تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 52

الموضوع: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 1 )


    الحديث الخامس


    غسل الإناء عند ولوغ الكلب فيه




    عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً). وفي رواية لمسلم: (أولاهن بالتراب)، ولمسلم أيضاً من حديث عبد الله بن مغفل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب)، وفي لفظ لمسلم: (فليريقه)، وفي رواية للترمذي: (أخراهن، أو أولاهن بالتراب).

    * * *

    هذا حديث عظيم فيه مسائل مهمة تتعلق بطهارة ما مسه الكلب، وولغ فيه، نعرضها في الوقفات الآتية:

    الوقفة الأولى: قوله: (إذا ولغ) المراد بالولوغ أي إذا شرب بطرف لسانه، وقال بعضهم: إذا أدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع، وحركه، سواء شرب أو لم يشرب، وقيل: إذا كان ما في الإناء غير مائع يقال: لعقه، وإذا كان الإناء فارغاً يقال: لحسه.

    والحكم هنا يعم الجميع، سواء كان الإناء فارغاً أو غير فارغ، سواء كان ما فيه مائعاً كالماء، أو غير مائع، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم.

    الوقفة الثانية: قوله: (في إناء أحدكم) الإضافة هنا ملغاة؛ لأن حكم الطهارة والنجاسة لا يتوقف على ملك الإناء، وكذلك في قوله: (فليغسله) لا يلزم أن يكون الغاسل مالك الإناء.

    الوقفة الثالثة: قوله: (فليرقه) أي ما في هذا الإناء.

    الوقفة الرابعة: استدل جمهور أهل العلم بهذا الحديث على نجاسة الكلب، سواء نجاسة فمه، أو سائر جسده، قالوا: إن نجاسة فمه أخذت من أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم- بغسل الإناء الذي ولغ فيه، فإنه لا غسل إلا من حدث أو نجاسة، وليس هنا حدث فتعينت النجاسة، ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أمر بإراقة الماء، وفي إراقته إضاعة للمال، فلو كان الماء طاهراً لما أمر بإضاعته، فدل على نجاسته المتفرعة عن نجاسة فم الكلب.

    أما نجاسة سائر جسده فأخذت بالقياس على نجاسة فمه، إذ إن فمه أشرف ما فيه، فبقية بدنه أولى، كذلك إذا تعين نجاسة لعابه، وهو عرق فمه، والعرق جزء متحلب عن البدن، فجميع عرقه نجس، وجميع بدنه نجس.

    الوقفة الخامسة: هل هذه النجاسة خاصة بكلب معين، أم عامة لجميع الكلاب؟ ذهب الإمام مالك - رحمه الله تعالى- إلى أنه خاص في الكلب المنهي عن اتخاذه، أما المأذون في اتخاذه، وهو كلب الصيد، أو كلب الحراسة للزرع والماشية، فهذا لا يعمه الحكم، لكن الصحيح – والله أعلم ما ذهب إليه جمهور أهل العلم – أن الحكم عام لكل كلب، أما الكلاب التي رخص فيها، فقد رخص فيها للحاجة.

    الوقفة السادسة: استنبط جمهور العلماء من هذا الحديث أن الإناء الذي ولغ فيه الكلب قد تنجس، وكذلك ما في هذا الإناء من ماء أو غيره. وذلك لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أمر بغسل الإناء سبعاً، والثامنة بالتراب، والغسل لا يكون إلا من حدث أو نجاسة، كما استدلوا بما رواه الإمام مسلم مرفوعاً: (طهور إناء أحدكم...)، والطهورية لا بد أن تكون بعد نجاسة.

    الوقفة السابعة: تعددت روايات الحديث في عدد الغسلات، فمن تلك الروايات: (فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب)، ومنها: (فاغسلوه سبعاً وعفروه بالتراب). من هنا استنبط أهل العلم أن الواجب سبع غسلات؛ لصحة الحديث، وتعددت رواياته، خلافاً لما ذهب إليه بعض أهل العلم أن الواجب غسلة واحدة فقط.

    الوقفة الثامنة: استنبط جمهور أهل العلم من هذا الحديث أنه يجب أن يغسل الإناء مرة واحدة بالتراب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم-: (أولاهن بالتراب)، وفي رواية: (وعفروه الثامنة بالتراب)، وفي رواية: (إحداهن بالتراب)، لكن ما هو موضع هذه الغسلة؟ بمعنى هل يغسل الإناء بالتراب الغسلة الأولى أم الأخيرة؟ الراجح - والله أعلم- أنها الغسلة الأولى، فيغسل المرة الأولى بالتراب، ثم يغسل سبع مرات بالماء.

    الوقفة التاسعة: هل تكفي المنظفات الأخرى عن التراب كالصابون، والأشنان، ونحوهما؟

    الجواب: ذكر العلماء أنه لا يكفي وذلك لوجود مادة في الكلب لا يُقْضَى عليها إلا بالتراب، فلله الحكمة البالغة، وإن كان بعض الناس يظن أن المقصود زيادة التنظيف، فتكفي إحدى المواد المنظفة، وهذا فهم خاطئ، بل لا بد من التراب. وإن شفعه بمنظفات أخرى فلا بأس.

    الوقفة العاشرة: ذكر بعض أهل العلم أن الكلب إذا أدخل يده، أو رجله في الإناء فإن الحكم يعمه؛ قياساً على الولوغ، وبناءً على أن سائر الكلب نجس، وأن المادة التي في لعابه موجودة في عرقه المنتشر على جسده، وذكر بعضهم أن الحكم خاص بالولوغ فقط، والأول أحوط - والله أعلم-.


    الوقفة الحادية عشرة: هل يقاس على الكلب حيوانات أخرى، الصواب – والله أعلم – ما رآه جمهور أهل العلم أنه لا يقاس على الكلب غيره؛ لورود النص فيه، خاصة وإن كان هناك حيوانات أخرى نجسة كالخنزير – مثلاً-، لكن لا تقاس على الكلب في غسل ما ولغ فيه.


  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 2 )

    الحديث الرابع
    النهي عن البول في الماء الدائم


    عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل منه) متفق عليه.
    وفي رواية لمسلم: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب).
    * * *
    هذا الحديث العظيم فيه مسائل مهمة في طهارة الماء، نفصلها في الوقفات التالية:
    الوقفة الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (لا يبولن) اللام هنا للنهي.
    قوله: (الذي لا يجري) تفسير للدائم، وهو المستقر في مكانه، كموارد المياه، والغدران في البرية، وذكر (الذي لا يجري) مع أنها تفسير للدائم، قيل إنه احترز بها عن راكد يجري بعضه.
    الوقفة الثانية: في هذا الحديث نهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن البول في الماء الدائم، الذي لا يجري، وغيرها، وهذا النهي لحكم عظيمة، منها أن لا تتنجس هذه المياه، وما قد يحصل لها من التلوث، وما تخلفه تلك النجاسات من أمراض تنتشر بين الناس عند استعمالها.
    الوقفة الثالثة: يستنبط من هذا الحديث أيضاً النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، سواء بغمس الجسم أو بعضه فيه.
    الوقفة الرابعة: يفهم مما سبق أن الماء إذا كان جارياً فلا بأس من الاغتسال منه، ولو بالغمس، كالأنهار، والبحار، ونحوهما، وكذا التبول فيها؛ لأن هذه النجاسة لا تخلف آثاراً غير سليمة، لكن الأحسن والأفضل تجنيب البول تلك المياه، وقد يسبب تكاثر النجاسات على تلك المياه أضراراً مع طول الزمن، ثم إن التبول في تلك المياه مخالف لآداب الإسلام في قضاء الحاجة.
    الوقفة الخامسة: عرفنا في هذا الحديث النهي عن البول في الماء الراكد، ثم الاغتسال منه. هل هذا النهي للتحريم، بحيث لا يجوز الاغتسال منه، أم للكراهة، فإن فعل ذلك صح وكره؟
    اختلف أهل العلم في ذلك، فمنهم من قال إنه للكراهة مطلقاً، وهم المالكية، ومنهم من قال إنه للتحريم، وهم الحنابلة والظاهرية، ومنهم من قال إنه محرم في القليل، مكروه في الكثير.
    والذي يظهر لي – والله أعلم – أن ظاهر النهي التحريم في القليل والكثير، كما ذهب إليه الحنابلة ومن تبعهم، لكن يخص من ذلك المياه المستبحرة، باتفاق أهل العلم، فلا يشملها النهي.
    الوقفة السادسة: هل الماء الذي يبال فيه، باقٍ على طهوريته أم ينجس بهذا البول؟
    والجواب عن ذلك يختلف باختلاف تغيره بالنجاسة وعدمها، وبقلته وكثرته، فإن كان متغيراً بالنجاسة، بلون، أو طعم، أو ريح، فلا خلاف بين أهل العلم في نجاسته، سواء كان قليلاً أو كثيراً.
    وإن كان غير متغير بالنجاسة، وهو كثير فلا خلاف أيضاً بين أهل العلم أنه طاهر، لكن للعلماء آراء في تحديد هذا الكثير.
    وإن كان غير متغير بالنجاسة وهو قليل فللعلماء في ذلك رأيان: أحدهما أنه يعتبر غير نجس، وهذا ما ذهب إليه جمع من الصحابة، والظاهرية، والمالكية، واستدلوا بما رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (الماء طهور لا ينجسه شيء).
    وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-.
    والقول الثاني: وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء أن الماء القليل ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة ولو لم يتغير لظاهر النهي في هذا الحديث. لكن الصواب – والله أعلم – ما ذهب إليه الأولون، وهو أن الماء لا ينجس إلا إذا تغير لونه، أو طعمه، أو ريحه، ولو كان يكره فعله - كما سبق بيانه-.
    الوقفة السابعة: استنبط بعض أهل العلم من هذا الحديث النهي عن كل شيء من شأنه الاعتداء والأذى على الآخرين، أو ما يعكر عليهم مياههم، أو يكره إليهم غذاءهم، فالإسلام دين الطهر والنظافة.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 3 )




    الحديث الثالث


    من آداب الطهارة




    عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً، ثم ليستنثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثاً، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده).

    وفي رواية لمسلم: (فليستنشق بمنخريه من الماء)، وفي لفظ: (من توضأ فليستنشق).

    * * *

    هذا حديث عظيم، فيه فوائد جليلة، أعرضها فيما يلي من الوقفات:

    الوقفة الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (إذا توضأ) أي إذا أراد الوضوء، قال ابن حجر - رحمه الله-: (إذا شرع في الوضوء).

    الوقفة الثانية: قوله: (فليجعل في أنفه ماءً، ثم ليستنثر) في بعض الروايات لم يذكر (ماءً) وذلك للعلم به، ولذلك قال بعض أهل العلم: فيه جواز حذف المفعول إذا دل الكلام عليه.

    أما قوله: (ليستنثر)، في رواية: (لينتثر)، والمراد بالإستنثار إخراج الماء من أنفه بعد الاستنشاق، والاستنشاق هو اجتذاب الماء بالنفس إلى باطن الأنف، حتى يصل إلى الخياشيم.

    هذا هو الاستنشاق الكامل، والذي عُبر عنه في بعض الأحاديث بالمبالغة كما في قوله - صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الأربعة - (وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً).

    أما حكم الاستنثار، والاستنشاق في الوضوء، فالظاهر من الأمر في هذا الحديث الوجوب، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، وما رجحه كثير من أهل العلم، منهم الإمام الشوكاني - رحمه الله-، وذكر عدة أدلة تؤيد هذا الرأي. منها: حديث سلمة بن قيس أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا توضأت فانتثر)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه)، وفي رواية: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر)، عن لقيط بن صبرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال في حديث طويل: (وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائما) صححه البغوي، وابن القطان، والنووي، وغيرهم، وقال الترمذي: حسن صحيح.

    فهذه الأحاديث، وغيرها تدل على الأمر بالاستنشاق، والاستنثار في الوضوء، ولا صارف لها عن الوجوب، ويعضد هذا أنهما من تمام غسل الوجه، وهو الواجب، ثم إن بعض من وصف وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم- ذكر المضمضة والاستنشاق.

    وذهب فريق من أهل العلم إلى أن الاستنشاق سنة في الوضوء والغسل. ومنهم من قال: إنه سنة في الوضوء، وواجب في الغسل، مستدلين بأن آية الوضوء لم تذكر المضمضة والاستنشاق، كما استدلوا بأحاديث أخرى لا تقوى على معارضة ما ذكرناه من أحاديث في إسنادها ودلالاتها. فيظهر من هذا كله أن الاستنشاق والإستنثار واجب في الوضوء.

    وصفة الاستنشاق الكامل أن يأخذ الماء بيده اليمنى فيتمضمض ويستنشق، ثم يستنثر بيده اليسرى، يفعل ذلك ثلاث مرات؛ لحديث عثمان - رضي الله عنه- في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وفيه: (ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض، واستنشق، واستنثر) متفق عليه، ولحديث علي - رضي الله عنه-: (فأدخل يده اليمنى في الإناء فملأ فمه، فتمضمض، واستنشق، ونثر بيده اليسرى، يفعل ذلك ثلاثاً).

    الوقفة الثالثة: ذُكر في فوائد الاستنشاق والاستنثار النظافة، وقد عدَّها الرسول - صلى الله عليه وسلم- من الفطرة، فقد روى مسلم وغيره عن عائشة - رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: ( عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم - وهي رؤوس الأصابع بعد تقليم الأظافر - ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء أي الاستنجاء به؛ لأن الماء يقطع البول ويرده) قال بعض الرواة: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة.

    وذكر ابن حجر - رحمه الله- أن من فوائد الاستنثار التنظيف؛ لما فيه من المعونة على القراءة؛ لأن بتنقية مجرى النفس تصح مخارج الحروف، ويُزاد للمستيقظ من النوم بأن ذلك لطرد الشيطان.

    الوقفة الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (من استجمر فليوتر)، الاستجمار: مسح جميع محل البول والغائط بالجمار، وهي الأحجار الصغار، ومنه الجمار التي يرمى بها في الحج.

    وقوله: (فليوتر) أي لينهِ الاستجمار على وتر، وهو الفرد مثل ثلاث، أو خمس، ونحوهم، ولا يكون الاستجمار بأقل من ثلاث، وإن حصل الإنقاء بدونه؛ وذلك لنهيه - صلى الله عليه وسلم- أن يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار.

    الوقفة الخامسة: اعلم أن الاستجمار أحد طرق الاستطابة للطهارة بعد البول، أو الغائط. وقد بين الإسلام تفصيلات دقيقة في هذا الشأن، روى مسلم، وغيره عن سلمان الفارسي، أن المشركين قالوا له: إننا نرى صاحبكم يعلمكم حتى الخراءة؟ قال: أجل نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه، أو يستقبل القبلة بغائط أو بول، ونهى عن الروث والعظام، وقال لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار.

    ثم اعلم أن لقضاء الحاجة آداباً منها:

    1- تنحية ما فيه ذكر الله - عز وجل- ولا سيما المصحف، فلا يصطحبه معه، وهو يريد قضاء الحاجة، سواء في البنيان أو في الفلاة. لما رواه أصحاب السنن وغيرهم عن أنس - رضي الله عنه- أنه قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الخلاء وضع خاتمه). قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وينزع خاتمه؛ لأنه منقوش عليه: محمد رسول الله. وإن كان ما فيه ذكر الله مستوراً في جيبه ونحوه فلا بأس حينئذ - إن شاء الله-.

    2- ومن الآداب أيضاً أن يدعو عند دخول دورة المياه، أو ذهابه إلى الخلاء قبيل الدخول بما ورد، روى الجماعة عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).

    3- ويقدم الرجل اليسرى إذا دخل الخلاء؛ لأن ما كان من التكريم بدئ فيه باليمنى، وما كان خلافه باليسرى، لما روى البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يعجبه التيمن في شأنه كله: في طهوره، وترجله، وتنعله).

    4- ويستحب لمن كان في الفلاة أن يبعد ويستتر عن العيون، بحيث لا يسمع له صوت، ولا تشم له رائحة، ويحصل الستر بأي شيء ساتر، ولو بجدار، أو مطمن من الأرض ونحوه، روى البخاري، ومسلم، وغيرهما عن المغيرة بن شعبة أنه قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم- في سفر فقال: (يا مغيرة خذ الإداوة فأخذتها، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حتى توارى عني، فقضى حاجته). وروى أصحاب السنن وغيرهم عنه - رضي الله عنه- ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان إذا ذهب إلى الغائط أبعد). صححه النووي.

    وروى أبو داود، وابن ماجه، وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فليستتر به)، حسنه النووي.

    5- ومن الآداب أيضاً عدم استقبال القبلة، أو استدبارها ببول أو غائط، وجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز ذلك إذا كان في الفلاة؛ لما روى مسلم، وأحمد، وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها).

    أما إذا كان في البنيان فإنه يكره ولا يحرم؛ لما روى الشيخان، وغيرهما عن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: (إن ناساً يقولون: إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة، ورقيت على بيت حفصة - رضي الله عنها- لبعض حاجتي، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته مستقبلاً الشام، مستدبراً الكعبة).

    ومن هنا جعل جمهور العلماء التحريم خاصاً فيما إذا كان في الفلاة جمعاً بين الأدلة.

    6- ومن الآداب الواجبة عدم قضاء الحاجة في أماكن التجمعات، أو المتنزهات، أو موارد المياه التي تورد للشرب، أو طريق الناس، ونحو ذلك،؛ لما روى مسلم، وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (اتقوا اللعانين - أي الأمرين الجالبين للعن- ) قالوا: وما اللعانين يا رسول الله؟ قال: (الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم).

    7- ومن الآداب عدم قضاء الحاجة في المواضع التي فيها ثقوب، أو شقوق؛ لما روى أحمد، وأبو داود، والنسائي - بإسناد حسن - (أن النبي - صلى الله عليه وسلم- نهى أن يُبال في الجحر). كما يكره استقبال مهب الريح بالبول، ويكره أن يبول في محل الاغتسال، كما يكره أن يبول قائماً إلا لعذر.

    الوقفة السادسة: يجب التنزه من البول والغائط، وكل نجس ملوث يخرج من السبيلين، وهذا التنزه إما بالماء، أو الأحجار، أو ما يقوم مقامها، ويسمى هذا التنزه الاستطابة،؛ لأنها تطيب نفس الإنسان بإزالة الخبث. والأفضل أن يجمع بين الحجر والماء، فقد روى ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي بإسناد صحيح، عن جابر، وأبي أيوب، وأنس - رضي الله عنهم- قالوا: نزلت هذه الآية (فيه رجال يحبون أن يتطهروا..) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (يا معشر الأنصار قد أثنى الله عليكم في الطهور فما طهوركم) ؟ قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء: فقال: (هو ذلك فعليكموه).

    وكما تجزئ الحجارة في الاستجمار يجزئ ما كان قائماً مقامه، وهو كل جامد طاهر مزيل للنجاسة، غير مؤذ، ليس له حرمة، ولا يتعلق به حق لغيره، كالمناديل الورقية، ونحوها.

    ومما لا يجوز الاستطابة به: ما ليس بطاهر، كالروث، والحجر المتنجس، ونحوه؛ لما رواه البخاري، وغيره عن ابن مسعود - رضي الله عنه- أنه قال: (أتى النبي الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال هذا ركس). زاد أحمد في رواية: (فألقى الروثة وقال: إنها ركس، ائتني بحجر)، وكذلك لا يجوز الاستجمار بالعظم؛ لما روى الترمذي، وغيره عن ابن مسعود - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن)، ويلحق بالعظام جميع المطعومات، وكذلك لا يجوز الاستجمار بما لا ينقي المحل، كالزجاج، ونحوه؛ لأنه لا يزيل النجاسة بل يبسطها.

    ومن الأمور التي لا يجوز الاستنجاء بها ما له حرمة، كالذي كتب فيه كتابة محترمة، كأمور الشرع، ونحو ذلك، أما المكتوب كتابة غير محترمه فيكره، ولا يحرم، وكذلك لا يجوز الاستجمار بالمائعات الطاهرة؛ لأنها ليست مطهرة، وتنجس بملاقاة النجاسة.

    الوقفة السابعة: ذكر أهل العلم أنه يجب الاستنزاه من البول، حتى يغلب على الظن أنه لم يبق في المحل شيء؛ لما روى الشيخان، وغيرهما عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: (إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)، وفي رواية لمسلم: (لا يستنزه من البول).

    الوقفة الثامنة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)

    - فإن أحدكم لا يدري: هذا تعليل لغسل اليد بعد الاستيقاظ.

    - باتت يده: ذكر العلماء أن حقيقة المبيت يكون من نوم الليل، وفي هذه الجملة عدة مسائل.

    المسألة الأولى: يستفاد من هذه الجملة أن المستيقظ من نوم الليل لا يدخل كفه في الإناء، أو يمس بها شيئاً رطباً حتى يغسلها ثلاث مرات ؛لأن نوم الليل غالباً ما يكون طويلاً، ويده تبطش في جسمه، فلعلها لمست بعض المستقذرات وهو لا يعلم، فشرع له غسلها للنظافة المشروعة، لكن اختلف أهل العلم - رحمهم الله- في النوم الذي يشرع بعده غسل اليد، هل هو بعد كل نوم من ليل أو نهار، أم هو بعد نوم الليل فقط؟ ذهب إلى القول الأول، وهو غسل اليد قبل وضعها في الإناء ثلاثاً بعد كل نوم جمهور العلماء، أخذين بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم-: (إذا استيقظ أحدكم من نومه)، وذهب إلى القول الثاني الإمام أحمد، وداود الظاهري، وهو أن النوم المقصود هنا هو نوم الليل فقط، مستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، فحقيقة البيتوتة لا تكون إلا من نوم الليل، ويؤيد هذا ما رواه الترمذي، وابن ماجه أنه قال: (إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل). وهذا القول هو الذي يترجح - والله أعلم -؛ لأن الحكمة التي شرع من أجلها الغسل غير واضحة، وإنما يغلب عليها التعبدية، فلا مجال لقياس النهار على الليل، وإن طال فيه النوم؛ لأنه على خلاف الغالب، والأحكام تتعلق بالأغلب، وظاهر الأحاديث التخصيص.

    المسألة الثانية: هل غسل اليد واجب أم مستحب؟ هناك رأيان لأهل العلم في ذلك، لكن الذي يترجح - والله أعلم - أن الغسل واجب؛ لظاهر الأمر في الحديث، والأمر يدل على الوجوب ما لم يصرفه صارف، ولا صارف هنا.

    المسألة الثالثة: قال بعض أهل العلم: هذا الحديث فيه دلالة على كراهة غمس اليد في الإناء قبل غسلهما ثلاثاً إذا قام من النوم.

    المسألة الرابعة: في قوله: (فإنه لا يدري أين باتت يده). ذكر بعض أهل العلم أنه يستفاد من هذه العبارة استعمال الكنايات فيما يُستحى من التصريح به، فإنه - عليه الصلاة والسلام- قال: (لا يدري أين باتت يده)، ولم يقل فلعل يده وقعت على دبره، أو على نجاسة، ونحو ذلك.

    المسألة الخامسة: ذكر بعض أهل العلم أن في هذا الحديث دلالة على استحباب الأخذ بالاحتياط في العبادات وغيرها عند الاشتباه والشك، ما لم يخرج إلى حد الوسوسة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 4 )



    الحديث الثاني


    وجوب تعميم الأعضاء في الوضوء



    عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وعائشة - رضي الله عنهم- قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (ويل للأعقاب من النار).

    * * *

    هذا الحديث من جوامع كلمه- صلى الله عليه وسلم-، ويحتوي على فوائد عظيمة، أوجزها في الوقفات الآتية:

    الوقفة الأولى: هذا الحديث له سبب، وذلك فيما رواه البخاري، ومسلم عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- قال: تخلف النبي - صلى الله عليه وسلم- عنا في سفرة سافرنا، فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ، ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: (ويل للأعقاب من النار) مرتين أو ثلاثاً.

    وفي رواية لمسلم، قال عبد الله بن عمرو: رجعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر، فتوضأوا وهم عجال، فانتهينا إليهم، وأعقابهم تلوح، لم يمسها بالماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء).

    وروى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً لم يغسل عقبيه فقال: (ويل للأعقاب من النار).

    الوقفة الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (ويل) هذه الكلمة من المصادر التي لا أفعال لها، ومثلها: ويح، وهي هنا نكرة غير معرفة، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: جاز الابتداء بالنكرة؛ لأنه دعاء. أما معناها فقيل فيها أقوال عدة، منها: أنها كلمة عذاب، وحزن، وهلاك، وقيل إنها صديد أهل النار، وأظهرها أنه واد في جهنم؛ لما روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد مرفوعاً: (ويل واد في جهنم) اهـ.

    زيد في رواية: (لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حرّه).

    الوقفة الثالثة: قوله (الأعقاب) جمع عقب، وهي مؤخرة القدم، وعقب كل شيء آخره، والمراد: أصحاب الأعقاب، وجاء في رواية لمسلم: (ويل للعراقيب من النار)، وهي جمع عرقوب، وهو العصب الذي فوق عقب الإنسان.

    وخص ذكرها في الحديث، وعقابها بالنار؛ لكونها التي لم تغسل غالباً. واللام في (الأعقاب) للعهد، أي الأعقاب التي لا ينالها الماء، قال البغوي: معناه: ويل لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها.

    الوقفة الرابعة: في هذا الحديث دليل على وجوب تعميم الأعضاء في حال الوضوء، وأن ترك بعضٍ منها غير مجزئ لهذا الوعيد الشديد الذي توعد الرسول - صلى الله عليه وسلم- من ترك غسل عقب رجليه.

    الوقفة الخامسة: استدل أهل العلم بهذا الحديث على أن الواجب رؤيتهما يلوحان بغير غسل، بل قد جاء في بعض طرق الحديث قوله - عليه الصلاة والسلام-: (أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار)، قال النووي - رحمه الله-: (ولو أن المسح كافياً لما تواعد من ترك غسل عقبيه).

    وغسل الرجلين هو المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم-، قولاً و فعلاً، خلافاً لمن قال بالمسح، أو التخيير بين الغسل والمسح.

    ومن ذلك ما رواه الشيخان من حديث حمران مولى عثمان بن عفان، أنه رأى عثمان - رضي الله عنه- دعا بوضوء، فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض، واستنشق، واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً، ثم قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم- (توضأ نحو وضوئي هذا)، وغير هذا الحديث كثير...

    الوقفة السادسة: استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على وجوب نزع الخاتم في الوضوء، فقد ترجم البخاري - رحمه الله- لهذا الحديث بقوله باب: غسل الأعقاب، وكان ابن سيرين يغسل موضع الخاتم إذا توضأ.

    وذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله- أنه روي عنه بإسناد صحيح أنه كان إذا توضأ حرك خاتمه، قال ابن حجر: فيحمل على أنه كان واسعاً بحيث يصل الماء إلى خاتمه بالتحريك اهـ.

    وهذه مسألة يغفل عنها كثير من الناس، فينبغي التنبه لها.

    الوقفة السابعة: استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على الذنوب الصغيرة، أو التي يراها الناس في أعينهم صغيرة، يعذبون عليها، فإن عدم غسل العقب مما قد يظنه بعض الناس أمراً هيناً، ومع ذلك فقد توعد عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم-، بالويل وهو واد في جهنم.
    الوقفة الثامنة: استدل بهذا الحديث على وجوب تعليم الجاهل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم- لما رأى هؤلاء المستعجلين لم يغسلوا أعقابهم لم يسكت، فنادى بأعلى صوته: (ويل للأعقاب من النار)، بل كانت هذه حاله - صلى الله عليه وسلم- معلماً ومربياً، داعياً إلى الله تعالى، آمراً بالمعروف، وناهياً عن المنكر، وسيرته العطرة مليئة بالأحداث والوقائع الدالة على ذلك.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي


    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 5 )



    مقدمة

    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد...
    ففي هذه الزاوية نعرض - بإذن الله تعالى- لأحاديث الأحكام العملية، مبتدئين بكتاب الطهارة، على منهج تصنيف المحدثين في ذلك.
    وسنعرض في كل حلقة من الحلقات حديثاً أو أكثر، مقتفين منهج التحليل للحديث بدراسة متنه، وذلك بعرضه على شكل وقفات، كل وقفة نتحدث عن مسألة من مسائله، أو بيان معنى، ونحو ذلك، مع الحرص على ألاّ يُستشهد إلا بالحديث المقبول، وهذا لا يعني عدم ذكر الضعيف الذي استشهد به أهل العلم؛ بل يذكر، ويبين ضعفه.
    ومن المنهجية في هذه الزاوية أن تُذكر إيرادات أهل العلم، ويبين الخلاف، مع الترجيح قدر الإمكان بالدليل.

    كتاب الطهارة

    الحديث الأول
    اشتراط الطهارة للصلاة

    عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وفي رواية، قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: (فساء أو ضراط).
    عن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا تقبل صلاة بغير طهور)
    * * *
    في هذا الحديث الشريف الذي هو أصل في كتاب الطهارة عدة وقفات، أفصلها على النحو التالي:
    الوقفة الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (لا يقبل) بفتح الياء، والمراد بالقبول في الشرع حصول الثواب، قاله العلامة ابن الملقن. وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: وحقيقة القبول ثمرة وقوع الطاعة مجزئة، رافعة لما في الذمة.. ولما كان الإتيان بشروطها مظنة الإجزاء، الذي القبول ثمرته، عُبِّرَ عنه بالقبول مجازاً، وأما القبول المنفي في مثل قوله - صلى الله عليه وسلم-: (من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة) فهو الحقيقي؛ لأنه قد يصح العمل، ويتخلف القبول لمانع. ولهذا كان بعض السلف يقول: لئن تقبل لي صلاة واحدة أحبّ إليّ من جميع الدنيا، قاله ابن عمر - رضي الله عنهما-، قال: لأن الله تعالى قال: (إنما يتقبل الله من المتقين). اهـ..
    الوقفة الثانية: قوله: (إذا أحدث) أي وجد منه الحدث، وهو عبارة عن نقض الوضوء، وقد فسره أبو هريرة - رضي الله عنه- بنوع منه فقال: (فساء أو ضراط)، قال الحافظ ابن حجر: (شبيهاً بالأف على الأغلظ؛ ولأنهما قد يقعان في أثناء الصلاة أكثر من غيرهما).اهـ.
    وإلا فالحدث يشمل الحدث الأكبر، كالجنابة، والحيض، والنفاس، ويشمل الحدث الأصغر، كالخارج من السبيلين، وسواء كان هذا الحدث اختيارياً أو اضطرارياً، كما سيأتي تفصيله – إن شاء الله-.
    الوقفة الثالثة: قوله: (حتى يتوضأ). قال العلامة ابن الملقن - رحمه الله-: نفي القبول إلى غاية – وهي الوضوء- وما بعد الغاية مخالف لما قبلها، فاقتضى قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقاً. اهـ، والوضوء من الوضاءة، وهو الحسن والنظافة، وهو بضم الواو فعل الوضوء، وبالفتح: الماء الذي يتوضأ به.
    وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: ( "قوله يتوضأ"، أي بالماء، أو ما يقوم مقامه، وقد روى النسائي بإسناد قوي عن أبي ذر - رضي الله عنه- مرفوعاً: (الصعيد الطيب وضوء المسلم)، فأطلق الشارع على التيمم أنه وضوء؛ لكونه قام مقامه). اهـ.
    من هذا نفهم أن قوله - صلى الله عليه وسلم-: حتى يتوضأ إن كان واجداً للماء، أو يتيمم إن لم يكن واجداً للماء.
    الوقفة الرابعة: استنبط أهل العلم من هذا الحديث أن الطهارة شرط من شروط الصلاة، وأن الصلاة لا تقبل بدونها. يقول الإمام النووي - رحمه الله-: ( هذا الحديث نص في وجوب الطهارة للصلاة، وقد أجمعت الأمة على أن الطهارة شرط في صحة الصلاة)اهـ. لكن هل هذا الوضوء فرض على كل قائم إلى الصلاة، بمعنى أن كل من أراد أن يصلي يلزمه الوضوء، أو أنه فرض على المحدث خاصة؟
    الصواب من أقوال أهل العلم أنه لا يجب إلا على من أحدث، لكن تجديده لكل صلة مستحب، قال النووي - رحمه الله-: وعلى هذا أجمع أهل الفتوى، ولم يبق بينهم فيه خلاف اهـ.
    الوقفة الخامسة: استدل أهل العلم بهذا الحديث على بطلان الصلاة بالحدث، سواء كان هذا الحدث حدثاً أصغرًا أو أكبرًا، وسواء كان خروجه اختيارياً أو اضطرارياً، وذلك لعدم تفريقه - عليه السلام- بين حدث وحدث، أو في حالة دون حالة، فلهذا تبطل صلاة من أحدث، وعليه أن يتوضأ.
    الوقفة السادسة: أجمع أهل العلم على تحريم الصلاة بغير طهارة، وأن من فعل ذلك فقد أثم، وعرض نفسه لأمر منكر، قال النووي - رحمه الله-: (وأجمعت الأمة على تحريم الصلاة بغير طهارة من ماء أو تراب، ولا فرق بين الصلاة المفروضة والنافلة، وسجود التلاوة، والشكر، وصلاة الجنازة، إلا ما حكي عن الشعبي، وابن جرير الطبري من قولهما تجوز صلاة الجنازة بغير طهارة، وهذا مذهب باطل، وأجمع العلماء على خلافه، ولو صلى محدثاً متعمداً بلا عذر أثم) اهـ.
    ثم قال: (وهذا إذا لم يكن للمصلي محدثا عذر، أما المعذور كمن لم يجد ماءً، ولا تراباً فالأقوى من أقوال أهل العلم دليل أن يصلي، ولا يجب القضاء عليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم-: (إذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم) اهـ.
    الوقفة السابعة: يدل هذا الحديث على أهمية الطهارة في الإسلام، حيث رتب قبول الصلاة - وهي الركن الثاني من أركان الإسلام- على وجوب التطهر من الأحداث، ورتب الإثم على من صلى محدثاً، والإسلام كما شرع طهارة الجسم ظاهراً، أوجب على المسلم أن ينظف باطنه، حتى يلقى الله – سبحانه- بطهارة الظاهر والباطن، وقد تعددت النصوص النبوية في بيان أهمية الطهارة والوضوء، وما يترتب عليهما من الأجر العظيم، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل). والغرة بياض الوجه، وأصلها البياض في وجه الفرس، فالرسول - صلى الله عليه وسلم- يبين أن المؤمنين يأتون يوم القيامة بيض الوجوه من أثر الوضوء.
    ومن ذلك حديث عثمان - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره)، وفي رواية للنسائي: (ما من امرئ يتوضأ فيحسن وضوءه إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها).


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 6 )
    صفة الوضوء

    (1-2)



    الحديث السادس والسابع

    صفة الوضوء


    عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان - رضي الله عنه- دعا بوضوء، ثم تمضمض، واستنشق، واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين، ثم مسح برأسه ، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً، ثم قال رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم- توضأ نحو وضوئي، وقال: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله ما تقدم من ذنبه)(1).
    ويشبه هذا الحديث ما أخرجه الشيخان عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال: (شهدت عمرو بن أبي الحسن سأل عبد الله بن زيد - رضي الله عنه- عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم- فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم وضوء النبي- صلى الله عليه وسلم- فأكفأ على يديه من التور، فغسل يديه ثلاثاً، ثم أدخل يده في التور، فمضمض، واستنشق، واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات، ثم أدخل يده في التور فغسل وجهه ثلاثاً، ثم أدخل يده فغسلهما مرتين إلى المرفقين ثم أدخل يديه فمسح بهما رأسه، فأقبل بهما، وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه). وفي رواية: (بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه)(2).
    هذان الحديثان العظيمان فيهما بيان عملي لصفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم- الصفة الكاملة، فنقف معهما الوقفات الآتية:
    الوقفة الأولى: قول الرواي: (أن عثمان دعا بوضوء).
    الوَضوء: بفتح الواو: الماء الذي يتوضأ به – وهو المقصود هنا – أما بضم الواو (الوُضوء) فهو فعل الوضوء، وقوله في الرواية الأخرى (فدعا بتور) التور هو: الإناء الصغير.
    الوقفة الثانية: قوله: (فأفرغ عليه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات)، وقوله في الرواية الأخرى (على يديه من التور فغسل يديه ثلاثاً) هاتان الجملتان تفيدان أن أول أعمال الوضوء غسل الكفين، وغسلهما سنة مؤكدة في الوضوء، إلا للقائم من نوم الليل، ولا خلاف في هذا بين أهل العلم، أما القائم من نوم الليل فيجب عليه غسل الكفين في أصح قولي العلماء، لما رواه البخاري ومسلم أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلهما ثلاثاً)(3).

    الوقفة الثالثة: قوله: (ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض، واستنشق، واستنثر)، وقوله في الرواية الأخرى: (ثم أدخل يده في التور، فمضمض، واستنشق، واستنثر ثلاثاً بثلاث غُرْفات).
    المضمضة: أن يجعل الماء في فيه، ثم يديره، ثم يمجه، وهذا كمال المضمضة، وأقلها أن يجعل الماء في فيه ولا يمجه.
    أما الاستنشاق: فهو اجتذاب الماء بالنفس إلى باطن الأنف حتى يصل إلى الخياشيم، وهذا كمال الاستنشاق، وهو ما يسمى بالمبالغة، وأقلها اجتذاب الماء بالنفس إلى الأنف، دون الوصول إلى الخياشيم.
    والاستنثار: أن يخرج الماء من أنفه بعد الاستنشاق.
    وقد سبق أن الاستنشاق والاستنثار واجبان في الوضوء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم-: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر)(4). وفي رواية لمسلم: (فليستنشق بمنخريه الماء)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم-: (إذا توضأ فأنثر)(5)، والأحاديث في هذا متعددة، لا يتسع المقام لحصرها.
    أما حكم المضمضة: فهي واجبة في الوضوء والغسل معاً، وهو الصحيح من أقوال أهل العلم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن – (إذا توضأت فمضمض)(6)، وصححه ابن حجر - رحمه الله-؛ ولأن الفم عضو في الوجه، فوجبت المضمضة؛ لأن الفم منه. كما أن الجميع من وصف وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم- ذكر المضمضة فدل كل ذلك على الوجوب، وهناك رأي لبعض أهل العلم أن المضمضة سنة في الوضوء والغسل، بدليل أنه لم تذكر في آية الوضوء، لكن الصحيح هو الوجوب، أما أنها لم تذكر في آية الوضوء؛ فلأنها من الوجه، والوجه قد ذكر بقوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم).
    الوقفة الرابعة: ذكر بعض أهل العلم الإجماع على أن المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة مؤكدة لغير الصائم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم-: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)(7). والصائم لو بالغ في المضمضة أو الاستنشاق لكان عرضة لأن يصل الماء إلى حلقه، وبالتالي يتعرض للفِطر.
    الوقفة الخامسة: ذكر في الرواية الأخرى صفة المضمضة والاستنشاق، قال: (ثم أدخل يده في التور، فمضمض، واستنشق، واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات) وفي رواية: (فتمضمض، واستنشق من كف واحدة، فعل ذلك ثلاثاً). فتفيد هذه الروايات أن المستحب في المضمضة والاستنشاق أن يتمضمض بيمينه، ويستنشق بشماله، وأن تكون المضمضة والاستنشاق من كف واحدة بغرفة واحدة. هذا هو المستحب، وإن خالف ذلك بأن جعل للمضمضة غرفة وللاستنشاق غرفة فلا بأس - إن شاء الله-.
    وكمال الاستحباب أن يفعل ذلك ثلاث مرات، كما هو صريح في الرواية الأخرى، لكن هل يجب الترتيب بينهما وبين الوجه؟ الصحيح - إن شاء الله- أنه لا يجب، وإنما يستحب أن يبدأ بهما قبل الوجه؛ لأن كل من وصف وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم- بدأ بهما.
    الوقفة السادسة: قوله: (ثم غسل وجهه ثلاثاً).
    حد الوجه: من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن جميعاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، والاعتبار بالمنابت المعتادة، لا بمن تصلع الشعر عن ناصيته، ولا بمن نزل على جبهته.
    ثم لا خلاف بين أهل العلم على أن غسل الوجه واجب من واجبات الوضوء؛ لقوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم). ولكن هناك تفريعات حول غسل الوجه، نوضحها في الآتي:
    يدخل الوجه ما بين الأذن وشعر العارض، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، إلا ما أثر عن مالك - رحمه الله- بأن قال: ليس من الوجه؛ لأنه لا يواجه به، ولكن الصحيح خلافه، كما نبه إلى ذلك جمهور العلماء.
    مما يدخل في الوجه جميع الشعور التي على الوجه، من شعر الذقن، وشعر العارضين، والحاجبين، وأهداب العينين، والشارب، والعنفقة.
    أما غسل العينين فليس بواجب، ولكن الواجب هو ما بين العينين والأنف، وهو ما يسمى بالمآقين؛ لأنه من الوجه.
    وصفة غسل الوجه المستحبة: أن يأخذ الماء بيديه جميعاً؛ لأنه أمكن وأسبغ، ويبدأ بأعلى وجهه ثم يحدر؛ لأنه هكذا كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وإن خالف هذه الصفة، لكنه توصل إلى غسل وجهه فلا بأس.
    ومن المستحب أن يغسل وجهه ثلاثاً، كما نص عليه في الحديث.
    وأما كيفية غسل الشعور فهي لا تخلو إما أن تصف البشرة أو لا؟ فإن كانت تصف البشرة فتغسل مع الوجه، وإن لم تصفها فيجزئ غسل ظاهرها، والحمد لله على التيسير.
    الوقفة السابعة: قوله: (ويديه إلى المرفقين ثلاثاً).
    المرفق: بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الفاء مجتمع العظمين المتداخلين، وهما طرف عظم العضد، وطرف عظم الذراع. و(إلى) في قوله: (إلى المرفقين) لها معنيان: الأول أنها بمعنى: مع، فكأنه قال: (مع المرفقين)، والمعنى الثاني: تكون للغاية، فإذا كانت للغاية فهل يدخل ما بعد إلى فيما قبلها، مثل بعتك هذه الأشجار من هذه إلى هذه؟ أما إذا لم يكن من جنسه فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها، كما في قوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل). فالليل هنا لا يدخل في الصيام؛ لأن الليل ليس كالنهار، وعليه فالمرفق هنا داخل في الحكم - كما سيأتي هذا إن شاء الله-.
    أما حكم غسل اليدين فهو فرض من فروض الوضوء، كما ذكر الله – سبحانه- ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وأيديكم إلى المرافق). ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم.
    وهنا بعض التفصيلات حول غسل اليدين منها:
    أنه يستحب تقديم اليد اليمنى على اليسرى بالإجماع, ولم يخالف في ذلك أحد من الأئمة المعتبرين. كما أنه يكره تقديم اليسرى على اليمنى كراهة تنزيه, وإن كان مجزئاً عند وقوعه.
    وتبدأ اليد من بداية الأصابع إلى المرافق, لكن هل المرفقان داخلان في اليدين؟ جمهور أهل العلم على أن المرفقين ضمن اليدين, بدليل قوله تعالى: (وأيديكم إلى المرافق). كما سبق بيانه، ويعضد ذلك ما رواه الإمام مسلم - رحمه الله- في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أنه توضأ فغسل يديه حتى شرع في العضدين. وغسل رجليه حتى أشرع في الساقين، ثم قال، هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم- يتوضأ. فدل هذا على وجوب غسل المرفقين مع اليدين، ومن المستحب أيضاً أن تُغسل كل يد ثلاثاً، كما نص عليه في الحديث.
    الوقفة الثامنة: قوله: (ثم مسح برأسه)، وقال في الرواية الأخرى: (ثم أدخل يديه فمسح رأسه، فأقبل بهما، وأدبر مرة واحدة)، وفي رواية (بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه).
    هذه العبارات تبين ما يتعلق بمسح الرأس، ونفصله على النحو الآتي:
    قوله: (برأسه) الباء هنا قيل إنها للتعدية، وقيل : للإلصاق، وقيل للتبعيض. ويأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.
    ومسح الرأس فرض من فروض الوضوء، لا خلاف في ذلك بين أهل العلم؛ لقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم) وما نص عليه في هذا الحديث وغيره.
    والرأس: ما اشتملت عليه منابت الشعر المعتادة، لكن ما هو القدر الواجب مسحه من الرأس؟
    اختلف العلماء في ذلك على أقوال: أشهرها اثنان، هما: أنه يجزئ مسح بعضه، فمنهم من قال: ربعه، ومنهم من قال: قدر الناصية، ومنهم من قال: بعضه ولو يسيراً، فهم يقولون بأن المسح يقع على القليل والكثير.
    والقول الثاني: يجب مسح جميعه، وهو المشهور من مذهب المالكية، والحنابلة، مستدلين بقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم)، أي بجميع رؤوسكم، فالباء هنا للإلصاق، وهو الموافق لمسح النبي - صلى الله عليه وسلم- كما سبق ذلك. وهذا القول هو الذي يظهر رجحانه، وهو الأحوط، والأسلم للذمة.
    أما كيفية مسح الرأس: أن يأخذ الماء بكفيه، ثم يرسله، ثم يلصق طرف سبابته بطريف سبابته الأخرى، ثم يضعها على مقدم رأسه، ويضع إبهاميه على صدغيه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، وهذه الكيفية هي التي ذكرت في الحديث: (مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما، حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه).
    وإن مسح بغير هذه الصفة جاز إن شاء الله، لكنه ترك الأفضل والأولى.
    ونلاحظ في الحديث أنه ذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- مسح مرة واحدة فقط، وهذا مذهب جمهور أهل العلم.
    والمرأة كالرجل في صفة المسح، لا تختلف عنه، ومما يَكْمُلُ به مسح الرأس مسحُ الأذنين، فهما من الرأس، وهذا ما ذهب إليه أكثر أهل العلم، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم-: (الأذنان من الرأس)(9)، وقد ورد هذا الحديث بعدة طرق تنهض به للاحتجاج، يقول الترمذي - رحمه الله-: (العمل على هذا – أي كون الأذنين من الرأس – عند أكثر أهل العلم)، لكن هل مسح الأذنين واجب أو مستحب؟ قولان لأهل العلم في ذلك، والصواب – والله أعلم – أنه واجب؛ لكونهما من الرأس؛ ولأن بعضاً ممن وصف وضوء النبي- صلى الله عليه وسلم- ذكر أنه مسح بأذنيه، وهو الأحوط والأبرأ للذمة، وصفة مسحهما أن يأخذ الماء بيديه، ويدخل مسبحتيه في صماخي أذنيه، ويديرهما على المعاطف، ويمر الإبهامين على ظهور الأذنين، لما ورد عن ابن عباس أنه مسح ظاهرهما وباطنهما.
    وهل يأخذ ماءً جديداً للأذنين، أم يكفي الماء الذي مسح به رأسه؟
    قولان لأهل العلم في ذلك، والصواب – والله أعلم – أنه لا يأخذ ماءً جديداً؛ لأنه لم يثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أن أخذ لهما ماءً جديداً.









    (1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثاً 1/259 رقم 1059، ومسلم في كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله 1/204 رقم 226.
    (2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب مسح الرأس كله 1/289 رقم 158، ومسلم في كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي 1/210 رقم 235.
    (3) سبق تخريجه.
    (4) سبق تخريجه.
    (5) سبق تخريجه.
    (6) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب الاستنثار 1/35 رقم 142 – 143 -144، والترمذي في أبواب الطهارة، باب ما جاء في تخليل الأصابع 1/56 رقم 38.
    (7) سبق تخريجه.
    (8) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة 1/216.
    (9) رواه الإمام أحمد 5/268، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي رقم 134، والترمذي في الطهارة باب ما جاء أن الأذنين من بعد الرأس رقم 37.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 7 )

    صفة الوضوء

    (2-2)



    الوقفة التاسعة: قوله في الحديث: (ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً)، وقوله في الرواية الأخرى: (ثم غسل رجليه)، وفي رواية: (ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم اليسرى مثل ذلك).
    الكعبان: هما العظمان الناتئان عند ملتقى الساق مع القدم.
    أما حكم غسل الرجلين فلا خلاف بين أهل السنة المعتبرين أن غسلهما فرض من فروض الوضوء، يقول النووي - رحمه الله-: (أجمع المسلمون على وجوب غسل الرجلين).
    قالت بعض الطوائف: إن الواجب المسح فقط، وقال آخرون: إنه يجب الغسل والمسح، مستدلين بقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) فقرأوا وأرجلكم بكسر اللام عطفاً على مسح الرأس.
    والصحيح أن الواجب الغسل بدليل قراءة فتح اللام (وأرجلكم)، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى جماعة توضأوا وبقيت أعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال: (ويل للأعقاب من النار)(1)، فدل ذلك على وجوب الغسل لا المسح.
    الوقفة العاشرة: ذكر في هذا الحديث تعدد الغسلات في بعض الأعضاء، ولذا أجمع العلماء على أن الواجب في جميع الأعضاء الغسل مرة واحدة، لحديث ابن عباس - رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة(2).
    ومرتان أفضل؛ لحديث عبد الله بن زيد _ رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين، رواه البخاري(3).
    وقد أجمع العلماء أيضاً على أن الوضوء ثلاثاً ثلاثاً – كما ذكر في بعض الأعضاء – مستحب في جميع أعضاء الوضوء إلا الرأس، فالراجح أن الواجب والمستحب مرة واحدة.
    فإن زاد على الثلاث كره كراهة شديدة، قال الإمام أحمد - رحمه الله-: ( لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى)، ويقول ابن المبارك - رحمه الله-: (لا آمن من ازداد على الثلاث أن يأثم)، ويقول إبراهيم النخعي- رحمه الله-: (تشديد الوضوء من الشيطان). وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي- صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: (هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم)(4). لكن لو فرض أن شخصاً توضأ فزاد على ثلاث مرات فهل يبطل وُضوؤه؟ الجواب: أنه لا يبطل وضوؤه، لكن فعله يكره كراهة شديدة، كما سبق.
    الوقفة الحادية عشرة: ذكر في هذا الحديث الوضوء مرتباً، وعليه فقد استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء، فلا يجوز حينئذ أن يؤخر عضواً حقه التقديم، ولا العكس، فلا يؤخر غسل الوجه إلى ما بعد مسح الرأس وهكذا، ولهذا القول عدة أدلة، منها: قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)، قال الإمام النووي - رحمه الله-: ووجه الدلالة من هذه الآية على الترتيب أن الله - سبحانه وتعالى- ذكر ممسوحاً بين مغسولات، وعادة العرب إذا ذكرت أشياء متجانسة وغير متجانسة جمعت الأشياء المتجانسة على نسق، ثم عطفت غيرها، لا يخالفون ذلك إلا لفائدة، فلو لم يكن الترتيب واجباً لما قطع النظير من نظيره، ثم أيضاً أن مذهب العرب إذا ذكرت أشياء وعطفت بعضها على بعض تبتدئ بالأقرب فالأقرب، لا يخالفون ذلك إلا لمقصود، فلما بدأ - سبحانه وتعالى- بالوجه ثم اليدين، ثم الرأس، ثم الرجلين دل ذلك على وجوب الترتيب، وإلا لقال: اغسلوا وجوهكم، وامسحوا برؤوسكم، واغسلوا أيديكم وأرجلكم.
    ومما يدل على وجوب الترتيب أيضاً الأحاديث الصحيحة الصريحة المستفيضة من جماعات من الصحابة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلهم مع كثرتهم، وكثرة المواطن التي رأوه فيها وصفوه مرتباً.
    وذهب بعض أهل العلم وهم المالكية، والأحناف قالوا: إن الترتيب مستحب وليس بواجب؛ لأن آية الوضوء فصلت بين الأعضاء بالواو، والواو لا تقتضي ترتيباً، فكيفما غسل المتوضئ أعضاءه كان ممتثلاً للأوامر، ثم إن الوضوء طهارة كالغسل، فلم يجب فيه ترتيب.
    لكن الصحيح – والله أعلم – أنه يجب الترتيب بين أعضاء الوضوء؛ للأدلة التي ذكرناها، ولا تقوى أدلة الرأي الآخر على معارضتها. وعليه فعلى كل متوضئ أن يرتب بين أعضائه، ولا يقدم عضواً على آخر؛ لئلا يعرض وضوءه للبطلان، لكن هل يجب هذا الترتيب داخل العضو من الأعضاء كاليدين مثلاً، بحيث لا يجوز أن يقدم اليسرى على اليمنى، أو لا يجب الترتيب، فإن فعل أجزأ؟
    الصواب – والله أعلم – أنه لا يجب الترتيب داخل كل عضو من الأعضاء؛ لأنها كالعضو الواحد، ويدل على ذلك إطلاقها في القرآن الكريم، لكن ذكر أهل العلم أنه يستحب استحباباً مؤكداً تقديم اليمين على الشمال في اليدين والرجلين، وتقديم المضمضة على الاستنشاق، وكلاهما من الوجه. فإن فعل خلاف ذلك أجزأ وخالف الأولى.
    الوقفة الثانية عشرة: الواضح من هذا الحديث تحقيق الموالاة بين أعضاء الوضوء، والموالاة هي: عدم التفريق بين أعضاء الوضوء في الوضوء، وقد أجمع أهل العلم أن على التفريق اليسير لا يضر، أما التفريق الكثير فاختلف فيه على قولين:
    القول الأول: أنه لا يضر، لأنه ظاهر آية الوضوء، وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلا الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)(5)، فظاهر هذه الآية ليس فيها موالاة، وقالوا أيضاً إن المأمور به هو غسل الأعضاء، فكيفما غسلها جاز، ثم إن الوضوء طهارة كالغسل، والغسل ليس فيه موالاة، وكذلك الوضوء.
    والقول الثاني: أن الموالاة واجبة في الوضوء، ومعنى ذلك أنه لا يجوز أن يفرق بين أعضاء الوضوء في الوضوء زمناً طويلاً، لما روى أبو داود، والبيهقي، وغيرهما عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة)(6) وهذا الحديث احتج به بعض العلماء، وضعفه آخرون، لكن الأقوى منه ما رواه مسلم - رحمه الله- عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: (أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ارجع فأحسن وضوءك، فرجع ثم صلى)(7).
    فيدل هذا على أن التفريق بين أعضاء الوضوء يضر، أما آية الوضوء فقد أوضحت كيفية الوضوء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله وقوله فسر مجمل الآية، قاله العلامة ابن قدامة - رحمه الله-. وهذا هو الصحيح - إن شاء الله-. لكن ينبغي أن نعلم أن الموالاة الواجبة هي أن لا يترك غسل عضو حتى يمضي زمن يجف فيه العضو الذي قبله في الزمان المعتدل، وهذا يعني أنه لو تركه زمنا يسيراً، جف فيه العضو الذي قبله لا يضر ذلك - إن شاء الله تعالى-.
    الوقفة الثالثة عشر: لم يذكر في هذا الحديث التسمية قبل الوضوء؛ فما حكمها؟ هل هي واجبة أم مستحبة؟ وما الحكم عند نسيانها؟ وفي ذلك قولان لأهل العلم، أحدهما أنها واجبة، وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله- لما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) رواه أبو داود والترمذي(8).
    لكن قول جمهور أهل العلم أنها سنة مؤكدة، فالوضوء طهارة لا تفتقر إلى التسمية، كالطهارة من النجاسة، أما الحديث فإسناده ضعيف، لا يقوى على الاحتجاج به، وعليه فإن نسيها المتوضئ صح وضوؤه، ولكنه ترك السنة.
    الوقفة الرابعة عشرة: لم يذكر في هذا الحديث ما يقول المتوضئ بعد فراغه من وضوئه، لكن ذكر في أحاديث أخرى بعض الأدعية التي يستحب أن يدعوا بها بعد الوضوء، منها ما رواه الإمام مسلم، وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)(9).
    وفي رواية للترمذي أن المتوضئ يستحب أن يقول بعد فراغه: (اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين)(10).
    الوقفة الخامسة عشرة: لم يذكر في هذا الحديث أيضاً النية، وقد ذكر جمهور أهل العلم أن النية شرط في صحة الوضوء، فهو عبادة من العبادات والله - سبحانه وتعالى- يقول: ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)(11)، ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: (إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى)(12). وعليه فلا بد من النية قبل الوضوء.
    الوقفة السادسة عشرة: قال - صلى الله عليه وسلم - في نهاية الحديث: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه). يبين - صلوات الله وسلامه عليه- الأجر العظيم، والثواب الجزيل للذي يقوم بتلك العبادة العظيمة، وهي أن يتوضأ وضوءاً كاملاً، ثم يصلي ركعتين لله - عز وجل- حاضراً من قلبه فيهما، متوجهاً إلى الله - سبحانه وتعالى-، مستحضراً ما يقول، جزاء ذلك كله غفران ما تقدم من الذنوب، وهذه منحة جليلة، ونعمة عظيمة، لا يوفق لها إلا المخلصون لله بأعمالهم.




    (1) سبق تخريجه.
    (2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب الوضوء مرة مرة 1/77 رقم 157.
    (3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب الوضوء مرتين مرتين 1/77 رقم 158.
    (4) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في القصد في الوضوء، وكراهية التصدي فيه 1/146 رقم 422.
    (5) سورة المائدة، الآية: 6.
    (6) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب تفريق الوضوء رقم 173، والبيهقي 1/83.
    (7) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب استيعاب جميع محل الطهارة 1/215.
    (8) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء 1/25 رقم 101، والترمذي في أبواب الطهارة باب ما جاء في التسمية عند الوضوء 1/37-38 رقم 25.
    (9) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء 1/209 رقم 234.
    (10) أخرجه الترمذي في أبواب الطهارة، باب فيما يقال بعد الوضوء 1/77 رقم 55.
    (11) سورة البينة، الآية: 5.
    (12) سبق تخريجه.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي


    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 8 )




    الحديث الثامن


    استعمال اليمين في المستحسنات






    عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وفي شأنه كله)(1).



    في هذا الحديث العظيم وقفات عدة نعرضها في ما يلي:

    الوقفة الأولى: في الحديث بيان لفضل أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - وبخاصة الصديقة بنت الصديق - رضي الله عنها- العالمة الفقيهة، الحافظة الأديبة، والتقية الورعة، فقد نقلت إلينا كثيرًا من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - المنزلية، التي لا يطلع عليها غير أهل بيته، فمن فضلها - رضي الله عنها- أنها روت لنا أحاديث كثيرة، وعلماً جماً، وبعضاً من أفعاله - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك لكي تقتدي به أمته، ويتأدبوا بآدابه، ويستنوا بسنته، ويسيروا على طريقته، ويتبعوا نهجه، ويقتفوا أثره، فهو القدوة والأسوة، وهو المثل الأعلى، وهو الصورة الواقعية الحية للإسلام وآدابه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا)(2).

    فعلينا أن نقتدي به - صلوات الله وسلامه عليه- وأن نتبع نهجه، ونقتفي أثره، ولا نبتدع شيئًا في سنته، أو نقصر فيها، أو نغالي في بعض ما جاء به، فمنهجه منهج الوسط والاعتدال، فالمغالي ركب شططًا، والمقصر أخطأ على نفسه، وعرّضها للخسارة والإثم.

    الوقفة الثانية: قولها - رضي الله عنها- (يعجبه التيمن)، قيل لأنه يحب الفأل الحسن، إذ إن أصحاب اليمين أهل الجنة، وفي رواية كان يعجبه التيمن ما استطاع، قال الحافظ: فنبه على المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع.

    الوقفة الثالثة: قولها - رضي الله عنها-: (في تنعله)، التنعل: لبس النعل، وهو الحذاء.

    وقولها - رضي الله عنها-: (وترجله) أي ترجيل شعره، وهو تسريحه ودهنه، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: رجل شعره إذا مشطه بماء، أو دهن ليلين، ويرسل الثائر، ويمد المنقبض.

    وقولها - رضي الله عنها-: (وطهوره) بضم الطاء، والمراد به فعل الطهارة، أما بفتحها: طهوره فهو الماء الذي يتطهر به، والمقصود بالتيمن في هذه الأشياء المذكورة في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - يبدأ في لبسه النعل برجله اليمنى، وهذا يعني أن النزع باليسرى. أما ترجيل الشعر وتسريحه فيعني أنه يبدأ بالشق الأيمن من الرأس فيسرحه، ثم الشق الأيسر، أما الطهور فيبدأ بأعضائه في حال الوضوء باليمين منها، كالرجل، واليد، ويبدأ بشقه الأيمن في الغسل قبل شقه الأيسر. وهكذا.

    الوقفة الرابعة: قولها - رضي الله عنها-: (وفي شأنه كله) قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: قال الشيخ تقي الدين: هو عام مخصوص؛ لأن دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما يبدأ فيهما باليسار. ثم قال الحافظ - رحمه الله-: وتأكيد الشأن بقوله: كله يدل على التعميم، لأن التأكيد يرفع المجاز، فيمكن أن يقال: حقيقة الشأن ما كان فعلاً مقصوداً، وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة؛ بل هي إما متروك، وإما غير مقصودة.

    الوقفة الخامسة: هذه الأشياء التي ذكرتها عائشة - رضي الله عنها- أمثلة لما يبدأ به الرسول - صلى الله عليه وسلم - باليمين، وقد ذكر العلماء - رحمهم الله تعالى- الضابط في ذلك، وهو أن كل ما كان من باب التكريم والزينة كان باليمين، وما كان بخلافه باليسار، فمن الأولى أي ما يكون البداءة فيه باليمين: لبس الثوب، والسروايل، والنعال، ودخول المسجد، وقص الشارب، وتسريح الشعر، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسلام في الصلاة، وغسل أعضاء الطهارة، والخروج من الخلاء، والأكل، والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، وأخذ الأشياء، وإعطاؤها، ونحو ذلك مما كان في معناها.

    ومن الثاني وهو ما يكون البداءة فيه باليسار: دخول الخلاء، ودورة المياه، والأماكن المستقذرة، والخروج من المسجد، والمنزل، والامتخاط، والاستنجاء، وخلع الثوب، والسراويل، والجوارب، وما أشبه ذلك، وذلك كله لكرامة اليمين وشرفها.









    (1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب التيمن في الوضوء والغسل 1/269 رقم 168، ومسلم في كتاب الطهارة باب التيمن في الطهور 1/226 رقم 268.
    (2) سورة الأحزاب رقم الآية: 21.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي


    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 9 )




    الحديث التاسع


    من مزايا أمة محمد- صلىالله عليه و سلم- الوضوء



    عن نعيم بن المجمر عن أبي هريرة - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه و سلم - أنه قال: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)(1). وفي لفظ آخر: رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه ويديه، حتى كان يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه و سلم - يقول: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرّته وتحجيله فليفعل)(2). وفي لفظ لمسلم: سمعت خليلي - صلى الله عليه و سلم - يقول: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)(3).

    هذا حديث عظيم في الحث على الوضوء، ونذكر ما فيه من المسائل والفوائد في الوقفات الآتية:

    الوقفة الأولى: قوله - صلى الله عليه و سلم -: (إن أمتي) المقصود بالأمة هنا أمة الإجابة، وهم المسلمون: وقد تطلق أمة محمد - صلى الله عليه و سلم - ويراد بها أمة الدعوة، وليست مراده هنا.

    وقوله: (يدعون) أي ينادون، أو يسمون.

    وقوله: (غراً) بضم الغين وتشديد الراء، وهي جمع أغر، أي ذو غرة، وأصل الغرة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استعملت في الجمال، والشهرة، وطيب الذكر، والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمة محمد - صلى الله عليه و سلم - من أثر الوضوء. قاله الحافظ ابن حجر - رحمه الله-.

    وقوله: (محجلين) من التحجيل، وهو: بياض يكون في ثلاثة قوائم من قوائم الفرس، قاله الحافظ ابن حجر - رحمه الله-، وقال أصله من الحجل، وهو الخلخال، والمراد به هنا أيضاً النور.

    وقال العلامة ابن الملقن - رحمه الله-: الغرة بياض في جبهة الفرس، والتحجيل: بياض في يديها ورجليها، فسمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غرة وتحجيلاً. ثم قال: والمراد بالغرة هنا: غسل شيء من مقدم الرأس، وما يجاور الوجه، زائداً على الجزء الذي يجب غسله لاستيعاب كمال الوجه، وفي التحجيل غسل ما فوق المرفقين والكعبين.

    الوقفة الثانية: قوله: (من آثار الوضوء) الوضوء بضم الواو فعل الوضوء، وبفتحها الماء الذي يتوضأ به. وهنا يجوز الوجهان: قاله ابن دقيق العيد - رحمه الله-.

    وقوله: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) أي: فليطل الغرة والتحجيل، واقتصر على ذكر الغرة دون التحجيل لدلالتها عليه، مثل قوله تعالى: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد.

    وهذه الجملة أي قوله: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)، هل هي من كلام رسول الله - صلى الله عليه و سلم - أم من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه-؟ يقول ابن حجر - رحمه الله-: (ثم إن ظاهره أنه بقية الحديث: لكن رواه أحمد من طريق فليح عن نعيم، وفي آخره: قال نعيم لا أدري قوله من استطاع.. الخ، من قول النبي - صلى الله عليه و سلم - أو من قول أبي هريرة - رضي الله عنه-، ولم أر هذه الجملة في رواية أحد من روى هذا الحديث من الصحابة وهم عشرة، ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم. والله أعلم. اهـ كلامه - رحمه الله-.

    الوقفة الثالثة: الظاهر من هذا الحديث استحباب الزيادة على محل الفرض، من الوجه، واليدين، والرجلين، بمعنى أنه يزيد على غسل وجهه فيغسل جزءًا من صفحة العنق، ويزيد في غسل يديه فيشرع في العضدين، ويزيد في غسل رجليه فيشرع في الساقين. وهذا الاستحباب هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، لكنهم اختلفوا في مقدار هذه الزيادة، فمنهم من قال إلى المنكب والركبة، قال ابن حجر: (وقد ثبت عن أبي هريرة رواية ورأياً)، وقيل الزيادة إلى نصف العضد والساق، وقيل إلى ما فوق ذلك.

    وذهب الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-، وتلميذه ابن القيم - رحمه الله-، وهو عدم استحباب مجاوزة محل الفرض، فيقتصر المتوضئ على حدود الوجه، واليدين، والرجلين، وقالوا: إن قوله (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) هذا من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه- وليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه و سلم -، ولم يرد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه زاد على محل الفرض على كثر من نقل لنا وضوءه - صلى الله عليه وسلم-، وغاية ما في هذا الحديث هو الدلالة على نور أعضاء الوضوء يوم القيامة، فرجح هؤلاء أن الجملة الأخيرة مدرجة من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه- بناءً على فهمه.

    وبناءً على هذا، فالذي يظهر هو عدم مجاوزة محل الفرض، لكن ينبغي التأكد من غسل الوجه، واليدين، والرجلين بحدودهما، والله أعلم.

    الوقفة الرابعة: يدل هذا الحديث على أفضلية الوضوء، حيث إن أثره يظهر على المؤمنين يوم القيامة، فتتلألأ أعضاؤهم نوراً يُرَى، حيث ينادون فيأتون على رؤوس الخلائق، تتلألأ وجوههم وأيديهم بالنور، وذلك من آثار هذه العبادة العظيمة.









    (1) رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء رقم 136، 1/71-72، ومسلم في كتاب الطهارة باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء 1/216 رقم 246.

    (2) روه مسلم في الموضع السابق.
    (3) التخريج السابق.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي


    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 10 )

    الحديث العاشر، والحديث الحادي عشر، والحديث الثاني عشر
    ذكر دخول الخلاء
    عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)(1)، وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرّقوا أو غرّبوا)(2).وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما- أنه قال: (رَقِيت يوماً على بيت حفصة، فرأيت النبي - صلى الله عليهوسلم - يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة)(3).
    * * *
    هذه الأحاديث الثلاثة تدور حول موضوع واحد، وهو آداب دخول الخلاء والاستطابة، ففيها إرشاد وتوجيه من المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، نوجز فوائدها في الوقفات الآتية:الوقفة الأولى: قوله في الحديث الأول: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل) كان هنا تدل على الملازمة والمداومة. (وإذا دخل)، معناه إذا أراد الدخول، وهذا ما جاء صريحاً في رواية البخاري المعلقة: كان إذا أراد أن يدخل. وهو مثل قوله - سبحانه وتعالى-: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)(4)، أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، و (الخلاء) بفتح الخاء هو موضع قضاء الحاجة، سمي بذلك لخلائه في غير أوقات قضاء الحاجة، فهو يصدق على أي مكان أُعِدَّ لقضاء الحاجة، ولو سمي بغير هذا الاسم كدورة المياه، والحمام ونحو ذلك.وقوله: (أعوذ بالله) الاستعاذة: الاستجارة والاعتصام، فمعنى أعوذ بالله أستجير بالله وأعتصم.وقوله: (من الخبائث)، بضم الخاء والباء، وقيل بضم الخاء وسكون الباء، جمع خبيث، وهو الذكر من الشياطين، وقيل: الشر، وقيل: الكفر، وقيل: الشيطان، أما الخبائث فهي جمع خبيثة، وهي إناث الشياطين، وقيل: المعاصي، وقيل: البول والغائط.الوقفة الثانية: يدل هذا الحديث على أهمية الذكر في كل مكان، ولذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا الذكر قبيل دخول الخلاء، والجلوس لقضاء الحاجة؛ لأن أمكنة قضاء الحاجة من مساكن الجن والشياطين، فيستعيذ الداخل بالله - سبحانه وتعالى- من هؤلاء الشياطين، ذكراناً وإناثاً، ويعتصم بالله - سبحانه وتعالى-.الوقفة الثالثة: مما ذكره أهل العلم أيضاً أنه ينبغي لمن قضى حاجته وخرج من الخلاء أن يقول: غفرانك؛ لأنه قد ورد ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم(5). ومعناه: سألتك غفرانك على حاجة شغلتني عن الذكر، فختم بالذكر كما ابتدأ به.
    الوقفة الرابعة: قوله في الحديث الثاني: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط، ولا بول، ولا تستدبروا، ولكن شرقوا أو غربوا)(6).فقوله إذا أتيتم الغائط: إذا جلستم لقضاء الحاجة فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا، وهذا بالنسبة لأهل المدينة؛ لأن القبلة تكون جنوبها، فمن كان في غير المدينة فيراعي الانحراف في القبلة، وهذا النهي لاحترام الكعبة وتعظيمها. وفي الحديث الثالث يقول عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما-: رقيت على بيت حفصة، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة(7).
    فهل هناك تعارض بين الحديثين؟ ذكر أهل العلم أنه لا تعارض بينهما، فالتحريم باق على أصله، لكنه خاص في الخلاء، أما في البنيان فهو مباح، جمعاً بين الأدلة، وهذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وهناك من أهل العلم من ذهب إلى التحريم مطلقاً، سواء كان في الخلاء، أو في البنيان؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وهذا القول هو اختيار ابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم - رحمهم الله تعالى-، ومن العلماء من ذهب إلى الجواز مطلقاً، والحق - والله أعلم- ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، من أن التحريم في الفضاء دون البنيان، لكن ينبغي عدم التساهل في ذلك، حتى في البنيان، فيراعي من يريد بناء منزل له أن لا يوجه المراحيض إلى القبلة، بل يحرفها عنها إلى جهة أخرى، حتى يخرج من هذا النهي. والله أعلم.الوقفة الخامسة: في الحديث الأول إشارة مهمة إلى ضرورة التحصين من الشياطين، وذلك بالمحافظة على الأذكار، سواء كانت الأذكار المطلقة، كالتسبيح، والتهليل، والتكبير، والتحميد، أو الأذكار المقيدة بزمان، كأذكار الصباح والمساء، والأذكار المقيدة بمكان، كهذا الذكر المقيد بدخول دورة المياه، وأذكار دخول المنزل، والخروج منه، ونحوها، أو المقيدة بحال، كحال الإنسان في الطواف، أو الصيام، ونحو ذلك.ومن الخير تعليم الأبناء، والبنات، والطلاب، والطالبات، هذه الأذكار، وتحفيظهم إياها، لكي يتحصنوا من أشد أعدائهم، وهم الشياطين، و قانا الله جميعاً شرورهم.


    (1) رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب ما يقول عند الخلاء 1/242 رقم 142. ومسلم في كتاب الحيض، باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء 1/283 رقم 375.(2) رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب لا تستقبل القبلة ببول أو غائط إلا عند البناء، الفتح 1/245 رقم 144، ومسلم في كتاب الطهارة باب الاستطابة 1/224 رقم 264.(3) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب التبرز في البيوت 1/75 رقم 148.(4) سورة النحل، الآية": 98.(5) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب ما يقول الرجل إذا خرج في الخلاء 1/8 رقم 30 ، والترمذي في أبواب الطهارة باب ما يقول إذا خرج في الخلاء 1/12 رقم 7.(6) سبق تخريجه.
    (7) سبق تخريجه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 10 )



    الحديث الخامس عشر
    من أسباب عذاب القبر: عدم الاستتار من البول


    عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما- قال: مرّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: (إنهما لعيذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)، فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، فغرز في كل قبر واحدة، فقالوا: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ فقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)(1).
    هذا حديث عظيم، يحمل معان عظيمة، وأحكاماً مهمة، وتوجيهات كريمة، وآداباً عالية، ومسائل، وحكماً، وفوائد كثيرة، نفصلها في الوقفات الآتية:
    الأولى: قوله (مر النبي -صلى الله عليهوسلم- بقبرين): أي بصاحب قبرين، فعبر بالقبرين عن صاحبهما، ولم يرد في هذا الحديث، ولا غيره أسماءهما، ولذلك ذكر أهل العلم أنه لا ينبغي تسمية من عمل عملاً غير سليم ستراً عليه، وهو عمل مستحسن، أما الأعمال الحسنة فينبغي ذكرها، والثناء على صاحبها، شريطة أن لا يكون في حضوره.
    الثانية: قول: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير): في رواية للبخاري زاد قوله: (قال: بلى): أي إنه لكبير، والمراد بهذه الجملة أي أنهما يعذبان في ذنب، ظناً منهما- أو في ظن المخاطبين- أنه ليس كبيراً، وهو كبير عند الله - سبحانه وتعالى- كما قال - سبحانه وتعالى-: (وَتَحْسَبُونَه هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)(2).
    وقيل إن المعنى ليس بكبير في مشقة الاحتراز، أي أنه لا يشق عليهما الاحتراز من ذلك. وقيل ليس بكبير بمجرده، وإنما صار كبيراً بالمواظبة عليه. وفي هذه الجملة دلالة على إثبات عذاب القبر، وهو مذهب أهل السنة والجماعة ومن وافقهم، خلافاً لبعض الطوائف المنحرفة في هذا الباب، الذين ينكرون عذاب القبر ونعيمه، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة عليه، ومن أصرحها قوله تعالى عن آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً)(3)، قال بعض المفسرين: المراد عذاب القبر..
    وروى البخاري، ومسلم - رحمهما الله- عن عائشة - رضي الله عنها- (أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر، فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر، قالت عائشة - رضي الله عنها-: فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عذاب القبر، فقال: (نعم عذاب القبر حق)، قالت فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدُ صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر)(4).
    وروى الجماعة عن ابن عمر - رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي: إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)(5).
    وروى البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أنس - رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، إذا انصرفوا أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا النبي محمد -صلى الله عليهوسلم-؟ فأما المؤمن، فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: أنظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعداً من الجنة، قال النبي -صلى الله عليهوسلم-: (فيراهما جميعا، وأما الكافر – أو المنافق – فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلى الثقلين)(6).
    وغير هذه النصوص كثير، مما يدل على أن الإنسان ينعم في قبره أو يُعذّب.
    الثالثة: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أما أحدهما فكان لا يستتر من البول): جاء في رواية: (لا يستبرئ)، وفي رواية: (لا يستنزه)، وفي رواية: (كان لا يتوقى)، والمراد بقوله: لا يستتر أنه لا يجعل بينه وبين بوله سترة، فلا يتحفظ منه، وقال بعض أهل العلم: معناه لا يستر عورته، والمعنى الأول أصح، والله أعلم، ذلك أن العذاب أضيف إلى عدم الاستتار من البول، بمعنى أن ابتداء سبب العذاب من البول، فلو حمل على مجرد كشف العورة زال هذا المعنى. قاله ابن دقيق العيد - رحمه الله تعالى-.
    والإشارة في هذا الحديث إلى أن عدم التنزه من البول، والتحفظ منه يسببان عذاب القبر، يدل على أن الإسلام دين الطهر والثناء، فكما أنه يرغب، بل ويأمر الناس إلى تطهير القلوب من أوساخها، وينبغي علاجها من أمراضها، كالحقد، والغل، والحسد، والبغضاء، ونحوها، ويرتب على ذلك أجراً عظيماً، وعلى خلافه إثماً مبيناً، فكذلك النجاسات الظاهرة، لها أهميتها وشأنها، فعلى المسلم أن يتطهر، ويتنظف عن النجاسات كلها، وأن يحترز منها؛ لئلا يتعرض لعقاب الله، وغضبه، ومقته.
    والنميمة: نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض، على جهة الإفساد بينهم، فالغرض منها إفساد وتخريب، سواء كان ذلك بالقول، أو بالفعل، وسواء كان بين شخصين منفردين كالزوج وزوجته، والصديق وصديقه، والقريب وقريبه، وغير ذلك، أو بين هيئتين، أو مجتمعين، أو دولتين، فكل ما أفسد هذه العلاقة يدخل في النميمة.
    ولا شك أن حكمها حرام بإجماع المسلمين، فهي كبيرة من كبائر الذنوب، ودل على ذلك كتاب الله - جل وعلا-، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كما دل على تحريمها قواعد الشريعة العامة. والنصوص في تحريمها كثيرة جداً، وقد جاءت بصيغ مختلفة، فتارة بصيغة النهي عنها، وأخرى ببيان الوعيد لمن ارتكبها، وثالثة بالترهيب من الوقوع فيها، وخامسة ببيان عقوبة المتعاملين بها، وغير ذلك، ومن تلك النصوص قوله - سبحانه وتعالى-: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أثيم)، ويقول - جل وعلا-: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)(7).
    وويل واد في جهنم، لو جعلت فيه جبال الدنيا كلها لذابت من حرّه، والعياذ بالله. ومن السنة ما رواه البخاري، ومسلم - رحمهما الله تعالى- عن حذيفة - رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يدخل الجنة قتات)(8)، والقتات هو النمام، وفي رواية لمسلم: (لا يدخل الجنة نمام)(9)، وروى مسلم - رحمه الله- عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه- أنه قال: إن محمد -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا أنبئكم ما لعضة؟ هي النميمة القالة بين الناس)(10).
    وروى الإمام أحمد، وغيره، عن عبد الرحمن بن غنم، يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبة، الباغون للبراء العنت)(11).
    إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة، ويكفي أنها سبب لعذاب القبر، فعلى كل مسلم ومسلمة أن يجتنب هذا الداء الفتاك، ويعالج نفسه إن كان فيه شيء من ذلك؛ لئلا يقع في عذاب الله تعالى ومقته، وأما من نقل إليه شيء من النميمة كأن يقول: فلان يقول فيك كذا، أو تصرّف تجاهك كذا، أو يحمل عليك كذا، فعليه برده، حتى لا يقع فريسة لهذا النمّام، يقول الإمام النووي - رحمه الله-: (وكل من حملت إليه نميمة، وقيل له: فلان يقول فيك، أو يفعل فيك كذا فعليه بستة أمور:
    الأول: أن لا يصدق؛ لأن النمام فاسق.
    الثاني: أن ينهاه عن ذلك، وينصحه، ويقبح فعله.
    الثالث: أن يبغضه في الله تعالى، فإنه بغيض عند الله تعالى، ويجب بغض من أبغضه الله تعالى.
    الرابع: أن لا يظن بأخيه الغائب السوء.
    الخامس: أن لا يحمله ما حكي له على التجسس والبحث عن ذلك.
    السادس: أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فلا يحكي نميمته عنه، فيقول: فلان حكى كذا، فيصير به نماماً، ويكون آتياً ما نهى عنه.)
    الرابعة: قول الراوي: (فأخذ -صلى الله عليه وسلم- جريدة رطبة فشقها نصفين، فغرز في كل قبر واحدة، فقالوا: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ قال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).
    هذا تصرف من الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدل على رحمة هذا النبي العظيم بأمته، لعل الله تعالى أن يخفف العذاب عن صاحبي القبرين، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جريدة، والمقصود بالجريدة سعفة النخل، وقد يسأل سائل هل هذا العمل مشروع في مثل هذه الحالات؟ والجواب عن ذلك أن ما ذهب إليه جمهور أهل العلم أنه لا يشرع؛ لأن هذا العمل شرع وعبادة، وهو يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يثبته، أما هذه القصة فقضية عين حكمتها مجهولة، ولذا لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع غير صاحبي هذين القبرين، ولم يفعله من الصحابة أحد بعده. والله أعلم.






    (1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب من الكبائر ألا يستتر من بوله 1/91 رقم 216.
    (2) سورة النور، الآية: 15.
    (3) سورة النور، الآية: 15.
    (4) رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر 1/4308 رقم 1372، ورواه مسلم في كتاب الكسوف، في ذكر عذاب القبر في الصلاة 2/509 الجزء السادس برقم 8.
    (5) رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه بالغداة والعشي 1/409 برقم 1379.
    (6) رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر 1/408 رقم 1374.
    (7) سورة الهمزة، الآية1.
    (8) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يكره في النميمة 4/1912 رقم 6056، ومسلم في كتاب الإيمان، باب لا يدخل الجنة نمام 1/285 رقم 169.
    (9) التخريج السابق.
    (10) رواه مسلم في كتاب البر والصلة باب تحريم النميمة 6/122 رقم 102.
    (11) رواه الإمام أحمد في مسنده 6 رقم 459.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي


    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 12 )



    الحديث السادس عشر

    السواك

    عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء، عند كل صلاة)(1)، وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله -صلى الله عليهوسلم- إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك)(2).
    في هذين الحديثين عدة وقفات تتعلق بالسواك منها:
    الأولى: قوله (لولا أن أشق على أمتي): (لولا) حرف امتناع لوجود، وهي هنا امتناع الثاني لوجود الأول، فالموجود الأمر، والممتنع المشقة، والمعنى لولا مخافة أن أشق على أمتي لأمرتهم، وهذا يدل على رأفة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم- بأمته، وكمال نصحه، ومحبته الخير لهم، فهو يعلم - صلوات الله وسلامه عليه- كثرة فوائد هذا السواك، وعظم منفعته، وحصول الأجر فيه، لكن مخافته -صلى الله عليه وسلم- أن يفرض على أمته، وبالتالي لا يستطيعون القيام بهذا الفرض، فيشق عليهم ذلك، ويحصل لهم الإثم من جراء عدم تنفيذ هذا الأمر، فلم يفرضه، فلجأ إلى الترغيب فيه، والحث عليه.
    الثانية: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لأمرتهم بالسواك).
    السواك: بكسر السين، اسم للعود الذي يتسوك به، وللفعل الذي هو دلك الأسنان بالعود، أو نحوه؛ لتذهب الصفرة والأوساخ؛ وليطهر الفم؛ وتبعد الرائحة الكريهة؛ ويحصل الاتباع للمصطفى. فقوله: (بالسواك): أي باستعمال السواك.
    الثالثة: قوله: (مع كل وضوء عند كل صلاة): هذه بعض المواضع التي يستحب فيها السواك، وسيأتي شيء من تفصيل ذلك إن شاء الله.
    الرابعة: قوله في حديث حذيفة - رضي الله عنه-: (إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك) يشوص: بفتح الياء وضم الشين, والشوص دلك الأسنان بالسواك عرضاً، فالمعنى أن يدلك أسنانه بالسواك.
    الخامسة: أن حكم السواك مستحب، قال الإمام النووي - رحمه الله-: (أجمع من يعتد به على أنه من السنن المؤكدة وليس بواجب، إلا ما حُكي عن داود الظاهري أنه أوجبه في الصلاة) اهـ.
    وهذا الحكم يعم الصائم وغيره.
    السادسة: للسواك فضل عظيم، وفوائد كثيرة، وحكم متعددة، فهو مفيد يطهر الفم، ويزكي رائحته، ويذهب صفرة الأسنان، كما أنه مرضاة لله - جل وعلا-، واتباع لسنن المرسلين، واقتداء بالمصطفى الأمين - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-.
    روى البخاري معلقاً عن عائشة - رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)(3).
    وروى الترمذي، وحسنه عن أبي أيوب - رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أربع من سنن المرسلين: الختان، والتعطّر، والسواك، والنكاح)(4).
    وروى الإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لقد أمرت بالسواك حتى ظننت أنه يُنزل علي فيه قرآن، أو وحي)(5).
    وروى أحمد عن عائشة - رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (فضل الصلاة بالسواك على الصلاة بغير سواك سبعون ضعفاً)(6).
    وروى البزار بإسناد جيد عن علي - رضي الله عنه- أنه أمر بالسواك، وقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن العبد إذا تسوّك، ثم قام يصلي، قام الملك خلفه فيستمع لقراءته فيدنو منه – أو كلمة نحوها – حتى يضع فاه على فيه، فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف المَلَك فطهروا أفواهكم للقرآن).
    السابعة: ذكر في هذين الحديثين بعض الأحوال التي يستحب فيها السواك، وسيأتي ذكر شيء منها في الحديث التالي إن شاء الله.
    الثامنة: مما يستفاد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- قاعدة عظيمة، تلكم هي: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ وذلك أن الشارع الحكيم ترك فرض السواك على الأمة مع ما في هذا الفرض من الفوائد العظيمة، والمصالح النافعة، خشية أن يفرضه الله عليهم، وبالتالي لا يستطيعون القيام به، فيحصل عليهم إثم بتركهم هذا الواجب.
    وعليه فكل أمر لم ينص عليه الشارع الحكيم فتعمل فيه هذه القاعدة العظيمة، وفي ذلك درس مفيد، وحكمة جليلة، يستفيد منها الدعاة إلى الله - جل وعلا- في أسلوب دعوتهم، كما يستفيد منها الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، وهم يقومون بهذا الواجب العظيم، فكل وسيلة تؤدي إلى مفسدة مع ما فيه من مصلحة، والمفسدة أعظم من المصلحة فيترك تحصيل تلك المصلحة في سبيل درء المفسدة.
    ومن أراد الاستزادة لدراسة هذه القاعدة نظرياً، وتطبيقياً فليرجع إلى كتب القواعد الفقهية، وشروح الأحاديث.






    (1) رواه البخاري في كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة 2/374 رقم 887، ومسلم في كتاب الطهارة، باب السواك 1/220 رقم 252.
    (2) رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب السواك 1/98، ومسلم في كتاب الطهارة، باب السواك 1/220 رقم 251.
    (3) رواه البخاري في كتاب الصوم، باب سواك الرطب واليابس للصائم 2/40 معلقاً بصيغة الجزم.
    (4) رواه الترمذي في كتاب النكاح، باب ما جاء في فضل التزويج 2/372 رقم 1086.
    (5) رواه الإمام أحمد في مسنده 1/337.
    (6) رواه الإمام أحمد في مسنده 6/272.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي


    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 13 )



    الحديث السابع عشر والثامن عشر

    من أحكام السواك

    عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما- على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا مسندته إلى صدري – ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به – فأَبَدّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بصره، فأخذت السواك فَقَضِمْتُه وطيبته، ثم دفعته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستن به، فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استن استناناً أحسن منه، فما عدى أن فرغ رسول الله رفع يده أو إصبعه، ثم قال: (في الرفيق الأعلى) ثلاثاً: ثم قضي عليه، وكانت تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي، وفي لفظ: (فرأيته ينظر إلىّ، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك، فأشار برأسه: أن نعم)(1).
    وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه- قال: (أتيت النبي - صلى الله عليهوسلم- وهو يستاك بسواك رطب، قال: وطرف السواك على لسان، وهو يقول أُعْ، أع، والسواك في فيه كأنه يتهوع)(2).
    في هذين الحديثين عدد من الوقفات، نستعرضها فيما يلي:
    الأولى: قول عائشة - رضي الله عنها- (ومع عبدالرحمن سواك رطب يستنبه) أي يمر السواك على أسنانه كأنه يحددها.
    وقولها - رضي الله عنها- (فَأبَدّه): بتخفيف الباء وتشديد الدال، والمراد مدّ إليه بصره وأطاله.
    وقولها: مات بين حاقنتي وذاقنتي، الحاقنة ما بين الترقوتين وحبل العانق، والذاقنة، طرف الحلقوم الأعلى.
    وقولها: فقضمته – بفتح القاف وكسر الضاد المعجمة -، أي مضغته بأسنانها ليلين.
    الثانية: قول أبي موسى الأشعري: (وهويقول: أُع، أع) بضم الهمزة وسكون العين المهملة.
    وقوله: كأنه يتهوع، التهوع، التقيء بصوت.
    الثالثة: يدل الحديث على محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - للسواك محبة عظيمة، حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، تتوق نفسه إلى السواك، وهذا يدل على أن للسواك فضلاً عظيماً.
    الرابعة: يدل الحديثان على مشروعية التسوك بالمسواك الرطب، بل هو أولى من الجاف؛ لأنه يؤذي، وإنقاؤه أكمل، كما تشرع المبالغة في السواك، كما يشرع استعمال السواك في اللسان، حيث جاء في حديث أبي موسى: (وهويستاك بسواك رطب، قال: وطرف السواك على لسانه، وهو يقول أُع، أُع، والسواك في فيهكأنه يتهوع((3).
    الخامسة: ذكر أهل العلم أن السواك يستحب أن يكون بعود من شجر الأراك، وإن كان يصح من غيره إذا أدى الغرض المطلوب، وتخصيص شجر الأراك لأنه كان سواك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه- أنه قال: كنت أجتني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواكاً من أراك(4).
    لكن إن لم يجد عوداً من أراك فيستعمل كل ما أدى إلى الغرض، بل ذكر بعض الفقهاء - رحمهم الله- أنه يحص بالإصبع الخشن، وعليه فمن باب أولى أن تدخل الفرشة والمعجون في السواك؛ لأدائها للغرض المطلوب، لكن ينبغي أن لا يترك السواك بعود الأراك إلا إذا لم يجده، وإذا جمع بينهما فهو أكمل وأولى.
    ومن الأمور التي ينبغي التنبيه إليها أن السنة أن يستاك بيده اليسرى، بادئاً بشقه الأيمن، فيستاك في الأسنان عرضاً، وفي اللسان طولاً، ومما ينبغي التنبه له أيضاً أن كثيراً من الناس يبالغ في استعمال السواك في كل وقت، وهذا في الجملة مستحب، ويتأكد الاستحباب في مواضع وحالات سبق ذكرها، لكن يكره استعمال السواك في أوقات أخرى، كأن يكون في وقت حديث مع شخص آخر، أو في قاعة الدرس والتعليم، ونحو ذلك، فاستعمال السواك في هذه المواضع ونحوها من سوء التصرف، وبالتالي يكون من سوء الأدب، فينبغي أن نراعي هذه الآداب ونقدرها.
    السادسة: ذكر في هذين الحديثين بعض الأحوال التي يستحب فيها السواك. أذكر ما تيسر منها:
    أولاً: عند الوضوء، فقد جاء في هذه الرواية: ( لولا أن أشق علىأمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء) وفي رواية للبخاري: (عند كلوضوء)، وفي رواية لأحمد في المسند: (مع الوضوء)(5). فهذه الروايات تدل على أن السواك مستحب عند الوضوء.
    ثانياً: عند الصلاة، والصلاة هنا مطلقة، سواء كانت صلاة الفريضة أو النافلة، يدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الرواية المذكورة معنا: )عند كلصلاة(، وكل من ألفاظ العموم، فيعم الاستحباب للسواك عند كل صلاة أيّاً كانت، وغيره عن سلمة عن زيد بن خالد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: )لولا أن أشق علىأمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة( فكان زيد بن خالد يشهد الصلوات في المسجد، وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، لا يقوم إلى الصلاة إلا استن، ثم ردّه إلى موضعه)(6).
    وروى ابن أبي شيبة عن صالح بن كيسان أن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه- وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يروحون والسواك على آذانهم.
    فعرفنا من هذه النصوص أنه يستحب عند كل صلاةٍ، فريضة كانت أو نافلة.
    ثالثاً: عند القيام من النوم، وهذا ما يدل عليه حديث حذيفة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك(7)، وتقدم معنا يشوص أي يدلك. عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: (كنا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما يشاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك، ويتوضأ، ثم يصلي)(8).
    وعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما- أنه رقد عند النبي - صلى الله عليه وسلم – فاستيقظ، وتسوك، وتوضأ وهو يقول: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ) فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين(9). إلى آخر الحديث.
    رابعاً: عند تغير رائحة الفم، فيستحب السواك عند تغيره، سواء كان بسبب أكل ماله رائحة كريهة، أو بسبب طول السكوت، أو كثرة الكلام، فالسواك مطهرة للفم.
    خامساً: عند دخول المنزل، روى الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، وغيرهما عن المقدم بن شروع عن أبيه أنه قال: (سألت عائشة - رضي الله عنها- قلت: بأي شيء كان يبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته، قالت: بالسواك)(10).
    سادساً: ومما ذكره أهل العلم أيضاً أنه يستحب السواك عند قراءة القرآن، والحكمة في ذلك أن الملك يضع فاه على فم القارئ، ويتأذى بالرائحة الكريهة، فسن السواك لأجل ذلك.
    سابعاً: مما يستفاد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- قاعدة عظيمة تلكم هي: أن دور المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقد سبق الكلام عليها في الحديث الذي قبله.






    (1) رواه البخاري في كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته 3/1340 رقم 4438.
    (2) رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب السواك، 1/98 رقم 244، ومسلم في كتاب الطهارة، باب السواك 1/490 رقم 45.
    (3) سبق تخريجه.
    (4) رواه الإمام أحمد في مسنده 1 رقم 420، 3 رقم 386.
    (5) سبق تخريجه.
    (6) رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب السواك 1/40 رقم 47.
    (7) سبق تخريجه.
    (8) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل والوتر 2/369 رقم 139.
    (9) رواه مسلم في كتاب الطهارة، باب السواك والتهجد 1/491 رقم
    (10) رواه مسلم في كتاب الطهارة، باب السواك 1/489 رقم 43.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي


    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 14 )


    الحديث التاسع عشر، والعشرون



    اليقين لا يزول بالشك





    عن عباد بن تيم عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني قال: شُكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرّجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في صلاته، فقال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)(1).

    وعن أم قيس بنت محصن الأسدية أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه في حجره فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه على ثوبه ولم يغسله(2).

    وفي رواية عن عائشة - رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتي بصبي فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ، فأتبعه إيّاه، ولمسلم: (فأتبعه بَوله ولم يغسله)(3).

    في هذه الأحاديث المهمة عدة وقفات نستعرضها فيما يلي:

    الأولى: قوله: (شُكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل)، شُكِيَ: بضم الشين وكسر الكاف مبني للمجهول، والرجل قائم مقام الفاعل، والشاكي هو الراوي عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، كما جاء في الصحيح أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

    وقوله: (يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة): يُخَيَّل بضم أوله وفتح الخاء وتشديد الياء الأخيرة المفتوحة، وأصله من الخيال، والمعنى: يظن، والمراد بالظن هنا خلاف اليقين، وقوله: (يجد الشيء) أي الحدث خارجاً منه.

    الثانية: يستنبط من الحديث قاعدة شرعية عظيمة، تبنى عليها كثير من الأحكام العلمية، فيحسن بالمسلم أن يفهمها، ويعي تطبيقها، وهي: أن الأصل بقاء الأشياء المتيقنة على حكمها، فلا يعدل عنها لمجرد الشكوك والظنون، سواء قويت تلك الشكوك أو ضعفت، ما دامت لم تصل إلى درجة اليقين، يقول الإمام النووي - رحمه الله-: (هذا الحديث أصل في حكم بقاء الأشياء على أصولها، حتى بتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها) ا.هـ كلامه - رحمه الله-.

    وبناءً على هذه القاعدة: فلو شك متوضئ هل أحدث أم لا؟ فهو على أصل الطهارة حتى يتيقن الحدث.

    وكذا من شك في ثوبه الطاهر هل علقت به نجاسة أم لا؟ فالأصل الطهارة، وهكذا.

    فهذه القاعدة عظيمة النفع جداً، ولها فوائد مهمة، منها أن يعبد المسلم ربه بوضوح وجلاء، من غير شكوك ولا وساوس، ومنها أنها تطرد الشيطان عن ذهن الإنسان، فإذا علم أن هذه الشكوك لا تؤثر عليه خنس وانتكس.

    الثالثة: يستفاد من الحديث أنه لا يجوز الانصراف من الصلاة لغير سبب بيّن واضح متيقن، كما يستفاد أيضاً أن الريح الخارجة من الدبر ناقضة للوضوء؛ لترتيب جواز الانصراف على حصولها.

    الرابعة: يستنبط من الحديث أن المراد حصول اليقين، فلو حصل اليقين بنقض الوضوء ولو لم يسمع صوتاً أو يشم ريحاً فينتقض وضوؤه، ما دام حصل له اليقين بذلك.

    الخامسة: مما يستفاد من حديث أم قيس بنت محصن الأسدية كريم خلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث كان الصحابة - رضي الله عنهم- يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم – بأطفالهم؛ لينالوا بركته، وبركة دعائه، فكان - صلى الله عليه وسلم – يستقبلهم، ويلاطفهم بالبشر والسماحة، ويجلسهم في حجره الطاهر، ولا يشمئز مما يحصل منهم، من أذى ونحوه، فعلينا أن نقتدي به - صلى الله عليه وسلم -، وأن نعامل الصغار معاملة خاصة، فلا نتذمر من أفعالهم وتصرفاتهم، وإذا تبين منهم خطأ معين يصحح بطريقة مناسبة اتباعاً للمصطفى - صلى الله عليه وسلم -.

    السادسة: يؤخذ من الحديث أيضاً أن بول الغلام إذا أصاب ثوباً فإنه ينضح عليه الماء ولا يغسل، وهل يدل ذلك على طهارته أو نجاسته، جمهور أهل العلم على أن بوله – وإن كان الغلام لم يأكل الطعام – نجس، لكنه خفف تطهيره.

    هذا كله بالنسبة للغلام؛ أما بالنسبة للجارية فلا بد من الغسل؛ لما روى أبو داود والنسائي عن أبي السمح - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام)(4)، صححه الحاكم، فعلم من هذا التفريق بين تطهير بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، وبين بول الجارية أكلت الطعام أم لا؟ والتخفيف لتطهير بول الغلام تيسير وتسهيل من الشارع الحكيم. والله أعلم.











    (1) رواه مسلم في كتاب الحيض، باب 26، 1/276 رقم الحديث 99.

    (2) رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب بول الصبيان 1/93 رقم 223.

    (3) أخرجه مسلم.

    (4) رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب 1/102 رقم 376، والنسائي في كتاب الطهارة، باب بول الجارية 1/158.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي


    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 15 )


    الحديث الحادي والعشرون

    نجاسة البول



    عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى بوله، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء فأهريق عليه)(1).

    هذا حديث عظيم، فيه فوائد جليلة نستعرضها فيما يلي:

    الوقفة الأولى: قوله: (جاء الأعرابي): الأعرابي نسبة إلى الأعراب، وهم سكان البوادي، سواء كانوا عرباً أو عجماً، واختلف في اسم هذا الأعرابي، فقيل إنه الأقرع بن حابس التميمي، وقيل: إنه ذو الخويصرة اليماني، وقيل: عيينة بن حصن- رضي الله عن الجميع-.

    وقوله: (فبال في طائفة المسجد): أي ناحية المسجد، وأصل الطائفة القطعة من الشيء، والمقصود بالمسجد مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

    وقوله: (فزجره الناس): أي نهره الناس، وجاء في رواية للبخاري: (فتناوله الناس)، وفي رواية: (فثار إليه الناس)، وفي رواية أخرى: (فقام إليه الناس ليقعوا به).

    وقوله (فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -) جاء في رواية أخرى: (قال: مه. مه)، وفي رواية أخرى قال: (اتركوه، فتركوه)، وفي رواية قال: (لا تزرموه).

    وقوله: (أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء): الذنوب بفتح الذال المعجمة، وهي هنا الدلو الكبير إذا كانت مُلِئَ، أو قريباً من ذلك، قاله العلامة بن دقيق العيد - رحمه الله0، وجاء في رواية أخرى: (سجلاً) بفتح السين المهملة وسكون الجيم، وهي بمعنى الذنوب.

    وقوله: (فأهريق عليه): أصلها: أريق عليه بمعنى صب عليه، ثم أبدلت الهمزة هاءً، ثم زيدت همزة أخرى بعد إبدال الأولى فقيل فأهريق.

    الوقفة الثانية: مما يستنبط من الحديث نجاسة بول الآدمي، حيث أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصب الماء على بول الأعرابي؛ لتطهير الأرض مما أصابها من النجاسة.

    الوقفة الثالثة: استنبط أهل العلم من الحديث أن الأرض إذا تنجست تطهر بالمكاثرة بصب الماء عليها، ولم يظهر من الحديث اعتبار التطهير بعدد معين، وكذا لم يظهر أيضاً حفر الأرض، ونقل التراب، إذ لو كان ذلك واجباً لنقل إلينا، كما أنه لم يذكر رواة الحديث أنه يشترط جفاف الأرض بعد غسلها، ففهم من ذلك أنه يكفي المكاثرة بالماء حتى تزول النجاسة، وهذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم.

    وهل يمكن تطهير الأرض إذا أصابتها نجاسة بغير الماء كالريح والشمس إذا لم يبق أثر للنجاسة؟ هذا ما ذهب إليه جمهور العلماء، مستدلين بأن الريح والشمس يحيلان الشيء ويغيرانه، كما يعضد هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (جفاف الأرض طهورها)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (زكاة الأرض يبسها)، وإن كان الحديثان فيهما نظر من جهة الإسناد، كما وجهوا حديث الأعرابي أنه مسارعة إلى تطهير المسجد، وأن ذكر الماء لا يعني نفي غيره.

    وعليه فإن جفت الأرض بالريح أو الشمس، ولم يبق أثر للنجاسة، فهي طاهرة، يجوز الصلاة عليها، والتيمم منها.

    الوقفة الرابعة: استنبط العلماء من هذا الحديث وجوب المبادرة إلى إنكار المنكر، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أقرّهم على إنكارهم للمنكر، لكنه خالفهم في كيفية الإنكار، يقول العلامة بن دقيق العيد - رحمه الله-: (وزجر الناس له من باب المبادرة إلى إنكار المنكر عند من يعتقده منكراً) ا.هـ، وعليه فينبغي للمسلم عند رؤيته منكراً من المنكرات أن يسارع إلى إنكاره وتغييره، ولكن بالأسلوب المناسب، والعرض الملائم، فلكل مقام مقال.

    الوقفة الخامسة: من هذا الحديث يتبين أهمية تزيين المساجد، وأمكنة العبادة، وتطهيرها، واحترامها، وتنظفيها، فهي مخصصة للعبادة، والصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، فقد جاء في إحدى روايات الحديث عند ابن ماجه، وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي بعد ذلك: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما بنيت للصلاة، وقراءة القرآن، والذكر)(2).

    الوقفة السادسة: نستفيد من هذا الحديث قواعد أساسية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأسلوباً حكيمًا في الدعوة إلى الله - جل وعلا-، أذكر بعضاً منها على سبيل الإيجاز.

    أولاً: أهمية الإنكار بالرفق واللين، وعدم العنف والقسوة، ففي إحدى روايات الحديث يقول - صلى الله عليه وسلم -: (إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)، ويقول الباري - سبحانه وتعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(3)، والحكمة وضع الشيء في موضعه، وما صاحب الرفق شيئاً إلا زانه، ويقول سبحانه مخاطباً النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(4).

    ثانياً: أهمية البيان عند الإنكار بذكر سبب الإنكار في المسألة المنكر فيها، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - في رواية ابن ماجه بيّن للأعرابي (أن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، وإنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن)(5)، أما الإنكار الإجمالي دون بيان فقد لا يؤدي إلى نتائج طيبة مثمرة.

    ثالثاً: مراعاة أمر المصالح والمفاسد، فتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، فإن البول في المسجد فيه مفسدة، لكن قطع البول على البائل فيه مفسدة أعظم، فدفع أعظمهما بأيسرهما.

    كما يراعى تحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، فتنزيه البول عن المسجد فيه مصلحة، وترك البائل إلى الفراغ فيه مصلحة أعظم، فحصل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.

    رابعاً: ضرورة التعامل بالخلق الكريم في حال الدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مهما حصل من المفاسد والأضرار، وذلك اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد شهد له رب العالمين بذلك، فلنا فيه قدوة وأسوة.

    خامساً: المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع؛ لأن الأعرابي حين فَرَغَ أَمَرَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصب الماء على بوله لتطهير الأرض.












    (1) رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، الفتح 1/323 رقم 220، ومسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد 1/236 رقم 284.

    (2) رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول كيف يغسل 1/176 رقم 529.

    (3) سورة النحل، الآية: 125.

    (4) سورة آل عمران، الآية: 159.

    (5) سبق تخريجه.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 16 )


    الحديث الثاني والعشرون، والثالث والعشرون



    المسح على الخفين



    عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه- أنه قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) فمسح عليهما(1).

    عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- قال: (جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم – يعني في المسح على الخفين)(2).

    في هذين الحديثين العظيمين فوائد كثيرة، نستعرضها في الوقفات الآتية:

    الأولى: قوله: (كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر) أي في غزوة تبوك، كما صُرح بذلك في رواية الإمام مالك، وأبي داود - رحمهما الله-، وكانت الصلاة صلاة الفجر.

    وقوله: (فأهويت لأنزع خفيه) أي مددت يدي لإخراجهما من رجليه، والخف: نعل من جلد يغطي الكعبين.

    وقوله (دعهما) أي دع الخفين: (فإني أدخلتهما) أي أدخلت القدمين.

    الثانية: استنبط أهل العلم من هذين الحديثين وغيرهما جواز المسح على الخفين حال الإقامة والسفر، وقد تواترت الأحاديث الدالة على المسح، قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله-: (فيه أربعون حديثاً عن الصحابة مرفوعة)، ونقل ابن المنذر عن الحسن البصري - رحمه الله- قال: (حدثني سبعون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يمسح على الخفين)، ولم يخالف في جواز المسح إلا بعض الطوائف المنحرفة.

    الثالثة: استنبط جمهور العلماء من حديث المغيرة - رضي الله عنه- أنه يشترط لجواز المسح كمال طهارة القدمين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين)، وعليه فلا بد لمن يريد المسح أن يكون قد توضأ وضوءاً كاملاً، فلو غسل رجلاً واحدة أثناء وضوئه وأدخل الخف أو الجورب، ثم غسل الأخرى وأدخلها في الخف فلا يجوز المسح؛ لأنه لا يشمله لفظ الطهارة، فالحكم مرتب على التثنية، وهذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم.

    الرابعة: ذكر في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين، وهما كما عرفنا نعلان من جلد يغطيان الكعبين، فهل يجوز المسح على الجوربين؟ الصحيح في المسألة - إن شاء الله- أن أنه يجوز المسح على الجوربين إذا كانا صفيقين، وساترين لمحل الفرض، وذكر بعض أهل العلم أنه لا بد أن يمكن متابعة المشي فيهما.

    الخامسة: دل حديث علي - رضي الله عنه- على أن مدة المسح للمقيم يوم وليلة، ومدة المسح للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وروي عن مالك وغيره أنه لا مدة للمسح، فيمسح الإنسان ما شاء، ولكن جميع ما استدل به أصحاب هذا القول ضعيف لا يحتج به، فيبقى الصحيح - إن شاء الله- أن المقيم يمسح يوماً وليلة، والمسافر يمسح ثلاثة أيام بلياليهن، وعلى هذا القول أيضاً مدة المسح تبدأ من أول حدث بعد لبس، فلو لبس الجوربين في الصباح مثلاً، ولكنه لم يحدث إلا بعد الظهر فيحسب ابتداء مسحه من حين حدثه، فيبتدأ المسح له من بعد الظهر لا من الصباح.

    وهناك رأي آخر يبتدئ من حين يبدأ المسح، بحيث لو لبس الجوربين في الصباح وأحدث بعد الظهر ولكن لم يبدأ المسح إلا عند وضوئه لصلاة العصر. فعلى هذا يبدأ المدة من حين وضوئه لصلاة العصر. لكن القول الأول أحوط وأبرأ للذمة والله أعلم.

    السادسة: مما ينبغي أن يعلم في المسح أنه للوضوء دون الغسل، وعليه فغسل الجنابة يكون ناقضاً للمسح، وتنقطع المدة مقيماً كان أو مسافراً.

    واعلم أن المسح يكون لظاهر الخف لا لباطنه؛ لما روى أبو داود، والترمذي، وغيرهما عن علي - رضي الله عنه- أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من ظاهره، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظاهر خفيه) قال الترمذي: حديث حسن صحيح(3) وكيفية المسح المستحبة أن يبل يديه بالماء فيضع يده على موضع الأصابع، ثم يجرها إلى ساقه خطًا بأصابعه، والمسح المجزئ مسح أكثر القدم، قاله ابن قدامة - رحمه الله-.











    (1) رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب 49، حديث رقم 206، 1/309 ومسلم في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين 1/230 رقم 274.

    (2) رواه مسلم في كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين 1/232 رقم 276.

    (3) رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب كيف المسح 1/42 رقم 162.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 17 )

    الحديث الرابع والعشرون

    المؤمن لا ينجس

    عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليهوسلم- لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال: فانخنست منه، فذهبت فاغتسلت، ثم جئت، فقال: (أين كنت يا أبا هريرة؟) قال: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك، وأنا على غير طهارة، فقال: (سبحان الله إن المؤمن لا ينجس) متفق عليه(1).
    في هذا الحديث فوائد مهمة، نستعرضها في الوقفات الآتية:
    الأولى: قوله: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم- لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب) الجنابة دالة على معنى البعد، ومنه قوله تعالى: (وَالْجَارِ الْجُنُبِ)، وقوله (فانخنست منه) بالنون والخاء المعجمة، والسين المهملة، الانخناس: الانقباض والرجوع، قال القزاز: انخنست منه أي مضيت عنه مستخفياً. وروي أيضاً: (فانبجست منه) بالجيم من الانبجاس، وهو الاندفاع، أي اندفعت عنه، ويؤيد هذا ما جاء في رواية أخرى: (فانسللت منه).
    وقوله: (كنت جنباً): أي كنت ذا جنابة، وهذه اللفظة تقع على الواحد المذكر، والمؤنث، والاثنين، والجمع.
    وقوله (فذهبت فاغتسلت) الغسل بضم الغين: اسم الاغتسال الذي هو تعميم البدن بالماء، والغسل بإسكان الغين هو الماء الذي يغتسل به.
    وقوله: (سبحان الله): التسبيح معناه التنزيه، ويراد به هنا التعجب من إطلاق أبي هريرة النجاسة، وقال الصنعاني نقلاً عن ابن الكمال: انفعال عما خفي سببه.
    وقوله: (إن المؤمن لا ينجس) يقال: نَجَس ونَجُس بالفتح والضم.
    الثانية: استنبط بعض أهل العلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- تعظيم أهل الفضل، والصلاح، والعلم، والتقى، وينبغي أن تكون مجالستهم على أحسن الهيئات.
    الثالثة: دل الحديث على أن الجنابة ليست نجاسة تحل بالبدن، قال ابن دقيق العيد - رحمه الله-: (والحديث دلّ بمنطوقه على أن المؤمن لا ينجس، فمنهم من خص هذه الفضيلة بالمؤمن، والمشهور التعميم، وبعض الظاهرية يرى أن المشرك نجس في حال حياته؛ أخذاً بظاهر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)، ويقال للشيء: إنه نجس بمعنى عينه نجسة، ويقال فيه إنه نجس بمعنى أنه متنجس بإصابة النجاسة له، ويجب أنه يحمل على المعنى الأول، وهو أن عينه لا تصير نجسة؛ لأنه لا يمكن أن يتنجس بإصابة النجاسة، فلا ينفي ذلك) اهـ. ففهم من ظاهر الحديث ذات المؤمن لا تنجس، فتخرج عنه حالة التنجس التي هي محل الخلاف.

    الرابعة: دل الحديث على استحباب الطهارة لملابسة الأشياء العظيمة، وهذا يؤخذ من إقرار النبي -صلى الله عليهوسلم- لقول أبي هريرة، فلم يعترض على بعده، وإنما اعترض على الحكم بالنجاسة فقال: (إن المؤمن لا ينجس).
    الخامسة: استدل بعض أهل العلم بالحديث على طهارة الميت، وذلك لقوله: (إن المؤمن لا ينجس)، فقوله شامل للحي والميت.
    السادسة: استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على جواز تأخير الغسل من الجنابة؛ وذلك لكون أبي هريرة - رضي الله عنه- لم يغتسل حال إصابته الجنابة، ولم يعترض على ذلك رسول الله -صلى الله عليهوسلم-، لكن يستحب أن يغتسل من الجنابة حال حصولها، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
    السابعة: يؤخذ من الحديث أيضاً أنه ينبغي استئذان التابع للمتبوع في الانصراف، حيث أنكر النبي -صلى الله عليهوسلم- على أبي هريرة - رضي الله عنه- ذهابه من غير علمه، ولا شك أن ذلك من حسن الأدب، فإذا أراد شخص أن يفارق آخر فليستأذن منه ويعلمه بذلك.






    (1) رواه البخاري في كتاب الغسل باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس 1/109 رقم 283.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله


    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 18 )




    دخول شهر رمضان



    عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)(1).

    وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له)(2).

    هذان حديثان جليلان، يتعلقان بتقديم صيام يوم أو يومين على رمضان، وبرؤية هلال رمضان وشوال، نعرض ما فيهما من الفوائد والأحكام في الوقفات الآتية

    الوقفة الأولى: دل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- على النهي على تقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين، جاء في رواية للبخاري - رحمه الله-: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين)(3).

    قال الترمذي - رحمه الله- بعد روايته للحديث: (العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان) اهـ كلامه - رحمه الله- وقال ابن حجر - رحمه الله-: (قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان..) اهـ.

    الوقفة الثانية: دل الحديث على أنه يستثنى من هذا النهي من كان يصوم صوماً اعتاد عليه، فإنه يخرج من هذا النهي، كمن اعتاد أن يصوم يوم الخميس مثلاً، ثم وافق بعده رمضان مباشرة، فهذا مستثنى من النهي، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: (ومعنى الاستثناء أنه من كان له ورد فقد أذن له فيه؛ لأنه اعتاده وألفه، وترك المألوف شديد، وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء) ا.هـ.

    ومما يلحق بهذا الاستثناء أيضاً القضاء والنذر، قال العلماء: يستثنى القضاء والنذر بالأدلة القطعية على وجوب الوفاء بهما،، فلا يبطل القطعي بالظن.

    الوقفة الثالثة: قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: وفي الحديث رد على من يرى تقديم الصوم على الرؤية، ورد على من قال بجواز النفل المطلق.

    الوقفة الرابعة: ذكر العلماء - رحمهم الله- عدداً من الحكم لهذا النهي، ومنها: التَّقَوِّي بالفطر لرمضان؛ ليدخل فيه بقوة ونشاط، ومنها: خشية اختلاط النفل بالفرض، ومنها: أن الحكم علق بالرؤية، فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم. وهذه الحكم كلها ملتمسة من هذا النهي، وسواء كانت هي الحكم من النهي أو غيرها فيبقى النهي بعدم تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين.

    الوقفة الخامسة: دل الحديث بمفهومه أنه يجوز أن يصوم قبل رمضان بثلاثة أيام أو أكثر؛ لأن الحديث حدد النهي بيوم أو يومين، فلو صام رجل قبل رمضان بخمسة أيام مثلاً، ثم أفطر جاز، ولا يدخل في هذا النهي، وإن كان قد جعل بعض العلماء النهي يبدأ من منتصف شعبان، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لضعف الحديث الوارد في ذلك، والله أعلم.

    الوقفة السادسة: جاء في حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما-: (إذا رأيتموه فصوموا): أي رأيتم الهلال.

    وقال: (فإن غم عليكم): غُمَّ بضم الغين وتشديد الميم، والمراد استتر عنكم بغيم أو غبار ونحوهما.

    وقال: (فاقدروا له) قيل فيها معنيان:

    المعنى الأول: فاقدروا له بالحساب، بمعنى فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً.

    والمعنى الثاني: فاقدروا له أي ضيقوا عليه، بمعنى أن اجعلوا شعبان تسعة وعشرين يوماً.

    الوقفة السابعة: دل الحديث دلالة صريحة على أن الحكم بدخول شهر رمضان أو شوال معلق برؤية الهلال، فإن رُؤِيَ الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فيحكم بدخول رمضان، وكذا إن رؤي الهلال ليلة الثلاثين من رمضان فيحكم بدخول شهر شوال، لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)، وعليه فإذا لم ير الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فلا صيام، ولا يكون من رمضان.

    الوقفة الثامنة: كما دلّ الحديث على أنه إذا لم ير الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، وكان سبب عدم الرؤية غيماً، أو غباراً، أو قتراً، ونحو ذلك، فتوجيه الرسول – صلى الله عليه وسلم – هنا هو: (فاقدروا له)، وللخلاف في معنى هذا اللفظ اختلف أهل العلم في الحكم على قولين:

    القول الأول: أنه يجب صوم ذلك اليوم من باب الاحتياط، وهؤلاء أخذوا بمعنى (فاقدروا له)، أي ضيقوا عليه، فقدروه تسعة وعشرين يوماً. وهذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد - رحمه الله-.

    والقول الثاني: وهو رأي جمهور أهل العلم أنه لا يجب صومه، ولو صامه عن رمضان لم يجزئه؛ لأنه ليس من رمضان، وهؤلاء أخذوا بأن معنى (فاقدروا له) أي: أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً، كما جاء صريحاً فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً)(4)، وهذا القول هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله تعالى-.

    الوقفة التاسعة: قال في الحديث: (صوموا لرؤيته)، فإذا رآه أهل بلد هل يلزم الناس جميعاً الصيام أم لا؟.

    اختلف أهل العلم في ذلك:

    فذهب الإمام أبو حنيفة - وهو المشهور عن أحمد- أنه يلزم الناس جميعاً الصيام؛ لأن رمضان ثبت دخوله، وثبتت أحكامه.

    وذهب بعض أهل العلم إلى أن لكل بلد رؤيتهم؛ لحديث كريب قال: (قدمت الشام، واستهل رمضان وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فأخبرته، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه، فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-)(5). رواه مسلم.

    وذهب الشافعي - رحمه الله- إلى التفصيل، وقال: إن اختلفت المطالع فلكل قوم حكم في مطلعهم، وإن انتفت المطالع فحكمهم واحد في الصيام والإفطار، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-.

    الوقفة العاشرة: في هذا الحديث رد على الذين يعتمدون على الحساب دون الرؤية، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – علق دخول الشهر وخروجه على رؤية الهلال الرؤية البصرية المعتادة. وهذا لا يتنافى مع الوسائل الحديثة التي تعين في الرؤية، لكن الحكم المعلق بها.








    (1) رواه البخاري 4/127 برقم (1914) كتاب الصوم، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين. ورواه مسلم 2/762 برقم (1082) كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين. ورواه أبو داود 1/713 برقم (2335) كتاب الصيام، باب فيمن يصل شعبان برمضان.
    (2) رواه البخاري 4/113 برقم (1900) كتاب الصوم، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان. ورواه مسلم 2/759 برقم (1080) كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال. ورواه ابن ماجه 1/529 برقم (1654) كتاب الصيام، باب ما جاء في صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.
    (3) رواه البخاري 4/127 برقم (1914) كتاب الصيام، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، ورواه مسلم 2/762 برقم (1082) كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين.
    (4) رواه البخاري 4/119 برقم (1909) كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا. ورواه مسلم 2/762 برقم (1081) كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافرين في غير معصية. ورواه الإمام أحمد 2/454، 456.
    (5) رواه مسلم 2/765 برقم (1087) كتاب الصيام، باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم، وأنهم إذا رأوا الهلال .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 19 )




    فضل السحور، وحكم الجنب في رمضان


    عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (تسحروا فإن في السحور بركة)(1).
    وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه- عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه- قال: (تسحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ثم قام إلى الصلاة، قال أنس: قلت لزيد: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية)(2).
    وعن عائشة، وأم سلمة - رضي الله عنهما-:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم(3).
    هذه أحاديث تتعلق بشيء من أحكام الصيام نعرضها في الفوائد الآتية:
    الوقفة الأولى: قال في حديث أنس: (فإن في السحور بركة) السحور بفتح السين ما يتسحر به، وبضمها أكل السحور، والبركة مضافة إليهما جميعاً.
    الوقفة الثانية: دلّ حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه- على الترغيب في أكل السحور، وسمي الأكل في ذلك الوقت السحور إضافة إلى وقته؛ لأنه يؤكل وقت السحر. ومما ورد في الترغيب فيه ما رواه مسلم وغيره عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)(4)، وروى الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر - رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (السحور كله بركة، فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين)(5).
    الوقفة الثالثة: ذكر أهل العلم أن من بركة السحور ما يحصل به التَّقَوِّّي على طاعة الله تعالى في النهار، فإن الجوع والظمأ يفتر الجسم، ومن ثَمَّ يفتر ويتكاسل عن الطاعة. ومن بركته أيضاً الثواب والأجر؛ لامتثال أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم-، ومن بركته أيضاً أن المتسحر يستيقظ في هذا الوقت الفاضل، فيصحب هذا السحور حمد، وشكر، وذكر لله تعالى، ودعاء، واستغفار، وهو وقت فاضل، ينزل فيه الرب - سبحانه وتعالى- إلى السماء الدنيا، نزولاً يليق بجلاله وعظمته؛ لينادي عباده هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داعٍ فأجيبه؟ هل من مستغيث لأغيثه؟ فالقائم للسحور يتعرض لهذه النفحة الكريمة، فلعلها تسبب له مغفرة لذنوبه، وتكفيراً لسيئاته، ورفعة لدرجاته، وتقبلا لطاعته.
    الوقفة الرابعة: دل حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه- على استحباب تأخير السحور إلى قبيل الفجر، فقد قال أنس لزيد بن ثابت - رضي الله عنهما- كم كان بين الأذان والسحور قال: قدر خمسين آية.
    ومما يدل على أفضلية تأخير السحور ما رواه الشيخان - رحمهما الله- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور)(6)، والحكمة من ذلك – والله أعلم – أنه يراد به التَّقَوِّي على طاعة الله تعالى، فكلما تأخر كان عوناً على ذلك.
    ومن هذا يفهم أن ما يعمله بعض الناس من الأكل في وسط الليل، وإذا قرب الفجر ناموا، أنهم بهذا أخطأوا على أنفسهم، وفوتوا عليها أجراً عظيماً، بل ربما تعرضوا للإثم والوزر؛ ذلك أنهم يتعرضون للنوم، وقد لا يستطيعون الاستيقاظ لصلاة الفجر، فهم بهذا جمعوا بين مخالفتين عظيمتين، مخالفة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في عدم تأخير السحور، والمخالفة الكبرى في تفويتهم لصلاة الفجر.
    الوقفة الخامسة: دل حديث عائشة، وأم سلمة - رضي الله عنهما- على حكم من الأحكام يتعرض له بعض الناس، وهو أن المسلم قد ينام وهو على جنابة بجماع، أو يحصل لهم احتلام أثناء النوم، فيستيقظ جنباً، فيبادر إلى السحور، ثم يطلع عليه الفجر وهو لا زال على جنابة، فعائشة، وأم سلمة تخبرانا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، فدلّ ذلك على صحة صوم من أصبح جنباً من جماع أو احتلام، ولو لم يغتسل، إلا بعد طلوع الفجر........بالذكر، والقراءة، والدعاء، كان أولى...
    الوقفة السادسة: دلّ هذا الحديث أيضاً أنه لا فرق بين الصوم الواجب والنفل، ولا بين صيام رمضان من غيره، فالحكم في ذلك واحد.
    الوقفة السابعة: استنبط بعض أهل العلم من هذا الحديث أيضاً جواز الجماع في ليالي رمضان، ولو كان قبيل الفجر، ويؤيد هذا قوله سبحانه وتعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)(7).





    (1) رواه البخاري 4/139 برقم (1923) كتاب الصوم، باب بركة السحور من غير إيجاب. ورواه مسلم 2/770 برقم (1095) كتاب الصيام، باب فضل السحور، وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره، وتعجيل الفطر. ورواه الترمذي 3/88 برقم (708) كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل السحور.
    (2) رواه البخاري 4/138 برقم (1921) كتاب الصوم، باب قدر كم بين السحور وصلاة الفجر، ورواه مسلم 2/771 برقم (1097) كتاب الصيام، باب فضل السحور، وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره، وتعجيل الفطر.
    (3) رواه البخاري 4/143 برقم (1925 – 1926) كتاب الصيام باب الصائم يصبح جنباً. ورواه مسلم 2/780 برقم (1109) كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر.
    (4) رواه مسلم 2/770 برقم (1096) كتاب الصيام، باب فضل السحور، وتأكيد استحبابه، ورواه النسائي 4/146 برقم (2166) كتاب الصيام باب فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب. ورواه الإمام أحمد في مسنده 4/197.
    (5) رواه الإمام أحمد 3/44.
    (6) رواه البخاري 4/198 برقم (1957) كتاب الصوم، باب تعجيل الإفطار. ورواه مسلم 2/771 برقم (1098) كتاب الصيام باب فضل السحور، وتأكيد استحبابه.
    (7) سورة البقرة الآية رقم (187).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 20 )



    المفطرات في الصيام




    عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)(1).

    وعنه - رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس عند النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله هلكت. فقال: (ما أهلكك؟)، أو (مالك)؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم، وفي رواية: أصبت أهلي في رمضان. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (هل تجد رقبة تعتقها؟) قال: لا، قال: (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟) قال: لا. قال: (فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟) قال: لا. قال: فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم-، فبينما نحن على ذلك إذ أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر، والعرق: المكتل، قال: (أين السائل؟) قال: أنا، قال: (خذ هذا فتصدق به) فقال: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لا بتيها – يريد الحرتين – أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم- حتى بدت أنيابه، ثم قال: (أطعمه أهلك)(2).

    هذان حديثان عظيمان، يتعلقان ببعض المفطرات، نعرض ما فيهما من فوائد وأحكام في الوقفات الآتية:

    الوقفة الأولى: دلّ الحديث الأول على أن الأكل والشرب من المفطرات، وهما إيصال الطعام والشراب إلى الجوف عن طريق الفم أو الأنف، أيَّاً كان نوع الأكل والشرب، وذلك من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ)(3)، ويدخل في حكم الأكل والشرب ما كان في معناهما.

    الوقفة الثانية: دل الحديث أيضاً على أن من أكل أو شرب ناسياً فلا يعتبر مفطراً، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم-: (فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)، ويعضد هذا قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)(4)، وقوله سبحانه: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)(5).

    ومما ينبه إليه أن الناسي إذا ذكر أنه صائم عليه الإمساك فوراً، ولفظ ما في فمه إن كان فيه شيء، وينبغي على من رأى صائماً يأكل أو يشرب أن ينبهه؛ لأن هذا من التعاون على البر والتقوى.

    الوقفة الثالثة: جعل بعض أهل العلم الجاهل كالناسي في الأكل والشرب، فمن تناول مفطراً وهو جاهل فصيامه صحيح إن شاء الله تعالى، سواءً كان جاهلاً بالحكم الشرعي، مثل أن يظن أن هذا الشيء غير مفطر فيفعله، أو جاهلاً بالوقت، مثل أن يظن أن الفجر لم يطلع وهو طالع فيأكل، والدليل على ذلك اجتماع الناسي والمخطئ في قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا).

    الوقفة الرابعة: دل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- الثاني على أن الجماع في نهار رمضان لا يجوز، وهو أشد المفطرات إذ رتب عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم- الكفارة، فعندما جاءه هذا الرجل واسمه سلمة بن صخر البياضي، وصف فعله بالهلاك، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم-: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فلم يعترض الرسول - صلى الله عليه وسلم- على هذا الوصف، وبين له ما يخرجه من هذا الهلاك، وهو الكفارة، فدل على عظم هذا الفعل وشناعته، وأنه محذور يجب تركه، والابتعاد عنه، وعد التساهل في ذلك، فيعرض الإنسان نفسه للخطر، وللإثم العظيم.

    الوقفة الخامسة: بيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث نوعية الكفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، لكل مسكين مد من بر، أو غيره.

    واختلف أهل العلم في الكفارة، هل هي على التخيير أم على الترتيب؟ والذي عليه جمهور أهل العلم أنها على الترتيب؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- عرضها مرتبة في هذا الحديث.

    الوقفة السادسة: استنبط بعض أهل العلم من هذا الحديث أن الكفارة تسقط مع الإعسار؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أذن للرجل أن يطعم التمر أهله. ولكن جمهور أهل العلم قالوا أنها لا تسقط بالإعسار؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- عندما قال الرجل لا أجد - يعني ما يكفر به- سكت، ولم يبرئ ذمته منها. أما الترخيص له في إطعامه أهله، فقد قال بعض العلماء إن المكفر إذا كفر عنه غيره جاز أن يأكل منه، ويطعمه أهله.

    الوقفة السابعة: اختلف أهل العلم فيما إذا جامع امرأته في نهار رمضان ناسياً، هل تجب عليه الكفارة أم ليس عليه شيء كمن أكل أو شرب ناسياً؟ فذهب الإمام أحمد - رحمه الله- ومن تبعه في ذلك إلى أن الجماع مفسد للصيام، ولو كان من الجاهل والناسي، مستدلين بأن الحديث في الآكل، والشارب، والناسي فقط، مما يدل على أنه لا يشمل المجامع. وذهب الجمهور إلى أن المجامع الناسي لا يفسد صومه، مستدلين بالعمومات الواردة في أحكام الناسي، مثل قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)، وقوله - -صلى الله عليه وسلم-: (عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-.









    (1) رواه البخاري 4/155 برقم (1933) كتاب الصوم، باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً. ورواه مسلم 2/809 برقم (1155) كتاب الصيام، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر.
    (2) رواه البخاري 4/136 برقم (1936) كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر. ورواه مسلم 2/781 برقم (1111) كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم ووجوب الكفارة الكبرى فيه.
    (3) سورة البقرة الآية رقم (187).
    (4) سورة البقرة الآية رقم (286).
    (5) سورة الأحزاب الآية رقم (5).





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •