يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله :
" الناس جميعا ، المؤمن منهم والكافر ، والناشئ في صوامع العبادة ، والمتربي في مخادع الفسوق ، اذا ألمّت بهم ملمّة ضاقوا بها ذرعا ، ولم يجدوا لها دفعا ، لم يعوذوا منها بشيء من هذه الكائنات ، وإنما يعوذون بقوة وراء هذه الكائنات ، قوة لا يرونها ، ولكنهم يشعرون بأرواحهم وقلوبهم ، وكل عصب من أعصابهم بوجودها ، وبعظمتها وجلالها . يقع هذا لكثير من الطلاب أيام الامتحان ، ولكثير من المرضى عند اشتداد الألم وعجز الطبيب . كلهم يعودون إلى ربهم ، ويقبلون على عبادته .
فهل سألتم أنفسكم ، ما السبب في هذا وأمثاله ؟ لماذا نجد كل من وقع في شدة يرجع إلى الله ؟ نذكر جميعا أيام الحرب الماضية ، والتي قبلها ، كيف كان الناس يقبلون على الدين ، ويلجؤون إلى الله . الرؤساء والقواد يؤمّون المعابد ، ويدعون الجنود إلى الصلاة .
ولقد قرأت في مجلة (المختار) المترجمة عن مجلة (ريدر زاديجست) ، مقالة نشرت أيام الحرب ، لشاب من جنود المظلات ( يوم كانت المظلات والهبوط بها شيئا جديدا ) يروي قصته فيقول : إنه نشأ في بيت ليس فيه من يذكر الله ، أو يصلي ، ودرس في مدارس ليس فيها دروس للدين ، ولا مدرس متدين ، نشأ نشأة ( علمانية ) مادية ، أي مثل نشأة الحيوانات التي لا تعرف إلا الأكل والشرب والفساد ، ولكنه لما هبط أول مرة ، ورأى نفسه ساقطا في الفضاء ، قبل أن تنفتح المظلة ، جعل يقول : يا الله يا رب . ويدعو من قلبه ، وهو يتعجب من أين جاءه هذا الإيمان ؟
وبنت ( ستالين ) نشرت من عهد قريب مذكراتها ، فذكرت فيها كيف عادت إلى الدين ، وقد نشأت في غمرة الإلحاد ، وتعجب هي نفسها من هذا المعاد . وما في ذلك عجب ، فالإيمان بوجود إله شيء كامن في كل نفس ، إنه فطرة ( غريزة ) من الفِطَر البشرية الأصلية ، كغريزة الجنس ، والإنسان ( حيوان ذو دين ).
ولكن هذه الفطرة قد ( تغطيها ) الشهوات والرغبات والمطامع ، والمطالب الحيوية المادية ، فإذا هزتها المخاوف والأخطار والشدائد ألقت عنها غطاءها فظهرت . ولذلك سمي غير المؤمن ( كافرا ) ، ومعنى الكافر في لسان العرب ( الساتر )...
في قرارة نفس كل إنسان الإيمان بإله ، هذه حقيقة نعرفها نحن المسلمين ؛ لأن الله خبرنا أن الإيمان فطرة فطر الناس عليها . وقد عرفها الإفرنج من جديد ، ( دوركايم ) أستاذ الاجتماع الفرنسي المشهور له كتاب في أن الإيمان بوجود إله بديهية .
لا يمكن أن يعيش الإنسان ويموت من غير أن يفكر في وجود إله لهذا الكون ، ولكنْ ربما قصر عقله فلم يهتد إلى المعبود بحق ، فعبد من دونه أشياء ، عبدها على توهم أنها هي الله ، أو أنها تقرب إلى الله .
فإذا جد الجد ، وكانت ساعة الخطر ، رجع إلى الله وحده ، ونبذ هذه المعبودات .
مشركو قريش ، كانوا يعبدون ( هبل )، و ( اللات )، و ( العزى )، حجارة وأصنام ، (هبل) صنم من العقيق، جاء به ( عمرو بن لحيّ ) من عندنا ، من ( الحمّة ) قالوا له : إنه إله عظيم قادر ، فحمله على جمل وجاء به ، فسقط على الطريق فانكسرت يده ، فعملوا له يدا من ذهب . إله تنكسر يده ! وكانوا مع ذلك يعبدونه !! يعبدونه في ساعات الأمن ، فإذا ركبوا البحر ، وهاجت الأمواج ، ولاح شبح الغرق ، لم يقولوا : يا ( هبل ). بل قالوا : يا الله .
وهذا مشاهد إلى اليوم عندما تغرق السفن ، أو تشب النيران ، أو يكون الخطر ، أو يشتد المرض ، تجد الملحدين يرجعون إلى الدين . لماذا ؟ لأن الإيمان غريزة ، أصدق تعريف للإنسان أنه ( حيوان متدين ) .
وانظروا إلى هؤلاء الملحدين الماديين ، عندما يأتيهم الموت ، هل تظنون أن (ماركس) أو (لينين) لما أيقن بالموت، دعا ( وسائل الإنتاج ) التي يؤلهها ، أم دعا الله ؟ ثقوا أنهما لم يموتا حتى دعوا الله ، ولكن حين لا ينفع الدعاء . و( فرعون ) تكبر وتجبر ، وقال : أنا ربكم الأعلى. فلما أدركه الغرق، قال: (آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل ..) ".اهـ

من كتاب: " تعريف عام بدين الإسلام " للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، (ص 45-48) .

http://waqfeya.com/book.php?bid=3283