التزام الوقار في الكلام والتبسم والجلوس


سعيد بن محمد آل ثابت




الوقار والرزانة والسمت الحسن من الصفات النبيلة التي ينبغي أن يتميز بها القدوات من العلماء والدعاة وأهل الرأي. وهي من المحاسن التي تدفع الناس إلى الاقتداء بهم والاطمئنان إلى منهاجهم.



وتأمل معي قول الحارث بن عمرو السهمي رضي الله عنه: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى أو بعرفات، وقد أطاف به الناس. قال: فتجيء الأعراب، فإذا رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك). أخرجه أبو داود وحسنه الألباني.


وإذا كان حسن السمت الظاهر مما ينبغي التواصي به، فإن خلق الإنسان الذي يمشي به بين الناس من باب أولى، وقد ثبت عن عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الهَدي الصَّالح والسَّمت الصَّالح والاقتصاد جُزءٌ من خمسة وعشرين جزءًا من النُّبوَّة" صححه أحمد شاكر في تحقيق مسند أحمد، وصححه الألباني في سنن أبي داود. والوقار صفة تبعث على التزام السكينة والوداعة، ويقال في اللغة: رجل وقور، أي: ذو حلم ورزانة[1].


وينبغي لمن يربي ويتربى في محاضن العلم والدعوة، أن تزكو نفسه، وتسمو همومه وطموحاته، وأن تظهر أثر هذه التربية في حياته كلها، كما قال الحسن البصري: (قد كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه وبصره، وبرِّه)[2]. ونحوه قول الإمام مالك: إن حقاً على طالب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى قبله.[3] وعندما تتأمل سير العلماء تقف على نماذج مشرقة من حسن السمت والوقار والرزانة، فها هو ذا أبو داود السجستاني - صاحب السنن المشهورة - يقول عن شيخه الإمام أحمد: (لقيت مائتين من مشايخ العلم، فما رأيت مثل أحمد بن حنبل، لم يكن يخوض فيما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذكر العلم تكلم)[4].


والوقار صفة لازمة في العبد الصالح مهما احتاج الأمر إلى إسراع وعجلة، وهل هناك أهم من تلبية نداء حي على الفلاح؟ في الحديث عن أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصَّلاة وعليكم بالسَّكينة والوَقَار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فأتمُّوا" رواه البخاري ومسلم. قال النَّوويُّ: (الوَقَار في الهيئة وغض البصر، وخفض الصَّوت، والإقبال على طريقه بغير التفات ونحو ذلك، والله أعلم).[5] ومع ذلك فإن الحسنة منزلة بين السيئتين؛ فليس الوقار المقصود يعني الفظاظة والغلظة وجفاء الطبع، وأن يكون العالم أو الداعية عابس الوجه مقطب الجبين، إذ ليس ذلك من محاسن الأخلاق، ولا من علامات الشرف والسؤدد الذي ينبغي أن يتحلى به الدعاة، وإنما المقصود الترفع عن الفحش والبذاءة، والبعد عن الخفة والسفه.


وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك، ويمازح أصحابه رضي الله عنهم، لكنه لا يقول إلا حقاً. أخرجه أحمد والترمذي. وقوى إسناده الأرناؤوط في تحقيقه للمسند.ذلك أن الوقار يقصد به ترفع الداعية عن اللهو وسفساف الأمور، والمزاح العابث، والاشتغال بما لا فائدة فيه من دين ولا دنيا، كالاشتغال في توافه الأمور، والإفراط في التنزه، والتشجيع الرياضي، والتعصب القبلي.. ونحوها. وأحسب أن التوازن والاعتدال في شخصية الداعية يحفظ له هيبته وقدره عند الناس، ويزيد من بركته وفضله في دعوته.


وسنشير لبعض معالم الوقار في هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيفيد منها المربي القدوة:
الأول: الكلام:
هديه صلى الله عليه وسلم في الكلام فيستبين من قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه. وقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم. رواه البخاري ومسلم. قال ابن حجر: قوله: (لو عده العاد لأحصاه) أي لو عد كلماته أو مفرداته أو حروفه لأطاق ذلك وبلغ آخرها، والمراد بذلك المبالغة في الترتيل والتفهيم. وقوله: لم يكن يسرد الحديث كسردكم، أي: يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثر بعض لئلا يلتبس على المستمع. زاد الإسماعيلي من رواية ابن المبارك عن يونس: إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلاً، فهما تفهمه القلوب. ا.هـ. وقد قال معاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل نؤاخذ بما تكلمت به ألسنتنا؟ قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ معاذ ثم قال: "يا معاذ ثكلتك أمك وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا ما نطقت به ألسنتهم فمن كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليقل خيراً أو يسكت عن شر. قولوا خيراً تغنموا واسكتوا عن شر تسلموا ". فبهذا المخلوق الصغير يعبر الإنسان عن بغيته ويفصح عن مشاعره به يطلب حاجته ويدافع عن نفسه ويعبر عن مكنون فؤاده بحادث جليسه ويؤانس رفيقه وبه السقطة والدنو والرفعة والعلو، وعند البخاري قال صلى الله عليه وسلم: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة".


