إعداد :د . محمد يسري



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يقوم منهج التربية والتزكية عند أهل السنة والجماعة على المعالم الآتية:


الربانية

إن الربانية هي تحقق بتلك الصلة الوثيقة بالله تعالى، أداءً للفرائض، واجتنابًا للمحارم، واستدامة للذكر، وعناية بالشكر، وتحليًا بالصبر، وإيثارًا للإيثار، واتشاحًا باليقين، وتلذذًا بالصيام، وتنعمًا بالقيام، وتربية بصغار العلم قبل كباره، قال تعالى: كونوا ربانيين {آل عمران:79}، أولئك الربانيون، فهم العلماء العاملون، والحكماء المربون، والفقهاء المعلمون.
إن سياج الربانية يقيم في قلب المتربي فرقانًا بين الحق والباطل، وينشئ حاجزًا بينه وبين مضلات الفتن، ويضبط السلوك ويقيم الجوارح على رعاية السنن والهدي الظاهر، وحسن السمت، وملازمة الأدب، وإذا كان الإسلام هو الدواء الناجع لمشاكل البشرية، فإن العلماء الربانيين الطائفة القائمة على تحقيق ذلك .



الوسطية

فكما أن أهل السنة وسط بين فرق الأمة في مسائل الاعتقاد، فهم أيضًا وسط في باب التربية والسلوك بين طرفي الإفراط والتفريط.
وهم وسط في باب الإخلاص بين المرائين والملامية.
وهم وسط بين المشتغلين بإقامة العبادات القلبية دون العملية كبعض الصوفية، والمشتغلين بإقامة رسوم العبادات الظاهرة فقط كبعض المتفقهة، فكانوا أهل العبادة الظاهرة والباطنة.

وهم وسط بين من يريد مِن الله ولا يريد الله، وبين من يريد الله ولا يريد من الله، فهم يريدون رضا الله وجنته، وأما غيرهم فمنهم من يريد رضا الله ولا يريد جنته، كحال كثير من المتصوفة، ومنهم من يريد نعيم الجنة المخلوق، ولا يريد رضا الله كحال كثير من المتكلمة.

وهم وسط بين أصحاب التفريط والاستهتار والإسراف والمبالغة في المتع والترف، وأصحاب الإفراط في التصوف والرهبانية والتشديد على النفس وتعذيب البدن.. فلا إسراف في تنعيم الأبدان ولا تنطع وحرمان.



السلفية

ومنهج التربية والتزكية يقوم على موافقة نصوص الشارع في السلوك لفظًا ومعنى، فليس أهل السنة من الذين وافقوا النصوص في اللفظ دون المعنى كالباطنية، وليسوا كالذين تكلموا في المعنى بألفاظ مبتدعة ككثير من الصوفية، وليسوا كالذين خالفوا النصوص لفظًا ومعنى كالفلاسفة والملاحدة، وإنما هم - بحمد الله - أتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المهديين، الذين أقاموا معالم السلوك وتزكية النفوس، وتحققوا بالمعاني وتمسكوا بالمباني، علمًا وحالاً، وعملاً ومقالاً، فلا يشتبه لديهم الزهد الشرعي بالعجز والكسل، ولا التوكل بالتواكل، ولا الورع الشرعي بالبدعي.


الإيجابية

وهي تعني المبادرة العملية على وجه السداد والمقاربة، لا المثالية أو السلبية، فهي منهج الواقعية الإيجابية، والتي تعنى القصد في الأمر كله؛ ومراعاة أحوال المكلفين، وتحقيق الملاءمة والمواءمة بين طبيعة هذا الدين وطبيعة المكلفين، وفي الحديث: "سدِّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا".
فأولى القربات الفرائض المكتوبات، وأما تكليف النوافل المندوبات فبحسب الوسع والطاقة، و"أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"، و"المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيرًا"، والمثل الكامل في التربية والسلوك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أطهر الخلق نفسًا وأقومهم منهجًا، كما قال صلى الله عليه وسلم : "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا".

قال الحسن البصري: "إن هذا الدين دين واصب، وإنه من لا يصبر عليه يدعه، وإن الحق ثقيل، وإن الإنسان ضعيف، وكان يقال: ليأخذ أحدكم من العمل ما يطيق، فإنه لا يدري ما قدر أجله، وإن العبد إذا ركب بنفسه العنف، وكلَّف نفسه ما لا يطيق، أوشك أن يسيِّب ذلك كله، حتى لعله لا يقيم الفريضة، وإذا ركب بنفسه التيسير والتخفيف، وكلَّف نفسه ما تطيق كان أكيس، وأمنعها من العدو، وكان يقال: شر السير الحقحقة".

ومن سمات الإيجابية: الواقعية في إدراك أن تفاوت القدرات إنما هو بسبب تنوع المواهب واختلاف الاستعدادات؛ ذلك أن الله قسم الأعمال والأخلاق كما قسم الأموال والأرزاق، وعلى كلٍ أن يرضى بما فتح له فيه، وأفضل الأعمال بعد الفرائض يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه.

قال شيخ الإسلام: "وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر، فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل، ويحصل له أفضل مما يحصل من الفاضل، فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له، وهو في حقه أفضل، ولا يطلب ما هو أفضل مطلقًا، إذا كان متعذرًا في حقة أو متعسرًا يفوته ما هو أفضل له وأنفع".

ومن الناس من فتح الله عليه في باب دون باب، ومنهم من فتح الله عليه في كل باب، وضرب له في كل خير بسهم، وما على من دعي يوم القيامة من أبواب الجنة الثمانية من حرج، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وفي الجملة فإن التربية أصل ضخم وأساس متين، لا يتم بدونه تغيير، ولا تنجح بدونه دعوة، وليس له غاية ينتهي عندها، ولا يستغني عنها الكبير فضلاً عن الصغير، ولا المنتهي فضلاً عن المبتدي.



وللتربية أنواع متعددة:

فتربية علمية تؤهل القادرين، وتبني ملكات الفهم، وتضبط قواعد العلم، قال تعالى: وقل رب زدني علما {طه:114}.
وأخرى وجدانية تعنى بالمشاعر، وترعى الخواطر، وتوقظ القلوب، قال تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم {النور:63}.
وثالثة جهادية تحرك إيمان الصادقين، لتدافع عن ديار المسلمين، قال تعالى: وإن جندنا لهم الغالبون {الصافات:173}.
ورابعة إيمانية تصون الإيمان أن يبلى، واليقين أن يُزوى، والفرد أن يتردى، قال تعالى: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا {البقرة:137}.
وللتربية مستويات ومجالات؛ منها ما يوجه للأمة بعامة، ومنها ما يوجه لقاعدة الدعوة بخاصة
ووسائلها جميعًا أعم من الدرس والموعظة والصحبة والرحلة، ولكن جوهرها القدوة!.


آفات التربية

وكما أن لكل عمل عظيم آفات، فمن أخطر آفات التربية: التهوين من شأن العقيدة، وضعف التربية على معانيها، والتربية على التقليد والتعصب لراية أو شعار دون الإسلام، والمغالاة في النظرة للتربية الخاصة على حساب البلاغ المبين للدين، والاهتمام بالشكل دون المضمون، والعناية بالظاهر على حساب الباطن، وفقدان التوازن بين أنواع التربية ومجالاتها، واتخاذ الترخص الجافي منهجًا في مسائل الفقه والأحكام، أو اعتماد التنطع الغالي منهجًا في مسائل التوحيد والإيمان، وكما أن التهور والاندفاع اليائس يعكس خللاً تربويًّا، فالتثاقل والتباطؤ ينبئ عن عجز وكسل، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.