تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (60)
صــ321 إلى صــ 325
أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون .
قوله تعالى: (أيود أحدكم) هذه الآية متصلة بقوله تعالى: لا تبطلوا صدقاتكم ومعنى: "أيود" أيحب ، وإنما ذكر النخيل والأعناب ، لأنهما من أنفس ما يكون في البساتين ، وخص ذلك بالكبير ، لأنه قد يئس من سعي الشباب في أكسابهم .
قوله تعالى: (وله ذرية ضعفاء) أي: ضعاف ، وإذا ضعفت الذرية كان أحنى عليهم ، وأكثر إشفاقا (فأصابها) يعني: الجنة (إعصار) وهي ريح شديدة ، تهب بشدة ، فترفع إلى السماء ترابا ، كأنه عمود .
قال الشاعر:
إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا
أي: لاقيت أشد منك . فإن قيل: كيف جاز في الكلام أن يكون له جنة فأصابها ، ولم يقل: فيصيبها؟ أفيجوز أن يقال: أتود أن يصيب مالا ، فضاع ، والمراد: فيضيع؟ فالجواب: أن ذلك جائز في "وددت" لأن العرب تلقاها مرة "أن" ومرة "لو" ، [ ص: 321 ] فيقولون: وددت لو ذهبت عنا ، وددت أن تذهب عنا ، قاله الفراء ، وثعلب .
فصل
وهذه الآية مثل ضربه الله تعالى في الحسرة بسلب النعمة عند شدة الحاجة . وفيمن قصد به ثلاثة أقوال . أحدها: أنه مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه مثل للمفرط في طاعة الله تعالى حتى يموت ، قاله مجاهد . والثالث: أنه مثل للمرائي في النفقة ، ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه ، قاله السدي .
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد .
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم في سبب نزولها قولان . أحدهما: أن الأنصار كانوا إذا جذوا النخل ، جاء كل رجل بشيء من ذلك فعلقه في المسجد ، فيأكل منه فقراء المهاجرين ، وكان أناس ممن لا يرغب في الخير يجيء أحدهم بالقنو فيه الحشف والشيص ، [ ص: 322 ] فيعلقه ، فنزلت هذه الآية . هذا قول البراء بن عازب . والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر بزكاة الفطر ، فجاء رجل بتمر رديء ، فنزلت هذه الآية . هذا قول جابر بن عبد الله . وفي المراد بهذه النفقة قولان . أحدهما: أنها الصدقة المفروضة ، قاله عبيدة السلماني في آخرين . والثاني: أنها التطوع . وفي المراد بالطيب هاهنا قولان . أحدهما: أنه الجيد الأنفس ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه الحلال ، قاله أبو معقل في آخرين .
قوله تعالى: (ولا تيمموا) أي: لا تقصدوا . والتيمم في اللغة: القصد . قال ميمون بن قيس الأعشى
تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن
وفي الخبيث قولان . أحدهما: أنه الرديء ، قاله الأكثرون ، وسبب الآية يدل عليه . والثاني: أنه الحرام ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى: ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه قال ابن عباس: لو كان بعضكم يطلب من بعض حقا له ، ثم قضاه ذلك ، ولم يأخذه إلى أن يرى أنه قد أغمض عن بعض [ ص: 323 ] حقه . وقال ابن قتيبة: أصل هذا أن يصرف المرء بصره عن الشيء ، ويغمضه ، فسمي الترخص إغماضا . ومنه قول الناس للبائع: أغمض ، أي: لا تشخص ، وكن كأنك لا تبصر . وقال غيره: لما كان الرجل إذا رأى ما يكره ، أغمض عينيه ، لئلا يرى جميع ما يكره; جعل التجاوز والمساهلة في كل شيء إغماضا .
قوله تعالى: واعلموا أن الله غني قال الزجاج: لم يأمركم بالتصدق عن عوز ، لكنه بلا أخباركم ، فهو حميد على ذلك . يقال: قد غني زيد ، يغنى غنى مقصور: إذا استغنى ، وقد غني القوم: إذا نزلوا في مكان يغنيهم ، والمكان الذي ينزلون فيه مغنى . والغواني: النساء ، قيل: إنما سمين بذلك ، لأنهن غنين بجمالهن ، وقيل: بأزواجهن فأما "الحميد" فقال الخطابي: هو بمعنى المحمود ، فعيل بمعنى مفعول .
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم .
قوله تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر) قال الزجاج: يقال: وعدته أعده وعدا وعدة وموعدا وموعدة وموعودا ، ويقال: الفقر ، والفقر . ومعنى الكلام: يحملكم على أن تؤدوا في الصدقات الرديء ، يخوفكم الفقر بإعطاء الجيد . ومعنى: يعدكم الفقر ، أي: بالفقر ، وحذفت الباء . قال الشاعر:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وفي الفحشاء قولان . أحدهما: البخل . والثاني: المعاصي . قال ابن عباس: والله يعدكم مفغرة لفحشائكم ، وفضلا في الرزق .
[ ص: 324 ] يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب .
قوله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء في المراد بهذه الحكمة أحد عشر قولا . أحدها: أنها القرآن ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، والضحاك ، ومقاتل في آخرين . والثاني: معرفة ناسخ القرآن ، ومنسوخه ، ومحكمه ، ومتشابهه ، ومقدمه ، ومؤخره ، ونحو ذلك ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث: النبوة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والرابع: الفهم في القرآن ، قاله أبو العالية ، وقتادة ، وإبراهيم . والخامس: العلم والفقه ، رواه ليث عن مجاهد . والسادس: الإصابة في القول ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد . والسابع الورع في دين الله ، قاله الحسن . والثامن: الخشية لله ، قاله الربيع بن أنس . والتاسع: العقل في الدين ، قاله ابن زيد . والعاشر: الفهم ، قاله شريك . والحادي عشر: العلم والعمل ، لا يسمى الرجل حكيما إلا إذا جمعهما ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى: ومن يؤت الحكمة قرأ يعقوب بكسر تاء "يؤت" ، ووقف عليها بهاء . والمعنى: ومن يؤته الله الحكمة . وكذلك هي في قراءة ابن مسعود بهاء بعد التاء .
قوله تعالى: (وما يذكر) قال الزجاج: أي: وما يتفكر فكرا يذكره به ما قص من آيات القرآن إلا ذوو العقول . قال ابن قتيبة: "أولو" بمعنى: ذوو ، وواحد "أولو" "ذو" و"أولات": "ذات" .
وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار .
قوله تعالى: (أو نذرتم من نذر) النذر: ما أوجبه الإنسان على نفسه ، وقد يكون مطلقا ، ويكون معلقا بشرط (فإن الله يعلمه) قال مجاهد: يحصيه ، وقال الزجاج: يجازى عليه . وفي المراد بالظالمين هاهنا ، قولان . أحدهما: أنهم المشركون ، قاله مقاتل . الثاني: [ ص: 325 ] المنفقون بالمن والأذى والرياء ، والمنذرون في المعصية ، قاله أبو سليمان الدمشقي . والأنصار: المانعون . فمعناه: ما لهم مانع يمنعهم من عذاب الله .