تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 123456 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 111

الموضوع: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    ا.د.فالح بن محمد الصغير


    الحلقة(19)
    أهمية السيرة وبواعث دراستها (11-12)


    وكان من شدة طاعتهم له صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم نهى أهل المدينة عن كلام الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فما كان من الناس إلا أن أطاعوه وأصبحت المدينة لهؤلاء كأنها مدينة الأموات ليس بها داع ولا مجيب، يقول كعب: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، قال: فاجتنبنا الناس، أو قال تغيروا لنا، حتى تنكرت لي نفس الأرض فما هي الأرض التي أعرف، إلى أن قال: حتى إذا طال علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة – وهو ابن عمي وأحب الناس إلي –فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيني وتوليت حتى تسورت الجدار.
    وكان من طاعته أيضا وهو في موضع عتاب وجفوة أن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأيته ويقول له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقال: أطلقها أم ماذا أفعل؟ فقال: لا بل اعتزلها فلا تقربنها، فقال لامرأته: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله من هذا الأمر.
    وكان من حبة للرسول صلى الله عليه وسلم وإيثاره على كل أحد في الدنيا أن ملك غسان يخطب وده ويستلحقه بنفسه، وتلك محنة عظيمة في حال الجفوة والعتاب، ولكنه يرفض ذلك، قال:(بينما أن أمشي في سوق المدينة إذ نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له إلى حتى جاءني، فدفع إلى كتابا من ملك غسان – وكنت كاتبا – فقرأته فإذا فيه: أما بعد: فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جافاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذه أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها)(1).
    ومن غرائب الطاعة وسرعة الانقياد ما حدث عند نزول النهي عن الخمر في مجلس شرب، فعن أبي بريدة عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن على رملة، ونحن ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطية(2) لنا، ونحن نشرب الخمر حلاً، إذ قمت حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وقد نزل تحريم الخمر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) – إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ).فجئت إلى أصحابه فقرأتها عليهم إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ). قال: وبعض القوم شربته في يده، قد شرب بعضا وبقي بعض في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام، ثم صبوا في باطيتهم فقالوا: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا(3).
    ومن غرائب الطاعة للرسول وإيثاره على النفس والأهل والعشيرة ما روي عن عبدالله بن عبدالله بن أبي، روي ابن جرير بسنده عن ابن زيد قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن عبدالله بن أبي قال: ألا ترى ما يقول أبوك؟قال: ما يقول بأبي أنت وأمي؟ قال: يقول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: فقد صدق والله يا رسول الله، أنت والله الأعز وهو الأذل، أما والله لقد قدمت المدينة يا رسول الله وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبر مني، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لأتيتهما به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا.
    فلما قدموا المدينة قام عبدالله بن عبدالله بن أبي علي بابها بالسيف لأبيه، ثم قال: أنت القائل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؟ أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يأويك ظله ولا تأويه أبدا إلا بإذن من الله ورسوله، فقال: يا للخزرج، ابني يمنعني بيتي، يا للخزرج ابني يمنعني بيتي !! فقال: والله لا يأويه أبدا، إلا بإذن منه؛ فاجتمع إليه رجال فكلموه فقال: والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال:اذهبوا إليه فقولوا له خلَّه ومسكنه.فأتوه فقال: أما إذا جاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم فنعم (4).



    (1) هذه أجزاء من حديث الثلاثة الذين خلفوا. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، رقم (4418) ومسلم، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، رقم (2769).
    (2) الباطية: ناجود الخمر، وهي إناء عظيم من زجاج تملأ من الشراب وتوضع بين الشراب يغرفون منها ويشربون.
    (3) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (5/36).
    (4) تفسير الطبري (12/107-108) وإسناده منقطع والحديث له طرق يؤيد بعضها بعضا،وترتقي إلى درجة الحسن لغيره.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    ا.د.فالح بن محمد الصغير


    الحلقة(20)
    أهمية السيرة وبواعث دراستها (12-12)






    ومن ثم أجمع أهل التأويل وعلماء الأمة على أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم – تعني: الالتزام بسنته ، والسير على طريقته ، والتسليم لما جاء به ، فينزل المرء على حكمه ، وينقاد لشرعه ، فمن لم يطعه في شريعته ، ويأبي النزول على حكمه ، ويستهين به أو بشرعه فهو كافر في ملته ، ومشكوك في عقيدته ، قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [ سورة النساء /65 ].

    وجامع الأمر في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هو قوله: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [ سورة الحشر / 7 ].

    وقد روي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصا الله ،ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصى أميري فقد عصاني)(1).

    وروي البخاري أيضا عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى)(2).

    هذه بعض الأدلة التي وردت في الكتاب والسنة تؤكد على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره.

    من ثم وجب معرفة أوامره ونواهيه النبي صلى الله عليه وسلم ، والوقوف على أقواله ، وأفعاله ، وتقريراته ، وأخلاقه ، وسائر أحواله وذلك مرهون بدراسة سيرته ومعرفة سائر أخباره، ومن هنا تأتي فرضية دراسة السيرة.

    يقول القاضي عياض: " أعلم أن من أحب شيئا آثره وآثر موافقته ، وإلا لم يكن صادقا في حبه وكان مدعيا ، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه ، وأولها الاقتداء به ، واستعمال سنته ، واتباع أقواله وأفعاله ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، والتأدب بآدابه في عسره ويسره ، ومنشطه ومكرهه(3).









    (1) أخرجه البخاري ،كتاب الأحكام ، باب قول الله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (7137).

    (2) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام ، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (7280).
    (3) الشفا (2/ 517).
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    جزاكم الله خيرا على التثبيت
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    ا.د.فالح بن محمد الصغير


    الحلقة(21)




    التأسي به صلى الله عليه وسلم(1-4)




    إن الله تعالى جعل رسوله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وألزم كل مسلم أن يسير على هديه، وأن يحذو حذوه، والسيرة تضمن لنا التعرف على ذلك من حياته صلى الله عليه وسلم، فهي السجل الحي الذي ينقل لنا الكلمة والحركة، والموقف من القضايا، والسلوك المتخذ إزاء الحوادث... فنكون على صلة بتصرفاته في تطبيقاتها العملية، لا أمام مجرد أوامر وتعليمات لم تلامس واقع الناس، ولم تتعرض لحرارة الاحتكاك به، مما يساعدنا على انتهاج مسلك الرشد وسلوك السبيل السوي الذي به النجاة، يوم يقوم الناس لرب العالمين(1).

    إن مشيئة الله شاءت أن تكون رسالة الإسلام هي منهج الحياة الذي أراد الله تعالى لعباده أن يسيروا على هديه، ولما كان ذلك كذلك، كان من رحمة الله بعباده أن جعل من مهمة حامل الرسالة " أن يؤديها بيانا عمليا في واقع الحياة، بكل ما في هذا الواقع من ملابسات ومفاجآت، حتى تكون " حياته " منارا لعباد الله في كل الظروف وعلى اختلاف الأيام.

    وفي القرآن آيات كثيرة تبين هذا المعنى وتؤكده ومن ذلك، قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [ سورة الأحزاب /21 ].

    وقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [ سورة آل عمران /31 ].

    قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: (هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل)(2).

    ونحن كثيرا ما نستشهد بالآية الكريمة على ضرورة اتباعه صلى الله عليه وسلم في كل أمر من أموره، وفي كل عمل من أعماله، وفي كل شأنه من شئونه... بحيث تكون سيرته نصب عيني كل مسلم فيتأسى به ويسير على هديه.

    وإذا علمنا أن هذه الآية نزلت في مناسبة غزوة الأحزاب.. علمنا أن هذا التأسي ليس قاصرا على قضايا السلم، بل هو إلزام في أوقات الأزمات، حيث يكون التأسي به صلى الله عليه وسلم ثباتا في الجأش، وقوة في الأعصاب، وصبرا جميلا في مواجهة المصاعب. وهذا هو الميدان الأول الذي نزلت الآية الكريمة في مواجهته.

    قال أحد المفسرين: (وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد، مثابة الأمان للمسلمين، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان، وإن دراسة موقفه صلى الله عليه وسلم في هذا الحادث الضخم، لمما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم، وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وتطلب نفسه القدوة الطيبة، ويذكر الله ولا ينساه).

    وتؤكد آية (آل عمران) معنى ما جاءت به آية الأحزاب، وتضيف إليه: أن اتباعه صلى الله عليه وسلم والتأسي به، هو التعبير الصادق عن الحب لله تعالى، وهو بالتالي الوسيلة لحصول العبد على محبة الله تعالى له، وتلك هي الغاية التي يسعى إليها كل مسلم ومؤمن.









