مشروع معلمة السنن وعللها
أما بعد:
فهذه مقدمة أحببت أن أبين فيها بعض فوائد ومنافع هذا السفر الضخم، وهذا العمل الجليل الذي يخدم السنة النبوية خدمة عظيمة، ويسهل الوصول إليها بأيسر السبل، وأقل المُؤن، وقد كانوا قديما يبذلون الغالي والنفيس في سبيل جمع السنة والأثر من صدور الرجال، فتجشَّموا مشاقَّ السفر، ومفارقة الأهل والولد، وغابوا عنهم لمُددٍ طويلة قد تصل إلى سنين أحياناً من أجل جمع الحديث من الأمصار، فأنفقوا في ذلك الأعمار والأموال والمُهج لكي يجمعوا ما جمعوا، ومع ذلك فقد يفوتهم بموت مُحدِّث مثلاً الوصول إلى بعض الطرق؛ والتي يكون لها تأثير على حكم الناقد، فيقع في حكمه أحياناً بعض الخلل لعدم وقوفه على هاتيك الطرق، ولهذا تجد في أحيان كثيرة اختلافَ الأئمة المُصنفين من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم وغيرها في إيراد الحديث الواحد من طرق مختلفة، بل ومتعارضة أحياناً، ويقع ذلك لاختلاف شيوخهم، وتفرق منابعهم في النَّهلِ من أصقاع المعمورة الإسلامية على اتساع رقعتها، وأما اليوم فقد سهَّلت هذه المجاميع العلمية والموسوعات الجامعة الوصول إلى طرق الحديث من شتى المصادر لتضعها أمامك دون أدنى عناء، وفي لمح البصر، فما عليك إلا أن تغرف من معينها الصافي، وتستفيد من فوائدها الجمة، وسوف أذكر على وجه الاختصار الشديد بعض فوائد هذا الكتاب، دون التعريج على الأمثلة حتى لا أطيل؛ فمن فوائده مثلاً:
-جمع طرق الحديث الواحد في مكان واحد بحيث يريحك من عناء البحث عنه، حتى في محركات البحث الإلكترونية الحديثة، وبهذا يظهر لك وجه الحديث من جهة الصحة والضعف، وكونه محفوظاً أو شاذاً أو مُعلَّلاً أو منكراً أو باطلاً، فتتبين درجته بجمع طرقه، كما قال أحمد بن حنبل: «الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً» [الجامع لأخلاق الراوي (2/212/1640)].
وروي عن ابن المديني، قال: «الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه» [الجامع لأخلاق الراوي (2/212/1641)، بإسناد فيه مبهم].
وقال أبو بكر الخطيب البغدادي: «السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط» [الجامع لأخلاق الراوي (2/295)].
-ومن فوائده: أن يظهر لك من خلال الوقوف على طرق الحديث كونه غريباً أو مشهوراً أو عزيزاً، كذلك معرفة من عليه مدار الحديث، فتقف على ذلك من غير عناء ولا بذل جهد ووقت، وقد كنا في السابق نجلس الأسبوع بل والشهر أو أكثر للوقوف على ذلك؛ فإذا بك تجده أمامك حاضراً فأراحك من هذا العناء والجهد واختصر لك الزمن والعمر.
-الوقوف على بعض الطرق الصحيحة التي ورد فيها السماع، لاسيما من رواية المشهورين بالتدليس، بحيث تطمئن النفس لاتصال السند بهذا الطريق.
-كذلك فإن فاتك الوقوف على السماع من خلال طرق الحديث؛ فلعلك تجده فيما جمع من كلام الأئمة النقاد بما يشفي الغليل، إما بإثبات السماع في هذا الحديث بعينه، أو بنفي السماع مطلقاً، بما لا يدع مجالاً للشك في كون الإسناد منقطعاً.
-ومن فوائد الجمع أيضاً: أن يظهر للناقد قرينة تدل على كون الحديث المروي بطريق الوجادة؛ محفوظاً أو معلولاً، وهل كان الكتاب محفوظاً عن الزيادة والنقصان، أم دخل عليه ما ليس منه.
-أن يظهر من خلال تتبع طرق الحديث وشواهده، وألفاظه ومتونه وسياقاته، أن القصة المذكورة في الحديث كانت في واقعة واحدة، أم قامت القرائن على تعددها، لاسيما مع اختلاف الزمان والمكان ونحو ذلك.
-أن يظهر من خلال تتبع الطرق معرفة الرواية المفسرة للرواية المجملة، والرواية المقيدة للرواية المطلقة، والرواية المخصصة للرواية العامة، والرواية المبينة للرواية المبهمة، أو تقف على رواية تزيل الإشكال عن الرواية المشهورة.
-أن يظهر كثير من العلل الإسنادية كاتصال ما ظاهره الانقطاع، أو انقطاع ما ظاهره الاتصال، أو وقوع التدليس من راوٍ مشهور بالتدليس، بحيث نقف على الواسطة التي أسقطها في بعض الطرق، أو بيان كون المحدث حدث بهذا الحديث بعينه بعد الاختلاط، أو وجود من حدث به عنه قبل الاختلاط فيصح بذلك الحديث، ونحو ذلك.
-ومن أهم ما ينفع في هذا الكتاب جمعه ما هو متفرق في بطون الأجزاء الحديثية وكتب الفوائد والعلل، ما لا تجده في مشاهير كتب السنة كالصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم، مما يُظهر بجلاء ووضوح موضع العلة، لاسيما مع حرص بعض المصنفين من أصحاب السنن والمسانيد والمعاجم على ذكر المسند وحده دون المرسل والموقوف والمقطوع؛ حتى إن بعض المحدثين قديما من شيوخ المصنفين لم يكن يحمل سوى المسند فقط ويعرض عن تحمل ما عداه، مع كون النقاد من أهل الحديث إنما يعلون المسند بالمرسل والموقوف وغير ذلك.
-ومن فوائده: أن يردف لك الحديث بأقوال النقاد مجموعة من بطون الكتب، فأراحك من عناء البحث عنها، لكي تسترشد بها في الحكم على الحديث.
-كذلك فقد يحتاج الناقد إلى قرائن يستفيد منها في ترجيح أحد الوجهين، أو أحد الوجوه المذكورة في الاختلاف في طرق الحديث؛ فإنه يجد بغيته من خلال هذا الكتاب:
-إما بتخريج الشيخين -صاحبي الصحيح البخاري ومسلم- أو أحدهما لأحد الطرق، مما يعني تقديمه على غيره، والاحتجاج به.
-وإما بتنصيص بعض الأئمة النقاد على وجه الصواب من هذا الاختلاف.
-وإما بتصرفات الأئمة في مصنفاتهم، وهذا باب واسع من قرائن الإعلال، وله ضوابطه، ولم أحب أن أتوسع بذكره لكونه يطول.
-ومن منافع هذا الكتاب الجامع: بيان خلو طرق الحديث في جميع المصادر من بعض الزيادات التي لا أصل لها، مما اشتهر على ألسنة الناس، أو مما تداولته بعض كتب الفقه دون أن تنسبه إلى مصدر معين، أو مما نسب لبعض مصادر السنة المشهورة، ولا وجود له فيها إلا في ذهن من كتبه توهماً، والله أعلم.
ومن منافعه أيضاً: أنه يستفيد منه الباحثون، والفقهاء، والخطباء، والمجامع العلمية والفقهية.
ويبلغ عدد المراجع العلمية لهذا المشروع الجليل ألف وخمسمائة مرجع من كتب علماء الأمة التي في هذا المجال (علم الحديث، والرجال، والعلل).
نسأل الله أن ييسر إتمام هذا العمل ونشره ، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
المصدر
دار السنن الشاملة بالرياض