تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 3 من 6 الأولىالأولى 123456 الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 60 من 111

الموضوع: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

  1. #41
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(38)



    تلبية الفطرة في تعشق البطولة

    الموقف الأول

    في فطرة الإنسان – صغيرا أو كبيرا – ميل إلى سماع قصص البطولة ، وفي سبيل تلبية هذه الحاجة النفسية نشأ جانب كبير من الأدب العالمي الذي يعتمد في غالب الأحيان على التحليق في عالم الخيال ...

    والبطولة – هنا – هي موقف متقدم في ميدان ما من ميادين الحياة ، فهي الشجاعة في ميدان القتال ، وهي الكرم في ميدان العطاء ، وهي السماحة في ميدان الحقوق ، وهي العفو في ميدان القدرة ... وهي وهي ...

    إن تلك المواقف الفذة تستهوي النفس الإنسانية فتصغي إلى سماعها ، ويكون لها الأثر الكبير في النفس ، حتى ولو كانت مواقف من نسج الخيال أخذت مكانها في قصة كاتب .

    وإذا كان الأمر كذلك فإن السيرة تروي هذا الظمأ ، وتلبي حاجة النفس من واقع بعيد عن الخيال يمتاز بالصدق والواقعية ، وإن كان في كثير من المواطن أكبر من الخيال ، وهذان موقفان يعبران أصدق تعبير عن هذا :

    1- كلنا يعلم أمر ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بعد أن يئس من استجابة قريش ، وكانت النتيجة ذلك الرد السيء من أهل الطائف وأمرائها ... فقد أغروا سفهاءهم وصبيانهم بضربه بالحجارة حتى أدميت عقباه واختضبت نعلاه بالدماء .

    وجلس بعد أن غادر البلد يدعو ذلك الدعاء المشهور : اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ...

    وفي هذا الموطن يأتي جبريل وبصحبته ملك الجبال – كما في الصحيحين – ليقول له : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا به عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ... وقال له ملك الجبال : إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت . قال : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا ... (1)

    هذه البطولة في الصبر وتحمل الأذى الجسدي ، ولقد كان الأذى النفسي أكبر منه ، بطولة فريدة لا يستطيع تقديرها حق قدرها إلا من كتب له بعض المعاناة في دعوته إلى الله تعالى .

    وبطولة أخرى لا تقل عن الأولى ذلك الحلم الذي تمثل في رده على ملك الجبال .. إن جبريل وصاحبه وصلا إليه في ذروة الأسى والألم، وقد نزلا إليه بأمر الله لينزل العقوبة بأهل مكة الذين كانوا السبب فيما أصابه .. ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم تداعت إلى ذهنه أحداث الماضي خلال سنوات من المشقة والتعب والمعاناة ... إنهم يستحقون العقوبة ... ولولا ذلك لما أنزل الله ملك الجبال ... ومع ذلك لا يقبل أن تنزل بهم العقوبة ويقف حائلا دون ذلك .

    إنها بطولة دونها بطولة الميادين – وهو صلى الله عليه وسلم المجلي في كليهما – وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ... (2)

    وبطولة ثالثة .. ذلك الأمل الثابت في المستقبل ، واليقين الذي لا يتزعزع بانتصار الدعوة ... بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، إنه يقول هذا وليس هناك أي بارقة أمل ... يقول هذا وهو في موقفه ذاك لا يدري كيف يدخل مكة ثانية بعد أن خرج منها ... إنها البطولة ....





    (1)- البخاري ، كتاب بدء الخلق ، باب إذا قال أحدكم أمين والملائكة في السماء ... ( 3231 ) ، ومسلم ، كتاب الجهاد ( 1795 ) .
    (2)- البخاري ، كتاب الأدب ، باب الحذر من الغضب ( 6114 ) ، ومسلم ، كتاب البر والصلة ( 6643 ) .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #42
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(39)


    تلبية الفطرة في تعشق البطولة



    الموقف الثاني

    في أعقاب بدر ، جلس في مكة صفوان بن أمية وعمير بن وهب ، وقد قتل والد الأول في هذه المعركة ، وأسر ابن الثاني ، كان الحقد يغلي في نفسيهما، وكان الكره على أشده تجاه محمد صلى الله عليه وسلم .. وكانت بينهما اتفاقية ، عقدها هذا الكره والبغض المشترك ، يقوم عمير بموجبها باغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويقوم صفوان بتحمل دينه والنفقة على عياله إن أصابه مكروه .

    وذهب عمير لتنفيذ المهمة ، وقد سم سيفه وأعد عدته .. وأناخ بباب المسجد ، ثم دخله ، فلما رآه عمر سارع إليه وأخذ بتلابيبه ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أرسله يا عمر ، ادن يا عمير ، فدنا ثم قال : أنعموا صباحا – وكانت تحية أهل الجاهلية – فقال صلى الله عليه وسلم : قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير ، بالسلام ، تحية أهل الجنة ، فقال : أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد ...

    محاورة فيها كل العطف والحنان من الرسول الكريم .. ثم سأله : ما جاء بك ؟ قال : جئت لهذا الأسير ، قال : فما بال السيف في عنقك ؟ قال :قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئا ؟ قال : اصدقني ما الذي جئت له ؟ قال : ما جئت إلا لهذا . قال : بل قعدت أنت وصفوان في الحجر ، ثم قلت لولا دين علي ... لخرجت حتى أقتل محمداً ، والله حائل بينك وبين ذلك ... وتشهد عمير شهادة الحق وأطلق له أسيره ، وأصبح واحدا من المسلمين .

    إنه موقف إعجاب بالحلم وسعة الصدر ، إعجاب بذلك اللقاء الذي تلقاه به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يفيض حنانا وعطفا : دعه يا عمر ... ادن يا عمير ... يقول هذا وهو على علم بما جاء له .

    وأما صفوان ... فقد كان إسلامه بعد فتح مكة ، وندعه يتحدث كيف أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال صفوان : أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى صار وإنه أحب الناس إلي (1).

    بدأ صفوان بالإعجاب بالنبي صلى الله عليه وسلم من زاوية واحدة ، هي زاوية الكرم ، وإذا به أمام صورة من الكرم لم يشهدها في حياته قط ويتحول الإعجاب إلى حب.

    ويوضح لنا أنس هذا المعنى حيث يقول : إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنما بين جبلين ، فأتى قومه فقال : يا قوم أسلموا ، فإن محمدا يعطي عطاء رجل لا يخاف الفاقة ، وإن كان الرجل ليجئ إليه ما يريد إلا الدنيا ، فما يمسى حتى يكون دينه أحب إليه من الدنيا بما فيها (2).


    إن دراسة السيرة تلبي لنا هذه الحاجة النفسية بواقع صادق ، فتركن النفس فيه إلى إعجاب حق ، بعيد عن الزيف والمبالغة .







    (1)- رواه مسلم برقم ( 2313 ) .
    (2) - رواه بتمامه، أحمد في المسند ( 3/259 ) وروي مسلم القسم الأول منه برقم ( 2312 ) .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #43
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(40)

    التعرف على الجهد المبذول في إزاحة الجاهلية
    إنه مما يعرفنا – إضافة لما سبق – بقدر هذا الرسول الكريم أن نتعرف على ذلك الجهد العظيم الذي بذله -صلى الله عليه وسلم- في إزاحة الجاهلية.
    وإزاحة الجاهلية ليست أمراً سهلاً، وهذا الإزاحة متعددة المواقع:
    فهناك الإزاحة في ميدان العقيدة .
    وهناك الإزاحة في ميدان الفكر .
    وهناك الإزاحة العسكرية.
    وهناك الإزاحة الاجتماعية.
    واختار المثال لهذه الفقرة من النوع الأخير ...
    جاء الإسلام والناس طبقات، بل والطبقة الواحدة درجات، وكان من القواعد الأولى في هذا الدين : المساواة بين الناس، وإلغاء هذا التمايز الذي لا يستند إلى أمر منطقي، وأصبح في ظل الإسلام مفهوم آخر للسيادة بين الناس يوضحه قول عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-: " أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا " -يعني بلالاً-(1)، هذه السيادة التي لا يتمسك بها من يعترف الناس له بها؛ وإنما هي اعتراف لصاحب الفضل بفضله ، وهكذا غير الإسلام المفاهيم.
    ولكن هذا التغيير احتاج إلى جهد كبير، فالمسلمون -وإن اعترفوا ظاهراً بالمساواة- إلا أن تحويل هذا الاعتراف إلى واقع لم يكن أمراً ميسوراً، فكان على الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يمارس عملية التطبيق بنفسه.
    ومن هذا المنطلق بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يلغى عملياً الحواجز بين الناس في أمر الزواج، فكان يقترح على العربيات الأصيلات أن يتزوجن من الموالي، ومن ذلك أن خطب -صلى الله عليه وسلم- بنت عمته زينب بنت جحش لمولاه زيد بن حارثة.
    وترفعت زينب لشرفها وجمالها، ونزل قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ... ) [ الأحزاب /36] وانصاعت زينب لأمر الله وتم الزواج.
    ولكن الأمور لم تستقم بين الزوجين، ورغب زيد في طلاقها، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول لزيد : (أمسك عليك زوجك) ، علماً بأن الله تعالى قد أعلمه بأنها ستكون زوجاً له.
    وكانت إرادة الله تعالى أن يكون زواج زينب من زيد كَسْرَاً لحاجز كبير يتعارض مع مبادئ الإسلام ، وكانت إرادته تعالى – أيضاً – أن يكون زواج زينب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- كسراً لحاجز آخر أبطله الإسلام – وكان قائما في الجاهلية – وهو الزواج من مطلقة متبناه .
    إن هذين الأمرين الاجتماعين كان من السهل أن يأتي بهما التشريع، لكن عملية التطبيق في الواقع كانت بحاجة إلى جهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
    ولقد كان ذلك ثقيلا على نفس الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لذلك أخفى الخبر بإعلام الله له بالزواج من زينب، لأن زواجه من مطلقة متبناه أمر مستغرب في تلك البيئة، وكانت إرادة الله أن يكون إبطال هذا الأمر عملياً، فكان فيه ما فيه من الجهد النفسي والجهد الاجتماعي .
    إن سلطان الأعراف والتقاليد والعادات على الحياة الاجتماعية كبير، ولذا كان على الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يلغي منها ما يتعارض مع الإسلام إلغاءً عملياً، حتى يثبت المعنى الإسلامي الجديد مكان العرف الجاهلي الملغي.
    بل إن معرفة الجاهلية، ومعرفة الإسلام تبين لنا الجهد المبذول، والمكابدة الكبيرة التي بُذِلَتْ حتى أصبح المعنى الإسلامي هو العرف القائم(2).
    يقول العلامة أبو الحسن الندوي موضحا ذلك:
    "لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه -صلى الله عليه وسلم- في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغرب ما في تاريخ البشر، وقد كان هذا الانقلاب غريباً في كل شيء، كان غريباً في سرعته، وكان غريبا في عمقه، وكان غريبا في سعته وشموله، وكان غريبا في وضوحه وقربه إلى الفهم، فلم يكن غامضاً ككثير من الحوادث الخارقة للعادة، ولم يكن لغزاً من الألغاز، فلندرس هذا الانقلاب عملياً، ولنتعرف على مدى تأثيره في المجتمع الإنساني والتاريخ البشري".