    (1) من معين السيرة ص 7.
    (2) تفسير ابن كثير 3/ 474.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    ا.د.فالح بن محمد الصغير


    الحلقة(22)




    التأسي به صلى الله عليه وسلم(2-4)



    إن السيرة النبوية تجسيد حي لتعاليم الإسلام كما أرادها الله أن تطبق في عالم الواقع، فتعاليم الإسلام لم تنزل لتحصر بين جدران المساجد، وداخل أروقة بيوت العلم الشرعي وكلياته، بل تنزلت من الحكيم العليم لتكون سلوكا إنسانيا ومنهجا حياتيا يعيشها الفرد المسلم في نفسه وشخصه، ويدركهما في واقعه ومجتمعه، هذه التعاليم ينشأ في بحبوحتها الفرد، ويشب عليها فتصبح جزءاً لا يتجزء من كيانه، يتصرف على هديها في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل موقف وشأن، فالمبدأ النظري يرى ماثلا قائما في شخص صاحبه، وهذا ما نجده في السيرة النبوية حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجسم تعاليم الإسلام كما أرادها الله تعالى أن تطبق في عالم الأحياء والبشر، وذلك في جميع أحواله وظروفه، نوما ويقظة، سلما وحربا، جداً ومداعبة، غضبا ورضا، فردا وجماعة، فإذا ما فارق التربية الإلهية قيد أنملة جاءه التصحيح والتنبيه والتعليم من الله عز وجل.

    ولذا فقد اجتمع في هذا الدين عظمة المبدأ، وجودة المطبق، ولم يبق لأحد بعد ذلك حجة يحتج بها، وأصبح أمام الناس أجمعين القرآن الكريم يتلى ومعه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تبين للناس كيف يتحول القرآن الكريم إلى سلوك عملي في الحياة يصلح الدنيا والآخرة.

    وإن عظمة المبدأ – كما يقول العلامة سليمان الندوي – لا تغني عن وجود القدوة الحسنة، وإن أي نظرية مهما بلغت من الصحة والدقة، وإن تعليما مهما يكن رائعا، ويقع من الناس موقع الإعجاب، لا يغني ولا يثمر ثمره، ولا يبقى على الدهر إلا إذا كان له من يمثله بعمله، ويدعو إليه بأخلاقه وفضائله، ويعرفه إلى الناس بالقدوة والأسوة، فيقتدي الناس بدعاته عن طريق العمل بعد العلم، معجبين بسجايا هؤلاء الدعاة، معظمين لأخلاقهم، مكرمين طهارة قلوبهم، وزكاة نفوسهم.. والدين لا ينجح ويعلو وينتشر إلا بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث به، وبما عرفه الناس عنه في شؤون حياته وفي أخلاقه وأعماله.

    ولذلك فالسيرة جزء من هذا الدين، والتعريف بها تعريف بهذا الدين.

    يقف الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطيبا في أول خطبة له بعد وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتوليه الخلافة، يقول بعد حمد الله والثناء عليه: " إن الله تعالى نهج سبيله،وكفانا برسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق إلا الدعاء والاقتداء ".

    والاقتداء الشرط فيه: وضوح القدوة وصلاحيتها للاقتداء، ولقد كانت سيرة محمد صلى الله عليه وسلم هي السيرة الوحيدة التي جمعت الخصائص الأربع المطلوبة التي يجدر بالناس أن يتخدوها قدوة في حياتهم، وهي:كونها تاريخية وجامعة وكاملة وعملية، فهي سيرة تاريخية، يشهد التاريخ بصحتها، وجامعة لجميع أطوار الحياة، وأصناف المجتمع، وجميع شؤون الحياة، وكاملة لا نقص فيها، وعملية فلم تكن قوليه فقط، بل قول من الداعي صلى الله عليه وسلم يصحبه عمل وتطبيق على نفسه، ولن نجد سيرة لفرد تصلح أن تكون للإنسانية أسوة سوى سيرة هذا النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم(1).








    (1) انظر: مصادر السيرة النبوية وتقويمها ص 13، الرسالة المحمدية ص 8-67-68، فقه السيرة للدكتور زيد الزيد ص 7-9.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    ا.د.فالح بن محمد الصغير


    الحلقة(23)




    التأسي به صلى الله عليه وسلم(3-4)


    ونلفت النظر في هذا الباعث إلى أمرين:
    أولهما: أن الاتباع والتأسي أوسع دائرة من إطاعة الأمر واجتناب النهي، فالتأسي تتبع للأقوال والأفعال، في كل صغيرة وكبيرة، في العادات وفي العبادات، في الفروض والواجبات والمباحات... في ذات العمل وفي طريقة أدائه، في القول وبالطريقة التي أدى بها هذا القول... إنه التأسي بالمضمون والشكل.
    ثانيهما: أن كل رسول كان أسوة حسنة لقومه.... أما محمد صلى الله عليه وسلم فكان أسوة حسنة للناس جميعا، وفي كل فضائل الحياة.
    ولم يرد وصف الأسوة الحسنة على إطلاقها في القرآن الكريم إلا خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء وذلك في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [ سورة الأحزاب /21 ].
    وإنما كان وحده عليه السلام الذي تمثلت فيه الأسوة الكاملة المطلقة دون غيره من الأنبياء والمرسلين لأمور منها:
    أولاً: أن الرسل غيره كانوا رسلا قوميين، كل رسول منهم أرسل إلى جماعة خاصة محدودة الزمان والمكان، ولهذا جاءت الأسوة فيه وفق هذه الحدود وفي نطاقها، أما محمد عليه السلام فقد جاء رسولاً للعالمين، ورسالته عامة وباقية على امتداد الزمان والمكان، ولهذا وجب أن تكون الأسوة فيه مطلقة، تتكامل جوانبها ليجد فيها كل الناس مثلهم العليا على اختلاف قومياتهم، وامتداد بيئاتهم، وتوالي أجيالهم.
    ثانيا: أن حياة الرسل غير محمد حياة خافية في أكثر جوانبها السلوكية لا يعرف الناس الكثير منها حتى الخاصة منهم لأن اتباع الرسل لم يهتموا بتسجيل حياتهم، وتتبع مواقفها العامة والخاصة،وتسجيله ا وحفظها ليجد الناس فيها أمثلة للأسوة في شتى مواقف الحياة.
    أما حياة محمد عليه السلام فهي واضحة جلية مسجلة بكل نبضاتها وشتى مواقفها في مراحلها المتعاقبة منذ أن ولد وإلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، وهي حياة حافلة بالجوانب المضيئة، وكل نبضة من نبضاتها هي مثل أعلى للأسوة الحسنة، يتأسى بها طلاب الفضيلة العالية والسجايا الإنسانية الرفيعة.
    يقول مسلم هندي: "إن سيرته صلى الله عليه وسلم معروفة منذ نعومة أظافره إلى أن اختاره الله لجواره، لاسيما الفترة التي أدى فيها الرسالة، ولست أغالي إذا قلت: إنني أعرفه أكثر مما أعرف أبوي، ثم أليس من العجيب، أننا لا نجد فيما أثر عنه – على كثرته – إلا كل ما يدعو إلى الاحترام والإعجاب ؟!.
    غيره من الأنبياء مضروب عليه حجاب من الغموض والأساطير، ولا نعرف من حياتهم اليومية إلا القليل، وما يحكي عنهم يشبه كلام الكهان"(1).






    (1) المثل الأعلى في الأنبياء لخواجه كمال الدين ص 45.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    ا.د.فالح بن محمد الصغير


    الحلقة(24)




    التأسي به صلى الله عليه وسلم(4-4)



    ثالثا: أن الرسل غير محمد لم يكتمل لواحد منهم تمثل الحياة في جميع جوانبها كما توفرت له عليه السلام، ولم تتهيأ مقتضيات الفضائل لواحد منهم كما تهيأت له، وليس فيهم من تعرض لممارسة ألوان النشاط البشري جميعا كما تعرض لها عليه السلام، فقد نشأ عليه السلام يتيما فقيرا، وعاش حياته مجاهدا، ومارس أنشطة الحياة البشرية راعيا وتاجرا، جنديا وقاضيا، داعيا ومعلما، وتقلب في أدوار الحياة زوجا، وأبا، وصديقا، وجارا، وسيدا، وحليفا.

    ذاق مرارة الاضطهاد بين أهله، وذاق مرارة الاغتراب بعيدا عن أهله، عاش حياة الفاقة، ومسك بيديه مفاتيح الدنيا، تألب عليه الغريب والبعيد، ودان له السادة والأقوياء،وعاش الحرب هزيمة ونصرا، عرض نفسه على الأحياء فارا بدينه مهاجرا برسالته، عاش حياة العزة والمنعة سيدا مطاعا عزيز الجوار، لم يفته موقف من مواقف الحياة إلا وقد تمرس به فعايش الحياة في رحابتها وتشابك أحداثها وتعدد جوانب النشاط فيها، فخرج منها جميعا مثلا أعلى تجتمع فيه فضائل الحياة الإنسانية التي يتحلى بها الفضلاء، وإنما كان ذلك كله بتدبير ربه الذي رباه على منهجه، وأدبه فأحسن تأديبه، وصقله في بوتقة الحياة، ضرائها وسرائها، وهذبه بتجاربها حتى خرج على الصورة الكاملة والأسوة الجامعة لفضائل الخلق العظيم.

    وليس ثمة نبي غيره اجتمعت له كل هذه الجوانب من ممارسات الحياة كما اجتمعت له، ولهذا كان عليه السلام أكملهم جميعا في فضائل الأسوة الحسنة لأن دواعي الفضيلة تهيأت له وتكاملت فيه.

    ولن تجد سجية من سجايا الفضل التي تحلي بها الأنبياء والمرسلون وتغياها الفضلاء والمصلحون، إلا وجدتها ممثلة فيه، لأنه مر بأدوارها وعاش مواقفها"(1).

    ونحن لا نجد مثل هذا الشمول ولا قريبا منه فيما بقى لنا من سير الرسل السابقين ومؤسسي الديانات والفلاسفة المتقدمين والمتأخرين.

    فموسى عليه السلام – يمثل زعيم الأمة الذي أنقذ أمته من العبودية، ووضع لها من القواعد والمبادئ ما يصلح لها وحدها، ولكنا لا نجد في سيرته ما يجعله قدوة للمحاربين أو المربين أو السياسيين أو رؤساء الدول أو الآباء أو الأزواج مثلا، فضلا عن أننا لا نعرف شيئا قط عن طفولته وشبابه وطرق معيشته قبل النبوة وما عرفناه بعد النبوة فقليل.

    وعيسى عليه السلام يمثل الداعية الزاهد الذي غادر الدنيا وهو لا يملك مالا ولا داراً ولا متاعا، ولكنه في سيرته الموجودة بين أيدي المسيحيين – لا يمثل القائد المحارب ولا رئيس الدولة، ولا الأب، ولا الزوج – لأنه لم يتزوج – ولا المشرع ولا غير ذلك، مما تمثله سيرة محمد صلى الله عليه وسلم.

    والإنسان الوحيد في التاريخ الذي يصلح أن يكون قدوة لجميع الفئات وجميع ذوي المواهب وجميع الناس هو محمد صلى الله عليه وسلم(2).

    وصدق الله إذ يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [ سورة الأحزاب / 21 ]. فكان صلى الله عليه وسلم على هذا" أعمال مفصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العلمي الثابت المستقر، تنظم به أحوال النفس على ميزة وبصيرة، وكانت نفسه صلى الله عليه وسلم أبلغ الأنفس قاطبة لا يمكن أن تعرف الأرض أكمل منها ولو اجتمعت فضائل الحكماء والفلاسفة والمتألهين وجعلت في نصاب واحد ما بلغت أن يجئ منها مثل نفسه صلى الله عليه وسلم، ولكأنما خرجت هذه النفس من صيغة كصيغة الدرة في محارتها، أو تركيب كتركيب الماس في منجمه، أو صفة كصفة الذهب في عرقه، وهو النفس الاجتماعية الكبرى، من أين تدبرتها رأيتها على الإنسانية كالشمس في الأفق الأعلى تنبسط وتضحي(3).





    (1) انظر: الأسوة الحسنة للدكتور على دردير ص 11-13.
    (2) السيرة النبوية دروس وعبر ص 12 بتصرف.
    (3) وحي القلم 2/4.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(25)



    الوقوف على أخلاقه والتحقق بها (1- 5)



    إن دراسة سيرته صلى الله عليه وسلم تعرفنا الكمال الإنساني، وتوقفنا على الخلق العظيم، ومعرفة الكمال متعة، والتخلق به جمال وإثراء للمثالية، والإنسان بطبعه يتطلع إلى المثل الأعلى ويحرص على بلوغ الكمال، وإذا كان جليس الصالح يتأثر به فتنمو فيه جوانب الصلاح كما في الحديث: (خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله)(1). إذا كان الأمر كذلك في رؤية الصالحين فكيف بجليس سيرته صلى الله عليه وسلم.

    إن سيرته صلى الله عليه وسلم هي مكارم الأخلاق، وأخلاقه هي أسمى ما يتمنى البشر.

    وإذا كان المثاليون من فلاسفة الأخلاق يرون أن الخلق العظيم فكرة ذهنية مجردة ترتفع عن الواقع، وتتأبى على التطبيق، فالمثال الكامل لا وجود له – عندهم – إلا في عالم المثل المبرأ من كل نقص أو قصور، وما يوجد من صوره في الواقع إنما هي مجرد نماذج تقريبية لحقائقها العليا في عالمها المثالي.

    فالقرآن الكريم يجعل من الخلق العظيم حقيقة واقعة، وكمالاً بشريا يخضع للإمكان، ومنهجا تربويا ًقابلا للتطبيق، وأسوة حسنة تتحقق بالرياضة والتهذيب.

    وكما اختص القرآن محمدا عليه السلام بوصف الأسوة الحسنة اختصه أيضا بوصف الخلق العظيم في قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [ سورة (ن) /4].

    وقد كان صلى الله عليه وسلم – وحده من بين الرسل جميعا – صاحب الخلق العظيم الذي يجمع كل سجايا الفضل وخصال الخير، لأنه وحده الرسول الخاتم الذي انتهت إليه مكارم الأخلاق التي تفرقت فيهم، واجتمع عنده ما انفرد به كل واحد منهم، لقد قص الله عليه أخبار المرسلين وأمره أن يقتدي بهم فقال له: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) [ سورة الأنعام /90 ].

    ولم يكن مطلب الاقتداء بهم موجها إلى شرائعهم، فهذا أمر غير وارد في الاقتداء، لأن شرائعهم نسخت بشريعته، وإنما كان دعوة إلى اقتدائه بهم في مكارم الأخلاق التي تحلى بها كل واحد منهم، فتمثلها – عليه السلام – جميعا على تفرقها، وتعدد مصادرها، فاكتمل به عقدها وتمت فيه فضائلها... وكان ذلك غاية رسالته الخاتمة التي قال عنها: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)(2).

    ولهذا انفردت رسالة الإسلام بمنهجها الأخلاقي الكامل ممثلاً في القرآن الكريم الذي لم يغادر سجية من سجايا الفضل إلا أحصاها ودعا إليها،فجاء شاملا يتسع لكل مشاكل الحياة وأمراضها، وصدق الله العظيم الذي يقول: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [ سورة الأنعام / 38 ].

    ولهذا أيضا انفرد صلى الله عليه وسلم بفضيلة الخلق العظيم ليكون الأسوة الحسنة للإنسانية جميعا مصداقا لقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [ سورة الأنبياء /107 ].

    وكما جاء القرآن منهجا جامعا للكتب السماوية السابقة ومهيمناً عليها، جاء محمد عليه السلام جامعا لفضائل الرسل السابقين ومتمما لها، ومقام الرسل منه أشبه بمقام الجداول العذبة من النهر، كل واحد منها يحوذ الفضل في موقعه، فيمد الحياة من حوله بالخصب والنماء، فيكون مثلاً أعلى في الوفاء بحاجات الحياة والأحياء، فإذا تجمعت هذه الجداول في مصبها الجامع ظهر بمجموعها فضل النهر الذاخر المتدفق الذي يحويها ولا يلغيها، ويكون فضله عليها فضل السعة التي تناسب امتداد الحياة في واديه واتساع آفاقها من حوله، وهذا سر العظمة فيه.









    (1) الحديث أخرجه أحمد في مسنده عن عبدالرحمن بن غنم 4/ 227، وعن أسماء بنت يزيد 6/ 459.
    (2) الحديث أخرجه الحاكم في مستدركه (2/ 670) رقم 4221، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد- باب حسن الخلق ص 84 وعزاه السيوطي في الجامع الصغير (1/103) للبخاري في الأدب والحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب، وحكم عليه بالصحة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(26)



    الوقوف على أخلاقه والتحقق بها (2- 5)





    لقد كان صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم وفاقا لهذا المعيار، ولأي معيار يقاس به الخلق العظيم، وحسبه شهادة ربه له بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
    وهي شهادة تعلو به فوق كل فضيلة ويعلو بها فوق كل الفضلاء. وإذا كان وصف الناس للناس لا يخلو من مبالغة أو تجوز، فإن وصف الخالق يأتي مثلاً في دقة الوصف، وإحكام الصفة، لأنه وصف الخبير بحقائق الأمور ودقائق الأشياء.

    ومن مظاهر العظمة في هذا الخلق ما يلي:

    أ) أن خلقه لم يكن خلقا خاصا، أو سجية شخصية، وإنما كان منهجاً عاما قابلاً للتطبيق، وأسوة حسنة معروضة للاقتداء، وهو منهج تمثل نظريا في القرآن، وأسوة عملية فيه عليه السلام.

    وقد عرف صلى الله عليه وسلم بهذا بين صحبه فكان صورة حية تتجسد فيه آداب القرآن وأخلاقياته.