قال الشاعر:
احذر لسانك أيها الإنسان

لا يلدغنك إنه ثعبان

والله إن الموت زلة لفظة
فيها الهلاك وكلها خسران


ومن هديه صلى الله عليه وسلم في الكلام هو أنه نهى عن الصمت إلى الليل عن علي رضي الله عنه قال: حفظت عن رسول صلى الله عليه وسلم: "لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل" رواه أبو داود بإسناد حسن، أي سكوت يوم إلى الليل.
وكان صلى الله عليه وسلم طويل الصمت، عن جابر بن سمره رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت قليل الضحك" رواه أحمد. والتوفيق بين حديث النهي عن الصمت إلى الليل وحديث أنه كان طويل الصمت عليه الصلاة والسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الصمت ويتكلم عند الحاجة.


ومن صفات كلامه صلى الله عليه وسلم
أنه أوتي جوامع الكلم، في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب".


والمقصود بجوامع الكلم:

قال النووي رحمه الله، قال الهروي: يعني به القرآن الكريم، جمع الله تعالى في الألفاظ اليسيرة منه المعاني الكثيرة وكلامه صلى الله عليه وسلم كان بالجوامع قليل اللفظ كثير المعاني[6]. وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاثة لتعقل عنه". وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما كان رسول صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا ولكنه كان يتكلم بكلام بين فضل يحفظه من جلس إليه"، وقالت: كان كلامه صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كل من سمعه.

وثمة محاذير لسانية كرهها الشارع ينبغي التحرز منها؛ فعن جابر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا يا رسول الله قد علمنا: الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون". الثرثار: كثير الكلام تكلفاً. المتشدق: المتطاول على الناس بكلامه ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه. المتفيهق: من الفهق وهو الامتلاء وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه ويغرب به تكبراً وارتفاعاً وإظهاراً للفضيلة على غيره.



وحذر صلى الله عليه وسلم من (الإشاعات)، قال أبو مسعود لأبي عبد الله أو قال أبو عبد الله لأبي مسعود: "ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في: زعموا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بئس مطية الرجل زعموا"، وقال صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع". قال الإمام النووي رحمه الله: "وأما معنى الحديث والآثار التي في الباب ففيها الزجر عن التحديث بكل ما سمع الإنسان فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب لإخباره بما لم يكن وقد تقدم أن مذهب أهل الحق أن الكذب الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو ولا يشترط فيه التعمد لكن التعمد شرط في كونه إثماً والله أعلم"[7]. قال مالك رحمه الله: "أعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع ولا يكون إماماً أبداً وهو يحدث بكل ما سمع"، قال النووي رحمه الله: فمعناه أنه إذا حدث بكل ما سمع كثر الخطأ في روايته فترك الاعتماد عليه والأخذ عنه. وتدبر قول الحق سبحانه: ï´؟ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ï´¾ [النساء: 83]. قال ابن كثير: إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة.

وثمة مناهٍ لفظية اشتملت عليها النصوص وليس المقام لبسطها، ولكن من المهم للقدوة أن يعتني بهذا الأمر ويوليه عناية.


الثاني: هيئة الوجه والتبسم:
لا شك أن المسلم في حياته تعتريه أكدار وهموم وأحزان وغموم، مما يحتاج حقيقة إلى من يجلوا حلكتها، ويخترق ظلمتها بشيء من الابتسامة الرفيعة والضحكة المتزنة والدعابة المرموقة، والجدّية سمة بارزة في حياة المسلم، وهي مطلب ملح وأمر مهم، فإذا كانت صارمة فإنها لا تزرع الابتسامة على الوجه، ولا تدخل السرور على النفس.