    (1) - أخرجه البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم-، باب مناقب بلال ( 3754)
    (2) - أضواء على دراسة السيرة ص 22-24.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #44
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(41)


    تأثير الإيمان الصحيح في الأخلاق والميول





    كان الناس – عربا وعجما – يعيشون حياة جاهلية ، يسجدون فيها لكل من خلق لأجلهم ويخضع لإرادتهم وتصرفهم ، لا يثيب الطائع بجائزة ، ولا يعذب العاصي بعقوبة ولا يأمر ولا ينهي ، فكانت الديانة سطحية طافية في حياتهم ، ليس لها سلطان على أرواحهم ونفوسهم وقلوبهم ، ولا تأثير لها في أخلاقهم واجتماعهم ، كانوا يؤمنون بالله كصانع أتم عمله واعتزل وتنازل عن مملكته لأناس خلع عليهم خلعة الربوبية، فأخذوا بأيديهم أزمة الأمر وتولوا إدارة المملكة وتدبير شؤونها وتوزيع أرزاقها، إلى غير ذلك من مصالح الحكومة المنظمة ، فكان إيمانهم بالله لا يزيد على معرفة تاريخية ، وكان إيمانهم بالله وإحالتهم خلق السماوات والأرض إلى الله لا يختلف عن جواب تلميذ من تلاميذ فن التاريخ يقال له : من بني هذا القصر العتيق ؟ فيسمي ملكا من الملوك الأقدمين من غير أن يخافه ويخضع له ، فكان دينهم عاريا عن الخشوع لله ودعائه ، وما كانوا يعرفون عن الله ما يحببه إليهم ؛ فكانت معرفتهم مبهمة غامضة ، قاصرة مجملة ، لا تبعث في نفوسهم هيبة ولا محبة .

    ثم انتقل العرب والذين أسلموا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفة عميقة واضحة روحية ذات سلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح ، ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع ، ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها ، آمنوا بالله الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى ، آمنوا برب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، الخالق البارئ المصور ، العزيز الحكيم ، الغفور الودود ، الرؤوف الرحيم ، له الخلق والأمر ، بيده ملكوت كل شيء يجير ولا يجار عليه ، إلى آخر ما جاء في القرآن من وصفه ، يثيب بالجنة ويعذب بالنار ،ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، يعلم الخبء في السماوات والأرض ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، إلى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه.

    فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلابا عجيبا، فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهرا لبطن ؛ تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره ،وجرى منه مجرى الروح والدم ، واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها؛ وغمر العقل والقلب بفيضانه، وجعل منه رجلا غير الرجل ، وظهر منه من روائع الإيمان واليقين والصبر والشجاعة ، ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حير العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق ، ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد ، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #45
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(42)


    وخز الضمير



    وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة ، وقوة نفس ومحاسبتها ، والإنصاف منها ، وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية ، حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان وسقط الإنسان سقطة ، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون – تحول هذا الإيمان نفسا لوامة عنيفة ووخزا لاذعا للضمير وخيالا مروعا ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ، ويتحملها مطمئنا مرتاحا ، تفاديا من سخط الله وعقوبة الآخرة.

    وقد حدثنا المؤرخون الثقات في ذلك بطرائف لم يحدث نظيرها إلا في التاريخ الإسلامي الديني .

    روى مسلم بسنده عن عبدالله بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا رسول الله إني ظلمت نفسي وزنيت ، وإني أريد أن تطهرني ، فرده ، فلما كان من الغد أتاه فقال : يا رسول الله إني قد زنيت ، فرده الثانية ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال :" أتعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا "؟ فقالوا : ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى ، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه ، فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله ، فلما كانت الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم .

    قال فجاءت الغامدية فقالت : ( يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني ، وأنه ردها ، فلما كان الغد قالت : يا رسول الله لم تردني ؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ، فوالله إني لحبلى ، قال :" إما لا فاذهبي حتى تلدي" ، قال : فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت : هذا قد ولدته ، قال : "فاذهبي فأرضعيه حتى تطعميه" ، فلما فطمته أتته بالصبي ، في يده كسرة خبز ،فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فاستقبلها خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله سبه إياها فقال : " مهلاً يا خالد ، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت (1).



    الثبات أمام المطامع والشهوات:

    وكان هذا الإيمان حارسا لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته ، يملك نفسه من النزوع أمام المطامع والشهوات الجارفة ، وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراها أحد ، وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحدا ، وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند المغنم وأداء الأمانات إلى أهلها والإخلاص لله ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره ، وما ذاك إلا نتيجة رسوخ الإيمان ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان.

    حدث الطبري قال : لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض . فقال والذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ، ما يعدله عندنا ولا يقاربه ، فقالوا : هل أخذت منه شيئا ؟ فقال : أما والله لولا الله ما أتيتكم به . فعرفوا أن للرجل شأنا . فقالوا : من أنت ؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني ، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه ، فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه ، فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس (2).



    الأنفة وكبر النفس:

    وكأن هذا الإيمان بالله رفع رأسهم عاليا وأقام صفحة عنقهم فلن تحنى لغير الله أبداً، لا لملك جبار ولا لحبر من الأحبار ولا لرئيس ديني ولا دنيوي ،وملأ قلوبهم وعيونهم بكبرياء الله تعالى وعظمته ، فهانت وجوه الخلق وزخارف الدنيا ومظاهر العظمة والفخفخة؛ فإذا نظروا إلى الملوك وحشمتهم وما هم فيه من ترف ونعيم وزينة وزخرف، فكأنهم ينظرون إلى صور ودمى قد كسيت ملابس الإنسان .

    عن أبي موسى قال : انتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره ، والقسيسون جلوس سماطين ، وقد قال له عمرو وعمارة : إنهم لا يسجدون لك ، فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان : اسجدوا للملك . فقال جعفر : لا نسجد إلا لله (3).

    وأرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم ، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير ، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة ، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب . ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة ، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد ، وأقبل عليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه ، فقالوا له : ضع سلاحك ،فقال : إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت . فقال رستم : ائذنوا له . فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق ، فخرق عامتها ، فقال له : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام (4).









    (1) - صحيح مسلم ، كتاب الحدود ، باب من اعترف على نفسه بالزنا ، رقم ( 4432 ) .

    (2) - تاريخ الطبري : 4/16.

    (3) - أخرجه الحاكم في المستدرك ( 309-310 ) وصححه ، ووافقه الذهبي ، والبيهقي في دلائل النبوة ( 2/299-300 ) وقال : إسناده صحيح .

    (4) - حياة الصحابة للكاند هلوي ( 1/203 ) .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #46
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(43)




    الشجاعة النادرة والاستهانة بالحياة





    ولقد بعث الإيمان بالآخرة في قلوب المسلمين شجاعة خارقة للعادة ، وحنينا غريبا إلى الجنة ، واستهانة نادرة بالحياة ، تمثلوا الآخرة وتجلت لهم الجنة بنعمائها كأنهم

    يرونها رأي عين ، فطاروا إليها طيران حمام الزاجل لا يلوي على شيء .



    تقدم أنس بن النضر يوم أحد وانكشف المسلمون ، فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا سعد بن معاذ، الجنة ورب الكعبة ، إني أجد ريحها من دون أحد ، قال أنس : فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه(1) .

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : ( قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض )! فقال عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله ، جنة عرضها السماوات والأرض ؟! . قال :( نعم )، قال : بخ بخ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما يحملك على قولك بخ بخ )؟ قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال :( فإنك من أهلها )، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ، ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قتل (2).



    وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري قال : سمعت أبي رضي الله عنه وهو بحضرة العدو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف ) ، فقام رجل رث الهيئة فقال : يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا ؟ قال : نعم . فرجع إلى أصحابه فقال : أقرأ عليكم السلام ، ثم كسر جفن سيفه فألقاه ، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل (3).



    وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج ،وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا ، فلما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد أراد أن يتوجه معه ، فقال له بنوه : إن الله قد جعل لك رخصة ، فلو قعدت ونحن نكفيك ، وقد وضع الله عنك الجهاد ، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك ، ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد )، وقال لبنيه :( وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة )، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيدا(4) .



    وقال شداد بن الهاد : جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه فقال : أهاجر معك ، فأوصى به بعض أصحابه ، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقسمه ، وقسم للأعرابي فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم ، فلما جاء دفعوه إليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذا يا رسول الله ؟ قال :( قسم قسمته لك )، قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أرمي ها هنا – وأشار إلى حلقه – بسهم ، فأموت فأدخل الجنة ، فقال :( إن تصدق الله يصدقك )، ثم نهضوا إلى قتال العدو فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتول فقال :( أهو هو )؟ قالوا : نعم ، قال :( صدق الله فصدقه )(5) .



    من الأنانية إلى العبودية :



    وكانوا قبل هذا الإيمان في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع ، لا يخضعون لسلطان، ولا يقرون بنظام ،ولا ينخرطون في سلك ، يسيرون على الأهواء ويركبون العمياء ويخبطون خبط عشواء ، فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها ، واعترفوا لله بالملك والسلطان والأمر والنهي ، ولأنفسهم بالرعوية والعبودية والطاعة المطلقة ، وأعطوا من أنفسهم المقادة واستسلموا للحكم الإلهي استسلاماً كاملاً ، ووضعوا أوزارهم ، وتنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم ، وأصبحوا عبيدا لا يملكون مالا ولا نفسا ولا تصرفاً في الحياة إلا ما يرضاه الله ويسمح به، لا يحاربون ولا يصالحون إلا بإذن الله ، ولا يرضون ولا يسخطون ولا يعطون ولا يمنعون ولا يصلون ولا يقطعون إلا بإذنه ووفق أمره .



    ولما كان القوم يحسنون اللغة التي نزل بها القرآن وتكلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفوا الجاهلية ونشؤوا عليها ، وعرفوا معنى الإسلام معرفة صحيحة ، وعرفوا أنه خروج من حياة إلى حياة ، ومن مملكة إلى مملكة ، ومن حكم إلى حكم ، أو من فوضوية إلى سلطة ، أو من حرب إلى استسلام وخضوع ، ومن الأنانية إلى العبودية ، وإذا دخلوا في الإسلام فلا افتيات في الرأي، ولا نزاع مع القانون الإلهي ، ولا خيرة بعد الأمر ولا مشاقة للرسول ، ولا تحاكم إلى غير الله ولا إصدار عن الرأي ، ولا تمسك بتقاليد وعادات ، ولا ائتمار بالنفس ، فكانوا إذا أسلموا انتقلوا من الحياة الجاهلية بخصائصها وعاداتها وتقاليدها إلى الإسلام بخصائصه وعاداته وأوضاعه ، وكان هذا الانقلاب العظيم يحدث على أثر قبول الإسلام من غير تأن .



    همّ فضالة بن عمير بن الملوح أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يطوف بالبيت . فلما دنا منه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أفضالة )؟ قال : نعم ، فضالة يا رسول الله ! قال :( ماذا كنت تحدث به نفسك )؟ قال : لا شيء ، كنت أذكر الله ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال :( استغفر الله )، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه ؛ وكان فضالة يقول : والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلى منه ، قال فضالة : فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها ، فقالت : هلّم إلى الحديث ، فقلت : يأبي الله عليك والإسلام(6).



    إن هذا الإيمان بالله والرسول واليوم الآخر والإسلام لله ولدينه أقام عوج الحياة ، ورد كل فرد في المجتمع البشري إلى موضعه ، لا يقصر عنه ولا يتعداه ، وأصبحت الهيئة البشرية طاقة زهر لا شوك فيها ، أصبح الناس أسرة واحدة ، أبوهم آدم ، وآدم من تراب ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى .



    وأصبحت الطبقات والأجناس في المجتمع الإسلامي متعاونة متعاضدة لا يبغي بعضها على بعض ، فالرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ، والنساء صالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ، لهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، وأصبح كل واحد في المجتمع راعيا ومسؤولا عن رعيته ، الإمام راع ومسؤول عن رعيته ، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته (7).

    وهكذا كان المجتمع الإسلامي مجتمعا رشيداً عاقلاً مسؤولا ًعن أعماله (8).










    (1) - أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد والسير ،باب قول الله ( من المؤمنين رجال ... ) ( 2805 ) ،ومسلم ، كتاب الإمارة ( 1903 ) .

    (2) - أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة ، باب ثبوت الجنة للشهيد ، ( 4915 ) .

    (3) - أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة ، باب ثبوت الجنة للشهيد ، ( 4916 ) .

    (4) - أخرجه ابن هشام في السيرة ( 2/90، 91 ) والبيهقي في الدلائل ( 3/ 246 ) .

    (5) - أخرجه النسائي ، كتاب الجنائز ، باب الصلاة على الشهداء ( 1955 ) ، والحاكم في المستدرك ( 3/595-596 ) وسكت عليه ، ووافقه الذهبي ، قلت : إسناده صحيح .

    (6) - زاد المعاد : 2/332.


    (7) - هذا حديث أخرجه البخاري ، كتاب الجمعة ، باب الجمعة في القرى والمدن ، رقم ( 893 ) .

    (8) - انظر : ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 101-111 ، 113-114.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #47
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(44)


    الاطلاع على منهج إمام الدعاة صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله


    إن من أبرز سمات هذا الدين الحنيف عالميته ، وكل فهم للإسلام بعيد عن هذه السمة فهم خاطئ . إن ديننا أعظم من أن يكون عبادات وشعائر ، إنه دين الخير والعطاء والحب والسلام للإنسانية جمعاء ، وهو لا يقبل من أتباعه أبداً الصوم والصلاة وشهادة الحق فقط ، وإنما يريد منهم أن يكونوا حملة لراية الإسلام وأن يوصلوا كلمته إلى أقاصي الأرض ، فذلك حق الشكر لله على نعمة الإسلام ، ومن ثم جعل الله سبحانه الدعوة إلى الإسلام فريضة من فرائضه .
    والدعوة إلى الإسلام لابد أن تنتهج منهج إمام الدعاة الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره الأسوة الحسنة المختارة من قبل الله عز وجل ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) .[ سورة الحشر / 7 ] .وهو منهج نراه في السيرة واضح الملامح والقسمات بكل أركانه ومراحله ، حتى إن كل من كتب من العلماء في الدعوة والدعاة إنما استقى من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ففي السيرة يجد المسلم الداعية العظيم محمداً صلى الله عليه وسلم كيف اختاره الله من بين الناس أجمعين وصنعه على عينه وأعده إعداداً عظيما عظم رسالة الإسلام نفسها ، خرج بعده صلى الله عليه وسلم مثال الجمال والكمال في الفكر والقلب والسلوك ليبلغ الإنسانية جمعاء خطاب الله الأخير إليها .
    وفي مسيرنا مع الخط البياني للدعوة الإسلامية ، نلاحظ كيف كانت تنتشر ضمن امكانيات البشر وفي حدود قدرتهم ، وليس بالمعجزات والطلاسم والمغيبات ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن جالسا والدعوة في انتشار ، بل كان يأخذ للأمر عدته ، ويعيش الدعوة الإسلامية بشرا ، وليس ملاكا ، ففي اليوم الأول خاف أن يواجه الناس بغير ما يعهدونه وأتهم نفسه ورأيه ، يتجلى ذلك في قوله للسيدة الفاضلة أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنه – " لقد خشيت على نفسي " ثم سلك طريق السرية ، ثم من دعوة السر إلى الجهر ، في إطار من السلم ، ثم ينتقل إلى المدينة فتكون المغازي دفاعا ثم هجوماً ، كل ذلك في النطاق المحلي للجزيرة العربية ، ثم ترسم السيرة ملامح المرحلة العالمية في سني حياته الأخيرة ، صلوات الله عليه وسلامه ، حين يرسل بالكتب إلى الملوك والزعماء خارج الجزيرة يدعوهم فيها إلى الإسلام ، ويجمع لأسامة ، رضي الله عنه ، قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم جيشاً يأمره أن يطأ به البلقاء والداروم من أرض فلسطين . مسلماً بذلك المسلمين زمام المرحلة العالمية للدعوة ، ليتابعوا تلك المرحلة حتى آخر الدهر ، ثم ينتقل إلى رحمة ربه راضيا مرضيا صلوات الله وسلامه عليه .
    وهكذا يطلع دارس السيرة على الإسلام في صورته العالمية متجسدة في شخص إمام الدعاة صلى الله عليه وسلم.
    كما نتعرف من خلال تاريخ الدعوة الإسلامية على موقف صاحبها عليه الصلاة والسلام من الأحداث والقضايا التي كانت تواجهه ، ولا زالت وستبقى تواجهنا ، فقد واجهه مثلا حصار وتشريد ، ونفى ، وواجهته ضغوط نفسية واجتماعية وحروب ومعارك ،وواجهته مؤامرات وخيانات ومساومات سياسية وعقد مصالحات !! واجهته مشكلة بناء أمة ومجتمع على أسس متينة في بلاد لم تعرف التنظيمات والدولة الواحدة من زمن سحيق، وهذا كله يتطلب تحديد المواقف صريحة وإظهار السياسة واضحة .
    ودراسة السيرة تحدد لنا موقف النبي صلى الله عليه وسلم من كل هذه الأمور لنطمئن إلى الحكمة والعدل والاستقامة والدقة في كل أحواله .
    وهكذا يقف الداعية على الأساليب التي يجب أن ينتهجها في معاملة الناس بكل ألوانهم وصنوفهم بدءاً من الأحباب والأصحاب والأهل إلى كل جبهة معادية يواجهها في مسيرته إلى الله (1).





    (1) - انظر مختصر الجامع في السيرة النبوية ص 18-19، مصادر السيرة النبوية وتقويمها ص 17-18.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #48
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(45)



    التمكين لمحبة صحابته صلى الله عليه وسلم في قلب المسلم والسعادة بصحبتهم والتأسي بحياتهم


    فالسيرة تكسب المسلم أيضا محبة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب محبته صلى الله عليه وسلم ، ومحبتهم مطلوبة لذاتها ، فقد أثنى الله عليهم مهاجرين وأنصاراً في كتابه الكريم ، فقال عز من قائل ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ) [ سورة التوبة / 100 ] ، ونبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى وجوب محبتهم فقال : " الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ،ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه " (1).

    وسيجد المسلم في صحبتهم ، رضي الله عنهم ، حافزا على العمل ، وهو يقرأ صنيعهم وكيف كانوا يتخطون العقبات، سواء ما قام منها في نفوسهم أو ما يلقونه من أعدائهم .

    إن الفاضل منا اليوم ليعجب بنفسه وعبادته ويتحدث عن قيامه بالليل الساعة والساعتين ، فهل قرأ عن قيام عباد بن بشر ، رضي الله عنه ، في غزوة ذات الرقاع ؟ ويتحدث أحيانا عن الصدقة والصدقتين ، فهل قرأ عن صدقات أبي بكر وعثمان وأبي الدحداح رضي الله عنهم جميعاً ؟ ويتحدث عن جهاده في سبيل الله واحتسابه الولد أو الأخ ،فهل قرأ عن احتساب المرأة الدينارية أولادها وزوجها ؟ وهل قرأ ما فعل عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، بخاله يوم بدر ؟ وكيف احتسب حذيفة أباه اليمان ، رضي الله عنهما ، في أحد ؟ ويتحدث عن زهده وخدمته الإسلام ، فهل قرأ كيف أغلق الصحابة الكرام أبواب الدنيا ، واستحالت حياتهم جهاداً في سبيل الله ؛ غزواً في النهار ، وعبادة بالليل ؟ وكانوا مثلما وصفهم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : " أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة " (2).
    ومن هنا كان الحديث الشريف : ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم .. ) بيانا للواقع ، فهو ذروة الخط البياني في تاريخ البشرية كلها ...
    أما بالنسبة للأجيال بعده فذلك بنص الحديث الشريف ( ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ، وأما بالنسبة للأجيال السابقة فذلك ما دونه القرآن الكريم وهو يتحدث عن أقوام الرسل السابقين .
    فقد قال قوم موسى لموسى : ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ) [ سورة المائدة / 24 ] ، وقال الصحابة لرسولهم الكريم : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون )([3]) ، ولم يقولوا كما قال الحواريون : ( يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ) [ سورة المائدة / 112 ] ، فقد كانوا أكثر أدبا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فضلا عن أدبهم أمامه سبحانه وتعالى .
    أليس من سعادة المرء النفسية والفكرية والإيمانية أن يعيش مع هذا الجيل بفكره يتخيله وقد كان واقعا في الحياة في يوم مضى .. فيعرف له فضله ، ويعرف له حقه ... ويتعلم كيف يكون الإيمان وكيف يكون الحب ، وكيف تكون الطاعة ... ؟ .
    حقا إن المسافة شاسعة بيننا وبين أولئك الصحابة الذين ضحوا بكل شيء من أجل الله ورسوله ، بينما وقفنا نحن عند حدود القراءة لأخبار تلك التضحيات الجليلة ، فلئن كان حظنا القراءة وحظهم التضحيات لقد باينونا بونا عظيما .
    إن المسلم ليسعد بصحبة الصحابة الكرام في السيرة ، يرى فيهم نماذج إنسانية ممتازة لم يعرف مثلها التاريخ تحليقا روحانيا ، ولا ارتفاعا على شهوات الأرض ، وانتصارا على النفس، وقوة ذكاء ،وسرعة بديهة ،وسمو أدب ... كل واحد منهم قصة مع الله تهز الضمير وتوقظ القلب ، لقد تفاعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلوا نسمات الهدى ،وأغلقوا أبواب الماضي ،وتفتحوا للحياة الجديدة بملء القلوب ، لا يختزنون من مواهبهم شيئا ،ولا يحتجزون عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بعد أن أكرمهم الله بصحبته عليه الصلاة والسلام... كانوا يستشعرون نعمة الله عليهم ليلهم ونهارهم ، لا يغيب عنهم ذلك الشعور ، كان دائما في أعماقهم حياً يقظا يحرم عليهم النوم ويقض عليهم مضاجع الراحة ، ويجعلهم في توتر مستمر لا ينسون فيه الإسلام ولا يستطيعون أن يغفلوا عن معركته لحظة ، هم في المعركة دائما مع النبي صلى الله عليه وسلم يشاركونه وهج الكفاح ويحملون معه هموم الإسلام .
    هنالك لا يجد المسلم مناصا من أن يقارن نفسه بهم ، رضي الله عنهم وأرضاهم ،فتصغر في عينه نفسه ، ويدرك أنه ليس من أهل الحب ولا التضحية ولا الفداء .. وأنه مقصر جداً في حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيراجع نفسه وأوراقه ويسعى إلى حياة جديدة فيها الحب الحقيقي لله والانتماء الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
    وإن المسلم لتأخذه الدهشة من صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف استطاع صلى الله عليه وسلم أن يحول هؤلاء الذين كانوا حفاة عراة متخلفين تجاوزتهم حضارة الفرس والرومان فيجعلهم بتربيته الربانية أقطاب الأرض ، وجهابذة الدنيا وأساتذة العالم وأطباء الإنسانية ومنقذي الغرقى من البشر .
    هنالك تزداد ثقة المسلم بمدرسة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يرضي عنها بديلاً، ويراجع أسلوب تربيته الخاص وتربية أبنائه موقنا أن الإسلام لم يدع شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا أمر به وأرشد إليه(4).