    روى الحاكم بسنده عن سعد بن هشام أنه دخل مع حكيم ابن أفلح على عائشة رضي الله عنها فسألها فقال: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أليس تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم.(1)

    وهذا يوضح أنه عليه السلام إنما كان يمثل الترجمة الحية للقرآن الكريم مما يفسر معنى الخلق العظيم فيه.

    فيكون المعنى: وإنك لعلى منهج عظيم في تربية الخلق العظيم، وهو خلق القرآن الذي عليه نتأدب، وبه نتخلق.

    وهذا يفتح الباب واسعا أمام من يسمو بنفسه ويتطلع إلى بلوغ الخلق العظيم الذي يتحقق لكل من يأخذ نفسه بآداب القرآن، والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قال وإن خلقك لعظيم لكان ذلك خلقا خاصا به عليه السلام لا يتأتى فيه التأسي، ولا يتطلع إلى بلوغه أحد من المؤمنين.

    ب ) أن أخلاقه صلى الله عليه وسلم مع تعددها كانت متكاملة متوازنة متعادلة، وهذا أمر قلما يتحقق لعظيم من الناس، فقد يظفر العظيم ببعض السجايا الفاضلة، ويسلم له القليل أو الكثير منها، ثم لا تتعادل في الدرجة، ولا تتوازن في المقدار.

    ومن المقرر المعلوم أن مكارم الأخلاق تتفاوت في سلوك الكريم فيكون التفوق في خلق على حساب نقص في خلق آخر.

    قد يتفوق إنسان – مثلا – في فضيلة الرحمة ثم يكون ذلك على حساب فضيلة الحزم في مواقف الصلابة والردع.

    وقد يتفوق في خلق الحياء، ثم يكون ذلك مظهر ضعف يعوقه في مواقف الجراءة والمواجهة.

    وقد يتفوق في الحلم والتسامح – ثم يكون ذلك نتيجة تبلد في الطبع وجمود في الإحساس مما يجعله لا يغضب لشيء، ولا يقوي على الردع في مواطن الإصلاح والتقويم.

    وقد يسلم له خلق التواضع، ثم يكون التواضع مظهراً لإهدار الشخصية الحية التي تشع المهابة والإجلال.

    وهكذا قد يتفوق الإنسان في فضيلة على حساب ما يقابلها من فضائل السلوك فيكون ذلك عيبا ظاهرا فيه، يذهب بما فيه من مظاهر التفوق والامتياز، فإن الخلق كالعملة الذهبية إن لم يتعادل وجهاه في الجودة والصقل، كان ذلك عيبا يرد به في سوق التعامل بين الناس.

    كل ذلك حق وحاصل في سلوك الناس، وهو ما تبرأت منه سجاياه عليه السلام، وهذا مناط العظمة في الأسوة الحسنة التي اختص بها دون غيره من الأنبياء والمرسلين فقد اكتملت فيه الأخلاق الكريمة جميعها، فلم يند منها خلق واحد، وبهذا اكتملت له عظمة الأسوة، وتبرأت من شوائب النقص، وجاءت كالجوهرة الفريدة، تتعدد جوانبها ولكنك كيفما قلبتها لا ترى في أوجهها المتقابلة إلا الصفاء والنقاء.





    (1) المستدرك ( 2/ 670 )، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(27)





    الوقوف على أخلاقه والتحقق بها (3-5)




    كان عليه السلام كما يقول أبو سعيد الخدري: (أشد حياء من العذراء في خدرها)(1).


    والحياء خلق جامع، فهو عصمة من كل رذيلة، وصيانة من كل عيب، وقد بلغ فيه عليه السلام درجة الخلق العظيم، حتى كان لشدة حيائه لا يثبت بصره في وجه محدثه، ومع هذا الحياء الشديد كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس جراءة في ردع الباطل، ونصره الحق، لا يستحي في حق، ولا يتردد في أمر بمعروف ونهي عن منكر، ولا يداري في موضع صراحة، ولا يسايس في موقف حسم، وإنما كان يضرب في الصميم، لا يبالي قرابة قريب أو مجاملة ذي سلطان، سفه أحلام الأعمام من سادة قريش، فأبطل أعرافهم في جراءة شديدة وقلب جسور.

    وكان عليه السلام أرحم الناس بالناس وبالأحياء جميعا، وهذه الرحمة العظيمة لم تضعف فيه فضيلة الحزم، فكان أشدهم صلابة في أخذ الحقوق، وإقامة الحدود، لا يضعف أمام عاطفة، ولا يرق لآصرة في موقف يتعلق بالحقوق والحدود، كان يوصى بالنساء خيرا، ويرق لضعفهن، ويخشى عليهن خشونة الإبل وهن على ظهورهن، فيقول للحادي: (رويدك سوقا بالقوارير)(2) ومع كل ذلك لم يتردد في رجم الزانية، وقطع يد السارق،وقال في حسم ظاهر: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)(3).

    وكان عليه السلام أعظم الناس حلما وأكثرهم تسامحاً، وسع تطاول الكفار وغفر أذاهم، ومع هذا الحلم العظيم كان يغضب لله فلا يرد غضبه حتى ينتصر للحق الذي غضب له.

    روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها)(4).





    (1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، (3562)، ومسلم في صحيحه كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم (6032).
    (2) الحديث أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالنساء والرفق بهن، رقم (6063).
    (3) الحديث أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، رقم (6788).
    (4) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(28)





    الوقوف على أخلاقه والتحقق بها (4-5)



    وكان صلى الله عليه وسلم متواضعا شديد التواضع، لا يتميز على أصحابه في مأكل أو ملبس، ولا يتعالى على خدمه في عمل، يردف خادمه، ويخدم أهله، ويسامر مولاه، ومع ذلك كان مهيباً شديد الهيبة لا يقوى أحد على النظر إليه مهابة له وإجلالاً.

    قال عمرو بن العاص : (وما كان أحد أحب إلىّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه)(1).

    وهكذا كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم متكاملة متوازنة لم يطغ خلق على خلق، ولم يتفوق جانب منها على آخر، وبهذا استقامت له عظمة الأسوة الشاملة لكل خلق عظيم.

    وقد أتاح له هذا التكامل والتعادل في سجاياه الفاضلة تنوعاً وثراء في عطاء الأسوة الحسنة،فاجتمع على التأسي به أنماط مختلفة من عظماء الرجال، وأصبح كعبة تتوجه إليها الأنظار، وتتعلق بها القلوب، ويحج إليها طلاب الفضيلة على اختلاف ميولهم، وتفاوت طباعهم، وتنوع معادنهم، وجميعهم قد وجدوا فيه حاجتهم وافية وزادهم وفيرا.

    وحين يجتمع العظماء – ممن يختلفون في جوانب العظمة – على صحبة عظيم، ويجمعون على أنه أسوتهم فيما يعشقون من مكارم الأخلاق، يكون ذلك أصدق دليل عملي على مبلغ العظمة في فضائله، واتساع جوانبها،وثراء عطائها، وإنه قد بلغ فيها جميعا مرتبة الأسوة الجامعة التي تصنع العظماء.

    وإذا صح قولهم : الرجل يعرف بصحبه – وهو قول صحيح – فأصحابه عليه السلام : هم التطبيق العملي والنماذج المضيئة لفضيلة الأسوة الجامعة فيه، وهم في أنفسهم أمثلة حية للفضائل الإنسانية العالية التي تفرقت فيهم واجتمعت فيه.

    هم عظماء قد اختلفت جوانب العظمة فيهم، وتفاوتت بينهم، وقد التقوا جميعا حول مائدته، والتقوا على ورده، فارتفع بهم جميعا إلى مقام الأسوة الهادية وجاءت فضائلهم شهادة من الواقع الحي على كمال الأسوة فيه.

    لم يكن أصحابه عليه السلام نمطا واحدا من عظماء الرجال وإنما اختلفت أجناسهم واختلفت أعمارهم، واختلفت مشاربهم، واختلفت سجاياهم، وقد جمعوا فيما بينهم من عظمة الحسب، وعظمة الكفاءة، وعظمة الرأي، وعظمة الفداء، ما يرتفع بهم إلى مرتبة العظمة بين العظماء.

    وقد تميز كل واحد منهم بسجية، وتفرد بخلق، فكان اجتماعهم حوله، واجتماعهم على التأسي به دليلا على تكامل الفضائل فيه، التي تعشقها مثل هؤلاء العظماء، ووجدوا فيها بغيتهم على اختلاف حاجاتهم من الفضيلة، وتنوع مآربهم من مكارم الأخلاق.

    ومن هؤلاء : الصديق في لينه ورحمته، والفاروق في حسمه وحزمه، وعثمان في حيائه وسخائه، وعلي في شجاته وبسالته، وأبو عبيدة في أمانته ووفائه، وخالد في جسارته وإقدامه، ومعاوية في حلمه وسياسته، وبلال في ثباته وصموده، وعمار في تقشفه وزهده، وغيرهم من عظماء الرجال ممن حازوا فضل الصحبة، وانتفعوا بهداية الأسوة، فأصبح كل واحد منهم معلما من معالم الفضيلة الإنسانية، وهم كثرة لا يحصيهم العدد، ولا ينقطع فيهم المدد، وكل واحد منهم أمة من الناس في شمائله الفاضلة، وسجاياه العالية التي ارتفع بها فوق دنيا الناس، يحلق – كالنجوم – في سماء الفضيلة مثلا أعلى للأسوة الحسنة التي تهدي السارين في دروب الحياة(2).

    وسيظل التاريخ يذكر أن تلك المعالم حين وجدت اهتز إيوان كسري وترنح قصر قيصر، وتمرغ الباطل في التراب.

    وإذا الحفاة الذين لم يكن لهم شأن أمام الفرس والروم قد هزموا الباطل وورثوا عرش هذا وتاج ذاك، واندفعوا بهذا الدين القيم، حتى بلغوا أسوار الصين، وانطلقوا حتى وصلوا إلى ساحل المحيط الأطلسي، وأقاموا دولة إسلامية في أسبانيا، ووصلوا إلى فيينا وكان ذلك مما شاهدته الدنيا وسجله التاريخ(3).





    (1) جزء من حديث أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله (192).
    (2) انظر : الأسوة الحسنة ص 41، 42.
    (3) الجامع الصحيح للسيرة النبوية للدكتور سعد المرصفي ص 162- 163.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(29)


    الوقوف على أخلاقه والتحقق بها (5-5)





    وهنا قصة عجيبة حدثت منذ أكثر من ألف عام في أرض فارس على يد ابن سينا ، حين قال غلامه : لست أدري بأي شيء يفضلك محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ! .

    كان هذا الخادم شديد الإعجاب بأستاذه بمقدار ما كان شديد العجب من أن يكون أستاذه الفيلسوف تابعا للنبي العربي ، وقد خيل له خياله المريض وعلمه القاصر وحبه الأعمى أن ابن سينا أعلم من نبي الإسلام وأرقى في باب الفلسفة والعلم والمعرفة ، وكان كثيرا ما يكاشف أستاذه بذلك ، فحينا يعرض عنه ، وحينا يوبخه في انتظار فرصة تسنح يكون لفته فيها إلى الحق أيسر سبيلا وأقدر على رده إلى عقيدة الإسلام .

    وقال ابن سينا: يا بني سأخبرك غدا عن هذا الأمر ، وكان الوقت شتاء ، والجو في شدة من البرودة لا يكاد يتحملها الإنسان ، وفي منتصف الليل طلب ابن سينا من غلامه أن يحضر له الماء الدافي للوضوء ، فإذا بالغلام يقول له : دعني بعض الوقت فإنني متعب ، ولو انتظرت قليلا لقمت ، وغلب النوم على ذلك الغلام ، ومضت نصف ساعة ، وابن سينا يكرر القول على الغلام ، حتى نبهه مؤذن الفجر وإذا بهم يستمعون من فوق المئذنة إلى كلمات للمؤذن : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله .. إلى آخر الأذان .

    وهنا قال ابن سينا : يا بني : هذا وقت تعليمك ، قم الآن واستمع إلى ما أقول : إننا الآن في أرض فارس ، وبيننا وبين العرب حيث قام الإسلام وظهر النبي عليه الصلاة والسلام مسافة ضخمة ، وبيننا وبينهم قرون متطاولة ، وهو نبي عربي ، والذي فوق المئذنة رجل من فارس ، بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام من الناحية الزمانية قرون ، ومن الناحية المكانية أميال ، وبينهما عجمة في لسان هذا ، وفصاحة في لسان النبي عليه الصلاة والسلام ، ولكنه جاء في الليل الشديد البرد على رغم هذا كله ، وصعد فوق أعلى مكان في المدنية، وفي أبرد الأوقات في جوف الليل ليقول : أشهد أن محمداً رسول الله ، وأنا معلمك أعلمك وأربيك ، وأطلب منك وأنت في الدار أن تعد لي شيئا من الماء لوضوئي فتؤخرني نصف ساعة ثم ساعة بعدها! هذا هو الفرق بين مقام الأنبياء ومقام العلماء(1).

    وهنا نبصر جانبا كبيراً عملياً من عمق التأثير في الأجيال المتعاقبة من المسلمين ، إحساساً عميقا بمكانة الرسول الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم ، وجلال مقامه ، وعظمة خلقه ، وكمال الأسوة فيه صلى الله عليه وسلم .





    (1) قطوف من أدب النبوة للشيخ الباقوري 2/ 52، 53.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(30)

    سيرته دليل صدق نبوته ورسالته (1-2)



    إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم تعطينا الدليل الذي لا ريب فيه على صدق رسالته ونبوته ، إنها سيرة إنسان كامل سار بدعوته من نصر إلى نصر ، لا على طريق الخوارق والمعجزات ، بل عن طريق طبيعي بحت ، فلقد دعا فأوذي ، وبلغ فاصبح له الأنصار ، واضطر إلى الحرب فحارب ، وكان حكيما موفقا في قيادته ، فما أزفت ساعة وفاته إلا كانت دعوته تلف الجزيرة العربية كلها عن طريق الإيمان ، لا عن طريق القهر والغلبة ، ومن عرف ما كان عليه العرب من عادات وعقائد وما قاوموا به دعوته من شتى أنواع المقاومة حتى تدبير اغتياله ، ومن عرف عدم التكافؤ بينه وبين محاربيه في كل معركة انتصر فيها ، ومن عرف قصر المدة التي استغرقتها رسالته حتى وفاته ، وهي ثلاث وعشرون سنة ، أيقن أن محمداً رسول الله حقا ، وأن ما كان يمنحه الله من ثبات وقوة وتأثير ونصر ليس إلا لأنه نبي حقا ، وما كان لله أن يؤيد من يكذب عليه هذا التأييد الفريد في التاريخ .

    فسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبت لنا صدق رسالته عن طريق عقلي بحت ، وما وقع له صلى الله عليه وسلم من المعجزات لم يكن الأساس الأول في إيمان العرب بدعوته بل إنا لا نجد له معجزة آمن معها الكفار المعاندون ، على أن المعجزات المادية إنما تكون حجة على من شاهدها ، ومن المؤكد أن المسلمين الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشاهدوا معجزاته ، إنما آمنوا بصدق رسالته للأدلة العقلية القاطعة على صدق دعواه النبوة ، ومن هذه الأدلة العقلية : القرآن الكريم ، فإنه معجزة عقلية ، تلزم كل عاقل منصف أن يؤمن بصدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة .

    وهذا يختلف تماما عن سير الأنبياء السابقين المحفوظة لدى أتباعهم ، فهي تدلنا على أن الناس آمنوا بهم لما رأوا على أيديهم من معجزات وخوارق ، دون أن يحكموا عقولهم في مبادئ دعواتهم فتذعن لها ، وأوضح مثل لذلك السيد المسيح عليه السلام ، فإن الله حكي لنا في القرآن الكريم أنه جعل الدعامة الأولى في إقناع اليهود بصدق رسالته ، أنه يبرئ الأكمة والأبرص ، ويشفي المرضي ، ويحيي الموتى ، وينبئهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم ، كل ذلك بإذن الله جل شأنه ، والأناجيل الحاضرة تروى لنا أن هذه المعجزات هي وحدها التي كانت سببا في إيمان الجماهير دفعة واحدة به ، لا على أنه رسول الله كما يحكي القرآن الكريم ، بل على أنه إله وابن إله – وحاشا لله من ذلك – والمسيحية بعد المسيح انتشرت بالمعجزات وخوارق العادات – وفي سفر أعمال الرسل أكبر دليل على ذلك – حتى ليصح لنا أن نطلق على المسيحية التي يؤمن بها أتباعها أنها دين قام على المعجزات والخوارق ، لا على الإقناع العقلي .

    ومن هنا نرى هذه الميزة الواضحة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنه ما آمن به واحد عن طريق مشاهدته لمعجزة خارقة ، بل عن اقتناع عقلي وجداني ، وإذا كان الله قد أكرم رسوله بالمعجزات الخارقة ، فما ذلك إلا إكرام له صلى الله عليه وسلم ، وإفحام لمعانديه المكابرين ، ومن تتبع القرآن الكريم وجد أنه اعتمد في الإقناع على المحاكمة العقلية ، والمشاهدة المحسوسة لعظيم صنع الله ، والمعرفة التامة بما كان عليه الرسول من أمية تجعل إتيانه بالقرآن الكريم دليلا على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم(1).

    يقول الله تعالى : (وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين ، أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) [ سورة العنكبوت / 50، 51] .

    والذين يؤمنون هم الذين يجدون مس هذه الرحمة في نفوسهم ، وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل ، ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إليه ، وهو العلي الكبير ، وهم الذين ينفعهم هذا القرآن ، لأنه يحيا في قلوبهم ، ويفتح لهم عن كنوزه ، ويمنحهم ذخائره ، ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور ، هكذا يقرر القرآن الكريم بصراحة ووضوح أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان رسول ، وأن سيرته تعطي الدليل العملي على صدق رسالته ونبوته .

    (1) السيرة النبوية دروس وعبر ص 12.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(31)

    سيرته دليل صدق نبوته ورسالته (2-2)



    يقول أحد الباحثين : " وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مملوءة بالعبر ،والعظات ، والدروس، والمبادئ العظيمة ، وإنا نحسب أن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وكما عقله وخلقه واستقامة نفسه ، وسلامة ما يدعو إليه ، كل ذلك في نفسه دعوة إلى الإسلام في وسط غياهب الجهالة في الماضي ،وهو لا يزال القوة الداعية إلى الإسلام في عصرنا الحاضر ، وإننا نجد بعض الناس يسلمون إذا علموا السيرة النبوية ، وأدركوا عقله ، وبعده عن الأوهام والخرافات التي تسود العامة ، وتستهوى تفكير السذج " (1).
    ويقول ابن القيم : " ومن هنا تعلم اضطرار العبد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وتصديقه فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة، إلا على أيدي الرسل ...
    وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به ويدخل في عداد أتباعه وشيعته وحزبه ، والناس في هذا بين مقل ومستكثر ومحروم ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم(2).
    ويقول " لامرتين " شاعر فرنسا مقرراً ذلك بفكره وثقافته ولغته – والفضل ما شهدت به الأعداء -: " إن حياة محمد وقوة تأمله وتفكيره وجهاده ، ووثبته على خرافات أمته ، وجاهلية شعبه ، وخزعبلات قبيلته ، وثباته ثلاثة عشر عاما يدعو بدعوته وسط أعدائه ، وتقبله سخرية الساخرين والهازئين ، وحميته في نشر دينه ، ورباطة جأشه ، وتطلعه إلى إعلاء كلمة الله ، كل ذلك يدل على أنه لم يكن يضمر خداعا أو يعيش على باطل .
    لقد كان محمد فيلسوفا ، وخطيبا ، ومشرعا ، وقائدا ، وفاتح فكر، وناشر عقيدة .
    أي رجل قيس بجميع المقاييس التي وضعت لوزن العظمة الإنسانية كان أعظم منه؟!.
    لو كان مقياس العظمة هو إصلاح شعب متدهور ، فمن ذا يتطاول إلى مكان محمد؟ .
    لقد سما بأمة متدهورة ، ورفعها إلى قمة المجد، وجعلها مشعلاً للمدنية، ومورداً للعلم والعرفان .
    لو كان مقياس العظمة توحيد البشرية المفككة الأوصال فمن أجدر بهذه العظمة من محمد الذي جمع شمل العرب، وجعلهم أمة عظيمة، وأقام دولة شاسعة .
    ولو كان مقياس العظمة إقامة حكم السماء على الأرض فمن ذا الذي ينافس محمداً وقد محا مظاهر الوثنية ليقيم عبادة الخالق وحده .
    ولو قسنا العظمة بالنصر والنفوذ والسلطان فمن يدانيه في هذا المضمار ؟ .
    لقد كان يتيما لا حول له ولا قوة ، فأصبح مؤسسا لإمبراطورية واسعة دامت ثلاثة عشر قرنا من الزمان .
    ولو كان مقياس العظمة هو الأثر الذي يخلده في النفوس على مر الأجيال فها هو محمد تمجده مئات الملايين من الناس في مختلف البقاع ، مع تباين أوطانهم وأنواعهم وطبقاتهم (3).
    ورحم الله ابن حزم حيث يقول : ( ... فإن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم – لمن تدبرها – تقتضي تصديقه ضرورة ، وتشهد له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا ، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى ) (4) .

    (1) الدعوة في عهد الملك عبدالعزيز ( 2/582 ) ، والدعوة إلى الإسلام لأبي زهرة ص 65.

    (2) زاد المعاد ( 1/69-70 ) .
    (3) نبي الإسلام في مرآة الفكر الغربي ، مقال للدكتور عز الدين فراج ، نشر بمجلة الوعي الإسلامي ص 38- 39 العدد ( 249) .
    (4) الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/ 89 . ط : صبيح .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(32)




    دراسة السيرة طمأنينة للقلب وسكينة للفؤاد (1-3)

    إن في دراسة السيرة النبوية العطرة طمأنينة للقلب وسكينة للنفس وتثبيتا للفؤاد، قال ربنا سبحانه وتعالى : (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ) [ سورة هود /120 ] .

    فإذا كانت أنباء الرسل السابقين تثبت فؤاده صلى الله عليه وسلم فإن أنباءه التي هي سيرته صلى الله عليه وسلم تثبت فؤادنا ، وتورث قلوبنا الطمأنينة .

    وتوضيح ذلك : أننا من خلال دراسة السيرة ندرك سنن الله في خلقه، تلك السنن التي لا تتبدل ولا تتحول ، ولا تحابي ، ولا تجامل .

    من هذه السنن :


    أن الله سبحانه يؤيد الحق وينصر المؤمنين ، وليس الأمر مبنيا على الكثرة العددية، ولا موكولاً إلى قوة العتاد ، وإنما ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) [ سورة آل عمران /126 ] ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ) [ سورة البقرة /249 ] ( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) [ سورة الروم/ 47 ] ( وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ ) [ سورة الصافات 173 ] .

    وكم من أناس غرتهم قوتهم ، وسول لهم الشيطان سوء أعمالهم فتجبروا وتكبروا ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، وأنزل بهم من الذل والهوان الكثير (وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ )[ الحج / 18] .

    فها هم المشركون جاءوا بجموعهم في بدر يريدون أن يخيفوا العرب جميعا، إذ يقول أبو جهل – بعد أن علم بنجاة قافلتهم التجارية - : والله لا نرجع حتى نرد بدرا ، فنقيم عليه ثلاثا ، فننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا (1).

    فكانت النتيجة عكس ما أراد الطاغية ، فلقد انهزموا في المعركة شر هزيمة ، وقتل هذا المغرور ، ورجع المتجبرون بأسوأ حال ، وكتب الله النصر للمسلمين على الرغم من قلة عددهم وعدتهم .

    وكيف لا ؟ والمشركون مع شركهم يتكبرون ، والمسلمون مع إسلامهم بالله يستغيثون ؟! .

    وعن جابر قال : " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع ، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة ، فاخترطه فقال له : تخافني ؟ فقال له : لا . قال : فمن يمنعك مني ؟ قال : الله .. " (2).

    وفي رواية ابن إسحاق : " فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : من يمنعك أنت مني ؟ قال : لا أحد. " .

    وفي رواية " فقال الأعرابي : غير أني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله ، فجاء إلى أصحابه ، فقال : جئتكم من عند خير الناس .. " (3).

    قال ابن حجر : " ورد في الجهاد قول الأعرابي : " فقال تخافني ؟ قال : لا ، قال : فمن يمنعك مني .. " ثلاث مرات " وهو استفهام إنكار ، أي لا يمنعك مني أحد ، لأن الأعرابي كان قائما والسيف في يده ، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس لا سيف معه ، ويؤخذ من مراجعة الأعرابي له في الكلام أن الله سبحانه وتعالى منع نبيه صلى الله عليه وسلم منه، وإلا فما أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الحظوة عند قومه بقتله ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم في جوابه الله الذي يمنعني منك إشارة إلى ذلك ، ولذلك أعادها الأعرابي فلم يزده على ذلك الجواب ، وفي ذلك غاية التهكم به وعدم المبالاة به أصلا .






    (1) البداية والنهاية 3/ 291.



    (2) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب المغازي ، باب غزوة ذات الرقاع ( 4136 ).

    (3)فتح الباري 6/ 492- 493.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(33)




    دراسة السيرة طمأنينة للقلب وسكينة للفؤاد (2-3)


    كما تورث دراسة السيرة القلب طمأنينة بالرزق، فالرزاق هو الله، ولا يستطيع مخلوق كائنا من كان أن يتحكم أو يؤثر في رزق مخلوق آخر والله تعالى يقول:
    (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ)[سورة سبأ/ 39].

    وكم من جائع أطعمه الله من غير سبب ظاهري، أو احتيال بشري.
    فعن جابر قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة بن الجراح نتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة، قلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط(1)ثم نبله بالماء فنأكله، فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذ هو دابة تدعى العنبر، قال أبو عبيدة ميتة!! ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم،وفي سبيل الله عز وجل، وقد اضطررتم، فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهراً، ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال(2) الدهن،ونقتطع منه الغدر كالثور، أو كقدر الثور، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامه، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمها وشايق(3)، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: هو رزق أخرجه الله عز وجل لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ فأرسلنا إلى رسول الله منه فأكله"(4).
    فهذا الحديث فيه كثير من العظات والعبر لمن أراد أن يتذكر أو يعتبر، فلقد رزق الله الكريم عباده الصادقين، رزقا طيبا حلالاً، غير حالهم من الجوع إلى الشبع، ومن الضعف إلى القوة، فبعد أن كانوا يمصون كل يوم تمرة، بل ونفد التمر،فيأكلون ورق الشجر، إذ بفرج الله يأتيهم فيأكلون الكثير من اللحم، بل ويدهنون، وسبحان الله الرزاق ذي القوة المتين.
    فدارس السيرة يعتبر لأنه يجد صوراً واقعية لما في القرآن الكريم من وعد الله لعباده المؤمنين في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [سورة الحج /38]، وفي قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [ سورة الطلاق / 2-3 ]، والكثير من الآيات القرآنية، مما يدعو كل صاحب عقل إلى الاتعاظ والعبرة.
    يقول أحد الباحثين: " من أهم ثمرات دراسة التاريخ – والسيرة جزء منه – التعرف على السنن الربانية في الكون، فإن لله سننا في خلقه أرشدنا إليها، وطلب منا التعامل معها، قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [سورة آل عمران / 137].
    والتاريخ بما يحوي من الحوادث المتشابهة، والمواقف المتماثلة، يساعد على كشف هذه السنن، التي هي غاية في الدقة والعدل والثبات، وفي إدراكنا للسنن الربانية فوائد عظيمة، حتى لو لم نقدر على تفادي حدوثها، والنجاة منها، حيث يعطينا هذا الإدراك والمعرفة صلابة في الموقف، بخلاف من يجهل مصدر الأحداث، فإن الذي يعلم تكون لديه بصيرة وطمأنينة، أما الذي يجهل فليس لديه إلا الحيرة والخوف والقلق(5).



    (1) الخبط – بفتح الخاء والباء – ورق الشجر الساقط من ضرب الشجر بالعصا.
    (2) القلال جمع قلة، وهي الجرة الكبيرة التي يحملها الرجل بين يديه.
    (3) الوشايق هو اللحم يؤخذ فيغلي إغلاء ولا ينضح ويحمل في الأسفار، واحدها وشيقة.
    (4) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة سيف البحر ( 4360 )، ومسلم في صحيحه واللفظ له، كتاب الصيد، باب إباحة ميتات البحر ( 4998 ).
    (5) منهج كتابة التاريخ الإسلامي لمحمد بن صامل السلمي ص 54 ط: دار الوفاء.








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(34)

    في السيرة أصول المعارف الصحيحة (3-3)




    إن دراسة السيرة النبوية تعطينا أصول المعارف الصحيحة لأمور كثيرة في حياتنا ربما تختلط فيها المفاهيم ، وتلتبس فيها الرؤى، وتتشتت فيها الأذهان ، منها ما يتعلق بالعقيدة ، ومنها ما يتعلق بالعبادة ، ومنها ما يتعلق بالأخلاق ، ومنها ما يتعلق بالتربية وغير ذلك .
    عن زيد بن خالد الجهني قال : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بى كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب "(1) .
    ففي هذا الحديث نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استثمر هذا الحدث من سيرته ، وعلم الأمة من خلاله أنه ما من نعمة إلا من الله سبحانه وتعالى ، كما قال سبحانه ( وما بكم من نعمة فمن الله ) [ سورة النحل / 53 ] وأن النعم إذا اقترنت بسبب فالمؤمن يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يسبب السبب ، وهو الذي جعل النعمة تأتي معه ، فإذا جاء الشفاء مع الدواء فالشافي هو الله سبحانه وتعالى وليس الدواء ، فهو سبحانه الذي خلق الدواء وأعطاه خاصية التأثير ، وهو الذي وفق الشخص الذي صنع الدواء ، والذي وصف الدواء ، ثم هو سبحانه الذي من بالشفاء موافقا للدواء ، وكان يمكن لو أنه سبحانه لا يريد الشفاء ألا يأتي الشفاء مع هذا الدواء فعلى المؤمن أن يجدد إيمانه ، وأن يحرص على عقيدته ، وأن يذكر نفسه أن كل النعم من الله سبحانه وتعالى .
    وعن عطاء بن أبي رباح قال : رأيت جابر بن عبدالله ، وجابر بن عمير الأنصاري رضي الله عنهما يرتميان فمل أحدهما فجلس ، فقال له الآخر : كسلت ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو - أو سهو - إلا أربع خصال ، مشي الرجل بين الغرضين ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته أهله ، وتعليم السباحة(2) .
    وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله ؟ فقال : " أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم ، تكشف عنه كربة ، أو تقضي عنه دينا ،أو تطرد عنه جوعا ، ولأن أمشى مع أخ في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد – يعني مسجد المدينة – شهرا ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يقضيها له ثبت الله قدميه يوم تزول الأقدام "(3) .
    ففي هذين الحديثين توضيح لمفهوم العبادة في الإسلام ، وأنها ليست – كما يظن كثير من الناس – قاصرة على الشعائر التعبدية فقط ، وإنما هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ، فالصلاة والزكاة والصيام والحج ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وبر الوالدين وصلة الأرحام ، والوفاء بالعهود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد للكفار والمنافقين ، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين ، والبهائم ، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة .. " (4).




    (1) - أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ، كتاب الإيمان – باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء (231) .
    (2) - عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد ( 5/269 ) للطبراني في الكبير ، وقال : رجاله رجال الصحيح ، خلا عبدالوهاب بن بخت وهو ثقة ، وقال المنذري في الترغيب ( 1/ 381 ) رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد
    (3) -قال المنذري في الترغيب ( 2/ 704 ) رواه الأصبهاني واللفظ له ، ورواه ابن أبي الدنيا عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمه ، وحسنة الألباني في الصحيحة ( 906 ) .
    (4) - العبودية لابن تيمية ص 38 ط : المكتب الإسلامي .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(35)

    في السيرة أصول المعارف الصحيحة

    وهكذا نجد أن للعبادة أفقا رحبا ودائرة واسعة :
    فهي تشمل الفرائض والأركان الشعائرية من الصلاة والصيام والزكاة والحج وهي تشمل ما زاد على الفرائض من ألوان التعبد التطوعي من ذكر ، وتلاوة ، ودعاء، واستغفار ، وتسبيح ، وتهليل ، وتكبير ، وتحميد .
    وهي تشمل حسن المعاملة ، والوفاء بحقوق العباد ، كبر الوالدين ، وصلة الأرحام ،والإحسان لليتيم والمسكين وابن السبيل ، والرحمة بالضعفاء ، والرفق بالحيوان .
    وهي تشمل الأخلاق والفضائل الإنسانية كلها ، من صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، والوفاء بالعهد ، وغير ذلك من مكارم الأخلاق .
    ورضي الله عن سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان شمول العبادة أمراً واضحا لديهم لا لبس فيه ولا غموض .
    أخرج الطبري في تاريخه من خبر بكر بن عبدالله المزني قال : جاء عمر بن الخطاب إلى باب عبدالرحمن بن عوف فضربه ، فجاءت المرأة ففتحته ... إلى أن قال : وعبدالرحمن بن عوف قائم يصلي ، فقال له – يعني عمر – تجوز أيها الرجل – يعني خفف صلاتك – فسلم عبدالرحمن حينئذ ، ثم أقبل عليه فقال : ما جاء بك هذه الساعة يا أمير المؤمنين ؟ . فقال : رفقة نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سراق المدينة ، فانطلق نحرسهم ... إلخ (1).
    ففي هذا الخبر فهم عميق لمجالات العبادة ، وتقديم الأهم على المهم ، فإذا كانت الصلاة عبادة فخدمة المسلمين أيضا عبادة ، وما دامت الصلاة نفلا فإن ما نزل من حاجة المسلمين مقدم على ذلك ، لأن الصلاة عبادة يقتصر نفعها على صاحبها ، وخدمة المسلمين عبادة يتعدى نفعها للمسلمين .
    وذكر الإمام البغوي عن الشعبي قال : خرج ناس من أهل الكوفة إلى الجبانة – أي الصحراء- يتعبدون ، واتخذوا مسجدا وبنوا بنيانا ، فأتاهم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، فقالوا : مرحبا بك يا أبا عبدالرحمن ! لقد سرنا أن تزورنا ، قال : ما أتيتكم زائرا ، ولست بالذي أترك حتى يهدم مسجد الجبان ، إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! أرأيتم لو أن الناس صنعوا كما صنعتم ،من كان يجاهد العدو ؟ ومن كان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ؟ ومن كان يقيم الحدود ؟ ارجعوا فتعلموا ممن هو أعلم منكم ، وعلموا من أنتم أعلم منهم ، قال : واسترجع فما برح حتى قلع أبنيتهم وردهم (2).
    وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهرا أو جمعة أو ما شاء الله أحب إلى حجة بعد حجة ، ولطبق بدانق أهديه إلى أخ في الله أحب إلى من دينار أنفقه في سبيل الله عز وجل " (3).
    ورحم الله ابن المسيب حين قال له مولاه برد : ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء ؟ قال سعيد وما يصنعون ؟ قال : يصلي أحدهم الظهر ثم لا يزال صافا رجليه يصلي حتى العصر . فقال سعيد : ويحك يا برد ! أما والله ما هي بالعبادة ، تدري ما العبادة ؟ إنما العبادة التفكر في أمر الله ، والكف عن محارم الله(4).
    لقد وقر في حس هذا الجيل أن جميع الأعمال لابد أن تتوجه إلى الله حتى تكون طاعة وعبادة ،حتى إن عمر بن عبدالله قال لامرأته وهي ترضع ابنا لها : ( لا يكونن رضاعك لولدك كرضاع البهيمة ولدها ، قد عطفت عليه من الرحمة بالرحم ، ولكن أرضعيه تتوخين ابتغاء ثواب الله ، وأن يحيا برضاعك خلق عسى أن يوحد الله ويعبده ) (5).
    وهذا ما ينبغي أن يعيه الجيل المعاصر في مفهوم العبادة وأبعادها .
    وفي السيرة النبوية أصول النفسيات التي يحتاج إليها الإنسان في تعامله مع الآخرين ، انظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم ( وتبسمك في وجه أخيك صدقة ) (6) ويصف هند ابن أبي هاله رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفات هي أساس مراعاة نفسيات الناس إذ يقول : " ... ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ... ويتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ... وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر بذلك ، يعطي كل جلسائه بنصيبه ، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه ، من جالسه أو فاوضه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول ، قد وسع الناس بسطه وخلقه ، فصار لهم أبا ، وصاروا عنده في الحق سواء ... الحديث (7).
    أرأيت هذه النفسيات الصادقة والتي خلت عن كل تعقيد ، ولو صدق دارسو النفسيات في أخذ علومهم من سيرته صلى الله عليه وسلم ، لأفادت دراستهم البشرية خيرا كثيرا ً.




    (1) - تاريخ الطبري ( 4/205 ) .
    (2) -شرح السنة ( 10/54- 55 ) .
    (3) -صفة الصفوة ( 1/ 753 ) .
    (4) - الطبقات الكبرى 5/ 135، سير أعلام النبلاء ( 4/ 241 ) .
    (5) - نصيحة الملوك للماوردي ص 166.
    (6) - الحديث أخرجه الترمذي في سننه ، كتاب البر ، باب ما جاء في صنائع المعروف( 1956) ، وقال : حسن غريب .
    (7) - الحديث أخرجه الترمذي في الشمائل رقم 7 ، ص 275 -267.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(36)

    تفسير كثير من الآيات الكريمة
    إن وقائع السيرة وأحداثها كثيرا ما تلقي لنا الضوء على تفسير بعض الآيات الكريمة ، فالسيرة من أول مهماتها تسجيل الوقائع زمن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وكثيرا ما كان القرآن ينزل تعقيبا على تلك الوقائع ، ومن هنا كانت الصلة وثيقة بين السيرة والقرآن ... فهو كثيرا ما تنزلت آياته بتسجيل أحداث السيرة ... وهي كثيرا ما بينت لنا سبب النزول ....

    وأكتفي بمثالين ... فهذا الجانب واضح والأمثلة كثيرة .
    1- قال تعالى : ( يسألونك عن الأنفال ، قل الأنفال لله والرسول ، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) . [ سورة الأنفال /1] .
    وهناك في القرآن خمس عشرة آية بدأت بقوله تعالى : ( يسألونك ) لا نجد فيها هذه اللهجة القوية التي تأمر بالتقوى وإصلاح ذات بينهم والطاعة ... ونتساءل عن العلاقة بين ختام الآية وبدئها : الأمر الذي يحتاج إلى بيان، فالسؤال يحتاج إلى جواب، ولكن هنا جواب وأوامر تعقيباً عليه تحتاج إلى تنفيذ ..
    وتعطينا السيرة الإيضاح الكافي .
    فعن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس فهزم الله تعالى العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة ، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم ، نحن حويناها فليس لأحد نصيب فيها ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق به منا ، نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم ، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به . فنزلت ( يسألونك ) فقسمها رسول الله بين المسلمين (1).
    وهكذا نلاحظ أن تصرف المسلمين إزاء الغنائم احتاج إلى هذا التوجيه والتربية ، فهم ما زالوا في بداية الطريق .
    وبهذا كانت السيرة بيانا لهذا الأسلوب في سياق الآية الكريمة . (2)


    (1) - رواه أحمد ، كما جاء في تفسير ابن كثير .

    (2) - انظر : أضواء على دراسة السيرة ص 21-22.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(37)



    تفسير كثير من الآيات الكريمة (2)
    المثال الثاني :

    قال الله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ سورة البقرة /207 ] .
    فهذه الآية يتضح معناها وينجلي تفسيرها من خلال ما عرضته كتب السيرة، فعن جندب بن عبدالله رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة فلما ذهب لينطلق بكي صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ، فبعث عليهم عبدالله بن جحش مكانه ، وكتب له كتابا وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا ، وقال : ( لا تكرهن أحدا من أصحابك على المسير معك ) .
    فلما قرأ الكتاب ، استرجع ، وقال : سمعاً وطاعة لله ورسوله ، فخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم الكتاب ، فرجع رجلان ، ومضى بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادى ، فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام ، فأنزل الله عز وجل :( يسألونك عن الشهر الحرام ) الآية ، فقال بعضهم : إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر ، فأنزل الله عز وجل :( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم ) . (1)
    لقد اتخذ المشركون من حرمة الشهر الحرام ستاراً يحتمون خلفه ، لتشويه موقف الجماعة المسلمة ، وإظهارها بمظهر المعتدي ، وهم المعتدون ابتداء ، وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء .
    إنهم قوم لا يقيمون للمقدسات وزنا ، ولا يتحرجون أمام الحرمات ، يقفون دون الحق ، ويصدون الناس عنه ، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء ، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام ، ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام ، ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات، ويرفعون أصواتهم : انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام !.
    إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات ، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه ، ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات ، ويؤذون الطيبين ، ويقتلون الصالحين ، ويفتنون المؤمنين ، ويرتكبون كل منكر ،وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان .
    وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد : إنه يحرم الغيبة ، ولكن لا غيبة لفاسق – فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه ، وهو يحرم الجهر بالسوء من القول ، ولكنه يستثنى ( إلا من ظلم) فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول لأنه حق ، ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه ) .
    ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدني إلى مستوى الأشرار البغاة ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ، ووسائلهم الخسيسة ، إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم ، وإلى قتالهم وقتلهم ، وإلى تطهير جو الحياة منهم هكذا جهرة في وضح النهار .
    وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المستقيمة المؤمنة ، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات ، حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله .
    هذا هو الإسلام صريحا واضحا ، قويا دامغاً ، لا يلف ولا يدور ، ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور .
    وهذا هو القرآن يوقف المسلمين على أرض صلبة لا تتأرجح فيها أقدامهم ، وهم يمضون في سبيل الله ، لتطهير الأرض من الشر والفساد ، ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس ، وتؤذيها الوساوس .. هذا شر وفساد وبغي وباطل ... فلا حرمة له إذن ، ولا يجوز أن يتترس بالحرمات ليضرب من ورائها الحرمات !.
    وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة ، في سلام مع ضمائرهم، وفي سلام مع الله (2).
    كذلك تفيدنا دراسة السيرة تحديد تاريخ أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ،ومواقع دلالتها أو ما سماه علماء الحديث والمصطلح ( بيان أسباب ورود الحديث الشريف ) وهذا الأمر يحل لنا مشكل كثير من الأحاديث التي يبدو على ظاهرها التعارض والتناقض وهي في واقع الأمر غير ذلك ،لأن كل حديث ورد في موطن خاص ويفيد معنى وتوجيها غير الآخر الذي يبدو أنه معارض له .
    وتفيدنا معرفة الناسخ والمنسوخ في الحديث الشريف مما يتوقف عليه كثير من الأحكام الشرعية .
    وبهذا تبدو أهمية السيرة وضرورة دراستها .


    (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ( 9/11-12 ) ، والطبري في التفسير ( 2/349-350 ) ، وأبو يعلى في المسند رقم ( 1534 ) ، والطبراني في الكبير ( 1670 ) ، وقال البيهقي : سنده صحيح إن كان الحضرمي هو ابن لاحق ،وقال الهيثمي في المجمع ( 6/198 ) : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، وقال السيوطي في الدر المنثور ( 1/ 250 ) : سنده صحيح .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •