوَّنوا دويلات وجماعات! إذاً فكيف يوجد لهم جيش إسلامي يدعو فيغزو ويفتح؟!إذاً: يجب أن تلتئم جراحاتهم، وأن تجتمع كلمتهم، وأن تتحد رايتهم، وأن يحملوا راية الدعوة إلى الله عز وجل، وإلا فهم آثمون بتركهم هذا الواجب، اللهم اغفر لنا وارحمنا.وقد ذكرت لكم فيما مضى ولعل بيننا من ينقل هذه الكلمات الحقة: مادمنا قد عجزنا عن الغزو والفتح، وقد فتح الله لنا بلاد العالم من الصين واليابان إلى أمريكا وأوروبا، فباسم الله نكوِّن لجنة عليا يشترك فيها من كل إقليم من أقاليم العالم الإسلامي عالم أو عالمان، وهذه اللجنة المكونة من أربعين أو خمسين عالماً تتولى نشر الدعوة الإسلامية بالكتاب والمعلم، وقبل ذلك بالدينار والدرهم.كما قلت لكم: إنه في الإمكان أن يرسموا خريطة للجاليات الإسلامية الموجودة في العالم، ويُعرف عددها وحاجتها، ثم توضع ميزانية تُفرض على كل مسلم في العالم الإسلامي أن يساهم بدينار، وهذه الأموال لا نريد أن نتبجح بها في الصحف والإعلانات فنثير أحقاد اليهود والماسونية والصليبيين، وإنما تتم في حالة سرية، والحكمة تقول: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، ثم يبعث إلى تلك الجاليات بعالم أو عالمين أو ثلاثة أو أربعة على قدر اتساع رقعتهم، ومعهم الكتاب الذي يوحد كلمتهم وصفوفهم، وحتى لا تبقى الفرقة ولا مظهر لها، وإنما كلهم مسلمون، فلا مذهبية ولا طائفية ولا عنصرية ولا وطنية، وإنما ديننا الإسلام الذي مصدره الكتاب وسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم.وتمشي القافلة فلا تلبث أكثر من ربع قرن إلا وقد تضاعف أعداد المسلمين في العالم الخارجي، ولا يبعد أن تظهر دويلات إسلامية، ونكون بهذا قد أدينا هذا الواجب، ولنحمد الله على أن أراحنا من حمل السلاح وغزو البلاد وفتحها، إذ إن الله قد فتحها فالحمد لله، فهل تذكرون هذا أم لا؟ ننتظر حتى توجد الخلافة الإسلامية؟! متى؟ إن الباب مفتوح أمامنا انشر دعوة الله تعالى، بل يستطيع المسلمون أن يتجولوا في تلك البلاد بدون ما أمر من فوق أو من تحت، وبالتالي فالذي له ساعة في وقته له أن يزور بلداً ما على أن يحسن لغتهم، وله أن يتصل بفلان وفلان، فيعلمهم دين الله تعالى، وكل ما في الأمر أن الله رحمنا لضعفنا وعجزنا، ففتح لنا أبواب العالم لننشر الإسلام بكل راحة وطمأنينة.أما ديارنا الإسلامية فنحن قد هبطنا فمن يرفعنا؟ ورفعتنا ليست مستحيلة أبداً، إذ إن العالم الإسلامي اليوم كبلد واحد، فإذا كبرت في الشرق سمعت تكبيرتك في الغرب، وإذا رفعت يديك: وارباه، سمع دعاءك كل مؤمن في الشرق والغرب، فتستطيع أن تأتي إلى مكة في نصف يوم من أي بلد، وتأتي إلى المدينة في أقل من أربع ساعات.

    الطريق إلى إيجاد جماعة من المسلمين تدعو إلى الله تعالى
    والمهم والطريق هو -كما علمتم- أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله تعالى، فنطرحهما بين يديه، وترجمة ذلك أن نقبل على ربنا في بيوته، فنبكي بين يديه بنسائنا وأطفالنا كل ليلة حتى يستجيب دعاءنا، ويجمع كلمتنا، ويطهر أرواحنا، ويزكي نفوسنا، وهذا لا يكلفنا شيئاً، فكيف لا ندلل على أننا مفتقرون إلى الله محتاجون إلى رحمته لأننا في أسوأ الأحوال وأقل الظروف؟ يجتمع أهل القرية في مسجدهم، وأهل الحي في مسجدهم، وذلك من المغرب إلى العشاء كاجتماعنا هذا، ويتعلمون الكتاب والحكمة، ويزكون أنفسهم، واسمعوا إلى قول الله فيكم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، أي: القرآن والسنة، فهل فينا يا أهل هذه الحلقة من يعتز بمذهبه فيقول: أنا حنفي، أنا شافعي، أنا مالكي، أنا حنبلي، أنا أباضي، أنا زيدي؟ لا أبداً، فالذين يجلسون في صدق فيتعلمون الكتاب والحكمة أصبحوا مسلمين، فلا عنصرية ولا طائفية ولا مذهبية، وإنما فقط نتبع هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولسنا في حاجة إلى من يبين لنا ذلك، وإنما إذا اتضح ولاح سلكناه ولا نبالي بالشرق ولا بالغرب؛ لأننا نريد أن ننزل بالملكوت الأعلى، نريد أن نخترق ونجتاز السبع السموات الطباق لننزل بدار السلام، فإذا كان هذا يكلفنا أن نجتمع في بيت الله ونبكي بين يديه طول حياتنا، فهل هذا غال؟ رخيص هذا.وشيء آخر: أين السياسيون؟ أين علماء النفس؟ أين علماء الاجتماع الذين يستطيعون أن يردوا على الله ورسوله؟ والله ما إن يطرح المؤمنون بين يدي ربهم إلا وقد انتهى كل مرض في قلوبنا، فلا غش، ولا خداع، ولا كبر، ولا غيبة، ولا نميمة، ولا سحت، ولا ربا، ولا زنا، ولا باطل، بل تنتهي كل هذه الأخباث المتنوعة، وهذا الظلم المتنوع، وهذا الشر والفساد، ولو تجتمع البشرية كلها على إزالته والله ما تزيله إلا على هذا الهدي الإلهي، ولو يضعون مع كل إنسان عسكري، والله ما يستطيع أن يستقيم، وإنما يكذب ويخدع ويغش ويخون، فلمَ لا نعرف هذا؟ فهيا نطهر قرانا ومدننا من هذا الخبث الذي خمت له الأجواء، ومن هذا الشر والفساد الذي طغى، ومن هذا العجز والضعف الذي أصابنا، بله من الحاجة والفقر، فما السبيل إلى ذلك؟ وما الطريق إلى ذلك؟ أن نحقق ولاية الله، أن نصبح أولياء الله، فالله قد نفى عن أوليائه الخوف والحزن فقال: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. من هم أولياء الله تعالى؟ يقولون: العيدروس وسيدي عبد القادر والبدوي وفلان وفلان! إن أولياء الله كل مؤمن تقي لله تعالى، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، أي: يتقون سخط الله وغضبه وعذابه، بمَ يتقونه؟ بالمظلات؟ بالكهوف؟ بالطائرات؟ يتقونه بتسليم قلوبهم ووجوههم لله تعالى، بطاعة الله وطاعة رسوله، هذه الطاعة محتاج العبد إلى أن يعرف فيمَ يطيع الله؟ فيمَ يعصه؟وطلب العلم فريضة، وبالتالي فما الطريق إلى طلب العلم؟ عيينا، فتحنا في العالم الإسلامي مدارس وكليات، ومازال الجهل مخيماً، إذاً كيف نتعلم؟ دلونا على الطريق يا رشداء، يا عقلاء، ما الطريق إلى أن نتعلم؟ أو لستم بموقنين بما نتكلم به؟ والله لن يزول هذا الجهل وهذه الظلمة إلا إذا أقبلت الأمة على ربها في صدق، وأصبحت تجتمع في بيت ربها بنسائها وأطفالها، فيتعلمون الكتاب والحكمة طول العام، بل طول الحياة، في وقت يجب ألا يبقى فيه عمل، إذ الكفار لا يعلمون من الساعة السادسة إلى نصف الليل، ونحن نرفض هذا ونعمل حتى أننا لا نصلي المغرب في جماعة، ولا نجلس بين يدي معلم يعلمنا.

    ضرورة إنشاء هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل قرى ومدن المسلمين
    قال تعالى: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، وقد قلنا في الجملة: لمَ الدويلات الإسلامية عربها وعجمها لا توجد بها هيئات تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قالوا: هذا يكلف ميزانية جديدة! قلنا: نقسم الميزانية نصفين، نصفها للبوليس والشرط، ونصفها للهيئة، إذ البوليس والشرط لتحقيق الأمن، والهيئة لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فينتهي نصف الشر أو ثلاثة أرباعه، وشيء آخر: والله ليوجد من المسلمين من لو يأذنون لهم فيعطونهم سمة رسمية، ولا يحتاجون إلى مكافأة شهرية ولا عامية، لكن للأسف تستقل الدولة أو الإقليم ولا يريدون إنشاء هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونستطيع أن نقول: إن الذي صرفهم هو الماسونية، لكن نحن الذين نمد أعناقنا لكل أحد، فالماسونية نلعنها، والمستعمرون الذين كانوا يحكموننا والله ما ألزمونا بألا نأمر بمعروف ولاننهى عن المنكر، بل ولا نصدق ذلك، فإقليم من الأقاليم يقول: لا، فنحن لما خرجت بريطانيا فرضت علينا ألا نفعل كذا! والله ما كان، لم ما يفعلون؟ ما يريدون الدار الآخرة؟ استغنوا عنها أم ماذا؟ نكل أمرهم إلى الله، اللهم اشهد فقد بلغنا.

    دعائم الدولة الإسلامية
    وقد بينت لكم ولهم بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضهما الله عز وجل على الدولة التي تقوم في البلاد، وهذه ليست نظرية وإنما سياسية، إذ إن دعائم الدولة الإسلامية أربعة:الأولى: إقامة الصلاة، ومعنى إقامة الصلاة أن المؤذن إذا قال: حي على الصلاة، وقف العمل، وأقبل المؤمنون على بيوت ربهم، فالجندي والعسكري كالمدني، والعامل كمراقبه، وأقبلوا على الله ليستمدوا قواهم، ويستمدوا رحمته وعونه لهم، وفي خلال ربع ساعة تنتهي الصلاة، ثم اندفعوا وراء أعمالهم، وذلك خمس مرات في الأربعة والعشرين ساعة؛ ليبقوا دائماً أولياء الله، ولتبقى ولاية الله ثابتة لهم.ولا تسألني عن النتائج المادية المحسوسة الملموسة من إقامة الصلاة، إذ لو أقيمت الصلاة اختفى كل وجه للباطل والشر والظلم والخبث والفساد، الأمر الذي لا تستطيع قوى الأمن بأي حال من الأحوال أن تحققه، بينما إقامة الصلاة والله ليحققه، أما قال العليم الحكيم: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]؟ وكررنا هذا القول -واشهد اللهم وإننا لمودعون- وقلنا لهم: تعالوا إلى أي بلد من العالم الإسلامي العرب والعجم، ونأتي بمحافظ المدينة ونقول له: يا فلان أعطنا قائمة بأسماء المجرمين في هذا الأسبوع، فيقدم لنا القائمة: هذا ضرب أباه، وهذا سرق أمه، وهذا فعل كذا، فقلت: والله لا نجد في تلك القائمة نسبة أكثر من 5% من مقيمي الصلاة، و95% من المصلين وتاركي الصلاة، والآن أربعين سنة ولم يعرفوا هذا، فالمقيم الصلاة الذي يناجي ربه على علم وبصيرة خمس مرات يخرج فيلوط ويزني ويكذب ويفجر ويسرق؟! والله ما كان، وإن وقعت مرة في عمره انغسل منها وانمحى ذنبه ببكائه وصيامه النهار وقيامه الليل. فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، لم؟ لأنها ما أنتجت لهم الطاقة النورانية، إذ الصلاة إن لم تقم على قدميها وساقيها كما هي لتنتج وتولد الطاقة النورانية في القلوب فإنها لا تنفع لضعفها، فهي صلاة بلا خشوع لا تولد هذا النور. إذاً: والآن لنعلم معاشر المؤمنين والمؤمنات! أن قول الله تعالى: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] وآيات أخرى دالة على أنه يجب على المؤمن أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، سواء كان مسئولاً أو غير مسئول، وذلك في القرية أو في الحي أو في السوق أو في الطريق أو في المسجد أو في البيت، فإذا رأى معروفاً متروكاً مهملاً، يلفت النظر إلى تاركه ومهمله، ويرغبه في فعله، ويكون بذلك قد أدى واجبه، وإن رأى منكراً مرتكباً مفعولاً في قرية أو في السوق أو في المدينة أو في المسجد أو في أي مكان، وهو يعلم أنه منكر، فينبغي أن ينبه أخاه بلطف ولين على أن هذا منكر، ومثلك لا يفعله، وأنت ولي الله، وهنا يتطلب الموقف معرفة المعروف ومعرفة المنكر، فالذي لا يعرف المعروف كيف يأمر به؟! قد يخطئ، والذي لا يعرف أن هذا الكلام منكر أو هذه الحركة منكر، أو أن هذا العمل منكر، كيف ينهى عنه؟!

    أهمية معرفة محاب الله ومساخطه لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر
    عدنا من حيث بدأنا: يجب علينا أن نعرف محاب الله ومساخطه، ومحابُ الله هي المعروف، ومساخطه هي المنكر، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يعيش زمناً وهو لا يعرف ما يحب ربه ولا ما يكره مولاه؛ خشية أن يترك المحبوب فيغضب عليه ربه، أو يرتكب المكروه فيسخط عليه ربه، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يعيش فترة يتمكن منها من السؤال والعلم والمعرفة، وهو لا يعرف المعروف ولا يعرف المنكر، إذ المعروف هو ما أحبه الله فشرعه في دينه، وأنزله في كتابه الذي أوحاه إلى رسوله، والمنكر هو المبغوض لله تعالى، أو ما حرمه الله تعالى، أو هدد فاعله، أو توعده، أو وضع له حداً من الحدود، سواء كان عقيدة أو قولاً أو عملاً، وبالتالي نعلم هذا كله في المساجد فقط، أما المدارس والكليات فلا، وقد بلغني -وأنا ما أطيق أن أسمع الأخبار- أن أعداداً كبيرة من خريجات الجامعات في البلاد العربية الآن يتزوجن بإطاليين وأسبان وأمريكان! مع أن الواجب على إمام المسلمين لو تزوجت امرأة مسلمة بكافر أن نغزو تلك البلاد، وأن نحرر تلك المرأة المؤمنة، ولا نترك الكافر يعلوها ويحول بينها وبين عبادة ربها. والآن فتياتنا وبناتنا علمناهن ورفعنا قيمتهن، فتخرجن من الكليات والجامعات، وبعث بهن إلى سويسرا وأسبانيا، وبالتالي يتزوجن اليهود والنصارى! فاسمعوا أيها المؤمنون! من الآن امنعوا بناتكم من دخول الجامعات في المدينة النبوية، لا أقول: من الجامعات في القاهرة المعزية، لكن قدي يقول قائل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟ والله ما إن تزول هذه الراية -لا قدر الله- ويتولى الحكم إخوانكم، تصبح أوضاعكم أسوأ من أوضاع البلاد الأخرى، ويتسابقن بناتكم إلى أوروبا ليتعلمن، وتحل الخيبة وينزل البلاء والشقاء.ومع هذا مادمنا مندفعين وراء تعليم بناتنا، والزج بهن في الكليات والجامعات -هو الطريق المعروف- فلابد وأن ينتهي إلى كشف الوجوه والخلاعة والدعارة والوصول إلى البلاء، فهل يوجد علماء نفس يجادلوننا؟ أو علماء سياسة؟ أو علماء الحكمة؟ إن الله سنناً لا تتبدل ولا تتغير، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، فكذلك الزج بالبنات في الجامعات والكليات والمدارس الثانوية وغيرها من أجل الرغبة في الدينار والدرهم مآله معروف، ولن يفلح إلا من شاء الله، ونحن أتباع النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم نعلم بناتنا كيف يعبدن الله؟ كيف يعشن على ذكر الله؟ كيف يربين البنين والنبات على نور الله وهداية الله؟ كيف يسعدن أزواجهن في بيوتهم؟ لا نعلم من أجل الوظيفة، إذ الوظيفة عمل رسمي يُعطى صاحبه مالاً معيناً.آه لما بدأت الصحف تظهر عندنا، وخاصة صحيفة المدينة والبلاد والرياض، أخذوا يطالبون بحماس: إلى متى والبنت السعودية في دياجير من الظلام؟! لم لا تُفتح مدارس للبنات؟! فكتبت رسالة بعنوان: الإعلام بأن العزف والغناء حرام، وهم يضربون ضربتين، مرة: لمَ تبق بنات السعودية في الظلام، افتحوا لهن مدارس؟ لمَ تبق إذاعتنا محطمة مهجورة ما فيها امرأة تغني، ولا فيها صوت كذا؟ وفعلاً انتصروا، وذلك لأننا -كما علمتم- نمد أعناقنا إلى الأعداء، ما هناك روح إيمانية ولا بصيرة، فقلت: والله إن فتحتم لهن المدارس الابتدائية لتطالبون بالثانوية، وإذا انتقلتم إلى الثانوية والله لتطالبون بالجامعة، وقد تم هذا كله بالحرف الواحد، والآن والله لتطالبن بالوظيفة، وفعلاً بدءوا الآن يطالبون بتوظيف النساء! وإذا تململنا وتململ آباؤهن وقالوا: كيف تتوظف النساء؟! إن التعليم غير الوظيفة، وهذا لا ينفع، فيبعثون بهن بالليل إلى جامعات أوروبا ليتعلمن العلوم التي البلاد في حاجة إليها! لأجل أن نصل إلى الوظيفة لا إلى الله. وعلى كل حال معشر المستمعين والمستمعات! احفظوا بناتكم عن الفتن، وإن جعن وإن عطشن وإن عرين خير لهن من الخروج عن دائرة الآداب والأخلاق والعقيدة والإيمان والإسلام، وحتى لا تكون سبباً في الفتنة إذا ظهرت.وقد بلغنا اليوم أن الحكومة قللت من استقدام الخادمات، فحمدنا الله عز وجل على ذلك، والآن ما يجد إبراهيم أو عثمان خادمة، إذاً: فيقول لابنته: اجلسي، اتركي هذه المدرسة واشتغلي مع والدتك في البيت، إذ والله لو شغلنا بناتنا في بيوتنا ما احتجنا إلى خادمات جاهلات، وبعضهن فاسقات ساحرات مبطلات، وترتب على مجيئهن البلاء وما يغضب الجبار.ونعود فنقول: يجب على المؤمن أن يعرف المعروف الذي يأمر به، ويعرف المنكر الذي ينهى عنه، وليس شرطاً أن تعرف كل معروف حتى تأمر بالمعروف، أو تعرف كل منكر حتى تنهى عن المنكر، وإنما حسبك إن عرفت أن إقامة الصلاة فريضة الله، وواجب على كل مؤمن ومؤمنة، فإذا وجدت من أهملها أو أعرض عنها فمره بذلك، أو عرفت أن الغيبة هي ذكر إنسان غائب في مجلس، وتعريته ونقده، فإذا كنت في مجلس وسمعت من يؤذي مؤمناً فقل: يا إخواننا! لا تذكروا أحداً وهو غائب، إذ إن هذه غيبة محرمة، أيضاً في مرة من المرات مرت بك امرأة كاشفة عن محاسنها في بلاد الطهر كهذه -والحجاب قائم والحمد لله- فأمرها بستر وجهها ومحاسنها، لكن بالكلمة الطيبة، وقد كان عندنا أحد الطلاب وقد مات، فقد كان يقرب من تلك المرأة المتبرجة ويلتفت بعيداً عنها ويقول: يا أمة الله! غط وجهكِ، ويمشي ويبتسم، وهو بهذا قد أدى الواجب الذي عليه .إذاً: يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( بلغوا عني ولو آية )، فمن عرف آية، بمعنى: حفظ الفاتحة، ثم سمع أمياً يصلي وهو لا يحسن قراءة الفاتحة، فيجب أن يقول له: يا عبد الله! تعال أعلمك الفاتحة، ويخلو به في جانب المسجد ويعلمه.أيضاً لو دخل أحدكم إلى بيت صاحبه فوجد في التلفاز نساء يغنين ويرقصن، فيبين له أن هذا لا يجوز، أو وجد كلباً في حجرة صديقه، فيتغدون والكلب إلى جنبهم يلهث، ولا يعرف أن وجود هذا الكلب في هذا المكان حرام، فقل له: يا عبد الله! أبعد هذا الكلب، ضعه عند حراسة الباب أو عند الغنم، لا عندنا في الحجرة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ).كذلك إذا زرت أخاك ووجدت عنده مغنية تغني في التلفاز وامرأته وبناته يشاهدهن، فقل له: هذا ما ينبغي، فأنتم مسلمون، طهروا بيتكم، وكل ذلك بكلمة طيبة، وبالتالي يكون قد أديت الأمانة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر.والذي لا يعرف مسألة لا يجوز له أن يأمر وينهى بدون علم، بل لابد وأن يكون قد عرف المعروف معرفة حقيقية، وعرف المنكر معرفة حقيقية، وحينئذ يأمر وبالتي هي أحسن، وعندنا نظام رباني فاسمع: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، فادع يا عبد الله إلى ربك بالحكمة، والحكمة: وضع الشيء في موضعه، والموعظة الحسنة: هي التي ترغب العبد في فعل الخير أو تبغض إليه فعل الشر، فتذكره بالدار الآخرة وما فيها، وإن جادلك من جادل فجادله بالتي هي أحسن؛ لأنه لابد من الكلم الطيب المعسول كما يقولون حتى يصل إلى قلبه ويستفيد منه، فهل عرفتم من هم المفلحون الفائزون؟ أبعدهم الله عن النار وأدخلهم الجنة.

    نهي الله للمسلمين أن يسلكوا طريق أهل الكتاب في الفرقة والاختلاف في الدين
    وقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا [آل عمران:105]، وهذا نهي، فاسمعوا يا عباد الله! وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105] في الدنيا والآخرة. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا أي: تفرقوا بعدما كانوا أمة أصبحوا أمماً، بعدما كانوا جماعة أصبحوا جماعات، واختلفوا في: هذا حلال وهذا حرام، هذا حق وهذا باطل، وهؤلاء هم أهل الكتاب وبصورة خاصة اليهود والنصارى، وَأُوْلَئِكَ أي: البعداء، لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ لا يقدر قدره ولا يعرف حقيقته إلا الله تعالى.وهنا أذكركم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة )، اليهود كانوا قبل النصارى، ( وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاثين وسبعين فرقة )، رواه الترمذي وهو صحيح، وقال: هذا حديث صحيح، وفعلاً فقد وجدت ست فرق في أمة الإسلام، وهي: الحرورية والقدرية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية، وانقسمت كل فرقة إلى اثنتي عشرة فرقة، فيكون مجموع تلك الفرق كلها اثنتان وسبعون فرقة، والناجية هي الثالثة والسبعون.فأولى هذه الفرق: الحرورية، نسبة إلى حروراء مدينة بالكوفة أو بالبصرة، ثم بعد ذلك القدرية الذين يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، وثالثاً: الجهمية محرفوا صفات الله ومؤولوها، ورابعاً: المرجئة الذين ليس عندهم ذنب أبداً، وإنما كل شيء يغفره الله تعالى، وخامساً: الرافضة أو الشيعة، وأخيراً: الجبرية القائلون: بالجبر، فيقتل ويقول: أنا مجبور! ويسب أمه ويصفعها ويقول: أنا مجبور! وكل ذلك حتى يستبيح كل شيء، وكل هذه الفرق لو تتبعتها في كتبها تجدها. إذاً: ما هي الفرقة الناجية؟ بنو هاشم؟ بنو تميم؟ الفرقة الناجية هي التي عقائدها وعباداتها وآدابها وأخلاقها وقضاؤها وحكمها على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فعقيدتك كعقيدة رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وكل الصحابة، وصلاتك وعبادتك تؤديها كما كان الرسول يؤديها وأصحابه ومن بعدهم، وزكاتك وصيامك وآدابك وأخلاقك وسلوكك دائماً مأخوذ من رسول الله وأصحابه، فهذه هي الفرقة الناجية، ومن عداها ففي النار؛ لأن العبادة إذا أُديت كما شرع الله فإنها تزكي النفس البشرية وتطهرها، فإذا زكت نفس العبد قبله الله في دار السلام، والعبادات التي تتنافى مع عبادة الرسول وأصحابه بالزيادة والنقص، أو بالتقديم والتأخير، هذه العبادة فاشلة، ولا تزكي النفس، وإذا لم تزكُ نفس العبد فكيف يدخل الجنة؟! فهل ينقض الله حكمه؟ أو هل هناك قوة أقوى من قوة الله؟ وهل صدر حكم الله على البشرية بأن من زكى نفسه دخل الجنة، ومن دساها دخل النار؟ نعم، ونجد ذلك في قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فكن ابن من شئت، وعش في أي مكان شئت، إذا لم تزك نفسك -وأنت قادر على تزكيتها- فلن تفتح لك أبواب السماء، ولن تدخل الجنة مع الداخلين، وهذا حكم الله.وقد انتهت واندرست كل هذه الفرق والطوائف، إذ ما وجدت إلا للفرقة والتقسيم والضلال والعياذ بالله، وأنت مسلم أمرك الله بكذا، فقل: سمعاً وطاعة، أمرك الرسول بكذا، فقل: سمعاً وطاعة، نهاك الله ونهاك رسوله، فقل: سمعاً وطاعة، ولا تقل: أنا زيدي، أنا أباضي، أنا اثني عشري، بل لا تقل: أنا مالكي ولا شافعي ولا حنبلي، بل مد عنقك وقل: طاعة لله ورسوله.إذاً: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، ونحن قد جاءتنا البينات، فكتاب الله خالد والله حافظه، وسنة الرسول حفظها الله وهيأ لها رجالاً يحفظونها، ولم يبق عذر لأحد من المسلمين، بل ومن الكافرين، ومن طلب وجد، والذين خرجوا عن أمة الإسلام لمَ لا يسألون العلماء ويرجعون إلى دين الله؟ لمَ يبقوا متعصبين جماعات جماعات، يضحك عليهم الشيطان وأولياؤه؟ من أجل أن يستقلوا ويكونوا الدولة على المذهب! إنها فعلة يهودية، وقد مد المسلمون أعناقهم وقبلوا الفرقة وانهزموا أمام الطغيان والشر، وأبوا أن يُقبِلوا على الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #186
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (44)
    الحلقة (185)

    تفسير سورة آل عمران (49)


    الدنيا هي دار العمل، والآخرة هي دار الجزاء، فمن عمل في الدنيا الأعمال الصالحات، وقطع عمره في مرضاة الله، والعمل بأمره واجتناب نهيه جاء يوم القيامة أبيض الوجه، ودخل في رحمة الله عز وجل وجنته، وأما من أقام على المعاصي في الدنيا، ولم يأتمر بأمر الله عز وجل ورسوله، ولم ينته عن نهيهما فإنه يجيء يوم القيامة أسود الوجه، ويستحق سخط الله وعقابه.
    تابع تفسير قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت، الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) حقق اللهم لنا هذا الموعود، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.هذا وقد انتهى بنا الدرس من سورة آل عمران إلى هذه الآيات التي درسناها ليلتين متتاليتين، وها نحن في الليلة الثالثة، ولعل الله يوفقنا لختمها ونهايتها، وإليكم تلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتأملوا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] جعلنا الله منهم، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:105-109]. ‏

    وجوب إيجاد جماعة في الأمة لنشر دعوة الله في العالم

    أولاً: علمنا موقنين بأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل أزمنتها وعصورها لابد فيها من جماعة تغزو وتفتح، وتدعو وتنشر دعوة الله في العالم، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] الذي هو الإسلام، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104].وقلنا: يجب على كل أهل إقليم من أقاليم العالم الإسلامي أن يوجدوا هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونظرنا إلى واقعنا فوجدنا أمة الإسلام أعرضت إعراضاً كاملاً عن هذا الواجب إلا ما شاء الله، كالدولة السعودية التي أسسها المرحوم عبد العزيز، فما زالت هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائمة، وخصوم لا إله إلا الله يحاربونها في كل مكان، وإن حاربها اليهود والنصارى فلا عجب ولا غرابة؛ لأنهم لا يريدون أن نسعد وننجو، ولكن كون المحاربين لها من المسلمين فهذه التي لا تطاق.
    الأسس الأربعة لقيام الدولة الإسلامية
    قال تعالى: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] بلغوا: لا يحل لمن أقام دولة في أرض الإسلام، وادعى أنه استقل بشعبه، وأصبح يدير مملكته أو إقليمه أو سلطنته أو جمهوريته، لا يحل له ألا يوجد هيئات من أهل العلم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإن تكبر عن هذا، أو خاف وانهزم، فمآل دولته الخراب والسقوط والنهاية المرة، أحبوا أم كرهوا؛ لأن الله تعالى قال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] أي: حكمناهم وسوَّدناهم وأصبحوا حاكمين، أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].فهذا إخبار بما يجب أن يكون، فإذا مكنك الله يا فلان وأصبحت حاكماً تدير مملكة أو قطراً أو جمهورية أو سلطنة، إن لم تقم دولتك على هذه الأسس الأربعة، فالعاقبة لله، وسوف تذوق أنت وقومك مرارة الحياة وآلامها، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، ماذا يصنعون؟ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] إجباراً، إلزاماً، لا يحل لمواطن مهما علا شأنه أو نزل ألا يصلي في دولة الإسلام، والذي يتركها معرضاً عنها يستتاب ثلاثة أيام أو يقطع رأسه إلى جهنم، وأن تجبى الزكاة جباية نظامية إسلامية حتى صاع الشعير ورأس العنز؛ استجابة لأمر الله، أما أن نستبدل بها الضرائب الفادحة أو غير الفادحة، ونعرض عن جباية الزكاة، فمعناه: أننا أعرضنا عن الله وذكره، وتكبرنا عن الله وشرعه، قلنا هذا أو لم نقل.
    إيجاد هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة صمام أمان من العذاب
    ثالثاً: لابد كما كوَّنا هيئات الشرط والبوليس والدَرَك للأمن وتحقيقه، فيجب أن نكوِّن هيئات يأمر رجالها بالمعروف وينهون عن المنكر، فإن رفضنا فالزمام بيد الله، أما قال: وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41] أو عاقبة الأمور عند بريطانيا وفرنسا؟ سوف تنزل بهم المحنة.فإن قيل: يا شيخ! لمَ تقول هذا؟ فنقول على علم: أما أنزل الله بالمسلمين بلاء عظيماً؛ إذ سلط عليهم هولندا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا والبرتغال وأسبانيا، فأذلوهم وأهانوهم وسادوهم وتحكموا فيهم ونكلوا بهم؟ فعل الله هذا أو لا؟ خائفون؟ تجاملون؟ فعل أو لا؟ إي نعم، مع أن أجدادنا الذين تسلط عليهم كانوا أتقى منا اليوم، كان عندهم الحياء والمروءة والرجولة، ونساؤهم محتجبات، ومع هذا لما أعرضوا ضربهم الله.وأما اليوم بعد هذه النعم المتتالية يعرض المسلمون عن ربهم، فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، لا يقيمون صلاة ولا يجبون الزكاة! فأين ربنا؟ بالمرصاد: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14].إما أن يتوبوا قبل أن تدق الساعة، وإما والله سينزل بلاء ما عرفوه، مع أنهم في وضعيتهم هذه هم في بلاء، وليسوا في خير ولا في راحة ولا في سعادة، وإنما خبث وظلم وشر وفساد وتكالب.فهل عرفتم مضمون: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]؟ والجائزة: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] الناجون من العذاب، الفائزون بالنعيم المقيم لا غيرهم.
    التحذير من مشابهة الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات
    قال الله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ [آل عمران:105] البعداء، لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، ينهانا أن نكون كاليهود والنصارى في تفرقنا واختلافنا، ونزاعنا وصارعنا، ويعلمنا أن هذا الصنف من الناس لهم عذاب عظيم، حتى لا نتفرق ولا نختلف، فهل خِفنا مما خوفنا الله؟ الجواب: لا أبداً، أصبحنا أكثر من أهل الكتاب في الفرقة والخلاف، فعندنا ثلاثٌ وأربعون دولة، آلله أمر بهذا؟ أمة واحدة أم أمم؟ كم دستوراً -قانون- عندكم تحكمون به؟ عشرات، أين دستور الله: كتابه وسنة رسوله؟ على الرفوف في المكاتب، أما المحاكم فلا، هذه مقتضيات العذاب أو لا؟ والله لمقتضياته، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [يوسف:6]، يمهل ولا يهمل، على ذاك المنبر الشريف يخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المؤمنين فيقول: ( إن الله ليملي للظالم ) يزيد في أيامه وطغيانه وحياته، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102]، العواصم والحواضر، وليست جغرافية الملاحدة، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102] عاصمة كذا، وعاصمة كذا، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ [هود:102] شديد الألم، أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] فقل لهم: انتظروا.
    تفسير قوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه...)
    والآن مع قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، اذكروا يا عباد الله، يوم القيامة وساعة فصل القضاء، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] فتصبح وكأنها الأقمار المشرقة، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] فتصاب بالظلمة والسواد حتى كأنها الليل المظلم، وقطعاً سيتحقق هذا. ‏
    جزاء المبيضة وجوههم والمسودة وجوههم يوم القيامة
    يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] بين لنا ربنا جزاء المبيضة والمسودة وجوههم، فقال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران:106]، فيقال لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106]؟ ما لكم؟ ألستم كنتم بمؤمنين؟ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106]، فماذا يقولون في ساعة فصل القضاء؟ الاستفهام للتوبيخ والتأنيب والتعنيف والتقرير، وفيه إشارة إلى أن الذين يعبثون بدين الله ويستهزئون به، ويسخرون منه، ويعطلونه -وإن انتسبوا إلى الإسلام- فوالله لتسود وجوههم، وهذه فضيحة لهم.
    قول الإمام مالك في قول الله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه...)
    هذا مالك بن أنس إمام دار الهجرة، وإمام دار النبوة، يروى عنه في العتبية أنه قال: لا توجد آية في كتاب الله أشد على هذه الأمة من هذه الآية؛ لأنها لا تتناول اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، فلا يقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟ ثم هل كانوا مؤمنين؟! فهذا يتناول هذه الأمة.اسمع، قال: روى ابن القاسم -تلميذ مالك- عن مالك شيخه في العتبية -كتاب معروف- أنه قال: ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، قال مالك : إنما هذه الآية لأهل القبلة بدليل قوله: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106]، فهاتوا لنا علماء معاصرين يؤولون هذه الآية، ويقولون: إنها في المشركين واليهود والنصارى، لا، فاليهود والنصارى قد انتهى أمرهم، فهل يقال لـأبي جهل: أكفرت بعد إيمانك؟! هو لم يؤمن حتى يقال له ذلك، وهل يقال لابن غوريون أو لـستالين: أكفرت بعد إيمانك؟ هو كان كافراً، إنما يقال هذا لمن يدعون أنهم مسلمون، فلا إله إلا الله! والسر في ذلك: أن هذه العبادات، وهذه الأحكام والشرائع ضمنها الله كفالة، وهي أنها تكفل سعادة الدنيا والآخرة، وذلك إذا طبقت على الوجه المطلوب، لكن إذا وقفت الشريعة، وعطلت أحكامها -كما هو واقع العالم الإسلامي إلا ما استثنينا من هذه الرقعة- فهل إذا سُئلوا يقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم وإلا كيف عطلتم شريعتنا واسودت وجوهكم؟! لأنها فضيحة ربانية، كذلك أهل الأهواء الذين حرفوا عقيدة الإسلام، فزادوا ونقصوا وكذبوا وافتروا، وهم يدعون أنهم مسلمون، وإذا دعوناهم إلى الكتاب والسنة، إلى قال الله ورسوله، تأففوا وترفعوا، وقالوا: لنا معتقدنا ولكم معتقدكم، فهؤلاء أهل البدع المخطئة المفسقة، فآيات الله فيهم أن تسود وجوههم، ويقول لهم الرب وملائكته: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران:106]، تجحدون بالقول أو بالعمل؛ لأن هذه العبادات إذا لم تؤد على الوجه المطلوب فلا تزكي النفس ولا تطهرها، فإذا صليت الصلوات الخمس ولم تصليها كما صلاها الرسول وأصحابه، فوالله لن تولد لك الطاقة، ولن تنتج لك النور، وهات صلاتك واعرضها على فقيه رباني من أهل السنة وقل له: صلاتي صحيحة أم لا؟ يقول لك: صلاتك باطلة؛ لأنك نقصت فيها كذا، زدت فيها كذا، أخرجت منها كذا، فبطل مفعولها، وهذه هي الحقيقة، ولذلك لو عرفوا لأكبوا على كتاب الله وسنة رسوله يبكون، وطالبوا العالمين بأهل السنة أن بينوا لهم الطريق إلى الله، لا الكبر والعنترية والاعتزاز بالقبيلة وبالإقليم وبالدولة وبالمذهب وبكذا، وكأن لم يكونوا عبيد الله.فهذا مالك يقول: إن هذه الآية لأهل القبلة، وليست في المشركين والكافرين، وإنما لأهل القبلة الذين ينتسبون إلى الإسلام ويصلون إلى الكعبة، وذلك لقول الله تعالى لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106] وإلا فكيف اسودت وجوهكم؟!إذاً: فما الذي تستفيدونه؟ هو أن نحافظ -ما حيينا- على معتقدنا الرباني السليم، وعلى عباداتنا كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤديها ونحن موقنون، لا بدعة ولا ارتداد ولا انتكاس ولا باطل ولا.. ولا..، حتى نُبعث إن شاء الله وينزل بنا ماء من السماء فتبيض له وجوهنا فنصبح كالقمر.
    تفسير قوله تعالى: (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله ...)
    قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107]، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم. ففي رحمة الله ألا وهي الجنة ورضا الرحمن، خالدين فيها لا يموتون ولا يخرجون منها ولا يرحلون، إنها بشرى عظيمة، إذ إن هذه الآية تساوي الدنيا وما فيها.مرة ثانية: اذكروا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران:106]، بذنوبهم وآثامهم، بشركهم وكفرهم وعنادهم، بإعراضهم عن ذكر الله، مع انتسابهم إلى الإسلام والمسلمين، فهؤلاء يقول لهم الله بنفسه، بل ينزه نفسه أن يكلمهم، فملائكته تكلمهم وتقول لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران:106]، ويساقون إلى جهنم كما تُساق الإبل. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107]، لا يسألون ولا يستنطقون أبداً، فما إن ابيضت وجوههم إلا وقد عرفوا أنهم إلى دار السلام إلى الجنة.
    تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق...)
    وأخيراً: يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [آل عمران:108]، هذه التي سمعتم آيات الله وعلاماته الدالة على وجوده رباً وإلهاً عليماً حكيما قوياً قديراً تغلل علمه في كل شيء، قدرته لا يعجزها شيء، آية تدل على وجود الله وعلمه وقدرته ورحمته وحكمته، وتدل على نبوة محمد ورسالته، إذ لو لم يكن رسوله لما أنزل عليه هذا القرآن، ولما أوحى إليه هذا الهدى وهذا البيان، تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [آل عمران:108]، ينزل بها جبريل بأمر الله تعالى، وجبريل يقرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ [آل عمران:108]، بشرى، حاشا لله أن يريد الظلم للعالمين، إنسهم وجنهم، أبيضهم وأسودهم، أولهم وآخرهم، والله ما يريد الله الظلم لأحد، فهو منزه عن الظلم؛ لأن الظلم من شأن العجزة والضعفة والمحتاجين، فهم يظلمون من أجل أن يُكمِّلوا حالهم، أما الغني عما سواه فكيف يظلم؟! وأي داعٍ للظلم؟! إنما الذي يظلم هو العاجز الضعيف، يريد أن يُكمِّل قوته، وأن يزيد فيها، أما القوي الكامل فكيف يظلم؟! إذاً: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ [آل عمران:108]، بل يريد رحمتهم وهدايتهم وسعادتهم وكمالهم؛ لهذا أنزل كتابه، وبعث رسوله، وبين هذا البيان، وفصل هذا التفصيل.
    تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض...)
    وأخيراً يأتي هذا التعقيب: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:109]، من يقول: إلا الإقليم الفلاني لنا؟ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:109]، هل هناك من يقول: إلا القطر الفلاني فهو لنا، إلا الحكم فهو لنا، أين ستالين ولينين وجماعة موسكو؟ في جهنم، وأين تلك العنجهية والعنترية والتعالي؟ انتهوا، مائة سنة من هذه الليلة لم يبق منهم كلب ولا خنزير، إذ إن كل ما في السموات وما في الأرض للباقي الخالد، أما الذي يفنى ويزول ويذهب، أسوأ أحواله هل يملك شيئاً فيقال: له كذا وكذا.
    طلب الحوائج من الله
    قوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:109]، إذاً: يا فقراء، اطلبوا من هذا الغني، تريدون عزة وسلطان ودولة اطلبوها من الله، فهو يقول لكم: طبقوا شريعتنا، امشوا على منهجنا، تكملون وتسعدون، لكن لا نريد سعادة ولا كمال، وإنما نريد الخبث والظلم والهزؤ والسخرية! إذاً: ابقوا كما أنتم. إن هذا الإعلان عجيب، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:109]، يا طلاب الدولة! يا طلاب الرئاسة! يا طلاب المال! يا طلاب العزة! يا طلاب الطهر! يا طلاب الصفاء! يا محتاجون إلى أي شيء، اطلبوه من الله، أو هناك آخر نطلبه منه؟ ليس هناك من يملك إلا هو، فالله ملكاً أبدياً ما في السموات وما في الأرض، فكل من أراد سعادة في الدنيا وفي الآخرة فيطلبها من الله، أما أن يطلبها من الشياطين بالحيل والمكر والخديعة والخبث والنتن والعفونة والله ما ظفر بشيء، ومآله الخسران الأبدي.أردت أن تتزوج، عليك برب الأرباب، قم آخر كل ليلة وصل ركعتين وابكي وقل: زوجني يا رب، والله يأتيك بها كحوراء، تريد عملاً تقتات منه وتسد حاجتك، اقرع باب الله، ما هو بالغش وبالحيلة والمكر والخديعة، وإنما اركع واسجد وابكي عاماً عامين يفتح لك الباب، تريد أن يرفع عنك الظلم وأنت مظلوم مهان فكذلك، وهكذا. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:109]، من كل شيء بيده، هو الذي بيديه، ممن نطلب هذا إذاً؟ نطلب من أمريكا؟ من فرنسا تقوينا؟ من أسبانيا تمدنا؟ اطلبوا من الله.
    كل الأمور مردها إلى الله سبحانه وتعالى
    وأخيراً: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:109]، مردها كلها إليه تعالى، فما بقي لنا إلا أن نقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علمونا محاب الله لنحبه، علمونا مكاره الله لنتركها، علمونا كيف نعبد ربنا من طريق رسولنا، بينوا لنا سنته؟ الجواب: تعالوا إلى بيوت ربكم يعلمكم، فإن رفضتم فلن تموتوا إلا بعداء أشقياء، وهي سنن الله التي لا تتبدل، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، وطلب الهداية من الله يهبها لمن طلبها، وطلب الغنى وعدم الحاجة من الله الله، فهو الذي يغني عبده، وهكذا، أما أن تستغني عن الله، أو لا تعلن احتياجك له، وتطلب حاجاتك من الشياطين والأهواء، فوالله لن تفلح، وإنما تتعب سبعين سنة ثم تتحطم؛ لأن الله قال: وَإِلَى اللَّهِ لا إلى غيره، تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:109]، كلها، أمور الدنيا والدين، أمور الدنيا والآخرة، قولوا: آمنا بالله.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات
    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ معنى الآيات: بعدما أمر الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بتقواه، والتمسك بدينه، ونهاهم عن الفرقة والاختلاف، وحضهم على ذكر نعمه؛ ليشكروها بطاعته، أمرهم في هذه الآية بأن يوجدوا من أنفسهم جماعة تدعو إلى الإسلام، وذلك بعرضه على الأمم والشعوب، ودعوتهم إلى الدخول فيه، كما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في ديار الإسلام وبين أهله، فقال تعالى مخاطباً إياهم: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] - ولتكن منكم أي: يجب أن تكون منكم طائفة يدعون إلى الخير، أي: الإسلام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر- وبشرهم بأن الأمة التي تنهض بهذا الواجب هي الفائزة بسعادة الدنيا والآخرة، فقال: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، الفائزون بالنجاة من العار والنار، وبدخول الجنة مع الأبرار.وفي الآيات (105) (106) (107) نهاهم أن يسلكوا طريق أهل الكتاب في التفرق في السياسة والاختلاف في الدين، فيهلكوا هلاكهم، فقال تعالى مخاطباً إياهم: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ، فلا ينبغي أن يكون العلم والمعرفة بشرائع الله سبباً في الفرقة والخلاف، وهما أداة الوحدة والائتلاف، وأعلمهم بجزاء المختلفين من أهل الكتاب؛ ليعتبروا فلا يختلفوا، فقال تعالى: وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، لا يقادر قدره ولا يعرف مداه، وأخبرهم عن موعد حلول هذا العذاب العظيم بهم، وأنه يوم القيامة حينما تبيضّ وجوه المؤمنين المؤتلفين القائمين على الكتاب والسنة، وتسودّ وجوه الكافرين المختلفين القائمين على البدع والأهواء، فقال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، وبيّن جزاء الفريقين فقال: فأما الذين اسودت وجوههم من سوء ما عاينوه من أهوال الموقف، وما أيقنوا أنهم صائرون إليه من عذاب النار ].لطيفة: اسودت وجوههم بسبب ماذا؟ قال: من سوء ما شاهدوا من أهوال الموقف، وما أيقنوا أنهم صائرون إليه من عذاب النار، فلذلك اسودت وجوههم. قال: [ فيقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ، إذ هذه وجوه من تلك حالهم، فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران:106] بالله وشرائعه.وأما الذين ابيضت وجوههم فلم يطل في الهول موقفهم حتى يدخلوا جنة ربهم، قال تعالى: فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107].وفي الآية (108) شرف الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بخطابه والوحي إليه، فقال: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [آل عمران:108]، أي: هذه الآيات المتضمنة للهدى والخير نقرأها عليك بالحق الثابت الذي لا مرية فيه، ولا شك يعتريه، فبلغها عنا وادع بها إلينا، فمن استجاب لك نجا ومن أعرض هلك، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ [آل عمران:108]، فلا يُعذب إلا بعد الإعلام والإنذار.وفي الآية الأخيرة (109) يخبر تعالى أنه له ملك السموات والأرض خلقاً وتصرفاً وتدبيراً، وأن مصير الأمور إليه، وسيجزي المحسن بالحسنى، والمسيء بالسُّوأى ].
    هداية الآيات
    قال: [ من هداية الآيات: أولاً: وجوب وجود طائفة من أمة الإسلام تدعو الأمم والشعوب إلى الإسلام، وتعرضه عليهم، وتقاتلهم إن قاتلوها عليه ].وقد بينا هذا وقلنا: لا بد من وجود إما الجهاد وإما لجنة عليا كما هي اليوم، وإن شاء سوف تسمعون بوجود لجنة عليا تكونت؛ لأنكم بلَّغتم، وتحدثتم بهذا في بيوتكم، وسوف تنقل إلى بعض الصالحين المسئولين فيكونونها. قال: [ ووجوب وجود هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مدن وقرى المسلمين.ثانياً: حرمة الفرقة بين المسلمين والاختلاف في دين الله ].فالذين يرفضون الوحدة والاتفاق على منهج الحق ملعونون هالكون، والذين ينادون: تعالوا، قال الله وقال رسوله ناجون والحمد لله.قال: [ ثالثاً: أهل البدع والأهواء يعرفون في عرصات القيامة باسوداد وجوههم.رابعاً: أهل السنة والجماعة وهم الذين يعيشون عقيدة وعبادة على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يعرفون يوم العرض بابيضاض وجوههم. خامساً: كرامة الرسول على ربه وتقرير نبوته، وشرف من آمن به واتبع ما جاء به.سادساً: مرد الأمور إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة، فيجب على عقلاء العباد أن يتخذوا لهم عند الله عهداً بالإيمان به وتوحيده في عبادته، بتحقيق لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ]. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #187
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (45)
    الحلقة (186)

    تفسير سورة آل عمران (5)


    زين الله عز وجل لعباده زينة الدنيا ومحاسنها وما فيها من النساء والأولاد والأموال فتنة لهم وامتحاناً واختباراً، وذلك حتى يأخذوا منها ما أباحه لهم، وما سمح لهم بأخذه والاستمتاع به، ويجتنبوا ما نهاهم عنه وحرمه عليهم من هذه النعم، ثم أخبرهم تعالى بأن ما أخذوا وما تركوا ما هو إلا متاع الحياة الدنيا والله عنده في الآخرة الجنة لعباده المؤمنين الصادقين.
    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ) . اللهم حقق رجاءنا يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين!وها نحن اليوم مع آية واحدة من كتاب الله، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]. وقبل أن نشرع في تدارس هذه الآية الكريمة نتذاكر ما علمناه بالأمس! تذكرون أننا عرفنا أن الذنوب هي بريد العذاب، إذ قال تعالى: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أخذهم الله فعذبهم أشد العذاب؛ بسبب ذنوبهم، فالذنوب بريد المهالك والمعاصي وبوابة الخسران والشقاء والعذاب.والذنوب: هي المعاصي، معصية الله في أمره أو نهيه ذنب، ومعصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره أو نهيه ذنب، فمن أمر ولم يفعل كمن نهي وفعل، كلاهما أذنب، فيؤاخذ بذنبه ما لم يتب ويتوب الله عليه.
    الإيمان والعمل الصالح هما سلم الصعود إلى الملكوت الأعلى
    من منكم يذكر لنا مراقي الصعود؟ ما هي المرقاة التي نخترق بها السموات السبع وننزل بالفردوس الأعلى؟الطلبة يخافون أو يستحون؟! الإيمان والعمل الصالح هما مرقاة الصعود إلى الملكوت الأعلى، وإن طلبتم بيان ذلك فأنتم عليمون به، فقد عرفتم حكم الله الذي صدر علينا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:9-10]، والله إذا حكم فلا معقب لحكمه، فهو الذي أخبر بنفسه في سورة الرعد فقال: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]!تأملوا! قول الله عز وجل من سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ، طاعة الله وطاعة الرسول أليست هي الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي؟! بلى.والطاعات: فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه، أمر بالإيمان والعمل الصالح، ونهى وحرم الشرك والمعاصي، اسمع لتشاهد هذه المرقاة: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]! كيف انتظم هؤلاء في سلك هذه المواكب في الملكوت الأعلى؟ ما هي المرقاة؟ ما هو السلم؟ ما هو البريد؟ إنها طاعة الله عز وجل، وطاعة الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم، واللفظ واضح كوضوح الشمس، ولفظ (من) من ألفاظ العموم، فكل من يطع الله والرسول سواء كان ذكراً أو أنثى، عربياً أو أعجمياً، فقيراً أو غنياً، شريفاً أو ضيعاً مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]!أين هم الذين أنعم الله عليهم؟ أين رسول الله؟ في الملكوت الأعلى.أين أرواح الشهداء؟ أين أرواح المؤمنين؟ في الفراديس العلى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]. اللهم اجعلنا منهم ووالدينا يا رب العالمين!
    إنعام الله على عباده الطائعين بنعمة الإيمان به
    هنا سؤال يُطرح على السامعين والسامعات: بماذا أنعم الله عليهم؟ بالأموال؟ بالذرية والأولاد؟ بالمناصب العالية؟ بالجاه والسلطان؟ نريد أن نعرف بماذا أنعم عليهم؟ من نسي فليقرأ سورة الفاتحة ويتدبر قول الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]، إذ أنعم عليهم بأربع نعم: الأولى: نعمة الإيمان بالله، وبما أمر الله أن نؤمن به ونصدق وإن كان وراء العقول -كما يقولون- فإذا قال تعالى شيئاً نؤمن بما قال، ونقول: آمنا!في ذات ليلة وهو صلى الله عليه وسلم جالس كالبدر وحوله الكواكب الزهر من أصحابه قطع الدرس وقال: (آمنت به، آمنت به ) وأخذ بلحيته الطاهرة ، فما هذا الذي أُمر الرسول أن يؤمن به على الفور؟ ( أوحى الله إليه أن رجلاً فيمن كان قبلنا من الأمم السابقة كان يركب بقرة ) فلاح.. مزارع ركب بقرة ( فقالت له: إنا لم نخلق لهذا ) فالبقرة للسقي والحرث وليست للركوب عليها، فلما كان هذا مما لا يعقل ما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: ( آمنت به ). لأنها رفعت رأسها إليه وقالت: ما لهذا خلقت! البقرة نطقت بلغة الرجل، ورفعت رأسها إلى الخلف وهو عليها وقالت: ما لهذا خلقت! فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( آمنت به، آمنت به )، وكان الشيخان غائبين عن المجلس فقال صلى الله عليه وسلم: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر ) ثقة في إيمان الرجلين!ومعنى هذا يا أبناء الإسلام! إذا أمر الله بالإيمان بشيء فسلموا وقولوا: آمنا به، سواء أدركتموه أو لم تدركوه فليس أمامك أيها المسلم إلا أن تقول: آمنت به!
    إنعام الله على عباده الطائعين بمعرفته سبحانه بأسمائه وصفاته وجلاله وكماله
    ثاني نعمة: معرفة الرحمن، معرفة الله، معرفة الله بأسمائه وصفاته، بجلاله وكماله، بآياته في الكون، بمخلوقاته؛ إذ ما من مخلوق إلا والله خالقه؛ فدل ذلك على واسع علمه وعظيم قدرته! من منكم يقول: أنا عرفت الله؟ من منكم يقول:أنا أنعم الله علي بمعرفته فعرفته؟ نحن نقول: عرفنا ربنا، فما هي البراهين على معرفتنا لله أو عدم ذلك؟ ما الدليل؟ اسمعوا وعوا! معرفة الله في القلب تثمر شيئين متى وجدا كانت المعرفة موجودة، ومتى انتفيا أو انتفى أحدهما فلا معرفة، وهما: حبه تعالى والخوف منه. من لم يخف الله والله ما عرفه! من لم يحب الله عز وجل والله ما عرفه! أنت الآن بفطرتك تحب من تسمع عن شجاعته.. عن كماله.. عن سخائه.. عن علمه.. عن طهره.. عن صفائه.. فتحبه لصفاته وليس شرطاً أن تراه أبداً، فكلنا يحب رسول الله لما له من صفات الجلال والكمال، وكلكم يحب علي بن أبي طالب ؛ لشجاعته.إذاً: من لم يحب الله ولم يخفه ما عرف الله!ومعرفة الله تثمر وتنتج للعارف شيئين ضروريين لحياته حتى يستقيم على منهج الحق وهما: حب الله، والخوف منه، فمن أحب الله عمل كل ما يحب في حدود طاقته، ومن خاف من الله هجر وهرب من كل ما يكره الله.
    إنعام الله على عباده الطائعين بتعريفهم محابه ومساخطه سبحانه
    النعمة الثالثة: معرفة محابه ومساخطه، معرفة ما يحب الله من الاعتقادات القلبية والأقوال والأعمال الذاتية، ومعرفة عكس ذلك وضده وهو ما يكره تعالى من الاعتقادات والأقوال السيئة والأعمال الفاسدة والصفات الذميمة، فلا بد من معرفة ما يحب الله حتى الكلمة الواحدة: (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، ولا بد من معرفة ما يكره الله حتى الكذبة. هذه هي النعمة الثالثة: معرفة ما يحب الله وما يكره، وإذا قلت لنا: كيف أعرف ذلك؟ يقال لك: اقرع أبواب العلماء واسألهم، اقرع كتابه وادرسه، امشي وراء رسوله وتتبع سيرته تجد ما يحب الله وما يكره، أما أن يوحي إليك وأنت في مزرعتك أو مصنعك فهذا مستحيل، والله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7] ، وهذا أمر، اسألوا! من نسأل يا رب؟ أهل الذكر. ما الذكر هذا؟ إنه القرآن: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1].وإذا لم نجد من نسأل ماذا نصنع؟ يجب أن نرحل ونركب بعيراً أو بهيمة أو طيارة أو باخرة حتى نجد الشخص الذي يعرف ما يحب ربنا وما يكره! قد تقول: يا شيخ هذا متعب، وهذا غير معقول؟ فأقول لك: ارحل من هذه القرية التي لا يوجد فيها من لا يعرف ما يحب الله وما يكره وانتقل، هاجر كما هاجر الأصحاب من مكة إلى المدينة؛ ليتعلموا الكتاب والحكمة! فإذا قلت: لا أستطيع! سأقول لك: كيف تستطيع أن تخترق سبع سموات وتنزل هناك؟ أهذه سهلة؟ مستحيلة هذه، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7]، فكل من لا يعلم يجب عليه أن يسأل حتى يعلم أحب أم كره، وبذلك يفترض أن لا يوجد بين المسلمين جاهل إلا من كان حديث عهد بالإسلام؛ إذ هذا نظام حياتهم، من لا يعلم يسأل حتى يعلم، ولا يشترط أبداً القلم ولا القرطاس، فإذا كنت تريد أن تأكل ولأول مرة فائت إلى عالم وقل له: كيف أتناول الطعام؟ سيقول لك: إذا وضع الطعام بين يديك فقل: (بسم الله)، وتناوله بيدك اليمني، ولا تأكل من حافة القصعة، وكل مما يليك فقط، وإذا أكلت فلا تشبع، بل كل بقدر ما تقيم صلبك وحياتك، ثم إذا ختمت فالعق أصابعك كما كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يلعق إن كان فيها إدام، ثم قل: (الحمد لله)، وبهذا تكون قد تعلمت كيف تأكل، فعلم امرأتك وأولادك ما تعلمته!
    إنعام الله على عباده الطائعين بنعمة التوفيق للعمل
    أخيراً: النعمة الرابعة: توفيق الله لك يا عالم أن تعمل بما علمت، إذ لو خذلك الله وما وفقك فستصبح كعلماء اليهود المغضوب عليهم!لم غضب الله عليهم؟ لأنهم علموا وأبوا أن يعملوا، آثروا الدنيا وأوساخها بعدما علموا فغضب الله عليهم، قال الله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، صراط المغضوب عليهم من اليهود لا نسلكه ولا نمشي عليه، وكذا صراط الضلال والجهال من النصارى، لا نمشي وراءهم! إذاً: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] أنعم الله عليهم بأربع نعم هي: أولاً: الإيمان؛ لأن هذه النعمة تطلب من الله، فكم وكم ممن طار في السماء وغاص في الماء ما آمن، فهذه نعمة تطلبها من الرحمن.ثانياً: معرفته عز وجل، وهذه تطلبها من الكتاب والسنة، وسؤال أهل العلم.ثالثاً: معرفة ما يحب وما يكره سبحانه، وهذه تطلبها من أهل العلم، وترحل من بلد إلى بلد لتظفر بها. وأما الأخيرة فنعمة التوفيق، فاطرح بين يدي الله وتململ بين يديه وأنت تبكي: رب زدني علماً! رب وفقني لما تحب وترضى! فيوفقك، ومن ثم -إن شاء الله- تجدون أنفسكم قد اخترقتم سبعة آلاف وخمسمائة عام، وما هي إلا لحظات فقط والشيخ على سرير الموت، وموكب من الملائكة -وليس ملكاً واحداً- فيسلم عليه ملك الموت: السلام عليكم، فلو كنت حاضراً لرأيت الابتسامة على وجهه وهو فرح، وتزف إليه البشرى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31]، الله أكبر! لأن هذا الميت آمن واستقام، ما اعوج ولا انحرف ولا زاغ، وواصل مسيرته! وروحه ما هي إلا لحظات وهي تحت العرش! وهنا قد يقول قائل: لحظات وهي تحت العرش يا شيخ؟ فأقول له: نعم، هذا فوق مستوى عقولنا، فقل: آمنت بالله! وقد صار أعظم من هذا، من بيت أم هانئ رضي الله عنها إلى بئر زمزم أجريت عملية جراحية لأول مرة في القلب، وغسل القلب وحشي بالإيمان والحكمة، وأسري به إلى بيت المقدس، ومن بيت المقدس إلى ما وراء دار السلام، وعاد صلى الله عليه وسلم. تقول أم هانئ : ما زال فراشه دافئاً ما برد!!
    تفسير قوله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين...)
    الآن مع قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، من المزين؟ إنه الله الذي زين لعباده الحسن الجميل، وذلك لحكم عالية. ‏
    معنى قوله تعالى: (زين للناس)
    ما معنى (زين)؟ هل أنت تحب الطعام وتحب الشراب أم لا؟ بلى، كيف تحب هذا؟ من جعل هذا الحب فيك؟ إنه الله، فهو الذي زين لك هذا! وأنت أيها الفحل تحب امرأتك وتأتيها ولولا التزيين الإلهي والله ما تنظر إلى ذلك المكان ولا ترضاه لنفسك، ولكنها غرائز غرزت وطبائع طبعت لحكم عالية، من أبسطها: لولا أن الله زين لك حب الطعام والشراب ما كنت لتعيش، ولو قلت: أنا لا آكل ولا أشرب -كما يفعل الغافلون في السجون فيضربون عن الطعام حتى الموت- فلا بد أنك ستموت. إذاً: زين الله لك هذا حتى تحيا وتمتد حياتك لتذكره وتشكره.ومن ذلك أيضاً: قضية إتيان الأنثى في تلك الصورة، فهذه والله لولا أن الله زينها ما أقبل عليها آدمي ولا عرفها. لِم زينها الله؟ للتناسل وتواجد بالبشرية لتذكر الله وتشكره، وهذا تدبير الحكيم العليم.إذاً: الله يزين هذه الأمور لعباده لحكم عالية، مع ملاحظة أن الله يزين الحسن، والشيطان يزين القبيح، فكن مع ما يزين الله الحكيم العليم، وإياك أن تكون مع ما يزين الشيطان الرجيم، فالشيطان لا يزين إلا القبيح، والله لا يزين إلا الحسن، وتزيين الله عز وجل لحكمة، وتزيين الشيطان أيضاً لحكمة، فيزين لك الخبائث والمحرمات من أجل أن تهلك معه، والقضية قديمة الجذور والأصل، فالشيطان -عليه لعائن الله- حسد أباكم آدم وتكبر، ومن ثم لما أبلسه الله وأيئسه من الخير وأصبح قانطاً آيساً لا يدخل دار السلام أبداً سأل الله عز وجل أن يطيل عمره إلى نهاية الحياة من أجل أن يزين لبني آدم المنكر والباطل، والشرك والكفر، والفسق والفجور؛ ليهلكوا معه ويصبحوا معه في دار البوار والعذاب والشقاء، كما أخبر الله تعالى عنه في كتابه فقال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، اللهم اجعلنا منهم! وقال: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّ هُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39]، فهيا نشرح الواقع: تزيين الطعام الحلال، والشراب الحلال، والنكاح الحلال حسن أم قبيح؟الجواب: حسن. وتزيين اللواط والزنا، وشرب الخمر والمسكرات حسن أم قبيح ؟الجواب: قبيح. فكل قبيح لا تفهم أن الله شرعه، أو أمر به ورغب فيه، وكل حسن تعرف أن الله أمر به وشرعه، فإبليس يزين القبيح، والرحمن جل جلاله يزين الحسن، ولذلك قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ [آل عمران:14]، فما قال (زينت) أو (زينا) بل قال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ [آل عمران:14] من بني آدم!
    الشهوات التي زينها الله عز وجل للإنسان
    قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ [آل عمران:14] فماذا زُين لهم؟ الجواب: زين لهم حب الشهوات، والشهوات جمع شهوة، بمعنى المشتهى، فمثلاً: حبة التفاح تنظر إليها فتشتهيها، فتلك هي الشهوة. ‏
    الأولى: شهوة النساء
    قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14]، من ينكر هذا من البشر؟ روسي؟ ياباني؟ من هذا؟ لا أحد ينكر هذا، فهذه غرائز غرزها الرحمن في بني آدم لحكم عالية، وقد قلت لكم: والله لولا أنه غرز هذه الشهوة ما اندفع الآدمي إليها أو حتى الحيوان وما توالدت البشرية، وما كان لها وجود.قوله: مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14]، النساء: واحده امرأة، وليس له مفرد، والنساء واحدة النساء، امرأة، ولا يخطر ببالك أنه مادام قد زين هذا فلتأته أنت مع من شئت من بنات ونساء المؤمنين بالعهر والزنا والفجور، لا ، بل انزع هذا من ذهنك؛ لأنه سبحانه زينه لحكمة وهي التناسل وكثرة البنين والبنات؛ ليعبد الله عز وجل، وليس لذات الغريزة والشهوة.إذاً: من زين له الشيطان الزنا أو اللواط فهذا التزيين للقبيح الذي هو أشد قبحاً، ودائماً نقول: ما أعرف! ما أقبح! ولا أبشع ولا أرخص ولا أذل ولا أنتن من يأتي الذكر الذكر، وقد بلغنا: أن في أوروبا أندية مخصصة للواط!! وذكر أن أحد أئمة الإسلام الأمويين، وهو عبد الملك بن مروان ناشر الدعوة وحامل رايتها زمناً، وقف على منبر دمشق يخطب الناس فحلف بالله: لولا أن الله تعالى أخبرنا عن قوم لوط ما كان يخطر ببالنا أن الذكر ينزو على الذكر. لا يخطر ببال العربي أن الرجل ينزو على الرجل أبداً.أما اليوم فقد وردني كتاب عند باب المسجد من مؤمن يبكي، يقول: إن أخاً له يأتي أخاً له في بيته، وقد قمنا بتأديبهما وضربنا وعذبنا وما استطاعا أن يتركا! لا حول ولا قوة إلا بالله! من أين تعلموا هذا؟ كيف وصلنا إلى هذا؟ لقد كان العرب حتى البغال لا يدخلونها بلادهم، ولا توجد في هذه الديار بغلة إلا الدلدل التي أهداها مقوقس مصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع مارية القبطية.لِماذا كان العرب لا يدخلون البغال ديارهم؟ لأن البغلة تتولد من إنزاء الحمار على الفرس، يسلطون الحمار على الفرس فتنتج بغلة. هذا العرب لا يعرفونه أبداً، ولا يستسيغون أن حماراً ينزو على فرس، مستحيل.. أبداً.وما عرفت هذه الجريرة وهذه الفاحشة - اللواط- إلا في خلافة عمر ، فقد ضبط الصحابة اثنين من العجم في البحرين ينزو أحدهما على الآخر، فاحتار الصحابة كيف يفعل بهما، فقال علي : نطلقهما من أعلى الجبل إلى الأرض، ونرميهم بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط.آه! هذه الجريرة تمارس في بيوت الإيمان؟! أتدرون من علمهم؟ إنه إبليس، أبو مرة! ما هي الآلات التي تقدم بها إليهم؟الجواب: إنه التلفاز، الفيديو، الصحن الهوائي، الدش، فتعلم الأولاد العهر والفجور مما يشاهدون! آه.. أين الإيمان والمؤمنون، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )؟! وإذا رحلت الملائكة من يحل محلها؟! تحل محلها الشياطين. والشياطين ما مهمتها؟ تزيين القبائح. ائتوني بسياسي يتكلم معي، يقول: هذه رجعية وتخلف،سأقول له: يا هذا! أتحداك أن تعدد لي النتائج المباركة الطيبة التي نمت بيننا عندما أدخلنا هذه الآلات في بيوتنا! هل كثرت الأموال؟ ولا ما استفدنا منها ريالاً واحداً! هل أصبحنا شجعان؟ لا والله فقد عبث بنا أذل الخلق من اليهود! فما الذي تحقق؟ لا شيء.إذاً: أيها العاقل الرشيد، نحن نظام حياتنا لا نقول الكلمة إلا إذا عرفنا أنها تنتج خيراً، ولا نتحرك حركة يميناً ولا شمالاً إلا إذا علمنا إذن الله بها، وأنها تنتج خيراً، فكيف نطرد الملائكة من بيوتنا؟ وكيف هجرنا بيوت الرب وتركناها ثم طردنا الملائكة حتى من بيوتنا؟ هل بعد هذا نستطيع أن نعيش طاهرين؟ كيف نطهر؟ هل ماتت الشياطين أو أعلنوا عن هزيمتهم؟! لا والله، وكنا الأمة تخلت عن دينها!وإن فرضنا أنك سياسي، ولابد وأن تطلع على أحداث العالم ولم تنفعك الصحف فاجعل التلفاز في غرفتك أيها الفحل، واضبط أوقات النشرة أو أوقات العرض وادخل وأغلق الباب عليك في الغرفة، ووالله لو تجعله في المرحاض لكان أفضل! وانظر ذاك واسمع الأخبار وما جرى في الحادثة وأغلقه واخرج.قد يقول قائل: لِم هذا يا شيخ؟ فأقول: لأننا عرفنا أنفسنا، هبطنا وما ارتفعنا، ماذا أفادنا هذا؟ زادنا بلاء ومحنة فقط.
    الثانية: حب البنين
    قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ [آل عمران:14]، والبنات! أيضاً؟ لا.. لا، البنين فقط، ولو قال: (والأولاد) لدخل في ذلك البنات، فهن مولودات، لكنه قال (والبنين)، وأهل هذه الديار، أهل المروءات قديماً كان إذا بشر أحدهم بأنه ولدت له بنت يظل في كرب ويسود وجهه، ويستحي أن يلتقي مع الناس: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:58-59].عمر رضي الله عنه فعلها قبل أن يسلم! ولدت له بنت في مكة فدفنها حية، حفر لها وأخذت تمسح التراب من لحيته، ودسها، وبكى على هذه في الإسلام! مغفور لك يا ابن الخطاب ، فهذا كان في عهد الجاهلية غير عهد الإيمان والإسلام.إذاً: قال: (والبنين) ليكونوا فيلقاً تمر بهم بين الرجال ليحموك، ليحوطوك بالحماية، ولهذا تحبهم!أما الآن فيحبونهم حب شهوة فقط، لأنهم ما ينفعون، أو من أجل الراتب فقط! من فعل بنا هذا؟ إنه الثالوث الأسود، خصوم لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ المجوس، واليهود، والنصارى، ومددنا أعناقنا وساقونا إلى المهاوي والمهالك وما شعرنا بعد.إذاً: حب البنين لأنهم يجاهدون ويقاتلون وينشرون دعوة الله ويبنون ويصنعون، ويسافرون ويتجرون ويربحون، أما البنات فلو قال تعالى: (حب البنين والبنات) فسيقول أحدهم: لا.. لا، هذا ليس كلام الله، نحن لا نحب البنات، ولكن الله قال: (والبنين).
    الثالثة: حب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة
    قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ [آل عمران:14] مقنطرة، أي: بعضها فوق بعض، والقنطار: ألف أوقية ومائة، والأوقية معروفة عند الناس، وهم يحبون القناطير- أي: الكثرة- لأنها غريزة مطبوعة في النفس. وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران:14]، وقدم الذهب على الفضة لأنه أرقى.لِم قلوب البشرية متعلقة بالذهب؟ لأن الذهب أجمل من الزبدة، وأحلى من العسل، وأطيب من اللبن! أسألكم بالله! من ربط القلوب الآدمية بهذه الطينة؟ لا إله إلا الله، آمنت بالله! هل جاء زمان أو وقت كره الناس فيه الذهب والفضة؟ لا، ولهل واهم يقول: لعلها أيام الشيوعية، فأقول: لا، فقد ربط الله قلوبهم بهذه لينتظم الكون وتنتظم الحياة إلى نهايتها، آمنت بالله.
    الرابعة: حب الخيل المسومة
    قال تعالى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آل عمران:14]، وهذه شُغلنا عنها بوجود السيارات، وقد كان للخيل قبا وجود السيارات أهمية كبيرة فالذي لا يملك فرساً لا قيمة له، وقد كانت الأمة تجاهد على أرجلها وعلى خيولها، وفرسانها يركبون الخيول سواء العرب أو العجم، الدنيا كلها، والآن هبطت الخيول لوجود السيارات فقط، ومع هذا ما زالت محترمة، وإذا جاء في يوم من الأيام وانتهت المادة وانقطعت السيارات سنعود إليها من جديد، فهي محفوظة، ولعل أحدكم لو يهدى إليه فرس لفرح به مع أنه ليس في حاجة إليه، ولكنه فرس موسوم جميل، فتبيت ليلتك تحمد الله وتشكره إن كنت مؤمناً.
    الخامسة: الأنعام
    قال: وَالأَنْعَامِ [آل عمران:14]. ما هي الأنعام؟ في ثلاثة أصناف من الحيوان: الإبل، والبقر، والغنم، والغنم منها الماعز، ومنها الضأن، مزينة لأهلها، يحبونها.
    السادسة: الحرث
    وجاء الختم الإلهي، فقال: وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] . (الحرث) يدخل فيه كل المزارع والحقول من إنبات الحبوب إلى نبات الورود والرياحين، ولو تهدى إليك الآن حديقة لطرت بها فرحاً! من غرز هذا فينا؟ إنه الخلاق العليم؛ من أجل أن تنتظم الحياة وتسير إلى نهايتها.
    معنى قوله تعالى: (ذلك متاع الحياة الدنيا)
    قال: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] أيها المستمعون وأيتها المستمعات! (ذلك) المزين لكم المذكور في الآية من حب النساء والبنين والقناطير من الذهب والفضة والحرث مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14].والمتاع: ما يتمتع به ويزول، لما تسافر تأخذ معك زنبيلاً فيه الخبز والتمر، فتأكله ولا يبقى منه شيء، فتحمل معك ما يكفيك في سفرك. هذا هو المتاع.(الحياة الدنيا) أي: القريبة. فتترك متاعها وترحل، ولنقرأ آية سورة الكهف: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]، فهذا المتاع في الحياة الدنيا زينه الله للابتلاء والاختبار والامتحان، وهو زائل ومنتهٍ، (لنبلوهم) من يأخذ بما أحل الله، ويتخلى عما حرم الله، ومن ينغمس فيما حرم الله فتتمزق نفسه وتخبث وتصبح كأرواح الشياطين.

    معنى قوله تعالى: (والله عنده حسن المآب)

    قال: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، أرأيت هذا الختم الإلهي؟ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] والآخرة عند من؟ عند الله حسن المرجع والمآب.ومعنى هذا: يا عباد الله! يا أولياء الله! خذوا من دنياكم ما حل لكم وطاب، وميلوا إلى التقتير والتقليل؛ لأن آمالكم في السماء وليست في الأرض؛ لأن: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]! إذاً: اذكروا ما عند الله، فإنه يصرفكم عما حرم الله. وَاللَّهُ عِنْدَهُ [آل عمران:14] ماذا؟ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14] أي المرجع في الجنة دار السلام، دار النعيم المقيم.
    الحكمة من تزيين هذه الشهوات للإنسان
    عرفتم هذا؟ ما هي النتيجة الطيبة؟النتيجة: عرفنا أن هذا المحبوب المزين زينه خالقه للفتنة وللاختبار والامتحان، فلنأخذ منه ما أذن لنا فيه وسمح به لنا، ونتجنب ما نهي عنه وحرم علينا؛ لأننا ممتحنون، فإن نحن كابدنا فقراً.. كابدنا تعباً ومشقة، فلنصبر ولنعلم أن وراء ذلك: النعيم المقيم، الذي لا حد له ولا حصر، وإليكم كلمات الحبيب صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ) هذا الكلام الحكيم من أستاذ الحكمة ومعلمها، ( حفت الجنة بالمكاره ) فإذا أنت لم تغامر وتتقوى وتمزق تلك المخاوف وتقبل على عبادة الله لن تدخل الجنة، فالجنة محفوفة بما تكره النفس! آه.. الصيام! كيف نترك الطعام والشراب؟ كيف نترك كذا، محفوفة بما تكره النفس.. الزنا حرام، ما تزوجنا كيف نصبر ليلاً ونهاراً الأعوام والسنين؟ إذاً: حفت الجنة بالمكاره. تقول: كيف هذا الحج؟ أمشي على رجليّ وأنا في الأندلس؟ كيف أصنع؟ الاعتراف بالحق! لو صفعك مؤمن فقل: سامحتك! تجوع وتعطش ولا تمد يدك إلى مال غيرك لتسرقه! هذه المكاره تحوط بالجنة، فإن أنت اجتزتها وتجاوزتها دخلت دار السلام! ( حفت الجنة بالمكاره ) كحمل راية الجهاد مع إمام المسلمين، لابد للشبان والكهول أن يخرجوا إلا مريض، أو عاجز، وهذا تكرهه النفس! أصحاب الأموال أيها المؤمنون من عنده فضل عن قوته فليضعه غداً في صندوق الجهاد، تجد نفسك مضطر لابد وأن تخرج. قال: ( وحفت النار بالشهوات )، شهوات الربا، الزنا، الغش، اللهو، الباطل، الخداع، عقوق الوالدين، سب المؤمنين وتكفيرهم، كل هذه محاطة بالنار حتى يدخلها، ويقول فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، يقول: ( اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء )، هذا كلام أستاذ الحكمة ومعلمها، اسمع ما يقول لنا يا عبد الرحمن!يقول: (اتقوا الدنيا) كيف نتقيها؟ نجعل بيننا وبينها وقاية فلا ننغمس في أوضارها وأوساخها، ولا نتكالب عليها، بل نأخذ منها الزاد فقط للوصول إلى القبر. لم ننغمس في الأموال فنصبح في أسوأ الأحوال؟ أنت موظف، فاكتف بوظيفتك ولا تفتح دكاناً، أنصحك!يا عبد الله ! أنت في خير وعافية فلا تفتح باب شر عليك، وتبدأ تتطلع ماذا فعلنا، وماذا ربحنا! قال: ( اتقوا الدنيا ) أي: انتبهوا! خافوها واحذروها بأن لا تقعوا في أحضانها فتهلككم ( واتقوا النساء ). كيف نتقي النساء يا رسول الله؟ تخاف من فتنتهن، فإذا مرت امرأة كأنها حية أو ثعبان، فأغمض عينيك واهرب ( فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ). بنو إسرائيل.. أبناء الأنبياء قادوا العالم بطهرهم وصفائهم، حتى بدأت فتنتهم بالكعب العالي فهبطوا! الزائرون لا يعرفون الكعب العالي، اذهبوا إلى أسواق المدينة يعلموكم ما هو الكعب العالي، حذاء كعبه رقيق إذا لبسته المرأة تصبح تتمايل، الشيطان يجعلها تتمايل هكذا.. وهذا الكعب العالي من سنة اليهود.وهذه الصديقة رضي الله عنها رأت بعض نساء المؤمنات تخرج وهي متزينة، فقالت: أو تردن أن ينزل القرآن فيكن كما نزل في بني إسرائيل. والشاهد عندنا: أن فتنتهم كانت بالنساء وإلى الآن فتنتنا في النساء. إذاً: علموا بناتكم ست سنين في المدرسة الابتدائية، وإذا تعلمن كيف يعبدن الله ويتقينه، فاحجبوهن في البيت يخدمن أمهاتهن، ويساعدن على تربية الصغار، ويتهيأن للأنوار؛ فيتزوجن وينجبن البنين والبنات. أما أنك تعلمهن للمستقبل، مستقبلك يا ابنتي! وهي تقول: مستقبلي يا بابا! ثم يتقدمون لخطبتها في الثامنة عشر فتقول لهم: لا، مشغولة، وفي الخامسة والعشرين فتقول: لا، حتى تأخذ شهادة الجامعة وتتخرج، وبعد ذلك تبحث عن وظيفة، والشيطان يوسوس لها، ويوجد لها وظيفة وتنتهي حياتها ولا تستفيد منها شيء، فلا وألف لا.إذاً: فتنتنا بدأت وكانت من النساء كفتنة بني إسرائيل، ولو أن النساء طاهرات صالحات ربانيات -والله- لأسعدن الفحول والرجال، لكن ما دمن شهوانيات راغبات في المال والمتعة والتمتع بالحياة فسيعكرن الحياة على أزواجهن.على كل حال: عمر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال: الآن يا رب. أي: ما دمت زينت لنا هذه فمن الآن، فأنزل الله تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15].. وهذا هو درس أو آية غد إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #188
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (46)
    الحلقة (187)

    تفسير سورة آل عمران (50)


    لما أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا، وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون إلى الإسلام ويحملون هم تبليغه، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا، ذكرهم سبحانه وتعالى بخير عظيم وهو أنه جعلهم خير أمة أخرجت للناس، وامتن عليهم بأن وقاهم من كيد أعدائهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا، بل وسلط عليهم المؤمنين وغضب عليهم بما كانوا يفسقون.
    تفسير قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس...)
    إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة من يوم السبت والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع، وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا هذا الموعود، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس في سورة آل عمران عليهم السلام إلى هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران:110-112].معاشر المؤمنين والمؤمنات! يقول تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، هذا خبر من أخبار الله التي لا يتطرق إليها غير الصدق، فيخبر تعالى مبشراً مهنئاً هذه الأمة بأنها خير أمة أخرجها الله للناس، إذ ما وجدت على وجه الأرض أمة سمت ووصلت إلى ما وصلت إليه هذه الأمة الإسلامية في الخير وعلو الدرجات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. كُنْتُمْ [آل عمران:110]، أي: وجدتم، خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، والمخرج لها هو الله عز وجل، و(الناس): لفظ يشمل البشرية كلها، عربها وعجمها، أولها وآخرها على حد سواء.ثم بين وجه الخيرية، وكيف اكتسبناها وظفرنا بها وحصلنا عليها، فقال تعالى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، أي: لما أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا، وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون إلى الإسلام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا، ذكَرهم بخير عظيم، وبشر وأعلن عن خيريتهم وأفضليتهم فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].وفي هذا إجمال، وقد بينا (المعروف) الذي تأمر به هذه الأمة ألا وهو شرع الله عز وجل، وما عرفه الله من خير، فيدخل فيه الإسلام وكل شرائعه، إذ ما شرع الله لعباده إلا خيراً، و(المنكر) الذي ينهون عنه يشمل الكفر والشرك، وكل ما كره الله وأبغضه وحرمه ونهى عنه، سواء من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات والذوات. وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، ولازم إيمانهم بالله أنهم آمنوا بكل ما أمرهم الله أن يؤمنوا به، كالملائكة والكتب والرسل والبعث والجزاء، وكل غيب من الغيوب التي أخبر الله عنها وأمر بالإيمان بها، فلا تفهمن من قول الله تعالى: وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]: لا تؤمنون بغير الله، بل تؤمنون بالله وبكل ما أمرنا الله أن نؤمن به، سواء كان من عالم الغيب أو الشهادة، فإذا أمر الله بأن نصدق بكذا وجب على المؤمن أن يصدق.وأركان الإيمان الستة قد بينها جبريل عليه السلام، ونحن والحمد الله على علم بها، ومع ذلك إذا صح الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا بأن نصدق بحادثة معينة وجب الإيمان بها، ولا قيمة لعقولنا حتى ترفض أو تقبل، فكيف إذا أخبر الله تعالى؟!
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات
    قال: [ لما أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا، وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون إلى الإسلام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا، ذكرهم بخير عظيم فقال لهم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كنتم خير الناس للناس ) ] وهذا حديث صحيح، فكيف حالنا اليوم؟ هل نحن خير الناس للناس؟ ما قدمنا للناس شيئاً، بل غرقناهم في الباطل والمنكر، هبطنا فائتسوا بنا وسلكوا سبيلنا، فهذا عمر رضي الله عنه عام حجه وهو خليفة للمسلمين رأى في الناس دعة وقعوداً، فقرأ هذه الآية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، ثم قال: من سره وأفرحه وأثلج صدره أن يكون في هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها، أي: من سره أيها المؤمنون! أن يكون في هذه الأمة الممدوحة المعلن عن كمالها فليؤد شرط الله فيها، وشرط الله فيها: الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك لما كنا نجاهد ونغزو ونفتح ونعلن عن كلمة لا إله إلا الله والبشرية تدخل فيها، وتجلى للبشرية صدقنا وعدلنا ورحمتنا وإحساننا وكمالاتنا، انجذبوا إلى الإسلام ودخلوا فيه.لكن لما وقفنا وهبطنا الآن أصبحوا لا يقبلون الإسلام؛ إذ لم يشاهدوا أنواره ولا آثاره بين المسلمين، فهل نبقى هكذا أو نحاول أن نعود إلى ما كنا؟ الواجب أن نحاول، والطريق الذي ما زلنا لا نعدله هو أن نخلص قلوبنا ووجوهنا لله، ونطرح بين يدي الله نبكي في بيوته بنسائنا ورجالنا، ونتلقى الكتاب والحكمة، وما هي والله إلا فترة قصيرة ونحن أولئك الذين أسوة للبشرية في الكمال البشري، ومن غير هذا الطريق فلا عصا تنفع ولا سحر يؤتَّى.قال: [ كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كنتم خير الناس للناس )، ووصفهم بما كانوا به خير أمة فقال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمران:110]، وهو الإسلام وشرائع الهدى التي جاء بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، وهو الكفر والشرك وكبائر الإثم والفواحش، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وبما يتضمنه الإيمان بالله من الإيمان بكل ما أمر تعالى بالإيمان به، من الملائكة والكتب والرسل والبعث الآخر والقدر.ثم دعا تعالى أهل الكتاب إلى الإيمان الصحيح المنجي من عذاب الله فقال عز وجل: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ [آل عمران:110]، بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من الإسلام، لكان خيراً لهم من دعوى الإيمان الكاذبة التي يدعونها ] أي: ولو آمن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لكان خيراً لهم من هذه الدعاوى الفارغة، وأنهم يدعون إلى اليهودية والصليبية، إذ كل ذلك من الدعاوى الباطلة، فهذا الله عز وجل الحكيم العليم يقول لهم: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ [آل عمران:110]، بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به عن الله من هذه الشرائع والعبادات والقوانين، لكان خيراً لهم مما هم عليه من دعوى أنهم يؤمنون، وأنهم موقنون، وهو كله كذب وباطل. قال: [ وأخبر تعالى عنهم بأن منهم المؤمنين الصادقين في إيمانهم ]، أي: من اليهود، وقد دخل من النصارى ملايين والآيات تنزل بالمدينة.قال: [ وذلك كـعبد الله بن سلام وأخيه، وثعلبة بن سعيد وأخيه ]، وهؤلاء من يهود وعلماء المدينة الذين آمنوا [ وأكثرهم الفاسقون الذين لم يعملوا بما جاء في كتابهم من العقائد والشرائع، ومن ذلك أمر الله تعالى بالإيمان بالنبي الأمي، واتباعه على ما يجيء به من الإسلام ] وهذا عندهم في كتابهم، فلمَ لم يؤمنوا به؟ قد عرفوه وأنكروه وجحدوه وتنكروا له، وذلك للحفاظ على اليهودية الملعونة المزعومة، وحتى لا يذوبوا في روح الإسلام. قال: [ ثم أخبر تعالى أن فساق أهل الكتاب لن يضروهم إلا أذى يسيراً، كإسماعهم الباطل، وقولهم الكذب، وأنهم لو قاتلوهم ينهزمون أمامهم، مولينهم ظهورهم، فارين من القتال هاربين، ثم لا ينصرون على المسلمين في أي قتال يقع بين الجانبين ] وهذا ما أخبر به الله تعالى في الآية الثانية إذ قال: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران:111]، أي: مجرد أذىً فقط باللسان، كالمهاترات والكذب، وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ [آل عمران:111]، في يوم ما، يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ [آل عمران:111]، أي: يعطوكم ظهورهم وأدبارهم ولن يقفوا أمامكم، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [آل عمران:111]، وهذه بشرى للمسلمين وقد حصل ذلك، وهو الواقع. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112]، وهذا في اليهود، والضرب كطبع وختم، والذي ضربها عليهم وألصقها بهم هو الله خالقهم، ذلك لأنهم كفروا به وبما بعث به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، بل ولقتلهم الأنبياء والعلماء، ولارتكابهم جرائم لا حد لها، فقد أهانهم الله وأذلهم فضرب عليهم الذلة. أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112]، أي: حيثما وجدوا في العالم، وصدق الله العظيم، إذ حيثما وجد اليهودي في العالم فهو أذل من الذليل إلى أن ارتبطوا بأوروبا وأمريكا كما يأتي في الآية الكريمة، إذ قال تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، فإذا ارتبطوا بالله ودخلوا في دينه، رفع ذلك الذل وأصبح اليهود من أعز الناس وأكرمهم، أو ارتبطوا بمعاهدة مع دولة عظيمة كما ارتبطوا أولاً ببريطانيا التي رفعتهم وسادوا أوروبا، ثم أمريكا، فهم أعزة ونحن الأذلة. إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وهذه الآية مخصصة لعموم آية الأعراف وهي قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ [الأعراف:167]، يا رسول الله، لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167]، فهذه الآية في سورة مكية، وهذه السورة -آل عمران- مدنية.فاسمع إلى قول الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ، أي: أعلن، لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ [الأعراف:167]، أي: اليهود، لَيَبْعَثَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167]، وهذا عام خصص بهذه الآية التي نزلت بعدها من سورة آل عمران، إذ قال تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وذلك حتى لا تفهم أن قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167]، أنهم إذا أسلموا يبقى العذاب عليهم، لا أبداً، بل إذا ارتبطوا بدولة أو معاهدة قوية فإنه يرفع العذاب عنهم، لكن إذا لم هناك إسلام ولا معاهدة فيبقون أذلة، بل أذل من الحيوانات، وقد عرف هذا البشر كلهم، إذ ليس هناك أذل من اليهودي؛ لأنهم أصحاب مكر وخداع وغش وكذب، مع أنهم أقلية لا يساوون أي شعب من الشعوب، لكن فتح الله تعالى لهم الباب إذا أرادوا أن يخلصوا فقال: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]. إذاً: ضرب الله تعالى على اليهود الذلة والمسكنة أينما ثقفوا وفي أي البلاد وجدوا، ولن تفارقهم الذلة والمسكنة في حال من الأحوال إلا في حال دخولهم الإسلام وهو حبل الله، أو معاهدة وارتباط بدولة قوية وذلك حبل الناس، وهذا علمه الله قبل أن يكون، وما كان النصارى يفرحون باليهود، إذ الثابت عنهم تاريخياً أن النصراني المسيحي لا يفتح عينيه في اليهودي، بل ينزه بصره أن ينظر إلى يهودي؛ بحجة أنه قاتل إلهه، فالذي يقتل ربك كيف تنظر إليه؟! لكن تم ما أخبر الله تعالى به واستطاعوا أن يحتالوا على البشرية، فكان أول ضربة ضربوها بأن أوجدوا المذهب البلشفي الشيوعي الأحمر، ووالله لهم صانعوه وناسجوا خيوطه، وهم الذين نشروه في العالم، وبذلك خف الضغط عليهم، واتسعت رقعة الأرض لهم، بل ورفعوا رؤوسهم، والآن ثلاثة أرباع المسيحيين بلاشفة، ومن ثم أصبح اليهودي يتعنتر في ألمانيا التي هي مخ الصليبية، وظهرت البلشفية الشيوعية، وساقت العالم، ووقع الذي وقع، وخف الضغط على اليهود، والآن لما أدت الشيوعية وظيفتها عوضوها بالعلمانية، فقالوا: كل شيء للعلم فقط لا للدين، وهكذا يعبثون بالبشرية، وهذا شأن الأمة إذا مدت أعناقها لعدوها. قال: [ كما أخبر تعالى في الآية (112) أنه تعالى ضرب عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا، وفي أي البلاد وجدوا، لن تفارقهم الذلة والمسكنة ] والمسكنة هي الفقر والحاجة والضعف.قال: [ إلا في حال دخولهم في الإسلام أولاً وهو حبل الله، أو معاهدة وارتباط بدولة قوية وذلك حبل الناس.كما أخبر تعالى عنهم أنهم رجعوا من عنادهم وكفرهم بغضب من الله ] أي: ذاك العناد والكفر الذي عاشوا عليه رجعوا خائبين، رجعوا بغضب من الله [ وما يستتبعه من عذاب في الدنيا بحالة الفاقة والفقر المعبر عنها بالمسكنة، وفي الآخرة بعذاب جهنم، كما ذكر تعالى علة عقوبتهم: وأنها الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير حق، وعصيانهم المستمر، واعتداؤهم الذي لا ينقطع، فقال تعالى: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ] أي: كتبنا عليهم تلك الذلة والمسكنة بسبب عصيانهم أولاً لله ورسله، وثانياً: باعتدائهم بقتلهم الأنبياء والعلماء، وارتكابهم الجرائم التي لا حد لها.يقول تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، أي: نحن إن شاء الله تعالى، فكل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويؤمن بالله وبما جاء عن الله فهو منهم، وكل من تخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتورط في الموبقات والجرائم هبط وانسل منهم؛ لأن التعليل واضح: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:110]، وهم أقلية كما علمتم، وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:110]، أي: المتوغلون في الفسق، والفسق: الخروج عن طاعة الله ورسوله، يقال: فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، وبالتالي كل من خرج عن دين الله فهو فاسق.ثم قال تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران:111]، أي: مجرد كلام يقولونه، أما أن يقاتلوا وينتصروا على المسلمين فلا، وقد وقع ذلك، فهل انتصر اليهود على العرب في حرب فلسطين؟ لو كان العرب هم المسلمون بحق، والفلسطينيون يشهدون بأن اليهودية إلى الآن أذل مخلوق، إذ ما يستطيع اليهودي أن يواجه مسلماً واحداً. وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ [آل عمران:111]، ما قال: وإذا قاتلوكم، وإنما قال: إن يقاتلوكم؛ لأن هذا نادر، أي: أن يقاتل اليهود المسلمين، لكن عندما هبطنا هذه الأيام في فلسطين فقط، فليس من المؤمل فيه أن اليهود يقاتلون المسلمين، قال: وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ [آل عمران:111]، من باب الفرض، فلن يضروكم أبداً، بل يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [آل عمران:111]. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112]، أي: أينما وجدوا، سواء في الجبال أو في السهول أو في أوروبا أو في أي مكان من العالم، اللهم إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وحبل الله هو الإسلام، فإذا اعتصموا بحبل الله، أي: دخلوا في الإسلام إيماناً وإسلاماً وإحساناً أعزوا وكملوا، وما أصبحوا يهوداً ولا أهل ذلة ولا مسكنة، وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وهذه ما ننساها، إذ إنهم استطاعوا أن يسحروا أوروبا وأن يستولوا على أموالها بعد أن مسخوها، ولو بقيت الصليبية النصرانية كما هي ذات آداب وأخلاق وعطف ورحمة، وتبغض اليهود بغضاً لا حد له ولا نظير له، ما كانوا ليستولوا على أموالهم وتجارتهم ومصانعهم، لكن سحروهم أولاً ثم حولوهم إلى بلاشفة حمر، إذ ثلاثة أرباع المسيحيين في أوروبا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، أي: أنهم ملاحدة. وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:112]، أي: عادوا مهزومين أذلاء مغضوباً عليهم من الله، وضربت عليهم المسكنة، أي: الفقر والحاجة. ذلك [آل عمران:112]، أي: حصل هذا، وتم هذا، وفعلنا هذا؛ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112]، فقد قتلوا زكريا، وقتلوا ولده يحيى، وحولوا قتل عيسى، إذ إنهم صلبوا من شبه لهم بعيسى، وكأنهم قتلوا عيسى عليه السلام، وسحروا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، بل وأطعموه السم في خيبر، ومات وأثر السم في لسانه، وكادوا له في بني النضير وأرادوا أن يرموا عليه الصخرة أو الرحى.كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقتلون سبعين نبياً في اليوم الواحد، وفي المساء تكون أسواقهم عامرة بالبيع والتجارة والشراء، وكأن الأمر عادي، ومع هذا فباب التوبة مفتوح، فلو يسلم اليهودي يصبح مثلنا أو خيراً منا، إذ العبرة بطهارة النفوس وزكاتها وليس بالأصل، إذ لو نعود إلى الأصل فأصلهم أشرف الأصول، إذ إنهم أبناء الأنبياء، وأحفاد إبراهيم وأولاده. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112]، أي: في الزمان الأول قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا [آل عمران:112]، أي: لما تمردوا على شرائع الله وخرجوا عن طاعته، وتوغلوا في الاعتداء، فذبحوا الأنبياء، وقتلوا العلماء.
    هداية الآيات
    قال: [ من هداية الآيات: أولاً: إثبات خيرية أمة الإسلام ]، إذ إن هذه الآيات قد أثبتت -وهي كلام الله- خيرية هذه الأمة، فلن يستطيع على وجه الأرض إنس ولا جن أن ينفي خيرية هذه الأمة وقد أثبتها الله عز وجل، ورسوله يقول: ( كنتم خير الناس للناس )، وما زلنا والله، إذ لو نعود إلى الله تعالى لنفع الله بنا البشرية وأنقذها من الخلود في النار، ومن الهبوط والسقوط والحيوانية التي تعيش عليها، ولكن ذنبهم هو الذي جر لهم هذا، فهم الذين احتالوا على هذه الأمة ومكروا بها وخدعوها وأضاعوها، ففقدوا من يهديهم ومن يصلحهم. قال: [ وفي الحديث النبوي الشريف: ( أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ) ] أنتم، أي: أيها المسلمون، تتمون سبعين أمة، أي: تكملون من الأمم البشرية سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله والله العظيم، ويكفي شهادة الله بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وبالتالي لو أراد أو حاول أحدهم أن يهبط بهذه الأمة، أو ينفي عنها كمالها ما يستطيع، إذ الله يخبر في القرآن الكريم بخيرية هذه الأمة فيقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران:110]، والرسول يقرر في السنة النبوية فيقول: ( أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله ) ، فالحمد لله، وأنبهكم إلى أمر وهو ألا تنظروا إلى خيرية أمتكم، بل ليعمل كل واحد منا على أن يحقق ما به الخير، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويؤمن بالله، ولن يمسح منه هذا اللقب أبداً. [ ثانياً: بيان علة خيرية أمة الإسلام، وهي الإيمان بالله، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ] أي: أن علة خيرية أمة الإسلام: الإيمان بالله وبكل ما أمر الله أن نؤمن به، والجهاد في سبيل الله لنشر راية التوحيد، لكن لما تركنا الجهاد ما أصبحنا خير أمة؛ لأن الجهاد بذل الجهد والطاقة لهداية البشرية، فنصل إلى بلادها وندعوها إلى الإسلام، كرهت أم أبت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مكان من الأرض، فهذه مهمة هذه الأمة لإنقاذ البشرية جمعاء. [ ثالثاً: قال: وعد الله تعالى لأمة الإسلام ما تمسكت به ]، أي: بالإسلام، فما ضيعت وما فرطت في قاعدة من قواعده ولا في ركن من أركانه، [ وعد الله لأمة الإسلام ما تمسكت به ]، وإلى يوم القيامة، [ بالنصر على اليهود في أي قتال يقع بينهم ].ولهذا صحنا وبكينا أربعين سنة وقلنا: لو أن إخواننا الفلسطينيين -والله شاهد- اجتمعوا وبايعوا إماماً منهم، وتجمعوا في طرف من الأرض وأقاموا الصلاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر سبع سنين فقط، وإذا هم أولياء الله تعالى، وقالوا: الله أكبر، والله لهزموا اليهود، بل والله ما إن يتحرك هذا الجيش الرباني حتى يأخذ اليهود في الرحيل، ثم على شرط أيضاً وهو لا أنهم يخرجون اليهود فقط، بل يواصلون المسيرة إلى أقصى الشرق وإلى أقصى الغرب، فما المانع من هذا كله؟ كأن يتجمعون عندنا في طرف المملكة، أو في طرف لبنان، أو في طرف سيناء مصر، فيتربون نساءً ورجالاً وأطفالاً، فيقومون الليل ويصومون النهار، ويصبح الرجل إذا نظر إلى وجه أخيه يرى النور يلوح من وجهه، ثم يعلنونها: الله أكبر، والله ثلاثة أيام واليهود تشتتوا، ثم يلتفتون إلى جيرانهم فيقولون لهم: يا أهل لبنان تدخلون في رحمة الله؟ قالوا: لا إله إلا الله، يا أهل الأردن تدخلون في رحمة الله؟ يا أهل كذا وكذا.ماذا يكلفنا هذا؟ فقط أن نعبد الله بحق، وأن نسلم إسلاماً حقيقاً فقط، أما الآلام والأتعاب فهاهي معنا، سواء مع الغنى أو الفقر، وما زال الباب مفتوح، فوالله لن يخرج اليهود من أرض فلسطين إلا المسلمون بحق، ولهذا ويلكم أن تقاتلوا اليهود فإنهم يهزمونكم، ولا ننسى قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لتقاتلن اليهود )، يا رسول الله! أين اليهود الذين نقاتلهم؟ إنهم حفنة وثلة وطائفة قليلة، والإسلام قد انتشر في الشرق والغرب؟! ( والله لتقاتلن اليهود )، الله أكبر، تعجب الأصحاب كيف نقاتل اليهود وقد أ جلاهم عمر وطردهم ولم يبق يهودياً منهم، وهم أذلة في بلاد الروم وفي غيرها؟ لكن سيكون لهم شأن، وستكون لهم دولة، وستكون لهم قوة، إذاً ولا بد من قتالهم.( ثم لتسلطن عليهم )، وهذه قد استفدنا منها كلمة سياسية رددناها أربعين سنة في هذا المسجد، فقلت: لو أن العرب أسلموا قلوبهم لله تعالى ودخلوا في رحمته، وخلعوا المعاهدة التي تربط اليهود في أوروبا، وشاء الله أن أمريكا التي تنصرهم تعثر على مؤامرة يهودية تسعى بأن تضر أمريكا، فإنهم يذبحونهم ويقتلونهم، ونظير هذا لما أراد ألله أن يذلهم اكتشف هتلر النازي مؤامرة يهودية لضرب ألمانيا، فوالله قتلهم وتتبعهم وأذلهم في العالم بأسره، فقتل منهم ثلاثين ألفاً، وما بقي يهودي في ألمانيا، فلو أن المسلمين أو العرب أسلموا قلوبهم لله تعالى، فأقل شيء أن تكتشف أوروبا أو أمريكا مؤامرة يهودية لضرب العالم وإفساد البشرية، وعند ذلك سيضربونهم أو يسلطوننا عليهم فنقتلهم، وهذا هو نص الحديث: ( ثم لتسلطن عليهم )، فالله هو الفاعل.( ثم لتسلطن عليهم فتقتلوهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه شجر اليهود )، واليهود الآن يحتفون بهذا الشجر وينمونه أكثر من العنب والتفاح! وذلك لأنه ما يخبر عنهم، فإذا جاء المسلم يبحث عن اليهودي فإن هذا الشجر يغطيه ولا يخبر عنه.والشاهد عندنا هل الشجر يكذب؟ هل الحجر يكذب؟ كيف يقول: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، وهو ليس بمسلم؛ لأنه ما أعطى لله لا قلبه ولا وجهه، فأين الإسلام؟!وسيأتي هذا اليوم لا محالة، لكن هل نحن موجودون؟ الله أعلم، لكن ما زلنا نقول: والله لو نعود إلى الله بالطريقة السليمة الربانية، وذلك بأن يعلنون في بلاد العالم الإسلامي: هيا نعد إلى الله عز وجل، فيجتمعون بنسائهم وأطفالهم ورجالهم في بيوت ربهم كل ليلة من المغرب إلى العشاء، فيتعلمون الكتاب والحكمة، ويبكون ويذرفون الدموع أسفاً وحزناً وألماً، وما هي إلا ساعات وإذا بالباطل يزول والخبث ينتهي والشر ينمحي، وأمة الإسلام كلها ربانية، إذا سألت الله شيئاً أعطاها، ولا نحتاج إلى أن نكون جيلاً يطير في السماء ويغوص في الماء، وإنما نسلك هذا الطريق الذي يعتبر من أيسر الطرق وأسهلها، ولكن مضروب على قلوبنا، مسحورون، واليهود هم الذين سحرونا. [ رابعاً: صدق القرآن في إخباره عن اليهود بلزوم الذلة والمسكنة لهم أينما كانوا ] في الشرق أو الغرب، إلا بأحد الحبلين كما ذكر الله تعالى، وقد عرفناهم في شمال أفريقيا، وذلك لما انتصرت ألمانيا أصبح اليهودي أذل من الشاة في الجزائر أو في تونس، فلا يتكلم ولا ينطق، لكن عزوا وانتصروا وارتفعوا عندما حولوا الصليبيين إلى بلاشفة حمر، ولا ننسى هذه الحقيقة. [ خامساً: بيان جرائم اليهود التي كانت سبباً في ذلتهم ومسكنتهم ].فهل أصابهم الله بالذل والمسكنة لعرقهم أو لشيء آخر؟ لا، ولذلك نحن نعرف أن المسلمين أطهر الخلق وأعزهم، لكن لما خبثت نفوسهم ولطخوها بالشرك والمعاصي والجرائم أذلهم الله، فسلط عليهم الكفار فحكموهم وسادوهم.قال: [ وهي الكفر المستمر ] بدون انقطاع [ وقتل الأنبياء بغير حق ] وهل الأنبياء يقتلون بحق؟ قتل إنسان يعتبر فضيعة كبيرة، لكن إذا كان بحق فلا بأس. قال: [ والعصيان ] أي: التمرد على طاعة الله ورسوله [ والاعتداء على حدود الشرع ] وهذه ظاهرة غريبة وهي واضحة. أسألكم بالله! من الذي كون بنوك الربا؟! أجدادنا؟! النصارى؟! والله إنهم اليهود، وذلك حتى نهبط فلا يرفع لنا دعاء، ولا تستجاب لكم كلمة، فهم الذين كونوا هذه البنوك الربوية ونشروها في العالم، بل وإلى الآن يعملون ليل نهار لإفساد البشرية. ستقولون: كيف هذا يا شيخ؟ بينته غير ما مرة فقلت: المفروض فينا نحن المسلمون: أن أهل كل قرية يجمعون ما زاد عن قوتهم وتوفر في صندوق واحد من حديد أو خشب، وينمونه في طرق التنمية كالتجارة أو الزراعة أو الصناعة، وبذلك تجتمع قلوب أهل القرية فيتحابون ويتآلفون؛ لأن مالهم أصبح في يد واحدة، ثم من ذلك الصندوق يسلفون أو يقرضون من أراد أن يستلف، والمؤمن إذا استقرض أو استلف سوف يرد ذلك أو يقدم دمه وقلبه؛ لأنه المؤمن الحق، وهذه الرابطة قضى عليها اليهود بإيجاد البنوك، فلم يبق من يسلف ولا من يقرض ولا من يساعد ولا من يتعاون أبداً، وقد حاول أناس أن يوجدوا شركات مساهمة فما أفلحوا، فهل عرفتم ما فعل اليهود؟ إن هذه ظاهرة واحدة فقط مما ذكرنا، أما العهر والزنا وأندية اللواط -وكل هذا من صنائعهم- فحدث ولا حرج، وكل ذلك من أجل أن يهبطوا بالبشرية ويعلو فوقها، ويوجدوا مملكة بني إسرائيل التي تحكم الشرق والغرب، وليس لأجل الأكل والشرب، وإنما من أجل أن تعود لهم مملكتهم، إذ البشرية كلها عدو لليهود.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #189
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (47)
    الحلقة (188)