    (1) - سنن الترمذي ، كتاب المناقب ، باب في من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم /ح 3862، وقال : هذا حديث حسن غريب .
    (2) - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء / الحافظ أبو نعيم الأصبهاني : ( ج 1/ 136 ) .
    (3) - كان ذلك قول المقداد بن عمرو في يوم بدر .
    (4) - مختصر الجامع في السيرة النبوية ص 19-20.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #49
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(46)



    توثيق علاقة المسلم بمربيه وإخوته وإضاءة طريقه إلى الله





    إن دراسة السيرة النبوية تمتن صلة المسلم بجماعته ، ففي السيرة يجد المسلم الجماعة الربانية الرائدة فيرى فيها جماعته ويرى شيخه في شخص المصطفى صلى الله عليه وسلم فـ ( العلماء ورثة الأنبياء) (1)، ويرى أحبته وإخوته في الله ، ويجد أحباب الإسلام وأعداءه ، ويرى فيهم جميعا إيجابياته وسلبياته ، ويتعرف مسارب الإيمان ومسارب الكفر والنفاق في النفوس، وكيف تكون تزكية النفس واستصغار عطائها وإرشادها إلى دروب الفلاح .



    من الصحابة الكرام يتعلم المسلم كيف يكون حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يترجم الحب أدباً وتضحية وفداء وتجرداً لنصرة الإسلام ... يتعلم منهم كيف يكون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع العلماء ورثة الأنبياء، مع الدعاة الكبار الذين ساروا على قدم النبوة، مع كل من خدم هذا الدين ... يتعلم منهم الأدب الرفيع مع الشيخ ، والحب لإخوته في الله.



    ولسوف يجد في سلوك الصحابة إضاءة لسلوكه إلى الله، ولسوف يرى حلاً لكثير من مشكلاته النفسية وهو يراهم كيف كانوا يتجاوزون نفوسهم ويتغلبون على آلامها وينتصرون في كل مرة ويقدمون رضا الله على رضا أنفسهم .



    لقد شاء الله أن يكونوا رواداً لنا في مسيرة الإيمان، فشقوا لنا الطريق وعبدوه، وضربوا لنا نماذج لا تنال في خدمة الإسلام ، وفي التغلب على النفس، وفي الانتصار لصوت الحق، وفي التنازل عن كل شيء من أجل الله والرسول والإسلام ... كانوا يتغلبون على عقبات الطريق، وكان نصوع الهدف ووضوحه هو الذي يقيلهم من عثراتهم كلما كبوا ... كانوا يذنبون كما نذنب ولكنهم كانوا يتوبون إلى الله لا كما نتوب، وإن مشاهد التوبة في حياتهم مشاهد تهز الضمير حقا ... فمن ينسى توبة أبي لبابة ، أو توبة كعب بن مالك، أو توبة أبي حذيفة بن عتبة، أو توبة عمر بن الخطاب وعظم شعوره بالذنب يوم جادل النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية ... إلى غير ذلك من الأمثلة التي تذخر بها السيرة وتعلن عن عظمة هؤلاء الرجال وعظمة توبتهم ورقيهم الإيماني ومنزلتهم عند الله سبحانه وتعالى (2).







    (1) - سنن الترمذي : كتاب العلم ، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة ج 2682 .
    (2) - انظر : مختصر الجامع في السيرة النبوية ( 1/20-21 ) .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #50
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(47)


    غرس الوعي في نفس المسلم وتمكينه من النهوض بأمته




    فدراسة السيرة كفيلة بأن تزرع الوعي في نفس صاحبها ، وتمكنه من النهوض بأمته والعودة بها إلى المرتقي الذي ارتقته أيام التنزيل على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي عاشت فيه قرونا حتى تغافلت عن منابع النبوة وإرشاد التنزيل المبارك فهبطت الهبوط الطويل وغابت عن مسرح الحياة .

    ونحن نفهم هذا في ضوء القيمتين العظيمتين اللتين يذكرهما المؤرخون لدراسة التاريخ ، فهم يذكرون أن لدراسة التاريخ قيمتين : قيمة نفعية وقيمة تربوية .

    أما القيمة النفعية فتتمثل في أن كل إنسان مسؤول عن مسيرة أمته حضارياً ، وهو لا يستطيع أن يقوم بهذا الدور ما لم يتعرف تلك الحضارة، مكوناتها وظروفها والشخصيات التي أثرت فيها والتي رسمت المنعطفات الكبيرة فيها ، والمسلم مسؤول عن ذلك مرتين : مرة أمام الله سبحانه الذي أراد لحضارة المسلم أن تظل الإنسانية براية التوحيد والعبودية لله حين خاطبه سبحانه وتعالى بقوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) [ سورة آل عمران / 110 ] ، ومرة أمام الإنسانية التي تعاني اليوم أقسى ألوان الضياع والشرود عن الله سبحانه وهي تمد يد الاستغاثة ، ولن تكون اليد المنقذة إلا يد المسلم الذي خصه الله دون سواه بذلك الخطاب الكريم ، يقول أحد العارفين بما معناه : إن الإنسانية لتحتج لدى الله تبارك وتعالى ضد المسلم يوم القيامة ، لأنه لم يبلغها نعمة الإسلام.

    إن على المسلم ، إذن ، أن يعرف قيمته وأن يعرف أنه ليس كأحد من الناس أبداً، إن الله اختاره منقذا للإنسانية ومرشدا هاديا ، ولا يجوز له أبداً أن يتنازل عن هذا المقام الرفيع لا رغبة بالزعامة ولا استعلاء ، بل لأن ما يعرفه ويقدر عليه من مداواة الإنسانية المريضة لا يقدر عليه غيره ولا يعرفه ، ومن ثم فإن تخليه عن تلك المرتبة وذلك المقام لا يقل جريمة أبدا عن تخلي الطبيب عن عمله في قرية مرض أهلها جميعاً وليس فيها طبيب غيره .

    هكذا لا يجوز للمسلم أن يضّيع حياته سدى متثاقلاً إلى الأرض في مشكلات تافهة أو عمل هزيل ، ولن يسامحه الله سبحانه أن يبذل في خدمة الإسلام التسع والتسعين من وقته وطاقته وهو قادر على بذل المائة ، ويجب أن يعلم المسلم مع ذلك أن هذا أشرف موقع في الحياة وأرفع مقام؛ إنها خلافة النبوة فينبغي أن يعد لها نفسه إعداداً هائلاً : عقديا وثقافيا وروحياً ونفسياً وسلوكياً .

    من هذه الوجهة تبدو دراسة السيرة – وهي جزء من التاريخ العربي والعالمي، بل هي أرقى حلقة فيه باعتبارها أكبر حدث غير وجه التاريخ – قادرة على تحقيق تلك القيمة النفعية للمسلم ، إذ تعينه على النهوض بأمته ودفع مسيرتها نحو الخير والارتقاء.

    وأما القيمة الثانية لدراسة التاريخ فهي قيمة تربوية، إذ تكسب صاحبها العادة التاريخية في تناول الحقائق والأسلوب التاريخي في التفكير فيها ، وذلك لأن حقيقة التاريخ ومهمة المؤرخ لا تقف عند جمع الأحداث بل تتعداه إلى دراستها ومقابلتها وموازنتها، ثم فرزها إلى صحيح وزائف ، ثم تصنيفها من حيث كونها سببا أو نتيجة ، وتعين هذه التجربة المتكررة المؤرخ أن يستنبئ من ورائها ما سيقع من أحداث . والمسلم بهذا الاعتبار أولى الناس طراً بأن تكون لديه هذه العادة التاريخية في مقابلة الأحداث ، فلا يجوز له – وأمته الإسلامية تمر بهذه الظروف الصعبة – أن يقابل الأحداث مقابلة فاترة أو غير مسؤولة فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم (1)، كما لا يجوز له أن يكون ضعيف الوعي غريرا يصدق كل ما يقال وكل ما يلقى إليه من أخبار .

    وطالما أن المسلم مسؤول عن أمته وعليه الإسهام في تصحيح مسيرتها ، فأني له أن يفعل ذلك وهو لا يستطيع تقويم ما يجري حوله من أحداث ، ولا يملك قدرة على الاستنتاج أو الاستكشاف لفقدانه الحس التاريخي ، وبالتالي فهو غير قادر على خدمة هذه الأمة ولا على أن يرسم لها طريق الخلاص والنهوض ؟! .

    لقد طال الزمان على المسلم المعاصر وهو يضلل عن الإسلام وأمته ، فقد صار ضعيف الذهن فاسد المحاكمة ، يتقبل للأسف كل ما يقال له ، يستخفه الكبراء فيطيعهم ويضل عن الطريق لأنه جاهل حقيقة الإسلام ، جاهل أبعاد المؤامرة التي تدبر له والتي امتد تدبيرها قروناً من الزمان من أجل إبعاده عن ساحة الحياة ، وهو غافل لا يعرف ماذا تعني تلك الأخبار التي تلقي إليه أو يعرض عليه سماعها ، غير قادر على فرزها ولا على فهمها أو معرفة أصحابها أو دوافعهم إليها ، ومن ثم فهو غير قادر على الاستنتاج والتنبؤ ولا على الخروج بقرار يخدم أمته .

    إن مشكلة المسلمين اليوم عميقة الجذور ، متعددة الجوانب ، ولابد لحلها من صياغة المسلم صياغة جديدة واضحة الملامح ، واضحة الهدف ،صافية المشارب ، ناصعة الوعي ، على نسق الصورة التي صاغ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام صياغة موافقة لوحي السماء فإذا هم يتدفقون إيمانا ووعيا للقضية ، بني لهم دولة الإسلام ثم سلمهم راية الفتح العالمي ومضي إلى ربه راضيا مرضيا (2).










    (1) - الحديث أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ( ج 1/248 ) .

    (2) - مختصر الجامع في السيرة النبوية ص 21-22 .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #51
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(48)




    دراسة السيرة حصانة من سموم المستشرقين (1-2)



    أن دراسة السيرة النبوية حصانة ووقاية من سموم المستشرقين وتلامذتهم، فهم جميعا إلا أقل القليل منهم محترفو تزييف وتحريف ، وهواة تشكيك وتضليل، لذلك كثرت كتاباتهم وتحقيقاتهم في التاريخ والسيرة ، حتى إن مجلة المقتبس الدمشقية نشرت منذ أكثر من قرن ( 1304هـ ) : إحصاء لما صنف في السيرة النبوية بمختلف اللغات الأوربية فبلغ نحو ( 1300 ) كتاب ، ولو أضفنا إلى هذا العدد ما صدر من المطابع الأوربية في السيرة النبوية خلال قرن وربع القرن بعد ذلك الإحصاء الذي نشرته مجلة المقتبس لأربى على ذلك كثيرا .

    إن من أعظم الحقائق التي يجب أن يمتلكها المسلم اليوم حقيقة النبوة وارتباطها بحقيقة الوحي ،هذه الحقيقة التي يمتاز بها الرسل والأنبياء عن سائر الشخصيات الممتازة في الحياة ، من العباقرة والفلاسفة والأبطال والمفكرين والمصلحين، والتي كادت أن تختفي في حياة الجيل المعاصر وراء ستائر البدائل الكثيرة التي طرحها أعداء الإسلام في ساحة فكر المسلم وقلبه في غمرة من الغزو الفكري الذي لا يزال يتعرض له العالم الإسلامي منذ عقود كثيرة من الزمان وفي غفلة من الدعاة المسلمين .



    فلقد سلطت الأضواء على بدائل كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأطلقت في مقابل ذلك ألقاب معينة عليه صلى الله عليه وسلم توهم بالتعظيم ، ولكن المراد منها في الحقيقة إبعاد معنى النبوة عنه صلى الله عليه وسلم وطمس معالمها في شخصيته ، فمرة البطل ، ومرة العبقري ... حتى أصبح المسلم اليوم لا يفقه ماذا تعني النبوة ، ولا أين يجب أن تكون من حياته ، ولا كيف يجب أن تحكم سلوكه وعقيدته وشعوره ،ولا كيف يجب أن يربط مصيره بها .



    إن المستشرقين الذين يمكرون بالليل والنهار لفصل هذا الجيل عن دينه وإقصاء الإسلام عن واقع الحياة يحاولون الدخول على عقيدة المسلم من كل باب ، وأخطر تلك الأبواب طراً شخصية المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهم يأبون أن يدرسوا الإسلام ورسوله دراسة موضوعية منهجية سليمة ، بالرغم من كل ما يتشدقون به على الدارسين في ديارهم وما يزعمون لأنفسهم من السبق في المنهجية . إنهم لا يدخلون رحاب تاريخنا العظيم والسيرة بصورة خاصة إلا بسبق ذهني ولده الكره للإسلام ، يركبون للبرهان على صحته كل مركب باطل من الخبر الضعيف والشاذ، ولي أعناق النصوص وتحميلها من الدلالات ما ليس فيها ، وربط الأحداث ربطا خاطئا أو بتر بعض أجزاء الحدث (1).



    إن السبب في اهتمام المستشرقين بالتاريخ والسيرة : أن التاريخ يمنح الأمة القدرة على التصور الصحيح لمسار الحركة الإسلامية ، ويوقفنا على أسباب المد والجزر في محيط الفتح الإسلامي ، فمن كان مؤمنا استطاع أن ينتفع بالتاريخ في ربط حاضره بماضيه متجنبا العوائق ، ولله در من قال :

    إذا علم الإنسان أخبار من مضى توهمته قد عاش من أول الدهــر

    وتحسبه قد عاش آخر عمــره إذا كان قد أبقى الجميل من الذكر

    ومن كان خصماً للإسلام عرف بدراسته للتاريخ الإسلامي من أين تؤكل الكتف في غزوه للعالم الإسلامي ومواجهته لدين الإسلام ، وأكثر المستشرقين يكن بغضا للإسلام ونبيه ، حتى إن ليوبولد فايس ( محمد أسد ) ليقرر هذه الحقيقة فيقول : " إن احتقار الإسلام أصبح جزءاً أساسياً من التفكير الأوربي "(2) .



    وجاء في مجلة العالم الإسلامي ( عدد حزيران سنة 1930 ) : " إن شيئا من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي ، ولهذا الخوف أسباب منها : أن الإسلام منذ أن ظهر في مكة لم يضعف عددياً بل كان دائما في ازدياد واتساع ، ثم إن الإسلام ليس دنيا فحسب ، بل إن من أركانه الجهاد ، ولم يتفق قط أن شعبا دخل في الإسلام ثم عاد نصرانيا " .

    ولذلك جاءت كتاباتهم في السيرة جهلا بها ، وتعصبا في التعامل معها ، وتحليلات واستنتاجات ما أنزل الله بها من سلطان ، ويؤكدها الواحد منهم المرة تلو المرة ، ويجمع القوم عليها حتى لتكاد تغدو عندهم يقينا من اليقين .









    (1) - انظر : مختصر الجامع في السيرة النبوية ( 1/15 ) .
    (2) - الإسلام على مفترق الطرق ص 60 .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #52
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(49)




    دراسة السيرة حصانة من سموم المستشرقين (2-2)




    والفهم الجاد للسيرة يقتضي منهجاً يقوم على طبقات أو أدوار أو شروط ثلاثة ، وأن افتقاد أو تهديم أي واحد منها يلحق ضرراً فادحاً في مهمة الفهم هذه .
    فأما الطبقة الأولى الأساسية : فهي الإيمان ، أو على الأقل احترام المصدر الغيبي لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وحقيقة الوحي الذي تقوم عليه .
    وأما الطبقة الثانية : فهي اعتماد موقف موضوعي بغير حكم مسبق ، يتجاوز كل الإسقاطات التي من شأنها أن تعرقل عملية الفهم .
    وأما الطبقة الثالثة : فهي ( تقنية ) صرفة تقوم على ضرورة الإحاطة الجيدة بأدوات البحث التاريخي ، بدءاً باللغة وجمع المادة الأولية ، وانتهاء بطرائق المقارنة والموازنة والنقد والتركيب ... إلى آخره .
    وإذا كان الغربيون قد بلغوا حد التمكن والإبداع في هذه الدائرة الأخيرة فإنهم في نهاية الأمر لم يستطيعوا أن يقدموا أعمالاً عملية بمعنى الكلمة لواقعة السيرة ، ولا قدروا حتى على الاقتراب من حافة الفهم ، بسبب أنهم كان يعوزهم التعامل الأكثر علمية مع الدائرتين الأولين : احترام المصدر الغيبي ، واعتماد الموقف الموضوعي .
    إن بحث المستشرقين – بصفة عامة – في السيرة لا يحمل عناصر اكتماله منذ البداية ، بل إنه ليشبه الاستحالة الحسابية المعروفة بجمع خمس برتقالات – مثلاً – مع ثلاثة أقلام .... إذ لا يمكن أن يكون الحاصل ثمانية .... إن هناك خلافا نوعيا لا يمكن الأرقام من أن تتجمع لكي تشكل مقداراً موحداً .

    إن المستشرق– بعامة – يريدون أن يدرسوا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق حالتين تجعلان من المستحيل تحقيق فهم صحيح لنسيج السيرة ونتائجها وأهدافها التي تحركت صوبها ، والغاية الأساسية التي تمحورت حولها .
    فالمستشرقين بين أن يكون علمانياً ماديا لا يؤمن بالغيب، وبين أن يكون يهوديا أو نصرانيا لا يؤمن بصدق الرسالة التي أعقبت النصرانية ...
    وإذا كانت السيرة في تفاصيلها وجزئياتها، تنفيذاً تاريخياً لعقيدة الإسلام ذات المرتكزات الغيبية، بل ذات التداخل بين المغيب والمنظور في السدى واللحمة، وإذا كانت بمثابة دعوة سماوية أخيرة جاءت لكي توقف النصرانية المحرفة عن العمل ، وتحل محلها ، بما تتضمنه من عناصر الديمومة والحركية والانتقال ... فإن ثمة جداراً فاصلاً يقف بين المستشرق – سواء أكان من الصنف الأول أم من الصنف الثاني – وبين فهم السيرة .
    ولذلك نرى المستشرق من خلال رؤيته الخارجية ، وتغربه ، يمارس نوعا من التكسير والتجريح في السيرة ونسيجها .

    يقول المونيسنيور كولي في كتابه ( البحث عن الدين الحق ) : " برز في الشرق عدو جديد هو الإسلام الذي أسس على القوة ، وقام على أشد أنواع التعصب ، ولقد وضع محمد السيف في أيد الذين تبعوه ، وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق ، ثم سمح لاتباعه ، بالفجور والسلب ، ووعد الذين يهلكون في القتال بالاستمتاع الدائم بالملذات في الجنة ، وبعد قليل أصبحت آسيا الصغرى وأفريقيا وأسبانيا فريسة له ، حتى إيطاليا هددها الخطر وتناول الاجتياح نصف فرنسا ولقد أصيبت المدينة ... ولكن انظر !! ها هي النصرانية تضع بسيف شارل مارتل سداً في وجه سير الإسلام المنتصر عند بواتيه ( 752م ) ثم تعمل الحروب الصليبية في مدى قرنين تقريبا ( 1099-1254م ) في سبيل الدين ، فتدجج أوربا بالسلاح وتنجي النصرانية ، وهكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب ، وانتصر الإنجيل على القرآن وعلى ما فيه من قوانين الأخلاق الساذجة " .

    ويقول المسيوكيمون في كتابه " ميثولوجيا الإسلام " إن الديانة المحمدية جذام فشى بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكا ذريعا ، بل هو مرض مروع وشلل عام وجنون ذهني يبعث الإنسان على الخمول والكسل ، ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء ويدمن معاقرة الخمور !! ويجمح في القبائح ، وما قبر محمد في مكة ( ؟ ) إلا عمود كهربائي يبث الجنون في رؤوس المسلمين ويلجؤهم إلى الإتيان بمظاهر الصرع ( الهستيريا ) ، والذهول العقلي ، وتكرار لفظة ( الله . الله ) إلى ما لا نهاية ، وتعود عادات تنقلب إلى طباع أصلية ككراهية لحم الخنزير والنبيذ والموسيقى وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في الملذات " .
    وهكذا كانت النتيجة أبحاثاً تحمل اسم السيرة وتتحدث عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحلل حقائق الرسالة ولكنها – يقينا – تحمل وجها وملامح وقسمات مستمدة من عجينة أخرى غير مادة السيرة ، وروحا أخرى غير روح النبوة .. ومواصفات أخرى غير مواصفات الرسالة .
    إن نتائجها تنحرف عن العلم لأنها تصدر عن الهوى ، وتفقد القدرة على مسامتة عصر الرسالة وشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل تأثيراتهما الجمالية بالمستوى العالي نفسه من التحقق التاريخي ... لأنها تسعى لأن تخضع حقائق السيرة لمقاييس عصر ينسخ كل ما هو جميل ، ويزيف كل ما هو أصيل ، ويميل بالقيم المشعة إلى أن تفقد إشعاعها وترتمي في الظلمة ، أو تؤول إلى البشاعة (1) .




    (1) - انظر : بحث المستشرقين والسيرة النبوية للدكتور عماد الدين خليل ، بكتاب : مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية 1/117- 119.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #53
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(50)


    فتح كنوز معرفية للمسلم



    فالسيرة نبع لا يغيض من الثقافة والمعارف المتنوعة التي تنفع المسلم في دنياه وآخرته ، ففيها معارف جغرافية وتاريخية ، وفيها معرفة واسعة عن أنساب العرب وقبائلهم ومنازلهم وأيامهم ووقائعهم وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ، ومعارف هامة حول التنزيل؛ فإن السيرة هي التفسير العملي لكتاب الله وهي بيان واقعي لمبادئ الدين الإسلامي وأحكامه وتشريعاته ، وفيها معارف حول كثير من أمور العقيدة والأخلاق ، وهي رفد لرجال السياسة والتربية والحرب ورجال الأدب الذين يجدون فيها مادة للأدب الإسلامي ، فاللغة في السيرة هي اللغة التي يحتج بها لأنها لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والتابعين الذين توفوا قبل ( 150 هـ ) .

    واللغة في السيرة عموما لغة مشرقة سهلة ميسرة غير متكلفة لها نور وجمال ، وهي لغة بليغة مؤثرة في القلب ، وكثير مما ورد في السيرة من عيون الأدب العربي وقد جعله البلغاء في مختاراتهم كحديث توبة كعب بن مالك ، رضي الله عنه ، وقصيدة كعب بن زهير اللامية التي مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشفعاً عنده ... وما من شك في أن نصوص السيرة لو جعلت نصوصاً لمادة الأدب في المراحل المدرسية بل والجامعية لكانت جديرة بأن تعلم الطلاب التعبير الجميل ولغة العرب المشرقة ، وأن تجعلهم إلى جانب ذلك أناساً ذوي نفوس راقية مشرقة وذوي عزيمة فذة .

    وكذلك الأمر في الفن والإعلام الإسلاميين ، فالسيرة نبع فياض يصلح أن يستقي منه القصاصون والشعراء الذين يريدون أن يجعلوا ذلك كله في خدمة الدين ووسيلة من وسائل الدعوة إلى الله .

    يقول أحد الكتاب المعاصرين في هذا الصدد : نحن في عصر سكت فيه صوت الأسلحة بسبب من التوازن الدولي ، وأخذت ساحات المواجهة والصراع والحوار الحضاري والثقافي ألواناً جديدة ، إنها الحروب الحديثة ، حروب المعلومات والإعلام ، وصراع المبادئ والعقائد والمذاهب المعاصرة والدعايات السياسية والمذهبية التي تغرق العالم بسيلها الجارف وتحاول إعادة تشكيل عقله وزرع عواطفه وتحديد استجاباته والتحكم بذوقه وسلوكه ابتداء ، إلى درجة أصبحت معها الدول والشعوب المتخلفة في هذا الميدان تعيش وكأنها في معسكرات من الأسر والاعتقال الفكري ، إنه عصر الجبر والتسيير الإعلامي والتحكم الثقافي والسياسي الذي أصبح يملكنا ويقتحم علينا بيوتنا ويطاردنا في أخص خصائصنا ويخطف منا أبناءنا ونساءنا .

    ولا يجوز للمسلم والحالة هذه أن يستهتر بإحدى وسائل الإعلام والنشر ويتركها لعدو الإسلام يغتال بها قلوب أجيالنا المسلمة وعقولها وعقائدها ، وإن وسائل الدعوة إلى الله وأساليبها وميادين العمل الإسلامي ومواقعه المؤثرة والفاعلة أوسع من أن تحصر بعصر ، أو تجمد على شكل، أو تحاصر من قبل عدو ، إذا استشعر المسلم مسؤوليته واستعاد فاعليته وأخلص النية وتلمس الصواب والتزم الحكمة والبصيرة التي أمر الله بها في البلاغ المبين(1) .









    (1) - انظر : مختصر الجامع في السيرة ص 22.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #54
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(51)



    في دراسة السيرة خير الدنيا والآخرة



    إن في دراسة المغازي والسير خير الدنيا والآخرة ، ولذلك فخير ما يتدارسه المسلمون – لاسيما الناشئة وطلاب العلم – ويعني به الباحثون والكاتبون دراسة السيرة المحمدية ، إذ هي خير معلم ومثقف ، ومهذب ومؤدب ، فيها ما ينشده المسلم ، وطالب الكمال من دين ودنيا ، وإيمان واعتقاد ، وعلم وعمل ، وآداب وأخلاق ، وسياسة وكتابة ، وإمامة وقيادة ، وعدل ورحمة ، وبطولة وكفاح ، وجهاد واستشهاد في سبيل العقيدة والشريعة ، والمثل الإنسانية الرفيعة ، والقيم الخلقية الفاضلة .

    وكان السلف الصالح من هذه الأمة الإسلامية يدركون ما لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه النبلاء ، من آثار حسنة في تربية النشء ، وتنشئة جيل صالح لحمل رسالة الإسلام والتضحية في سبيل تبليغها بالنفس والمال ، ومن ثم كانوا يتدارسون السيرة ويحفظونها ، ويلقنونها للغلمان ،كما يلقنونهم السور من القرآن .

    قال زين العابدين على بن الحسين بن علي : " كنا نعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن ".

    وقال الزهري: " في علم المغازي خير الدنيا والآخرة " .

    وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص : " كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ، ويقول : يا بني هذه شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها "(1) .

    نعم ... والله إنها لشرف الآباء ، والمدرسة التي يربي فيها الأبناء !!! فما أجدر المسلمين في حاضرهم : رجالا ًونساءً ، وشباباً وشيباً أن يتعلموها ويعلموها غيرهم ، ويتخذوا منها نبراسا يسيرون على ضوئه في تربية الأبناء والبنات ، وتنشئة جيل يؤمن بالله ورسوله ، ويؤمن بالإسلام ، وصلاحيته لكل زمان ومكان ، والتضحية بكل شيء في سبيل سيادته وانتشاره ، لا يثنيهم عن هذه الغاية الشريفة بلاء وإيذاء ، أو إطماع وإغراء .

    لسنا نريد من دراسة السيرة العطرة : سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وسيرة الرعيل الأول وهم الصحابة الكرام ، أن تكون مادة علمية يجوز بها طلاب العلم في المعاهد ، والمدارس ، والجامعات الامتحان أو الحصول على الإجازات العلمية ، أو أن تكون حصيلة علمية نتفيهق بها ، ونتشدق في المحافل والنوادي ،وقاعات البحث والدرس ، وفي المساجد ، والمجامع ، كي نحظى بالذكر والثناء ، وننتزع من السامعين مظاهر الرضا والإعجاب .

    ولكنا نريد من هذه الدراسة أن تكون مدرسة نتخرج فيها ، كما تخرج السادة الأولون ، وأن تكون مثلاً صادقة لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم ، وصحابته الكرام – عليهم الرضوان – في إيمانهم وعقيدتهم ، وفي علمهم وعملهم ، وأخلاقهم وسلوكهم ، وسياستهم وقيادتهم حتى يعتز بنا الإسلام ، كما اعتز بهم ، ونكون في حاضرنا – كما كانوا – خير أمة أخرجت للناس .




    (1) - انظر : شرح الزرقاني على المواهب 1/ 392 ط : دار المعرفة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #55
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(52)


    حالة العالم قبل الإسلام ( 1 - 6 )
    تمهيد :
    ذهب جملة من الباحثين إلى أن صدق أي رسالة من الرسالات ثابت ومؤكد إذا هي أجابت على مجموعة من الأسئلة على النحو التالي :

    1ـ هل البيئة التي جاءت فيها تلك الرسالة كانت في احتياج إلى هذه الرسالة ؟.
    2ـ وهل جاءت تلك الرسالة بالشرائع والمناهج التي تفي بهذه الاحتياجات حتى يصلح شأنها، ويستقيم حالها؟.
    3ـ وهل هذه الشرائع والمناهج من السهولة واليسر بحيث يمكن تطبيقها على جميع الأفراد وفي كل الأمكنة والأزمان، وخاصة في رسالة من شأنها أنها جاءت لكل البشر في كل مكان وزمان، أم أنها مغرقة في المثالية والخيال ـ أو الجمود ـ بحيث يتعذر ـ أو يستحيل ـ على بعض البيئات أو بعض الأشخاص تطبيقها؟.
    4ـ وهل تجسدت تلك التعاليم وهذه المناهج في شخص صاحب الدعوة نفسه، بحيث لا يتعارض القول مع الفعل، والنظرية مع التطبيق ، وتصبح القدوة العملية حينئذ هي الداعي الأول لاعتناق مبادئ تلك الرسالة.
    وممن ذهب إلى ذلك أو بعضه الأستاذ المرحوم عباس العقاد حيث قال في ( عبقرية محمد ) وأكده أيضا في (مطلع النور أو طوالع البعثة المحمدية):" علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة ، وهي أسباب تتمهد لظهورها ، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أدائها"، ولا شك أن هذا الذي ذهب إليه المفكرون يلتقي مع المنهج النقلي والمنهج العقلي .
    فقد جاءت الآيات القرآنية التي تدلنا على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط الله المستقيم. قال الله تعالى : (( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ))(1).
    ومعنى ذلك أن البشرية كانت في ظلمات، وتحتاج إلى من يأخذ بيدها إلى النور، كما أنها قد تباعدت عن الصراط المستقيم ، وقد قال الإمام ابن كثير في ختام تفسيره لهاتين الآيتين ( أي ينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أين المسالك، فيصرف عنهم المحذور ، ويحصل لهم أحب الأمور، وينفي عنهم الضلالة، ويرشدهم إلى أقوم حالة )(2)
    ويتأكد هذا المعنى أيضا في قوله تعالى: (( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ))(3).
    ومعنى هذا أيضا أن البشرية كانت في حاجة إلى من يهديها إلى الصراط المستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض.
    ويتضح هذا المعنى جليا في قول الله تعالى: (( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )) إن البشرية كانت في ضلال تحتاج إلى من يهديها ويعلمها ويطهرها مما انحدرت إليه من الشرك وسوء الأخلاق .
    ويكفي في ذلك قول الله تعالى (( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .....إلخ )(4).
    وقول الله تعالى (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) .
    فالإنسانية كانت في حاجة ماسة إلى الشاهد، والمبشر، والمنذر، والداعي إلى الله بإذنه، والسراج المنير الذي يوضح لها معالم الطريق ، كما أنها كانت ـ ولا تزال ـ في أشد الحاجة إلى الرحمة المهداة التي عمت رحمته كل العالمين وليس عالم الإنسان فقط ـ كما كانت في حاجة إلى من يأخذ بحجزها عن النار كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه- قال: ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي ) (5).


