فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 259)
من صــ 81 الى صـ 95
فأما المال الضائع من صاحبه والثمر الذي يكون في الشجر في الصحراء بلا حائط والماشية التي لا راعي عندها ونحو ذلك فلا قطع فيه لكن يعزر الآخذ ويضاعف عليه الغرم كما جاء به الحديث. وقد اختلف أهل العلم في التضعيف وممن قال به أحمد وغيره قال رافع بن خديج: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لا قطع في ثمر ولا كثر} والكثر جمار النخل. رواه أهل السنن وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: {سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله جئت أسألك عن الضالة من الإبل قال: معها حذاؤها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء فدعها حتى يأتيها باغيها.
قال: فالضالة من الغنم؟ قال: لك أو لأخيك أو للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها: قال: فالحريسة التي تؤخذ من مراتعها؟ قال: فيها ثمنها مرتين وضرب نكال. وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن.
قال: يا رسول الله: فالثمار وما أخذ منها من أكمامها قال: من أخذ منها بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال}.
رواه أهل السنن. لكن هذا سياق النسائي. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم {ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا الخائن قطع} فالمنتهب الذي ينهب الشيء والناس ينظرون والمختلس الذي يجتذب الشيء فيعلم به قبل أخذه وأما الطرار وهو البطاط الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام ونحوها فإنه يقطع على الصحيح.
وسئل - رحمه الله تعالى -:
عما يتعلق بالتهم في المسروقات في ولايته؛ فإن ترك الفحص في ذلك ضاعت الأموال وطمعت الفساق. وإن وكله إلى غيره ممن هو تحت يده غلب على ظنه أنه يظلم فيها أو يتحقق أنه لا يفي بالمقصود في ذلك؟ وإن أقدم وسأل أو أمسك المتهومين وعاقبهم خاف الله تعالى في إقدامه على أمر مشكوك فيه؟ وهو يسأل ضابطا في هذه الصورة وفي أمر قاطع الطريق؟
فأجاب:
أما التهم في السرقة وقطع الطريق ونحو ذلك فليس له أن يفوضها إلى من يغلب على ظنه أنه يظلم فيها مع إمكان أن يقيم فيها من العدول ما يقدر عليه وذلك أن الناس في التهم " ثلاثة أصناف ". " صنف " معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم. فهذا لا يحبس ولا يضرب؛ بل ولا يستحلف في أحد قولي العلماء؛ بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم.
و " الثاني " من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور. فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله. وقد قيل: يحبس شهرا. وقيل: يحبس بحسب اجتهاد ولي الأمر. والأصل في ذلك ما روى أبو داود وغيره {أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة} وقد نص على ذلك الأئمة وذلك أن هذه بمنزلة ما لو ادعى عليه مدع فإنه يحضر مجلس ولي الأمر الحاكم بينهما وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره ثم إذا سأل عنه ووجد بارا أطلق.
وإن وجد فاجرا كان من " الصنف الثالث " وهو الفاجر الذي قد عرف منه السرقة قبل ذلك أو عرف بأسباب السرقة: مثل أن يكون معروفا بالقمار والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال وليس له مال ونحو ذلك فهذا لوث في التهمة؛ ولهذا قالت طائفة من العلماء إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالي والقاضي - كما قال أشهب صاحب مالك وغيره - حتى يقر بالمال. وقالت طائفة. يضربه الوالي؛ دون القاضي كما قال ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كما ذكره القاضيان الماوردي والقاضي أبو يعلى في كتابيهما في الأحكام السلطانية وهو قول طائفة من المالكية كما ذكره الطرسوسي وغيره. ثم المتولي له أن يقصد بضربه مع تقريره عقوبته على فجوره المعروف فيكون تعزيرا وتقريرا. وليس على المتولي أن يرسل جميع المتهومين حتى يأتي أرباب الأموال بالبينة على من سرق؛ " بل قد أنزل على نبيه في قصة كانت تهمة في سرقة قوله تعالى
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} {واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما} {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا} {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا} إلى آخر الآيات وكان سبب ذلك أن قوما يقال لهم بنو أبيرق سرقوا لبعض الأنصار طعاما ودرعين فجاء صاحب المال يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء قوم يزكون المتهمين بالباطل؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم ظن صدق المزكين فلام صاحب المال: فأنزل الله هذه الآية "
ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب المال: أقم البينة؛ ولا حلف المتهمين؛ لأن أولئك المتهمين كانوا معروفين بالشر وظهرت الريبة عليهم. وهكذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة في الدماء إذا كان هناك لوث يغلب على الظن صدق المدعين؛ فإن هذه الأمور من الحدود في المصالح العامة؛ ليست من الحقوق الخاصة فلولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفك الدماء فيقتل الرجل عدوه خفية ولا يمكن أولياء المقتول إقامة البينة؛ واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم {لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم؛ ولكن اليمين على المدعى عليه} هذا فيما لا يمكن من المدعي حجة غير الدعوى فإنه لا يعطى بها شيئا ولكن يحلف المدعى عليه. فأما إذا أقام شاهدا بالمال فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم في المال بشاهد ويمين وهو قول فقهاء الحجاز وأهل الحديث كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم وإذا كان في دعوى الدم لوث فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمدعين: {أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم؟}
كذلك أمر " قطاع الطريق " وأمر " اللصوص " وهو من المصالح العامة التي ليست من الحقوق الخاصة؛ فإن الناس لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم في المساكن والطرقات إلا بما يزجرهم في قطع هؤلاء ولا يزجرهم أن يحلف كل منهم؛ ولهذا اتفق الفقهاء على أن قاطع الطريق لأخذ المال يقتل حتما وقتله حد لله؛ وليس قتله مفوضا إلى أولياء المقتول. قالوا؛ لأن هذا لم يقتله لغرض خاص معه؛ إنما قتله لأجل المال فلا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره فقتله مصلحة عامة. فعلى الإمام أن يقيم ذلك.
وكذلك " السارق " ليس غرضه في مال معين وإنما غرضه أخذ مال هذا ومال هذا كذلك كان قطعه حقا واجبا لله ليس لرب المال؛ بل رب المال يأخذ ماله وتقطع يد السارق حتى لو قال صاحب المال: أنا أعطيه مالي لم يسقط عنه القطع كما {قال صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم أنا أهبه ردائي فقال النبي صلى الله عليه وسلم فهلا فعلت قبل أن تأتي به} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال} {وقال للزبير بن العوام إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع}.
وسئل - رحمه الله تعالى -:
عن تاجر نصب عليه جماعة؛ وأخذوا مبلغا فحملهم لولي الأمر؛ وعاقبهم حتى أقروا بالمال وهم محبوسون على المال ولم يعطوه شيئا وهم مصرون على أنهم لا يعطونه شيئا؟
فأجاب:
الحمد لله، هؤلاء من كان المال بيده وامتنع من إعطائه فإنه يضرب حتى يؤدي المال الذي بيده لغيره. ومن كان قد غيب المال وجحد موضعه فإنه يضرب حتى يدل على موضعه. ومن كان متهما لا يعرف هل معه من المال شيء أم لا؛ فإنه يجوز ضربه معاقبة له على ما فعل من الكذب والظلم. ويقرر مع ذلك على المال أين هو. ويطلب منه إحضاره. والله أعلم.
[فصل من كلام الرافضي قوله في مسألة القدر عند أهل السنة يلزم تعطيل الحدود والزواجر عن المعاصي]
(فصل)
قال الرافضي: " ومنها أنه يلزم تعطيل الحدود والزواجر عن المعاصي، فإن الزنا إذا كان واقعا بإرادة الله تعالى، والسرقة إذا صدرت عن الله، وإرادته هي المؤثرة لم يجز للسلطان المؤاخذة عليها ; لأنه يصد السارق عن مراد الله، ويبعثه على ما يكرهه الله. ولو صد الواحد منا غيره عن مراده، وحمله على ما يكرهه، استحق منه اللوم. ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين ; لأن المعصية مرادة لله، والزجر عنها مراد له أيضا ".
فيقال: فيما قدمناه ما يبين الجواب عن هذا، لكن نوضح جواب هذا إن شاء الله تعالى من وجوه:
أحدها: أن الذي قدره وقضاه من ذلك هو ما وقع، دون ما لم يكن بعد.
وما وقع لا يقدر أحد أن يرده، وإنما يرد بالحدود والزواجر ما لم يقع بعد، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فقوله: " لأنه يصد السارق عن مراد الله " كذب منه ; لأنه إنما يصده عما لم يقع بعد وما لم يقع لم يرده الله. ولهذا لو حلف: ليسرقن هذا المال إن شاء الله، ولم يسرقه لم يحنث باتفاق المسلمين ; لأن الله لم يشأ سرقته.
ولكن القدرية عندهم الإرادة لا تكون إلا بمعنى الأمر فيزعمون أن السرقة إذا كانت مرادة كانت مأمورا بها.
وقد أجمع المسلمون، وعلم بالاضطرار من دينهم، أن الله لم يأمر بالسرقة. ومن قال: إن ما وقع منها مراد، يقول: إنه مراد غير مأمور به، فلا يقول أنه مأمور به إلا كافر. لكن هذا قد يقال للمباحية المحتجين بالقدر على المعاصي، فإن منهم من لا يرى أن يعارض الإنسان فيما يظنه مقدرا عليه من المعاصي، ومنهم من يرى أن يعاونه على ذلك معاونة، لما ظن أنه مراد، وهذا الفعل - وإن كان محرما ومعصية - فهم لم يصدوا عن مراد الله. فتبين أن الصد عن مراد الله ليس واقعا على كل تقدير.
الوجه الثاني: أن يقال: قد تقدم أن تناهي الناس عن المعاصي، والقبائح، والظلم، ودفع الظالم، وأخذ حق المظلوم منه، ورد احتجاج من احتج على ذلك بالقدر أمر مستقر في فطر جميع الناس وعقولهم مع إقرار جماهيرهم بالقدر، وأنه لا يمكن صلاح حالهم ولا بقاؤهم في الدنيا إذا مكنوا كل أحد أن يفعل ما يشاء من مفاسدهم ويحتج بالقدر، وقد بينا أن المحتجين بالقدر على المعاصي إذا طردوا قولهم كانوا أكفر من اليهود والنصارى، وهم شر من المكذبين بالقدر.
الوجه الثالث أن الأمور المقدورة بالاتفاق إذا كان فيها فساد يحسن ردها وإزالتها بعد وقوعها، كالمرض ونحوه فإنه من فعل الله بالاتفاق مراد لله، ومع هذا يحسن من الإنسان أن يمنع وجوده بالاحتماء واجتناب أسبابه، ويحسن منه السعي في إزالته بعد حصوله، وفي هذا إزالة مراد الله.
وإن قيل: إن قطع السارق يمنع مراد الله كان شرب الدواء لزوال المرض مانعا لمراد الله، وكذلك دفع السيل الآتي من صبب، والنار التي تريد أن تحرق الدور، وإقامة الجدار الذي يريد أن ينقض، كما أقام الخضر ذلك الجدار. وكذلك إزالة الجوع الحاصل بالأكل وإزالة البرد الحاصل بالاستدفاء، وإزالة الحر بالظل.
وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: " هي من قدر الله» ". .
فبين صلى الله عليه وسلم أنه يرد قدر الله بقدر الله إما دفعا وإما رفعا، إما دفعا لما انعقد سبب لوجوده، وإما رفعا لما وجد كرفع المرض ودفعه، ومن هذا قوله تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [سورة الرعد 11 قيل: معقبات من أمر الله يحفظونه وقيل: يحفظونه من أمر الله الذي ورد ولم يحصل يحفظونه أن يصل إليه وحفظهم بأمر الله.
الوجه الرابع قوله: ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين ; لأن المعصية مرادة لله، والزجر عنها مراد الله. كلام ساقط فإن النقيضين ما لا يجتمعان ولا يرتفعان، أو ما لا يجتمعان وهما المتضادان.
والزجر ليس عما وقع وأريد، بل هو عقوبة على الماضي وزجر عن المستقبل، والزجر الواقع بإرادته إن حصل مقصوده لم يحصل المزجور عنه فلم يرده فيكون المراد الزجر فقط، وإن لم يحصل مقصوده لم يكن زجرا تاما بل يكون المراد فعل هذا الزاجر وفعل ذاك، كما يراد ضرب هذا لهذا بهذا السيف وحياة هذا، وكما يراد المرض المخوف الذي قد يكون سببا للموت، ويراد معه الحياة.
فإرادة السبب ليست موجبة لإرادة المسبب، إلا إذا كان السبب تاما موجبا. والزجر سبب للانزجار والامتناع كسائر الأسباب، كما أن المرض المخوف سبب للموت، وكما أن الأمر بالفعل والترغيب فيه سبب لوقوعه، ثم قد يقع المسبب وقد لا يقع، فإن وقع كانا مرادين، وإلا كان المراد ما وقع خاصة.
الوجه الخامس أنه قد تقدم أن الإرادة نوعان: نوع بمعنى المشيئة لما خلق، فهذا متناول لكل حادث دون ما لا يحدث، ونوع بمعنى المحبة لما أمر به فهذا إنما يتعلق بالطاعات، وإذا كان كذلك فما وقع من المعاصي فهو مراد بالمعنى الأول، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل ما وقع فقد شاء كونه، والزجر عنها مراد بالمعنى الثاني فإنه يحب النهي عن المنكر ويرضاه ويثيب فاعله، بخلاف المنكر نفسه فإنه لا يحبه ولا يرضاه ولا يثيب فاعله، ثم الزجر إنما يكون عما لم يقع، والعقوبة تكون على ما وقع، فإذا وقعت سرقة بالقضاء والقدر وقد أمر الله سبحانه بإقامة الحد فيها فإقامة الحد مأمور به يحبه ويرضاه ويريده إرادة أمر لا إرادة خلق، فإن أعان عليه كان قد أراده خلقا، وكان حينئذ إقامة الحد مرادة شرعا وقدرا، خلقا وأمرا، قد شاءها وأحبها.
وإن لم يقع كان ما وقع من المعصية قد شاءه خلقا ولم يرده ولم يحبه شرعا.
ويذكر أن رجلا سرق فقال لعمر: سرقت بقضاء الله وقدره، فقال له: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره.
وهكذا يقال لمن تعدى حدود الله وأعان العباد على عقوبته الشرعية كما يعين المسلمين على جهاد الكفار: إن الجميع واقع بقضاء الله وقدره لكن ما أمر به يحبه ويرضاه ويريده شرعا ودينا كما شاءه خلقا وكونا بخلاف ما نهى عنه.
(سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ... (41)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
قوله: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك} قيل: اللام لام كي أي يسمعون ليكذبوا ويسمعون لينقلوا إلى قوم آخرين لم يأتوك فيكونون كذابين ونمامين جواسيس والصواب أنها لام التعدية مثل قوله: {سمع الله لمن حمده} فالسماع مضمن معنى القبول أي قابلون للكذب ويسمعون من قوم آخرين لم يأتوك ويطيعونهم فيكون ذما لهم على قبول الخبر الكاذب وعلى طاعة غيره من الكفار والمنافقين مثل قوله: {ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} أي هم يطلبون أن يفتنوكم وفيكم من يسمع منهم فيكون قد ذمهم على اتباع الباطل في نوعي الكلام خبره وإنشائه فإن باطل الخبر الكذب وباطل الإنشاء طاعة غير الرسل وهذا بعيد.
ثم قال: {سماعون للكذب أكالون للسحت} فذكر أنهم في غذائي الجسد والقلب يغتذون الحرام بخلاف من يأكل الحلال ولا يقبل إلا الصدق وفيه ذم لمن يروج عليه الكذب ويقبله أو يؤثره لموافقته هواه ويدخل فيه قبول المذاهب الفاسدة؛ لأنها كذب لا سيما إذا اقترن بذلك قبولها لأجل العوض عليها سواء كان العوض من ذي سلطان أو وقف أو فتوح أو هدية أو أجرة أو غير ذلك وهو شبيه بقوله: {إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله}. . . (1) أهل البدع وأهل الفجور الذين يصدقون بما كذب به على الله ورسوله وأحكامه والذين يطيعون الخلق في معصية الخالق.
ومثله: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} {تنزل على كل أفاك أثيم} {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} فإنما تنزلت بالسمع الذي يخلط فيه بكلمة الصدق ألف كلمة من الكذب على من هو كذاب فاجر فيكون سماعا للكذب من مسترقة السمع. ثم قال في السورة:
{لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت} فقول الإثم وسماع الكذب وأكل السحت أعمال متلازمة في العادة وللحكام منها خصوص فإن الحاكم إذا ارتشى سمع الشهادة المزورة والدعوى الفاجرة فصار سماعا للكذب أكالا للسحت قائلا للإثم. ولهذا خير نبيه صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم وبين تركه؛ لأنه ليس قصدهم قبول الحق وسماعه مطلقا؛ بل يسمعون ما وافق أهواءهم وإن كان كذبا وكذلك العلماء الذين يتقولون الروايات المكذوبة.
__________
Q (1) بياض بالأصل