إن البلسم الناجع والدواء النافع في ترويح النفس وطرد الآلام وتخفيف الأحزان عن المسلم، رسم الابتسامة على شفتيه بضحكة متزنة ودعابة بريئة وابتسامة مشرقة. ودونك المنهج النبوي ينبئك عن ذلك، فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه يقول: "ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي" رواه البخاري،ويقول جابر بن سمرة رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم "...كان لا يضحك إلا تبسما..." رواه الحاكم، وعن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه قال: "ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه الترمذي، وعند مسلم عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كثيراً، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم"، وعند الترمذي من حديث ‏عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال:‏ ‏ما كان ضحك رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏إلا تبسما،وكان النبي صلى الله عليه وسلم كالرجل من رجالكم، إلا أنه كان أكرم الناس، وألين الناس ضحّاكاً بسّاماً[8].


وقد عده عليه الصلاة والسلام من الأعطيات المأجور صاحبها، وذلك لعظم أثرها، وبالغ فاعليتها "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة" رواه الترمذي.وقال: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" رواه مسلم. فطلاقة الوجه مع غشيان الابتسامة الصادقة من أكبر ما يعود على المسلم بالأجر دون مشقة، وبالقبول عند الناس بلا عناء، وذلك يكون باعتدال وتوسط يُدرَك بتقدير الأمور وتأطير المواقف بالأطر التربوية، وقد حُفظ ذلك الاعتدال عن إمام القدوات، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا قطُّ ضاحكًا، حتى تُرى منه لهواته، وإنَّما كان يتبسَّم" رواه البخاري ومسلم. وهذا الحديث ذكره النَّوويُّ تحت باب الوَقَار والسَّكينة في كتابهرياض الصَّالحين، وقد قال الشَّيخ ابن عثيمين مُعلِّقًا: (يعني: ليس يضحك ضَحِكًا فاحشًا بقهقهة، يفتح فمه حتى تبدو لَهاته ولكنَّه صلى الله عليه وسلم كان يبتسم أو يضحك حتى تبدو نواجِذه، أو تبدو أنيابه، وهذا من وَقَار النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا تجد الرَّجل كثير الكَرْكَرة -الذي إذا ضحك، قهقه وفتح فاه- يكون هيِّنًا عند النَّاس، وضيعًا عندهم، ليس له وقار، وأمَّا الذي يُكثر التَّبسُّم في محله، فإنَّه محبوبٌ، تنشرح برؤيته الصُّدور، وتطمئنُّ به القلوب.قال ابن حجر: (والذي يظهر من مجموع الأحاديث: أنَّه صلى الله عليه وسلم كان -في مُعْظَم أحواله- لا يزيد على التَّبسُّم، ورُبَّـما زاد على ذلك، فضحك، والمكروه من ذلك إنَّما هو الإكثار منه أو الإفراط فيه؛ لأنَّه يُذهب الوَقَار)[9].


الثالث: الجلوس:
إن لهيئة الجلوس بين الناس رمزيات عندهم في الحكم على هدي الإنسان وعقله، وهيئة جلسة النبي صلى الله عليه وسلم قد ورد فيها عدة أحاديث دلالة أنها لم تكن عشوائية أو على أي اتجاه فكانت جلسات متعددة، ولكل مقام ما يناسبه، من هذه الأحاديث:
حديث قيلة بنت مخرمة: أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق. رواه أبو داود وحسنه الألباني. وقال العظيم آبادي في عون المعبود: قال الخطابي: هو جلسة المحتبي، وليس هو المحتبي بثوبه ولكنه الذي يحتبي بيديه. وفي القاموس: القرفصاء أن يجلس على أليتيه ويلصق فخذيه ببطنه ويحتبي بيديه يضعهما على ساقيه، أو يجلس على ركبتيه منكباً ويلصق بطنه بفخذيه ويتأبط كفيه. والمتخشع: أي الخاشع الخاضع المتواضع. اهـ.


ومنها حديث عبد الله بن زيد: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى، قال سعيد بن المسيب: كان عمر وعثمان يفعلان ذلك. رواه الشيخان. ولكن روى جابر ما يعارضه، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره. أخرجه أبو داود وصححه الألباني. قال ابن حجر في الفتح: قال الخطابي: فيه أن النهي الوارد عن ذلك منسوخ، أو يحمل النهي حيث يخشى أن تبدو العورة، والجواز حيث يؤمن ذلك، قلت: الثاني أولى من ادعاء النسخ، لأنه لا يثبت بالاحتمال، وممن جزم به البيهقي والبغوي وغيرهما من المحدثين، وجزم ابن بطال ومن تبعه بأنه منسوخ. والظاهر أن فعله صلى الله عليه وسلم كان لبيان الجواز، وكان ذلك في وقت الاستراحة لا عند مجتمع الناس لما عرف من عادته من الجلوس بينهم بالوقار التام صلى الله عليه وسلم، قال الخطابي: وفيه جواز الاتكاء في المسجد والاضطجاع وأنواع الاستراحة. انتهى. ومنها حديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس احتبى بيده. رواه أبو داود وصححه الألباني. قال العظيم آبادي: احتبى بيده زاد البزار: ونصب ركبتيه أي جمع ساقيه إلى بطنه مع ظهره بيديه عوضاً عن جمعهما بثوب، فالاحتباء باليدين غير منهي عنه إلا إذا كان ينتظر الصلاة. ا.ه. وهذه الأحاديث الثلاثة بوب عليها الترمذي في كتاب الشمائل المحمدية: باب ما جاء في جلسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: باب ما جاء في تكأة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأسند فيه أحاديث منها: عن جابر بن سمرة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على وسادة على يساره، ورواه الترمذي وأبو داود في سننيهما، وصححه الألباني. ومنها عن أبي بكرة الثقفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أحدثكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، قال: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً، قال: وشهادة الزور أو قول الزور. وهذا متفق عليه. ومنها عن أبي جحيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنا فلا آكل متكئاً. رواه البخاري. ومما روي في هيئة جلسته صلى الله عليه وسلم ما رواه أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقي الرجل فكلمه لم يصرف وجهه عنه حتى يكون هو الذي ينصرف، وإذا صافحة لم ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزعها، ولم ير متقدما بركبتيه جليساً له قط. أخرجه أحمد وابن ماجه، وضعفه الألباني إلا جملة المصافحة، قال السندي: قوله (ولم ير) على بناء المفعول (جليسا له) مفعول متقدما أي لم يقدم في المجلس ركبته على ركبة جليسه، والحديث مسوق لأخلاقه الكريمة، وفي الزوائد: مدار الحديث على زيد العمي وهو ضعيف. ا.هـ. ومن ذلك ما رواه جابر بن سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء. أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود واللفظ له. قال العظيم آبادي: تربع في مجلسه: أي جلس مربعاً واستمر عليه. وقال جابر بن سمرة أيضاً: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته متكئاً على مرفقه. رواه أحمد. وهناك هيئات نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك ما رواه الشريد بن سويد، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا -وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي- فقال: أتقعد قعدة المغضوب عليهم. رواه أبو داود وأحمد، وصححه الألباني. ومن ذلك ما رواه بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد بين الظل والشمس. رواه ابن ماجه وصححه الألباني. وأما مد الرجل أمام الناس فلم نر فيه حديثاً صحيحاً، وقد كثر في كلام أهل العلم قولهم بجرحة من يمد رجله عند الناس، وقال النووي في المجموع: يجوز القعود متربعاً ومفترشاً ومتوركاً.. ومد الرجل، ولا كراهة في شيء من ذلك إذا لم يكشف عورته ولم يمد رجله بحضرة الناس، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على ذلك. وذكر بعض الأحاديث التي ذكرنا سابقاً، وقد روى الترمذي في السنن: أنه صلى الله عليه وسلم لم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له. وهذا الحديث ضعفه الألباني وقد ذكر الملا علي قاري والمباركفوري في شرح هذا الحديث: أنه ما كان يقدم ركبتيه على ركبتي جليسه كما يفعل الجبابرة، وقيل: أراد بالركبتين الرجلين وتقديمهما مدهما وبسطهما.


وعند البخاري وغيره أن رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن بيعتَينِ، وعن لُبستَينِ، وعن صلاتَينِ: "نهى عن الصلاةِ بعدَ الفجرِ حتى تَطلُعَ الشمسُ، وبعدَ العصرِ حتى تغرُبَ الشمسُ، وعن اشتِمالِ الصمَّاءِ، وعن الاحتِباءِ في ثوبٍ واحدٍ، يُفْضي بفرجِه إلى السماءِ، وعن المُنابذَةِ، والمُلامسَةِ". وعند مسلم:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأكل الرجل بشماله، أو يمشي في نعل واحدة، وأن يشتمل الصماء، وأن يحتبي في ثوب واحد كاشفا عن فرجه. قال النووي: (وأما اشتمال الصماء بالمد فقال الأصمعي: هو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده، لا يرفع منه جانبا، فلا يبقى ما يخرج منه يده، وهذا يقوله أكثر أهل اللغة. قالابن قتيبة:سميت صماء لأنه سد المنافذ كلها كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق ولا صدع. قالأبو عبيد:وأما الفقهاء فيقولون هو أن يشتمل بثوب ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على أحد منكبيه. قال العلماء: فعلى تفسير أهل اللغة يكره الاشتمال المذكور لئلا تعرض له حاجة من دفع بعض الهوام ونحوها أو غير ذلك فيعسر عليه، أو يتعذر فيلحقه الضرر. وعلى تفسير الفقهاء يحرم الاشتمال المذكور إن انكشف به بعض العورة، وإلا فيكره. وأما الاحتباء بالمد فهو أن يقعد الإنسان على أليتيه، وينصب ساقيه، ويحتوي عليهما بثوب أو نحوهأو بيده، وهذه القعدة يقال لها الحبوة بضم الحاء وكسرها، وكان هذا الاحتباء عادة للعرب في مجالسهم، فإن انكشف معه شيء من عورته فهو حرام. والله أعلم)[10].


وفي الجلوس للطعام فقد روى الإمام ابن ماجه من حديث عبد الله بن بسر قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم قصعة يقال لها الغراء…وفيه: فلما كثروا جثا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعلني عبداً شكوراً، ولم يجعلني جباراً عنيداً ". وإسناده جيد، وقال ابن حجر: المستحب في صفة الجلوس للأكل أن يكون جاثياً على ركبتيه وظهور قدميه، أو يجلس وينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى. قال ابن القيم في حكمة ذلك: لئلا يحصل الامتلاء المنهي عنه. وقال أيضا في الهدي: ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يجلس متوركاً على ركبتيه، ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر اليمنى تواضعاً لله وأدباً بين يديه، وهذه الهيئة أنفع هيئات الأكل وأفضلها، لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي الذي خلقها الله تعالى عليه. وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل متكئاً، والاتكاء على ثلاثة أنواع:
أحدهما: الاتكاء على الجنب.
والثاني: التربع.
والثالث: الاتكاء على إحدى يديه وأكله بالأخرى، والثلاث مذمومة.

وقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي جحيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا آكل وأنا متكئ" أخرجه الإمام أحمد والبخاري وابن ماجه.


وهناك صفة أخرى للأكل نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الانبطاح، فعن ابن عمر أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن يأكل الرجل وهو منبطح على بطنه. رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم. وهو صحيح.



الرابع: المشي؛ قال الله: "واقصد في مشيك"، وقال سبحانه: ï´؟ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ï´¾ وقال تبارك وتعالى: ï´؟ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً ï´¾، قال ابن القيم يصف هدي الرسول عليه الصلاة والسلام في المشي: (كان إذا مشى تكفأ تكفؤا، وكان أسرع الناس مشية وأحسنها وأسكنها، قالأبو هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له، وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤا كأنما ينحط من صبب، وقال مرة:إذا مشى تقلع، قلت: والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت، فإن الماشي إما أن يتماوت في مشيه ويمشي قطعة واحدة كأنه خشبة محمولة، وهي مشية مذمومة قبيحة، وإما أن يمشي بانزعاج واضطراب مشي الجمل الأهوج، وهي مشية مذمومة أيضا، وهي دالة على خفة عقل صاحبها، ولا سيماإن كان يكثر الالتفات حال مشيه يمينا وشمالا، وإما أن يمشي هونا، وهي مشية عباد الرحمن كما وصفهم بها في كتابه فقال: ï´؟ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ï´¾ [الفرقان: 63]، قال غير واحد من السلف: بسكينة ووقار من غير تكبر ولا تماوت، وهي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه مع هذه المشية كان كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، حتى كان الماشي معه يجهد نفسه ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكترث، وهذا يدل على أمرين: أن مشيته لم تكن مشية بتماوت ولا بمهانة، بل مشية أعدل المشيات [11].



[1] "لسان العرب"، مادة: وقر.
[2] "الزهد"؛ لابن أبي عاصم،(1 /285).
[3] "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"؛ للخطيب البغدادي، (1 /156).
[4] "حلية الأولياء"، (9 /164).
[5] "شرح صحيح مسلم"؛ للنووي.
[6] "شرح صحح مسلم".
[7] "شرح صحيح مسلم"
[8] "مكارم الأخلاق"؛ لابن أبي الدنيا، (ص:397).
[9] "فتح الباري"؛ لابن حجر.
[10] "شرح صحيح مسلم".
[11]"زاد المعاد".