    (1) - الآيتان 15 ، 16 من سورة المائدة .
    (2) - تفسير ابن كثير جـ2 ص34 .
    (3) - الآية 52 من سورة الشورى .
    (4) - الآيتان 45 ، 46 من سورة الأحزاب .
    (5) - أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المناقب، شفقته صلى الله عليه وسلم ( 2285 ).


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #56
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(53)




    حالة العالم قبل الإسلام ( 2 - 6 )




    وسوف نعود بشيء من التفصيل إلى دراسة أحوال البشرية عامة والجزيرة العربية خاصة لنتأكد من الاحتياج إلى رسالة . وإن كنا قد تأكدنا من خلال الآيات السابقة على أن البشرية كانت في حاجة إلى رسالة تخرجها من الظلمات إلى النور .

    وأما عن وفاء تلك الرسالة باحتياجات البشرية فإن ذلك يعرفه كل من حاول دراسة الإسلام وفهم تعاليمه ، وإن دينا يدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وليس كمثله شيء ومتصف بصفات الجلال والكمال . ويدعو إلى مكارم الأخلاق ويأمر بالإحسان وإيتاء ذي القربى كما يأمر بأخذ العدل والحكم به وأداء الأمانات إلى أهلها كما ينظر إلى الناس على أنهم سواسية كأسنان المشط لا فضل لأحدهم على الآخرين إلا بالتقوى والعمل الصالح كما يدعو إلى صلة الأرحام وإفشاء السلام وإطعام الطعام كما ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وعن إراقة الدماء وأن نعتدي على الدماء والأموال والأعراض وينهى عن الإثم والعدوان .

    أقول إن الدين يأمر بتلك الأخلاق وينهى عن كل هذه المفاسد لحري أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور وأن يقيم على الأرض مجتمع الإيمان والأخلاق الفاضلة والتعاون والتآزر إلى ما فيه صلاح البشرية وخيرها .

    وغنى عن البيان أن أنبه إلى تلك المعاني السابقة وأعظم منها التي أفاضت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في ذكرها وبيانها ولولا خشية التطويل لتعرضنا إلى ذكرها ــ كما أنها ليست مما نعرض له الآن ــ إلا بالقدر الذي يجيب على ذلك السؤال الذي أثاره المفكرون عن وفاء رسالة الإسلام بحاجة البشرية ، ثم إن التعرض لذكر ذلك بالتفصيل هو شرح للإسلام وتعاليمه بتفصيل يحتاج إلى مجلدات ــ وإنما نعرف فضل إسلامنا ونزداد تمسكا به ونعض عليه بنواجذنا كما نقف على فضل رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي أتى الله على يديه بذلك الخير العميم فجزاه الله الإسلام وأهله خير ما جزى به نبينا عن أمته .

    أما عن سهولة تعاليم الإسلام ويسرها فيكفي أن نورد في هذا المقام طائفة من الآيات القرآنية وبعض الأحاديث الواردة في هذا الصدد .

    قال تعالى " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " (1) ومعنى ذلك أن الله تعالى لا يتكلف عباده ي إلا بما يطيقون ولا يأمرهم إلا بما يسعه جهدهم ولذلك فإن تطبيق أمور الدين في كل فرد إذا أراد أن يكون له من الخير نصيب وقال سبحانه " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " (2)

    وقال عز من قائل " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " (3)وقال تعالى " وما جعل عليكم في الدين من حرج " (4) .

    وقد روى البخاري بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه قال : ( إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبة فسددوا وقاربوا ).





    (1) - الآية الأخيرة من سورة البقرة .

    (2) - البقرة 185 .

    (3) - المائدة آية 6 .

    (4) - الآية الأخيرة من سورة الحج .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #57
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(54)

    حالة العالم قبل الإسلام (3-6)

    وروى البخاري بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أنها قالت ( ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها ) (1)
    وروى البخاري في كتاب العلم باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره بسنده إلى أبي مسعود الأنصاري قال : قال رجل : يا رسول الله . لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان . فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشد غضبا من يومئذ فقال : أيها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة ) .
    إن هذه الآيات والأحاديث النبوية توضح بجلاء منهج الإسلام في السهولة واليسر وأن تكاليفه لا تستعصي على أحد ما دام يخلص نيته لله رب العالمين بل إننا نستطيع أن نستنتج من الحديث الأخير أن تعاليم الإسلام في مستوى المريض والضعيف وذي الحاجة وإنها تراعي قدرات الناس وظروفهم وأحوالهم .
    والمتتبع لمنهج الإسلام في رخصه ـ مثل قصر الصلاة وجمعها للمسافر ومثل الإعفاء من حضور صلاة الجماعة لأصحاب الأعذار ومثل إباحة الإفطار للمسافر والمريض والمرضع والحامل يتضح له مدى سماحة الإسلام ويسر تعاليمه ومراعاته لأحوال الناس تحت كل الظروف التي قد يتعرضون لها .
    وأما عن تجسد تعاليم الإسلام في شخص صاحب الدعوة فإن قول الله تعالى ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) كفيل ببيان هذا التجسيد العملي لتلك التعاليم الكريمة .

    وقد روى الإمام مسلم بسنده إلى سعد بن هشام أنه قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : ( يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : ألست تقرأ القرآن? . قلت : بلى قالت فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن ) صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، لقد ائتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر القرآن وانتهى بنهيه ، وبعبارة أخرى فإنه لم يأمر بشيء إلا وفعله ولم ينه عن شيء إلا وكان أول المنتهين عنه بل إنه كان يشتد على نفسه صلى الله عليه وسلم ـ وييسر على أمته ويدلن قد على ذلك وصاله في الصيام وغير ذلك مما فاضت به كتب السنة .
    إن الفجوة بين النظرية والتطبيق قضية يعاني منها الإنسان في العصر الحاضر من أصحاب النظريات المختلفة من شيوعيين وغيرهم ــ بل أنهم يحملون رعاياهم على غير ما يلزمون به أنفسهم و قد أوجد ذلك في مجتمعاتهم صفات قذرة مثل النفعية والوصولية وانتهاز الفرص والنفاق والخداع وغيرها من أقبح الصفات ، أما نحن الذين شرفهم الله تعالى بالإسلام فقد تتلمذنا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطانا المثل والقدوة من نفسه فكان خير عنوان لرسالة الإسلام بكل ما تحمله تلك الرسالة المباركة من معاني الخير والنور والهداية تبني البشر جميعا .
    ولقد قدمنا هذا المبحث بين يدي حديثنا عن موضوعات السيرة العطرة ليتبين لنا عن أي رسالة نتحدث ـــ وعن أي رسول نتكلم، إنه رسول يعلو فوق كل تعبير ويسموا عن أي بيان .
    ورسالة الإسلام ـ صادقة وثابتة ـ وفق هذا المنهج الذي ارتضاه هؤلاء المفكرون ـ ووفق أي منهج يرتضيه أصحاب العقول المستقيمة والفطر السليمة بل هي تحمل دلائل صدقها بين طياتها بصرف النظر عن تلك المناهج أو غيرها وما ذكرنا هذا المنهج لكي تحتم إليه ــ في صدق رسالة الإسلام ــ كلا وحاشا ــ وإنما لأنه منهج توافق في عناصره مع ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله . أو بعبارة أدق هو منهج مستمد من كتاب الله وسنة رسوله اللذين أقاما الأدلة الدامغة والبراهين الواضحة علي صدق الرسالة والرسول ــ ذلك الرسول الكريم الذي مع سيرته العطرة النقية في صفحات مقبلة بإذن الله .


    (1) البخاري كتاب بدء الخلق باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #58
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(55)



    حالة العالم قبل الإسلام (4-6)

    إن الله عز وجل قد خلق الجن والإنس لمهمة حددها القرآن الكريم حيث قال تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )(1) ومن أجل ذلك بين الله للبشرية الطريق التي يجب أن تسلكها لتحقيق تلك العبودية لله رب العالمين وتوالت رسالات السماء ترى تحقيقا لذلك الغرض ، بل إن المخلوق الأول الذي بدأت به عمارة الأرض وخلافة الله في الكون وهو سيدنا آدم كان نبيا من الله وكان ذلك لبيان أن البشرية يجب أن ترتبط بخالقها وهاديها منذ اللحظة الأولى لممارسة مهمتها على وجه الأرض .

    ولقد تعثرت البشرية مرات ومرات أثناء سيرها على طريق العبودية لله رب العالمين ، وكلما تعثرت أرسل الله لها رسولا لكي يقيل تلك العثرة ويصحح مسار البشرية على طريق العبودية الذي يجب أن تواصل السير عليها إلى أن يأذن الله بانتهاء تلك المهمة وقيام الساعة .

    وبكل أسف فإن عثرات الإنسانية وضلالتها قد تكاثرت وتعددت ولكن مدد الله وغيثه قد تواصل حتى لا يكون للناس حجة على الله بعد الرسل .

    ويتأكد هذا المعنى واضحا من قوله تعالى (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ) (2) .

    وكان كل رسول يأتي يؤكد ما قاله الرسل من قبله ويؤكد المهمة التي خلقت البشرية من أجلها ، لأن أصول العقائد في جميع الأديان واحدة فهي كله تدعو إلى الإيمان بالله الواحد والإيمان بالرسل وبالكتب السماوية وبملائكة الله واليوم الآخر .

    والاختلاف بينها كان في التشريعات والتكليفات فقط ــ لأن كل شريعة جاءت ــ بالإضافة إلي الأصول العامة السابقة ــ جاءت بتشريعات مناسبة لأحول البيئة التي نزلت فيها ، ويتأكد هذا المعنى من قول رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلاّ وضعت هذه اللبنة ، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)(3) .

    فالنبوة حلقات متواصلة لتصحيح مسار البشرية كلما بعدت عن طريق العبودية لله : وهي المهمة التي خلقت من أجلها بل هي مبرر وجودها على ظهر الأرض . وتوالت تلك الحلقات إلى أن كانت آخر الديانات الإسلامية قبل الإسلام وهي اليهودية والمسيحية .

    ولا شك أن هاتين الديانتين تلتقيان في أصولهما العامة ــ مع الإسلام شأنهما في ذلك شأن سائر الديانات .









    (1) الآية 56 من سورة الذاريات .

    (2) الآية 44 من سورة المؤمنون .

    (3) رواه الشيخان واللفظ لمسلم .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #59
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(56)


    حالة العالم قبل الإسلام (5-6)



    وفي مصر نشأ موسى عليه السلام وبعثة الله إلى فرعون فدعاه إلى عبادة الله الواحد الأحد ، ولكن فرعون طغى وتكبر وقابل دعوة موسى بالصدود والنكر أن ووقف يقول ( أنا ربكم الأعلى ) وحاول قتل موسى ومن معه ولكن الله تعالى نجاه من كيده فخرج من مصر ببني إسرائيل إلى فلسطين، وفي فلسطين كانت دعوة عيسى عليه السلام ، وبعد أن رفعه الله إليه وتحمل أتباعه صنوفا من الأذى والعذاب أذن الله للمسيحية أن تنتشر فقبض لها عاهل الروم الذي انتسب إليها ـــ ودولة الرومان يومئذ صاحبة السيادة على القسم العربي من العالم فهي تبسط سلطانها على جزء كبير من أوربا وحوض البحر الأبيض المتوسط ومصر والشام .وقد نشر الإمبراطور المسيحية على تلك البقاع المذكورة مستغلا نفوذه السياسي وقوة دولته في تحقيق ذلك .

    أيا ما كان الأمر فقد انتشرت المسيحية على تلك البلاد كما ذكرنا، ولكنها بعد مدة من الزمن انحرفت على يد أتباعها في كثير من أصول العقائد وعلى رأسها توحيد الله عز وجل ، وانقسموا فيما بينهم إلى شيع وأحزاب ، وبكل أسف فإن هذا الانقسام لم يكن في فهم تشريعات الدين وتكاليفه وإنما هو انقسام يتعلق بأصول العقائد نفسها فمن قائل منهم أن الله ثالث ثلاثة ومن قال أن المسيح هو الله . وقد سجل القرآن الكريم عليهم هذا الخزي فقال سبحانه ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) (1) وقال تعالى ( لقد كفر اللذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن اللذين كفروا منهم عذاب اليم ) (2) ونهاهم عن الغلو في دينهم وطالبهم في قول الحق في الله تعالى فقال سبحانه ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ، لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون )(3) .

    ولم يتوقف انحراف المسيحية عند مجال العقائد فقط بل أن هذه الديانة السمحة قد تحولت ــ على يد أتباعها ــ إلى ديانة عنصرية استعمارية تبسط سلطانها بالقهر على رعايا الدول الواقعة تحت سلطانها وتقتل في بشاعة كل مخالفيها في العقيدة . بل إن أتباع كل مذهب منهم كانوا يحاولون نشره على أتباع المذهب الآخر بالغلبة والقهر .

    وهذا المجال لا يتسع لسرد ذلك بالتفصيل ــ ولكننا نسجل الحالة التي كان عليها العالم في ذلك الوقت والذي تنبىء حالته عن حاجته لرسالة تخرجه من ذلك الانحدار الرهيب الذي هوى إليه .

    ومن قبل المسيحية انحرفت اليهودية هي الأخرى في عقيدتها فقالوا عزيز ابن الله وقالوا يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وانحرفت أيضا في سلوكها فأباحت لنفسها قتل الآخرين والاستيلاء على أموالهم وأعراضهم ولأنهم ــ فيما يزعمون ــ شعب الله المختار ــ وبقية الشعوب مسخرون لخدمتهم ، "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم . بل أنتم بشر ممن خلق .."(4)

    وحاول أتباعها فرض سلطان ديانتهم بالقوة . وما قصة أصحاب الأخدود عنا ببعيد تلك القصة التي استشهد فيها عشرون ألفا من النصارى في اليمن على يد ذي نواس اليهودي ، والقصة بتفاصيلها موجودة في كتب السيرة لمن أراد المزيد .

    ذلك حال العالم في نصفه الغربي يوم ذاك .









    (1) ، (2)ـ الآيتان 72 / 73 من سورة المائدة .

    (3)الآيتان 171 .172 من سورة النساء .

    (4)الآية 18 من سورة المائدة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #60
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(57)



    حالة العالم قبل الإسلام (6-6)
    ولم يكن العالم في نصفه الشرقي أحسن حالا من ذلك.
    فالفرس - وهم القوة العظمى الثانية بعد الرومان - في ذلك الوقت البعيد ، كانوا يدينون بالمجوسية ، فهم عبدة النار ، قد عظموها وألهوها وبنوا لها المعابد والهياكل ، وخصصوا لها من يوقدها في معابدها ، ويحافظ على اشتعالها فلا تنطفئ ، ومما يذكر أن والد سلمان الفارسي كان مسئولا عن معبد من معابد النار ، وقد اختار ولده سلمان ليوقد النار في بيت من بيوتها ومعبد من معابدها ، ولكنه -رضي الله عنه - لم يؤمن بهذه الديانة ، ولم يستسغ هذه العبادة ، فتركها وهجرها وهجر فارس يبحث عن معرفة الإله الحق الذي يستحق العبادة ، وقد لقي في سبيل ذلك العنت والمشقة ، ووقع في رق يهودي من يهود المدينة ، وظل كذلك حتى هداه الله للإسلام وحرره المسلمون من اليهودي .
    وعبد الفرس الكواكب والشمس كذلك ، وكانت هذه العبادة ليست كعبادة النار ، وكان هناك في فارس الزرادشتية التي تنادي بأن الوجود له إلهان ، إله الخير وإله الشر ، وأنهما يتنازعان الإنسان والكون كله .
    وكان في فارس أيضا مذهب ماني ، وعقيدته تسمى المانوية ، ويقوم هذا المذهب على أن وجود الإنسان كله شر يجب ألا يبقى ، بل يجب العمل على إفناء الإنسان ، فهو مذهب يدعو إلى الفناء، ولذلك يمنع الزواج ، حتى لا يكون تناسل ، وينتهي ذلك الإنسان الذي اعتبر وجوده لعنة في الأرض ، وما دام الإنسان في الإنسان مستمرا ، فإن اللعنة في الإنسانية مستمرة ، فهو يتوهم أن الإنسان نزل إلى الأرض بخطأ ارتكبه أبوه ، فالخطيئة باقية بوجوده(1) .
    وبعد ذلك جاء مزدك بمذهب الإباحية ،الإباحية في كل شيء ، في النساء والأموال ، فدعا إلى شيوع الجنس وممارسته بين جميع الرجال والنساء وحتى بين المحارم من الرجال النساء كالأخوات والأمهات والبنات ، وقد تزوج أحد ملوكهم ابنته آخذا بمذهب الإباحية المزدكية .
    ويقوم مذهب مزدك الإباحي على فكرة أن سبب الاختلاف بين الناس والخصومات هي الحرص على حيازة النساء بالزواج ، وحيازة الأموال بالتملك والادخار ، وحتى يقضي على هذا الشر ينبغي أن يقضي على سببه ، وذلك بالإباحة المطلقة في الأموال والنساء(2) .
    وأما بقية العالم من هنود وصينيين : فقد انتشرت في الهند البراهمية ، نسبة إلى الإله الذي ابتدعوه ، ويدعى براهمة ،وقد قسموا الناسفي الهند إلى طبقات ومستويات بزعمهم تختلف باختلاف العضو من الإله براهمة الذي خلقوا منه .
    فقد تعارفوا واعتقدوا أن الذين خلقوا من رأس الإله براهمة ، هم الطبقة الأولى والأوفر حظا في المجتمع الهندي ، وهؤلاء هم رجال الدين.
    والطبقة الثانية التي تأتي بعد هؤلاء هم الذين خلقوا من كتف الإله براهمة ، وهم الجنود والمحاربون .
    والطبقة الثالثة وهم الذين خلقوا من ركبة الإله براهمة ، وهم طبقة الخدم .
    والطبقة الرابعة ، وهي أدنى الطبقات ، وتتكون من أولاد الزنا والمحرومين والمنبوذين وأصحاب الأعمال الحقيرة .
    وقد أجريت تعديلات وتطوير على البرهمية ، وبخاصة تقسيم الناس إلى طبقات ، والذي قام بهذه التعديلات بوذا ، إذ قام يدعو إلى تخفيف ويلات الإنسانية التي أرهقها نظام الطبقات ، ودعا إلى التقشف والزهد وكف الناس عن شهواتهم وأهوائهم ، وهذه الشهوات في نظر بوذا هي التي تشقي الناس ، والعلاج التخفيف منها ، وتربية النفس على الاكتفاء بالقليل ومجانبة الأهواء والشهوات .
    ومن أجل ذلك فقد وضع منهاجا للتربية النفسية ووضع مبادئ لها ، إلا أن هذه المبادئ لا تعتمد على عقيدة موجهة ، وبخاصة أن بوذا المصلح قد أنكر وجود الله الخالق لهذا الكون بما فيه من حياة وإنسان ، ونتج عن هذا عبادة الأوثان ، وشيوع الأوهام ، وضلت الهند سواء السبيل ، وانغمست في كفرها وشركها وانتظرت الإنقاذ مما هي عليه من الفساد(3).
    وأما الصين فقد انتشر فيها مذهب بوذا مع أن البوذية نشأت في الهند ولكنها انتقلت إلى الصين وأقبل الصينيون عليها ، وقد انتقلت الوثنية إلى البوذية في الصين كما انتقلت إليها الوثنية في الهند سواء بسواء ، وكان الانحراف في العقول والأفهام .
    وقد ظهر في الصين الفيلسوف كونفوشيوس فاعتنق البوذية إلا أنه طور فيها وأدخل الناس إليها .
    وأخيرا فقد انتهت الصين إلى عقيدة فاسدة لم تتعرف على الله ولم تؤمن بالله تبارك وتعالى ، ولم تهتد إلى شرعه الذي يضع القيم السليمة والأخلاق الفاضلة التي تسعدهم في الدنيا والآخرة ، فعاشوا كغيرهم في ضلال وانحلال(4).



    (1) - انظر : خاتم النبيين للشيخ أبي زهرة ( 1 / 18 ) .
    (2)- انظر : خاتم النبيين ( 1 / 18 ــ 19 ) .
    (3)- انظر : خاتم النبيين ( 1 / 24 ــ 27 ) .
    (4) - انظر : خاتم النبيين ( 1 / 27 ــ 30 ) .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •