أثناء تصفحي لكتاب الشرح الممتع على زاد المستنقع وجدت هذا القول للشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
قوله: «ولا يجوز تصديرهم في المجالس» أي: لا يجوز أن يكونوا في صدر المجلس، بل في آخره،
هذا عند ابتداء الجلوس لا إشكال فيه، أي: إذا دخل جماعة من المسلمين، ومعهم أحد من أهل الذمة،
فإنه لا يمكن أن يتقدم أهل الذمة حتى يكونوا في صدر المجلس؛
لأن صدر المجلس إنما هو لأشراف القوم وأسيادهم، وهم ليسوا من أهل الشرف والسيادة.
لكن إذا كانوا في مجلس جالسين، ثم دخل جماعة من المسلمين. هل يُقَامُون من صدر المجلس؟
الجواب: نعم، إذا كان المجلس عاماً، أما إذا كان المجلس بيتاً لهم، فهم في بيوتهم أحرار، وإن كان عامّاً
فإنهم لا يصدرون في المجالس؛ لأن الإسلام هو الذي له الشرف، وهو الذي يعلو ولا يُعلى عليه. انتهى .
********************
رحم الله عالمنا وغفر له وأثابه على اجتهاده ..
كلامه عن عدم جواز تصدير أهل الذمة المجالس ابتداءاً لا إشكال فيه مطلقاً ..
أما قوله بجواز إقامة الذمى من مكانه وإجلاس المسلم بدلاً منه .. فهذا لي فيه وقفة ..
وذلك عملاً بالقاعدة الفقهية المعروفة : أقوال العلماء يستدل لها .. لا بها .. فبسم الله نبدأ وعليه نتوكل :
*********************
قد سبق الشيخ إلى هذا القول صاحب فتوحات الوهاب الشافعي فمنع أهل الذمة من تصدر المجالس
ابتداءاً ودواماً .. و كذلك صاحب البيان .. ويمكن جمع أدلتهم فى الآتي :
1) أثر عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى الشروط العمرية .. حيث ورد فيها قول نصارى الشام :
(( أَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ , وَأَنْ نَقُومَ لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِنَا إِنْ أَرَادُوا جُلُوسًا )) .
قلت :
هذا الشرط كما هو واضح هم الذين جعلوه على أنفسهم .. وهذا خارج نطاق بحثنا أصلاً ..
وحتى لو سلمنا أن الفاروق رضى الله عنه هو الذى اشترطه فقد ثبت أن هذا الصلح قد تم بعد حصارهم واستسلامهم ..
أى بعد وقوع القتال .. ومعلوم أنه بوقوع القتال معهم .. يجوز قتل مقاتلتهم واسترقاق ذراريهم .. فإن جاز ذلك ..
ففرض ذلك الشرط وغيره جائز من باب أولى .. وهذا أيضاً خارج نطاق بحثنا ..
فنحن نبحث فى شأن أهل الذمة المسالمين الذين قبلوا الصلح وبذلوا الجزية دون قتال .
-------------------
2) قول الله تعالى : (( ضربت عليهم الذلة )) وقوله عز وجل : (( وهم صاغرون )) ..
وعلى هذا فيلزم الذمي الصغار مع المسلم فى كل شيء ..
قلت :
أولاً قوله تعالى : (( ضربت عليهم الذلة )) فالمعني به هم اليهود .. ويتضح ذلك من سياق الآيتين :
﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ (البقرة:61) .
وقال جل جلاله في الآية الأخرى : ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ
وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ
بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ (آل عمران: 112 ) .
وقد بين الله عز وجل سبب ضربه الذلة والمسكنة عليهم .. وهو كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ..
أى جمعهم بين الكفر والعدوان .. كما نصت على ذلك الآيتين ..
ومجال بحثنا كما أسلفت فى أهل الذمة المسالمين الذين لم يقع منهم لا قتال ولا عدوان .
أما قوله تعالى : (( وهم صاغرون )) .. فقد قال غير واحد من أهل العلم ..
أن الصغار المقصود هو جريان أحكام الإسلام عليهم وأداؤهم الجزية وهم لها كارهون يعتقدون بطلانها ..
ذكره الطبري فى تفسيره ..
وقال الشافعي رحمه الله فى الأم : فكان الصغار والله تعالى أعلم أن يجري عليهم حكم الإسلام .
و نقل النووي فى روضة الطالبين قول الرافعي - رحمه الله - في أول كتاب الجزية :
الأصح عند الأصحاب : تفسير الصغار بالتزام أحكام الإسلام وجريانها عليهم ،
وقالوا : أشد الصغار على المرء أن يحكم عليه بما لا يعتقده ويضطر إلى احتماله . والله أعلم .
ويؤيد هذا أنه لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر الصديق رضى الله عنه - فيما أعلم -
إقامة أهل الذمة من مجالسهم لإجلاس المسلمين .. ولا تطبيق أى شرط من شروط العهدة العمرية أصلاً ..
فلو كانت من لوازم الآية الكريمة ..لاشترطها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك خليفته ..
خاصة مع خضوع يهود خيبر له .. وخضوع نصارى نجران لحكمه ..
ولعل لهذا صرح بعض العلماء أن أهل الذمة لو أبوا الغيار لم يجبروا عليه ونغيره نحن ..
(( ذكره ابن مفلح فى الفروع ونقله الشيخ ابن تيمية عن أبي يعلى فى اقتضاء الصراط المستقيم )) .
-------------------
3) قاعدة أن (( الإسلام يعلو ولا يعلى عليه )) ..
قلت :
قد ثبت علو الإسلام عليهم بجريان أحكامه عليهم وبذلهم الجزية .. واكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضى الله عنه بذلك ..
فلا مانع إذاً أن يسعنا ما وسعهما .. يقول السرخسي فى المبسوط :
المراد بقوله عليه السلام { الإسلام يعلو ولا يعلى } العلو من حيث الحجة أو من حيث القهر والغلبة فيكون المراد أن النصرة في العاقبة للمؤمنين .
***********************
الذي أدين لله به .. هو عدم جواز إقامة الذمى من صدر المجلس إن سبق المسلم إليه .. وهذا للأدلة الآتية :
1) عموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا ) متفق عليه.
فمن سبق إلى المشاع فقد استحقه .
مناقشة:
الحديث وإن كان عاماً فى لفظه .. إلا أنه خاص فى معناه ..
نقل ابن حجر العسقلاني فى فتح الباري عن ابن أبي جمرة : (( هذا اللفظ عام في المجالس ولكنه مخصوص بالمجالس المباحة
إما على العموم كالمساجد ومجالس الحكام والعلم وإما على الخصوص كمن يدعو قوما بأعيانهم إلى منزله لوليمة ونحوها
وأما المجالس التي ليس للشخص فيها ملك ولا إذن له فيها فإنه يقام ويخرج منها )) أى أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
لا ينطبق على ضيوف بيتك مثلاً ..فإن لم تأذن لهم بالجلوس .. جاز لك أن تقيمهم من مجالسهم .. لأن الدار يجري عليها ملكك دونهم ..
والدار التى جوز فيها الشيخ ذلك هي دار الاسلام .. التي لا يجري لأهل الذمة عليها ملك .
قلت :
نعم .. ولكن الذمي من أهل دار الاسلام يجري عليه أحكامها .. وهذا هو قول ابن قدامة نفسه ..
صاحب زاد المستنقع الذى يشرحه ويعلق عليه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ..
إذ استدل ابن قدامة رحمه الله بهذا على جواز تملك الذمي أرض الموات التي يحييها لأنها مشاع وقد سبق إليها .. فأثبت له بذلك حق تملكها كالمسلم ..
وخالف في ذلك الشافعي رحمه الله لأن تملك الموات نوع استعلاء وهو ممنوع عليهم فى دار الإسلام .. فتأمل قول الشافعي رحمه الله وعلته رجاءاً .
-------------------
2) ذكر هؤلاء العلماء أنفسهم ووافقهم غيرهم أيضاً .. أن الذمي يمنع من رفع بنيانه على المسلم .. لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ..
ولكنهم قيدوا ذلك بأن الذمي لو ملك داراً عالية قبل مجاورته للمسلم .. فلا يكلف هدمها .. لأسبقية حقه ..
وهذا عين ما أقوله .. أن الحق السابق لا يرفعه الحق اللاحق .
-------------------
3) قول الله تعالى : (( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ))
فالمسلم مطالب بالقسط والعدل حتى مع الكفرة .. ما داموا مسالمين حافظين للعهد ..
بل إن الله قد استحسن البر بهم .. والبر هو أعلى درجات المعاملة الحسنة ..
إنما المحرم .. هو تعظيم الكافر أو رفعه فوق المسلم تودداً إليه و موالاة له ..
وليس فى ترك الذمي جالساً في الصف الأمامي مثلاً لأنه سبق المسلم إليه شيء من ذلك ..
فما هذا إلا نوع من الذوق العام .. اعتاد الناس على فعله مع كل أحد ..
فلا يملك أستاذ الجامعة مثلاً إقامة طالب من مكانه ليجلس هو فيه ..
ولكن ينبغي للطالب أن يتبرع بذلك توقيراً لأستاذه وهذا ينهى المسلم عن فعله مع الكافر ..لأنه نوع تعظيم ..
أما أن يدخل المسلم مجلساً عاماً فيجلس حيث انتهى المجلس دون إقامة الذمي من مكانه فهذا لا تعظيم فيه ولا توقير ..
وقد ورد فى حاشية المهذب: (( ولا يصدرون فى المجالس )) : أى لا يجعلون صدوراً وهم السادة الذين يصدر عن أمرهم ونهيهم .. ومثله فى حاشية المجموع .
و يقول القرافي رحمه الله :
(( وأما ما أمر به من برهم ومن غير مودة باطنية فالرفق بضعيفهم وسد خلة فقيرهم وإطعام جائعهم وإكساء عاريهم ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة
لا على سبيل الخوف والذلة واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفا منا بهم لا خوفا وتعظيما والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة
ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم
وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم لجميع حقوقهم وكل خير يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله ومن العدو أن يفعله مع عدوه
فإن ذلك من مكارم الأخلاق فجميع ما نفعله معهم من ذلك ينبغي أن يكون من هذا القبيل لا على وجه العزة والجلالة منا
ولا على وجه التعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم )) .
********************
وختاماً :
قد يقول قائل : وما الداعي لإثارة مثل هذه الأمور فى وقت ضعفت فيه شوكة المسلمين وتداعت عليهم الأمم ؟!
أقول : قد استشكلت هذا الحكم وأردت تبين وجه الصواب فيه ..
خاصة أننا ندعو لإقامة دولة الإسلام ولتطبيق الشريعة الإسلامية .. ولا يتصور أن ندعو لتطبيق شيء لا نفهمه !!
ولهذا فقد أرسلت لمركز الفتوى إسلام ويب سؤالاً للمناقشة ..
فجاءت إجابتهم بعيدة كل البعد عن مثار الإشكال رغم تأخرهم فى الرد .. ولا بأس كان الله فى عونهم ..
http://fatwa.islamweb.net/fatwa/inde...waId&Id=369127
إلا أنني خلال ذلك الوقت كنت قد أتممت بحثي وسألت شيوخي .. ولا أرى جواز ذلك لا في حالة القوة ولا في حالة الضعف ..
ولهذا أردت عرض ما وصلت إليه .. نسأل الله التوفيق و السداد.