    تفسير سورة آل عمران (52)


    إن من كفر بالله وجحد حقه لن تغني عنه أمواله وإن كانت مثل حبات الرمال، ولن يغني عنه أولاده وإن استقوى بهم؛ لأن سبب كفره هو حرصه على هذه الأموال والأولاد، ومهما أنفق الكافر من أموال لإطفاء نور الله وللصد عن دينه فسينفقها ثم ستكون عليه حسرة، وحتى لو أنفق ماله في وجوه الخير في الدنيا فلن ينتفع بها لأن الكافر لا ينتفع بالعمل الصالح.
    تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا، فإنك مولانا ولا مولى لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس ونحن في سورة آل عمران إلى هاتين الآيتين الكريمتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:116-117].
    معنى الكفر في الآية
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه أخبار إلهية، والمخبر بها هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، فالخبر الأول: يقول تعالى مؤكداً هذا الخبر: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:116]، وسواء كانوا من العرب أو العجم، من أهل الكتاب أو من المشركين، من المجوس أو غيرهم، فما معنى: كفروا؟ كفروا بماذا؟ نريد أن نعرف شيئاً عن هذا الكفر؛ لأن الوعيد شديد، والجزاء عظيم، والمفزوع إليه الله أن ينجنا من هذه الفتنة.أولاً: الكفر معناه: الجحود، يقال: كفَر نعمة الله، أي: جحدها، وفلان كفر ما كان بيننا وبينه من الخير والبر والإحسان، أي: جحده، فالكافر جاحد، وهذا الجحود يتناول أولاً -كما هو مذهب البلاشفة الشيوعيين والملاحدة الدهريين-: جحود وجود الخالق عز وجل، وهذا كفر باطل هابط ممزوج مردود، ولا يقول به إلا هؤلاء الذين صنعهم اليهود بأفرادهم، وإلا فالفطرة البشرية تصرخ بوجود خالقها ورازقها ومدبر أمرها، بل مضت قرون على البشرية -آلاف- ما أنكر فيها أحد -عربي أو أعجمي- وجود الله، وما كان إنسان من عهد آدم إلى هذا القرن يوجد من ينكر وجود الله، إذ الفطرة تعد هذا وتقرره، لكن لعبة اليهود التي صنعوها واستطاعوا أن ينجحوا فيها فقد أوجدوا المذهب الشيوعي الدهري البلشفي، فقالوا: لا إله والحياة مادة!وأُطايبكم بتلك اللطيفة: حدثنا أحد إخواننا كان مهاجراً من فرنسا إلى المدينة، يقول: كانت له صديقة فرنسية أيام كان عيشه في فرنسا، هذه الصديقة أُصيبت بالإلحاد؛ لأن المدارس علمانية، ولذلك من أراد أن يدرس الدين فليدرس في المدارس الخاصة، أما مدارس الحكومة فمدارس علمانية، فقد كانوا يعلمونهم الإلحاد، ونظرية داروين انتقلت حتى إلى بلاد العرب ودرسوها في الثانوية والكليات، ولا عجب؛ لأننا تابعون إلا من رحم الله، فهذه الصديقة التي تبلشفت -وهي مسيحية- كلما ذكرها بالخالق، بالرب تعالى تسخر منه، وتقول: أنت متخلف، أنت رجعي، إلى متى وأنت هابط؟ قال محدثنا غفر الله له: وشاء الله أن تتزوج وتحبل، ثم بلغه أنها مريضة في المستشفى، وأن الطلق يهزها لتضع، قال: فدخلت عليها وسمعتها تصرخ: يا رب، يا رب، يا رب، قال: فتعجبت، فأخرجت ألف فرنك أو ألفين وقلت لها: نادي كما كنت تنادي بهذه، لم عجزت الآن؟! وقبل ذلك كان إذا ذكرها بالله تخرج الكيس وتقول: هذا هو الله الذي ينفعنا! لكن لما هزَّها الطلق وشاهدت الموت: الله، الله، يا رباه، يا رباه، قال: فلما أريتها الجنيه وقلت لها: ادع هذا، سخطت علي وغضبت وقالت: اذهب عني.فهذه كانت بلشفية ملحدة، لكن لما دقت ساعة الهلاك وعرفت أيقنت أنه لا ينفع إلا الله، فهي تنادي: يا رباه، يا رباه، وقوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وقوم إبراهيم، أقوام نتلو قصصها في كتاب الله، فما مر بنا أن قوماً أنكروا وجود الله قط، بل وثقوا فيما تسمعون، فلم يوجد من ينكر وجود الله إلا هذه الطائفة التي كونها اليهود المعروفة بالبلاشفة والشيوعيين فقط، والبشر كانوا يؤمنون بالخالق الرازق، ويؤمنون بالتوسل إليه بالآلهة التي صنعوها وزينها لهم الشيطان، لكن لا ينكرون وجود الله، كذلك العرب كانوا في القمة في الشرك والعياذ بالله، وأنتم تسمعون عنهم في التاريخ أنهم كانوا يحلفون بالله ويؤمنون بالله! ومع هذا كما تسمعون في القرآن أنهم كانوا يسخرون من النبي والقرآن، ويكذبون بالبعث والجزاء.والمراد من هذا: أن كلمة: (كفروا) لا تفهم منها أنهم اليهود فقط، أو النصارى أو العرب، بل يجب أن نعرف ما الكفر حتى نتجنبه، حتى نذهب من ساحته ونبعد من رائحته الكريهة.فخلاصة القول: كل من جحد وجود الله، أو جحد أسماء الله، أو جحد صفات الله، أو جحد عبادة الله، أو جحد نبياً من أنبياء الله فضلاً عنهم جميعاً، أو كذب بخبر من أخبار الله، سواء أطاقه عقله واستطاع أن يفهمه أو لم يفهمه، أو كذب رسول الله في حادثة معينة من أمور الشريعة أو الدار الآخرة فهو كافر، والمؤمن هو الذي صدَّق بوجود الله، وبكل ما أخبر الله به، وآمن بكل ما أمر الله أن نؤمن به، ولو أن عبداً آمن بالقرآن الكريم وكذب فقط بآية واحدة وقال: مثل هذه لا أؤمن بها، فهل يبقى مؤمناً؟ والله لا يبقي مؤمناً، وإنما كفر بالله تعالى، كذلك آمن بكل الرسل إلا أنه قال: إن فلاناً -عيسى- لا أصدق أنه رسول الله، فقد كفر وخرج من ملة الإسلام، إذ إن الكفر: التكذيب والجحود والإنكار لله وبكل ما أمر به من الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، والقضاء والقدر، والبعث والجزاء، وأحوال الآخرة وما يقع فيها من شقاء أو سعادة، فذلكم الكافر، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:116] بهذا المعنى.
    لطيفة في قوله تعالى: (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً)
    يقول تعالى عنهم: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:116].وهنا لطيفة: لمَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:116]؟ لأن كفرهم سببه المال والولد، والحفاظ على أموالهم وأولادهم حملهم على أن يكذبوا رسول الله، والاعتماد عليهما -المال والولد- على أن صاحبهما لا يشقى ولا يكرب ولا يحزن ولا يخسر في الدنيا، هذه النظرية باطلة، وذكر تعالى المال والولد لعلمه بخلقه، وأن الكافرين يعتزون بأموالهم وأولادهم، كالاعتزاز أيضاً بالجيوش، والاعتزاز بالوطن، والاعتزاز بالحيل، وبالتالي كل من كفر لا بد وأن لكفره عاملاً وسبباً من الأسباب، وأكثر ما يحمل على الكفر هو الحفاظ على المال والولد، إذ الاستغناء يجعل هذا الغني لا يبالي بما يُطلب إليه من الدين، أو ما يُدعى إليه من الإيمان والعمل الصالح، وصدق الله إذ قال: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28]، وتأمل واقعنا تجد المؤمنين كغيرهم، إذ إن أكثر الذين يعرضون عن ذكر الله سبب ذلك اعتزازهم واستغناؤهم بأموالهم وأهليهم، فأبطل تعالى هذا بقوله: لَنْ [آل عمران:116] التي تفيد التأبيد، لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:116]، فإذا أراد أن يضربهم في الدنيا بوباء من الأوبئة، بأن يسلط عليهم عدواً من أعدائهم، بأن يسلبهم عقولهم، بأن يفني ما لديهم وما عندهم من الأولاد والمال، فهل هناك من يرد عنهم شيئاً؟! تُغني عنهم أموالهم وأولادهم؟! لا؛ لأن الله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فمن الخير للإنسان أن يفزع إلى الله ويلجأ إليه ويحتمي بحماه، أما أن تغتر نفسه بما لديه من سلطة أو جاه أو مال، ويعرض عن الله معتزاً بما عنده، والله لن يغني عنه من الله شيئاً متى أراده الله؛ لأن كثيراً من كفار العرب -الذين كفروا وحاربوا- كانوا معتزين بأموالهم وأولادهم، فهذا الوليد بن المغيرة كان معتزاً بأولاده وماله، واقرءوا ذلك في سورة المدثر، اليهود كذلك حافظوا على كفرهم وأبوا الإسلام معتزين أيضاً بأموالهم ورجالهم. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:10]، متى أراد أن يُنْزِل بهم نقمه، وأن ينزل بهم عذابه.
    وصف النار التي أعدها الله للكافرين
    ثم جاء الخبر الثاني وهو قوله: وَأُوْلَئِكَ [آل عمران:10] البعداء، المنحطون الهابطون، الذين ما أصبحوا يتسمون بسمات البشر والعقول البشرية، أولئك البعداء أصحاب النار الذين لا يفارقونها ولا تفارقهم، كما هو صاحب اللسان لا يفارقه أبداً، فكذلك النار لا تفارقهم أبداً.فأولاً: ما هي هذه النار؟ لولا أن الله عز وجل أوجد لنا جزءاً منها من سبعين جزءاً، لكان البشر يكذبون بشيء ما عرفوه، فقطع الله عز وجل عليهم الحجة وأرانا النار، وبها نصطلي ونستدفئ ونطبخ، فهي موجودة، فمن ينكر هذه النار؟! جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:80]، هذه النار وهذا اللهب وهذه الحرارة أصلها من تلك النار التي هي في عالم أسفل، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن نارنا هذه جزء من سبعين أو ستين جزءاً من نار الدار الآخرة.ثم هذا الكوكب النهاري -كوكب الشمس- بإجماع البشر على أنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، هذا الكوكب كله نار، فمن أوجد نار هذا الكوكب؟ آباؤنا؟! أجدادنا؟! أيضاً هذا الكوكب الناري -كما نقول غير ما مرة- ما دام أنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، فقد قال علماء الإسلام قبل أن يعرف هذا علماء الكفر: لو وضعنا البشرية كلها في الشمس فقط ما سدت جزءاً أو زاوية من زواياها! مع أنه كوكب يجري ويسبح بهذه الضخامة والعظمة طول الحياة، فمن أوجده؟ تلقائياً؟! أتوماتيكياً؟! خرافة الهابطين وسفه السافهين، إنه الله خالق كل شيء.فهذه النار وصفها الله تعالى بأوصاف لو يؤمن بها العبد وتُتلى عليه أو يتلوها يخر مغشياً عليه، وحسبنا منها ما بلغنا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم من أن بعض الناس الأشقياء يوضع في تابوت -صندوق- من حديد ويغلق عليه، ويقذف في ذلك العالم فيعيش بلايين السنين، لا يأكل ولا يشرب ولا يسمع ولا يبصر ولا ينطق، ويمزقه الخوف والجوع والعذاب ملايين السنين، فكيف نأكل أو نشرب؟! كيف نضحك؟!وهذه النار قد عُرضت في ذلك المحراب، شاشة بيضاء قبل أن تعرف البشرية عرض دور السينما وشاشات التلفاز، والله لقد عرضت في محراب رسول الله، في جداره الذي يصلي إليه، وقد شاهدها وشاهد النساء فيها، وآلمه لهبها في وجهه حتى رجع القهقرى، حتى أشاح بوجهه، وليس ذلك العرض الهابط الكاذب، وإنما عرض حقيقي.ثم ليلة الإسراء والمعراج عند عودته مر بها وشاهد ما يتم وما يجري فيها، هذا العالم العظيم، هذه النار حروفها قليلة: (ن، ر، ا) لكن ماذا نعرف عنها؟ لو نستعرض آيات القرآن.أما طعامها وشرابها فالحميم والزقوم، والحميم هو: الماء الحار الذي يشوي الوجوه، والله ما يرفع الإناء ليشرب ويدنيه من وجهه من شدة الظمأ والعطش حتى تتهرى بشرته وتنزل، أما الضريع: فهو الشوك، وقد عرفه العرب في صحرائهم، وهو طعام أهل النار، وكذلك الزقوم، وحسب الأشقياء أن يعيشوا في عالم يفقدون آباءهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم، فلا يعرفهم أحد ولا يعرفونه بلايين السنين، فأي نار هذه؟! ماذا نقول؟!ضرس أحدهم كجبل أحد، إذ يخلق الله تعالى لهم أجساماً ما هي كأجسامنا هذه، وإنما يخلقهم خلقاً جديداً، عرض ما بين كتفي الكافر في النار والله كما بين مكة وقُديد، مائة وخمسة وثلاثون كيلو متراً، فإذا كان عرضه هكذا فضرسه والله كجبل أحد، إذ كيف يعيشون ملايين السنين لو لم تكن أجسامهم هكذا؟! كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:56].لطيفة: لما قدَّم أبو جهل -عليه لعائن الله- لأولاده العجوة من المدينة وصِحاف الزبدة قال: تعالوا نتزقَّم، هذا هو الزقوم الذي يهددنا ويخوفنا به محمد، فكلوا العجوة والزبدة، فأنزل الله تعالى فيه قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة، جاء في سورة الدخان قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-48]، وقولوا له: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، ذق هذا العذاب الروحي الذي هو أشد مليون مرة من العذاب البدني، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:49-50] أي: تشكون. وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ [آل عمران:116]أي: أهلها الذين لا يفارقونها، هُمْ [آل عمران:116]أي: لا غيرهم، فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:116] والخلود: البقاء الأبدي، فلا يموتون ولا يحيون، ولا تنتهي النار أبداً، ولم يشأ الله نهايتها وإفناءها والقضاء عليها، إذ خلقها لحكمة فلا تخرج عن حكمته، فهل عرفتم جزاء الكفار؟إذاً: فهيا نحمد الله على أنا مؤمنون: الحمد لله، الحمد لله، بينما أمثالنا بلايين هم كافرون في الشرق والغرب.
    تفسير قوله تعالى: (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر...)
    قال تعالى: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117]. ‏
    إنفاق الكافرين الأموال لإطفاء نور الله تعالى
    الخبر الثاني: يقول تعالى: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:117]، والآية تعني: جماعات تهدم الإسلام وتحطمه وتنفق على ذلك الأموال، وعلى رأسهم هؤلاء اليهود والصليبيون، فهم ينفقون أموالهم لإحباط دعوة الله وإبطالها، ولحمل البشرية على الكفر وإبعادها عن الإيمان، ولإخراج الناس من نور الإيمان إلى ظلمة الكفر، ولا شك أنهم ينفقون أموالاً طائلة. مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ [آل عمران:117] من أموال في هذه الحياة الدنيا، وليس ينفقونها على أبدانهم فيطعمون ويشربون ويكتسون ويسكنون، وإنما أناس ينفقون الأموال لإطفاء نور الله، وقد نجحوا في ذلك، مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:117]، لهذه الأغراض السيئة.
    معنى قوله تعالى: (كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم)
    كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [آل عمران:117] أي: مثل الريح، والريح معروفة وخاصة ريح الشتاء والبلاد الباردة، والصر: صوت بارد شديد، صوت يُسمع منها، وبردها قاتل.هذه الريح أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ [آل عمران:117]، والمراد من الحرث: ما يحرث للأرض من سائر الزروع، كالبر والذرة والشعير وما إلى ذلك، أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ [آل عمران:117] أي: زرع قوم.
    معنى قول الله تعالى: (ظلموا أنفسهم)
    ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117]، ظلموا أنفسهم بماذا؟ كفروا، فسقوا، فجروا، جحدوا، اعتدوا، ظلموا، أفرغوا وصبوا على أنفسهم أطنان الذنوب والآثام. ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117]، وهل يوجد إنسان يظلم نفسه؟ إي نعم، ومسكينة تلك النفس التي بين جنبيه، فبها يسمع ويبصر وينطق ويقوم ويقعد، هذه الروح التي أُودعت في جسمه كأرواح الملائكة طهراً وصفاء، ونوراً وإشراقاً، فيؤاخذ بمجرد أن يصل إلى مستوى التكليف، وتصبح كلمته ينعكس ظلها على روحه وحركته، كلما أذنب ذنباً صب عليها طناً من القاذورات والأوساخ، فهو بذلك قد ظلمها.ثم هل أودعت نفسه في جسمه مظلمة، منتنة، عفنة، خبيثة؟ لا والله، وإنما نفخها الملك المكلف بنفخ الأرواح وهي نور تتلألأ، والذي حوَّلها من نور إلى ظلمة، ومن طهر إلى خبث، ومن خير إلى شر وفساد، يكون قد ظلمها.إذاً: فكل الفجار والفساق والكافرين والمجرمين والمشركين والظالمين ظلموا أنفسهم، وليس من حقهم أن يفعلوا ذلك، ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117] فهل عرفتم بمَ ظلموها؟ أخذوا السياط وضربوها كالبهيمة بين أيديهم؟! لا، وإنما ظلموها بأن صبوا فوقها أطنان الذنوب والآثام، فاسودت وأظلمت وخبثت وتعفنت.فهل يُرى ذلك في خارج الحياة؟ إي نعم، فأصحاب هذه النفوس الخبيثة هم الذين يزنون بنسائنا، هم الذين يحسدوننا على ما آتانا ربنا، هم الذين يتمنون زوال نعمة أنعم الله بها علينا، هم الذين يحتالون علينا ويأخذون أموالنا، أليس هذا مظهراً من مظاهر هبوط النفس واسودادها وخبثها؟ وهل صاحب الروح الطاهرة النقية يفجر؟! والله ما يفجر، وهل صاحب الروح النقية الطاهرة يكذبك؟ والله ما يكذبك، وهل يمد يده إليك ليأخذ مالك أو يخنقك؟ والله ما كان؛ لأن روحه مشرقة طاهرة، إذاً: فمن هو الذي يأتي هذه الجرائم؟ صاحب الروح الخبيثة، إذ إنه كلما ازداد خبثها ازداد شر هذا الخبيث وظلمه وفساده.
    معنى قوله تعالى: (فأهلكته)
    كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران:117]، أهلكت ماذا؟ ذاك الزرع الذي كاد أن يصبح سنابل يملأ العين بخضرته وجماله، أصابته تلك الريح فقضت عليه، فكذلك هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم يقضون على مستقبلهم، ويصبح مصيرهم الفناء والخراب والشقاء والدمار، ولما أصابهم بما أصابهم به من الخسران والخراب والدمار والهلاك في الدنيا والآخرة ظلمهم الله؟ والله ما ظلمهم؛ لأن الله حكيم لا يضع الشيء إلا في موضعه، فلما أصابهم بالدمار والخراب سلط عليهم دولةً اجتاحتهم ودمرتهم، سلط عليهم وباء دمرهم وأفناهم، سلط عليهم فقراً وجوعاً فأهلكهم، وضعَ ذلك الحكيمُ العليم في موضعه؛ لأن الله حكيم عليم، إذا أصابك الله يا عبد الله بمصيبة فاعلم أنه الحكيم العليم، حكمته وعلمه اقتضيا أن يصيبك بهذا المرض أو الألم، فلهذا ما من مصيبة إلا بذنب، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].أنتم الآن هادئون سالمون راضون، فلو الآن يسب بعضكم بعضاً، ويشتم بعضكم بعضاً، ويلْكِمُ بعضكم بعضاً، فإذا بالدماء تسيل، وإذا بالجيش يطوقكم، وإذا بكم تبيتون في السجن، فهل ظلمكم الله أم ظلمتم أنفسكم؟كذلك لو تذهب الآن إلى بيتك وتقول لزوجتك: يا أم إبراهيم هات الشحم واللحم كله، فأكلت حتى امتلأ بطنك، وأصبحت لا تستطيع الحركة، ثم نقلوك إلى المستشفى، فهل ظلمك الله أم ظلمت نفسك؟أيضاً الآن أنا ظالم لنفسي بينكم والله العظيم، فقد شعرت بمغص هناك، ثم خف الآن والحمد لله، وذلك بأني شربت أربعة أكئوس من الشاي الأخضر، مع أن أكلي كأكل الطفل، وغدائي لا يغدي طفلكم، لكن مع فراغ البطن أربعة أكئوس من الشاي أصابني المغص، فهل ظلمني الله؟ لا، وإنما ظلمت نفسي، وقد هممت أن أقول للدكتور: ماذا أعمل لهذا المغص؟ ما هو الدواء؟ لكن الله لطف فسكتُ، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال تعالى: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117].كذلك لما استولى علينا الشرق والغرب وحكمنا، هل ظلمنا الله؟ حاشا لله، وإنما ظلمنا أنفسنا؛ لأننا انقدنا وجرينا وراء الباطل، وجهلنا بربنا وعصيناه، وفسقنا عن أمره وعبدنا سواه، ومزقنا كلمتنا وشتتنا أمتنا وأصبحنا مذاهب وطوائف، فدقت ساعة الانتقام، فأذاق الله أمة الإسلام العذاب، وهذا الذي نصرخ به، وأن الأمة الإسلامية متهيئة وأنها تحت النظارة، ووالله إن لم تتدارك بالأمة بالتوبة الصادقة، فتجتمع على كتاب الله، وتعود إلى منهج رسول الله، لنزل بها بلاء أعظم من بلاء الاستعمار، والغافلون ما يشعرون بهذا. أمة الإسلام أصبحت أمماً تعبد الطين والوطن، وتُعرض عن ذكر الله وكتابه، وتتعلق بالأوهام والضلالات، وتعتز بالباطل، فلا إله إلا الله! إلى أين تريد أن تصل هذه الأمة؟ ولكن أنفسهم ظالمون لها، والله ما ظلمهم أبداً.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    شرح الكلمات
    قال [ شرح الكلمات: كَفَرُوا [آل عمران:116] ]: كذبوا بالله ورسوله وشرعه ودينه. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ [آل عمران:116]: لن تجزي عنهم يوم القيامة أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئاً، إذ لا مال يومئذ ينفع ولا بنون. مَثَلُ [آل عمران:117] أي: صفة وحال ما ينفقونه لإبطال دعوة الإسلام أو للتصدق به ] وهم كافرون، فهل تنفعهم صدقاتهم من بناء المستشفيات وتوزيع الأدوية مع السعي إلى تكفير الناس؟! كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [آل عمران:117]، والآن الصليبيون ينفقون أموالاً طائلة، فهل هذه تغني عنهم من الله شيئاً؟ إن مثلها: كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران:117]، والله لا ينتفعون بحسنة؛ لأنهم كفار، وينفقون ضد الإسلام للتنصير والتكفير.قال الشارح: [ الصر: الريح الباردة الشديدة البرد التي تقتل الزرع وتفسده، الحرث: ما تحرث له الأرض وهو الزرع. ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117]: حيث دنسوها بالشرك والمعاصي فعرضوها للهلاك والخسار ].
    معنى الآيات
    قال [ معنى الآيات: لما ذكر تعالى حال مؤمني أهل الكتاب وأثنى عليهم بما وهبهم من صفات الكمال، ذكر هنا في هاتين الآيتين ما توعد به أهل الكفر من الكتابين وغيرهم من المشركين على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب؛ ليهتدي من هيأه الله تعالى للهداية، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:116] أي: كذبوا الله ورسوله، فلم يؤمنوا ولم يوحدوا، لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ [آل عمران:116] أي: في الدنيا والآخرة مما أراد الله تعالى بهم شيئاً من الإغناء؛ لأن الله تعالى غالب على أمره، عزيز ذو انتقام، وقوله تعالى: وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:116] فيه بيان حكم الله تعالى فيهم، وهو أن أولئك البعداء في الكفر والضلال المتوغلين في الشر والفساد، هم أصحاب النار الذين يعيشون فيها لا يفارقونها أبداً، ولن تغني عنهم أموالهم التي كانوا يفاخرون بها، ولا أولادهم الذين كانوا يعتزون بهم ويستنصرون، إذ يوم القيامة: لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] سليم من الشك والشرك والكبر والعجب والنفاق.هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية: فقد ضرب تعالى فيها مثلاً لبطلان نفقات الكفار والمشركين، وأعمالهم التي يرون أنها نافعة لهم في الدنيا والآخرة، ضرب لها مثلاً: ريحاً باردة شديدة البرودة أصابت زرع أناس كاد يُحصد -أي: الزرع- وهم به فرحون، وفيه مؤملون، فأفسدته تلك الريح، وقضت عليه نهائياً، فلم ينتفعوا بشيء منه، قال تعالى في هذا المثل: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ [آل عمران:117] أي: أولئك الكفار، فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:117] أي: مما يرونه نافعاً لهم من بعض أنواع البر، كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ [آل عمران:117] أي: تلك الريح الباردة، حَرْثَ قَوْمٍ [آل عمران:117] أي: زرعهم النابت، فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران:117] أي: أفسدته، فحرموا من حرثهم ما كانوا يؤملون، وَمَا ظَلَمَهُمُ [آل عمران:117] حيث أرسل عليهم الريح فأهلكت زرعهم، إذ لم يفعل الله تعالى هذا بهم إلا لأنهم ظلموا بالكفر والشرك والفساد، فجزاهم الله بالحرمان، وبذلك كانوا هم الظالمين لأنفسهم، قال تعالى: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117] ].
    هداية الآيات
    قال [ من هداية الآيتين:أولاً: لن يغني عن المرء مال ولا ولد متى ظلم وتعرض لنقمة الله تعالى.ثانياً: أهل الكفر هم أهل النار، وخلودهم فيها محكوم به، مقدر عليهم لا نجاة منه.ثالثاً: بطلان العمل الصالح بالشرك والموت على الكفر ] فقد يعمل العبد عشر سنين أو خمسين سنة وهو صائم قائم، وإذا بكلمة كفر تخرج منه فتمحو ذلك كله، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، أي: أن بطلان العمل الصالح هو بالشرك وبالموت على الكفر، ومن هنا نعلم أن المشرك يصوم ويتصدق، فهذا الكافر عبد الله بن جدعان الذي سألت عنه أم المؤمنين الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: ( ما تقول فيه يا رسول الله؟ قال: هو في النار، قالت: كان يذبح في الحج الواحد ألف بعير، ويكسو ألف حلة )، من يفعل هذا؟! قال: ( هو في النار؛ لأنه مات على الشرك، مات ولم يقل يوماً: رب اغفر لي وارحمني ). [ رابعاً: استحسان ضرب الأمثال في الكلام لتقريب المعاني ]، فالله ضرب المثل من أجل أن يقرب المعنى إلى الناس ولينتفعوا بما يسمعون، وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #190
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (48)
    الحلقة (189)

    تفسير سورة آل عمران (53)


    حرم الله عز وجل على عباده المؤمنين اتخاذ مستشارين من أهل الكفر، وحرم إطلاعهم على أسرار المسلمين ومواطن ضعفهم وقوتهم، لما في ذلك من الضرر الكبير الذي يلحق بالمسلمين، وذلك لفساد الكافرين تجاه المسلمين، وما يحملونه في قلوبهم من إرادة الشر لهم، والفرح بما يصيبهم من العنت والنصب والبلاء، وإنما يظهرون لأهل الإيمان النصح والمحبة ويبطنون في أنفسهم البغض لهذا الدين وأهله.
    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فهنيئاً لكم معشر المؤمنين والمؤمنات.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وهانحن مع هذه الآيات المباركات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:118-120].
    مناداة الله لعباده بوصف الإيمان
    فهيا نتغنى بهذه الآيات، فنكرر تلاوتها، ونتابع معانيها، وما تهدف إليه، وما تدعو إليه، وما تحققه لنا -معشر المؤمنين-إن كنا مؤمنين صادقين. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:118] نادانا ربنا، فلبيك اللهم لبيك، نادانا بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمنين أحياء، والحي يسمع النداء ويجيب، وإن أُمر فعل، وإن نُهي ترك، وإن بُشر استبشر، وإن حُذِّر حَذر، وإن عُلم عَلِم وتعلم، هذا العلم علمناه الله، وأصبحنا أهلاً له، فالحمد لله، وملايين المسلمين لا يخطر ببالهم هذا ولا يعرفونه! فيا معاشر المستمعين! هل أنتم متفاعلون مع هذه الآيات؟مرة أخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، ربنا لك الحمد، فقد بينت لنا إن كنا نعقل، أما إن فقدنا عقولنا، وتهنا في متاهات الدنيا، وأصبحنا كالمجانين فما ننتفع بهذه الآيات. هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:119] أي: كالتوراة، أو الإنجيل، أو الزبور، وكل كتب الله، وهم لا يؤمنون بكتابكم. وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا [آل عمران:119] قل: يا رسولنا، قل يا عبد الله المؤمن: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119] فلا يضرنا غيظكم شيئاً، سبحان الله! إنه تعليم مولانا، قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، كيف يضرنا كيدهم ونحن أولياء الله، والله محيط علمه بهم؟! الله أكبر! هل هذا القرآن يجوز قراءته على الموتى؟! آه، يا للعجب! يا معشر العرب! هذا القرآن يُقرأ على الموتى وما أفقنا إلى اليوم! وإن قلت: لا يُقرأ القرآن على الموتى، يعجبون، كيف لا يُقرأ على الموتى؟! آلله أنزله ليقرأ على الموتى؟! إن هذه الآيات الثلاث لا يوجد واحد في الألف من مسئولي العالم الإسلامي قرأها وعرفها، ولا دروا ما هي، لعلي واهم؟ من يرد عليّ؟ وبالتالي كيف يسوسون البشرية؟! كيف يقودون أهل: لا إله إلا الله؟! إنهم لا يلامون؛ لأن آباءهم وأمهاتهم لا يعرفون القرآن إلا ليلة الميت، فيقرءونه على الميت سبع ليال، أو إحدى وأربعين ليلة، وكأن القرآن ما نزل إلا للموتى، فعجب هذا أو لا؟ والآن الحمد لله هذا النداء تضمنته نداءات الرحمن، وأصبح الآن يقرأه المسئولون، فقد وِزِّع كثيرٌ منه، واليوم طلبوا منا القوات المسلحة إذناً بطبع هذا الكتاب وتوزيعه على كل أفراد القوات، فالحمد لله، وهذا نداء منها، إذ إنها تسعون نداء.والمفروض أن كل مؤمن يضع هذا النداءات عند رأسه، وقبل أن ينام يستمع إلى نداء من نداءات ربه، فيقول: الحمد لله، الحمد لله، الله يناديني! أية نعمة أعظم من هذه؟! يناديني سيدي ومولاي ليعلمني وليهذبني وليرفعني، وما نصغي ولا نسمع! وهل كل مؤمن ومؤمنة يسمع هذه النداءات يبقى جاهلاً؟! والله ما يبقى جاهلاً، يبقى ضالاً؟ والله ما بقي ضلاله إلا أن يشاء الله، فهو قد عرف أن الضلال لمن فقد الهداية والنور، أما الذي هدايته تقوده والنور أمامه كيف يضل؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:118]، نادانا الله عز وجل -نحن معاشر المؤمنين والمؤمنات- بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمن حي؛ لأن الإيمان بمثابة الروح، والأجسام لا تحيا إلا بالأرواح، فإذا خرجت الروح مات الجسم، فكذلك الإيمان والله بمثابة الروح، فلما حيينا بفضله ومنته علينا، وأصبحنا أحياء، نادانا ليعلمنا، ليؤدبنا، لينجينا، ليبعدنا عن المساخط والمهالك.
    معنى قوله تعالى: (لا تتخذوا بطانة من دونكم)
    ثم قال لنا: لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118]، وهنا اللام ناهية، لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118]، ما هي هذه البطانة؟ البطانة من تستبطنهم وتطلعهم على بطائن أمورك وخفاياها، فأيها المسئول! سواء كنت قائداً عسكرياً، أو كنت إماماً للمسلمين، أو كنت صاحب متجر، أو مصنع، فمصنعك لا تريد أن تطلع عليه غير المؤمنين الصالحين، كذلك تجارتك ومورد أموالك، لا تريد أن تطلع عليه إلا الخواص، الذين تطمئن إليهم، أما أن تطلع عليه أعداءك فسوف يحرمونك من ذلك. لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118] من غيركم، أي: من اليهود والنصارى والبلاشفة الشيوعيين والمجوس والمشركين والكافرين، وقوله: مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118] فقط، أخْرِج المؤمنين، فلا استثناء إلا للمؤمنين، ومن عداهم هم دوننا، من اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والملاحدة، بل كل الكافرين، فقد نهانا مولانا أن نتخذ بطانة من دوننا من الكافرين، فنستبطنهم ونطلعهم على خفايا أمورنا وأسرارنا الحربية والسلمية؛ ليكملنا ويسعدنا ويعزنا.
    معنى قوله تعالى: (لا يألونكم خبالاً)
    ثم بين وعلل فقال: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا [آل عمران:118]، والخبْل: الفساد والشر، أي: لا يقصرون في إفساد حياتكم عليكم، وقائل هذا هو الله خالق القلوب، وواهب العقول، والعليم بذات الصدور، فإن قلت: لا، كفرت، كذبت الله، وأعوذ بالله أن تكذب الله، وهل لك قيمة حتى تكذب العليم الخبير؟! فالأعداء لا يقصرون أبداً في إفساد الحياة عليكم، وصدق الله العظيم، إذ إلى الآن لا يريدوا للعالم الإسلامي أو أي بلد إسلامي أن يسمو أو يسعد أو يكمل أبداً؛ لما في نفوسهم من الحقد والغل على الإسلام والمسلمين.
    معنى قوله تعالى: (ودوا ما عنتم)
    وَدُّوا [آل عمران:118]، أبلغ وأكثر لتأدية المعنى من: (أحبوا)، وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118]، العنت: المشقة الشديدة، مثل: الذي كُسِر وجبر، ثم ازداد كسراً بعد الجبر، فهذا معنى العنت، وهو أشد من المشقة، وما قال: ودوا مشقتكم، وإنما عنتكم؛ ليبقى المسلمون دائماً في بلاء وفقر وجدب وضعف وخلاف وهزيمة وشر وهكذا، فهذا الذي يودونه. وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118]، احذر أن تقول: لا، يوجد يهود ونصارى لا يحبون لنا إلا الخير! والله ما كان، ولن يكون حتى تطهر تلك القلوب، وتحيا تلك النفوس الميتة، وتتصل بالملكوت الأعلى، وتؤمن بلقاء الله وما عند الله، ثم يحبون كل مؤمن ومؤمنة، ولا يودون له الشقاء ولا التعاسة ولا البلاء، أمَا وهم يعرفون أنهم هم أصحاب النار والجحيم الخالدون فيها، والمسلمون أهل السعادة والكمال، فكيف يحبونهم؟!فإن قيل: يا شيخ! أنت تقول هذا الكلام! إن هذا أمر واقع، فما الذي أنزلنا من علياء السماء إلى الأرض؟ القرآن؟! أولياء الله؟! إذاً فمن؟ والجواب: هم، فقد حولوا قلوبنا إلى قلوب شرك وباطل وأوهام، أبعدونا عن نور الله فعشنا في الظلام، افترقنا وتنازعنا وتناحرنا، وأكل بعضنا بعضاً، وضاعت آدابنا وأخلاقنا، وهبطنا حتى ساسونا وسادونا، وهم يديرون دفة حكمنا، فهل هناك من يرد عليّ من أهل العلم والسياسة؟ أهل السياسة والبصيرة يعرفون هذا، أما الجهال فلا تسأل عنهم.
    معنى قوله تعالى: (قد بدت البغضاء من أفواههم...)
    ثم يزيدنا ربنا بياناً فيقول: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [آل عمران:118]، أي: بغضهم الشديد لنا ظهر من ألسنتهم، ومن يجلس إليهم ويستمع منهم والله ما يلبث حتى يسمع كلمات دالة على بغضهم لنا.قوله: وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، أي: ما تخفي صدورهم من بغضنا وحسدنا، وحب سقوطنا وضعفنا وعجزنا ومصيبتنا، أعظم مما قد يظهر على ألسنتهم.
    معنى قوله تعالى: (قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون)
    وأخيراً: يقول لنا ربنا -سامحنا يا رب-: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ [آل عمران:118]، ماذا نقول؟ ربنا لك الحمد، ولا نقول: جزاك الله خيراً، إذ إنه صاحب الخير، فاللهم لك الحمد على ما علمتنا وبينت لنا، ونحن نأسف أننا ما عرفنا بيانك، ولا أخذنا بآياتك، فارتبكنا وهبطنا وتمزقنا، والمنة لك يا رب العالمين. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، وإذا كنتم لا تعقلون فلن تشاهدوا الطريق أبداً، وإلا فإن الله بين الطريق -سبيل النجاة- على أوضح ما يكون، ولكن أين العقول؟ العقول ذهب بها الهوى والدنيا والشهوات، وغطاها الجهل وظلماته، وارتبك العالم الإسلامي وهو الآن في محنة. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ [آل عمران:118]، فلك الحمد يا ربّ أن بينت لنا، وقلت: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، فالذين لا يعقلون ما ينفعهم البيان أبداً، فالمجنون، والخبل، والبهلول، إذا قلت له: الطريق من هنا، فاسر عن يمينك إلى كذا، ثم يأتيك المحل الفلاني، ثم امش حتى تصل إلى كذا، فإنه لا يفهم؛ لأنه لا يعقل، ما عنده عقل.
    تفسير قوله تعالى: (هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم...)
    قال تعالى: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]. هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ [آل عمران:119] عجيب هذا الكلام الإلهي! لما جاء بالهاء في (أنتم) ما استعجل فقال: هؤلاء، وإنما (هَا)، أَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119]، إذ عواطف المؤمنين والمسلمين تطغى عليهم، فقد يحب المسلم جاره اليهودي أو النصراني أو المجوسي، وخاصة إذا أحسن إليه وشاهد منه بعض الإحسان، ولا يفكر في قلبه، وما ينطوي عليه صدره من الغل والحسد للإسلام والمسلمين، فمن يرد على الله؟ أعوذ بالله! هَاأَنْتُمْ [آل عمران:119] وخاصة قبل نزول هذه الآيات، قبل نزول هذه التعاليم الإلهية، قال لنا: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119]، صدق الله العظيم، إي والله، لا يحبونكم.ثم قال: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:119]، لفظ: (الكتاب) يا طلبة العلم ما هو بمفرد، وإنما هو اسم جنس بمعنى: الكتب الإلهية، كقولك: الإنسان، هل هو واحد؟ لا، إذ إن كل البشرية إنسان. هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119] والبرهنة: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ [آل عمران:119] الإلهي، كُلِّهِ [آل عمران:119]، فلو كان مفرداً ما يقول: كله، لكن (الكتاب) اسم جنس المراد به الكتب الإلهية، فنحن نؤمن بالتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف موسى، وصحف إبراهيم، وصحف شيث وإدريس وهكذا، كل ما أنزله الله من كتاب نحن نؤمن به، وهم لِمَ لا يؤمنون بكتابكم؟! لِم لا يؤمنون بالقرآن ويدخلونه في صدورهم؟! أو ما هم بمؤمنين كما يزعمون؟ أنزله الله أو لا؟ يقولون: هذا كتابه، لِم لا يؤمنون به؟ لأنهم يحافظون على كيان وجودهم، ومن هنا سوف يبغضونكم ويعادونكم، ولا يرون لكم الخير أبداً، فسبحان الله! كيف يُعلٍّم الله المؤمنين؟ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:119]، وهم لا يؤمنون بكتابكم أبداً، بل ولا بآية منه.ثم قال: وَإِذَا لَقُوكُمْ [آل عمران:119]، هذا أيام ضعفهم ووجودهم في المدينة، قَالُوا آمَنَّا [آل عمران:119]، أي: نحن مؤمنون، وَإِذَا خَلَوْا [آل عمران:119] ببعضهم البعض، وما بقي معهم مؤمن في المجلس، عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ [آل عمران:119]، وهذا من عادة الإنسان وفطرته أنه إذا تألم يعض أصبعه، حتى الأطفال الصغار يفعلون ذلك، فهؤلاء إذا خلوا فيما بينهم، وما بقي مؤمن يسمع أو يرى مجلسهم، عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ [آل عمران:119] من شدة الغيظ، فلا يريدون أن يروا مؤمناً سعيداً أبداً.وعند ذلك قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119]، فخفف عن نفسك يا رسولنا، خفف عن نفسك يا شيخ فلان، قل لهم: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119]، وليس شرطاً أن يسمعوك، فما دمت قد علمت هذا فقل لهم الآن: موتوا بغيظكم، لن ينفعكم الغيظ، بل تحترقون به، وهذا أيام كنا أولياء الله والله معنا، فلم نبال بغيظهم، إذ قال لنا ربنا: قولوا لهم: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119]. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]، كل ما في صدر الإنسان وانطوى عليه واختبأ فيه الله عليم به، ولهذا أخبرنا بغيظهم، وأنهم مصرون عليه، وقلوبهم مملوءة، وصدورهم محشوة به، فإذا قال لك اليهودي: لا، نحن لا نحمل لكم غيظاً ولا بغضاً ولا كرهاً! فقل لهم: أخبرنا العلام للغيوب أنكم تبغضون المسلمين، وهذا إخبار الله عز وجل خالق قلوبكم، وموجد صدوركم.
    تفسير قوله تعالى: (إن تمسسكم حسنة تسؤهم...)
    قال تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، زاد الله تعالى في البيان للآيات، فقال: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ [آل عمران:120]، لا أن تصيبكم، وإنما مجرد المس، كأن نزل المطر بدياركم، الغزوة الفلانية انتصرتم فيها، الرخاء عمَّ الديار، أدنى حسنة تمسَّكم تسؤهم، فيكربون ويحزنون ويتألمون، وكذلك إذا سمعوا أننا أصبحنا ننتج الطائرات المقاتلة يكربون. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ [آل عمران:120] قلَّت أو كثرت، والله: تَسُؤْهُمْ [آل عمران:120]، أي: تصبهم بالإساءة في نفوسهم، لا يريدون أبداً أن يصيبكم خير؛ لأنهم أعداء. وَإِنْ تُصِبْكُمْ [آل عمران:120] لا أن تمسكم مصيبة، وإنما تصبكم مصيبة، كالجدب العام أو هزيمة في معركة، يَفْرَحُوا بِهَا [آل عمران:120]، فتمتلئ صدورهم بالفرح، ويظهر ذلك على ألسنتهم وعلى وجوههم.وبعد: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، وهذه بشرى الله لعباده المؤمنين، لكن بشرطين عظيمين:أولاً: الصبر في البلاء والشدة، فلا نتزعزع.ثانياً: أن نتقي الله عز وجل فلا نعصه، ولا نخرج عن طاعته.وعند ذلك إن نحن صبرنا واتقينا ربنا، والله ما ضرنا كيدهم ولا مكرهم، بل والله لو تألبوا كلهم، وجاءوا من شرق الدنيا وغربها، ما زلزلوا أقدامنا ولا أصابونا بما يضرنا؛ لأن من بيده الملكوت هو الذي يديره، فيخيبهم في كل حملاتهم وظنونهم، ويرجعون خاسرين من حيث أتوا. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، أي: أذاهم، مكرهم، احتيالهم، خبثهم، ما يضر أبداً، إن أنتم صبرتم واتقيتم، وتقوى الله مستلزمة لطاعته في كل الأمر والنهي، في العقيدة، في القول، في السلوك، في اللباس، في كل حياتنا؛ لأنها أنظمة ربانية، إذا تم تنظيمها وأُديت كذلك، فأهلها لن يخسروا أبداً، ولن يضرهم كيد الكائدين.وكرر ذلك بهذا التعليق فقال: إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، هم يبيتون المكر ويتآمرون ويجتمعون في لندن، ويجتمعون في الهند، وفي كذا وكذا، والله مطلع عليهم، فلا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، إذ إن كل أعمالهم مفضوحة لله مكشوفة بين يديه، فلهذا يا معشر المؤمنين! اصبروا واتقوا، والله لن يضركم كيدهم شيئاً؛ لأن الله سيدنا ومولانا وخالقنا وولينا مطلع على كل تحركاتهم الظاهرة والباطنة. وقد قيل لـعمر -خليفة المسلمين- رضي الله عنه: إن هنا رجلاً نصرانياً من رجالات الحيرة -والحيرة قريبة من العراق- لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم -أي: أنه كاتب ممتاز- أفلا يكتب عنك يا عمر؟ فقال عمر: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين؛ لأنه سيصبح يطلع على كل مهام عمر. والناظر إلى الدول الشيوعية الاشتراكية يوم دخلوا في الاشتراكية، أصبحت بطانتهم كلهم من الروس، خواصهم الذين يسيرون دفة الاشتراكية من الروس، أو من المجر، أو المناطق الروسية من يوغسلافيا. كذلك: جاء أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه وأرضاه وعن الأشعريين كلهم -بحسَّاب نصراني- حسَّاب لا نظير له في الحساب إلى عمر، فانتهره عمر وقال له: لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خونهم الله. فأدب عمر رضي الله عنه أبا موسى رضي الله عنه، مع إتيانه له بحساب لا مثيل له، إذ إنه يستطيع أن يحسب الملايين والبلايين. إذاً: معاشر المسلمين! لا تتخذوا بطانة من غير المؤمنين، فتطلعونهم على أسراركم وخفايا أموركم، وخاصة العسكرية والمالية والتربوية والتوجيهية وغيرها؛ لأنهم يدسون، ما يفرحون بسعادتكم وكمالكم، اللهم اجعل المؤمنين يفيقون.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    والآن مع هداية الآيات لنتتبع ما علِمناه. قال المصنف غفر الله لنا وله: [ من هداية الآيات: أولاً: حرمة -والحرمة: المنع- اتخاذ مستشارين وأصدقاء من أهل الكفر عامة، وحرمة إطلاعهم على أسرار الدولة الإسلامية، والأمور التي يخفيها المسلمون على أعدائهم؛ لما في ذلك من الضرر الكبير ] أي: حرمة اتخاذ مستشارين وأصدقاء من أهل الكفر عامة، سواء كانوا بيضاً أو سوداً مطلقاً، وحرمة إطلاعهم على أسرار الدولة الإسلامية، وما تخفيه وتستره عن الناس.[ والأمور التي يخفيها المسلمون على أعدائهم؛ لما في ذلك من الضرر الكبير على المسلمين ]، فبلغوا هذا، فهم يضحكون عليكم إلا من شاء الله، ولا تلوموهم؛ لأنهم ما عرفوا، ما جلسوا هذا المجلس ولا عرفوا عن الله، ووالله لـ(95%) من مسئولي العالم الإسلامي ما عرفوا شيئاً، منهم دكاترة، أصحاب شهادات، لكن تخرجوا من المسجد النبوي؟! لا، وإنما تخرجوا على أيدي أعداء الإسلام، فملّئوهم وشحنوهم، ووجهوهم التوجيه الذي لا يرجع إلى الله أبداً، ومن طلب البرهنة أو التدليل على هذه القضية، فإليه الدليل:كيف تُسْتَقل ويوجد لنا نيفاً وأربعين دولة، ولا توجد واحدة منها أمر حاكموها بإقامة الصلاة؟! أنتم لا تفكرون هذا التفكير؛ لأننا هابطين، فأسألكم بالله، ما علة وجودنا سوى الصلاة؟ هل هناك شيء غير هذا؟! لماذا لا يُؤمر بإقامة الصلاة؟! السبب: أنهم ما عرفوا، فأبناؤنا وإخواننا غشيهم الجهل، تعلموا من طريق الكفار فهبطوا بهم وأفسدوا عقولهم، وقالوا لهم: يجب أن ننهض، التمدن، الحرية، الترقي، اتركونا من التخلف، اتركونا من الرجوع إلى الوراء، و.. و..، وقد سمعت بأذني مسئولاً من المسلمين في أوروبا يقول: ما هي إلا أيام فقط ونتحرر، وتخرج المرأة عارية تغني، يعني: كالفرنسيات واليهوديات! قال: [ثانياً: بيان رحمة المؤمنين وفضلهم على الكافرين ]، أما قال: تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119]؟ فقلوبنا رقيقة، إذ لو عندي جار أو أسير كافر أرحمه وأشفق عليه، فهل عرفتم فضل المؤمن على الكافر أو لا؟ كفضل ماذا؟ كفضل الآدمي على الخنزير! كفضل الآدمي على الكلب والقرد! فإن قيل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟! والجواب: قد قرر هذا القرآن فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة :6]، فما البرية يا عرب؟ الخليقة، وهل شر الخليقة القردة والخنازير والحيات؟ لا، فلا حيات ولا ثعابين ولا غيرها، وإنما الكفار من أهل الشرك والنفاق، والدليل: أولاً: أن هذا خالقهم أصدر الحكم عليهم.ثانياً: هل الأفعى أو الحنش أو الأرقط أو الخنزير أو الكلب كفر ربه؟! جحد مولاه؟! حارب أولياءه؟! غش عباده؟! الجواب: لا، وهذا الكافر كفر بربه وجحده، وصنع آلهة باطلة وتركه، وخرج عن عبادته وطاعته! فأيهم أشر إذاً؟! وهل عرف الناس هذا؟ ما عرفوه؛ لأن سورة البينة لا تُقرأ على الموتى، وإنما التي تُقرأ على الموتى يس والملك! ثم قال تعالى بعدها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7] أي: الخليقة، من بَرَأ النسمة يبرأ إذا خلقها، والبارئ هو الله، قال تعالى: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر:24]، وإنما قرئ (البرية) من باب التخفيف، وهي قراءة حفص، فقلبت الهمزة ياء وأدغمت في الياء، وإلا فهي ليست من (برية)، وإنما من (برأ يبرأ بريئة)، بمعنى: مبروءة، على وزن فعيلة بمعنى مفعولة، خليقة بمعنى: مخلوقة.إذاً: شر البريئة هم الكفار والمشركون، ومن قال: كيف تقول هذا ياشيخ؟ فنقول: سائر الحيوانات على اختلافها ما عصت ربها، ولا خرجت عن طاعته، بل ما فطرها عليه وهداها إليه تفعله بانتظام، والإنسان يسب ربه ويكفر به، ويحارب أولياءه، وينتقم من أوليائه، ويفعل ويفعل، وكل هذا ضد الله، فهل هذا أصبح فيه خير؟ هذا كله شر، فهو شر الخليقة. قال: ثالثاً: [ بيان نفسيات الكافرين، وما يحملونه من إرادة الشر والفساد للمسلمين ]، كيف عرفنا هذا؟ هل درسناه في كلية من الكليات؟ في علم النفس؟ لا، وإنما عرفنا ذلك من قول الله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]. قال: رابعاً: [ الوقاية -الكافية- من كيد الكافرين -مطلق كافر- ومكرهم ]، والوقاية: الحبر، وهو شيء يقيني من البرد كالثوب، ومن الشمس كالمظلة، ثم هذه الوقاية أين توجد؟ أين تكمن؟ قال: [ تكمن في الصبر والتجلد، وعدم إظهار الخوف للكافرين، ثم تقوى الله تعالى بإقامة دينه، ولزوم شرعه، والتوكل عليه، والأخذ بسننه في القوة والنصر ]، وسيأتينا لاحقاً -إن شاء الله- معرفة سبب انهزام المؤمنين في أحد، وذلك بعدم الأخذ بسنة النصر، فقد تفرقوا وآثروا الدنيا على الآخرة، فلا إله إلا الله! إن هذا القرآن عجيب.فهيا نسمع للآيات مرة أخيرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:118-119]، وهم لا يؤمنون بكتابكم، وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ [آل عمران:119]، ماذا تقولون لهم؟ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:119-120].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #191
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )




    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (49)
    الحلقة (190)

    تفسير سورة آل عمران (54)


    بين الله لعباده المؤمنين أن الصبر والتقوى هما عدة الجهاد في الحياة، وأن الله عز وجل بولايته لعباده المؤمنين يقيهم مصارع السوء، ويجنبهم موارد التهلكة، ويهيئهم لطريق السلامة، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم مثالاً للفئة المؤمنة التي أوشكت على الهلكة، وباتت قاب قوسين أو أدنى من الفشل، إلا أن عناية الله تدركها، ورحمة الله عز وجل تحوطها، فيعود فشلها عزاً وهزيمتها نصراً، كما حدث في غزوة بدر لبني الحارث وبني سلمة.
    تفسير قوله تعالى: (وإذ غدوت من أهلك تبوِّئ المؤمنين مقاعد للقتال...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وهذه الآيات الثلاث التي انتهى إليها الدرس، نتلوها ونكرر تلاوتها، والمستمعون والمستمعات يحاولون ما استطاعوا حفظها وفهمها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:121-123]. ‏
    سبب نزول قول الله تعالى: (إذ همت طائفة منكم أن تفشلا والله وليهما)
    وهنا أذكركم بما قاله جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما وأرضاه، إذ إنه قال: فينا نزلت هذه الآية، وهي قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران:122]، وهما بنو سلمة من الخزرج، وبنو الحارثة من الأوس، فقد همتا بالعودة عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المدينة لقتال المشركين بأحد، فرجع عبد الله بن أبي ابن سلول بثلاثمائة من المنافقين وضعفة الإيمان، وبنو سلمة وبنو حارثة همتا بالرجوع، ولكن الله عصمهما، فـجابر يقول: فينا نزلت، ولكنا نحب هاتين الآيتين؛ لأن الله قال: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، شهادة الله لنا بأنه ولينا تعدل الدنيا وما فيها؛ لأن نزول هاتين الآيتين فيه معنى التأديب وعدم اللياقة والرضا، أي: كيف تهم الطائفة بالرجوع وتترك رسول الله في المعركة؟! لكن لما كان فيها: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، قال: إني أحب أنها نزلت فينا.فقوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ [آل عمران:122]، أي: اذكروا، إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران:122]، وتعود إلى المدينة تابعة لـابن أبي، وهذا ذم قاتل، لكن لما قال: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، ما ضرنا هذا ولا آلمنا، بل أفرحنا وأثلج صدورنا، إذ شهد الله لنا بأنه ولينا، أو ما تحبون ولاية الله؟ والله لا خير بدون ولاية الله لنا، إذ من لم يواله الله عاداه، ومن عاداه الله خسر ودمره لله وأهلكه، وولاية الله لا تطلب بالملايين أو بالإبل أو البقر، وإنما تطلب بشيئين اثنين ألا وهما: أولاً: الإيمان الصحيح، وبالتالي فلا تظفرن عبد الله بولاية الله إلا إذا آمنت إيماناً صحيحاً، إذا عرضته على القرآن وافق عليه وصدَّق وأمضى.ثانياً: تقوى الله عز وجل، وهي خوف منه يحملك على فعل ما يأمرك وترك ما ينهاك عنه، ودليل هذا قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يقول: منهم أولياؤك يا ربّ؟ بنو هاشم؟! بنو تميم؟! إذاً فمن هم؟ أجاب تعالى بنفسه فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فكل مؤمن تقي هو ولي لله، ولن يكون المؤمن الفاجر ولياً لله، ولن يكون التقي غير المؤمن ولياً لله، بل لابد من إيمان وتقوى.وسر هذا وفقهه: أن المؤمن التقي تطيب نفسه وتطهر وتزكو وتصفو بواسطة الإيمان الحامل على فعل المأمور وترك المنهي، إذ إن فعل المأمورات تزكي النفس، وترك المنهيات تحافظ على الزكاة والطهر كما هي، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].إذاً: ولاية الله -يا من يطلبها- تتحقق لك بالإيمان الصحيح، وتقوى الله عز وجل التي هي فعل ما أمر بفعله، وترك ما نهى عن فعله، والسر في ذلك: أن الإيمان والعمل الصالح يطهران النفس ويزكيانها، فترك المحرمات والمنهيات يحتفظ بزكاة النفس وطهارتها؛ لأنه إذا كان يزكيها ثم يصب عليه أطنان الأوساخ، فهو كمن يغسلها ثم يفرغ عليها براميل الوسخ، وعند ذلك لا تنتفع، بل لابد من فعل المزكيات وترك المخبِّثات والملوثات.وكل ما في الأمر: أنه إذا زلت القدم، وارتكب عبد الله إثماً، فعلى الفور يغسل وينظف ويطيب ويطهر، أي: يندم ويستغفر ويعمل العمل الصالح.فهل عرفتم معنى قول جابر؟ وهي رواية البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: فينا نزلت هذه الآية: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، قال: نحن الطائفتان بنو الحارثة وبنو سلمة، وما أحب أنها لم تنزل فينا؛ لقول الله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، اللهم كن ولينا، اللهم حقق لنا ولايتك.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير
    معاشر المستمعين والمستمعات! نقرأ شرح هذه الكلمات لنتأكد من فهم ما فهمنا. ‏
    شرح الكلمات
    قال [ قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ [آل عمران:121] أي: واذكر -يا رسولنا صلى الله عليه وسلم- إذ غدوت، والغدو: الذهاب أول النهار ]، والرواح: الذهاب آخر النهار، يقال: غدا فلان وراح، إذا مشى في الصباح، وراح -عاد- بعد الظهر، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: [ وقوله تعالى: مِنْ أَهْلِكَ [آل عمران:121]، أهل الرجل: زوجته وأولاده، و(من) هنا لابتداء الغاية، إذ خرج صلى الله عليه وسلم صباح السبت من بيته إلى أحد، حيث نزل المشركون به يوم الأربعاء ] بقيادة أبي سفيان رضي الله عنه، حيث جاءوا للانتقام وضرب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأنهم ذاقوا الهزيمة في بدر، وقد مضت سنة وعزموا على الانتقام، فجاءوا بأحابيشهم ونزلوا بأحد، وأحد جبل طويل فيه أكثر من عشرة كيلو، وقد نزلوا في طرفه في الوادي، وذلك يوم الأربعاء، وقد عرفتم تشاور النبي مع رجاله، هل يخرجون إلى قتالهم أو يتركونهم حتى يدخلوا المدينة ويقاتلونهم دخل المدينة؟ فالنساء والأطفال يرمونهم من السطوح بالحجارة وغيرها، والمؤمنون الرجال يقاتلونهم داخل الأزقة، وهذا كان اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً، واختاره ابن أبي رئيس المنافقين، ولهذا رجع من الطريق برجاله، وقال: عدل الرسول عن رأيي وأخذ برأي الآخرين، فأنا لا أقاتل. قال: [ وقوله تعالى: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:121] ]، ما معنى تبوّؤهم؟ يقال: بوأه الدار، أي: أنزله فيها، وبوأه المكان، أي: أنزله فيه.قال: [ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:121] أي: تنزل المجاهدين الأماكن التي رأيتها صالحة للنزول فيها من ساحة المعركة ]، إذ هو الذي صفَّ رجاله، وأمر الرماة أن ينزلوا بجبل الرماة.فال: [ وقوله: إِذْ هَمَّتْ [آل عمران:122]: حدثت نفسها بالرجوع إلى المدينة، وتوجهت إرادتها إلى ذلك ]، يقال: هم بالشيء، أي: عزم عليه، ولكن الله حفظهم وعصمهم؛ لأنهم أولياؤه المؤمنون المتقون، إذ لو عادوا لخسروا كالمنافقين.قال: [ وقوله: طَائِفَتَانِ [آل عمران:122]: هما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار ]، بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، والأنصار هما طائفتا أو قبيلتا الأوس والخزرج.قال: [ وقوله: تَفْشَلا : تضعفا وتعودا إلى ديارهما، تاركَين الرسول ومن معه يخوضون المعركة وحدهم ]. قال: [ وقوله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]: متولي أمرهما وناصرهما، ولذا عصمهما من ترك السير إلى المعركة ].قال: [ وقوله: بِبَدْرٍ [آل عمران:123]، بدر: اسم رجل ]، وعندنا شاب يقال له: أبو بدر، إذ له ولد سمَّاه: بدراً، والبدر معروف، وهو القمر إذا امتلأت جعبته بالأنوار، قال: [ وسمي المكان به لأنه كان له فيه ماء -كان لهذا الرجل بدر ماء في هذا المكان، فسمي المكان به- وهو الآن قرية -أو قُريَّة صغيرة- تبعد عن المدينة النبوية بنحو من مائة وخمسين ميلاً، أي: كيلو متر ]، وأهل البلاد يعرفون ذلك، لكن الذين يقرءون التفسير في الهند أو في أمريكا لابد أن يسألوا: أين توجد مدينة بدر أو قرية بدر؟ قال: [ وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، أي: لقلة عَدَدِكم وعُدَدِكم -وأنتم أذلة في بدر، فقط ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وفرس واحد- وتفوق العدو عليكم ] أي: عدو المشركين، فقد كانوا ألفاً تقريباً.والآن وبعد أن عرفنا المفردات، نسمعكم الآيات مرة أخرى لتتذكروا المفردات: قال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:121]، اذكر أيضاً: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:122-123].
    معنى الآيات
    قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات: لما حذر الله تعالى المؤمنين من اتخاذ بطانة من أهل الكفر والنفاق ]، نعم حذرنا فقال قبل هذه الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، قال: [ لما حذر الله تعالى المؤمنين ] من أصحاب رسول الله، ومن المؤمنين إلى يوم القيامة؛ لأن ذاك الحكم عام، قال: [ لما حذر الله تعالى المؤمنين -حذرهم من أي شيء؟- من اتخاذ بطانة من أهل الكفر والنفاق ]، ما معنى: بطانة؟ البطانة الذين نستبطنهم ونجعلهم مطلعين على أسرارنا وخفايا أمورنا، قال: [ وأخبرهم أنهم متى صبروا واتقوا لا يضرهم كيد أعدائهم شيئاً ]، وهذا تقدم في الآيات السابقة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:118-119]، وهم لا يؤمنون، وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا [آل عمران:119-120]، ثم قال الله -وهو محل الشاهد- تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، وذلك لما كشف الله النقاب عنهم، وأزاح الستار عن غيظهم ومكرهم وعدائهم -وليس معنى هذا أنه يخوفنا ويهددنا،لا، وإنما يبين لنا- وضع تعالى لنا الطريق فقال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120].فقوله: وَإِنْ تَصْبِرُوا أي: على ما أمركم الله به ونهاكم عنه، وَتَتَّقُوا الخروج عن آدابه، عما شرع من قوانين في الحرب والسلم، لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].قال: [ لما حذر تعالى المؤمنين من اتخاذ البطانة من أهل الكفر والنفاق، وأخبرهم أنهم متى صبروا واتقوا لا يضرهم كيد أعدائهم شيئاً، ذكرهم بموقفين:أحدهما: لم يصبروا فيه ولم يتقوا فأصابتهم الهزيمة، وهو غزوة أحد.والثاني: صبروا فيه واتقوا فانتصروا وهزموا عدوهم، وهو غزوة بدر، فقال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران:121]، أي: اذكر يا رسولنا لهم غدوك صباحاً من بيتك إلى ساحة المعركة بأحد، تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، أي: تنزلهم الأماكن الصالحة للقتال الملائمة لخوض المعركة، وَاللَّهُ سَمِيعٌ لكل الأقوال التي دارت بينكم في شأن الخروج إلى العدو أو عدمه وقتاله داخل المدينة، عَلِيمٌ بنياتكم وأعمالكم، ومن ذلك همُّ بني سلمة وبني حارثة بالرجوع من الطريق لولا أن الله سلَّم، فعصمهما من الرجوع؛ لأنه وليهما، هذا معنى قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122] أي: تجبنا وتحجما عن ملاقاة العدو، وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، فعصمهما من ذنب الرجوع، وترك الرسول صلى الله عليه وسلم يخوض المعركة بدون جناحيها، وهما بنو حارثة وبنو سلمة، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]، فتوكلت الطائفتان على الله، وواصلتا سيرهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلمهما الله من شر ذنب وأقبحه -ألا وهو العودة إلى المدينة وترك الرسول وحده- ولله الحمد ].قال: [ هذا موقف ]، أي: موقف غزوة أحد، قال: [ والمقصود منه: التذكير بعدم الصبر وترك التقوى فيه؛ حيث أصاب المؤمنين فيه شر هزيمة، واستشهد من الأنصار سبعون رجلاً ومن المهاجرين أربعة، وشج رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، واستشهد عمه حمزة رضي الله عنه وأرضاه ]؛ لأنهم ما اتقوا ولا صبروا، فكانت الهزيمة بترك التقوى والصبر.قال: [ والموقف الثاني: هو غزوة بدر؛ حيث صبر فيها المؤمنون، واتقوا أسباب الهزيمة، فنصرهم الله وأنجز لهم ما وعدهم؛ لأنهم صبروا واتقوا، فقتلوا سبعين رجلاً وأسروا سبعين، وغنموا غنائم عظيمة ].إذاً: في أحد ما اتقوا أسباب الهزيمة ولا صبروا عند المواجهة، فكانت الهزيمة المرة، حيث قتل من الأنصار سبعون رجلاً، ومن المهاجرين أربعة رجال، كما استشهد حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، بينما في بدر اتقوا وصبروا، فقتلوا سبعين مشركاً، وأسروا سبعين -ضعف الذين قتلوا- وأما الغنائم فلا تسأل فإنها عظيمة.قال: [ والموقف الثاني: هو غزوة بدر؛ حيث صبر فيها المؤمنون واتقوا أسباب الهزيمة، فنصرهم الله تعالى وأنجز لهم ما وعدهم؛ لأنهم صبروا واتقوا، فقتلوا سبعين رجلاً، وأسروا سبعين، وغنموا غنائم طائلة، قال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، فاتقوا الله بالعمل بطاعته، ومن ذلك: ترك اتخاذ بطانة من أعدائكم لتكونوا بذلك شاكرين نِعَم الله عليكم فيزيدكم، فذكر تعالى في هذا الموقف النصر لأنه خير، فقال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، ولم يقل في الموقف الأول: ولقد هزمكم الله بأحد وأنتم أعزة؛ لأنه تعالى حيي كريم ] الله أكبر! آمنا بالله، لو شاء لقال كما قال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [آل عمران:123]، لقال: ولقد هزمكم الله بأحد! لكن فقط ذكَّرهم بالحادثة، ولم يقل: الهزيمة.قال: [ لأنه تعالى حيي كريم، فاكتفى بتذكيرهم بالغزوة فقط، وهم يذكرون هزيمتهم قطعاً ] أي: لما ذكرهم بغزوة أحد، فإنهم سوف يذكرون الهزيمة ويبكون، ولم يقل: ولقد هزمكم في أحد!قال: [ لأنه تعالى حيي كريم، فاكتفى بتذكيرهم بالغزوة فقط، وهم يذكرون هزيمتهم فيها، ويعلمون أسبابها وهي عدم الطاعة وقلة الصبر ]، أي: قلة الصبر عند المواجهة، وأما عدم الطاعة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من حذقه وبراعته وعلمه وفهمه وولاية الله له، لما نزل أحداً جعل الرجال دون الجبل، وجعل ظهورهم إلى أحد، وصفهم صفوفاً، وجعل الرماة أمام أحد -وكانوا خمسة وثلاثين رامياً- على ذلك الجبل، وأمرهم فقال لهم: ( لا تنزلوا من الجبل وإن رأيتم الطير تتخطفنا )، أي: لا تنزلوا من الجبل، سواء كانت الدائرة لنا أو علينا، انتصرنا أو انكسرنا، وعند ذلك أصبح المشركون بين نارين، بين الرسول وأصحابه وبين الرماة، فانهزم المشركون وفروا في بداية الأمر، حتى فررن نساء قريش، لكن الرماة خالفوا الأمر فنزلوا، وكانت هذه معصية، فلما رأى خالد بن الوليد قائد خيل المشركين أن الجبل خلا احتله، فلما احتله وقع المؤمنون بين فكي المقراض، بين المشركين وبين الرماة، وعند ذلك أُصيبوا بالهزيمة ففرَّوا. والشاهد عندنا -حتى لا ننسى- أن الله عز وجل ما ذكرهم بالهزيمة فقال: واذكروا هزيمتكم في أحد، ولكن ذكر الواقعة فقط، وهم سيذكرون الهزيمة، أما في بدر فقال لهم: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123]، أي: تشكرون الله على نصره إياكم.
    هداية الآيات
    قال: [ من هداية الآيات: أولاً: فضيلة الصبر والتقوى، وأنهما عدة الجهاد في الحياة ]، فهيا نكرر هذا ونبلغه المسلمين عرباً وعجماً، وهنا أقول: هل صبر المسلمون على قتال اليهود في فلسطين؟ بمجرد ما يلتقون ينهزمون، أو يصدر أمراً من الأمم المتحدة بوقف القتال يوقفون القتال، وعند ذلك انتصر اليهود على العالم الإسلامي بكامله، من اندونيسيا إلى موريتانيا، إذ فلسطين بلد الإسلام والمسلمين، وليست بلد العرب والمستعربين، فلما لم يصبر المسلمون في قتال اليهود هُزِموا وانكسروا، واحتل اليهود فلسطين وأقاموا دولتهم عالية الراية شامخة اللواء.كما أقول أيضاً: هل اتقى المسلمون الله في القتال؟ هل اختاروا جيوشهم وأعدوا رجالهم وسلَّحوهم وزودوهم؟ والله ما فعلوا ذلك أبداً، أما إخواننا الفلسطينيون فلا ينتصرون ولن ينتصروا؛ لأنه لا إمام لهم يقودهم، لا إمام لهم بايعوه على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يُعبد الله وحده، ولذلك شأنهم شأن المسلمين، هابطين لا يستطيعون أن تجتمع كلمتهم على إمام واحد فيصلون وراءه، ويقيم بينهم حدود الله، ويدربهم ويروضهم العام والعامين، لكن ما استطاعوا ككل العرب والمسلمين.كذلك الذين في مصر، وفي الجزائر، وفي تونس، وفي المغرب، وفي لبنان، وفي العراق، وفي سوريا وغيرها، ينادون بـ: الحاكمية، والجهاد، وإقامة الدولة الإسلامية! هل أقاموا دولة إسلامية في تونس؟ لا، بل اضطهدوا المسلمين هناك، وأذاقوهم سوء العذاب، كذا في سوريا، أين إمامكم؟ من بايعتم؟ هل روَّضكم؟ هل رباكم؟ هل أصبحت كلمتكم واحدة؟ الجواب: لا، وبالتالي مزَّقوا شملهم، وقطعوا ألسنتهم، وفي مصر كل يوم الدمار والخراب والبلاء، آه! إلى متى تبقى هذه الجماعات متطاحنة متناحرة متخاصمة يكفر بعضها بعضاً؟ فهل عرفنا الطريق أو لا؟ عرفنا، لكن إخواننا لا يستطيعون أن يسلكوا هذا الطريق؛ لأنهم ما رُبوا في حجور الصالحين، والطريق الذي يجمع كلمة المسلمين، ويعلي رايتهم، وينصرهم على اليهود والنصارى والبوذيين والمشركين والكافرين أجمعين، هو أن يتوبوا إلى الله عز وجل توبة نصوحة صادقة، وتبتدئ توبتهم وتظهر آثارها في الدنيا وفي العالم بأكمله، عندما يعترف المسلمون بأنهم أخطئوا الطريق وضلوا السبيل، ونهجوا منهجاً ما يرضاه الله، وعند ذلك يعودون إلى الله تعالى، ويطرحون بين يديه، فيبكون الليالي والأيام في بيوت ربهم، النساء وراء الستائر من الكتان، والأبناء والأطفال والأحداث الذين يمرنونهم على اللعب والباطل، يصطفون دون أمهاتهم، وأمامهم رجالهم وآباؤهم، ويجلس لهم العالم الرباني، العالم بكلام الله وكلام رسوله، قال الله وقال رسوله، من المغرب إلى العشاء وهم يتلقون الكتاب والحكمة، ويزكون أنفسهم، ويهذبون أخلاقهم، ويسمون بآدابهم، اليوم بعد اليوم، والعام بعد العام، وفجأة وإذا بأمة الإسلام قد أقبلت على الله، وقبلها الله، وأصبحت لا نفرة ولا خلاف ولا صراع، ولا تحزبات ولا جماعات ولا وطنيات، وإنما أمة الإسلام أمة واحدة.ومن ثم تتجلى آثار الإيمان والتقوى، فلا حسد، ولا بغضاء، ولا عداء، ولا كبر، ولا عجب، ولا شح، ولا بخل، ولا جريمة، ولا تلصص، ولا خيانة، ولا.. ولا..، وكأنهم تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم.ويومها يكونون قد آمنوا واتقوا، حتى أنهم لو قالوا: الله أكبر، لرددها الكون كله، فهل عرفتم الطريق أو لا؟ في أي مدينة، في أي قرية، في أي بلد، إذا اجتمع أهل القرية في مسجد الله، في بيت ربهم بصدق، يتعلمون الكتاب والحكمة، والله لتطهرن تلك القرية، ولتصفون تلك النفوس، وإذا بهم كأنهم في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيظهر الصدق والطهر والوفاء والرحمة والإخوة والإخاء، ولن تبقى مظاهر البخل ولا الفقر ولا الظلم ولا الفجور ولا الكذب ولا.. ولا..، وإنما أصبحوا كأنهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.فهل هناك طريق غير هذا؟ والله لا طريق، إما أن نتوب، ونقبل على الله، ونتعلم الكتاب والحكمة، ونزكي أنفسنا، ونطهر أرواحنا، ونهذب آدابنا وأخلاقنا، فنصبح حقاً أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا طريق غير هذا. قال: [ أولاً: فضيلة الصبر والتقوى ]، أي: الصبر على طاعة الله ورسوله، والتقوى مما يفزعنا أو يزعجنا من سائر الذنوب والمعاصي، ومن الإهمال والترك؛ لما علمنا الله ودعانا إليه.قال: [ ثانياً: استحسان التذكير بالنعم والنقم للعبرة والاتعاظ ]، أي: يستحسن أن يُذكَّر المسلمون بنعم الله عليهم، وأن يُذكَّروا بالنقم الإلهية ليرهبوها ويخافوها؛ لأن الآية ذكَّرت بهزيمة أحد وبنعمة النصر في بدر، فعلمتنا هذا.قال: [ ثالثاً: ولاية الله تعالى للعبد تقيه مصارع السوء، وتجنبه الأخطار ]، وتجلت هذه في طائفة بني حارثة وبني سلمة، إذ إن إيمانهم وتقواهم جنبهم الهزيمة؛ لأن الله وليهم، وإلا كانوا سيقعون في الهاوية ويسقطون، إذاً فولاية الله للعبد تحفظه من مصارع السوء وتجنبه الأخطار.هل عرفتم ذلك معشر السعوديين المؤمنين؟ أقسم بالله، لو أقبلنا على الله بصدق، وتركنا هذا الباطل وهذا الشر، وكادنا اليهود والنصارى والمشركون والعالم بكامله، ما أذلنا الله لهم، ولا أخزانا أبداً في حربٍ معهم.وقد أرانا آية في حرب الخليج، فقد كانت جيوشنا قليلة ودولتنا واسعة، فجاء العدو من الغرب ومن الشرق ومن الجنوب ومن الشمال، وأرادوا أن يضربوا مدة ثلاثة أيام وإذا هم في مكة، فينتهي وجود هذه الدولة وهذا الإسلام، والذي أوقفهم هو الله عز وجل، ولو ما أوقفهم الله قبل أن تصل أمريكا ومصر وغيرهما، لدخلوا البلاد واحتلوها؛ لأنهم رتبوا ترتيباً عجيباً.ثانياً: يحدثكم رجالات الحرب -والله- فيقولون: ما إن يشاهدنا العدو حتى يرتعدون ويهربون، وبالتالي لا يستطعون أن يقفوا أمام الجيش السعودي، وهذا كلام الله وليس كلامي، إذ إن ولاية الله للعبد تقيه مصارع السوء وتجنبه الأخطار، فإذا أردنا أن نحتفظ بهذه البقية الباقية، فعلينا أن نطهر بيوتنا، وأن نزكي نفوسنا، وأن نهذب آدابنا وأخلاقنا، ونقبل على الله، فاذكروا هذا إن كنتم تذكرون.قال: [ رابعاً: تقوى الله تعالى بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه هي الشكر الواجب على العبد ]، الشكر: الذكر والعبادة، وقد خلق الله الكون كله من أجلنا، ونحن خلقنا من أجل أن نذكره ونشكره، ويتم ذكر الله وشكره بتقواه، بفعل أوامره وترك نواهيه، ولهذا قال: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #192
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (50)
    الحلقة (191)

    تفسير سورة آل عمران (55)


    إن النصر وإن كانت له عوامله من كثرة العدد من المقاتلين، وقوة العدة والعتاد، إلا أنه بيد الله وحده، فقد ينصر الضعيف ويخذل القوي، لذا وجب تحقيق ولاية الله تعالى أولاً قبل إعداد العدة، وتحقيق هذه الولاية يكون بالإيمان والصبر والطاعة التامة لله ولرسوله، ثم التوكل على الله عز وجل.
    تفسير قوله تعالى: (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليلة التي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة ) وهي واضحة، فهل هناك ضوضاء ولغط وأصوات؟ السكينة واقعة، ( إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة )، فأين العذاب؟ والله إنها لرحمة، ( وحفتهم الملائكة )، ولو كنا نقوى على رؤيتهم والله لرأيناهم يطوفون بالحلقة، ( وذكرهم الله فيمن عنده )، وهذه التي تعدل الدنيا وما فيها، أي: أن يذكرنا ملك الملوك، رب السموات والأرض في الملكوت الأعلى، فمن نحن وما نحن حتى يذكرنا؟! ولكن منته علينا، وفضله وإحسانه إلينا، رزقنا الإيمان، وهدانا إلى كتابه وتلاوته ودراسته في أعظم بيت من بيوته، فاللهم له الحمد، وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وها نحن مع قول ربنا جل ذكره بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [آل عمران:124] منزَلين: اسم المفعول، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ [آل عمران:125-127]. ‏
    خلاف المفسرين في وقت وسبب نزول هذه الآيات
    قول ربنا: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:124]، يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: اذكر يا رسولنا -إذ هو الذي ينزل عليه القرآن ويخاطبه- الوقت الذي تقول للمؤمنين: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [آل عمران:124]، فهل وقع هذا في أحد أو في بدر؟أهل التفسير منهم من يقول: كان هذا في أحد، لما لم يصبروا ويتقوا حرمهم ذلك، أي: يريدون أن يقولوا: لما كان المؤمنون -أقلية- سبعمائة نفساً والمشركون كذا ألفاً، عند المواجهة طمأنهم الله عز وجل على لسان رسوله، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لم تخافون أو ترتعدون؟ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:124-125]، فلما لم يصبروا ولم يتقوا، ولم يطيعوا أمر رسول الله، ما نزلت الملائكة، وإنما نزلت المصيبة والهزيمة بهم.ولذلك كونها نزلت في بدر أولى؛ لأن المؤمنين كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، والمشركين كانوا ألفاً تقريباً، لكن في بداية المعركة أُعلن أن كرز بن جابر المحاربي قد أمد قريشاً بكذا ألفاً من المقاتلين، وهو في الطريق إليهم، فارتعدت نفوسُ المؤمنين، واحتاجوا إلى من يحملهم على الصبر والثبات، فأنزل الله تعالى على رسوله هذه الجمل، فقال لهم -أي: للمؤمنين- في بدر: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ [آل عمران:124] أيها المؤمنون! أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ [آل عمران:124-125]، أي: كرز بن جابر المحاربي ورجاله، مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ [آل عمران:125]، لكن كرز بن جابر فشل وانهزم قبل مجيئه إلى بدر، فمن ثم لم يمدد الله إلا الألف المقاتل من الملائكة كما جاء في سورة الأنفال؛ إذ قال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، فهذه الألف نزلت على الخيول مسومة، أي: على رؤوسها ريش أو عمائم صفر كما يفعل المقاتلون؛ ليظهروا وليفزعوا عدوهم، فقاتلت الملائكة، وكان جبريل عليه السلام يقودهم على فرس، وتمت هزيمة المشركين في بدر.واسمع السياق: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:124] لما اضطربوا وقالوا: إن كرز بن جابر المحاربي جاء بآلاف المقاتلين إمداداً لقريش، فقال لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ [آل عمران:124]، أي: ربكم بهذا العدد الذي جاء أو يجيء، أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى [آل عمران:124-125] يمدكم، إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا [آل عمران:125]، والفور من فار القدر، يعني: على الفور بدون تراخي، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:125] أي: معلِّمين أنفسهم، فلما عاد كرز ورجع بجيشه ولم يسعف قريشاً في جيشها، ما أنزل الله تعالى الثلاثة ولا الخمسة؛ لأنها بشرط: إن يأتوكم من فورهم هذا، فلما لم يأتوا ما أنزل الله الملائكة.ثم قال تعالى لهم: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ [آل عمران:126]، وإلا لو شاء الله لنصركم بكلمة: انتصروا، ولهزم المشركين بكلمة: انهزموا، لكنها سننه في الخلق، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الذي لا يمانع فيما يريد، الغالب الذي لا يقهر بحال من الأحوال، الْحَكِيمِ [آل عمران:126] الذي يضع كل شيء في موضعه، فالنصر من عنده، ويفعل ذلك، لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، أي: يبيدهم ويهلكهم، أَوْ يَكْبِتَهُمْ ، أي: يذلهم ويهينهم ويعودوا خاسئين أذلا، وقد فعل؛ إذ قتل سبعون وأسر سبعون، وأذل الله المشركين أعظم ذل عرفوه، فرجالاتهم وصناديدهم قتلوا وأسروا.مرة أخرى أعيد الآيات فاسمعوا: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:124]، وكلمة: (للمؤمنين) تعرفون مغزاها؟ أي: الصحيحي الإيمان الصادقين في إيمانهم، وهم الثلاثمائة وعلى رأسهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ [آل عمران:124]، وقال لهم هذا -الرسول- لما ارتعدوا وقالوا: كرز بن جابر جاء بجيش عرمرم يؤيد به أبا سفيان، وهو في الطريق إليهم، فلما رأى الرسول هذه الحال في المعسكر قال لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [آل عمران:124]، أي: ينزلهم الله من الملكوت الأعلى، بَلَى أي: يمددكم، إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ [آل عمران:125]، أما إذا ما صبرتم ولا اتقيتم وهربتم من الآن قبل وصول الإمداد ما يعطيكم شيئاً، إن تصبروا على ملاقاة العدو مواجهته، وتتقوا الله فلا تخرجوا عن نظام الجهاد وما يتطلب من الصبر وعدم الهزيمة. وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:125] معلِّمين أنفسهم بعلامات يُعرفون بها، ثم قال لهم لما لم يأت كرز: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، لمَ يفعل هذا؟ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:127]، أو يذلهم ويهينهم ويردهم خائبين، فمن قتل قتل، ومن رجع رجع ذليلاً منهزماً.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير
    الآن نسمعكم شرح معاني الكلمات أو المفردات كما هي في الكتاب. ‏
    شرح الكلمات
    قال: [ شرح الكلمات: قوله: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ : الاستفهام إنكاري، أي: ينكر عدم الكفاية -كيف لا يكفي ثلاثة آلاف؟- ومعنى يكفيكم: يسد حاجتكم ] ولا بأس أيضاً أن يكون الاستفهام تقريري؛ لأن (بلى) تدل على هذا، وهو صالح للوجهتين.قال: [قوله: أَنْ يُمِدَّكُمْ أي: بالملائكة عوناً لكم على قتال أعدائكم المتفوقين عليكم بالعدد والعتاد ]، إذ ما مع الرسول إلا فرس واحد.قال: [قوله: الْمَلائِكَةِ: واحدهم ملأك، وهم عباد الله مكرمون مخلوقون من النور، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون ]، وهذا اعتقاد المؤمنين في الملائكة، فهم عباد الله مكرمون، أكرمهم خالقهم، فخلقهم من مادة النور، ولا يعصون الله ما أمرهم، فإذا أمرهم بشيء فعلوا، ولا يعرفون المعصية؛ لأنهم مطبوعون على طاعة الله، فيفعلون ما يؤمرون بفعله.قال: [قوله: بَلَى: حرف إجابة، أي: يكفيكم.مُسَوِّم ينَ: معلمين بعلامات تعرفونهم بها ]، ومعلوم أن الأبطال فيما مضى كانوا يعملون ريشاً على عمائمهم، على رؤوس خيلهم؛ ليظهروا القوة بهذا التسويم والتعليم.قال: [ وقوله: إِلا بُشْرَى لَكُمْ: البشرى: الخبر السار الذي يتهلل له الوجه بالبشر والطلاقة ]، يقال: بشرني فلان بكذا، أي: أخبرني بخبر مفرح وسار فتهلل له وجهي وانطلق، وضده الكآبة والحزن.قال: [ قوله: لِيَقْطَعَ طَرَفاً: الطرف: الطائفة ] من الجيش، قال: [ يريد ليهلك من جيش العدو طائفة ] وقد فعل.قال: [ قوله: أَوْ يَكْبِتَهُمْ: أي: يخزيهم ويذلهم ] يقال:كبته، إذا أذله وأخزاه.قال: [ قوله تعالى: فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ: يرجعوا إلى ديارهم خائبين لم يحرزوا النصر الذي أملوه ] وقد خابوا فعلاً.
    معنى الآيات
    قال: [ معنى الآيات ] وهي أربع آيات، قال: [ ما زال السياق -أي: سياق الكلام- في تذكير الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما تم لهم من النصر في موقف الصبر والتقوى في بدر ]؛ لأن السياق يحمل المؤمنين على ألا يوالوا الكافرين ولا يودونهم ولا يرهبونهم ولا يخافونهم، إذ إنهم متى صبروا واتقوا فلن يضروهم شيئاً وإلى يوم القيامة.قال: [ فقال: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ عندما بلغهم وهم حول المعركة أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين برجاله يقاتلون معهم، فشق ذلك على أصحابك يا رسولنا، فقلت لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى أي: يكفيكم، إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا أي: من وجههم ووقتهم هذا ]، فلما لم يأتوا ما أنزل الله الملائكة، ما أعطاهم الخمسة ولا الثلاثة؛ إذ قيد هذا بقيد: يأتوكم من فورهم هذا [ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ بعلامات وإشارات خاصة بهم، ولما انهزم كرز قبل تحركه وقعد عن إمداد قريش بالمقاتلين، لم يمد الله تعالى رسوله والمؤمنين بما ذكر من الملائكة، فلم يزدهم على الألف الأولى التي أمدهم بها لما استغاثوه في أول المعركة؛ إذ جاء ذلك في سورة الأنفال في قول الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ] أي: تطلبون الغوث والغياث، ونحن نسمع دائماً العوام يقولون: فلان يستغيث بسيدي فلان، وهذه استغاثة الضلال والهابطين، فيقولون: يا سيدي يا فلان أنا في كذا، جئتك من كذا، أنا في حماك، أغثني، اسأل الله لي، مع أن الاستغاثة لا تكون لغير الله؛ لأنه لا يقدر عليها إلا الله، فالضائع الذي يأتي إلى ضريح، أو إلى قبر، أو إلى شجرة، أو إلى مقام ويصرخ: يا سيدي فلان، أنا في كذا، أنا في حماك! لو وقف ألف سنة والله ما أُغيث، ولا يسمعه من يستغيث به، لا فاطمة ولا رسول الله ولا فلاناً ولا علاناً، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أعلمنا إلا بشيء واحد، وهو أن من سلم عليه في قبره رد الله عليه روحه ليرد السلام عليه، أما أن تقول: يا رسول الله امرأتي مريضة! يا رسول الله ولدي فصلوه من العمل! كل هذا هراء وباطل. وللأسف نجد الضلال والجهال يقفون أمام الأضرحة: أعطني، افعل لي كذا.. وهذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام المحنة في الروضة، والمشركون يناوئونهم، والمنافقون يكيدون لهم، واليهود ينابذونهم العداء، فتململوا وقالوا: هيا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم -الاستغاثة جائزة- أي نقول له: يا رسول الله، خلصنا من هذه الفتنة، فسمعهم صلى الله عليه وسلم وهم يقولون ذلك، فأعلن صوته من وراء الستار فقال: إنه لا يستغاث إلا بالله، إنه لا يستغاث إلا بالله، استغيثوا بربكم، أي: اطلبوا منه تعالى الغوث يغثكم، فهل استغاث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بربهم أم بنبيهم؟ بربهم. إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الأنفال:9] أي: خالقكم ورازقكم، وهاديكم إلى هذا النور، ومعطيكم هذا الكمال.قال: [ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فهذه الألف هي التي نزلت فعلاً وقاتلت مع المؤمنين، وشوهد ذلك وعلم به يقيناً، أما الوعد بالإمداد الأخير فلم يتم ] لم؟ قال: [ لأنه كان مشروطاً بإمداد كرز لقريش، فلما لم يمدهم لم يمد الله تعالى المؤمنين، فقال تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ أي: الإمداد المذكور، إلا بشرى للمؤمنؤن تطمئن به قلوبهم، وتسكن له نفوسهم، فيزول القلق والاضطراب الناتج عن الخوف من إمداد كرز المشركين بالمقاتلين، ولذا قال تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ العزيز، أي: الغالب ] الذي لا يمانع في شيء أراده، قال: [ الحكيم: الذي يضع النصر في موضعه، فيعطيه مستحقه من أهل الصبر والتقوى، لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وقد فعل، فأهلك من المشركين سبعين ] صنديداً، قال: [ أو يكبتهم، أي: يخزيهم ويذلهم، إذ أسر منهم سبعون ] منهم: عقبة بن أبي معيط، فقد أُسر هذا الخبيث وقتل في الطريق، وهو الذي جاء بسلا الجزور -مذبوحة عند الصفا- بقيوحها ودمائها فوضعه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد يصلي حول الكعبة، والمشركون والله يضحكون حتى وقعوا على الأرض، وإذا بجويرية كلؤلؤة تمشي، وهي فاطمة بنت خديجة بنت محمد صلى الله عليه وسلم الهاشمية، فأزالت السلا عن أبيها ونظرت إلى المشركين فسبتهم ولعنتهم، إذ إنهم لا خير فيهم ولا مروءة، أيرضون هذا بنبيهم صلى الله عليه وسلم؟! فما استطاعوا أن يتكلموا بكلمة واحدة؛ لأنها طفلة صغيرة، فهبطوا وخابوا وخسروا.قال: [ وقد فعل -جل جلاله وعظم سلطانه- فأهلك من المشركين سبعين، أو يكبتهم، أي: يخزيهم ويذلهم؛ إذ أُسر منهم سبعون، وانقلبوا خائبين لم يحققوا النصر الذي أرادوه ].وإليكم الآيات مرة أخرى، فاسمع يا عبد الله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي: في بدر، والذي يخاطبهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إنه يقول لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:124-125]، فلم يمددهم ربهم بِخمسة آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَة؛ لأنه ما تحقق الشرط، وهو أن يأتوكم من فورهم هذا، أي: ما جاء كرز ولا رجاله، إذاً فلا داعي إلى إنزال الملائكة، أما الألف الأولى التي سألوا الله وأعطاهم فهي موجودة معهم يقودها جبريل عليه السلام. بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا ، ليس معناها: أنه قد يمدنا بخمسة آلاف، وبالتالي فلنفرح ولنستبشر، بل لا بد من الصبر على طاعة الله ورسوله، والتقوى الملازمة لذلك، إذ لو ما صبروا واتقوا وجاء كرز برجاله والله ينهزمون؛ لأنه لا يمدهم الله إلا بهذا الشرط: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:125-126]، العزيز يقدر على النصر، وهو الغالب الذي لا يغلب، الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه. لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ [آل عمران:127] أي: ذليلين خاسرين.
    هداية الآيات
    بعد معرفة معنى الآيات، هيا نستنبط ونستخرج منها درراً نتزين ونتحلى بها، نستخرج منها مبادئ سياسية وعسكرية؛ لأننا عرضة للحرب من الإنس والجن، فنحن في حاجة إلى الهداية الإلهية، فلا توجد آية خالية من الهداية، إذ ما أنزلها الحكيم إلا لحكمة.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ من هداية الآيات:أولاً: بيان سبب هزيمة المسلمين في أحد، وهو عدم صبرهم، وإخلالهم بمبدأ التقوى، إذ عصى الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا من الجبل يجرون وراء الغنيمة، هذا على تفسير أن الوعد بالثلاثة آلاف وبالخمسة كان بأحد -كما قدمت لكم- وكان الوعد مشروطاً بالصبر والتقوى، فلما لم يصبروا ولم يتقوا لم يمدهم بالملائكة الذين ذكر لهم ]، واذكروا كلمة علي بن أبي طالب : القرآن حمال الوجوه، فالآية في أحد وفي بدر، أي: أنها نزلت في أحد ثم نزلت في بدر تذكرهم بها، وذلك لما خافوا من كرز ورجاله، فالقرآن حمال الوجوه؛ لأنه موجز مختصر، إذ لو كان القرآن كالتفسير لم يحفظه أحد ولم يحمله أحد.مرة أخرى: قال: [ بيان سبب هزيمة المسلمين في أحد ]، ما سبب هزيمتهم؟ [ وهو عدم صبرهم، وإخلالهم بمبدأ التقوى، إذ عصى الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ]، وكانوا خمسين رامياً [ ونزلوا من الجبل ] لما شاهدوا المشركين هاربين تاركين أموالهم وغنائمهم، فقالوا: نحن أيضاً ندخل مع إخواننا ونحصل على الغنائم، ونسوا قول الرسول: ( لا تبرحوا مكانكم هذا، لنا أو علينا )، ولولا أنه أدبهم وهزمهم لكانوا في أية معركة -وأمامهم معارك إلى يوم القيامة- يقولون: ما دام الله قد أمرنا فانفعل كذا.يذكر الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار -وهو يفسر هذه الآيات- أنه رأى في المنام أن النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته وهو راجع من أحد، والمسلمون وراءه في كرب وهم وحزن، والرسول يقول: لو خيرني ربي بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة؛ لأنهم لو انتصروا مع عصيانهم للرسول وخروجهم عن الطاعة والآداب لاتخذوا هذا سلماً، وفي كل معركة لا يبالون إذا عصوا القيادة وخرجوا عن طاعتها. قال: [ ثانياً: النصر وإن كانت له عوامله ]، ومن هذه العوامل: [ من كثرة العدد وقوة العدة، فإنه بيد الله تعالى ]، إذ إن الله تعالى قال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]. قال: [ فقد ينصر الضعيف ويخذل القوي ] كما فعل في بدر، فقد نصر الضعفاء وخذل الأقوياء.قال: [ فلذا وجب ]، ماذا وجب علينا؟ [ تحقيق ولاية الله تعالى أولاً ] قبل أن نقاتل اليهود أو البريطانيين أو الروس، قبل أن نقاتلهم يجب أن نحقق ولاية الله أولاً، فهل نحن أولياء أو لا؟ إن وجدنا أنفسنا أولياء الله حينئذ نقاتل، وإن لم نحقق ولاية الله، وملكنا الهيدروجين والذرة والصواريخ ما انتصرنا، ولا تقولوا: ماذا هناك؟! نحن أقوى منهم فلنقاتلهم، فأقول: هل قد انتصرنا على اليهود؟ هذه الشلة الهابطة التي هي من أذل الخلق، إذ لا أذل منهم إلى اليوم، إذا انتهر الجزائري يهودياً في بيت فإنه يهرب، وقد عرفنا هذا من العمال، ووجدتُ ذلك أيضاً في دولة فرنسا، فإذا اختلف اليهودي مع الجزائري، وانتهر الجزائري اليهودي والله يذل ويهرب، وصدق الله إذ يقول: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [البقرة:61]، فمن يمح هذه الذلة، من يزيلها؟ لكن على شرط أن نكون أولياء الله، فهل العرب والمسلمون أولياء الله؟ فلنسأل، وهيا بنا نمشي إلى القاهرة المعزية، إلى دمشق، إلى بغداد، إلى كراتشي، إلى مراكش وغيرها من البلدان الإسلامية، ونسأل أهل البلاد ونقول لهم: من فضلكم دلونا على ولي من أولياء البلاد، والله ما يدلونكم إلا على ضريح أو قبر، ولا يفهمون ولياً حياً بين الناس، وإنما كلهم أعداء الله! فلا إله إلا الله!كذلك تدخل أي مدينة وتقول لمن تلقاه في أول الطريق: أنا جئت أريد أن أزور ولياً من أولياء الله، والله ما يعرف ولياً في تلك العاصمة إلا ميتاً، وعليه قبة خضراء أو بيضاء، والأزر التي يضعونها على قبره، والناس عنده عاكفون راكعون! فهذا هو الولي عندهم.إذاً: حققنا عملياً أننا لسنا بأولياء، والبرهنة على ذلك: كيف يذلنا اليهود ويقهروننا وهم لا يساوون واحداً إلى ألف، ولا أعني بهذا أنه لا يوجد بيننا ولي لله تعالى، بل يوجد أفراد، لكن الأمة التي قاتلت اليهود ما فيهم أولياء، ولذلك حقق الولاية ثم قاتل الأبيض والأصفر، أما وأنت لا ولاية لك مع الله فكيف ينصرك؟! حتى لو كنت أكثر منه عدداً وعدة؛ لأنه إذا نصرك معناه أنه قد خانك وغشك، والمؤمنون في أحد بعدما عصوا لو نصرهم الله لغشهم وخانهم.قال: [ النصر وإن كانت له عوامله من كثرة العدد من المقاتلين، وقوة العتاد والعدة، فإنه بيد الله تعالى، فقد ينصر الضعيف ويخذل القوي، فلذا وجب تحقيق ولاية الله ]، لما كان النصر قطعاً بيد الله وجب تحقيق ولاية الله حتى ينصرنا، وإن لم نحقق ولاية الله، فنسبه ونكفر به ونشرب الخمر ونتعاطى المحرمات، ثم نقاتل اليهود واليونان! والله ما ننتصر، وهذا هو الواقع، فكم من معركة دارت بين العرب واليهود في سنوات متعددة ولم ينتصر فيها العرب، ولم يطردوا فيها اليهود، بل آخر ضربة احتلوا فيها مدينة القدس.قال: [ فلذا وجب تحقيق ولاية الله تعالى أولاً قبل إعداد العدة، وتحقيق الولاية يكون ] بماذا؟ هل لأنه مسلم؟ لا، وإنما تحقيق الولاية يكون بالإيمان الحق الذي دائماً نقول: اعرضه على القرآن، فإن وافقه وأمضاه فهو إيمان وإلا فهو ضلالة، أيضاً بالصبر، والصبر حبس النفس حتى لا تعصي الله ورسوله، لا بترك واجب ولا بفعل حرام، والصبر على الابتلاء والامتحان الإلهي، فإذا ابتلاك وامتحنك إنما ليرفعك، وليهيئك للكمال.قال: [ وتحقيق الولاية يكون بالإيمان والصبر والطاعة التامة لله ولرسوله، ثم التوكل على الله عز وجل ].قال: [ ثالثاً: ثبوت قتال الملائكة مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر قتالاً حقيقياً -والله العظيم-لأنهم -أي: الملائكة- نزلوا في صورة بشر يقاتلون على خيول، وعليهم شاراتهم وعلاماتهم، ولا يقولن قائل: الملك الواحد يقدر على أن يهزم ملايين البشر، فكيف يعقل اشتراك ألف ملك في قتال المشركين وهم لا يزيدون عن الألف رجل -إياك أن تقول- وذلك أن الله تعالى أنزلهم في صورة بشر، فأصبحت صورتهم وقوتهم قوة البشر، ويدلك على ذلك ويشهد له: أن ملك الموت -ملك الموت عما قريب سيزورنا- لما جاء موسى في صورة رجل يريد أن يقبض روحه ضربه موسى عليه السلام ففقأ عينه، وعاد إلى ربه ولم يقبض روح موسى عليهما معاً السلام. من رواية البخاري ].إذاً: لما ينزل الله الملائكة في صورة بشر، تصبح طاقاتهم وقدراتهم قدرة البشر، لكن لو أنزل الملائكة في صورتهم الحقيقية فإن الواحد منهم سيقلب مدناً على ظهرها، والدليل القاطع على ذلك: لما جاء ملك الموت عزرائيل عليه السلام في صورة إنسان إلى نبي الله موسى عليه السلام ليمتحنه، فقال له الملك: أنا ملك الموت جئت لقبض روحك -وموسى كما تعرفون طويل وقوي، فقد لَكَم مرة قبطياً حتى قتله، ثم تاب إلى الله واستغفره- ففقأ موسى عين الملك، وعاد الملك يبكي إلى الله، وقال: يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فقال له الله: ارجع إليه وقل له: إن ربك يقرؤك السلام، ويقول لك: إذا كنت لا تريد الموت فضع يدك على مسْك ثور -أي: جلد ثور- ولك بكل شعرة عاماً، ثم عرف موسى وقال: ثم ماذا؟ فقال ملك الموت: ثم الموت، فقال موسى: إذاً الآن، وسلَّم نفسه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لو كنت بصحراء سيناء لأريتكم قبره عند كثيب الرمل في المكان الفلاني.وبالتال كيف تردون على من قال: إن هذه خرافة؟! كيف ألفاً من الملائكة يقاتلون ألفاً من المشركين؟ والجواب: أن الله أنزلهم في صورة بشر، وبالتالي فهم في طاقة بشر، وفي قدرة بشر، سواء بسواء، والدليل على ذلك مجيء ملك الموت -على جلالته- في صورة إنسان لقبض روح موسى عليه السلام، ففقأ موسى عين الملك. وصلى الله على نبينا محمد.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #193
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )




    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (51)
    الحلقة (192)

    تفسير سورة آل عمران (56)

    إن الله عز وجل مستقل بالأمر كله، فليس لأحد من خلقه تصرف في شيء إلا أن يأذن الله عز وجل به، ولو كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد تعرض للأذى الشديد من المشركين في أحد، فداخله الأسف على ذلك، فبين له الله عز وجل أنه ليس له من الأمر شيء، بل الأمر كله بيد الله إن شاء رحمهم وأدخلهم في الإيمان، وإن شاء أبقاهم على الكفر فاستحقوا العذاب يوم القيامة.
    تفسير قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال-فداه أبي وأمي والعالم أجمع-صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وها نحن مع هذه الآيات الخمس، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:128-132]. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] هذه الجملة موجهة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد والمجاهد والمدير للمعركة والمبلغ، قد انتزع الله منه هذا، فقال له: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، فهل بقي من الناس من يزعم أن له شيئاً في القول أو العمل؟ كل شيء لله.وهذا لما شُج وجهه صلى الله عليه وسلم، وسقطت رباعيته، وأوذي في أنفه، وكان يكمِّد الجراحات، فقال عليه الصلاة والسلام: ( كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا؟ ) ودماؤه تسيل، وجراحاته تؤلمه، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، فقال بعدها عليه الصلاة والسلام: ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ). لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ يا رسولنا، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ويدخلون في رحمة الله، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].

    تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض...)

    قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:129].قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:129] خلقاً وملكاً وعبيداً، وليس لغير الله في الملكوت الأعلى والأسفل من له شيء مع الله، بل ولا إبرة، إذ كل ما في الملكوت العلوي والسفلي من الكائنات هو ملك لله عز وجل، وكيف لا وهو خالقه وصانعه وموجده، ثم أيوجد الشيء ويخلقه ثم يكون لغيره؟! إن هذا الغير مخلوق لله مربوب، فالله أوجده وخلقه، إذاً وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ من الكائنات كلها. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، يغفر لمن يشاء من عبيده الذين أنابوا إليه، وتابوا ورجعوا إليه، ويعذب من يشاء ممن أصروا على الكفر والعناد والشرك والظلم والحرب ضد الإسلام، ومع هذا لسنا كالمعتزلة، فيغفر لمن يشاء أن يغفر له، وليس هناك سلطة فوق سلطة الله بأن تلهمه بأن يغفر أو لا يغفر، أو يعذب أو يرحم، إذ له الخلق والأمر، قال عمر : من بقي له شيء فليطلبه، أي: كل الكائنات قائمة على الخلق والأمر، فالله هو الخالق والآمر والمدبر، فمن بقي له شيء فليطلبه. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، لكن علَّمنا أنه يغفر لمن رجع إليه، وتاب من ذنبه، وتخلى عن باطله، وابتعد عن كفره وشركه، وعد الصدق يعدهم الله أن يغفر لهم، وأوعد أيضاً من أصر على الشرك والكفر والظلم وحرب المسلمين بأنه يعذبه، ويبقى المؤمنون العاملون للصالحات إذا خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فالله عز وجل يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ولا نجزم بأن كل مؤمن ارتكب كبيرة من الذنوب ولم يتب منها، أن الله يغفر له، إذ لا يقول هذا ذو إيمان وعلم ومعرفة، وإنما يُترك الأمر لله، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، والذي نجزم به عقيدة: أن أهل التوحيد أو أهل الإيمان إذا قارفوا الذنوب، وغلبت سيئاتهم حسناتهم، وطغت عليها، ثم أدخلوا النار، فإنهم يعذبون فيها، فإن وعد الله لهؤلاء أن يخرجهم من النار ويدخلهم الجنة.إذاً: أهل الإيمان الحق، أهل التوحيد الصحيح الذين ليس في قلوبهم غير الله، إن زلت أقدامهم، وارتكبوا الكبائر من الذنوب، ثم دخلوا بها النار، فحسب قانون الله وسنته، أن وعد الله على لسان رسوله أن يخرجهم من النار ويدخلهم الجنة دار الأبرار، وأما من مات على الكفر والشرك، فقد أخبر تعالى-وخبره الصدق الحق-أنهم في النار خالدون، لا يخرجون منها أبداً. فليهنأ المؤمنون الصادقون أنهم مهما ارتكبوا من الكبائر واستوجبوا العذاب ودخلوا دار الشقاء فإنهم يخرجون ويدخلون الجنة، فلا بد من فهم هذا من قوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، وختم ذلك بقوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:129]، (غفور) على وزن فعول، أي: كثير المغفرة، كسئول بمعنى: كثير السؤال.إذاً: ثقوا بأن الله يغفر الذنوب، وإلا فهذا الاسم وهذا الوصف -غفور- كيف يظهر؟! أيسمي نفسه غفوراً وهو لا يغفر؟! مستحيل، ورحيم أيضاً فيرحم المعذبين الذين استوجبوا العذاب أو ذاقوه، ولن يستطيع كائن من كان أن يقول: فلان قد غفر الله له! أو فلان سيعذبه الله! وإنما يُترك الأمر لله. وأما حكمه على أهل الكفر أنهم خالدون في العذاب والشقاء، فهذا يجب أن يكون عقيدة كل مؤمن ومؤمنة، وإلا فقد كذَّب الله عز وجل.وأما خروج أهل التوحيد من النار بعد أن يعذبوا فيها أحقاباً أو دهوراً، فكذلك عقيدة المؤمنين، فالله عز وجل يخرج الذين ما عبدوا غيره ولا عرفوا سواه، ولكن غلبتهم دنياهم أو شهواتهم أو شياطينهم، فزلت أقدامهم فارتكبوا الكبائر من الذنوب، كأن قتلوا نفساً مثلاً، فهؤلاء إذا كانت سيئاتهم أكثر من حسناتهم فإنهم يدخلون النار، ويخرجون منها بإيمانهم وصالح أعمالهم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، فلا تبكِ إلا على أخيك إذا مات على الشرك، مات على الإلحاد، مات على الكفر، مات على تكذيب الله ورسوله؛ لأن هذا قد فرغ منه. ثم بعد هذا جاء هذا النداء في استطراد عجيب؛ لأن البلاغة تقتضي أن المتكلم أو الخطيب أو غيرهما ما يسترسل في أحداث يمل السامعون، بل لا بد وأن يستطرد حادثة أخرى؛ لتستأنس النفوس وتقبل القلوب.فالآن نحن مع أحداث أحد وبدر من عدة أيام، وهذه الآيات خاتمة، وقلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا؟ )، فقال الله له: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، ثم قال بعدها عليه الصلاة والسلام: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )، فعاد صلى الله عليه وسلم إلى الصواب بتوجيه الله وهدايته له.
    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة...)
    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130].‏
    دعوة المؤمنين للخروج من الربا
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:130] لبيك اللهم لبيك، يا أيها السامعون! من كان لديه قليل من المال في البنك الفرنسي السعودي، أو في البنك الأمريكي السعودي، أو في البنك الأهلي، يعزم الليلة على أنه في غدٍ الساعة الثامنة يكون عند باب البنك، يأخذ حقه من المال، فإن وضع خمسين ألفاً أخذها بدون زيادة أو فائدة؛ لأنها لا تحل له ولا لهم، وحينئذ يصبح أخونا قد استجاب لله، وإن أصر فالله يقول: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]، قالت العلماء في هذه الجملة: في هذا إشارة إلى أن المستحل للربا، أي: الذي يعتقد حليته ولا يرى حرمته، ولا يثق فيمن يقول: حرام، أنه ارتد وكفر، وهذه قاعدة عامة في كل من استحل محرماً مجمعاً على تحريمه بين المسلمين، أنه قد ارتد وخلع ربقة الإسلام من عنقه بلا خلاف، وعليه فكل من اعتقد حلية محرماً مما حرم الله، واستعمله وقال: لا حرمة عندنا ولا حلال، فقد ارتد وكفر بالله.

    قول أهل العلم في قول الله تعالى: (أضعافاً مضاعفة)

    قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] قال أهل العلم: هذه الصيغة خرجت مخرج الغالب، إذ ليس معناه أنه إذا كان قليلاً فلا بأس أن تأخذه وتأكله، ثم تقول: الآية تقول: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، لا، فهذا خرج بحسب الواقع؛ لأن الرجل يكون في حاجة إلى مال، فيأتي إلى أخيه فيقول له: أقرضني إلى الحج، أو إلى الحصاد، أو إلى أن تعود القافلة الفلانية، فيعطيه قرضاً حسناً، فإذا جاء الوقت وما استطاع أن يسدد، يقول لمن أقرضه: أخرني وزد عليّ، فيقول: أخرناك سنة أخرى وزدنا عليك عشرة أو عشرين أو كذا، فهذا هو ربا الجاهلية، أي: أخر وزد، ويسمى ربا النسيئة، أي: التأخير والتأجيل، وهذا الذي نزل به القرآن فأبطله ومحا أثره بين العرب والمسلمين قروناً.
    الفرق بين ربا الجاهلية وربا المعاصرين اليوم
    ثم جاء اليهود بعدما استولوا على مصادر العيش والرزق في العالم، فأعلنوا عن الربا بوضوح، وذلك حتى لا تبقى سلفة ولا رحمة ولا إخاء ولا إحسان أبداً، ووضعوا هذا الربا، وحال لسانهم يقول: اتركوا البشرية كالحيات تأكل بعضها بعضاً، بينما ربا الجاهلية أرحم بكثير من ربا اليهود والحضارة الغربية؛ لأن ربا الجاهلية-كما علمتم-تستقرض من أخيك إلى ستة أشهر أو سنة، فإذا عجزت تقول: أخرني وزد عليّ، أما ربا اليهود اليوم فمن أول يوم استلفت عشرة آلاف يحسبونها تسعة، فيعطونك تسعة وفي ذمتك عشرة، وإن استقرضت مائة ألف يعطونك خمسة وتسعين ويكتبون عليك مائة ألف، فإن سئلوا: لمَ تفعلون هذا؟ قالوا: نخشى أنه ما يرد، ومن ثم نخصم عليه من الآن.ومن ثم انتشر الربا في أوروبا أولاً، ثم انتقل إلى العالم حتى لا تبقى رحمة ولا أخوة ولا ود ولا صداقة، والأسرة الواحدة كأن كل واحد منهم من عائلة أخرى، بل من إقليم آخر، وهذا كله من صنع بني عمنا اليهود، وللأسف أننا مددنا أعناقنا إليهم، وقبلنا توجيهاتهم وإرشاداتهم، وقبلنا هذا لما هبطنا، لما أصبح فينا من لا يعرف الله، ولا ما عند الله، ولا ما لدى الله، فضعف الإيمان وتخلخل في النفوس، وما أصبح هناك مودة ولا إخاء، ولا حب ولا صفاء، وبالتالي ماذا نصنع؟ أقبلنا على الربا، مع أن الربا جاءت فيه وعود من الكتاب والسنة لا تُطاق.إذاً: معاشر المؤمنين والمؤمنات! من سبق له أن تورط فليخرج من الورطة، وليتوكل على الله، وليسحب نقوده من البنوك الربوية، ومن لم يقع في هذه الورطة فليحمد الله، وليكثر من حمد الله، وليدع لإخوانه أن ينجيهم الله أيضاً، وأن يخرجهم من هذه الفتنة.
    سبب وجود الربا في بلاد المسلمين وكيفية الخلاص منه
    معشر المستمعين والمستمعات! إن الربا سببه انحرافنا، وفقدنا لصلتنا بربنا، فأصبحنا كالبهائم، أصبحنا نستلف ولا نرد السلفة، نستقرض من إخواننا ولا نرد قرضاً، نعد ولا نفي بوعد، أسرفنا إذا عندنا الدينار والدرهم، نأكل بلا حساب، ونشرب بلا حساب، ما عرفنا الاقتصاد والصبر أبداً، فلما هبطنا جاءنا البديل وهو البنك فقط، إذاً فما المخرج؟ أصبح هذا المخرج عندنا كالشمس، وهو أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، وأن يصبح أهل الحي من أحياء المدن كأنهم أسرة طاهرة، ويصبح أهل القرية كأنهم أسرة طاهرة؛ وذلك بإقبالهم على الله في صدق، فيجتمعون في مسجدهم الجامع - الذي وسعوه حتى أصبح يتسع لأفراد الحي- كلهم رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، فإذا مالت الشمس إلى الغروب، أوقفوا دولاب العمل، فالفلاح رمى بمسحته ومنجله، والتاجر أغلق باب دكانه، والصانع رمى بالحديدة من يده، فتطهروا وتوضئوا، وجاءوا مقبلين على ربهم في بيته، فيصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون كما جلسنا هذا الجلوس، النساء من وراء الستارة، والفحول أمامهن، والأطفال بينهما، ويتعلمون الكتاب والحكمة كما نتعلمها، ليلة آية وليلة أخرى حديثاً، ووالله ما تمضي سنة إلا وهم أولياء الله، وسلوني عما يحدث في هذه السنة، لم يبق مظهراً للسرقة، ولا للبخل، ولا للشح، ولا للترف، ولا للحزن، ولا للكرب، وإنما تغيرت طباعهم، وزكت نفوسهم، وطابت أرواحهم، فتعيش في تلك القرية سنة لا تسمع كلمة سوء، ولا تشاهد منظراً يغضب الله ورسوله والمؤمنين، وإنما تجد الوفاء والصدق والرحمة والأخوة، ووالله ليفيض مالهم، وعند ذلك ماذا يصنعون به؟ فأكلهم محدود، وشرابهم محدود، ونومتهم محدودة، وعملهم محدود، بل كل حياتهم منظمة تنظيماً دقيقاً، فهل يبقى حينئذ الربا؟ هل يبقى حينئذٍ من يحتاج إلى المال؟ الجواب: لا.هذا هو الطريق، وبدون هذا لو أن الحكام رفضوا البنوك وأغلقوها لأوجدنا في بيوتنا بنوكاً أخرى، وذلك أننا عرفنا عجائز يفعلن هذا، فتمشي إلى العجوز فتقول لها: يا عمتي، تقول لك: أعطني كذا، نعطيك كذا، إذاً فما هو الحل؟ الحل أن نسلم قلوبنا لله، فلا هم لنا إلا رضا الله، ونسلم وجوهنا إليه، فلا نقبل إلا على الله، ويتبع ذلك جوارحنا، فألسنتنا لا تنطق بما لا يرضي الله، أرجلنا لا تمش حيث يسخط الله، أيدينا لا تمتد حيث لا يرضى الله، وهذا والله لهو الحق المبين، وهذا ما يتم بالكرباش ولا بالسحر، وإنما يتم بالطريقة التي سلكها رسول الله والمؤمنون، أي: أن نتعرف على الله، فتمتلئ قلوبنا بحبه وخشيته.والآن نحن في هذه الفوضى سلوا الذين يسلفون إخوانكم: هل ردوا عليهم أموالهم؟ لا يراه طول العام، وقد جربنا هذا والحمد لله تجربة كاملة، وما أظن في حياتي رد عليّ في الوقت المحدد إلا واحداً فقط! إذاً: ما المخرج يا عباد الله؟! هل نبقى هكذا نهبط فقط؟ هيا يا أهل حي بني فلان، من غدٍ نجتمع في بيت ربنا، ولا يتخلف رجل ولا مرأة ولا طفل، وإذا ما اتسع بيت الله نفرش السجادة ونجلس عند الباب، ونعزم على تزكية نفوسنا، وتطهير أرواحنا، وذلك من طريق الكتاب والحكمة، قال الله وقال رسوله، ويجلس لنا رباني عليم بشرع الله، فيأخذ معنا ويهذبنا ويطهرنا وينمي معارفنا ويزيد في كمالاتنا، وكل يوم ونحن نشعر بزيادة من الخير، وفي خلال أربعين يوماً فقط نصبح نعجز أن نغادر المسجد، بل ما تقوى على أن تبقى في الدكان أو في البيت، وهذه سنة الله، أما في خلال سنة فسيصبح أهل الحي كأنهم رجل واحد، يتقاسمون الخير والخيرات على حد سواء.فهل هناك طريق غير هذا؟ نستعمل الإنجيل؟! السحر؟! أو نأتي بعصا هتلر وكل باب أمامه شرطي بالعصا؟! والله ما ينفع، وأقسم بالله أنه لا طريق إلا هذا، أي: أن نصدق ربنا في إسلامنا له، ومن ثم والله لتبحث عن من تعطيهم النقود الفائض عنك، وراتبك كفاك وأنت مقتصد وزاد، وعند ذلك تتمنى أن يأتي إليك مؤمن يقول لك: أقرضني كذا، أو هيا نفتح دكاناً، أو ننشئ مزرعة؛ لما تعلم من صدق أخيك، إذ إنه يرضى أن يقتل ويصلب ويحرق، ولا يرضى أن يخون أو يكذب أو يغتال أو يخدع، وهذا هو المؤمن، إذاً: نحن في حاجة إلى عودة جديدة إلى الإسلام. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:130] لبيك اللهم لبيك! لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، وأصل المضاعفة كانت جارية بها العادة في ربا الجاهلية، خلاف ربا العلمانية اليوم، إذ إنه أفظع وأعظم، بينما ربا الجاهلية تأتي إلى أبي جهل عمرو بن هشام، أو إلى عقبة بن أبي معيط فتقول له: الآن موسم تجارة كذا، فأقرضنا عشرة آلاف درهم، وموعدنا نهاية الموسم، فيعطيك عشرة آلاف، ثم يأت الموسم ولم تستفد أو تربح، فتأتي فتقول: يا عقبة! الأمر لك، إن شئت أخر وزد، أما الآن ما عندي شيء، فيقول: نؤخرك إلى عام آخر ونزيد عشرة! كذلك تمشي إلى أبي سفيان فتقول له: نريد خمسة من الإبل نتجر عليها أو نركب عليها، وفي الحج المقبل نأتيك بها، ثم أخذت الإبل ومشيت، وشاء الله أن ضاعت أو ماتت، ثم جاء الوقت المحدد، فماذا تقول؟ لصدقك وكرامتك تقول: يا أبا سفيان! أخر وزد، أجلني سنة وزد ناقة أو كذا، فهذا هو ربا الجاهلية.أما ربا المعاصرين، ربا البنوك اليهودية، تأتي إلى البنك فتقول: نريد مائة ألف ريالاً، فيسجل عليك مائة ألف ويعطيك خمسة وتسعين! ولا يعطيك مائة ألف ثم يقول لك: ردها مائة وعشرة، فأي الربا أفضل وأهون؟! ربا الجاهلية؛ لأن جهَّال العرب كانوا أكرم الناس، وكانوا أرحم الخلق، وهذا الربا المعاصر ربا اليهود الذين ينظرون إلى الإنسان كوسَخ، سواء كان أسبانياً أو إيطالياً أو بريطانياً، إلا اليهودي، إذ إنهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار، ولهم الحق في الحياة، وكل البشر أوساخ ونجس، فيحتالون على إفسادهم، على تعذيبهم ما استطاعوا، لكن لعجزهم وعدم قدرتهم يتلوَّنون، ومع ذلك الآن استطاعوا أن يسودوا العالم بأسره بالربا.فهيا نعصيهم، ولا نستطيع ولا نقدر على ذلك حتى يعود نور الإيمان إلى قلوبنا، ونصبح نرجو الله والدار الآخرة، وفي ذلك الوقت نستغني عن الحثالات والفضلات، والأطعمة والألبسة الزائدة، فلا نحتاج إلى أن نستقرض، وإنما نكتفي بقرص العيش أو بحفنة التمر.
    معنى قوله تعالى: (واتقوا الله لعلكم تفلحون)
    وَاتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:130] أي: خافوا الله، لا تعصوه، لا تأكلوا الربا، لا تتعاطوه، لا ترضوا به، لا تقروه. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130] رجاء أن تفلحوا، والفلاح في الدنيا أن تطهروا وتطيبوا وتصفوا وتزكو نفوسكم، وتسعدوا بالإخاء والمودة والطهر والصفاء والعزة والكمال في الدنيا، فلا ذل ولا إهانة ولا فقر ولا بلاء، وتنجوا من مخططات الكفار والماكرين والكائدين من اليهود والنصارى والمشركين، والفلاح في الآخرة أن تزحزحوا عن عالم الشقاء وتدخلون الجنة دار السلام.فاتقوا الله وأغلقوا أبواب الربا، واحذر يا عبد الله أن يراك الله أمام بنك، إلا إذا كنت في بلاد المسلمين، فعرفوا أن في جيبك ألف ريال قتلوك من أجلها، أو في غرفتك هدموها عليك، ففي هذه الحال نقول: ضعوا أموالكم في البنوك لتحميها، ولكن لا تقبلوا فائدة أبداً مهما احتجتم، بل لا تأخذوا فلساً واحداً؛ لأنه حرام. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، هذا الفلاح دنيوي وأخروي والله العظيم، فدنيوي أن يصبح أهل البلاد أو أهل القرية وكأنهم شخص واحد، ولاء وحب وتعاون، وطاعة وإحسان وبر-فإنها سعادة وأي سعادة-فتمشي تجاهد أربعة أشهر لا تخاف على امرأتك ولا على مالك ولا أولادك؛ لأنهم بين إخوانك، يحمونك أكثر مما يحمون أنفسهم، سعادة فلاح في الدنيا بذهاب المخاوف وحصول الأمان والسعادة، وفلاح في الدار الآخرة بالزحزحة عن النار ودخول الجنة، وهذا توجيه الله عز وجل. أما بالنسبة لشركات التأمين، فإذا كانت تؤمن أموالها في البنك، ولا تأخذ فائدة عنه فلا بأس كما قدمنا، وأنت إذا أُمرت أن تأخذ نقودك من البنك الفلاني فلا يضرك ذلك، ونحن قلنا: لا يراك الله عند باب بنك، يعني: تودع وتستلف وتأخذ، وهذا هو مراد المتكلم.
    تفسير قوله تعالى: (واتقوا النار التي أعدت للكافرين)
    قال تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]، أُعدت: أُحضرت، هيئت، وجدت بالفعل، ما تُعَدُّ في المستقبل، فهي موجودة قبل الأرض، وقد أعدت للكافرين بالله وبلقائه وبكتابه وبرسوله وبدينه وبتحليل ما أحل وبتحريم ما حرم. قال أهل التفسير: في هذه الجملة إشارة إلى أن المستبيح للربا كافر، ومعنى المستبيح: أن يقول: ليس هناك حرام، اتركونا من هذا، بخلاف من يقول: حرام وأستغفر الله، فهذا ما يكفر أبداً، فهو يستغفر ويندم، ويجيء يوم يترك المنكر الذي يفعله، أما إذا قال: دعونا من هذا، ليس هناك حرام، فهذا ارتد وكفر وإن صام وصلى.
    تفسير قوله تعالى: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون)
    قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132].قوله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران:132] محمداً صلى الله عليه وسلم، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، هذه توجيهات الله رب العالمين لهذه الأمة الطاهرة، فأطيعوا الله في أمره ونهيه، والرسول أيضاً في أمره ونهيه وتوجيهه؛ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، أي: يرحمنا الله إذا أطعناه وأطعنا رسوله بكل أنواع الرحمة في الدنيا وفي الآخرة.
    ملخص لما جاء في تفسير الآيات
    الآيات مرة أخرى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، قال أهل العلم: (أو) بمعنى: حتى، أي: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم أو يعذبهم، فاتركهم ما هم لك، وإنما هم لله عز وجل، وقد عذب من عذب، ورحم وتاب من تاب ورجع إليه، ومن الذين تابوا: أبو سفيان قائد المعركة رضي الله عنه وأرضاه. إذاً: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، فيعذبهم لأنهم ظالمون، والظالمون هم الذين يضعون الشيء في غير موضعه، فبدل أن يعبدوا الله عبدوا الشيطان، وبدل أن يتجروا في الحلال اتجروا في الحرام، وبدل أن يقولوا الطيب من الكلام قالوا الخبيث من الكلام، فهذا ظلم، والظالم يلقى جزاءه في الدنيا والآخرة، وقد بينا غير ما مرة، فلو أنك قمتَ الآن وقلت كلمة سيئة فإن إخوانك سينهالون عليك بالضرب؛ لأنك ظلمت، كذلك كُلْ هذه الليلة خمسة كيلو من الطعام، غداً وأنت في المستشفى من التخمة؛ لأنك ظلمت. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:129]، فإياكم أن تطلبوا ما لله من غير الله، فأنت تؤمن بأن لله ما في السموات وما في الأرض، فكيف تقول: يا سيدي فلان أعطني كذا! إذاً: لا يصح أن تطلب شيئاً من غير الله، إذ ليس من شيء إلا وهو لله في السموات والأرض، لا المطر ولا العشب ولا النبات، ولا الذهب ولا الفضة. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، إرادته مطلقة، ولكن عَلَّمنا أنه يغفر لمن قرع بابه، وسأله التوبة والمغفرة، أما من أعرض واستنكف وتكبر فلا يجري الله وراءه ويقول: تعال أتوب عليك! وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، من أعرض عن الله وأراد العذاب يعذبه، ومع هذا حتى نخرج من فتنة المعتزلة نقول: إرادة الله مطلقة، فأهل التوحيد يدخلون النار ويغفر لهم، بينما المعتزلة يقولون: لا يغفر لهم، وهذا باطل، إذ إن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وهذا إعلان عن إرادته المطلقة، ولكن يعذب بالحكمة ويرحم بالحكمة؛ لأنه هو العليم الحكيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، وقد عرفتم أنه لا يجوز لأحدهم أن يحتج فيقول: ليس هناك مضاعفة، أعطانا خمسين ألفاً، فأعطيناه ألفين فقط، ليس هناك مضاعفة، ولو نصف ريال؛ لأن هذا خرج مخرج الغالب فقط، فلو تقول: من فضلك أعطني مائة ألف وأردها مائة وعشرين ألفاً، والله ما صح ولا جاز أن تأخذ ريالاً أبداً. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ [آل عمران:131] لمن؟ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]، أي: الجاحدين والمكذبين لأخبار الله وأخبار رسوله، ولوعود الله ووعود رسوله صلى الله عليه وسلم. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #194
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )




    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (52)
    الحلقة (193)

    تفسير سورة آل عمران (57)


    الربا ذنب عظيم وجرم جسيم، لذا فقد أمر الله عباده المؤمنين بعد أن خرجوا من الجاهلية ودخلوا في الإسلام أن يتركوا أكل الربا وكل تعامل به، لما فيه من أكل الأموال بالباطل وظلم العباد، ولما فيه من المفاسد العظيمة فقد أعلن الله الحرب على متعاطيه والمتعاملين به، ومن حاربه الله فأنى له أن يفلح.
    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وها نحن أيضاً مع الآيات الخمس التي تذاكرناها يوم أمس وتدارسناها، ولم نوفها حقها؛ لأننا ما قرأنا شرحها في الكتاب، فهيا نتذكر ما سبق أن تعلمناه منها، وإليكم تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، وتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا )، ثم قال: ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) لما نزلت هذه الآية: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، و( أو ) قلنا: بمعنى: حتى. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:129]، وتذكرون أيضاً أنا بينا أن المعتزلة يحتجون بهذه الآية على أن الله لا يغفر كبائر الذنوب، ومن مات عليها يخلد في النار، والآية لا تحمل هذا؛ لأنها في سياق حال الكافرين والمشركين الذين جاءوا يحاربون الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في غزوة أحد وفي غزوة بدر قبلها.فقوله: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، أي: الذين يشاء الله مغفرة ذنوبهم هم الذين تابوا إليه، وأنابوا ورجعوا إليه؛ فآمنوا وصدقوا وأطاعوا الله ورسوله، وأخلصوا في طاعتهما، فهؤلاء وإن عاشوا على الشرك عشرات السنين متى ما تابوا إلى الله قبلهم وغفر ذنوبهم، وأسكنهم الجنان العالية. وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، أي: تعذيبه لمن أصروا على الشرك والكفر وماتوا عليه، أما أهل الإيمان إن ماتوا على كبائر الذنوب إن شاء غفر لهم ولم يدخلهم النار، وإن شاء عذبهم ثم أخرجهم بتوحيدهم من النار، وهذا هو الجمع بين مذهب المعتزلة وعلماء أهل السنة والجماعة.وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، تذكرون أن هذه الصيغة: (أضعافاً مضاعفة) لا تدل على أن الربا لا يحرم إلا إذا تضاعف، وإنما خرجت مخرج الواقع أو الغالب في تلك الأيام، إذ كان الرجل يكون عليه دين لأخيه، فإذا حلَّ الأجل قال: يا أخي! أخر وزد، ليس عندي ما أُسدد به، أخرني حولاً آخر وزد، فيأتي الحول الثاني وما استطاع السداد، فيقول له مرة أخرى: أخر وزد، فيصبح الدين أضعافاً مضاعفة! وكان هكذا ربا الجاهلية، وإلا فدرهم ربا كقنطاره، لا فرق بين القليل والكثير فيما حرم الله عز وجل، فدرهم واحد يعذب الله به صاحبه، وهو والعياذ بالله أفظع من ثلاثين زنية! وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، أي: اتقوا عذابه، اتقوا عقابه، وذلك بطاعته وطاعة رسوله، ولا يتم فلاح إنسان ولا جان إلا إذا زكت نفسه وطابت وطهرت، وتزكو النفس وتطيب وتطهر بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ الحسنات مزكيات للنفس، والسيئات ملوثات مخبثات لها، فمن أطاع الله ورسوله فيما أمرا به زكت نفسه، ومن أطاعهما فيما نهيا عنه فترك الذنوب والآثام احتفظ بزكاة نفسه وطهارتها، وأصبح أهلاً لدار السلام. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]، أي: أُحضرت لهم من قرون، من أزمنة لا يحصيها إلا الله، فهي موجودة مهيأة للكافرين، والكافرون هم الذين كذبوا الله ورسوله في قليل أو كثير، والكافر هو الجاحد المكذب، فمن مات على تكذيب وجحود الله ورسوله، فإنه مهما عمل من الصالحات فلن يغني ذلك عنه شيئاً.فهذا عبد الله بن جدعان الذي كان يذبح في كل حج ألف بعير للحجاج، فيطعمونها أيام وجودهم في الحرم، ويكسو كل عام ألف حلة -بدلة من ثوبين- لفقراء الحجاج، ومع هذا سألتَ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ( هل عبد الله بن جدعان في الجنة؟ قال: لا، هو في النار؛ لأنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين )، أي: أنه مات كافراً. وبالتالي فالحسنات لا تكون حسنة محسِّنة للنفس مزكية لها إلا إذا كانت مما شرع الله، وعملها عبد الله أو أمته إيماناً واحتساباً، أما حسنات ما شرعها الله، فلن تكن حسنة وإن كانت في ظاهرها من فعل الخير، ثم تلك الحسنة إذا لم تؤد على الوجه الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن تنفع، ولن تزكي النفس.وأخيراً: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، فباب الرحمة مفتوح، أطع الله وأطع رسوله، افعل المأمور واجتنب المنهي، فإنك إن فعلت ذلك وصلت إلى الفلاح، والفلاح ليس ربحك الشاة والبعير، ولا الدينار ولا الدرهم، ولا الجاه ولا السلطان، إنما الفلاح أن تزحزح عن النار وتدخل الجنة، إذ بين تعالى هذا بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].
    قراءة في تفسير قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
    والآن مع الآيات بمفرداتها وشرحها وهداياتها؛ لأننا يوم أمس قد تجاوزنا هذا. ‏
    شرح الكلمات
    قال: [ قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] والأمر: الشأن، والمراد به: توبة الله على الكافرين أو تعذيبهم ]، أي: ليس لك من أمر تعذيبهم أو هدايتهم يا رسولنا شيء؛ لأن هذا لنا، فنحن لنا ما في السموات وما في الأرض، نغفر لمن نشاء ونعذب من نشاء [ و(شيء): نكرة متوغلة في الإبهام -والجهل- وأصل الشيء: ما يُعلم ويُخبر به ] قل أو كثر، صغر أو عظم. [ قوله: أَوْ يَتُوبَ [آل عمران:128] -قال العلماء:- (أو) بمعنى: حتى، أي: فاصبر حتى يتوب عليهم أو يعذبهم ]، أي: اتركهم حتى يتوب عليهم أو يعذبهم. [ قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ[آل عمران:129]، أي: ملكاً وخلقاً وعبيداً ]، كل ما في السموات وما في الأرض هو مملوك لله، إذ هو خالقه وهم عبيده يعبدونه، قال: [ يتصرف فيهم كيف يشاء، ويحكم كما يريد ].[ وقوله: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا [آل عمران:130] لا مفهوم للأكل، بل كل تصرف بالربا حرام، سواء كان أكلاً أو شرباً ولباساً ] أو سكناً أو ما كان، وإنما مخرج الغالب أن الأصل في الأموال أنها تؤكل، فلا تقول: أنا لا آكل الربا، ولكن ألبس به ثياباً! أو هذا الحاصل من الربا لا ألبسه، أنا أبني به منزلاً! أو تقول: أنا أروِّح به على نفسي فأذهب به رحلة إلى الخارج! كل هذا باطل، إذ لا يحل درهم ربا ولو كنت ترميه في المزبلة، ولا يحل التصدق به حتى على اليهود والنصارى، ولذلك قد منعنا من أخذه فلنمتنع، وعلى كلٍ قال: (لا تأكلوا) باعتبار الأكثرية والغالب أنه يؤكل. قال: [ الربا -في لغة العرب- لغة: الزيادة ]، يقال: ربا الشيء يربو، إذا زاد وكثر [ وفي الشرع] أي: ديننا [نوعان] لا ثالث لهما [ ربا فضل، والثاني: ربا نسيئة ] فيجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف هذين النوعين. [ ربا الفضل يكون في الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح ] وبعبارة فقهية: يكون في كل مقتات مدخر، أي: في كل ما يقتات ويعيش به الإنسان ويصلح للادخار، أما البطيخ والحبحب والبرتقال لا يدخر [فإذا بيع الجنس بمثله يحرم الفضل، أي: الزيادة، ويحرم التأخير ]. إذا بعت ذهباً بذهب يجب أن يكون الوزن جراماً بجرام، كيلو بكيلو، ويحرم الفضل، أي: الزيادة، كذلك إذا بعت فضة بفضة، فإياك أن تفضل وتزيد، وإنما كيلو بكيلو، قنطار بقنطار، أيضاً بعت قمحاً بقمح، كيساً بكيس، خيشة بأخرى، فلا بد أن يكون كيلو بكيلو، حفنة بحفنة، ولا تزد شيئاً؛ لأنه نوع واحد، كذلك بعت شعيراً بشعير، فإياك أن تفضله وتزيد عليه حفنة أو كيلو، أيضاً الملح يدخل في الربا؛ لأنه عنصر الطعام، فإذا بعت ملحاً بملح، فبع الكيلو بالكيلو، والقنطار بالقنطار، وإياك أن تزيد، فإن زدت فقد رابيت ربا الفضل، أي: ربا الزيادة، وكلمة: (الفضل) تعني: الزيادة، يقال: تعشيتم؟ قالوا: نعم، وهذا الذي بقي؟ قالوا: هذا فضلة، أي: زائد عن طعامنا.فهذه الأجناس وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم كقاعدة، فإذا بيعت ببعضها البعض فيحرم الفضل والزيادة، وإن اختلفت الأجناس، كأن بعت فضة بذهب، أو قنطار فضة بعشرة كيلو ذهب فلا حرج، أو بعت قنطارين شعير بقنطار قمح أو أقل، أو بعت قنطار تمر بعشرة قنطار ملح، كل ذلك لا حرج. إذاً: إذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم بحسب الأسواق، أي: زيدوا الفضل ولا حرج، لكن إذا بعت ربوياً بمثله فلا يحل الزيادة من جنسه.قال: [ ربا الفضل يكون في الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، فإذا بيع الجنس بمثله يحرم الفضل، أي: الزيادة -ولو حفنة أو جراماً- ويحرم التأخير ] أيضاً، فإذا بعت فضة بذهب جاز التفاضل، كأن تبيع كيلو فضة بعشرة كيلو ذهب، لكن يجب أن يكون التقابض في مجلس واحد، فلا تأخذ الذهب وتقول: سآتيك بالفضة فيما بعد، أو تأخذ الفضة وتقول: سآتيك بالذهب فيما بعد، لا، بل يجب أن يكون التقابض في المجلس، فإذا بعت تمراً بتمر، كأن بعت برْنياً بعجوة، فيجب أولاً: أن يكون صاعاً بصاع، وثانياً: أن يكون التقابض في المجلس، ولا تقل: أعطني وأنا سآتيك بعد.وعليه فربا الفضل الزيادة فيه محرمة إذا كان الجنس واحد، أما إذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم حسب الأسعار والسوق، ويحرم التأخير، أما إذا اشتريت كتاناً بفضة فهذا شيء آخر، أو اشتريت بعيراً بذهب فلك أن تؤخر، لكن هذه الستة التي ذكرناها إذا بعتها فيجب أن يتم ذلك في مجلس واحد، ولا يجوز التأخير.قال: [ ربا النسيئة -هذا سهل-: هو أن يكون على المرء دين إلى أجل، فيحل الأجل ولم يجد سداداً لدينه، فيقول: أخر لي وزد في الدين ]، وهذا ربا الجاهلية، وقد قلت لكم: إن ربا الجاهلية أفضل وأهون من ربا العلمانية اليوم! ووجه التفضيل: أن يكون لك دين على إبراهيم، ثم حل الأجل، فتقول له: سدد، فيقول: ليس عندي شيء، فتقول له: نزيد، فيزيد خمسة في المائة أو عشرة! أما إذا جئت وقلت: سدد، فقال: تفضل دينك، فإنك تأخذ دينك فقط، ولا يعرف العرب الزيادة، فقد كان يستقرض بعضهم من بعض إلى آجال المواسم وغيرها، فإذا حل الأجل يأتي بما عليه من دين، بلا زيادة أبداً، فإن عجز يعتذر فيقول: أخرني وزد.بينما ربا البنوك هذه الأيام أشد وأفظع، فيأتي أحدهم إلى البنك يريد مائتين ألف لسنة، فيعطيه البنك مائة وخمسة وثمانين ألفاً، ويسجل عليه مائتين ألفاً! وهذا هو الواقع، فقد زادوا قبل نهاية الأجل! ولو أتيتهم بالمال لا يقبلونه، بل لا بد من الزيادة أن تنتهي.قال: [ وربا النسيئة: هو أن يكون على المرء دين إلى أجل، فيحل الأجل ولم يجد سداداً لدينه، فيقول له: أخرني وزد في الدين ]، فيتفقون على الزيادة، كثرة أو قلة.قال: [ قوله: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]: لا مفهوم لهذا القول؛ لأنه خرج مخرج الغالب، إذ الدرهم الواحد حرام كالألف، وإنما كانوا في الجاهلية يؤخرون الدين ويزيدون مقابل التأخير حتى يتضاعف الدين، فيصبح أضعافاً كثيرة ]، كانت ألفاً، وفي خلال خمس سنوات وهو يؤخر فيها صارت خمسة آلاف! وهكذا كلما أخر السداد زد ألفاً فوقها، حتى تصبح أضعافاً مضاعفة. [ قوله: تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]: تنجون من العذاب وتظفرون بالنعيم المقيم في الجنة ]، وقد بينا الزحزحة وقلنا إنها: إبعادٌ عن النار ودخول الجنة.[ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]: هيئت وأحضرت للمكذبين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ]، وليس معنى هذا: أن النار ستوجد يوم القيامة، إذ إنها والله لموجودة الآن وقبل مئات القرون، وقد شاهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه كما شاهد الجنة دار السلام، وعالمنا هذا بالنسبة إلى عالم الجنة وعالم النار قطرة ماء في المحيط الأطلنطي، فعالم الجنة تطوى السموات وهو فوقها، وعالم النار تطوى الأرضون كلها وهو تحتها، ومثل الدنيا إلى الآخرة كمثل أن يغمس أحدنا أصبعه في البحر ثم يستخرجها ويزن تلك البلة، فكم سيجدها إذا كان عنده موازين دقيقة؟! كذلك فإن آخر من يدخل الجنة يعطى مثل الدنيا مرتين، أما أنتم فتعطون إن شاء الله عشر مرات، فأين دنياكم إذاً؟! وأما عالم الشقاء فتعرفون أن ضرس الكافر والله كجبل أحد، وعرضه مائة وخمسة وسبعون كيلو، أي: من مكة إلى قُديد، إذاً: كم تتسع النار؟! قولوا: اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، ولله نفحات ما تدري قد يُستجاب لك.قال: [ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]: لترحموا، فلا تُعذَّبوا بما صدر منكم من ذنب المعصية] .
    معنى الآيات
    والآن مع الشرح الكامل الوافي لهذه الآيات لنزداد إن شاء الله يقيناً بما علمنا.قال: [ معنى الآيات: صح] أي: ثبت في الصحيح [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد دعا على أفراد من المشركين بالعذاب] ما في ذلك شك [وقال يوم أحد لما شج رأسه وكسرت رباعيته: ( كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟ ) فأنزل الله تعالى عليه قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]] لا أمر تعذيب ولا أمر هداية [أي: فاصبر حتى يتوب الله تعالى عليهم، أو يعذبهم بظلمهم فإنهم ظالمون.قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:129] ملكاً وخلقاً، يتصرف كيف يشاء، ويحكم ما يريد، فإن عذب فبعدله، وإن رحم فبفضله، وهو الغفور لمن تاب، الرحيم بمن أناب. هذا ما تضمنته الآيتان الأوليان. وأما الآية الثالثة فإن الله تعالى نادى عباده المؤمنين ] ومن قال نادى هؤلاء المنافقين فكلامه باطل، بل نادى المؤمنين الصادقين في إيمانهم فقال: يا أيها الذين آمنوا [ بعد أن خرجوا من الجاهلية ودخلوا في الإسلام، بأن يتركوا أكل الربا وكل تعامل به ]، فقد كانوا يأكلونه والله العظيم! بل كانوا يتعاملون به كذا سنة بعد دخولهم في الإسلام، إذ ما حرم الربا إلا في المدينة بعد كذا سنة، وذلك لما تهيئوا للامتثال والطاعة، ولقوة إيمانهم بالله تعالى، ناداهم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا [آل عمران:130]، قال: [ فناداهم بأن يتركوا أكل الربا، وكل تعامل به -ولو ما يؤكل- فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:130]، أي: بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، إذ كان الرجل يكون عليه دين ويحل أجله، ولم يجد ما يسدد به، فيأتي إلى دائنه ويقول: أخر ديني وزد علي، وهكذا للمرة الثانية والثالثة حتى يصبح الدين بعدما كان عشراً عشرين أو ثلاثين، وهذا معنى قوله تعالى: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130].ثم أمرهم بتقواه عز وجل، وواعدهم بالفلاح -إن هم اتقوه- فقال عز وجل: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، أي: كي تفلحوا ]، والفلاح: أن تزحزح بعيداً عن عالم الشقاء وتدخل الجنة دار السلام، هذا هو الفلاح، لا ربح تجارة ولا وظيفة ولا شاة أو بعير، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]؛ لأن تقوى الله معناها: فعل المأمور، والمأمور لما يفعله العبد بشروطه فإنه يزكي نفسه ويطيبها ويطهرها، وإذا اجتنب المنهي يبقى ذلك الطهر كما هو، بل ينمو ويزيد؛ لأن من اغتسل ثم صب على رأسه بولاً ووسخاً هل انتفع بذلك؟! لا، إذاً لا بد أن يحافظ على ذلك الطهر، وفي هذا حكم صادر عن الله عز وجل على الإنس والجن، ونصه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، أي: نفسه، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:10] أي: نفسه، والتزكية تكون بفعل الطاعات، والتدسية تكون بفعل المحرمات، فالماء والصابون يطهران الأنجاس، والبول والعذرة يوسخان الأبدان، وهذه سنة الله عز وجل، والعجب كيف يجهل المؤمنون هذا؟! لا عجب؛ لأنهم ما سمعوا هذا الكلام أبداً، فالقرآن يقرءونه على الموتى! أما الأحياء فلا.قال: [ قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130] أي: كي تفلحوا بالنجاة من العذاب، والحصول على الثواب وهو الجنة ] دار السلام، جعلنا الله من أهلها.قال: [ وفي الآية الرابعة أمرهم تعالى باتقاء النار التي أعدها للكافرين، فهي مهيأة محضرة لهم، واتقاؤها يكون بطاعته تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131] ] فمن هم الكافرون؟ أبو جهل؟ قال: [ أي: المكذبين الله ورسوله، فلذا لم يعملوا بطاعتهما؛ لأن التكذيب مانع من الطاعة ] أي: هذه النار للكافرين؛ لأنهم كذبوا فلم يعملوا بما يزكي أنفسهم، ولم يتخلوا عما يدسيها، فبُعثوا وأنفسهم خبيثة كأرواح الشياطين، وبالتالي كيف يدخلون دار السلام؟! مستحيل! قال: [ وفي الآية الأخيرة أمرهم تعالى بطاعته وطاعة رسوله، ووعدهم على ذلك بالرحمة في الدنيا والآخرة ]، وقد بينا كيف نحصل على رحمة الله فقلنا: أن يعيش المسلمون على قلب رجل واحد، متعاونين متحابين متناصحين، أطهاراً أصفياء أنقياء، لا خبث ولا ظلم ولا شر، لا فساد ولا خلف للوعد، لا كذب ولا حسد ولا بغضاء، كأنهم أسرة واحدة، فأية رحمة أعظم من هذه؟! وإذا كانوا هكذا انتفى شيء اسمه عذاب بينهم أبداً، ووجدت الرحمة في الدنيا، وعزوا وسادوا وقادوا البشرية أيضاً، ثم في الآخرة بدخول الجنة دار السلام.قال: [ وكأنه يشير إلى الذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد، وهم الرماة الذين تخلوا عن مراكزهم الدفاعية، فتسبب عن ذلك هزيمة المؤمنين أسوأ هزيمة، فقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132] ]، والرماة الذين أمرهم ونصبهم القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم بالبقاء على الجبل كانوا خمسين رامياً، وقد أوصاهم ألا يبرحوا أماكنهم، لنا أو عليهم، وبعد لما شاهدوا الانتصار وفر المشركون، فتركوا أموالهم، والنساء مشمرات على خلاخلهن، هبطوا يجمعون المال، فرأى خالد خلو الساحة أو المركز القوي فاحتله برجاله، وصبوا على المسلمين الحِمم، فكانت الهزيمة النكراء بسبب معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعصية الرسول أثرت في أصحاب الرسول، أما نحن فلا! فنعصي كثيراً ومتى ما أردنا، وبالتالي فمن أولى بالهزيمة نحن أم هم؟ نحن والله، ولهذا نحن مهزومون اليوم، فأذل الخلق اليوم المسلمون، بل والله أذل من اليهود! أبعد هذا نطلب بياناً؟! ما السبب؟ إنها معصية الله ورسوله، وهل هناك غير هذا؟ والله ما هو إلا هذا، فلو تابوا وأطاعوا الله والرسول، خلال أربعة وعشرين ساعة وهم أعز العالم، والدنيا تضطرب لكلمة: الله أكبر!قال: [ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، أي: كي يرحمكم، فيتوب عليكم ويغفر لكم، ويدخلكم دار السلام والنعيم المقيم ].الآن استقر معنى الآيات الخمس في نفوسنا إن شاء الله، وهذا خير من خمسين كيلو غراماً من الذهب! ووالله إن الذي وعي هذه الآيات وفهمها وعمل بها لخير له من خمسين قنطاراً من الذهب! أو من بنوك أمريكا وأوروبا.
    هداية الآيات
    الآن مع هداية الآيات الخمس، إذ لكل آية هداية ورب الكعبة، وكل آية تهدي إلى دار السلام والبعد عن دار الشقاء والبوار، وكل آية تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فهل يعقل أن يوجد كلام بدون متكلم؟! ثم هذه الآية من تكلم بها؟ من أنزلها؟ من أوحى بها؟ من قالها؟ الله، إذاً الله موجود، وبالتالي كيف يُنكر أو يكذب به؟! إن هذه الآية من الله على من نزلت؟ على العجائز في القرية؟! على التجار؟! على من؟ اختار الله من البشرية كلها رجلاً واحداً، وهيأه ليوحيَ إليه بها، فمستحيل أن يكون محمداً غير رسول الله! وكيف يوحي إليه وينزل عليه كلامه ولا يكون رسولاًً؟! من ينفي هذا مجنون أو لا عقل له، إذاً كل آية تحمل هذا الهدى. قال: [ من هداية الآيات:أولاً: استقلال الرب تبارك وتعالى بالأمر كله، فليس لأحد من خلقه تصرف في شيء إلا ما أذن فيه للعبد ]، وأخذنا هذه الهداية من قول الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].فإن قال قائل: يا شيخ! ها نحن عندنا أمور نتصرف فيها فكيف ذلك؟ أقول: قد أذن الله لنا فيها، ولو ما أذن لنا فيها فلا يجوز، فالآن أنت تركب سيارة تسرقها؟ يجوز ذلك؟! حرام، أو تشرب شراباً محرماً، هل يجوز لك ذلك؟ لا؛ لأنه ما أذن، ولذلك نأكل أو نشرب أو ننكح أو نلبس في المأذون فيه، أما غير المأذون فيه فحرام وأهله عصاة مجرمون. [ استقلال الرب تبارك وتعالى بالأمر كله، فليس لأحد من خلقه -حتى ولو كان جبريل أو محمد رسول الأولين والآخرين- تصرف في شيء إلا ما أذن فيه للعبد ] بالتصرف، وهذا أخذناه من قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].[ ثانياً: الظلم ]، والظلم يا عبد الله! يا أمة الله! وضع الشيء في غير موضعه، فلو أن أحدكم نام في وسط الحلقة فقد ظلم؛ لأن هذا المكان ليس محلاً للنوم، وأفظع من هذا أن يتبول في المسجد، فكذلك الذي يركع ويسجد لغير الله؛ لأن الركوع والسجود لا يستحقهما إلا الخالق الرازق، فإذا سجد لـعبد القادر وانحنى أمام إدريس فهذا ظلم، ولهذا فإن الشرك أفظع أنواع الظلم؛ لأن ظلمي لك بسبك أو شتمك أو أخذ ريالك أو الاعتداء عليك هو ظلم بيني وبينك بني الإنسان، لكن كونك تظلم الله الذي بيده كل شيء، وتأخذ حقه وتعطيه لغيره، فهذا من أبشع وأفظع أنواع الظلم، ومثاله لو أنك تختصم مع عامي عند الباب أو فقير كنَّاس فتظلمه، فهل ظلمك إياه كظلمك لأمير المدينة لو تسبه أو تشتمه؟! لا أبداً، فهذا أفظع وأبشع، فكيف بالذي يظلم الله ويأخذ حقه الذي فرضه على خلقه ويعطيه لعبيده؟! أعوذ بالله! ولهذا قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. [ الظلم مستوجب للعذاب -أي: مهيئ له- ما لم يتدارك الرب العبد بتوبة فيتوب ويغفر له ويعفو عنه ]، وهذه قاعدة، أي: أن الظلم من الإنسان مستوجب لعذابه، إلا إذا تداركه الله فتاب عليه وغفر له، أما إذا تركه الله على ظلمه فلا توبة ولا مغفرة، بل والله لا بد من العذاب. [ ثالثاً: حرمة أكل الربا -مطلقاً- مضاعفاً كان أو غير مضاعف ]، أمَا قال الرسول الكريم: ( لدرهم واحد أشد من ثلاثين زنية )؟ إذ ليس عندنا شيء اسمه: ربا خفيف لأنه قليل، لا، فالكثير والقليل سواء.[ رابعاً: بيان ربا الجاهلية، إذ هو هذا الذي نهى الله تعالى عنه بقوله: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا [آل عمران:130].خامساً: وجوب التقوى لمن أراد الفلاح في الدنيا والآخرة.سادساً: وجوب اتقاء النار ولو بشق تمرة ]، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ).[ سابعاً: وجوب طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم للحصول على الرحمة الإلهية، وهي العفو والمغفرة ودخول الجنة ].معاشر المستمعين! فهيا نتخلص من الربا، فنزور إخواننا وأعمامنا وأخوالنا وأقاربنا ونقول لهم: هيا بنا نخرج من هذه الفتنة، نتعهد ألا يرانا الله غداً أو بعده أمام بنك، ومن عنده نقود يسحبها، وتمشي هذه الروح والناس يبكون نساء ورجالاً، وفي اليوم الأول والثالث والرابع يترك العمال العمل في البنك، وإذا برؤساء البنوك قد داخوا وأصابهم الإعياء، وفي خلال أربعين يوماً يغلقونها، فننتهي من شرها، فهل تستطيعون ذلك؟ أنتم تستطيعون يا أهل النور! لكن نسبتكم إلى أهل الظلام كم؟ ولا واحد إلى ألف، إذاً لا ينفع، وهذا ما يسمى بالإضراب العام، وهو ينفع إذا أضربت الأمة كلها، وهذا هو الهجران الذي أوجبه الله ورسوله، فإذا أخونا أو عمى فسق وأبى أن يتوب قلنا: لن نتكلم معه ولن نتعامل معه، وفي خلال أربعين يوماً يتوب ويبكي.ولو تأملنا في الثلاثة الذين تخلفوا عن المعركة، فقد أعلن الرسول هجرانهم خمسين يوماً، فكانوا يمشون بالأسواق ولا يكلمهم أحد، بل إن نساءهم لا تتكلم معهم، وإنما الواحد منهم تضع له زوجته الخبز وتسكت، وبقي هذا الحال حتى ضاقت بهم الأرض بما رحبت، فهذا هو الهجران الحقيقي، أما أن أقاطعه وأنت تصاحبه، ولا أتعامل معه وأنت تتعامل معه في كل شيء، فهل ينفع هذا؟ ونحن والحمد لله قاطعنا البنوك، فهل انتهت؟ لا؛ لأن المقاطعين لها قليل، لكن إذا الأمة كلها عرفت الطريق إلى الله، فإن هذه البنوك والله لتتحولن إلى مصارف خير وهدى ورحمة، ووالله لتدر وتغل أضعاف ما كانت تدر، وأنا أقسم بالله وإني على علم.فإن قيل: يا شيخ! هذا محال وصعب، لا يمكن، إذاً ما الذي يمكن؟ الذي يمكن أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، وأن يأخذ علماؤنا وحكامنا فيجمعوننا في بيوت الله من المغرب إلى العشاء كاجتماعنا هذا، في كل قرانا ومدننا، النساء وراء، والرجال أمام، ونتلقى الكتاب والحكمة يوماً بعد يوم، والنور يعلو، والمعاني ترتفع، والتقوى تعم، وفجأة خلال سنة ونحن أولياء الله! بل لو رفعنا أكفنا إلى الله ما ردها، ويومها لن يبقى معنىً للشح ولا البخل ولا التكالب على الدنيا ولا التلصص، وأفاض الله رحماته علينا، فهذا هو الطريق الذي نبكي حتى يتحقق أو نموت! ووالله لا طريق إلا هذا، أي: أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، فنفزع إلى ربنا، ونطرح بين يديه، ونبكي كل ليلة، ونتلقى هداه ورحمته في قرانا ومدننا، وما هي إلا أيام وقد أغدق الله علينا نعمه وأفاض رحماته، وطريق غير هذا مستحيل أن يتم به شيء.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #195
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (53)
    الحلقة (194)

    تفسير سورة آل عمران (58)



    يدعو الله عز وجل عباده المؤمنين بالمسارعة إلى مغفرته وجنته، وهذا لا يكون إلا بالمسارعة إلى التوبة والاستغفار والندم والبعد عن المعاصي، والعمل بما يوجب للعبد دخول الجنة من الأعمال الصالحة؛ كالإنفاق في سبيل الله في السراء والضراء، والتخلق بالأخلاق الحسنة من كظم الغيظ والعفو والإحسان.
    تفسير قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي-صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا، فإنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الخمس، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].هيا نكرر تلاوة الآيات مرة أخرى، والمستمعون والمستمعات يتأملون ويتدبرون لاستخراج المعاني التي تحملها هذه الآيات النورانية: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136]، اللهم اجعلنا منهم، آمين، إذ إن لله نفحات، فإذا سمعت الداعي يدعو فقل: آمين لتشاركه في الأجر وفي الجزاء. ‏
    أمر الله تعالى لعباده بالمسارعة إلى التوبة النصوح لمغفرة ذنوبهم
    معاشر المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، أمر موجه إلى عباده المؤمنين الذين ناداهم في الآيات الماضية، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:130-132]، ثم قال: وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، فنحن مأمورون بأن نستجيب، فهيا نبادر قبل فوات الوقت، وقرئت في السبع: (سارعوا) بدون واو العطف، وقرئت بالواو: (وسارعوا)، والكل واحد.والمسارعة: المبادرة في عجلة دون توانٍ ولا انتظار ولا تأمل، والمسارعة تكون: إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، والمسارعة إلى المغفرة: هي المبادرة إلى التوبة، وكأنما قال: عجلوا فتوبوا إلى ربكم، فأمرنا ألا نأكل الربا، وأمرنا بطاعته وطاعة رسوله، ووعدنا بالرحمة والفلاح، إذاً فعجلوا إلى الهدف. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، والمسارعة إلى المغفرة هي المسارعة إلى التوبة والاستغفار والندم والإقلاع والعزم ألا نعود لهذا الذنب، فهذه هي التي أُمرنا بالمسارعة إليها، أي: إلى المغفرة، فهيا نسارع إلى مغفرة ذنوبنا، وذلك بالإعلان عن التوبة، وبالاستغفار والندم والإقلاع والبعد عن المعصية، سواء كانت من كبائر الذنوب أو صغائرها.ثم أيضاً إلى أين؟ قال تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، ونسارع أيضاً إلى جنة عرضها السموات والأرض.إذاً: تقرر عندنا وعلمنا وفهمنا واقتنعنا وأصبحنا موقنين بأن الجنة دار السلام لا يدخلها إلا الطيبون الأطهار الأصفياء فقط، ولا يدخل الجنة من عليه أوضار الذنوب وأوساخ الآثام، فإن أردت يا عبد الله! الجنة دار السلام ادخل الحمام، فتطهر وتنظف واغتسل وتطيب ثم تفضل، أما أن تدخل الجنة بالعفن وبالرائحة الكريهة والله ما كان.فالذي يأكل أموال الناس يجب أن يسارع إلى التوبة ليُغفر ذنبه، بل لا يبيت الليلة إلا وقد بادر إلى التوبة؛ لأن الجنة دار السلام لا يدخلها إلا الأطهار الأصفياء، ومن هنا دعانا ربنا تعالى رحمة بنا وشفقة علينا أن نتطهر من ذنوبنا، وبعد ذلك تفضلوا إلى الجنة التي أعدت وأحضرت -من زمان- للمتقين.وإن سأل سائل فقال: ما هي التوبة؟ فالجواب: التوبة تعني: الرجوع إلى الحق والاعتراف به، والاستغفار، والندم، والعزم ألا يعود أبداً إلى ذلك الذنب، فإن كان الذنب هو أخذ أموال الناس أو سفك دمائهم أو نهش أعراضهم؛ فلا توبة تصح حتى يتحلل منهم، فإن كان قادراً على سداد المال رده، وإن كان عاجزاً عن ذلك طلب منهم العفو والرجاء والانتظار، وإن كان عِرضاًً طلب العفو والمسامحة، وإن كان دماً أراقه كذلك قدَّم نفسه ليراق دمه أو يعفى عنه، وهذه حقيقة لا بد منها، أما إذا كان الذنب بينك وبين الله -كما ذكرنا- كأن تركت واجباً، فالتوبة تعني: الندم والاستغفار وفعل الواجب، وإن كان الذنب ارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب، أو معصية من معاصي الله والرسول، فالتوبة تعني: الندم والاستغفار والعزم على ألا يعود إلى ذلك الذنب. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، فأولاً: التطهير، ثم بعد ذلك دخول الفردوس، أما وأنت ملوث فلا. وَجَنَّةٍ [آل عمران:133]، أي: وإلى جنة، عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، قال العلماء وعلى رأسهم الحبر عبد الله بن عباس: لو أخذنا السموات رقعة إلى جنب الأخرى وألصقناها بها، وفعلنا بالأرضين كذلك، فإن عرض الجنة أكثر من هذا! أما الطول فلا يعلمه إلا الله، إذ العرض في الغالب مبني على الطول، فإذا كان العرض-مثلاً-ذراعاً فالطول لا شك أنه ستة أذرع، أما لو قال: (وجنة طولها كذا)، فقد يكون الشخص طويلاً ورقيقاً كالحبل، أو سلكاً رقيقاً من المدينة إلى أمريكا، فأي عرض له؟! ما له عرض، لكن إذا ذكرت العرض، فإن الطول ضروري وهو فوق ما تتصور! كما قد عرفنا وقلنا دائماً حتى نتصور قعر عالم الشقاء: هيا نغمض أعيننا ونضع رؤؤسنا بين ركبنا ولنفكر ولنقل: نازل، نازل، نازل، إلى أين؟! كلَّ العقل واندهش، فهل فهمتم هذه أم لا؟ إن عالم الشقاء المعبر عنه بالنار-دار البوار-أعلمَ تعالى أنه أسفل: قال تعالى: رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5]، فهذا السفل فكر فيه، أما الجنة دار السلام فهي فوق السماء السابعة، وسقفها هو عرش الرحمن، وسيأتي يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48]، يوم يطوي السماء كطي السجل للكتب، عند ذلك فقد انتهت السموات وانتهت الأرضون، وبقي العالمان: عالم السعادة العلوي، وعالم الشقاء السفلي، وسعة هذا العالم لا يحده عقلك، فقل: آمنت بالله. وقد علمنا أيضاً: أن آخر من يدخل الجنة من أهل الذنوب الذين كانوا في النار أحقاباً يعطى مثل الدنيا مرتين، أي: مثل هذا الكوكب مرتين، وقلنا: إن هذه الكواكب لا تعد ولا يحصي عددها إلا الله، فلو وزعنا هذه الكواكب على أهل الجنة، فأخذ كل واحد كوكباً أو عشرة كواكب، فإنه سيبقي الكثير منها! فلا إله إلا الله! أين نحن؟ أتدرون أين نحن؟ نحن في رحم الدنيا، أتعرفون رحم المرأة الذي خرجتم منه أم لا؟ رحم المرأة عرضه أو طوله ستة سنتيمتر، فلو يمكنك أن تتصل بالجنين في الشهر التاسع -عندما يتخلق- وقلت له: ويحك يا هذا! إنك في رحم ضيق منتن، اخرج إلى سعة، فإنه سيضحك، وسيقول: هذا الذي يخاطبني مجنون! أين يوجد هذا العالم الذي تعنيه؟ فلا تستطيع أن تقنعه أبداً إلا إذا آمن كما آمنا نحن بالغيب، فهو لا يفهم أن وراء هذا الرحم شيء واسع جداً، وإن قلت له مرة أخرى -وهو محفوظ في تلك الدماء-: إنك في رحم ووسط بطن أمك في ذراع طول وعرض، ووراء هذا البطن غرفة أو حجرة، ووراء هذا البطن كذا وكذا، فإنه سيزداد كفراً وتكذيباً، وكذلك هذه هي الحياة كلها، فالآن حياتنا هذه والله لأقل من الرحم، والآن الملاحدة والكفار لا يؤمنون إلا بهذا فقط، أي: بالمشاهدات، أما وراء هذا العالم عوالم فلا، فهي خرافات، وبالتالي فالملاحدة لا يؤمنون بعالم السعادة وعالم الشقاء، لا يؤمنون بعرش الرحمن وكرسي السموات، وإنما لا يؤمنون إلا بهذا المحيط الذي يحيط بهم، فهم محصورون فيه، وهي أضيق من الرحم! إذاً: قال: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]؛ لأنه يريد تعالى رحمة بعباده أن يعلمهم، أن يعرفهم؛ حتى يعرفوا ويفهموا ويعلموا.
    المتقون هم أهل الجنة وورثتها بحق
    قال تعالى: أُعِدَّتْ [آل عمران:133]، أي: هيئت وأحضرت، والإعداد شيء خاص، كإعداد الضيافة للضيف. أُعِدَّتْ [آل عمران:133]، لمن؟ لبني هاشم؟! لبني إسرائيل؟! لبني تميم؟! كل ذلك لا، إنما أعدت للمتقين، فلا يدخل الفاجر، والأمر واضح. إذاً: فعلموا البشرية أن الجنة دار السلام تورث، لكن لا بالنسب ولا بالمصاهرة ولا بالولاء لغير الله تعالى -الإرث أسبابه ثلاثة: إما نسب، وإما صهر، وإما ولاء- وإنما ورثتها معروفون، قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، وعرف هذا إبراهيم عليه السلام، وسمعناه في ضراعته وبكائه يقول: ربـ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، فالجنة تورث وسبب إرثها التقوى، فاتق الله يا عبد الله، وحافظ على تقواك حتى تلقى مولاك، فأنت من الورثة للجنة، فإن فجرت يا عبد الله فقد خرجت عن طريق الله، وحرمت من هذا الإرث أحببت أم كرهت. أُعِدَّتْ [آل عمران:133]، لمن؟ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، لو قال: لأهل البيت، لبني هاشم، لبني فلان أو علان لتململ البشر، إذ المتقي ليس بيض الوجوه أو سمرها أو حمرها أو سودها، أو قصار الأبدان أو طولها، أو أغنياء الناس أو فقرائهم، اترك هذا كله ولا تلتفت إليه، وإنما فقط: هل هو تقي أو فاجر؟ والسر في أن التقوى هي التي تورث الجنة: أن التقوى تزكي النفس وتطهرها، والله قد أصدر حكمه فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، أي: طيبها وطهرها، وكيفية ذلك أن التقوى حقيقتها خوف من الله تعالى يحمل الخائف على أن يمتثل أوامر الله، فيفعل ما يفعل ويعتقد ما يعتقد ويقول ما يقول، فهذه هي التي تزكي النفس، أيضاً خاف من الله فترك معاصيه، فلم يقارف الذنوب التي تلطخ النفس وتعفنها، وإن زلت قدمه يوماً تاب وصقلها وصفاها وحافظ على ذلك، وعند ذلك أصبح الوارث بحق.وبالتالي فالمتقي عبد خاف من عذاب الله وغضبه وسخطه فأطاعه، وفعل ما أمره أن يفعله، وقال ما أمر أن يقوله، واعتقد ما أراد أن يعتقده، وذلك الاعتقاد والقول والفعل هي والله بمثابة الماء والصابون لتزكية النفس وتطهيرها، فإذا أضاف إلى ذلك اجتناب ما حرم الله من اعتقاد وقول وعمل، فقد احتفظ إذاً بالطهارة والزكاة، أما إذا صلى وسرق، صام وزنا، فهو يوجد له زكاة ثم يلطخها، فلو مات قبل التوبة هلك، إذ إن فعل المأمورات عبارة عن أدوات تزكية وتطهير، واجتناب المنهيات والبعد عنها معناه المحافظة على تلك الزكاة والطهر والصفاء حتى لا يلوث ويفسد.
    تفسير قوله تعالى: (الذين ينفقون في السراء والضراء...)
    قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، والسَّرَّاءِ -بالسين والراء مهموز-: حالة السرور، أي: ما يدخل السرور والفرح على النفس، وَالضَّرَّاءِ: ما يدخل الضرر على النفس، ولكل منها صور، فمن السراء: الغنى، ومن الضراء: الفقر، ومن السراء: العافية، ومن الضراء: البلوى، حتى قال بعضهم: السراء: الفرح أو العرس، والضراء: الحبس، وعلى كلٍ كلُ ما يدخل السرور على النفس البشرية فهو سراء، وكل ما يدخل الضر أو الأذى على النفس فهو ضراء، لكن قوله عز وجل: يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، أي: في حال الغنى وفي حال الفقر، وهذه الطبقة ممتازة، فهم ينفقون على كل حال، سواء كان المال متوفراً أو كان غير متوفر، فإذا دعا الداعي ووجبت النفقة ينفق بقدر الحاجة والمستطاع، وهذه يا معاشر المستمعين! نعوت وصفات الوارثين للجنة من المتقين، إذ إن قوله: (للمتقين) مجملة، فتأملوا هذه الصفات:أولاً: يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، أي: الإنفاق في حال السراء والضراء، وهذه أمكم والله تصدقت يوماً بحبة عنب، هذا العنب الذي ترمونه في المزابل، إذ إنه كان قوتها يوم ذاك، فأخذت الحبة وقالت لخادمها: أعطها لهذا السائل.إذاً: فذو الألف ينفق من ألفه بحسبها، وذوا الريال ينفق بحسب رياله، وهذا شأن المتقين الخائفين، فهم ينفقون في السراء والضراء.ثانياً: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، والكظم: الحبس، يقال: كظم يكظم، إذا حبس الماء في القربة أو أغلقها، والغيظ: ما يغيظك ويؤلمك، فالمؤمن المتقي الوارث إذا ناله من أخيه شيء آلمه، كأن سبه أو شتمه أو عيره أو أهانه أو تكبر عليه أو لطمه، فإنه لقوة إيمانه وصلته بربه يكظم ذلك الغيظ ولا يظهر منه شيئاً، فيبقيه كله في قلبه، فلا يرد السب بأخرى، ولا الشتم بشتم، ولا يظهر بوجه متغير، بل ما يظهر ذلك الغيظ أبداً، وإنما يكظمه ويحبسه كأنما ربط الماء في القربة أو حبسها بالخيط أو بالعصام، فهل نجرب ذلك؟ امش واركض برجلك أحد إخوانك، وتأمل في وجهه ستجد أنه تغير، بل قد يقول لك: مالك، هل أنت أعمى؟! آه! إن هذه النعوت الكمالية لن نصل إليها إلا بالتربية الحقيقة، فكظم الغيظ ألا يُظهر كلمة تؤذي أو تسيء إلى من آذه، بل وألا ظهر ذلك حتى على وجهه.ثالثاً: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وأما العفو شيء آخر، فإذا آذاه بأن ضربه أو أخذ ماله، فإنه يعفو عنه ولا يؤاخذه، ولفظ: (الناس) يشمل حتى الكفار؛ لأنه ما قال: (والعافين عن المؤمنين)، فهو لكماله ولقوة صلته بربه، ولشعوره بأنه وارث دار السلام، إذا آذاه مؤمن أو غيره فإنه يعفو عنه ويصفح ويتجاوز.وقد يقول قائل: إن شباب أو أبناء حينا يستهزئون بلحانا ويسخرون منا، وآباؤهم وإخوانهم واقفون كالجبال، ولا يتألمون لذلك، بل ولا يؤدبون أبنائهم وإخوانهم؛ لأنه ليس في قلوبهم روح الإيمان، فأقول: وهذا من العفو إن عفيتم عنهم. ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] فلأنهم محسنون أحبهم الله، وفوق ذلك هذه صفة أخرى، فيا أهل الإحسان! اعلموا أن الله يحب المحسنين فأبشروا، و(الإحسان) لفظ عام يتناول الإحسان إلى إخوانك فلا إساءة، ويتناول تجويد وإتقان العمل الذي تقوم به، فإن كنت خياطاً للثياب أحسن الخياطة، وإن كنت طاهياً للطعام أحسن طهي الطعام، وإن كنت نجاراً أحسن نجارتك، فكيف إذا كنت تعبد الله وتسيء إلى هذه العبادة وتفقدها نورها وما تنتجه من الصلاح للنفس والطهر؟! فإذا توضأت فأحسن الوضوء، وإذا صليت فأحسن الصلاة، وإذا حجيت أو اعتمرت فكذلك، وحسبنا أن يعلمنا ربنا أنه يحب المحسنين، إذ ما ليس هناك جملة ترغبنا في الطاعة كهذه، فهل تريد أن يحبك الله؟ أحسن فإن الله يحب المحسنين، أحسن إلى الفقراء والمساكين والجيران والإخوان والأباعد والأقارب، أحسن صنعتك ومهنتك وعملك، أحسن قبل ذلك عبادتك حتى تولِّد لك الطاقة الكافية والنور الذي يزكي نفسك ويطهرها. وهذه التعاليم كان لها أثر في أصحاب رسول الله، فما اكتحلت عين الوجود بأمة أطهر ولا أكمل ولا أرحم ولا أصفى ولا أتقى من تلك الأمة، أعني: الصحابة وأولادهم وأولاد أولادهم، فهل كان ذلك نتيجة الفلسفات الكاذبة؟! الحضارة المادية؟! إنها نتيجة هذه التعاليم الإلهية، فقد آمنوا وعملوا.وحتى لا يقول قائل: وهذه ماذا تفعل الآن؟ من يعمل بها؟ ما تنتج شيئاً؟ لا، فما زلنا نقول: لو أن أهل البيت، لو أن أهل القرية، لو أن أهل المدينة يجتمعون بصدق كل ليلة لتعلم الحكمة والكتاب، والله لظهرت آثار هذه الأنوار القرآنية، ولتجلى ذلك في نسائهم وأطفالهم ورجالهم، ووالله ما سخروا من لحيتك، ولكنهم أموات غير أحياء وما يشعرون.
    تفسير قوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم...)
    قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، ما زال السياق يوضح الطريق أيها السالكون، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135]، والفاحشة: الخصلة القبيحة الشديدة القبح، إذ الفحش معناه: القبح الزائد، ولا بأس أن نفهم فهماً عاماً:فأول فاحشة هي: اللواط، إذ قال تعالى عن قوم لوط: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف:80]، أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [العنكبوت:29].والفاحشة الثانية: الزنا، إذ قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32].ثم كل خصلة قبيحة فاحشة، فلو الآن يقوم أحدكم وينفعل، ويأخذ يسب الشيخ ويلعنه، فهذه فاحشة قبيحة، لو فعلها في الشارع فقبحها أقل، لكن بين المؤمنين في مجلس العلم فاحشة قبيحة، إذاً فكل خصلة قبيحة فاحشة، إلا أن أفحش الفواحش: جريمة اللواط وجريمة الزنا، وبعد ذلك الذي يسب أمه أو أباه من أقبح الفواحش، وهل تذكرون ما سمعتموه؟ وهو أن العرب في ديارهم هذه ما كانوا يسمعون بفاحشة اللواط، ولا يخطر ببالهم هذا، كما تشاهدون الحيوانات، هل الذكر ينزو على الذكر من الحيوانات؟ لا، ولذا كانت أول فاحشة لواط وقعت على عهد عمر أو أبي بكر في البحرين، وذلك أن أعجمياً فعل الفاحشة بأعجمي، ورفعت القضية إلى الوالي واحتاروا في تطبيق الحكم، فقال علي رضي الله عنه-هو من أعلم أصحاب رسول الله-: يُرمى من أعلى جبل ثم يتبع بالحجارة، أي: نعمل به كما عمل الله بقوم لوط، ثم بعد ذلك أفتى العلماء بقتله، سواء بالحجارة أو غيرها.والشاهد: أن الخليفة عبد الملك بن مروان قام خطيباً في الناس فقال: أقسم بالله على أنه لولا أن الله تعالى أخبرنا في كتابه عن قوم لوط، ما كان يخطر ببالنا أن الذكر ينزو على الذكر!لكن لما هبطت هذه الأمة هبط كل شيء، والحمد لله نسبة هذه الفاحشة في بلاد المسلمين أقل بكثير، وتوجد أندية للواط في باريس، في أوروبا، فإذا فعل عبد الله فاحشة-هذا الوارث للجنة-أو خصلة قبيحة، أو ظلم نفسه بأن ترك واجباً، فإنه على الفور يعلن استغفاره وتوبته، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135]، فأولاً: ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135] بقلوبهم، ولما يذكرون الله ربهم وهو مطلع عليهم، ويذكرون أمره ونهيه، يفزعون إلى الاستغفار فيستغفرون الله، وهذه هي التوبة، أي: أن يقلع العبد فوراً عن الذنب، وأن يعلن عن توبته بكلمة: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ويواصل الاستغفار وكله عزم على ألا يعود أبداً إلى ذلك الذنب كما لا يعود اللبن في الضرع، فإذا حلبت من الشاة لبناً، فهل يمكنك أن ترجعه إلى الضرع؟! لا ينفع ولو بإبرة، فكذلك توبة العبد الصالح إذا زلت القدم وخرَّ على المعصية، ثم استفاق فذكر الله وتاب، لن يعود إلى ذلك الذنب ولو صُلب أو حُرِّق أو قُتِل، وتلكم هي التوبة النصوح.قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135]، الذي أمر ونهى، الذي رغب وحبب، الذي نهى وخوف وهدد، فهذا الذكر هو الذي يبعث: كيف أعصي ربي؟ ثم بعد ذكر الله يستغفر الله، قال تعالى: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135]، التي قارفوها، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135]، فهل هناك أحد يستطيع أن يطلع على نفسك ويزيل عنها الأثر؟ وهل يمكنك أن تلمس روحك أو تعطيها للطبيب ليلمسها أو ترى الظلم فيها وتمسحه منها؟ لا، إذاً فالذي يغفر الذنوب هو الله فقط، ولذا فليستغفر العبد ربه، وليطرح بين يديه، وليبكى بين يديه؛ حتى يعفو ويصفح ويزيل الأثر من النفس ويطهرها. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا [آل عمران:135]، وهذه صفة كمال أيضاً، وهي عدم الإصرار على الذنب، ومن هذا حاله فإنه قريب سيصل إلى الجنة، فإن تعثر أو وقع فلا يحزن ولا يغتم، وإنما يواصل طريقه إلى الجنة، ومثله من أراد مكة أو غيرها من البلدان، فمشى إليها تسع ليال أو عشر، وقارب الوصول، ثم سقط ووقع، كأن انكسرت رجله، فلا شك أنه سيواصل الطريق حتى يصل إلى هدفه.إذاً: إذا زلت قدم العبد فقال قولاً سيئاً أو فعل جريمة فلا يصر، وإنما على الفور يعلن عن توبته بالاستغفار والندم ويواصل حتى يصل إلى دار السلام، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، أن الإصرار معوِّق، وهم يعلمون أن التوبة واجبة، وأنها تمحو الذنب وتزيل الأثر.
    تفسير قوله تعالى: (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار ...)
    قال تعالى: أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136]، فمن مدح هذا الخير؟ إنه الله، ونعم الأجر الجنة، أجر العاملين لا الكسالى والبطالين، العاملين من صيام بالنهار، وقيام بليل، ورباط في الثغور، وجهاد وصراع في بلاد الكفار المجرمين. أُوْلَئِكَ [آل عمران:136] أي: السامون الأعلون، جزاؤهم -أولاً- مَغْفِرَةٌ من ربهم؛ لأنه لن تدخل الجنة إلا إذا طِبت وطهُرت، ولم يبق عليك ذنب أبداً.ثانياً من الجزاء لهم: وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:136]، كم الجنات؟ أقل ما يعطى أحدكم معاشر المؤمنين! مثل الدنيا عشر مرات، والجنة سميت جنة لأن من دخل تحت أشجارها غطته وجنته، وهذه الجنة قد وصفها خالقها، ووصفها الرائد الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، إذ أسري به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به والله إلى الجنة دار السلام، ومن كذب فقد كفر، والله يقول: وَلَقَدْ رَآهُ [النجم:13]، أي: جبريل، نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13]، أي: مرة أخرى، أين؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:14-18]، أي: الجنة، كما أنه رأى حوراء لـعمر بن الخطاب ، وخاف من غضب عمر فلم يلتفت إليها وغض بصره، وذكر ذلك لـعمر ، فقال: أعليك أغار يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( علمت غيرتك يا عمر )، فاللهم اجعلنا منهم، اللهم آمين.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #196
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (54)
    الحلقة (195)

    تفسير سورة آل عمران (59)


    إن العبد المؤمن منتهى ما يؤمله وجل ما تهفو إليه نفسه أن يدخل في رحمة الله عز وجل في الدنيا والآخرة، وأن يستحق جنته ورضوانه، وقد دل الله عز وجل عباده المؤمنين على الطريق الموصلة إلى ذلك، ألا وهي تقوى الله عز وجل، والتي تحصل بفعل ما أمر الله به والتزامه، وترك ما نهى الله عنه، والمسارعة إلى التوبة عند الوقوع في شيء منها.
    قراءة في تفسير قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم يا ولينا حقق رجاءنا إنه لا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران، ومع الآيات الخمس التي تدارسنها بالأمس، نعيد تلاوتها تذكيراً للناسين، ثم نأخذ في شرحها مرة أخرى كما هو في كتاب التفسير، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].
    شرح الكلمات
    قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ شرح الكلمات:قوله: وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، المسارعة إلى الشيء: المبادرة إليه بدون توانٍ ولا تراخ. إِلَى مَغْفِرَةٍ [آل عمران:133]، المغفرة: ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها] أي: تغطيتها [والمراد هنا: المسارعة إلى التوبة بترك الذنوب وكثرة الاستغفار، وفي الحديث: ( ما من رجل -أو امرأة- يذنب ذنباً ثم يتوضأ ثم يصلي ويستغفر الله إلا غفر له ) ]. فقوله: (ما من رجل)، والمرأة كالرجل، وإنما الشارع الحكيم لا يعرض بذكر النساء بين الفحول، وإلا فالحكم واحد. [ وقوله: وَجَنَّةٍ [آل عمران:133]، الجنة دار النعيم فوق السموات -السبع- والمسارعة إليها تكون بالإكثار من الصالحات ]، وهي اعتقادات وأقوال وأفعال.[ قوله: أُعِدَّتْ [آل عمران:133]: هيئت وأحضرت، فهي موجودة الآن مهيأة ]، وحسبنا زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لها منذ ألف وأربعمائة سنة، حيث وطئ الجنة بقدميه الشريفتين، ورأى حورها وقصورها وأنهارها، فرأى نهره الكوثر عليه الصلاة والسلام، ووصفه بأن ريحه أذكى من المسك الأذفر، وماءه أبرد من مائنا المثلج، وأبيض من اللبن، وأحلى من العسل، كما رأى أو شاهد في الجنة حوراء لـعمر فغض بصره وذكر غيرة عمر، فاعتذر عمر وقال: أعنك أغار يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!ثم إنه بمجرد ما تخرج الروح يُعرج بها إلى الملكوت الأعلى، إلى الجنة، ويدون اسمها في كتاب عليين، ثم تعود للفتنة والامتحان في القبر، وتنجح وتعود إلى دار السلام، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، ثم إذا جاء البعث الآخر، وخلق الله الأجسام، تُرسل تلك الأرواح فتدخل كل روح في جسمها، ولا يمكن أن يشتبه عليها أبداً. [ قوله: لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]: المتقون هم الذين اتقوا الله تعالى فلم يعصوه بترك واجب ولا بفعل محرم، وإن حدث منهم ذنب تابوا منه فوراً.وقوله: فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، السراء: الحال المسرة، وهي اليسر والغنى، والضراء: الحال المضرة وهي الفقر ]، والمرض والبلاء.[ وقوله: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، كظم الغيظ: حبسه، والغيظ: ألم نفسي يحدث إذا أوذي المرء في بدنه أو عرضه أو ماله، وحبس الغيظ: عدم إظهاره على الجوارح بسبٍ أو ضرب ونحوهما للتشفي والانتقام ]، وهذه الصفة ممتازة وأشرف الصفات، فاللهم اجعلنا منهم، فاصدقوه يجعلكم منهم.[ وقوله: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، العفو: عدم المؤاخذة للمسيء مع القدرة على ذلك]، أما إذا كنت عاجزاً عن مؤاخذته وما آخذته فلست من أهل هذه الصفة، كأن حكم له القاضي بكذا فتنازل عنه، وهو يقدر على أن يرد الكلمة بأبشع منها، أو الضربة بأخرى، لكن يقول: عفونا لله مع قدرتنا على ذلك.[ قوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، المحسنون: هم الذين يُبرون ولا يسيئون في قول أو عمل ]، أي: وصْفهم البرور ولا يسيئون في قول ولا عمل.[ قوله: فَاحِشَةً [آل عمران:135]، الفاحشة: الفعلة القبيحة الشديدة القبح؛ كالزنا وكبائر الذنوب.وقوله: أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135] بترك واجب أو فعل محرم فدنسوها بذلك، فكان هذا ظلماً لها.وقوله: وَلَمْ يُصِرُّوا [آل عمران:135]، أي: يسارعون إلى التوبة؛ لأن الإِصرار هو الشد على الشيء والربط عليه، مأخوذ من الصر، والصرة معروفة. وقوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، أي: أنهم مخالفون للشرع بتركهم ما أوجب، أو بفعلهم ما حرم ]، فهم يعلمون أنها مخالفة أو معصية وذنب.[ قوله: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136] الذي هو الجنة ] دار السلام. فهذه هي مفردات الآيات، وقد فهمنا هذا بالأمس، ولكن ما تكرر ازداد يقيناً عند صاحبه.
    معنى الآيات
    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ معنى الآيات:
    ترك المعاصي والذنوب سبب لحصول رحمة الله في الدنيا والآخرة
    لما نادى الله تعالى المؤمنين ناهياً لهم عن أكل الربا، آمراً لهم بتقواه عز وجل، وباتقاء النار وذلك بترك الربا وترك سائر المعاصي الموجبة لعذاب الله تعالى، ودعاهم إلى طاعته وطاعة رسوله؛ كي يُرحموا في دنياهم وأخراهم ]، وهذا قد تقدم في الآيات السابقة وهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:130-132]، ثم هنا ناداهم بقوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133] الآية.قال: [ أمرهم بالمسارعة إلى شيئين: الأول: مغفرة ذنوبهم، وذلك بالتوبة النصوح ]، والتوبة النصوح: هي التي لا يعود صاحبها إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع، فإذا حلبنا من شاتنا أو بقرتنا أو ناقتنا لبناً فهل في الإمكان أن نرده إلى ضرعها؟! مستحيل، فكذلك التوبة النصوح، فإذا تاب عبد الله أو أمة الله من كبيرة من كبائر الذنوب لن يعود إليها أبداً، والله هو الذي انتدبنا لهذا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] فوصف التوبة بالنصح. [ والثاني: دخول الجنة التي وصفها لهم، وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، أي: أحضرت وهيئت للمتقين، والمسارعة إلى الجنة هي المسارعة إلى موجبات دخولها، وهي الإيمان والعمل الصالح، إذ بهما تزكو الروح وتطيب فتكون أهلاً لدخول الجنة ].إذاً: ندبنا الله للمسارعة إلى شيئين: الأول: التوبة النصوح، والثاني: دخول الجنة؛ لأن من تاب بقيت نفسه طاهرة زكية مشرقة، فإذا لفظ ألفاظه الأخيرة خرجت نفسه والله إلى الجنة دار السلام، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]. ].مرة أخرى: قال ربنا عز وجل وهو يخاطبنا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، الذين صفاتهم كذا وكذا، فهيا نسارع إلى مغفرة ذنوبنا بالتوبة النصوح، ومتى تبنا غُفرت ذنوبنا، ثم المسارعة إلى الجنة بالإيمان والعمل الصالح، إذ هما سلم الرقي إلى دار السلام، فمن آمن وعمل صالحاً زكت نفسه وطابت طهرت، وبالتالي من يردها أو يصدها عن دخول الجنة؟! [ هذا ما تضمنته الآية الأولى ].
    صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام
    قال: [ وأما الآيتان الثانية والثالثة فقد تضمنتا صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام ]، أي: تضمنت الآيتان بعد الأولى صفات المتقين الوارثين لدار السلام، إذ الجنة لها ورثة هم المتقون، فلا يحل أن تقول: بنو فلان أو بنو فلان، أو أصحاب كذا أو كذا، بل كلمة واحدة ما ننساها وهي: إن ورثة الجنة هم المتقون، والمحرومون هم الفاجرون، إذ لا حق ولا نصيب لهم فيها أبداً؛ لأن الجنة موروثة وورثتها المتقون، وتذكرون إبراهيم لما سأل الله فقال: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، وقال تعالى في آية أخرى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].إذاً: المتقون هم الوارثون للجنة، لا لأنهم بيض أو سود أو أغنياء أو فقراء أو عاصروا الأنبياء والمرسلين، وإنما هم قوم زكت نفوسهم بفعل المأمورات والمحافظة على زكاتها بترك المحرمات، فيأتي ملك الموت وأعوانه والروح مشرقة طيبة طاهرة، غير ملوثة بالشرك ولا بالكفر ولا بكبائر الذنوب، فتدخل هذه الروح الزكية الطاهرة الجنة دار السلام. قال: [ فقد تضمنتا صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام، فقوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، هذا وصف لهم بكثرة الإنفاق في سبيل الله ]، لا في سبيل الوطن، ولا رياءً، ولا سمعة، ولا مباهاة، ولا مفاخرة، ولكن في سبيل الله، وسبيل الله كل ما يوصلك إلى رضا الله، إذ كل ما يصل بك إلى رضا الله ليرضى عنك فهو سبيل الله، وبالتالي فالإنفاق على الفقراء، على المساكين، على المحتاجين، على اللاجئين، للإعداد، للجهاد، كله في سبيل الله. قال: [ هذا وصف لهم بكثرة الإنفاق في سبيل الله، وفي كل أحايينهم من غنىً وفقر وعسر ويسر ]، ما هو في وقت معين فقط، بل في الصيف والشتاء والربيع والخريف، في الرخاء والشدة، في اليسر والعسر، في أي الأحوال فهذا شأنهم دائماً. [ وقوله: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، وصف لهم بالحلم والكرم النفسي ]، والحليم لا يرد السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، فإن شتمه أو سبه أحد فلا يرد السب بالسب، وإنما يقول: عفا الله عنك، سامحناك، جزاك الله خيراً. [ وقوله: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وصف لهم بالصفح والتجاوز عن زلات الآخرين تكرماً، وفعلهم هذا إحسان ظاهر، ومن هنا بشروا بحب الله تعالى لهم، فقال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] ]، ولفظ (الإحسان) عام، وإن كان هنا إحسان إلى إخوانهم بعدم الإساءة إليهم، والإحسان أيضاً هو إتقان العمل وتجويده والإتيان به على الوجه المطلوب، وذلك من شأنه أن يزكي النفس ويطهرها، فإذا زكت النفس وطهرت أحبها الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، أما الخبث فلا يحبه الله. [ كما هو تشجيع على الإحسان وملازمته في القول والعمل ]. فقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، إعلان عن حب الله لهم، وفي هذا تشجيع للناس على أن يواصلوا الإحسان ولا يتخلوا عنه أبداً. [ وقوله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135] ]، أي: ذكروا الله أنه حرم هذا، أو أبغض هذا، أو منع هذا، أو توعد بهذا، فذكروا أمر ونهيه، وعلى الفور -بالفاء- فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135].قال: [ وصف لهم بملازمة ذكر الله وعدم الغفلة، ولذا إذا فعلوا فاحشة -ذنباً كبيراً- أو ظلموا أنفسهم بذنب دون الفاحش ذكروا وعيد الله تعالى، ونهيه عما فعلوا، فبادروا إلى التوبة -فقال في بيانها مذكراً للناسين- وهي الإقلاع عن الذنب، والندم عن الفعل، والعزم على عدم العودة إليه، واستغفار الله تعالى منه ]، إذاً: التوبة: الإقلاع، أتعرفون معنى قولنا: أقلعت السفينة؟ فكذلك أقلع عن الذنب، أي: انفصل عنه وتركه، كأن يكون في يده السيجارة فيرميها إلى الأرض، أو في يده خاتم ذهب فيرمي به كما فعل أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقوله: (والندم على الفعل)، وذلك أن العبد المقصر يقول يوم القيامة: آه! يا ليتني لم أمش في هذا الطريق، ولا جالست فلاناً، ولا فعلت كذا وكذا مع فلان.وقوله: (والعزم -الباطن- على عدم العودة إليه) كيف ما كانت الأحوال، فهذه هي التوبة، وأما الاستغفار ما ننساه، وأذكركم بأن هناك من عباد الله من أهل التوبة يستغفرون الله كلما ذكروا ذنباً قارفوه ولو من سبعين سنة، إذ قال تعالى في سورة ق مخاطباً أهل الجنة: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:32-35]. فقوله تعالى: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق:32]، الأواب: الرجاع، كلما زلت قدمه رجع إلى ربه، فلا يبيت ولا يقضي ساعة ولا دقيقة على ذنب، والحفيظ الذي لا ينسى ذنبه أبداً، فيذكر أنه فعل ذنباً عام كذا، ما أن يذكره حتى يقول: أستغفر الله، وقد تذرف عيناه الدموع، لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:32-33]، قلبه دائماً يرجع إلى الله، فلا يغفل لحظة أبداً.وقوله: (واستغفار الله تعالى منه)، أي: يقولون: أستغفر الله، أستغفر الله، غفرانك اللهم، رب اغفر لي، كل هذه الصيغ متلونة، فمرة يقول: أستغفر الله، ومرة يقول: غفرانك، ومرة يقول: رب اغفر لي، وقد كان الصحابة يعدون لرسول الله في الجلسة الواحدة: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، مائة مرة، فهذا عبد الله بن عمر -الذكي- يقول: ( كنا نجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدثنا ويعلمنا ويقص علينا، ولكن من اللحظة إلى اللحظة يقول: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم، فنعد له هذا القول مائة مرة )، وأنتم على الأقل قولوه مائة مرة في أربع وعشرين ساعة، أو فيه صعوبة؟! قال: [ وقوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] ]، أي: علموا أن من تاب تاب الله عليه، وهذه من عقائدنا وأخلاقنا وآدابنا، ونحن موقنون بذلك ولا نتردد فيه، فقوله: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، أي: من قبل أن من تاب تاب الله عليه، إذ كيف يصر إذاً؟! لو كانوا لا يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، فإن العاصي سيقول: ما دمت أني هالك إذاً أبقى في ذنوبي ومعاصيَّ، لكن لعلمهم السابق أن من تاب تاب الله عليه، هذه الحال تجعلهم يتوبون ولا يترددون في ذلك أبداً، وهكذا روي عن مجاهد، ولا يتنافى مع ما فسرنا به الآية، وورد أيضاً: ( ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة )، إذاً: الاستغفار وهو كلمة: أستغفر الله وأتوب إليه، لو فرضنا أن شخصاً كلما استغفر وسكت أذنب ذنباً، ثم زاد فاستغفر ولو سبعين مرة، ما ضره ذلك، وهذا من باب الفرض، وإلا لا يعقل أن يوجد من يذنب في اليوم سبعين مرة ويتوب سبعين مرة! لكن إن فرضنا هذا.والشاهد في قوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]: أن من تاب تاب الله عليه، وهذا الذي جعلهم يتوبون ولا يصرون أبداً، أما لو كانوا لا يعلمون أن من يتوب يتوب الله عليه، عند ذلك يقولون: إذاً هلكنا، ولنواصل ذنوبنا، لكن علمهم بأن من تاب تاب الله عليه جعلهم لا يصرون على الذنب أبداً، وإنما يتركونه ويتخلون عنه بمجرد أن يذكروا. [ وقوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، وصف لهم بعدم الإصرار، أي: المواظبة على الذنب وعدم تركه وهم يعلمون أنه ذنب ناتج عن تركهم لواجب أو عن فعلهم لحرام.
    بيان جزاء من آمن واتقى
    وأما الآية الرابعة فقد تضمنت بيان جزائهم على إيمانهم وعلى تقواهم وعلى ما اتصفوا به من كمالات نفسية وطهارة روحية، ألا وهو مغفرة ذنوبهم كل ذنوبهم، وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ومدح المنان -وهو الله؛ إذ من صفات الله وأسمائه المنان- ما جازاهم به من المغفرة والخلود في الجنة ذات النعيم المقيم، فقال: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136] ]، أي: ونعم ذلك الأجر مغفرة ذنوبهم وإدخالهم الجنة، لا الكسالى ولا البطالين الذين لا يعملون، فسبحان الله! قال: أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136]، فانتبه واعمل يا عبد الله ويا أمة الله الليل والنهار، فالدار دار عمل، ولا تسألن الأجر والجزاء اليوم، فإنك إن عُمِّرت يا عبد الله أو يا أمة الله سبعين سنة، تعاني الفقر والمرض والآلام، وأنت تصوم وتقوم الليل وتذكر الله ليلاً ونهاراً، فإن جزاء صلاتك وصيامك وصبرك أمامك في الدار الآخرة، وفي المقابل تجد الرجل فاجراً ساخطاً فاسقاً، وهو صحيح البنية، قوي الذات، الأكل والطعام متوفر لديه، فأين جزاء كفره وظلمه؟ الجزاء هناك، وهل هناك آية تدل على هذا؟ نعم، يقول تعالى في خاتمة هذه السورة: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، هل هناك من يعترض أو يعقب أو يقول: إلا نفس فرعون، إلا نفس لينين زعيم الاشتراكية؟! الكل ماتوا، فهل هناك من ينقض هذا الحكم؟! كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، ما معنى: توفون أجوركم؟ أي: مقابل أعمالكم، فيا أيتها النفس اعملي ولا تطالبي بالأجر اليوم؛ لأن هذه الدار دار عمل لا جزاء، فهل يستطيع العمال أن يشتغلوا ساعتين أو سبعة أيام من الشهر ثم يقولون: تركنا العمل، أعطنا أجر عملنا يا رب العمل؟! هل يعطيهم أجورهم أو يقول لهم: نهاية الشهر؟ نهاية الشهر، وكذلك إذا كانت معاومة، أي: أن استلام الأجر يكون في نهاية العام، وهذه طبيعة البشر، فكذلك البشرية كلها تعمل هنا والجزاء هناك في الدار الآخرة، وقد بين تعالى ذلك فقال: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]. ولا ننسى أن العاملين للصالحات ينالهم حسن وبركة أعمالهم الصالحة، لكن والله ما هو الجزاء، وأن أهل الفجور والظلم والشر ينالهم شؤم معاصيهم، لكن والله ما هو الجزاء، إذ الدار هذه ليست دار جزاء أبداً، وإنما هي دار عمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ).وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #197
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (55)
    الحلقة (196)

    تفسير سورة آل عمران (6)


    الدنيا يهبها الله لمن يحب ولمن لا يحب، وما هي إلا متاع زائل عما قليل يتركه العبد وينتقل إلى الحياة الأبدية في الآخرة، التي أعد الله فيها لعباده المؤمنين جنات تجري من تحتها الأنهار، وأعد لهم فيها أزواجاً مطهرة، وأحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً، فيتحقق لهم بذلك النعيم الذي ليس فوقه نعيم.
    تفسير قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن يحقق الله تعالى لنا ذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا الرجاء؛ إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِين َ وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:15-17].وهذه الآيات من سورة آل عمران، فهل تعرفون عن هذه السورة شيئاً؟الجواب: عرفنا أنها مدنية، ومرحباً بالمدنيات والمكيات، وعلمنا أن المكيات تعالج العقيدة، تؤهل العبد الصالح لأن يتحمل رسالة الله ويرقى بها إلى الملكوت الأعلى، والمدنيات تحمل الشرائع والأحكام والآداب والعبادات، وكلها أنوار الله.أيضاً: هذه السورة نزلت في وفد نجران الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجادلوه في شأن عيسى عليه السلام، وفيهم نزلت نيف وثمانون آية. أيضاً: من عجيب هذه السورة: أن آخرها نزل قبل أولها بكذا سنة.قال الله تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15]. قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] هنا أذكركم بكلمة عمر رضي الله عنه -وتعرفون والحمد لله من هو عمر بن الخطاب - لما نزلت الآية التي درسناها فيما مضى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، قال عمر : الآن يا رب. ما دمت زينتها لنا الآن. فنزل بعد ذلك كالجواب عليه قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] أي: قل: يا رسولنا: هل أدلكم على خير من ذلكم وهو كذا.. وكذا.. وكذا! وكلمة (خير) بمعنى: أخير، وهو اسم تفضيل، وحذفت الهمزة لكثرته اختصاراً، والعرب إذا تكرر اللفظ في لسانهم يعدلون عن القوانين. وفي هذا إشارة لا بأس بها -وإن لم نقف عليها- وهي: أن هذه المزينات من الحرث والأنعام فيها خير متى استخدمت في طلب رضوان الله عز وجل ورضاه ورحمته؛ فإن استعملت ضد ذلك فكلها شر، ووالله لا خير فيها. فمثلاً: حب الشهوات من المشتهيات من الطعام والشراب، والنكاح، والإركاب، هذه إذا كان المحب لها يستعملها وينتفع بها وهو طالب رضا الله ففيها خير، ولكنها لا تساوي خير دار السلام! أيضاً: البنين.. الأولاد، إذا سأل العبد ربه الولد بنية أن يعبد الله عز وجل ويكون في عداد الصالحين، وتزوج لذلك وربى الولد ونماه على ذلك ففي هذا الولد قطعاً خير، ولكنه لا يعادل خير دار السلام، وإن هو أهمله وأضاعه وطلبه فقط ليشتد ساعده به فيطغى على الناس ويأكل أموالهم ويعتز عليهم، فوالله ما فيه خير أبداً.أيضاً: القناطير المقنطرة من الذهب أو الفضة وكثرة المال إذا أخذ عبد الله أو أمته يجمعه لله، وبسم الله، ومن أجل أن يتقرب به إلى الله، فيتصدق به على الفقراء والمساكين والمحاويج، ويبني به المساجد ويعبد به الطرق، ويقدمه للمجاهدين عتاداً حربياً، ففي هذه الحال فيه خير، ولكنه إذا اكتسبه من الحرام، وهو ينفقه في الحرام، وحمله على الكبر والتعالي على البشر، ومنع الحقوق منه، فوالله إنه لشر كله، وليس فيه خير أبداً.أيضاً: الخيل المسومة، إذا اشتراها عبد الله بنية الجهاد عليها والركوب عليها في الغزو والفتح، لنشر: (لا إله إلا الله) ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العلف الذي يعلفه لها والله محسوب له بحبة الشعير، وإذا كان يمتلك الفرس للمباهاة والخيلاء والفخر بها ولا يغزو عليها ولا يجاهد، فوالله إنها لحمل حطب إلى جنهم، ولا خير فيها بالمرة.أيضاً: الأنعام من الإبل والبقر والغنم - الضأن والماعز- إن أنت اكتسبتها واقتنيتها من أجل أن تسد حاجتك، ومن أجل أن تقضي متطلبات حياتك من كساء أو منزل أو زواج أو كذا وربيتها ونميتها وأديت زكاتها، وتصدقت بشيء من الألبان والزبد، فهذا فيها خير، وإن اشتريتها للمباهاة والعلو والفخر والطغيان، ومنعت حق الله فيها لا زكاة ولا صدقة ولا.. ولا، فهي والله لا خير فيها.أيضاً: الحرث، وهو كل عمل ينتج، فنحن حارثون، والحرث: كل ما تكتسبه من طريق العمل؛ زراعة، صناعة، تربية مواشي، العمل وإن كان يتناول البر والشعير، والذرة وأنواع الحبوب، فهذه مزينة من قبل الخالق لها، زينها للفطرة البشرية، فما من إنسان عاقل إلا ويرغب في الحصول على هذه المذكورات الخمس: حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14]، ثم يأتي التعقيب فيقول تعالى: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14]، هذا الذي سمعتم يتمتع به في هذه الدار فقط، لا ينتقل منه إلى الدار الآخرة شيء، فهذه الدار محدودة الزمان، معدودة الوقت، نموت بآجالنا، لا نتقدم ولا نتأخر، ولكن مآلنا الفناء والزوال والرحيل منها إلى الدار الآخرة.هذه الشهوات مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] فافهموا هذا، فلا يحملنكم هذا المتاع على أن تنسوا الحياة الأبدية الخالدة، فإن كانت دار النعيم فلا تسأل عن أنواع النعيم؛ فإنك تعجز عن تقديره بل وتصوره، وإن كانت دار الشقاء.. دار البوار والهلاك.. النار عالم الشقاء، فلا تسأل عن ذلك الشقاء والبلاء والعذاب الأليم.هذه الآيات الكريمة، يقول تعالى في الختام وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، يعلمنا أن عنده حسن المرجع، فيأيها الراجعون! أيها العائدون! إن ربكم عنده حسن المرجع والمآب، فاطلبوه منه، واقرعوا باب الله، سلوه! ‏
    معنى قوله تعالى: (للذين اتقوا)
    قال تعالى: قُلْ أي: الآن قل يا رسولنا والمبلغ عنا أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] الذي سمعتم، إي والله خير: (بخير من ذلكم) ولكن لبني هاشم؟ للأشراف؟ للأبطال؟ للسادات؟ لمن؟ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15]. أنبئكم بخير مما سمعتم، ولكنه: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15] كذا الشرط؟ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15] من هم الذين اتقوا؟ لا يحصرون في إقليم ولا في جيل، ولا في منطقة، بل كل رجل أو امرأة اتقى عذاب الله عز وجل وجعل بينه وبين عذاب الله وقاية كالحصون والأسوار العالية، وهذه الوقاية لن تكون بالجيوش الجرارة، ولا بالمليارات من الدولارات، ولا بالأنساب والأصحاب، والله لا تكون إلا بطاعة الله ورسوله فقط.إذا أمرك سيدك ومولاك فقل: سمعاً ربي وطاعة، وأقبل على العمل وحاول، فإن عجزت واطرحت، فقل: ربّ إنك لا تكلف نفساً إلا وسعها وقد عجزت عن القيام بهذا الواجب! فمثلاً: مريض يتألم، ما طاق الصوم يرفع حاجته إلى ربه ويضع بين يديه عذره، ويقول: ربّ لقد أحببت ولا أحب لي من الصيام، ولكن كما تراني قد عجزت فاغفر ربّ وارحم وتجاوز عما تعلم!وإذا نهاك سيدك عن عقيدة فاسدة.. عن النظر إلى باطل.. عن قول خاسر، عن عمل سيء فابتعد عنه ما استطعت، اهرب من المنطقة كلها، بل من الإقليم كله حتى تتمكن من طاعة ربك عز وجل! وأما طاعة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهي من طاعة الله، إذ ما أمر رسول الله بغير ما يأمر الله به، ولا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير ما نهى الله عنه، وهؤلاء المتقون الذين اتقوا سخط الله وغضبه وبالتالي اتقوا عذابه، اتقوه بطاعته وطاعة رسوله. وهنا لطيفة! أذكر بها من لم يبلغهم هذا: والله إن طاعة الله وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لا تعدو كونها تؤهلك وتعدك للسعادة والكمال في الدنيا والآخرة، أما الله فهو غني غنىً مطلقاً إذ كان ولم يكن شيء غيره، فلا تفهم أن طاعة الله وطاعة الرسول ضريبة من الضرائب أمرت بها. والله ما في ذلك شيء، فما هي إلا سلم بدرج ترقى بها إلى سعادتك وكمالك، فمن عصى الله ورسوله هبط إلى أن يتمزق.. إلى أن يتلاشى.. إلى أن يصبح من أهل الخسران الأبدي! ومن باب الترغيب وتحريك الضمائر والنفوس تأتي هذه الأساليب القرآنية وإلا فطاعة الله وطاعة رسوله لن تسعد يا ابن آدم ولن تكمل إلا على هذه الطاعة أحببت أم كرهت. ماذا تقولون في طبيب أمامه مريض يقنن له لقمة الطعام بأوقات محددة وكمية لا تزيد ولا تنقص، فيمنعه من كذا وكذا وكذا، ويأمره بأن يفعل كذا وكذا، لأجل ماذا؟ لأجل برئه وشفائه.إذاً: هل هناك من يتهم الطبيب ويقول: لا، هذا يريد أن يضر به. قال: ما تأكل بقلاوة الليلة، ما تشرب العصير، والله له المثل الأعلى: فقط أحببت أن يفهم المؤمن الواعي والمؤمن البصير أن أوامر الله وأوامر رسوله ما هي إلا سلم للكمال والسعادة: أعرضت عن هذه الطاعة هبطت وتمزقت والله العظيم. قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] الذي سمعتم من قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [آل عمران:14] الآية: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15]، اتقوا ماذا؟ اتقوا عذاب الله وسخطه. بماذا يتقونه؟ بالإيمان والعمل الصالح، بترك الشرك والمعاصي، والكلمة الجامعة: بطاعة الله وطاعة رسوله. هل يتقى الله بغير هذا؟ لا والله، فلا سور ولا قبيلة تدفع، ولا حيلة تنفع. اتقوا من؟ اتقوا ربهم. من هو ربهم؟ خالقهم. هل يوجد مخلوق بدون خالق؟ مستحيل! فالذي خلق وصور وأوجد في الأرحام وأخرج من ظلماتها إلى نور هذه الحياة، وأوجد اللبن في ثدي الأم بعد كان دماً قانئاً فأصبح لبناً أبيض مشرقاً وحفظ عليه سمعه وبصره وعقله وبدنه، هذا ربه، هذا سيده، هذا خالقه.
    وعد الله للذين اتقوا بجنات تجري من تحتها الأنهار
    هؤلاء الذين تقوا ربهم ما لهم؟ وما هو هذا الذي سينبئهم به الرسول وهو خير لهم مما ذكر من الشهوات؟ الجواب: لهم عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:15]، الجنات جمع جنة.. بستان، لكن ما كل بستان يقال فيه جنة، فالجنة والجنان إذا كانت أشجاره قد التفت وأصبحت ملتفة ببعضها البعض، أما شجرة هنا وأخرى هناك والشمس تحرق فليس بجنة هذا. وعدد الجنات لا يحصى، ونحن نعرف عنها واحدة.. الفردوس، فأين توجد هذه الجنات؟ في السماء.فإذا قال قائل: كيف لا تسقط، تبقى النخلة في السماء لا تسقط.. القصور لا تسقط؟ فالجواب: إذا خطر ببالك هذا فقل له: يا عدوي، ارفع رأسك إلى هذا الكوكب النهاري.. إلى الشمس، لِم لا تسقط؟ أحكمته يد أمك هناك؟ لم ما سقط وهو أكبر من الأرض بمليون ونصف المليون مرة؟ أو ما في شمس؟ الكواكب تعد حصى الأودية ولا تعدها فوقنا، فكيف ثبتت؟ بأمر من يقول للشيء كن فيكون.نحن أتباع نبي صلى الله عليه وسلم ارتاد الجنة ووطئها بقدميه الشريفتين، ورآها رأي العين، رأى أنهارها، قصورها، حورها، وتجاوزها، والذي يشك في هذا ميت لا قيمة له.لما قلنا: ما وصلوا القمر، لا الأمريكاني الكذاب، ولا الروسي الساحر، فهذا كذب، ماجت الدنيا وضاقت كيف تقول هذا؟ قلنا لهم: هل آمنوا برائد البشرية محمد صلى الله عليه وسلم الذي ارتحل من مكة إلى فلسطين في لحظات، ومنها اخترق السبع الطباق إلى الجنة؟ لِم لا يؤمنون ونحن نجري وراءهم ونصفق: وصلوا القمر؟ أي قمر هذا؟ ما قيمته؟والحمد لله، ما مضى نصف قرن حتى كذبوا أنفسهم، فيخرج رائد أمريكي فيقول: والله أكاذيب، ما وصلنا القمر وأنى لنا ذلك، فخافوا وسكتوا، لأنه فضحهم منذ سنة أو سنتين فقط. وأما الجنة فارتادها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، واسمعوا الله الجبار يحلف: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ [النجم:1-5] جبريل عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَه ُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً [النجم:6-13] مرة أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13-15].عجزت الإنس والجن على أن ينقضوا آية من هذا القرآن، فتاهوا في الأرض حيارى وما استطاعوا. وَلَقَدْ رَآهُ [النجم:13] أي: محمد رأى جبريل، أين؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:14-18] هذا كلام الرحمن الرحيم، هذا الذي حوله العدو إلى المقابر والمآتم يقرأ على الموتى.إذاً: أبواب الجنة ثمانية وأما الجنات والله لا يحصيها إلا الله، والدليل أن أقل واحد له جنتان: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]. إذاً: الجنات لا يحصي عددها إلا خالقها، لكن أبواب الجنة ثمانية، لما تدخل تجد قصورك أنت وجناتك، وهل تعرفون أن أهل الجنة ينظر أحدهم إلى قصر أخيه كالكوكب الغابر في السماء يتراءون منازلهم في العلو كما نتراءى الكواكب في السماء، قولوا: آمنا بالله.
    أوصاف أنهار الجنة
    قال: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:15]. كم عدد الأنهار؟ اسمعوا الآية المبينة، قال تعالى من سورة محمد صلى الله عليه وسلم والمعروفة أيضاً بـ(القتال): مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15] كم نهر؟ أربعة أنهار: أنهار كاملة من اللبن، وليس لبن أمي ولا غنمتي، بل لبن دار السلام. وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ [محمد:15] الآن الكيلو بمائة ريال، وهناك أنهار تجري من العسل، فأية نحلة أنتجت هذا؟ لا تسأل! لا يحتاج إلى نحل فهذا يتم بأمر (كن فيكون). وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15]، أظنكم تعرفون الخمر، ومواد تركيبها، هذه الخمر حرمها الله تعالى على هذه الأمة؛لأنها أمة الرسالة، أمة الهداية، أمة الريادة، فلم يسمح لهم أن يتجمعوا على كئوب وكئوس الخمر يشربونها؛ فتذهب عقولهم، ويقولون الباطل، وينطقون بالسوء والهجر والكفر! أئمة البشرية هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فلهذا حرمها عليهم تحريماً باتاً، والمدمن لها المواظب عليها ليل نهاراً لن يشربها في دار السلام، والله لن يذوقها، مدمن الخمر لا يذوقها في الجنة أبداً.وإن قلت: علل يا شيخ؟ كيف ذلك؟ فأقول: ما أدمن عليها وواظب عليها أربعين أو خمسين عاماً إلا لأنه ما آمن، إيمانه ليس بسليم ولا صحيح، والله لو آمن ما استطاع أن يعاودها أكثر من ثلاث مرات. وإن شئت أن ترقى رقياً آخر فقل: إذا أدخله الله الجنة يصرف قلبه عن الخمر، فلا يسمع بها ولا يراها ولا يحبها، يصرفه عنها صرفاً كاملاً إذ لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم، فلا يشتهيها ولا يشربها.
    الوضوء مفتاح أبواب الجنة
    عندنا جائزة: أبواب الجنة الآن موجودة والله، وهناك كلمات تشبه السحر إذا قلتها تنفتح أبواب الجنة لك الآن وأنت في الأرض، اسمعوا أبا القاسم يقرر هذه الحقيقة فيقول فداه أبي وأمي والعالم أجمع وصلى الله عليه وسلم، يقول: ( من توضأ فأحسن الوضوء ) كما شرعه الله في كتابه وبينه رسوله لأمته (ثم رفع طرفه إلى السماء) والطرف: العين، ومنه: أشارت بطرف العين.. ( وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين إلا فتفتحت له أبواب الجنة الثمانية ). كيف تتفتح؟ ليس هناك في فرق بيننا وبينها، آلياً، أبواب المطارات تفتح لك وأنت مازلت بعيداً.. أبواب السيارات في يده آلة يضغط عليها فينفتح باب السيارة.. هذا مثال يقرب المعنى إلينا . إذاً: بمجرد يا عبد الله! يا ولي الله، يا أمة الله المؤمنة تتوضئين وتحسنين الوضوء وترفعين رأسك إلى السماء وأنت المؤمنة وتشهدين شهادة الحق وتسألين الله الطهر والصفاء.. بمجر ذلك تتفتح أبواب الجنة، ولو كنت أمامها والله لدخلت، لكن بيننا وبينها قرون، وسيأتي ذلك اليوم إن شاء الله!
    معنى قوله تعالى: (خالدين فيها)
    قال: خَالِدِينَ فِيهَا [آل عمران:15]، فلا يخرجون منها أبداً، لا موت ولا تحول أبداً، فأهل الجنة لا يرغبون أن يتحولون عنها أبداً.عندنا لطيفة! نكررها للزائرين: الذين يقرءون سورة الكهف يوم الجمعة لهم جائزة، يقول تعالى في آخرها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:107-108]، أي: لا يطلبون التحول منها أبداً؛ وذلك لوافر نعيمها.وقلنا: الآن سمعنا الذي يسكن في القاهرة المعزية يقول: آه لو زرت باريس، والذي يسكن باريس يقول: آه لو زرت دمشق.. آه لو زرت موسكو وهكذا.. إلا المؤمنون المتقون المهاجرون في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:108]، المؤمن الصادق الإيمان، العارف بربه إذا نزل المدينة ونبت فيها وترعرع والله لو يعرض عليه أن يحكم البلد الفلاني والتاج على رأسه لا يخرج من المدينة؛ لأن بها قطعة من الجنة. تعرفون أين هذه القطعة؟ إنها الروضة؛ لقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )، لهذا الجزء في المدينة المؤمنون الصادقون لا يبغون التحول عنها أبداً. يعرض على المؤمن من أهل المدينة: تعال نجعلك أميراً في الرياض، فيقول: لا.. لا. نسند إليك مهام جدة والمواني كلها. فيقول: لا.. لا، لا نخرج من المدينة إلا إذا كان لأمر صدر رغم أنوفنا، كأمر أمير المؤمنين الجهاد فيجاهد ويرجع.اسمعوا! هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدعو الله وبنته أم المؤمنين حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم تسمعه فيقول: (اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك). فتقول: يا أبتاه! كيف هذا؟ الجهاد وراء نهر السند وبالأندلس، وأنت تطلب الموت في المدينة والشهادة؟ كيف تجمع بين الشرق والغرب يعني؟ فيقول لها: اسكتي، فضل الله واسع، ليس شأنك يا حفصة ! واستجاب الله لـعمر، واستشهد في محراب رسول الله، جاء مجوسي منتن عفن مبعوث من قبل الحزب الوطني الإيراني- ليدمر الإسلام وبخاصة عمر نقمة عليه، فهو الذي مزق تاج كسرى ووضعه على رأس سراقة بن مالك بن جعشم - أعطوه التعاليم: أن يقتل عمر وهو يصلي بالمؤمنين، فما إن ركع رضي الله عنه حتى طعنه أبو لؤلؤة المجوسي لعنة الله عليه.والعجيب: لما أغمي عليه رضي الله عنه والدماء تسيل أخذوه فسأل: من القاتل؟ قالوا: أبو لؤلؤة المجوسي. فقال: الله أكبر، الحمد لله، الحمد لله.تحقق طلبه، وجمع الله له بين متباعدات؛ إنه على كل شيء قدير، فكان موته رضي الله عنه شهادة في سبيل الله وموت في بلد رسوله. استجاب الله دعاءه.
    المدينة حرام من عائر إلى ثور
    عرفتم المدينة أم لا؟ إنها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، واسمعوا! بياناً رسمياً هذه الليلة وفكروا وسترحلون منها، لا حق لكم في البقاء، اسمعوا! يقول صلى الله عليه وسلم: ( المدينة حرام من عائر إلى ثور )، عائر جبل كالحمار؛ لأن العير هو الحمار في لغة العرب. وثور: جبيل صغير رابض وراء أحد من الشمال، أحد في الحرم وجبل في مكة اسمه ثور أيضاً، والعرب يسمونه لأنه كهيئة الثور.
    معنى الإحداث في المدينة
    يقول صلى الله عليه وسلم: ( المدينة حرم من عائر إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً ). من يتحمل هذه؟ نشرح لكم أم أنكم عالمون؟الذي يؤسس بنكاً ربوياً ويأخذ ويعطي هذا أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! الذي يفتح أستوديو للتصوير في مدينة رسول الله أحدث حدث شر وسوء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: ( لعن الله المصورين ). ويقول: ( إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة: المصورون )! الذي يفتح صالون حلاقة كأنه في لندن أو باريس فيحلق وجوه الرجال ويخنثهم، أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! الذي يورد في الخفاء وبالهمسات الكوكائين والأفيون والحشيشة ويروجها في الخفاء والظلام في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! ولا يخرج من هذه اللعنة بل هو أول مستحق لها.والذي يورد السجائر على اختلافها وتنوعها ليشم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائحة الكريهة في مدينته، مدينة الملائكة والنور ويبيع ويوقع المسلمين الغافلين الجهلة في هذه الفتنة العظيمة أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله!والذي يأتي ببدعة أو خرافة ينشرها في الخفاء وفي البيوت من البدع التي تتنافى مع السنة والكتاب ويروجها في الخفاء كالطرق الصوفية وما إليها هذا أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! أحدث أبشع حدث يفسد على المؤمنين قلوبهم ويدسي أرواحهم.الذي عند بداية العطلة السنوية يوزع مناشير أيها الأبناء تعالوا إلى المكتب أربعين يوماً في لندن تتخرجون علماء باللغة الإنجليزية فيجمع الشبيبة الغافلة ويرمي بها في أحضان الكفر والمسيحية ويتعلمون الرقص والخنا، وشرب الخمر والباطل ويأتي بهم كالمجانين يكرهوننا في زينا وفي لبسنا، هذا أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! فأي حدث أعظم من هذا؟أشار إلي أحد الصالحين: أن الذي يستورد هذه الدشوش أو الصحون الهوائية وينصبه على بيته ليتفرج بكامل أحاسيسه ومشاعره الساعة والساعتين والأكثر فيشاهد مناظر العهر والباطل والخنا والشر والفساد ويسمع أصوات العواهر والمغنين في مدينة الرسول قد أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! آه! لو كان الرسول حياً، يلعنه لعناً يتمزق فيه ويتشتت.إذاً: (من أحدث فيها حدثاً) ما كان موجوداً عندنا في كتابنا ولا في هدي رسولنا بل أحدثه (أو آوى محدثاً) ساعده وناصره وقواه على أن ينشر هذه البدعة أو ينشر هذا الباطل (فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً)، لا فرضاً ولا نفلاً، فالفرائض مردودة والنوافل مردودة.معشر المستمعين والمستمعات! إن شاء الله عرفنا الطريق، فلا نسمع في بيوتنا إلا كلام ربنا، نتملق إلى ربنا، وعندنا إذاعة ربانية لا نظير لها في دنيا البشر، إذاعة القرآن الكريم هذه الإذاعة افتح أبواب أبواقها طول النهار والليل، فلا تسمع امرأة تتكلم ولا تغني، ولا رجلاً يعزف، ولا باطلاً، لا تسمع إلا قال الله.. قال رسوله.. العلم.. الحكمة.. الآداب.. المعرفة.. السياسة السامية الرفيعة. أعرض عن هذه وآتي بإذاعة تغني فيها عاهرة في بيتي؟ أدياثة هذه أم ماذا؟سيقول قائل: يا شيخ لا تلمهم؛ لأنهم ما علموا. إي نعم، لو علموا ما علمتم ما فعلوا، لكن من صرفهم عن العلم؟ لِم لا يحضرون مجالس العلم وهي بالعشرات في الحرمين الشريفين؟ لِم لا يسألون أهل العلم؟ الجواب: لما أصيبوا بما أصيبوا به، ولكن نسأل الله أن يتوب عليهم. اللهم تب عليهم وارحمهم، واغفر لهم يا رب العالمين.
    معنى قوله تعالى: (وأزواج مطهرة)
    قال تعالى: وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [آل عمران:15]. الأزواج: جمع زوجة. والزوجة تجمع على زوجات، وهي الزوج. فكيف يكون الرجل زوج المرأة زوج؟ لأن الزوج ضد الواحد، لما تكون أنت يا عبد الله وحدك فلست بزوج، فلما نأتيك بالفتاة إلى جنبك تصبحان زوج، ومن أجل التنزل مع العوام حتى لا يتضايقوا نزيد التاء؛ لأن التاء تؤنث الذكر، عرفتم: زوجة، لكن القرآن لغته راقية. وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [آل عمران:15] من دم الحيض والنفاس، فنساء الجنة والله لا يلدن ولا يحضن فالحيض دم منتن عفن، فنساء الجنة مطهرات من البول والغائط.وأما الطعام الذي أكلته والماء الذي شربته فيتحول الطعام إلى جشاء والماء إلى عرق والله لأطيب من أطيب مسك في دنيا البشر.وهنا أقص عليكم قصة ألطف بها جوكم؛ لأنكم متألمون من طول الدرس: ركب مسيحي لبناني في سيارة أو قطار مع مسلم سني، فأخذ المسيحي يسخر من السني، فيقول: يقولون: أنتم تؤمنون بالجنة، ونحن نؤمن بها، ولكن الجنة أرواح فقط ليس فيها أبدان -هذا معتقد النصارى الهابطين- وتقولون: إن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون، فكيف تصبح بطونهم؟ مراحيض يعني؟ فألهم الله السني المؤمن وهو ليس بعالم -ولكن وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83]- فقال له: يا هذا! الغلام عندما يبلغ السادس من الشهور يتغذى أو لا؟ فقال: من الشهر الرابع ونصفه وهو يتغذى وينمو على الغذاء. فقال له: وهل بطن أمه أصبح مرحاضاً؟ أين بول هذا الولد وأين غائطه؟ فألقمه حجر وأسكته. فالغلام بمجرد ما يخرج من بطن أمه يبول، فلم ما بال بالأمس في بطن أمه؟ قولوا: آمنا بالله.إذاً: مُطَهَّرَةٌ [آل عمران:15] من كل ما هو أذى، بول أو غائط أو مخاط.
    رضوان الله على عباده أكبر من أي نعيم
    قال الله: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:15] هذا أكبر! رضا الله أكبر من النعيم كله، وعندنا مثل حي: يا أبا جميل لو تنزل في دار أحد الصالحين، ويقول: ابق عندنا كل واشرب والبس، وهو دائماً غضبان عليك، لا يكلمك ولا ينظر إليك، يتقزز منك، أسألك بالله: ذاك الطعام والشراب يروق لك؟ هل ستشرب بسعادة؟ والله تخرج، تصبر شهرين أو ثلاثة وتقول: مادام يكرهني لا أنزل عنده أبداً.فلهذا نعيم الجنة كله لو فقد رضا الله ما كان شيئاً، ولهذا قال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72]، نعم لأن يرضى علي سيدي ولو حرمني الطعام والشراب المهم أن يكون راضياً عني، أما إذا كان ساخطاً ما قيمة الأكل والشرب واللباس؟!
    معنى قوله تعالى: (والله بصير بالعباد)
    قال: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15]، بصير عليم خيبر بالعباد. لم هذه الجملة(وَاللَّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )؟ هذا النعيم المقيم لمحمد ورجاله، أم لأهل نجران من النصارى الصليبيين الذين يتبجحون ويقولون: هذا ابن الله ونحن.. ونحن، وغير ذلك من الهراء. إن الله بصير بالعباد، فينزل منازل الأبرار في دار السلام من هم متأهلون لها، ويطرد الآخرين ويرمي بهم في أتون الجحيم. ما هي بالسحر والتدجيل والباطل، تقولون هكذا جزافاً: نحن أولياء الله، فهذا لا ينفع؛ لأن الآيات في وفد نجران وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الذين هم أهل لهذا النعيم المقيم والذين ليسوا له بأهل فمأواهم الجحيم، شرابهم الحميم، وطعامهم الزقوم.

    تفسير قوله تعالى: (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا...)

    قال الله: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16]. الَّذِينَ يستحقون هذا النعيم يَقُولُونَ رَبَّنَا أي: يا ربنا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16]، هذه صفة الذين يقولون ربنا إننا آمنا بك وبلقائك وبرسولك وكتابك ووعدك ووعيدك، وبكل ما أخبرتنا به وأمرتنا بالإيمان به. ‏
    التوسل إلى الله بالإيمان والعمل الصالح
    إذاً: نتوسل إليك بإيماننا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16] هذه أنفع الوسائل. إننا آمنا يا ربنا فاغفر لنا، توسلوا إلى الله ليغفر ذنوبهم بماذا؟ بجاه فلان أو سيدي فلان؟ آه، ماذا فعل الثالوث الأسود؟ حرموا هذه الأمة يا أبنائي قروناً إلا من شذ وندر؛ حرموهم من التوسل إلى ربهم وأعطوهم فقط وسيلتين منتنتين لا خير فيهما، ولا تنفعان لا في الدنيا والآخرة: اللهم إني أسألك بحق فلان وجاه فلان، تدخل قرية الصعيد بكاملها فلا تجد أحدهم يتوسل إلا بسيدي فلان، لا يوجد منهم من يفهم أنه يقوم في الليلة الباردة يغتسل ويصلي ويبكي ويسأل الله حاجته! لا يتوسل إلى الله وبطنه يؤلمه من الجوع لما يقف جائع عند الباب فيحرم نفسه ليواصل الجوع طول الليل ويطعم ذلك المسكين ويسأل الله بذلك. لا، فهم لا يتوسلون إلابـ: أعطني بحق فلان، وأعطني بجاه فلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.بم توسل هؤلاء المؤمنون من أهل الجنة؟ بإيمانهم بربهم، اللهم إنا آمنا بك وبرسولك فكفر سيئاتنا، أو أذهب هذا الهم والغم عنا، اشف مرضانا.
    مجالس العلم هي طريق المعرفة والرقي
    الناس اليوم لا يعرفون كيف يتوسلون؟ لماذا لا يعرفون كيف يتوسلون؟ لأنهم طردوا من ساحات النور الإلهي، أبعدوا عن مجالس العلم، والعلم يطلب ولا ينزل عليك وحياً، وإنما العلم بالتعلم. وهذا ابن عباس رضي الله عنه كان يحصل له إشكال في آية أو في حديث أو حادثة ورسول الله قد مات، وأبو بكر مات، فيأتي إلى باب الصحابي في المدينة ويجلس عند الباب، يستحي أن يقرع الباب، فيبقى ينتظر الساعتين والثلاث حتى يخرج الصحابي! ما الذي يحصل؟ المدينة غبار ليس فيها بلاط ولا إسمنت، والغبار يأتي عليه وعلى وجهه، وهو صابر حتى يخرج عمر أو علي أو عبد الرحمن فيقول: يا ابن عباس كيف هذا؟ يقول: أمرنا بالتأدب معكم. بهذا ورثنا العلم وعلمنا وأصبحنا علماء، أما نحن إن نسأل فنسأل بسخرية واستهزاء -جربنا العوام- أو لا نسأل. لماذا لا نسأل؟ كيف نعرف الله حتى نحبه؟ كيف نعرف الله حتى نخافه؟ الشيء الذي لا تعرفه تحبه؟ لا تحبه أبداً. إذاً: هيا نعود، يجب على المسلمين في قراهم، في جبالهم، في تلالهم، في سواحلهم، في أوديتهم، حيثما كانوا، عرباً أو عجماً أن يراجعوا الطريق الذي سلكه رسول الله وأصحابه وأحفادهم، فليس بصعب هذا ولا مستحيل، فلا نكلفك يا بني سوى أن تطرح قلبك لله ووجهك وأن تسلم وجهك لله: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، فقط أهل القرية يتعاهدون على أنه لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا طفل عن صلاة المغرب والعشاء في مسجدنا، ونوسع المسجد، إذا ضاق نوسعه، وبلغنا: أن ناساً أخذوا بهذه الدعوة وقالوا: ضاق المسجد علينا ونحن نوسع أعينونا، فأعانهم الصالحون، وقال: ما أصبحنا نرى بعد غروب الشمس رجل ولا امرأة في القرية، كلهم في بيت الرب يصلون المغرب ويجلسون هذه الجلسة ومكبرات الصوت متوفرة منة من الله عز وجل، نساءنا وراءنا ورجالنا أمامنا والستار بيننا، وأطفالنا بين أيدينا، ونتلقى الكتاب والحكمة، ليلة آية من كتاب الله، وأخرى حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوماً بعد يوم وعاماً بعد عام فلا تمضي عدة أعوم إلا أهل القرية كلهم أولياء الله، انتفى بينهم الحسد والبخل والغش، والخداع والنفاق والباطل والشرك؛ انمحى بأنوار الكتاب والسنة. هل هذا فيه صعوبة؟! مستحيل هذا؟! اليهود والنصارى الذين نجري وراءهم ونهتم بهم ونقتدي بهم ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا دقت عندهم الساعة السادسة أوقفوا دولاب العمل كله وذهبوا إلى المقاهي والملاهي، وإلى المراقص والمقاصف ودور السينما يروحون -كما يزعمون- على أنفسهم، ونحن أهل الإيمان، أهل السماء والأرض أين نذهب؟ في الأباطيل والتراهات والكلام السيئ.. وهكذا. كيف نتعلم؟ دلوني؟ والله لا طريقة إلى إنقاذنا إلا هذا أحببنا أم كرهنا، مع أنه لا يكلف شيئاً، والله إن أعمالنا النهارية الدنيوية لتقوى وتصبح أعظم، إذ يوجد عزم وصدق وربانية فلا غش ولا خداع ولا باطل، فنشتغل ثمان ساعات أكثر من أربعين ساعة عند اليهود والنصارى. ماذا أضعنا؟ كل ما في الأمر أنها ساعتان من غروب الشمس تغلق الدكاكين والمقاهي والعمل، نغلق كل شيء ونتطهر ونأتي بأزواجنا وأولادنا إلى بيت ربنا فنتعلم في صدق الكتاب والحكمة، ولا نزال نسمو ونرتفع حتى نصبح كالكواكب في السماء، ولا تسأل عما يفتح الله به علينا بعد ذلك.إذاً: صفات أهل الجنة: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [آل عمران:16]، يعترفون بذنوبهم أولا، ويطلبون من سيدهم المغفرة، ويتوسلون إليه بإيمانهم وأن يقيهم عذاب النار، خائفين، أي نعم.ومنهم أيضاً: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِين َ وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17] وهذا نأتي عليه في درس آخر إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #198
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (56)
    الحلقة (197)

    تفسير سورة آل عمران (60)


    يحث الله عز وجل عباده على المسارعة إلى التوبة وعدم التسويف فيها، إذ المسارعة إلى التوبة دليل التقوى وحياة القلب، ولا يزال العبد بخير ما أحدث توبة بعد الذنب، وأقبل على الأعمال الصالحة من إنفاق في سبيل الله، ومعاملة لعباد الله بالإحسان، فإن ذلك يسد الخلل ويجبر التقصير، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
    مراجعة لما سبق تفسيره من سورة آل عمران
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وصح أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أتى هذا المسجد -يشير إلى هذا المسجد النبوي- لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )،وقال عليه الصلاة والسلام: ( إذا صلى -أحدنا- العبد الفريضة، وجلس في المسجد ينتظر الأخرى؛ فإن الملائكة تصلي عليه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى يفرغ من الصلاة ويخرج من المسجد )، فلو دفعنا أرواحنا لأن نظفر بهذا الخير ما اتسعت لذلك، ولو خرجنا مما نملك على أن نظفر بهذا الخير ما يكون ذلك كافياً، ولكن فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].أعود فأقول: أسألكم بالله من نحن وما نحن حتى يذكرنا الله في الملكوت الأعلى؟! قطعاً يذكرنا بخير، ويباهي بنا ملائكته.وأخرى أيضاً: من نحن وما نحن حتى تصلي علينا ملائكة الله فتقول: اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم، طيلة ما نحن في بيت الله ننتظر الصلاة؟ إنه لا يسعنا ألا أن أقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، إذ ملايين البشر والله محرومون من هذا، ولا يُعطونَه ولا يظفرون به، ونحن هيأنا الله بفضل منه وإحسان، وأهلنا لهذا الخير، فهيا نحمد الله فنقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.معاشر المستمعين والمستمعات! بالأمس ظننا الوقت قد انصرم وما ذكرنا ما في هذه الآيات من هدايات، فنعود إليها الآن إن شاء الله بعد أن نتلوا الآيات تذكيراً لكم بها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].هذه الآيات الخمس لها هدايات؛ إذ كل آية تحمل هداية، وأُذكركم أن بالقرآن الكريم ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، كل آية تدل دلالة قطعية على وجود الله عز وجل رباً وإلهاً، عليماً حكيماً، قوياً قديراً، وتدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات رسالته، وبيان ذلك: هل يوجد كلامٌ بدون متكلم؟ مستحيل، وبالتالي فهذه الآية تكلم بها الله وأوحاها إلى من أوحاها إليه وأنزلها عليه، فهي تدل دالة دلالة قطعية على وجود الله، ووجود الله عز وجل -كما علمتم- لابد من علم أحاط بكل شيء، ولابد من قدرة لا يعجزها شيء، ولابد من رحمة لا يخلو منها شيء، ولابد من حكمة لا يخلو منها شيء في الكون، فالله عز وجل القوي، القدير، العليم، لحكيم، الرحيم، لا إله إلا هو ولا رب سواه.والنبي محمد صلى الله عليه وسلم أين هو؟ هناك قبره الشريف وإلى جنبه صاحبيه أبي بكر وعمر، وتلك الحجرة حجرة الصديقة عائشة رضي الله عنها، وهذا مسجده وتلك روضته، وقد عاش آباؤنا أباً عن أب إليه صلى الله عليه وسلم، فنحن موقنون بوجود رسولنا في بيته في حجرته أكثر من يقيننا بوجودنا الآن في مسجده، فهذا النبي العربي صلى الله عليه وسلم عاش أربعين سنة أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ثم بعد الأربعين سنة يتفوق بحيث والله الذي لا إله غيره ما وصل ولن يصل إلى مستواه العلمي كائناً من كان، وهذا القرآن الكريم تحدى الله به الإنس والجن على أن يأتوا بمثله فعجزوا، على أن يأتوا بسورة فقط فعجزوا، وما زال التحدي قائماً إلى يوم القيامة، واقرءوا قول الله تعالى من سورة البقرة المدنية: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24]، قال العلماء: هذه الجملة: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، لا يقدر على قولها إلا الله، ووجه ذلك: لو أن اليابان الصناع اخترعوا آلة صناعية من نوع الآلات المستعملة في هذه الحياة، فهل تستطيع اليابان أن تقول: نتحدى البشر لمدة سبعين سنة أن يوجدوا نظير هذه القطعة أو هذه الآلة؟ والله لا يقولون، كذلك روسيا البلشفية الحمراء الملحدة التي تفوقت على الصين واليابان، هل تستطيع أن توجد قطعة من قطع الآلات وتقول: نتحدى البشرية أن توجد مثلها؟ الجواب: لا.فلهذا قول الله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، لا يقول هذا إلا الله؛ لأنه بيده ملكوت كل شيء، فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذنه وعلمه وقدرته، فهو يعلم أنه لا يوجد أبداً ولن يوجد من يأتي بسورة من مثل هذا القرآن فضلاً عن الإتيان بمثله، ومن ثم طأطأت البشرية والجن رءوسهم، ولم يستطيعوا أن يأتوا بسورة من أميٍ مثل محمد صلى الله عليه وسلم تحمل الهداية والنور للبشرية إلى اليوم.
    قراءة في تفسير قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض ...) وما بعدها من كتاب
    أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    قال: [ من هداية الآيات:أولاً: وجوب تعجيل التوبة وعدم التسويف فيها لقوله تعالى: وَسَارِعُوا [آل عمران:133] ]، والمسارعة: المبادرة بدون توانٍ، وقد علمنا معشر المؤمنين والمؤمنات! ما أجمع عليه أهل هذه الملة وهو: أن التوبة تجب على الفور، ولا يحل لمؤمن أن يقارف ذنباً ويؤخر التوبة ساعة أو أسبوعاً أو يوماً أو أياماً أو أعواماً، بل إذا زلت القدم وسقط عبد الله في الذنب قال: أستغفر الله وأتوب إليه، ولينفض الغبار عنه وليواصل سيره وطريقه إلى ربه، ولا يقول: سأتوب بعد كذا أو يوم كذا أو عندما يوجد كذا، فإن هذا حرام بالإجماع، إذ لا يحل تأخير التوبة أبداً، نعم قد تعترض العبد أو الأمة وهو في طريقه إلى الله شيء من العقبات أو الهواجس أو الوساوس فيقع، فيلزمه أن يعجل بالتوبة على الفور، وليواصل سيره إلى دار السلام، أما أن يؤخر التوبة فإنه لا يدري هل يعيش ساعة أو لا يعيشها؟ من يضمن له أن يعيش كذا عاماً أو يوماً أو ساعة؟والقرآن الكريم هداية الله تعالى، فنذكر ما قد علمتم وفهمتم وزادكم الله علماً، فيا أهل القرآن! إذ قال تعالى من سورة النساء: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، هذه الصيغة تفهمون منها أن الله أوجب على نفسه هذا الحق، ولا يوجب على الله أحد، ولكن هو يتفضل ويوجب على نفسه ليطمئننا أن هذا حق لنا على الله، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، لمن؟ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، والسوء يا أهل العلم! كل ما يسيء إلى النفس بالظلمة أو النتن والعفن، كل ما يؤثر على النفس فيفقدها النور والصفاء. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، وليس معنى (بِجَهَالَةٍ): فقط الذي يعرف أن الله حرم هذا أو أوجب هذا معرفة يقينية ثم يسخر أو يستهزئ أو يرفع كتفيه أو يخرج لسانه ساخراً، فإن مثل هذا لا يتوب الله عليه؛ لأنه أذنب متحدياً لله خارجاً عن طاعته، إذ الذي يتوب ويقبل الله توبته من يعمل السوء بجهالة، أي: نوع من الجهالة، كأن لا يعرف الحكم، أو أن يقول: إن شاء الله سيتوب الله عليّ، أو يقول: لو كان هذا يُغضب الله قلمَ فعله الشيخ الفلاني؟! فلابد من نوع من الظلمة حتى يقوى ويقدر على فعل هذه المعصية، لا أنه كإبليس يتحدى الله ويتكبر عن عبادته، وهذه لطيفة دل عليها قوله: يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17].وأما الثانية: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، والقرب هنا نسبي، فنحن لا ندري نسبة هذه القرب، وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تكون على الفور، فإذا زلت القدم فقلت كلمة السوء، أو نظرت النظرة المحرمة، أو ألقيت بلقمة محرمة في فيك، فعلى الفور الفظها وألقها بعيداً عنك، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17]. وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، فعجلوا قبل فوات الوقت، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، وتكون بالتوبة النصوح، وإلى جنة: عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، وذلك بزكاة النفس وطهارتها.إذاً: [ وجوب تعجيل التوبة وعدم التسويف فيها ]، فكم إنسان يقول: سأتوب حتى أتزوج! حتى أتوظف! حتى يجيء والدي! حتى نحصد! وفجأة يأتيه الموت فيموت، ولذا فالدين النصيحة، فيا عبد الله! اسأل الله أن يحفظك أن لا تقع في ذنب، وإذا قُدِّر ووقعتَ فعجل بالتوبة، والتوبة ليست أثقالاً ولا أحمالاً لا تطاق، إنما التوبة أولاً: اللهج الصادق بقول العبد: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر لله، مع ندم يَمَضُّ في قلبك ويؤلمك، والبعد عن هذه السيئة، اللهم إلا إذا كان الذنب يتعلق بأخيك، كأن قذفته، أو أكلت ماله، أو نهشت عرضه، فعند ذلك لابد وأن تطلب منه العفو والصفح والمسامحة، أو تعطيه وتمكنه من نفسك ليقتص.فإن قال قائل: كيف أمكنه من نفسي؟! فأقول: تذكرون حادثة بلال رضي الله عنه عندما عيَّره أبو ذر الغفاري بأمه وقال له: يا ابن السوداء -وهو في الحقيقة ابن امرأة سوداء- فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( تعير أخاك وتقول له: يا ابن السوداء، إنك امرؤ فيك جاهلية )، فماذا فعل أبو ذر الغفاري؟ جاء فطرح رأسه على الأرض وقال: لا أرفع هذا العنق من الأرض حتى تطأه برجلك يا بلال! فهذا هو جزائي، ولذا فمن الجائز أن تأتي إلى أخيك وتقول: أنا أخذت مالك، أو فعلت كذا وكذا في حقك، وأنا الآن بين يديك، فخذ حقك، أما إذا كان الذنب بترك واجب أو بفعل محرم مما حرم الله، فالتوبة هنا هي الاستغفار والندم والإقلاع الفوري والعزم ألا عودة إلى هذا الذنب بحال من الأحوال.إذاً: هداية وَسَارِعُوا دلت على وجوب التوبة على الفور. [ ثانياً: سعة الجنة، وأنها مخلوقة الآن لقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] ]، فالذي دلنا على أن الجنة موجودة الآن ولم توجد بعد هو الله؛ لأن الذي خلقنا هو خالقها وموجدها، وقد أخبرنا فقال: (أُعِدَّتْ)، أي: هيئت وأحضرت للمتقين، فهي محضرة معدة موجودة والله العظيم. [ ثالثاً: المتقون هم أهل الجنة وورثتها بحق ]، ودل على هذا الحكم قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، فمن أعدها؟ الله، وهل يستطيع غير الله أن يعدها؟ لو تجتمع البشرية كلها على أن توجد فقط كوكب القمر أو كوكب الشمس لا تستطيع.إذاً: تلك الجنة التي وصفها خالقها بما لا مزيد عليه في كتابه، وقبل وفاة رسوله صلى الله عليه وسلم رفعه إليها، ومشى فيها، فشاهد أنوارها وقصورها وأنهارها، ومشى بقدميه على تربتها، وكان أول رائد عرفته البشرية، ولم يبق في ذلك مجال للريب أو الشك، أو يقال: إن الجنة مجرد خيالات.إن هذه الجنة موروثة وورثتها هم المتقون، إذ قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، والسبب والعلة والحكمة في ذلك: أن المتقين طهروا أرواحهم وزكوها بالعمل الصالح والبعد عن العمل الفاسد، فأرواحهم زكية طاهرة، وهذه الأرواح الطاهرة هي التي يرفعها الله إليه ويدخلها دار السلام في جواره، أما الأرواح الخبيثة العفنة المنتنة من أوضار الشرك والذنوب والآثام فليست متأهلة للجنة دار السلام.وبعد أن عرفنا ذلك فهيا نتق الله عز وجل، فلا نخرج عن طاعته وطاعة رسوله، وإن زلت القدم وأعمانا العدو -إبليس- وغرر بنا فعلى الفور -وهم يعلمون أن من تاب تاب الله عليه- نستغفر الله، ونعزم على عدم العودة إلى ذلك الذنب، فيبقى ذلك الطهر وذلك الصفاء كما هو؛ لأن المتقي اتقى عذاب الله بفعل طاعته بما أمر وترك ما نهى، إذ المأمور به يزكي النفس والمنهي عنه لا يلوثها، بل يبقيها على طهارتها وصفائها. وهذا بيت من الشعر نستطيع أن ننظر إلى حقيقته من خلال هذه الآيات: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبسفيا عبد الله! ترجو النجاة من ماذا؟ من الماء أو لا؟ إن السفينة لا تجري على الرمل والتراب، إنما تجري على الماء، وبالتالي كيف ترجو النجاة يا عبد الله! ولم تسلك مسالكها؟! إن مسالك النجاة هي التقوى، الإيمان والعمل الصالح والبعد عن الشرك والكفر والمعاصي، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، فهل أنت تريد هذا أو لا؟ هل سلكت مسالك الجنة فمحوت ذنوبك واستغفرت الله منها وعملت الصالحات؟ [ رابعاً: فضل استمرار الإنفاق في سبيل الله ولو بالقليل ]، إذ الاستمرار والمداومة على النفقة في سبيل الله ولو بالقليل كحبة عنب أو شق تمرة، خيرٌ من العمل الكثير المنقطع، إذ قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة )، والآن من يشق التمرة نصفين فيأخذ نصفها والنصف الآخر لغيره؟! هل هذا موجود؟ لقد كان أحدهم يتغذى والله بشق تمرة يوماً كاملاً، وتبقى النواة في فمه يمصها ويتلَّهى بها اليوم واليومين، فهيا نحمد الله تعالى على نعمه الكثيرة علينا، فإن رأيت أخاك في حاجة إلى شق تمرة فأعطه، وتكون بذلك قد اتقيت عذاب الله بشق تمرة، ومعنى هذا: اتقوا النار يا عباد الله! بالحسنات، كبيرة كانت أو صغيرة، قليلة أو كثيرة، المهم أن تقي نفسك من عذابه، فإذا ما وجدت إلا نصف تمرة شققتها بينك وبين أخيك وأعطيته نصفها.قال: [ فضل استمرار الإنفاق في سبيل ولو بالقليل ]، ودل على ذلك قول الله عز وجل: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، أي: في حال اليسر وفي حال العسر وفي حال الحبس، إذ إنهم دائماً ينفقون، سواء القليل بالقليل والكثير بالكثير، وهذه المواصلة هي التي رفعتهم إلى هذا العنان من الكمال، والآية ترغبنا في النفقة طول الحياة، وليست من رمضان إلى رمضان، لكن في حدود الطاقة، فالذي عنده حفنة يعطي منها، والذي عنده تمرة واحدة يقسمها أيضاً بينه وبين أخيه ولا يقول: هذا الشيء قليل، وعند ذلك أمة هكذا لا يوجد فيها فقر أو احتياج، بل في هذه الظروف بالذات لو أقبلت أمة الإسلام في كل ديارها على الله في صدق لتجلى الكمال في ديارها بصورة لم تحلم به البشرية، لكن مع الأسف سحرونا وأبعدونا عن الله ونحن تائهون في المتاهات. [ خامساً: فضيلة خُلة ] والخُلَّة -بضم الخاء-: الصفة، والخَلَّة -بفتح الحاء-: الضعف والحاجة [فضيلة خُلَّة كظم الغيظ بترك المبادرة إلى التشفي والانتقام ]، إذ قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليس الشديد بالصُّرَعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) . فقوله: ( ليس الشديد بالصُّرَعة )، أتعرفون الصُّرَعة؟ ذاك الملاكم الذي ما لاكمه أحد إلا صرعه، فهذا هو الصرعة، وقد صارع النبي صلى الله عليه وسلم ركانة فغلبه. إذاً: ليس الشديد والقوي بالصرعة الذي يصرع الناس، ولكن القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، فإذا غضب لم ينطق بسوء، ولم يظهر منه أو عنه شيء اسمه: سوء، وهذا أمر عظيم، فبدل أن يسب أو يشتم أو يتناول شيئاً بيده ليضرب به، فإنه يكظم غيظه، ولا يظهر ذلك عنه أبداً، وكأنك مدحته وأثنيت عليه، وقد قلنا لكم:جربوا هذا فيما بينكم حتى تكتسبوا هذه الصفة، فإذا أغضبك أخاك بكلمة أو بيده أو بأية حركة، فهل أنت ممن يصبر فيكظم غيظه ويحبسه ولا يظهر عنك شيء لا باللسان فينطق ولا بيدك بأن تأخذ وتضرب؟وللأسف الشديد أن المتزوجين قد تأتي الزوجة بأدنى حركة فيطلقها زوجها، فإن سئل: لمَ طلقتها؟ قال: أغضبتني! أو قال: يا أم فلان! عجِّلي بالإفطار، فردت عليه فقالت: انتظر قليلاً، فقال: كيف ننتظر قليلاً؟ أنتِ طالق، أو يقول لها: أما تستحين؟ أنتِ حيوان، أنتِ كذا وكذا، وهي تغضب أيضاً، فلا هو يكظم غيظها ولا هي تكظم غيظه، وبالتالي الطلاق والفراق، وأنا أقول لهم والحمد لله -وهذا من فضل الله علينا-: قد عاشرنا المرأة ستين أو ثمانية وخمسين سنة والله ما قلنا كلمة سوء ولا قالت هي كلمة سوء، ومن ثَمَّ لا غضب ولا سخط ولا طلاق ولا شيء من هذا. ثم كيف أعيش معكم في القرية أو في المدينة العام والأعوام لا أوذي مؤمناً في الطريق لا بسب ولا شتم ولا أذى، وأوذي أختي في بيتي وهي محبوسة من أجلي؟! فسروا لي هذه الظاهرة، فأنا لا أعرف كيف تُفسر؟! أنت يا عبد الله! تعيش مع أناس طول العام في الشارع في العمل أو في أي مكان، فهل قد آذيت مؤمناً؟ لا تسمح لنفسك بذلك، إذاً فلمَ تؤذي هذه المحبوسة في بيتك بكلمة سوء؟! أعود فأقول: إننا ما ربينا في حجور الصالحين، ما تعلمنا ولا هذبنا أنفسنا، فهذا هو السر، وإلا فالذين يتربون في هذه الحلقة الآن والله تجلت عنهم هذه الكمالات وظهرت فيهم، والذين حبسوا أنفسهم ليتعلموا هذا العلم، والذي ما يعلم هذا ولا يحضره أنى له أن يعرف؟ إذاً لا بد من العلم. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، فهل تعرف كيف تكظم القربة إذا فاض الماء حتى ما يخرج منها؟ كذلك لما تصون نفسك ويريد اللسان أن ينطق، والعين أن تحمر، والوجه أن يتبدل، فتملك ذلك وتقول: أستغفر الله، أو الحمد لله، أو سامحني يا رب. [ سادساً: فضل العفو عن الناس مطلقاً، مؤمنهم وكافرهم، بارهم وفاجرهم ]، العفو عن الناس أو البشر، كبارهم كصغارهم، وأشرافهم كضعافهم، مؤمنوهم ككافريهم، فمن أراد أن يظفر بهذا الكمال ويفوز بهذا الوصف فيقوى على أن يعفو عمن ظلمه، وهو قادر على أن يضربه ويأخذ حقه، ولكن يريد أن يعلو فلا يبال بمن آذاه، ويعفو ويصفح ويتجاوز عنه، وكأنني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوزع الصدقات، وإذا بأحد الأجلاف الغلاظ -غفر الله لنا وله- يأخذ أو يُلبِّب رسول الله بردائه ويقول: ( اعدل فينا يا رسول الله! )، ومع ذلك يتبسَّم النبي صلى الله عليه وسلم ويتركه ولا يؤاخذه، وأنا أسألكم بالله! لو وقع هذا معكم فكيف سيكون حالكم؟ وقال عليه الصلاة والسلام: ( رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا وصبر، ويقول له: ويحك إن لم أعدل أنا فمن يعدل؟ )، وهو كذلك، فهل عرفتم العفو كيف يكون؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان قادراً على أن يضربه أو يؤذيه، بل لو قال فقط لرجاله: اضربوه، لضربوه ضرباً شديداً، ولكنه العفو النبوي والكمال المحمدي، ولذا فاعفوا على الأقل على أولادكم وعلى نسائكم وعلى إخوانكم إن لم تعفوا على الظالمين والكافرين، مع أن العفو يشمل حتى الكافر، لأنها صفة جلال وكمال يريد صاحبها أن يسمو ويعلو ويرتفع.قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن يشرُف له في البنيان، وتُرفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه )، أي: لا يؤاخذه، فلا يرد السب بسبة، ولا الشتم بشتمة، ولا اللطم بأخرى، وإنما ليعف عمن ظلمه، قال: ( ويعطي من حرمه )، أي: من حرمه من شيء فلا يقابل ذلك بأن يحرمه، بل يعطيه، فلو أن أحدنا جاء إلى آخر فقال: أعطنا بعض التمر، فرد عليه فقال: لا أعطيك شيئاً، ثم في اليوم الثاني جاء يطلبه تمراً والتمر بين يديه، فهل يقول له: لا؛ لأنك حرمتني وما أعطيتني يوم أمس؟ الجواب: لا، بل يعطي من حرمه، وذاك الذي حرمني هو الذي أعطيه، وأتغلب على الطبيعة وعلو فوق الفطرة، وأبحث عمن يحرمني فأعطيه؛ لأني أُريد أن يشرُف ويعلو بنائي، وترتفع درجاتي يوم القيامة، قال: ( ويصل من قطعه )، أي: ذاك الذي قطعني وما أصبح يسلم عليّ ولا يزورني ولا يجلس إلى جنبي أنا أصله، فأجلس إليه وأسلم عليه وأزوره، ولا أقطعه مقابل مقاطعته لي؛ لأني أريد أن أتفوق عليه.ومرة أخرى يا أهل المعرفة! يقول صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن يشرُف له في البنيان، وتُرفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه )، وإن شاء الله سنجرب كل هذه، فإذا ظلمني ظالم أعفو عنه وأتركه لله، مع قدرتي على أن أنال منه، وإذا حرمني شخص من شيء طلبته منه فلا أحرمه من شيء طلبه مني، وإن قطعني من قطعني من إخواني أو جيراني فأنا أصلهم، وذلك من أجل أن أتفوق، وأن يشرُف بنياني، وأن تُرفع وتُعلا درجاتي.ويقول أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث أقسم عليهن )، أي: ثلاث خصال أو ثلاث مسائل أقسم عليهن، وهي: ( ما نقص مال من صدقة )، فلو عندك كوم من المال فتصدقت منه بحفنة أو أقل أو أكثر فالرسول يحلف أن مالك ما نقص أبداً.والثانية: ( وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً )، أي: ما من عبد يؤذى فيعفو وهو قادر على أن ينتقم ما زاده الله بذلك إلا عزاً وإكراماً.والثال ة: ( ومن تواضع لله رفعه الله )، أي: من تواضع لأجل الله رفعه، ولم يهبطه إلى الأرض مع الهابطين. [ سابعاً: فضيلة الاستغفار وترك الإصرار على المعصية للآية ]: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].قال: [ ولحديث: ( ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة ) ]، وأخصر من هذا: ( لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار )، أي: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة من صغائر الذنوب مع الإصرار، فإذا أصر العبد على الصغيرة فإنها تتحول إلى كبيرة وينتقل إليها، وإذا استغفر من الكبيرة وتاب منها فلا تعتبر كبيرة أبداً، فلهذا معاشر المؤمنين والمؤمنات! ليكن منهجنا في الحياة أننا نستغفر الله من كل ذنب، وكلنا عزم على ألا نعود إلى الذنب ولو تكرر منا لعجز البشر ولضعفنا، إذ الاستغفار وعدم الإصرار هو الطريق إلى النجاة.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #199
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (57)
    الحلقة (198)

    تفسير سورة آل عمران (61)


    لما حدث ما حدث من انكسار المؤمنين في أحد بسبب عدم الصبر، وعدم طاعة القائد، أنزل الله آيات بينات يذكر المؤمنين فيها بالسنن المتحققة في الأمم التي سبقتهم، وإرسال الرسل لهم، وتكذيبهم إياهم، وتحقيق سننه فيهم بإهلاك الظالمين المكذبين، ونصر المؤمنين الموحدين، ثم يعزي سبحانه وتعالى عباده المؤمنين ويبشرهم بالعلو على أعدائهم بعدما أصابهم في أحد من البلاء والقرح.
    تفسير قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن...)
    إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل يومنا هذا من ليلتنا هذه ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهت بنا الدراسة إلى هذه الآيات الخمس، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:137-141].بعد ذلك الاعتراف العظيم الجليل عاد السياق إلى غزوة أحد، فتأملوا الآيات مرة أخرى، يقول تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:137-141]، وهذا تدبير الله عز وجل.
    معنى قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن)
    قوله جلت قدرته: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137]، هذا إخبار بالواقع، وذلك أنه قد مضت قبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمم تجلت فيهم سنن الله تعالى، فأهلك الله المكذبين والمشركين والمؤذين لأوليائه وصالح عباده، فإن شاءوا وقفوا على تلك المعالم، فعاد في الجنوب، وثمود في الشمال، وفرعون وقوم لوط في الغرب، فهكذا يعظهم ربهم فيقول لهم: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137].إذاً: فنجَّى الله المؤمنين وأهلك الكافرين، وأنتم -أيها المؤمنون- هذا صنيعه معكم، فينجيكم ويهلك أعداءكم الكافرين، وقد تم هذا كاملاً غير منقوص.
    معنى قوله تعالى: (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)
    ثم قال لهم تعالى: فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137]، ومن سورة اليقطين يقول تعالى: وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات:133-138]، فتجار هذه الديار يذهبون إلى الشام ومصر فيمرون بقوم لوط وديارهم سدوم وعمُّورة، فيرونها قد أصبحت بحراً ميتاً أو بحيرة منتة. فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137]، أي: المكذبين لله ورسله، المكذبين بشرع الله وسننه وقضائه وقدره.
    تفسير قوله تعالى: (هذا بيان للناس وهدىً وموعظة للمتقين)
    هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138]، أي: هذا الذي سمعتموه ويتلوه الله علينا من الآيات بيان للناس، وبالتالي فمن أراد أن يتبين الحق من الباطل، والخير من الشر، والفضيلة من الرذيلة، والسعادة من الشقاء، والكمال من النقصان، فالآيات القرآنية موضحة ومبينة ومفصلة لذلك، وفي نفس الوقت هي هدىً وموعظة للمتقين، أما الفجَّار فلا يجدون فيها هداية ولا موعظة، وذلك لأن قلوبهم منتكسة، فلا يعون ولا يفهمون، ولكن المتقون أولوا القلوب الحية والنفوس الزكية، وأولوا البصائر والنهى، ما من آية في الكون -حتى طلوع الشمس أو غروبها- إلا ويجدون فيها ما يدلهم على علم الله تعالى وقدرته، ووجوب عبادته وطاعته.
    تفسير قوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)
    وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، أي: يقول الله تعالى لهؤلاء الذين شهدوا معركة أحد: وَلا تَهِنُوا [آل عمران:139]، أي: لا تضعفوا ولا تكسلوا، ولا تقفوا عن أداء رسالتكم وهي نشر دعوة الله والجهاد بها. ثم يقول الله تعالى لهم: وَلا تَحْزَنُوا [آل عمران:139]، أي: ولا تحزنوا على ما فاتكم أو ما أصابكم، واذكروا ذلك الانتصار الذي تم في أول النهار، وإذا بالمشركين -وهم ملوك- يفرون هاربين تاركين أمتعتهم وأسلحتهم، ثم لما زلت القدم وخرج الرماة عن منهج القيادة الذي وضعته، ابتلاهم ربهم في آخر النهار، فأصيبوا بنكبة وبكرب وحزن ما عرفوه في تاريخهم.وها هو ذا الرحمن الرحيم يلاطفهم ويهون من شدة كربهم وحزنهم فيقول لهم: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، حقاً والله لهمُ الأعلون، أما الهابطون والأسفلون فهم الكافرون والمشركون، وإن حصلت تلك الهزيمة المرة فتلك لا تهبط بهم أبداً، إذ إنهم هم المؤمنون، ولهذا قيده بقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، فالمؤمنون دائماً والله هم الأعلون، فلا يهونون ولا ينزلون ولا يذلون، لكن إذا خرجوا عن سنن الله في الكون وعموا عنها وما أبصروها، وعدلوا عن التمسك بها، فإنه ينزل بهم ما ينزل بغيرهم؛ لأن الله لا يحابي أحداً، إذ إن الله تعالى وضع سنناً في هذا الكون، فمن سلكها في إيمان ويقين فاز ونجا ونجح، ومن تنكبها وبعد عنها أو تعامى عنها ولم ينظر إليها لا بد وأن يصاب بالهون والدون والذل والصغار والحقار. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، أي: أعلى كل الخلق، فلو أن مؤمناً واحداً من المؤمنين الصادقين وضع في كفة ميزان، ووضعت البشرية كلها من أهل الكفر والشرك في كفة أخرى، والله لرجحت كفة المؤمن، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الله عز وجل لا يرضى بأن يؤذى مؤمناً من المؤمنين وأن يَسْلَم كل الكافرين، بل يرضى بأن يؤذى كل الخلق من الكافرين دون ذلك المؤمن، والسر أن هذا المؤمن عرف ربه وعبده وأحبه وخافه ورهبه، بل كل حياته له، بينما أولئك الكفرة الضلال المشركون كفروا بخالقهم، وجهلوه وما تعرفوا عليه، وما سألوا عنه، وما سألوا عن محابه، ما أطاعوه، وبالتالي كيف تكون لهم منزلة عند الله تعالى؟! إن منزلتهم عند الله أحط من منزلة القردة والخنازير والكلاب والحيات، فهل عرف البشر هذا؟! المؤمنون عرفوا؛ لأن المؤمن الحق يرضى أن يقتل أو يقطع أو يصلب ولا يرضى أن يكفر بالله عز وجل، فهذا خباب بن الأرت لما وضعوه على المشنقة خارج الحرم ليقتلوه، جاءه أبو سفيان ممثل قريش يعرض عليه المساومة، فقال له: هل ترضى الآن أن تذكر آلهتنا بخير وتذكر محمداً بسوء ونطلقك فتعود إلى أهلك؟ والمشركون مجتمعون نساء ورجالاً ينتظرون هذا الحفل لقتل هذا الرجل، فقال حالفاً بالله: والله لا أرضى أن يُشاك محمد بشوكة وأعود أنا إلى أهلي!ولكي تعرفوا هبوط البشر عندما يكفرون بالله ولقائه، وأنهم أحط من القردة والخنازير، اقرءوا آية من سورة البينة من قصار المفصل نسمعها في أغلب الأوقات: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، شر بمعنى: أشر، والبريئة: الخليقة كلها.فقول ربنا لأصحاب رسولنا صلى الله عليه وسلم: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ [آل عمران:139]، أي: والحال أنكم أنتم الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، وهذا القيد قول نوراني، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، أي: هذا الكمال الذي ظفرتم به وحصلتم عليه إنما هو لإيمانكم بالله عز وجل، أما الكافر فوسخ لا قيمة له عند الله، ومن شك في ذلك فليرجع إلى أخبار الله التي تقضي وتحكم بأن الكافر يعيش مليارات السنين في عالم الشقاء فلا تمسح له دمعة أبداً، وليست سنة ولا ألفاً ولا عشرة، بل مليارات السنين بلا نهاية أبداً، وسر ذلك: أن الله خلقهم ورزقهم، وخلق كل شيء من أجلهم، ولم يطلب منهم أكثر من الاعتراف به عز وجل، ثم طاعته فيما يهيؤهم لكمالهم وسعادتهم، وينجيهم من خسرانهم وشقائهم، فيرفضون ذلك ويأخذون في الافتراء والكذب والتضليل، لا لشيء، وإنما فقط حتى لا يؤمنوا بالله عز وجل.
    تفسير قوله تعالى: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله...)
    إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]. ‏
    البلاء الذي يصيب المؤمنين يصيب أعداءهم أيضاً
    ويقول لهم أيضاً: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]، أي: كما قد قُتِل منكم سبعون يوم أحد، أربعة من المهاجرين والباقون من الأنصار، فقد قُتِل منهم سبعون وأسر منهم سبعون في بدر، وغنمتم غنائمهم كلها. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]، والقَرح والقُرح كالضَعف والضُعف: آلام الجراحات بالسهام أو بالسيوف.
    من سنة الله تعالى أن الأيام دول
    قوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، وسيأتينا أنه لما انتهت المعركة جاء أبو سفيان يلاحق ويتابع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاء حتى قارب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: أفيكم ابن أبي كبشة؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر بن الخطاب؟ فقال له عمر رضي الله عنه: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وأنا عمر، فقال أبو سفيان: الحرب سجال، يوم بيوم، يعني: أصبتم منا في بدر فأصبنا منكم اليوم، فلا تحزنوا ولا تأسفوا، فقال عمر: قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: قد خسرنا إذاً، وهو كذلك. والشاهد عندنا في قول ربنا لهم: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، وسميت الدولة دولة من المداولة؛ لأنها تدول من شخص إلى آخر، والأيام دول، فأيام رخاء وأيام غلاء، أيام سعادة وأيام شقاء، أيام أمن وأيام خوف، وهذا كله ماض حسب سنة الله عز وجل، فهو الذي يؤمن من يشاء ويخوف من يشاء، ولكن يؤمن ويخوف بسنن لا تتخلف.
    معنى قوله تعالى: (وليعلم الله الذين آمنوا)
    قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:140]، أي: فعل الله تعالى هذا ليُظهر علمه الغيبي إلى العلن والمشاهدة، ولتظهر حكمته وسنته في خلقه، وليعلم الذين آمنوا من الذين كفروا، إذ إنه رجع مع ابن أبي ثلاثمائة مقاتل جلهم منافقون كافرون، ولولا هذا الامتحان لم يظهروا، ولو ما جاء الله بالمشركين إلى المدينة ليقاتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوفق الرسول للخروج إليهم، فكيف يتميز الكافر من المؤمن؟!
    معنى قول الله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء)
    قوله تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، وقد اتخذ منهم سبعين شهيداً، وهذا بالنسبة إلى من قُتِل في سبيل الله في الدنيا، وأما يوم القيامة فنشهد أيها المؤمنون على أمم قد سبقت، فيؤتى بنوح فيقال له: هل بلغت يا نوح؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيؤتى بنا فنشهد أن نوحاً قد بلغ أمته، وذلك أننا قد قرأنا في كتاب الله فعرفنا قصة نوح وقومه -في جميع السور- وأنه قد بلغ رسالته، وبالتالي فيتخذ منا شهداء بمعنى: يُستشهدون في المعركة فيدخلون الجنة، وشهداء على الأمم السابقة واللاحقة، وهذه مرتبة عالية وفضيلة لا تعادلها فضيلة.
    معنى قوله تعالى: (والله لا يحب الظالمين)
    قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]، قد عرفنا معاشر المؤمنين والمؤمنات! أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فكل من وضع شيئاً في غير موضعه فقد ظلم وهو ظالم، فالذين عبدوا غير الله وضعوا هذه العبادة في غير موضعها، وبذلك يكونون قد ظلموا وهلكوا، فالرماة الذين نزلوا من الجبل وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا المركز خالياً فاحتله المشركون، هؤلاء قد ظلموا؛ لأن الرسول وضعهم في هذا الموضع وهم وضعوا أنفسهم خارجه يطلبون الدنيا والمال.وكلمة: (الظلم) عامة، وأفظعها ظلم الله تعالى، وذلك بأن تأخذ حق الله وتعطيه لغيره، وبعض طلبة العلم ترددوا في هذا التعبير، فقالوا: كيف نقول: ظلموا الله؟! فنقول: إذا كانت هذه العبادة شرعها الله له، ثم عبدنا بها غيره فقد ظلمنا ربنا وأخذنا حقه، ووضعنا شيئاً في غير موضعه، ومن الظلم أيضاً: ظلم الناس في أعراضهم، في أموالهم، في أبدانهم، في كل ما يؤذيهم، ومن الظلم كذلك أن تغني في هذا الحلقة العلمية؛ لأن الموضع ليس موضع غناء، وهكذا يقول تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].
    تفسير قوله تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)
    قوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141]. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:141]، والتمحيص: تمحص الشيء حتى يذهب كل ما كان فيه من دخن ودخل، وذلك ليبقى فقط العنصر الصافي الكريم، كما تمحص الجواهر والذهب وغيرها، وهؤلاء قد ابتلاهم الله بهذه المعركة وساقهم إليها، وكتب ما كتب، والعلة: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141].وهذه الآيات غداً لو ندخل في الإسلام دخولاً جديداً ونواجه نفس المعركة ونتلوا الآيات وكأنها نزلت علينا في يومنا هذا؛ لأنه كتاب خالد بخلود هذه الحياة، ولا يرفعه الله من صدور العباد إلا في نهاية هذه الحياة.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات
    قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [معنى الآيات: لما حدث ما حدث من انكسار المؤمنين بسبب عدم الصبر ] أي: ما صبروا كما أمرهم قائدهم [ والطاعة اللازمة للقيادة، ذكر تعالى تلك الأحداث -التي تمت في أحد- مقرونة بفقهها لتبقى هدىً وموعظة للمتقين من المؤمنين ]؛ لأن غير المؤمنين لا يستفيدون [ وبدأها بقوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137]، فأخبر تعالى المؤمنين بأن سننه قد مضت فيمن قبلهم من الأمم، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، فقد أرسل الله تعالى إليهم رسله فكذبوهم، فأمضى تعالى سنته فيهم، فأهلك المكذبين ونجا المؤمنين بعد ما نالهم من أذى أقوامهم المكذبين، وستمضي سنته اليوم كذلك، فينجيكم وينصركم ويهلك المكذبين أعداءكم، وإن ارتبتم -في الأمر- فسيروا في الأرض، وقفوا على آثار الهالكين، وانظروا كيف كانت عاقبتهم.ثم قال تعالى: هذا الذي ذكرت في هذه الآيات هو بيان للناس يتبينون به الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وهو هدىً يهتدون به إلى سبل السلام، وموعظة يتعظ بها المتقون لاستعدادهم بإيمانهم وتقواهم للاتعاظ، فيطيعون الله ورسوله فينجون ويفلحون، هذا ما تضمنته الآيتان: الأولى والثانية.وأما الآيتان: الثالثة والرابعة فقد تضمنتا تعزية الرب تعالى للمؤمنين ] بمعنى: أنه يحملهم على الصبر [ تضمنت تعزية الرب تعالى للمؤمنين فيما أصابهم يوم أحد، إذ قال تعالى مخاطباً لهم: وَلا تَهِنُوا [آل عمران:139]، أي: لا تضعفوا فتقعدوا عن الجهاد والعمل، ولا تحزنوا على ما فاتكم من رجالكم، وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، أي: الغالبون لأعدائكم المنتصرون عليهم، وذلك فيما مضى وفيما هو آتٍ مستقبلاً، بشرط إيمانكم وتقواكم، واعلموا أنه إن يمسسكم قرح بموتٍ أو جراحات لا ينبغي أن يكون ذلك موهناً لكم، قاعداً بكم عن مواصلة الجهاد؛ فإن عدوكم قد مسه قرح مثله، وذلك في معركة بدر، والحرب سجال، يوم لكم ويوم عليكم، وهي سنة من سنن ربكم في الحياة، هذا معنى قوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].ثم بعد هذا العزاء الكريم الحكيم ذكر تعالى لهم علة هذا الحدث الجلل والسر فيه وقال: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] ] أي: ما كانت هذه المعركة لغير حكمة، وإنما كانت مقصودة لهذا البيان [ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، أي: ليظهر بهذا الحادث المؤلم إيمان المؤمنين، وفعلاً فالمنافقون رجعوا من الطريق بزعامة رئيسهم المنافق الأكبر عبد الله بن أبي ابن سلول -عليه لعائن الله- والمؤمنون واصلوا سيرهم وخاضوا معركتهم، فظهر إيمانهم واتخذ الله منهم شهداء ]، ولولا الهزيمة لم يكن بيننا شهيد أبداً، إنها حكمة الله تعالى، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140].قال: [ واتخذ الله منهم شهداء، وكانوا نحواً من سبعين شهيداً، منهم أربعة من المهاجرين وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ]، ثم عبد الله بن جحش صهر النبي صلى الله عليه وسلم وابن عمته، ثم عثمان بن شماس [ وكانوا نحواً من سبعين شهيداً، منهم أربعة من المهاجرين وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومصعب بن عمير ]، وقبره الآن موجود بجوار قبر حمزة، ومصعب هذا كان شاباً لأبوين لم ينجبا سواه، وقد كانوا يكسونه الحرير وأفضل الملابس، ولما أن دخل في الإسلام وآمن بالله وبلقائه وبرسوله تغير حاله، قال أحد الصحابة: لقد رأيته يرتدي جلد شاة في مكة، وقد استشهد في أحد فما وجد الرسول ما يكفنه به إلا ثوباً واحداً غليظاً من جلد، إن غطَّى به رأسه انكشف نصفه الأسفل، وإن غطَّى أسفله انكشف رأسه، فجيء بالعشب والنبات ووضعوه على رجليه، وما إن هاجر إلى المدينة قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وطاف بهذه الديار حتى دخل الإيمان إلى كل دار من دور الأنصار، وصبر ففاز رضي الله عنه وأرضاه، ونحن ما يمسنا من هذا شيء ومع ذلك نُعرض عن ذكر الله والعياذ بالله!قال: [ والباقون من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين. وقوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:141]، أي: أوجد هذا الذي أوجده في أحد من جهاد وانكسار تخليصاً للمؤمنين من ذنوبهم وتطهيراً لهم ليصفوا الصفاء الكامل، ويمحق الكافرين بإذهابهم وإنهاء وجودهم ]. وهذا تدبير العليم الحكيم، والآن لمَ هبط المسلمون واستعمرتهم أوروبا والغرب؟! لمَ فعل الله هذا؟! ليمحص الله الذين آمنوا، إذ لا يحدث حادث في الكون إلا بعلم الله وعلى وفق سننه سبحانه وتعالى.قال: [ إن هذا الدرس نفعَ المؤمنين فيما بعد، فلم يخرجوا عن طاعة نبيهم، وبذلك توالت انتصاراتهم حتى أذهبوا ريح الكفر والكافرين من كل أرض الجزيرة ]، أي: أن هذه الهزيمة التي كانت في أحد كان لها أثرها الطيب في موالاة الجهاد والانتصارات، وبيان ذلك: أن العلماء قالوا: لو أنهم اغتروا بكون النبي بينهم، وبكونهم مؤمنين يقاتلون في سبيل الله، وأنهم لن ينهزموا، سواء تسلحوا أو رموا بالسلاح، أخذوا بالحيطة أو لم يأخذوا بها، لو قالوا هذا ما انتصروا في المستقبل في أي معركة من المعارك، لكن علمهم الله أنهم رغم أنهم مع نبيهم، ويقاتلون في سبيل الله تعالى، وهم المؤمنون الصادقون، إذا خرجوا عن سنته في الانتصار وتعرضوا للهزيمة هزمهم وأذلهم.وقد ذكرت لكم أيضاً رؤيا منامية ذكرها الشيخ رشيد رضا -تغمده الله برحمته- في المنار فقال: رأى شيخنا محمد عبده -رحمة الله عليه- النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو راجع من أحد إلى المدينة على بغلته، والمؤمنون وراءه، وهو يقول صلى الله عليه وسلم: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة على النصر! وهو والله كذلك، إذ لو اغتر المؤمنون بإيمانهم، وأنهم أولياء الله تعالى، حملهم ذلك على الإعراض عن سنن الله، وعدم الأخذ بما وضع الله من السنن في هذا الكون، لا بد وأن ينكسروا ويتحطموا، إذ الإيمان يلزم أصحابه بألا يتركوا سنة من سننه الله تعالى، فكيف يتركون سنناً واجبة في النصر ثم يطلبون الانتصار؟! فهذا درس للمسلمين، وقد استفاد من ذلك أصحاب رسول الله وأولادهم في خلال خمسة وعشرين سنة فقط، حيث قد تم لهم النصر في العالم كله، من إندونيسيا إلى ما وراء نهر السند؛ لأنهم تربوا على هذه التربية الإلهية.قال: [ إن هذا الدرس نفع المؤمنين فيما بعد، فلم يخرجوا عن طاعة نبيهم، وبذلك توالت انتصاراتهم حتى أذهبوا ريح الكفر والكافرين من كل أرض الجزيرة ]، إذ ما مات صلى الله عليه وسلم وفي الجزيرة من يعبد غير الله.
    هداية الآيات
    قال: [ هداية الآيات ]، فهيا نتدبر هذه الآيات، فنسمعكموها مرة أخرى ونذكر الهداية وتأملوا من أين استنبطت وأخذت؟ قال تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:137-141].قال المؤلف: [ من هداية الآيات: أولاً: عاقبة المكذبين بدعوة الحق الخسار والوبال ]، أي: عاقبة المكذبين بدعوة الحق الخسران والبوار وإلى يوم القيامة. قال: [ ثانياً: في آيات القرآن الهدى والبيان والمواعظ لمن كان من أهل الإيمان والتقوى ]، أما الذين ما آمنوا وما اتقوا فهم عميان، وأعظم من ذلك أنهم أموات، أو أحياء يمشون في الظلام، وبالتالي كيف يهتدون؟! إما أن نقول: أموات لأن القرآن روح، وهم قد فقدوا الروح فماتوا، فهم يعيشون حياة البهائم، والنور هو القرآن الذي أعرضوا عنه وكفروا به، فهم يمشون في الظلام فكيف يهتدون؟! ومن أراد دليلاً على ذلك فلينظر إلى العالم الإسلامي وهبوطه تتجلى له هذه الحقيقة، إذ العالم الإسلامي لا يحيا حياة حقيقية، واليهود يسخرون منه.قال: [ ثالثاً: أهل الإيمان هم الأعلون في الدنيا والآخرة ]، أي: أهل الإيمان الحق، وكلمة المؤمن معناه: المتأصل في إيمانه العريق فيه، لا مجرد نسبة أو يقول: أنا مؤمن.إذاً: أهل الإيمان هم الأعلون في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا هم الأعلون بشهادة الله تعالى، وفي الآخرة هم في الجنات والكفار في السفلى من الدركات والعياذ بالله.قال: [ رابعاً: الحياة دول وتارات، فليقابلها المؤمن بالشكر والصبر ]، أي: إن كانت رخاءً وأمناً وعافية فليقابلها المؤمن بشكر الله تعالى ليلاً ونهاراً، وذلك بلسانه وبجوارحه وبقلبه، وإن جاءت البلوى والعذاب والفقر والخوف والألم فليقابلها المؤمن بالصبر، وهو فائز في كلا الحالتين.فيوم لنا ويوم علينا ويوم نُساء فيه ويوم نسروالحرب سجال والدنيا دول وتارات، يعني: مرات، فيجب أن يقابلها المؤمن بالشكر والصبر، فإن كان الموقف موقف سعادة فليكثر من شكر الله عز وجل، وإن كان موقف شقاء فليصبر ولا يخرج عن طاعة الله تعالى وذكره وعبادته حتى يفرج الله ما به. قال: [ خامساً: الفتن تمحص الرجال ]، والفتنة هي التي يُفتن بها الناس في أموالهم وفي أبدانهم وفي عقائدهم، ومن شأن هذه الفتن أنها تمحص الرجال الصادقين فتظهر كمالاتهم، وتودي وتهلك العاجزين الجزعين، ولذا قال المؤلف: [ وتودي بحياة العاجزين الجزعين ]، فهذه هداية الله عز وجل من هذه الآيات. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #200
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,506

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة آل عمران - (58)
    الحلقة (199)

    تفسير سورة آل عمران (62)


    أنكر الله على عباده المؤمنين ظنهم أنهم سيدخلون الجنة بمجرد الإيمان ودون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد، بل لابد لهم من الابتلاء تمحيصاً لهم وإظهاراً للصادقين منهم في دعوى الإيمان والكافرين فيها، وإظهاراً للصابرين الثابتين والجزعين المرتدين، ثم عاب الله عليهم قلة صبرهم وانهزامهم في معركة أحد، مذكراً لهم بتمنيات من لم يحضروا بدراً للقتال حتى يحوزوا ما حازه من سبقهم، وانكشافهم عند وقوع القتال في أحد.
    تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة...)
    إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل القرآن العظيم؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الأربع، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:142-145].قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [آل عمران:142]، أي: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة دار السلام، دار النعيم المقيم التي سقفها عرش الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه، و(أل) هنا في (الجنة) للعهد، وهذا الحسبان باطل، والاستفهام هنا إنكاري. وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، وعلم الله تعالى هنا علم ظهور وانكشاف، أما العلم الأزلي القديم فقد علم الله أهل الجنة وأهل النار، ولهم خلق الجنة والنار. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ [آل عمران:142]، وخاضوا المعارك في بدر وفي أحد، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، على إيمانهم وتقواهم وجهادهم وحبهم لرسولهم، وبالتالي ففرض الله الجهاد عليكم من أجل أن يكشف النقاب ويزيح الستار عن الواقع.إذاً: فلا بد من الابتلاء والامتحان والاختبار، إذ قد فرض الله الجهاد وقدَّره على عباده ليظهر صدق إيمانهم وصبرهم، أو يظهر العكس، أي: يظهر نفاقهم وكفرهم وعدم ثباتهم.
    تفسير قوله تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه...)
    قال تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143].قوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ [آل عمران:143]، وهذا يخص الذين تأسفوا عن عدم حضورهم غزوة بدر، إذ قد علمنا يقيناً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلن التعبئة العامة في بدر، وإنما ذكر هذا الخبر: أن عيراً لقريش قد خرجت من الشام، فهيا بنا نخرج لعل الله تعالى يرزقنا إياها، فمن شاء خرج ومن شاء لم يخرج، فالذين خرجوا فازوا أولاً بذلكم اللقب الذي لا يُنسى: ( وما يدريك لعل الله قد نظر إلى أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )، وفازوا بالغنائم، وفازوا بشفاء صدورهم من أعدائهم، إذ قتلوهم وأسروهم، وهناك من المؤمنين من لم يخرج إلى بدر، فتأسف وتحسر وتألم، وتمنى أن لو يأتي غزو آخر لكان أول من يخرج، وأول من يستشهد إن شاء الله تعالى، وهذا معنى قوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ [آل عمران:143]، أي: في المعركة، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، فلِمَ تهربون؟ ولمَ تفرون؟ ولمَ تحجمون؟ ولمَ تقولون وتقولون وقد كنتم تمنيتم ذلك وأراكم الله فقال: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]؟ وهذا بعد وقوع الهزيمة؛ إذ قد علما أن النصر في أول النهار كان للرسول والمؤمنين؛ لأن القيادة حكيمة، والترتيب كان عجيباً، لكن لما عصى الرماة أمر رسول الله وهبطوا من الجبل، واحتل خالد رضي الله عنه مراكزهم الدفاعية ووقع المسلمون بين فكي مقراظ فكانت الهزيمة، وشاهدوا الموت بأعينهم، فقال تعالى مصوراً ذلك: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، فليس من حقكم أن تفروا وتنهزموا وقد كنتم تطلبون الشهادة وتتمنونها، وقد ثبت من ثبت، واستشهد من استشهد.
    تفسير قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل...)
    قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]قوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]، وذلك أن ابن قمئة -أقمأه الله- ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بحجر فشج وجهه وكسر رباعيته، وصاح: قتلت محمداً، والشيطان -عليه لعائن الله- استغل هذه الفرصة وصاح: محمد قد قتل، وانتشر الخبر في الصفوف المصابة بالهزيمة، فوقع الذي وقع، فمنهم من قال: هيا بنا إلى ابن أبي يأخذ لنا عهوداً ومواثيق مع أبي سفيان ونعود إلى ديننا، ومنهم من قال: إذا مات محمد فرب محمد لا يموت، فلمَ الهزيمة والرضا بالكفر بعد الإيمان؟! وعلى كل حال كانت الواقعة ذات حسرة عظيمة، وحسبنا أن يقول الله تعالى لنا ولهم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، أي: قد ماتت الرسل قبله ومضت، وهو أيضاً والله سيموت ويمضي. أَفَإِينْ مَاتَ [آل عمران:144]، أي: موتة حسب سنة الله، أو قتل في المعركة، انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]، مرتدين كافرين، وهذا هو الذي أصاب ضعاف الإيمان، وأصاب المنافقين الطابور الخامس.ثم قال تعالى: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ [آل عمران:144]، منتكساً مرتداً، فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:144]، إي والله لن يضر الله شيئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، على صبرهم وشكرهم، ومن باب أولى سيجزي الكافرين بمر العذاب وأشده وأليمه، والكافر ضد الشاكر.
    تفسير قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله...)
    قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145].ثم قال تعالى مقرراً هذه الحقيقة: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:145]، أي: يستحيل أن تموت نفس بدون إذن الله تعالى، وإن شئتم حلفنا لكم بالله، أبعد إخبار الله تعالى إخبار؟! وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ [آل عمران:145]، أي: ما من الأنفس، أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:145] بموتها، إذ هو الذي حدد موعدها وقرره وسجله في كتاب المقادير، فوالله لا تتأخر بلحظة ولا تتقدم بأخرى أبداً، فلو ما كان هذا افلآن يموت منا خمسين أو ستين، فهل نملك نحن ألا نموت؟ الآن في هذه اللحظة يموت أناس، فيتململ الرجل وتخرج نفسه، لكن ما دامت الأرواح والأنفس قد قُدِّر لها مواعيد لموتها، فيستحيل على البشر والجن والملائكة أن يقدموا أو يؤخروا، ومن أجل ذلك انتظمت الحياة ومشت إلى نهايتها، إذ لو كان الموت يأتي فجأة بدون تقدير ولا تقرير ولا قضاء ولا قدر، فإن الحياة لا تنتظم ولا ساعة واحدة. وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145]، أي: بأجل معين ووقت محدد باللحظة والساعة والدقيقة، وقد كشفت الأيام عن هذه الحقيقة، فقد حاول بعض المبطلين إحياء زعمائهم فما استطاعوا ولا ساعة واحدة، فانكشف عوارهم وآمنوا بأن النفس البشرية لا تموت إلا إذا أذن الله بموتها؛ فحدد الله الزمان والمكان، ووضع الأسباب أيضاً والآلات التي تموت بها، وهذه حقيقة تبقى في نفوسنا لا تتغير، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145].ثم قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران:145]، أي: من ثواب الدنيا، وهذا أيضاً موقوف على سنة الله عز وجل في طلب الدنيا، فأنت تريد الدنيا وتتمناها، وأنت صعلوك مثلي لا تقوم ولا تقعد، ولا تبيع ولا تشتري، فكيف تريدها إذاً يا أخي؟! كذلك ثواب الآخرة، فأنت تريد الجنة والحور العين بدون صلاة ولا رباط ولا جهاد! إن ذلك لا يتحقق، ولذلك فافهموا هذا، فإذا أراد العبد الدنيا وعمل بسنن الله تعالى للحصول عليها، فإنه يُعطى منها بقدر ما كتب له، وإن أراد الآخرة ورغب فيها وأحبها فإن الله يعطيه ثوابها، والحمد لله فقد قال تعالى: (ثواب)، والثواب الجزاء على العمل، وليس مجرد أمنية. وهناك آية في سورة هود فاصلة في هذه القضية، وهي قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15]، فكونك فرعون أو طاغية أو كافراً أو مجرماً فهذا لا يجعل الله تعالى يخيبك في زراعتك أو في صناعتك أو في تجارتك أو في شيء آخر. مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15]، فلا تفهم أن الله يحرم الكافر نتاج مزرعته أو مصنعه لأنه كافر، وإنما يعطيه جزاء عمله إذا كان يسهر الليالي، ويربط الحزام على بطنه، ويواصل العمل، وأما إذا كان فاشلاً غير عامل فلا يعطيه إلا على قدر عمله، كذلك حتى لا تقول: كيف أن الله يغني الكفار؟ كيف أن الله ينبت زرعهم؟ إن هذا سؤال باطل، إذ إن الله عز وجل يعطيهم جزاء أعمالهم وإن كانوا صعاليك وأحداثاً وفقراء يشحتون، وقد رأيناهم، ففي فرنسا الصعاليك يشحتون ولا يعملون، لا لأنهم كفروا فأفقرهم، وإنما لأنهم لم يعملوا، ولو عملوا وسهروا وأداروا المصانع لأعطاهم على قدر أعمالهم بدون زيادة. فكذلك الآية هنا: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران:145]، أي: أراد ثواب الدنيا بعمله، وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ [آل عمران:145]، أي: جزاء عمله في الدار الآخرة، نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145] جزاء آخر. فهيا نكن من الشاكرين، ولنبدأ من هذه الليلة، فإذا أكلت أو شربت أو مشيت أو قعدت أو نمت أو استيقظت، فأنت دائماً: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، فهو سبحانه قد أعطاك صحة في بدنك، في عقلك، في فهمك، في علمك، وأعطاك أيضاً قوتاً زائداً أو مالاً كثيراً، فاشكر الله تعالى، وأنفق من ذلك الذي أعطاك لله تعالى، تكن بذلك قطعاً من الشاكرين، وسيكون جزاؤك فوق الثواب المعد لك، إذ الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين ولم يقتل؛ لأن الله أنزل عليه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، فقبل نزول هذه الآية كان على باب حجرة الرسول حرس ليس كحرسنا اليوم بالراتب، وإنما كان كل مؤمن يقول: نمشي نحرس نبينا ساعة، فيتناوبون في الحراسة، ولا تراهم إلا راكعين ساجدين حول الحجرة والرسول يعلم بذلك؛ لأن أعداءه من اليهود والمنافقين والمشركين يضمرون له شراً عليه الصلاة والسلام. فلما نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، قال للحرس: عودوا إلى دياركم، فقد أغناني الله عنكم، لكن قد يقول قائل: وكيف إذاً انزعج الناس لما سمعوا أن محمداً قد قتل؟ والجواب: انزعجوا لأنها الفتنة، ولأن القائل بهذا منافقون وضعفاء فتتخلخل نفوس السامعين.قال: توفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في وقت دخوله المدينة مهاجراً، أي: أن يوم دخوله كان يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، وذلك ضحىً حين اشتد الحر، ودفن يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء. قال أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، ولما كان اليوم الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من دفن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا. أي: ما إن نفضنا أيدينا من التراب من دفنه عليه الصلاة والسلام حتى أنكرنا قلوبنا، أو ليست هي القلوب التي كانت أمس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنتم يا أهل الدرس اتركوا الدرس وتخلوا عنه وانظروا إلى قلوبكم إذا كنتم حذاقاً، والله لتجدنها تبدلت؛ لأن الحياة مع الله كالحياة مع رسول الله، حياة خلاف الحياة مع غير الله ورسوله، مع الفسقة والماجنين، ومع الدنيا وطلابها.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات
    قال المؤلف غفر الله لنا وله ورحمنا وإياه: [ معنى الآيات: ما زال السياق متعلقاً بغزوة أحد، فأنكر تعالى على المؤمنين ظنهم أنهم بمجرد إيمانهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد؛ تمحيصاً لهم وإظهاراً للصادقين منهم في دعوى الإيمان والكاذبين فيها، كما يظهر الصابرين الثابتين والجزعين المرتدين، فقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142] ]. وهذا الحسبان باطل؛ لأنه لابد من الابتلاء وإظهار الغطاء [ ثم عابهم تعالى على قلة صبرهم وعلى انهزامهم في المعركة، مذكراً إياهم بتمنيات الذين لم يحضروا وقعة بدر، وفاتهم فيها ما حازه من حضرها من الأجر والغنيمة، بأنهم إذا قدر لهم قتال في يوم ما من الأيام يبلون فيه البلاء الحسن، فلما قدر تعالى ذلك لهم في وقعة أحد جزعوا وما صبروا وفروا منهزمين، فقال تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143] ]. وكان منهم من وفى بما وعد فقاتل حتى استشهد، وهو أنس بن النضر عم أنس بن مالك، فإنه لما رأى المسلمين قد انكشفوا قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء، وباشر القتال وهو يقول: إني لأجد ريح الجنة، إني لأجد ريح الجنة، ولما قتل وِجد به أكثر من ثمانين طعنة برمح وضربة بسيف، ولم يستطع أحد أن يعرفه إلا أخته، فقد عرفته بعلامة في أصبعه. [ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، أي: فلمَ انهزمتم، وما وفيتم ما وعدتم أنفسكم به؟ هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية.وأما الآية الثالث فقد تضمنت عتاباً شديداً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اشتدت المعركة، وحمي وطيسها، واستحرَّ القتل في المؤمنين نتيجة خلو ظهورهم من الرماة الذين كانوا يحمونهم من ورائهم، وضرب ابن قمئة -أقمأه الله- رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في وجهه فشجه وكسر رباعيته، وأعلن أنه قتل محمداً، فانكشف المسلمون وانهزموا، وقال من قال منهم: لمَ نقاتل وقد مات رسول الله؟! وقال بعض المنافقين: نبعث إلى ابن أبي يأتي يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان ونعود إلى دين قومنا! فقال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، وما دام رسولاً كغيره من الرسل، وقد مات الرسل قبله، فلمَ ينكر موته أو يندهش له إذاً؟! بعد تقرير هذه الحقيقة العلمية الثابتة أنكر تعالى بشدة على أولئك الذين سمعوا صرخة إبليس في المعركة (قتل محمد) ففروا هاربين إلى المدينة، ومنهم من أعلن ردته والعياذ بالله في صراحة وهم المنافقون، فقال تعالى: أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فعاتبهم منكراً على المنهزمين والمرتدين من المنافقين ردتهم، وأعلمهم أن ارتداد من ارتد أو يرتد لن يضر الله تعالى شيئاً، فالله غني عن إيمانهم ونصرهم، وأنه تعالى سيجزي الثابتين على إيمانهم وطاعة ربهم وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيجزيهم دنيا وأخرى بأعظم الأجر وأحسن المثوبات، هذا ما تضمنته الآية الثالثة.أما الآية الرابعة فقد تضمنت حقيقتين علميتين: الأولى: أن موت الإنسان متوقف حصوله على إذن الله خالقه ومالكه؛ فلا يموت أحد بدون علم الله تعالى بذلك، فلم يكن لملك الموت أن يقبض روح إنسان قبل إذن الله تعالى له بذلك، وشيء آخر: وهو أن موت كل إنسان قد ضبط تاريخ وفاته باللحظة فضلاً عن اليوم والساعة، وذلك في كتاب خاص ] وهو كتاب المقادير، أي: اللوح المحفوظ [ فليس من الممكن أن يتقدم أجل الإنسان أو يتأخر بحال من الأحوال، هذه حقيقة يجب أن تعلم من قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145] ] أي: مؤقتاً ليس بمبهم.قال: [ والثانية ] أي: الحقيقة الثانية التي يجب أن نعلمها وقد علمناها [ أن من دخل المعركة يقاتل باسم الله، فإن كان يريد بقتاله ثواب الدنيا فالله عز وجل يؤته من الدنيا ما قدره له، وليس له من ثواب الآخرة شيء، وإن كان يريد ثواب الآخرة لا غير، فالله عز وجل يعطيه في الدنيا ما كتب له، ويعطيه ثواب الآخرة وهو الجنة وما فيها من نعيم مقيم، وأن الله تعالى سيجزي الشاكرين بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. هذه الحقيقة التي تضمنها قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145] ]. وهنا تعليق قال: رثت صفية بنت عبد المطلب -والرثاء: البكاء على الميت- عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم بأبيات من الشعر دلت على مدى ما أصاب المؤمنون من حزن وألم بفراق نبيهم صلى الله عليه وسلم، حتى أن عمر -على جلالته- قال على المنبر والسيف بيده: محمد ما مات ولن يموت، وكيف يموت والمنافقون ما زال منهم فلان وفلان؟! وكان أبو بكر في العوالي فجاء فدخل الحجرة فوجد الرسول مسجى في كفنه، فكشف عنه وقبله بين عينيه وقال: ( طبت يا رسول الله حياً وميتاً )، ثم خرج فوجد عمر هائجاً فقال له: اهدأ يا عمر، ثم صعد المنبر وقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فهدأ الموقف تماماً، فكان رضي الله عنه حكيماً وأهله الله لخلافة رسوله صلى الله عليه وسلم.ونعود إلى الأبيات التي قالتها صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت رضي الله عنها: أفاطم صلى الله رب محمد على جدث أمسى بيثرب ثاوياً تخاطب فاطمة بنت الرسول، فهي تشاركها في حزنها وألمها. فدىً لرسول الله أمي وخالي وعمي وآبائي ونفسي ومالي عرفتم بمَ فدت رسول الله؟ ما تركت شيئاً حتى نفسها. فلو أن رب الناس أبقى نبينا سعدنا ولكن أمر الله قد كان ماضياً هذه هي صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم.
    هداية الآيات
    قال المؤلف: [ هداية الآيات ] هذه الآيات الأربع فيها هدايات، إذ والله لا تخلو آية من هداية، تهدي إلى أين؟ إلى ملاعب الكرة؟! إلى المقاهي والمراقص؟! إنها تهدي أصحابها إلى رضا الله وحبه والنعيم المقيم في جواره بالاستقامة عقيدة وقولاً وعملاً، وهذا هو الصراط المفضي بالسالكين إلى دار السلام. قال: [ من هداية الآيات: أولاً: الابتلاء بالتكاليف الشرعية الصعبة منها والسهلة من ضروريات الإيمان ]، ولا تفهم أبداً أنك تؤمن وتخالف ربك؛ لأن بعض الغافلين ممن يدخلون في الإسلام يبقى على الخمر والزنا والباطل، وهذا لا ينفع، إذ لابد من الابتلاء، وأول شيء أن تغتسل بالماء البارد إذا ما عندك ساخن، وأن تناجي ربك خمس مرات في اليوم والليلة، فتأتيه إلى بيته أو إلى مكان طاهر وتناجيه، ثم بعد ذلك تؤمن بكل ما أمرك بالإيمان به، أطاقه عقلك أو عجز عنه، ثم بعد ذلك تحل ما أحل، وتحرم ما حرم، وتواصل ذلك إلى أن تلقى الله عز وجل، أما أن تقول: أنا آمنت فقط، ثم تمرح كما يحلو لك، والله لا يصح هذا الإيمان أبداً، فهذه هي الهداية الأولى، وقد قال تعالى وقوله الحق: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]. [ ثانياً: تقرير رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ]، فقد قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144]، أي: تقرير للرسالة، إذ إنه ليس بتاجر، ولا بساحر، وإنما قال: رسول فقط، قال: [ وبشريته المفضلة ] أي: أنه بشر قد يموت وقد يقتل كما يقتل البشر ويموتون، ولكنها بشرية مفضلة على كل بشرية، قال: [ وموتته المؤلمة لكل مؤمن ]. [ ثالثاً: الجهاد وخوض المعارك لا يقدم أجل العبد، والفرار من الجهاد لا يؤخره أيضاً ]؛ لأن الله قال: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145]. [ رابعاً: ثواب الأعمال موقوف على نية العاملين وحسن قصدهم ]، أي: أن الثواب على الأعمال متوقف على النية وحسن القصد، فمن جاهد للمال فإنه يثاب بالجنة على جهاده فيعطى المال، ومن جاهد لأجل إعلاء كلمة الله فإنه يعطى كذلك الجنة، وبالتالي فثواب الأعمال كلها موقوف على النية وحسن القصد، حتى لو أن أناساً في المسجد إذا لم يريدوا بعملهم المشروع وجه الله وثواب الله فلا يعطون تعطى إلا ثواب الدنيا فقط. لكن قد يقول بعض الناس: نحن الآن موظفون نأخذ الراتب، وبالتالي ما لنا أجر، فكيف ذلك؟! فأقول: إذا لم يكن عندكم نية والله لا أجر لكم، إذ إنكم قد أخذتم أجركم، وإن كنتم قد وقفتم حياتكم لله من أول اليوم، فكل أعمالكم لله، واقرءوا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، فالمؤمن كما علمتم يتزوج لوجه الله، ويطلق والله لأجل الله، ويبيع ويشتري والله من أجل الله، ويطلب وظيفة ويعمل بالليل أو بالنهار والله من أجل الله، وبالتالي فحياته كلها وقف لله تعالى؛ لأنه إذا عمل ليوفر طعاماً أو شراباً فهو من أجل أن يعبد الله؛ لأنه إذا لم يأكل أو يشرب فقد يموت، وكذلك إذا طلب كسوة يتقي بها الحر أو البرد فهي من أجل الله، وهكذا حياة المؤمن كلها وقف على الله تعالى، فتراه يبني في جدار لله تعالى، وآخر يهدم في جدار لأجل الله حتى لا يؤذي مؤمناً. [ خامساً: فضيلة الشكر بالثبات على الإيمان والطاعة لله ورسوله في الأمر والنهي ]، وسنجزي الشاكرين بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. اللهم يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا مالك الملك، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك لإخواننا المؤمنين في ألبانيا وفي البوسنة والهرسك وفي غيرها من تلك الديار التي يضايقون فيها ويقتلون ويعذبون من أجل لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم تولهم يا رب ولا تتركهم، اللهم أنزل بأعدائهم البلاء والشقاء والفتنة يا رب العالمين، اللهم اصرفهم عن عبادك المؤمنين، واجعل كيدهم ومكرهم فيهم وبينهم، وانصر إخواننا يا رب العالمين بما تشاء أن تنصرهم به، وإن كنا مقصرين وإن كنا مضيعين وإن كنا مهملين فلا تنظر إلى أعمالنا يا ربنا، فإننا عبيدك وأبناء عبيدك وأبناء إمائك فانصر يا ربنا إخواننا المؤمنين، اللهم انصرهم وأعزهم وسلط على أعدائهم من يؤذيهم، وسلط عليهم من يهزمهم يا رب العالمين، واشف اللهم مرضى إخواننا، فإننا لنا مرضى في البيوت وفي المشافي وفيما بيننا فاشفنا يا ربنا إنك ولي ذلك والقادر عليه. وصلى اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •