البَغيُ والبُغاة

صلاح عباس


الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أمّا بعدُ،
مصطلحي البغي والبغاة، من المصطلحات الفقهيّة المهمَّة، وتدعو الحاجة في الظرف الرّاهن إلى التّعريف بهما، وتمييزهما عمّا قد يختلط بهما من المفاهيم، وذلك على النحو التالي:
في اللغة العربيّة:
البُغاة جمع "باغٍ"، والباغي اسمُ فاعل من البغي، والبغيُ له عدَّةُ معانٍ، ولكنّه في سياق هذا المبحث، يدلُّ على: (جِنْسٍ مِنَ الْفَسَادِ)[1]، يُبيّنونه فيقولون: (والبَغْيُ: التَّعَدِّي، وبَغَى الرجلُ عَلَيْنَا بَغْياً: عَدَل عَنِ الْحَقِّ وَاسْتَطَالَ)، و(البَغْي الاستطالة عَلَى النَّاسِ؛ وَقَالَ الأَزهريُّ: مَعْنَاهُ الْكِبْرُ، والبَغْيُ الظُّلْم وَالْفَسَادُ)، (والفِئَةُ البَاغِيَةُ: هِيَ الظَّالِمَةُ الْخَارِجَةُ عَنْ طَاعَةِ الإِمام الْعَادِلِ)[2].
في اصطلاح الفقهاء:
لا يخرج المعنى الاصطلاحي، للبغي والبغاة، عن حدود هذه الدلالة اللّغويّة، كما ذكر الإمام القرافي نقلاً عن الجواهر أنّ مفهوم البغي والبغاة (خَصَّصَهُ الشَّرْعُ بِبَعْضِ مَوَارِدِهِ)[3].
فالبُغاة مصطلح يُطلق عند الفقهاء، ليدُلّ على جماعةٍ خارجةٍ على الإمام، وتكون بهذه المثابة معتديةً على المجتمع كلّه، إذ إنّها تُعرّض أمنه للخطر، قال الإمام الغزالي: (وَيعْتَبر فيهم ثَلَاثَة شُرُوط: الشَّوْكَة، والتأويل، وَنصب إِمَام فِيمَا بَينهم)[4]، فعلى محور هذه الشروط الثلاثة تدور مادة البغي والبغاة.
ويختلط مفهوم البغاة، بمفهوم قطاع الطرق، لكن الفاصل بينهما يكمن في أنّ قطاع الطرق محاربون على غير تأويل، بينما البغاة محاربون على تأويلٍ معيّن، هو الذي دفعهم إلى الخروج على الإمام.
كما نلحظ أن العلاقة بين مفهومي كلٍّ من البغاة والخوارج ملتبسة، ففي بعض التّعريفاتِ نجد الميل إلى التوحيد بينهما واعتبارهما شيئاً واحداً، وفي بعضها نجد بينهما تمييزاً أو تداخلا.
ففي تعريف علاء الدين الكاساني، من الحنفيّة للبغاة يقول: (أَمَّا تفْسِيرُ الْبُغَاةِ، فَالْبُغَاةُ هُمْ الْخَوَارِجُ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ رَأْيِهِمْ أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ كُفْرٌ، كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً، يَخْرُجُونَ عَلَى إمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَيَسْتَحِلُّون َ الْقِتَالَ وَالدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَهُمْ مَنَعَةٌ وَقُوَّةٌ)[5].
فهاهنا مساواة بين مفهومي الخوارج والبغاة، وهو ما لم يأخذ به حنفيٌّ آخر، وهو علاء الدين السمرقندي، حيث قال في تعريف البغاة: (قَالَ إِذا خرج طَائِفَة على الإِمَام على التَّأْوِيل وخالفوا الْجَمَاعَة، فَإِن لم يكن لَهُم مَنْعَة، فللإمام أَن يَأْخُذهُمْ ويحبسهم حَتَّى يحدثوا تَوْبَة، وَإِن كَانَت لَهُم مَنْعَة فَإِنَّهُ يجب على الَّذين لَهُم قُوَّة وشوكة، أَن يُعينوا إِمَام أهل الْعدْل ويقاتلوهم)[6].
وعرّفه ابن جُزَي الغرناطي من المالكيّة، بقوله: (الْبُغَاة هم الَّذين يُقَاتلُون على التَّأْوِيل، مثل الطوائف الضَّالة كالخوارج وَغَيرهم، يمْنَعُونَ حَقًا وَجب عَلَيْهِم كَالزَّكَاةِ وَشبههَا)[7]. قال الإمام القرافي: (وَوَافَقَنَا الْأَئِمَّةُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ غَيْرَ أَنَّهُمْ نصُّوا على اشْتِرَاطِ الْكَثْرَةِ الْمُحْوِجَةِ لِلْجَيْشِ، وَأَنَّ الْعَشَرَةَ وَنَحْوَهَا قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، لِأَنَّ ابْنَ مُلْجَمٍ لَمَّا جَرَحَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ لِلْحَسَنِ: إِنْ بَرِئْتُ رَأَيْتُ رَأْيِي وَإِنْ مِتُّ فَلَا تُمَثِّلُوا بِهِ فَلَمْ يُثْبِتْ لِفِعْلِهِ حُكْمَ الْبُغَاةِ)[8].
أمّا تعريف البغاة عند الشّافعيّة، فيقول الإمام النووي: (هم مخالفو الإمام بخروجٍ عليه، وترك الانقياد، أو منع حقٍّ توجه عليهم بشرط شوكةٍ لهم وتأويل ومطاع فيهم، قيل: وإمام منصوب) [9].
أمّا عند الحنابلة، فقال ابن قدامة المقدسي عن البغاة أنهم: (قوم من أهل الحق خرجوا على الإمام بتأويل سائغ، وراموا خلعه، ولهم منعة وشوكة)[10].
ويُميِّز ابن قدامة مفهوم البغاة عن كلٍّ من قاطعي الطريق والخوارج، ابتداءً من ذكر العنصر الجامع بينهم، ألا وهو الخروج على الإمام، فيقول: (والخارجونَ على الإمام على ثلاثة أقسام)، وهي على النحو التالي:
- قسم لا تأويل لهم، أو لهم تأويلٌ لكنّ عددهم يسير، فهؤلاء قطاع طريق.
- قسم كفّروا أهل الحقّ والصحابة، واستحلّوا دماء المسلمين، فهم الخوارج، قال ابن قدامة: (فذهب فقهاء أصحابنا إلى أن حكمهم حكم البغاة؛ لأن عليًا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عاملهم كالبغاة، (وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار)[11].
- أمّا القسم الثالث، فهم البغاة، الذين يتميزون بأنّهم من أهل الحق، الذين خرجوا بتأويلٍ سائغ، ولهم منعة وشوكة.
ختاماً،
فإنّ الأصول التي تحكم فقه البغاة، هي ما ورد في السنة النبوية من الأحاديث المستفيضة التي تحضّ على طاعة الإمام، وتنهى عن الخروج عليه، إضافةً إلى قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الحجرات: 9]، إضافةً إلى السّنة التي استنّها الإمام عليٌّ رضي الله عنه في معاملة الخوارج والبغاة.
المراجع
[1] مقاييس اللغة (1/ 271).
[2] لسان العرب (14/ 78).
[3] الذخيرة للقرافي (12/ 5).
[4] الوسيط في المذهب (6/ 415).
[5] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (7/ 140).
[6] تحفة الفقهاء (3/ 313).
[7] القوانين الفقهية (ص: 238).
[8] الذخيرة للقرافي (12/ 6).
[9] منهاج الطالبين وعمدة المفتين في الفقه (ص: 291).
[10] الكافي في فقه الإمام أحمد (4/ 55).
[11] الكافي في فقه الإمام أحمد (4/ 55).