تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 14 من 16 الأولىالأولى ... 45678910111213141516 الأخيرةالأخيرة
النتائج 261 إلى 280 من 314

الموضوع: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

  1. #261
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 259)

    من صــ 81 الى صـ 95

    فأما المال الضائع من صاحبه والثمر الذي يكون في الشجر في الصحراء بلا حائط والماشية التي لا راعي عندها ونحو ذلك فلا قطع فيه لكن يعزر الآخذ ويضاعف عليه الغرم كما جاء به الحديث. وقد اختلف أهل العلم في التضعيف وممن قال به أحمد وغيره قال رافع بن خديج: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لا قطع في ثمر ولا كثر} والكثر جمار النخل. رواه أهل السنن وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: {سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله جئت أسألك عن الضالة من الإبل قال: معها حذاؤها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء فدعها حتى يأتيها باغيها.
    قال: فالضالة من الغنم؟ قال: لك أو لأخيك أو للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها: قال: فالحريسة التي تؤخذ من مراتعها؟ قال: فيها ثمنها مرتين وضرب نكال. وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن.
    قال: يا رسول الله: فالثمار وما أخذ منها من أكمامها قال: من أخذ منها بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال}.
    رواه أهل السنن. لكن هذا سياق النسائي. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم {ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا الخائن قطع} فالمنتهب الذي ينهب الشيء والناس ينظرون والمختلس الذي يجتذب الشيء فيعلم به قبل أخذه وأما الطرار وهو البطاط الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام ونحوها فإنه يقطع على الصحيح.
    وسئل - رحمه الله تعالى -:

    عما يتعلق بالتهم في المسروقات في ولايته؛ فإن ترك الفحص في ذلك ضاعت الأموال وطمعت الفساق. وإن وكله إلى غيره ممن هو تحت يده غلب على ظنه أنه يظلم فيها أو يتحقق أنه لا يفي بالمقصود في ذلك؟ وإن أقدم وسأل أو أمسك المتهومين وعاقبهم خاف الله تعالى في إقدامه على أمر مشكوك فيه؟ وهو يسأل ضابطا في هذه الصورة وفي أمر قاطع الطريق؟
    فأجاب:
    أما التهم في السرقة وقطع الطريق ونحو ذلك فليس له أن يفوضها إلى من يغلب على ظنه أنه يظلم فيها مع إمكان أن يقيم فيها من العدول ما يقدر عليه وذلك أن الناس في التهم " ثلاثة أصناف ". " صنف " معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم. فهذا لا يحبس ولا يضرب؛ بل ولا يستحلف في أحد قولي العلماء؛ بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم.

    و " الثاني " من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور. فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله. وقد قيل: يحبس شهرا. وقيل: يحبس بحسب اجتهاد ولي الأمر. والأصل في ذلك ما روى أبو داود وغيره {أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة} وقد نص على ذلك الأئمة وذلك أن هذه بمنزلة ما لو ادعى عليه مدع فإنه يحضر مجلس ولي الأمر الحاكم بينهما وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره ثم إذا سأل عنه ووجد بارا أطلق.
    وإن وجد فاجرا كان من " الصنف الثالث " وهو الفاجر الذي قد عرف منه السرقة قبل ذلك أو عرف بأسباب السرقة: مثل أن يكون معروفا بالقمار والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال وليس له مال ونحو ذلك فهذا لوث في التهمة؛ ولهذا قالت طائفة من العلماء إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالي والقاضي - كما قال أشهب صاحب مالك وغيره - حتى يقر بالمال. وقالت طائفة. يضربه الوالي؛ دون القاضي كما قال ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كما ذكره القاضيان الماوردي والقاضي أبو يعلى في كتابيهما في الأحكام السلطانية وهو قول طائفة من المالكية كما ذكره الطرسوسي وغيره. ثم المتولي له أن يقصد بضربه مع تقريره عقوبته على فجوره المعروف فيكون تعزيرا وتقريرا. وليس على المتولي أن يرسل جميع المتهومين حتى يأتي أرباب الأموال بالبينة على من سرق؛ " بل قد أنزل على نبيه في قصة كانت تهمة في سرقة قوله تعالى
    {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} {واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما} {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا} {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا} إلى آخر الآيات وكان سبب ذلك أن قوما يقال لهم بنو أبيرق سرقوا لبعض الأنصار طعاما ودرعين فجاء صاحب المال يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء قوم يزكون المتهمين بالباطل؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم ظن صدق المزكين فلام صاحب المال: فأنزل الله هذه الآية "

    ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب المال: أقم البينة؛ ولا حلف المتهمين؛ لأن أولئك المتهمين كانوا معروفين بالشر وظهرت الريبة عليهم. وهكذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة في الدماء إذا كان هناك لوث يغلب على الظن صدق المدعين؛ فإن هذه الأمور من الحدود في المصالح العامة؛ ليست من الحقوق الخاصة فلولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفك الدماء فيقتل الرجل عدوه خفية ولا يمكن أولياء المقتول إقامة البينة؛ واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين.

    وقول النبي صلى الله عليه وسلم {لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم؛ ولكن اليمين على المدعى عليه} هذا فيما لا يمكن من المدعي حجة غير الدعوى فإنه لا يعطى بها شيئا ولكن يحلف المدعى عليه. فأما إذا أقام شاهدا بالمال فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم في المال بشاهد ويمين وهو قول فقهاء الحجاز وأهل الحديث كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم وإذا كان في دعوى الدم لوث فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمدعين: {أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم؟}
    كذلك أمر " قطاع الطريق " وأمر " اللصوص " وهو من المصالح العامة التي ليست من الحقوق الخاصة؛ فإن الناس لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم في المساكن والطرقات إلا بما يزجرهم في قطع هؤلاء ولا يزجرهم أن يحلف كل منهم؛ ولهذا اتفق الفقهاء على أن قاطع الطريق لأخذ المال يقتل حتما وقتله حد لله؛ وليس قتله مفوضا إلى أولياء المقتول. قالوا؛ لأن هذا لم يقتله لغرض خاص معه؛ إنما قتله لأجل المال فلا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره فقتله مصلحة عامة. فعلى الإمام أن يقيم ذلك.
    وكذلك " السارق " ليس غرضه في مال معين وإنما غرضه أخذ مال هذا ومال هذا كذلك كان قطعه حقا واجبا لله ليس لرب المال؛ بل رب المال يأخذ ماله وتقطع يد السارق حتى لو قال صاحب المال: أنا أعطيه مالي لم يسقط عنه القطع كما {قال صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم أنا أهبه ردائي فقال النبي صلى الله عليه وسلم فهلا فعلت قبل أن تأتي به} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال} {وقال للزبير بن العوام إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع}.
    وسئل - رحمه الله تعالى -:
    عن تاجر نصب عليه جماعة؛ وأخذوا مبلغا فحملهم لولي الأمر؛ وعاقبهم حتى أقروا بالمال وهم محبوسون على المال ولم يعطوه شيئا وهم مصرون على أنهم لا يعطونه شيئا؟
    فأجاب:
    الحمد لله، هؤلاء من كان المال بيده وامتنع من إعطائه فإنه يضرب حتى يؤدي المال الذي بيده لغيره. ومن كان قد غيب المال وجحد موضعه فإنه يضرب حتى يدل على موضعه. ومن كان متهما لا يعرف هل معه من المال شيء أم لا؛ فإنه يجوز ضربه معاقبة له على ما فعل من الكذب والظلم. ويقرر مع ذلك على المال أين هو. ويطلب منه إحضاره. والله أعلم.
    [فصل من كلام الرافضي قوله في مسألة القدر عند أهل السنة يلزم تعطيل الحدود والزواجر عن المعاصي]

    (فصل)
    قال الرافضي: " ومنها أنه يلزم تعطيل الحدود والزواجر عن المعاصي، فإن الزنا إذا كان واقعا بإرادة الله تعالى، والسرقة إذا صدرت عن الله، وإرادته هي المؤثرة لم يجز للسلطان المؤاخذة عليها ; لأنه يصد السارق عن مراد الله، ويبعثه على ما يكرهه الله. ولو صد الواحد منا غيره عن مراده، وحمله على ما يكرهه، استحق منه اللوم. ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين ; لأن المعصية مرادة لله، والزجر عنها مراد له أيضا ".
    فيقال: فيما قدمناه ما يبين الجواب عن هذا، لكن نوضح جواب هذا إن شاء الله تعالى من وجوه:
    أحدها: أن الذي قدره وقضاه من ذلك هو ما وقع، دون ما لم يكن بعد.

    وما وقع لا يقدر أحد أن يرده، وإنما يرد بالحدود والزواجر ما لم يقع بعد، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
    فقوله: " لأنه يصد السارق عن مراد الله " كذب منه ; لأنه إنما يصده عما لم يقع بعد وما لم يقع لم يرده الله. ولهذا لو حلف: ليسرقن هذا المال إن شاء الله، ولم يسرقه لم يحنث باتفاق المسلمين ; لأن الله لم يشأ سرقته.
    ولكن القدرية عندهم الإرادة لا تكون إلا بمعنى الأمر فيزعمون أن السرقة إذا كانت مرادة كانت مأمورا بها.
    وقد أجمع المسلمون، وعلم بالاضطرار من دينهم، أن الله لم يأمر بالسرقة. ومن قال: إن ما وقع منها مراد، يقول: إنه مراد غير مأمور به، فلا يقول أنه مأمور به إلا كافر. لكن هذا قد يقال للمباحية المحتجين بالقدر على المعاصي، فإن منهم من لا يرى أن يعارض الإنسان فيما يظنه مقدرا عليه من المعاصي، ومنهم من يرى أن يعاونه على ذلك معاونة، لما ظن أنه مراد، وهذا الفعل - وإن كان محرما ومعصية - فهم لم يصدوا عن مراد الله. فتبين أن الصد عن مراد الله ليس واقعا على كل تقدير.
    الوجه الثاني: أن يقال: قد تقدم أن تناهي الناس عن المعاصي، والقبائح، والظلم، ودفع الظالم، وأخذ حق المظلوم منه، ورد احتجاج من احتج على ذلك بالقدر أمر مستقر في فطر جميع الناس وعقولهم مع إقرار جماهيرهم بالقدر، وأنه لا يمكن صلاح حالهم ولا بقاؤهم في الدنيا إذا مكنوا كل أحد أن يفعل ما يشاء من مفاسدهم ويحتج بالقدر، وقد بينا أن المحتجين بالقدر على المعاصي إذا طردوا قولهم كانوا أكفر من اليهود والنصارى، وهم شر من المكذبين بالقدر.
    الوجه الثالث أن الأمور المقدورة بالاتفاق إذا كان فيها فساد يحسن ردها وإزالتها بعد وقوعها، كالمرض ونحوه فإنه من فعل الله بالاتفاق مراد لله، ومع هذا يحسن من الإنسان أن يمنع وجوده بالاحتماء واجتناب أسبابه، ويحسن منه السعي في إزالته بعد حصوله، وفي هذا إزالة مراد الله.
    وإن قيل: إن قطع السارق يمنع مراد الله كان شرب الدواء لزوال المرض مانعا لمراد الله، وكذلك دفع السيل الآتي من صبب، والنار التي تريد أن تحرق الدور، وإقامة الجدار الذي يريد أن ينقض، كما أقام الخضر ذلك الجدار. وكذلك إزالة الجوع الحاصل بالأكل وإزالة البرد الحاصل بالاستدفاء، وإزالة الحر بالظل.
    وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: " هي من قدر الله» ". .
    فبين صلى الله عليه وسلم أنه يرد قدر الله بقدر الله إما دفعا وإما رفعا، إما دفعا لما انعقد سبب لوجوده، وإما رفعا لما وجد كرفع المرض ودفعه، ومن هذا قوله تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [سورة الرعد 11 قيل: معقبات من أمر الله يحفظونه وقيل: يحفظونه من أمر الله الذي ورد ولم يحصل يحفظونه أن يصل إليه وحفظهم بأمر الله.
    الوجه الرابع قوله: ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين ; لأن المعصية مرادة لله، والزجر عنها مراد الله. كلام ساقط فإن النقيضين ما لا يجتمعان ولا يرتفعان، أو ما لا يجتمعان وهما المتضادان.
    والزجر ليس عما وقع وأريد، بل هو عقوبة على الماضي وزجر عن المستقبل، والزجر الواقع بإرادته إن حصل مقصوده لم يحصل المزجور عنه فلم يرده فيكون المراد الزجر فقط، وإن لم يحصل مقصوده لم يكن زجرا تاما بل يكون المراد فعل هذا الزاجر وفعل ذاك، كما يراد ضرب هذا لهذا بهذا السيف وحياة هذا، وكما يراد المرض المخوف الذي قد يكون سببا للموت، ويراد معه الحياة.
    فإرادة السبب ليست موجبة لإرادة المسبب، إلا إذا كان السبب تاما موجبا. والزجر سبب للانزجار والامتناع كسائر الأسباب، كما أن المرض المخوف سبب للموت، وكما أن الأمر بالفعل والترغيب فيه سبب لوقوعه، ثم قد يقع المسبب وقد لا يقع، فإن وقع كانا مرادين، وإلا كان المراد ما وقع خاصة.
    الوجه الخامس أنه قد تقدم أن الإرادة نوعان: نوع بمعنى المشيئة لما خلق، فهذا متناول لكل حادث دون ما لا يحدث، ونوع بمعنى المحبة لما أمر به فهذا إنما يتعلق بالطاعات، وإذا كان كذلك فما وقع من المعاصي فهو مراد بالمعنى الأول، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل ما وقع فقد شاء كونه، والزجر عنها مراد بالمعنى الثاني فإنه يحب النهي عن المنكر ويرضاه ويثيب فاعله، بخلاف المنكر نفسه فإنه لا يحبه ولا يرضاه ولا يثيب فاعله، ثم الزجر إنما يكون عما لم يقع، والعقوبة تكون على ما وقع، فإذا وقعت سرقة بالقضاء والقدر وقد أمر الله سبحانه بإقامة الحد فيها فإقامة الحد مأمور به يحبه ويرضاه ويريده إرادة أمر لا إرادة خلق، فإن أعان عليه كان قد أراده خلقا، وكان حينئذ إقامة الحد مرادة شرعا وقدرا، خلقا وأمرا، قد شاءها وأحبها.
    وإن لم يقع كان ما وقع من المعصية قد شاءه خلقا ولم يرده ولم يحبه شرعا.
    ويذكر أن رجلا سرق فقال لعمر: سرقت بقضاء الله وقدره، فقال له: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره.
    وهكذا يقال لمن تعدى حدود الله وأعان العباد على عقوبته الشرعية كما يعين المسلمين على جهاد الكفار: إن الجميع واقع بقضاء الله وقدره لكن ما أمر به يحبه ويرضاه ويريده شرعا ودينا كما شاءه خلقا وكونا بخلاف ما نهى عنه.
    (سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ... (41)
    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
    فصل:
    قوله: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك} قيل: اللام لام كي أي يسمعون ليكذبوا ويسمعون لينقلوا إلى قوم آخرين لم يأتوك فيكونون كذابين ونمامين جواسيس والصواب أنها لام التعدية مثل قوله: {سمع الله لمن حمده} فالسماع مضمن معنى القبول أي قابلون للكذب ويسمعون من قوم آخرين لم يأتوك ويطيعونهم فيكون ذما لهم على قبول الخبر الكاذب وعلى طاعة غيره من الكفار والمنافقين مثل قوله: {ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} أي هم يطلبون أن يفتنوكم وفيكم من يسمع منهم فيكون قد ذمهم على اتباع الباطل في نوعي الكلام خبره وإنشائه فإن باطل الخبر الكذب وباطل الإنشاء طاعة غير الرسل وهذا بعيد.
    ثم قال: {سماعون للكذب أكالون للسحت} فذكر أنهم في غذائي الجسد والقلب يغتذون الحرام بخلاف من يأكل الحلال ولا يقبل إلا الصدق وفيه ذم لمن يروج عليه الكذب ويقبله أو يؤثره لموافقته هواه ويدخل فيه قبول المذاهب الفاسدة؛ لأنها كذب لا سيما إذا اقترن بذلك قبولها لأجل العوض عليها سواء كان العوض من ذي سلطان أو وقف أو فتوح أو هدية أو أجرة أو غير ذلك وهو شبيه بقوله: {إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله}. . . (1) أهل البدع وأهل الفجور الذين يصدقون بما كذب به على الله ورسوله وأحكامه والذين يطيعون الخلق في معصية الخالق.

    ومثله: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} {تنزل على كل أفاك أثيم} {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} فإنما تنزلت بالسمع الذي يخلط فيه بكلمة الصدق ألف كلمة من الكذب على من هو كذاب فاجر فيكون سماعا للكذب من مسترقة السمع. ثم قال في السورة:
    {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت} فقول الإثم وسماع الكذب وأكل السحت أعمال متلازمة في العادة وللحكام منها خصوص فإن الحاكم إذا ارتشى سمع الشهادة المزورة والدعوى الفاجرة فصار سماعا للكذب أكالا للسحت قائلا للإثم. ولهذا خير نبيه صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم وبين تركه؛ لأنه ليس قصدهم قبول الحق وسماعه مطلقا؛ بل يسمعون ما وافق أهواءهم وإن كان كذبا وكذلك العلماء الذين يتقولون الروايات المكذوبة.
    __________
    Q (1) بياض بالأصل



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #262
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 260)

    من صــ 96 الى صـ 110

    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    قال تعالى: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} يقول: هم يستجيبون {لقوم آخرين} وأولئك {لم يأتوك} وأولئك {يحرفون الكلم من بعد مواضعه} يقولون لهؤلاء الذين أتوك: {إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا} كما ذكروا في سبب نزول الآية: أنهم قالوا في حد الزنا وفي القتل: اذهبوا إلى هذا النبي الأمي فإن حكم لكم بما تريدونه فاقبلوه وإن حكم بغيره فأنتم قد تركتم حكم التوراة أفلا تتركون حكمه. فهذا هو استماع المتحاكمين من أولئك الذين لم يأتوه؛ ولو كانوا بمنزلة الجاسوس لم يخص ذلك بالسماع؛ بل يرون ويسمعون وإن كانوا قد ينقلون إلى شياطينهم ما رأوه وسمعوه؛ لكن هذا من توابع كونهم يستجيبون لهم ويوالونهم. يبين ذلك أنه قال:
    {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} أي: لأسرعوا بينكم يطلبون الفتنة بينكم ثم قال: وفيكم مستجيبون لهم إذا أوضعوا خلالكم؛ ولو كان المعنى وفيكم من تجسس لهم: لم يكن مناسبا؛ وإنما المقصود: أنهم إذا أوضعوا بينكم يطلبون الفتنة وفيكم من يسمع منهم: حصل الشر.
    وأما الجس فلم يكونوا يحتاجون إليه فإنهم بين المؤمنين وهم يوضعون خلالهم. مما يبين ذلك أنه قال: {سماعون للكذب أكالون للسحت} فذكر ما يدخل في آذانهم وقلوبهم من الكلام وما يدخل في أفواههم وبطونهم من الطعام: غذاء الجسوم وغذاء القلوب فإنهما غذاءان خبيثان: الكذب والسحت وهكذا من يأكل السحت من البرطيل ونحوه: يسمع الكذب كشهادة الزور؛ ولهذا قال: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت}. فلما كان هؤلاء: يستجيبون لغير الرسول كما يستجيبون له إذا وافق آراءهم وأهواءهم لم يجب عليه الحكم بينهم فإنهم متخيرون بين القبول منه والقبول ممن يخالفه. فكان هو متخيرا في الحكم بينهم والإعراض عنهم. وإنما يجب عليه الحكم بين من لا بد له منه من المؤمنين.

    وإذا ظهر المعنى تبين فصل الخطاب في وجوب الحكم بين المعاهدين من أهل الحرب: كالمستأمن والمهادن والذمي؛ فإن فيه نزاعا مشهورا بين العلماء. قيل: ليس بواجب؛ للتخير. وقيل: بل هو واجب والتخيير منسوخ بقوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}. قال الأولون: أما الأمر هنا أن يحكم بما أنزل الله إذا حكم: فهو أمر بصفة الحكم؛ لا بأصله كقوله: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} وقوله: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}.
    وهذا أصوب؛ فإن النسخ لا يكون بمحتمل. فكيف بمرجوح. وقيل: يجب في مظالم العباد؛ دون غيرها. والخلاف في ذلك مشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره من الأئمة. وحقيقة الآية: إن كان مستجيبا لقوم آخرين لم يأتوه لم يجب عليه الحكم بينهم كالمعاهد: من المستأمن وغيره الذي يرجع إلى أمرائه وعلمائه في دارهم وكالذمي الذي إن حكم له بما يوافق غرضه وإلا رجع إلى أكابرهم وعلمائهم فيكون متخيرا بين الطاعة لحكم الله ورسوله وبين الإعراض عنه.

    وأما من لم يكن إلا مطيعا لحكم الله ورسوله ليس عنه مندوحة كالمظلوم الذي يطلب نصره من ظالمه وليس له من ينصره من أهل دينه. فهذا: ليس في الآية تخيير. وإذا كان عقد الذمة قد أوجب نصره من أهل الحرب فنصره ممن يظلمه من أهل الذمة أولى أن يوجب ذلك.
    وكذلك لو كان المتحاكم إلى الحاكم والعالم: من المنافقين الذين يتخيرون بين القبول من الكتاب والسنة وبين ترك ذلك لم يجب عليه الحكم بينهم. وهذا من حجة كثير من السلف الذين كانوا لا يحدثون المعلنين بالبدع بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هذا الباب: من لا يكون قصده في استفتائه وحكومته الحق بل غرضه من يوافقه على هواه كائنا من كان سواء كان صحيحا أو باطلا. فهذا سماع لغير ما بعث الله به رسوله؛ فإن الله إنما بعث رسوله بالهدى ودين الحق فليس على خلفاء رسول الله أن يفتوه ويحكموا له كما ليس عليهم أن يحكموا بين المنافقين والكافرين المستجيبين لقوم آخرين لم يستجيبوا لله ورسوله.
    [فصل: وقوع التبديل في ألفاظ التوراة والإنجيل وانقطاع سندهما]
    ومن حجة الجمهور الذين يمنعون أن تكون جميع ألفاظ هذه الكتب المتقدمة الموجودة عند أهل الكتاب منزلة من عند الله لم يقع فيها تبديل، ويقولون أنه وقع التبديل في بعض ألفاظها ويقولون أنه لم يعلم أن ألفاظها منزلة من عند الله فلا يجوز أن يحتج بما فيها من الألفاظ في معارضة ما علم ثبوته أنهم قالوا: التوراة والإنجيل الموجودة اليوم بيد أهل الكتاب لم تتواتر عن موسى وعيسى - عليهما السلام - أما التوراة، فإن نقلها انقطع لما خرب بيت المقدس أولا، وأجلى منه بنو إسرائيل، ثم ذكروا أن الذي أملاها عليهم بعد ذلك شخص واحد يقال له عزرا وزعموا أنه نبي.
    ومن الناس من يقول أنه لم يكن نبيا وأنها قوبلت بنسخة وجدت عتيقة.
    وقد قيل أنه أحضرت نسخة كانت بالمغرب وهذا كله لا يوجب تواتر جميع ألفاظها ولا يمنع وقوع الغلط في بعضها ; كما يجري مثل ذلك في الكتب التي يلي نسخها ومقابلتها وحفظها القليل الاثنان والثلاثة.

    وأما الإنجيل الذي بأيديهم فهم معترفون بأنه لم يكتبه المسيح - عليه السلام - ولا أملاه على من كتبه وإنما أملوه بعد رفع المسيح متى ويوحنا وكانا قد صحبا المسيح ولم يحفظه خلق كثير يبلغون عدد التواتر، ومرقس ولوقا وهما لم يريا المسيح - عليه السلام - وقد ذكر هؤلاء أنهم ذكروا بعض ما قاله المسيح وبعض أخباره وأنهم لم يستوعبوا ذكر أقواله وأفعاله.
    ونقل اثنين وثلاثة وأربعة يجوز عليه الغلط لا سيما وقد غلطوا في المسيح نفسه حتى اشتبه عليهم بالمصلوب، ولكن النصارى يزعمون أن الحواريين رسل الله مثل عيسى ابن مريم وموسى - عليهما السلام - وأنهم معصومون وأنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل وأن لهم معجزات وقالوا لهم هذه التوراة وهذا الإنجيل ويقرون مع هذا بأنهم ليسوا بأنبياء فإذا لم يكونوا أنبياء فمن ليس بنبي ليس بمعصوم من الخطأ ولو كان من أعظم أولياء الله ولو كان له خوارق عادات فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من أفاضل الصحابة عند المسلمين أفضل من الحواريين ولا معصوم عندهم إلا من كان نبيا.

    ودعوى أنهم رسل الله مع كونهم ليسوا بأنبياء تناقض، وكونهم رسل الله هو مبني على كون المسيح هو الله، فإنهم رسل المسيح وهذا الأصل باطل، ولكن في طريق المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن نمنعهم في هذا المقام ونطالبهم بالدليل على أنهم رسل الله وليس لهم على ذلك دليل، فإنه لا يثبت أنهم رسل الله إن لم يثبت أن المسيح هو الله وإثباتهم أن المسيح هو الله إما أن يكون بالعقل أو بالسمع. والعقل لا يثبت ذلك بل يحيله وهم لا يدعون ثبوت ذلك بالعقل.
    بل غاية ما يدعون إثبات إمكانه بالعقل لا إثبات وجوده مع أن ذلك أيضا باطل وإنما يدعون ثبوت وجوده بالسمع وهو ما ينقلونه عن الأنبياء من ألفاظ يدعون ثبوتها عن الأنبياء، ودلالتها على أن المسيح هو الله كسائر من يحتج بالحجة السمعية، فإن عامة بيان صحة الإسناد دون بيان دلالة المتن وكلا المقدمتين باطلة.
    ولكن يقال لهم في هذا المقام أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو الله إلا بهذه الكتب ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رسل الله معصومون ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن المسيح هو الله فصار ذلك دورا ممتنعا.
    فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله فصار ثبوت الإلهية متوقفا على ثبوت إلهيته، وثبوت كونهم رسل الله متوقفا على كونهم رسل الله فصار ذلك دورا ممتنعا.
    قد يدعون عصمة الحواريين وعصمة أهل المجامع بعد الحواريين كأهل المجمع الأول الذي كان بحضرة قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر ووضعوا لهم الأمانة التي هي عقيدة النصارى التي لا يصح لهم قربان إلا بها فيزعمون أن الحواريين أو هؤلاء جرت على أيديهم خوارق وقد يذكرون أن منهم من جرى إحياء الموتى على يديه وهذا إذا كان صحيحا مع أن صاحبه لم يذكر أنه نبي لا يدل على عصمته، فإن أولياء الله من الصحابة والتابعين بعدهم بإحسان وسائر أولياء الله من هذه الأمة وغيرها لهم من خوارق العادات ما يطول وصفه وليس فيهم معصوم يجب قبول كل ما يقول بل يجوز الغلط على كل واحد منهم، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الأنبياء - عليهم السلام -.
    ولهذا أوجب الله الإيمان بما أوتيه الأنبياء ولم يجب الإيمان بكل ما يقوله كل ولي لله.

    قال - تعالى -: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم} [البقرة: 136] وقال - تعالى -: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177] ولهذا وجب الإيمان بالأنبياء جميعهم وما أوتوه كلهم.
    ومن كذب نبيا واحدا تعلم نبوته فهو كافر باتفاق المسلمين ومن سبه وجب قتله كذلك بخلاف من ليس بنبي، فإنه لا يكفر أحد بمخالفته ولا يقتل بمجرد سبه إلا أن يقترن بالسب ما يكون مبيحا للدم.

    والذي عليه سلف الأمة كالصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين وجماهير المسلمين أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر وليس بعد الأنبياء أفضل منهما، وهذه الأمة أفضل الأمم وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قد كان قبلكم في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» والمحدث الملهم المخاطب.
    وكان عمر قد جعل الله الحق على قلبه ولسانه وما كان يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان ; كما يقول وكانت السكينة تنطق على لسانه ومع هذا فلم يكن لا هو ولا غيره ممن ليس بنبي معصوما من الغلط ولا يجب على المسلم قبول ما يقوله: إن لم يدل عليه الكتاب والسنة ولا كان يجوز له العمل بما يلقى في قلبه إن لم يعرضه على الكتاب والسنة، فإن وافق ذلك قبله وإن خالف ذلك رده.
    وعند المسلمين أنه ليس في أتباع المسيح - عليه السلام - مثل أبي بكر وعمر - رضوان الله عليهما - فإذا قالوا عن الحواريين: أنهم ليسوا معصومين فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من الحواريين، كما أنهم إذا قالوا: عن المسيح أنه عبد مخلوق ليس بإله فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من المسيح كمحمد وإبراهيم - عليهما أفضل الصلاة والسلام -.
    وفي الملاحدة المنتسبين إلى الأمة من فيه بدع من الغلو يشبه غلو النصارى كمن يدعي الإلهية من الإسماعيلية كبني عبيد القداح كالحاكم وغيره ويدعي الإلهية في علي بن أبي طالب أو غيره كدعوى النصيرية وهؤلاء كفار عند المسلمين.
    وكذلك من يدعي الإلهية في بعض المشايخ كغلاة العدوية والحلاجية واليونسية وغيرهم وكذلك من يدعي عصمة بني عبيد أو عصمة الإثني عشر أو عصمة بعض المشايخ.
    فإن النصارى يدعون عصمة الحواريين الإثني عشر وهؤلاء يدعون عصمة الأئمة الإثني عشر.
    وهؤلاء يسندون أصل دينهم إلى قول الحواريين المعصومين عندهم ويقولون أنهم معصومون في النقل عن المسيح وفي الفتيا وإن ما قالوه فقد قاله المسيح - عليه الصلاة والسلام -.
    وهؤلاء يقولون عن أولئك أنهم معصومون في النقل والفتيا وإن ما قالوه فقد قاله الرسول - عليه الصلاة والسلام - وهذا مبسوط في موضع آخر.
    والمقصود هنا أنه ليس مع النصارى نقل متواتر عن المسيح بألفاظ هذه الأناجيل ولا نقل لا متواتر ولا آحاد بأكثر ما هم عليه من الشرائع ولا عندهم ولا عند اليهود نقل متواتر بألفاظ التوراة ونبوات الأنبياء كما عند المسلمين نقل متواتر بالقرآن وبالشرائع الظاهرة المعروفة للعامة والخاصة وهذا مثل الأمانة التي هي أصل دينهم وصلاتهم إلى المشرق وإحلال الخنزير وترك الختان وتعظيم الصليب واتخاد الصور في الكنائس وغير ذلك من شرائعهم ليست منقولة عن المسيح ولا لها ذكر في الأناجيل التي ينقلونها عنه وهم متفقون على أن الأمانة التي جعلوها أصل دينهم وأساس اعتقادهم ليست ألفاظها موجودة في الأناجيل ولا هي مأثورة عن الحواريين وهم متفقون على أن الذين وضعوها أهل المجمع الأول الذين كانوا عند قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر وخالفوا عبد الله بن أريوس الذي جعل المسيح عبدا لله كما يقول المسلمون ووضعوا هذه الأمانة.
    وهذا المجمع كان بعد المسيح بمدة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة وبسط هذا له موضع آخر وإنما المقصود هنا الجواب عن قولهم: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ثبت ما معهم وأنه نفى عن إنجيلهم وكتبهم التي بأيديهم التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.

    وقد تبين أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يصدق شيئا من دينهم المبدل والمنسوخ، ولكن صدق الأنبياء قبله وما جاءوا به وأثنى على من اتبعهم لا على من خالفهم أو كذب نبيا من الأنبياء. وإن كفر النصارى من جنس كفر اليهود، فإن اليهود بدلوا معاني الكتاب الأول وكذبوا بالكتاب الثاني: وهو الإنجيل وكذلك النصارى بدلوا معاني الكتاب الأول التوراة والإنجيل وكذبوا بالكتاب الثاني: وهو القرآن وأنهم ادعوا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - صدق بجميع ألفاظ الكتب التي عندهم.
    فجمهور المسلمين يمنعون هذا ويقولون إن بعض ألفاظها بدل ; كما قد بدل كثير من معانيها، ومن المسلمين من يقول: التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها وهذا القول يقر به عامة اليهود والنصارى.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #263
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 261)

    من صــ 111 الى صـ 125

    وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ لَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا كَفَّرَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتُهُ مِثْلِ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ وَتَغْيِيرِ شَرِيعَةِ الْمَسِيحِ وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ فِي الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ مَا يَدُلُّ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا عَلَى الْأَمَانَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ دِينِهِمْ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ وَلَا فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرِ شَرَائِعِهِمْ كالصلاة إلى الشرق واستحلال المحرمات من الخنزير والميتة ونحو ذلك، كما قد بسط في موضع آخر.
    ويقال لهم: أين ما معكم عن محمد - صلى الله عليه وسلم - مما يدل على أن ألفاظ الكتب التي بأيديكم لم يغير فيها شيء ومعلوم أن المسلمين وغيرهم إذا اختلفوا لم يكن قول فريق حجة على الفريق الآخر.
    فإذا كان المسلمون قد اختلفوا في تبديل بعض ألفاظ الكتب المتقدمة لم يكن قول فريق حجة على الأخرى ولا يجوز لأحد من المسلمين ولا منكم أن يضيف إلى الرسول قولا إلا بدليل.
    فأين في القرآن والسنة الثابتة عن محمد - صلى الله عليه وسلم - أن جميع ما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل والزبور ونبوات الأنبياء لم تبدل بشيء من ألفاظها حتى يقولوا: إن محمدا نفى عن كتبهم ذلك؟.

    وهؤلاء بنوا كلامهم على أن ألفاظ كتبهم تدل على صحة دينهم الذي هم عليه بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وبعد تكذيبهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه لم يبدل شيء من ألفاظها.
    وقد تبين فساد ذلك من وجوه متعددة.
    ثم زعموا أن المسلمين يدعون أن ألفاظ هذه الكتب حرفت كلها بجميع لغاتها بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا القول لم يقله أحد من المسلمين فيما أعلم وظنوا أنهم بالجواب عن هذا يكونون قد أجابوا المسلمين.

    (فصل)
    (سئل شيخ الإسلام عن كتاب ظهر بين الناس فيه أباطيل تخالف ما في كتاب الله)
    ما تقول السادة العلماء - أئمة الدين وهداة المسلمين -:

    في كتاب بين أظهر الناس زعم مصنفه أنه وضعه وأخرجه للناس بإذن النبي صلى الله عليه وسلم في منام زعم أنه رآه؛ وأكثر كتابه ضد لما أنزله الله من كتبه المنزلة وعكس وضد عن أقوال أنبيائه المرسلة؛ فمما قال فيه: إن آدم عليه السلام إنما سمي إنسانا لأنه للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر. وقال في موضع آخر: إن الحق المنزه هو الخلق المشبه. وقال في قوم نوح عليه السلام إنهم لو تركوا عبادتهم لود وسواع ويغوث ويعوق ونسر: لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء. ثم قال: فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله. فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة: كالأعضاء في الصورة المحسوسة. ثم قال في قوم هود عليه السلام بأنهم حصلوا في عين القرب فزال البعد فزال مسمى جهنم في حقهم ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق مما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة فإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها وكانوا على صراط الرب المستقيم.

    ثم إنه أنكر فيه حكم الوعيد في حق كل من حقت عليه كلمة العذاب من سائر العبيد فهل يكفر من يصدقه في ذلك أم لا؟ أو يرضى به منه أم لا؟ وهل يأثم سامعه إذا كان عاقلا بالغا ولم ينكره بلسانه أو بقلبه أم لا؟ أفتونا بالوضوح والبيان كما أخذ الميثاق للتبيان فقد أضر الإهمال بالضعفاء والجهال والله المستعان وعليه الاتكال أن يعجل بالملحدين النكال؛ لصلاح الحال وحسم مادة الضلال.

    فأجاب:الحمد لله، هذه الكلمات المذكورة المنكورة: كل كلمة منها هي من الكفر الذي لا نزاع فيه بين أهل الملل من المسلمين؛ واليهود والنصارى؛ فضلا عن كونه كفرا في شريعة الإسلام. فإن قول القائل: إن آدم للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر: يقتضي أن آدم جزء من الحق تعالى وتقدس وبعض منه وأنه أفضل أجزائه وأبعاضه؛ وهذا هو حقيقة مذهب هؤلاء القوم وهو معروف من أقوالهم. الكلمة الثانية: توافق ذلك وهو قوله: إن الحق المنزه هو الخلق المشبه. ولهذا قال في تمام ذلك: فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة {فانظر ماذا ترى} {يا أبت افعل ما تؤمر} والولد عين أبيه فما رأى يذبح سوى نفسه ففديناه بذبح عظيم فظهر بصورة كبش: من ظهر بصورة إنسان وظهر بصورة؛ لا بحكم ولد من هو عين الوالد {وخلق منها زوجها} فما نكح سوى نفسه.

    وقال في موضع: وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال: إن العالم صورته وهويته. وقال: ومن أسمائه الحسنى العلي على من وما ثم إلا هو وعن ماذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات. فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو. إلى أن قال: فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وما ثم من ينطق عنه سواه فهو ظاهر لنفسه باطن عنه - وهو المسمى أبو سعيد الخراز - وغير ذلك من أسماء المحدثات. إلى أن قال: فالعلي لنفسه: هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة. وقال: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات؟ وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق فهي من أولها إلى آخرها صفات له كما هي صفات المحدثات حق للحق وأمثال هذا الكلام. فإن صاحب هذا الكتاب المذكور الذي هو فصوص الحكم وأمثاله مثل صاحبه القونوي والتلمساني وابن سبعين والششتري وابن الفارض وأتباعهم؛ مذهبهم الذي هم عليه: أن الوجود واحد؛ ويسمون أهل وحدة الوجود ويدعون التحقيق والعرفان وهم يجعلون وجود الخالق عين وجود المخلوقات فكل ما يتصف به المخلوقات من حسن وقبيح ومدح وذم إنما المتصف به عندهم: عين الخالق وليس للخالق عندهم وجود مباين لوجود المخلوقات منفصل عنها أصلا؛ بل عندهم ما ثم غير أصلا للخالق ولا سواه. ومن كلماتهم: ليس إلا الله. فعباد الأصنام لم يعبدوا غيره عندهم لأنه ما عندهم له غير؛ ولهذا جعلوا قوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} بمعنى قدر ربك أن لا تعبدوا إلا إياه؛ إذ ليس عندهم غير له تتصور عبادته فكل عابد صنم إنما عبد الله. ولهذا جعل صاحب هذا الكتاب: عباد العجل مصيبين وذكر أن موسى أنكر على هارون إنكاره عليهم عبادة العجل. وقال: كان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل؛ لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبدوا إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع؛ فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتباعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء.
    ولهذا يجعلون فرعون من كبار العارفين المحققين وأنه كان مصيبا في دعواه الربوبية. كما قال في هذا الكتاب: ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت وأنه جار في العرف الناموسي لذلك. قال: {أنا ربكم الأعلى}أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما: فأنا الأعلى منهم؛ بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيهم. ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله: لم ينكروه؛ بل أقروا له بذلك وقالوا له: {فاقض ما أنت قاض} فالدولة لك فصح قول فرعون: {أنا ربكم الأعلى} وأنه كان عين الحق. ويكفيك معرفة بكفرهم: أن من أخف أقوالهم أن فرعون مات مؤمنا؛ بريا من الذنوب كما قال: وكان موسى قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق فقبضه طاهرا مطهرا ليس فيه شيء من الخبث لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام والإسلام يجب ما قبله. وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى: أن فرعون من أكفر الخلق بالله؛ بل لم يقص الله في القرآن قصة كافر باسمه الخاص أعظم من قصة فرعون ولا ذكر عن أحد من الكفار من كفره وطغيانه وعلوه: أعظم مما ذكر عن فرعون.
    وأخبر عنه وعن قومه أنهم يدخلون أشد العذاب فإن لفظ آل فرعون: كلفظ آل إبراهيم وآل لوط وآل داود وآل أبي أوفى؛ يدخل فيها المضاف باتفاق الناس فإذا جاءوا إلى أعظم عدو لله من الإنس أو من هو من أعظم أعدائه: فجعلوه مصيبا محقا فيما كفره به الله: علم أن ما قالوه أعظم من كفر اليهود والنصارى فكيف بسائر مقالاتهم؟.

    وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها: على أن الخالق تعالى بائن من مخلوقاته ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته. والسلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا إنه في كل مكان وكان مما أنكروه عليهم: أنه كيف يكون في البطون والحشوش والأخلية؟ تعالى الله عن ذلك. فكيف بمن يجعله نفس وجود البطون والحشوش والأخلية والنجاسات والأقذار؟. واتفق سلف الأمة وأئمتها: أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته. ولا في أفعاله وقال: من قال من الأئمة من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها. وأين المشبهة المجسمة من هؤلاء؟ فإن هؤلاء غاية كفرهم: أن يجعلوه مثل المخلوقات. لكن يقولون: هو قديم وهي محدثة وهؤلاء جعلوه عين المخلوقات وجعلوه نفس الأجسام المصنوعات ووصفوه بجميع النقائص والآفات التي يوصف بهما كل كافر وكل فاجر وكل شيطان وكل سبع وكل حية من الحيات فتعالى الله عن إفكهم وضلالهم وسبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. والله تعالى ينتقم لنفسه ولدينه ولكتابه ولرسوله ولعباده المؤمنين منهم.

    وهؤلاء يقولون: إن النصارى إنما كفروا لتخصيصهم؛ حيث قالوا: {إن الله هو المسيح} فكلما قالته النصارى في المسيح: يقولونه في الله وكفر النصارى جزء من كفر هؤلاء. ولما قرءوا هذا الكتاب المذكور على أفضل متأخريهم؛ قال له قائل: هذا الكتاب يخالف القرآن. فقال: القرآن كله شرك. وإنما التوحيد في كلامنا هذا: يعني أن القرآن يفرق بين الرب والعبد وحقيقة التوحيد عندهم أن الرب هو العبد؛ فقال له القائل: فأي فرق بين زوجتي وبنتي إذا؟ قال: لا فرق لكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم. وهؤلاء إذا قيل في مقالتهم إنها كفر: لم يفهم هذا اللفظ حالها فإن الكفر جنس تحته أنواع متفاوتة بل كفر كل كافر جزء من كفرهم؛ ولهذا قيل لرئيسهم أنت نصيري. فقال: نصير جزء مني وكان عبد الله بن المبارك يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وهؤلاء شر من أولئك الجهمية فإن أولئك كان غايتهم القول بأن الله في كل مكان وهؤلاء قولهم أنه وجود كل مكان؛ ما عندهم موجودان؛ أحدهما حال والآخر محل. ولهذا قالوا: إن آدم من الله بمنزلة إنسان العين من العين وقد علم المسلمون واليهود والنصارى؛بالاضط رار من دين المرسلين: أن من قال عن أحد من البشر إنه جزء من الله فإنه كافر في جميع الملل إذ النصارى لم تقل هذا
    - وإن كان قولها من أعظم الكفر - لم يقل أحد إن عين المخلوقات هي جزء الخالق ولا أن الخالق هو المخلوق ولا الحق المنزه هو الخلق المشبه.

    وكذلك قوله: إن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام لجهلوا من الحق: بقدر ما تركوا منها: هو من الكفر المعلوم بالاضطرار من جميع الملل فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا عن عبادة الأصنام وكفروا من يفعل ذلك وأن المؤمن لا يكون مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الأصنام وكل معبود سوى الله كما قال الله تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده}. وقال الخليل: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} {أنتم وآباؤكم الأقدمون} {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} وقال الخليل: {لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون} {إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} وقال الخليل - وهو إمام الحنفاء الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب واتفق أهل الملل على تعظيمه لقوله - {يا قوم إني بريء مما تشركون} {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين}. وهذا أكثر وأظهر عند أهل الملل من. اليهود والنصارى - فضلا عن المسلمين -


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #264
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 262)

    من صــ 126 الى صـ 140

    مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِنَصِّ خَاصٍّ فَمَنْ قَالَ: إنَّ عُبَّادَ الأصنام لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء فهو أكفر من اليهود والنصارى ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى؛ فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام فكيف من يجعل تارك عبادة الأصنام جاهلا من الحق بقدر ما ترك منها؟ مع قوله: فإن العالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية فما عبد غير الله في كل معبود بل هو أعظم من كفر عباد الأصنام؛ فإن أولئك اتخذوهم شفعاء ووسائط كما قالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}. وقال الله تعالى: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون}. وكانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالق الأصنام كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} وقال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}. قال ابن عباس: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله ثم يعبدون غيره وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك؛ ولهذا قال تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم}. وهؤلاء أعظم كفرا من جهة أن هؤلاء جعلوا عابد الأصنام عابدا لله لا عابدا لغيره وأن الأصنام من الله؛ بمنزلة أعضاء الإنسان من الإنسان وبمنزلة قوى النفس من النفس؛ وعباد الأصنام: اعترفوا بأنها غيره وأنها مخلوقة ومن جهة أن عباد الأصنام من العرب: كانوا مقرين بأن للسموات والأرض ربا غيرهما خلقهما وهؤلاء ليس عندهم للسموات والأرض وسائر المخلوقات رب مغاير للسموات والأرض وسائر المخلوقات بل المخلوق هو الخالق.

    ولهذا جعل قوم عاد وغيرهم من الكفار على صراط مستقيم وجعلهم في عين القرب وجعل أهل النار يتمتعون في النار كما يتمتع أهل الجنة في الجنة. وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن قوم عاد وثمود وفرعون وقومه وسائر من قص الله قصته من الكفار أعداء الله وأنهم معذبون في الآخرة وأن الله لعنهم وغضب عليهم فمن أثنى عليهم وجعلهم من المقربين ومن أهل النعيم: فهو أكفر من اليهود والنصارى من هذا الوجه. وهذه الفتوى لا تحتمل بسط كلام هؤلاء وبيان كفرهم وإلحادهم فإنهم من جنس القرامطة الباطنية والإسماعيلية الذين كانوا أكفر من اليهود والنصارى وأن قولهم يتضمن الكفر بجميع الكتب والرسل كما قال الشيخ إبراهيم الجعبري لما اجتمع بابن عربي - صاحب هذا الكتاب - فقال: رأيته شيخا نجسا يكذب بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله.

    وقال الفقيه أبو محمد بن عبد السلام - لما قدم القاهرة وسألوه عنه - قال: هو شيخ سوء كذاب مقبوح يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا فقوله: يقول بقدم العالم؛ لأن هذا قوله وهذا كفر معروف فكفره الفقيه أبو محمد بذلك ولم يكن بعد ظهر من قوله: إن العالم هو الله وإن العالم صورة الله وهوية الله فإن هذا أعظم من كفر القائلين بقدم العالم الذين يثبتون واجب الوجود ويقولون إنه صدر عنه الوجود الممكن. وقال عنه من عاينه من الشيوخ: إنه كان كذابا مفتريا وفي كتبه - مثل الفتوحات المكية وأمثالها - من الأكاذيب ما لا يخفى على لبيب - هذا وهو أقرب إلى الإسلام من ابن سبعين ومن القونوي والتلمساني وأمثاله من أتباعه فإذا كان الأقرب بهذا الكفر - الذي هو أعظم من كفر اليهود والنصارى - فكيف بالذين هم أبعد عن الإسلام؟ ولم أصف عشر ما يذكرونه من الكفر. ولكن هؤلاء التبس أمرهم على من لم يعرف حالهم كما التبس أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون وانتسبوا إلى التشيع فصار المتبعون مائلين إليهم غير عالمين بباطن كفرهم. ولهذا كان من مال إليهم أحد رجلين: إما زنديقا منافقا؛ وإما جاهلا ضالا.
    وهكذا هؤلاء الاتحادية: فرءوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم ولا تقبل توبة زنديقا منافقا؛ وإما جاهلا ضالا. وهكذا هؤلاء الاتحادية: فرءوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة فإنه من أعظم الزنادقة الذين يظهرون الإسلام ويبطنون أعظم الكفر وهم الذين يفهمون قولهم ومخالفتهم لدين المسلمين ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو ذب عنهم أو أثنى عليهم أو عظم كتبهم أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم أو كره الكلام فيهم أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو أو من قال إنه صنف هذا الكتاب وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق؛ بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات؛ لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء وهم يسعون في الأرض فسادا ويصدون عن سبيل الله. فضررهم في الدين: أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم ويترك دينهم كقطاع الطريق وكالتتار الذين يأخذون منهم الأموال ويبقون لهم دينهم ولا يستهين بهم من لم يعرفهم فضلالهم وإضلالهم: أعظم من أن يوصف وهم أشبه الناس بالقرامطة الباطنية. ولهذا هم يريدون دولة التتار ويختارون انتصارهم على المسلمين إلا من كان عاميا من شيعهم وأتباعهم فإنه لا يكون عارفا بحقيقة أمرهم. ولهذا يقرون اليهود والنصارى على ما هم عليه ويجعلونهم على حق كما يجعلون عباد الأصنام على حق وكل واحدة من هذه من أعظم الكفر ومن

    كان محسنا للظن بهم - وادعى أنه لم يعرف حالهم - عرف حالهم فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار وإلا ألحق بهم وجعل منهم. وأما من قال لكلامهم تأويل يوافق الشريعة؛ فإنه من رءوسهم وأئمتهم؛ فإنه إن كان ذكيا فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرا فهو أكفر من النصارى فمن لم يكفر هؤلاء وجعل لكلامهم تأويلا كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتحاد أبعد. والله أعلم.
    (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (43)

    [فصل: دعوة أهل الكتاب إلى الحكم بما في كتبهم من الألفاظ الصحيحة]
    والصحيح أن هذه التوراة الذي بأيدي أهل الكتاب فيها ما هو حكم الله وإن كان قد بدل وغير بعض ألفاظهما كقوله - تعالى -: {ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم} [المائدة: 41]
    إلى قوله: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله} [المائدة: 43] فعلم أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت المقدس وبعد مجيء بختنصر وبعد مبعث المسيح وبعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - فيها حكم الله.
    والتوراة التي كانت عند يهود المدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن قيل: أنه غير بعض ألفاظها بعد مبعثه فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك، فإن هذا غير معلوم لنا وهو أيضا متعذر بل يمكن تغيير كثير من النسخ وإشاعة ذلك عند الأتباع حتى لا يوجد عند كثير من الناس إلا ما غير بعد ذلك ومع هذا فكثير من نسخ التوراة والإنجيل متفقة في الغالب إنما تختلف في اليسير من ألفاظها فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ بعد مبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممكن لا يمكن أحد أن يجزم بنفيه ولا يقدر أحد من اليهود والنصارى أن يشهد بأن كل نسخة في العالم بالكتابين متفقة الألفاظ إذ هذا لا سبيل لأحد إلى علمه، والاختلاف اليسير في ألفاظ هذه الكتب موجود في الكثير من النسخ، كما قد تختلف نسخ بعض كتب الحديث أو تبدل بعض ألفاظ بعض النسخ، وهذا خلاف القرآن المجيد الذي حفظت ألفاظه في الصدور بالنقل المتواتر لا يحتاج أن يحفظ في كتاب ; كما قال - تعالى -: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] وذلك أن اليهود قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عهده وبعده منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها وعندهم نسخ كثيرة من التوراة.

    وكذلك النصارى عندهم نسخ كثيرة من التوراة ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ وتبديلها ولو كان ذلك ممكنا لكان هذا من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وكذلك في الإنجيل قال - تعالى -: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47] فعلم أن في هذا الإنجيل حكما أنزله الله تعالى لكن الحكم هو من باب الأمر والنهي وذلك لا يمنع أن يكون التغيير في باب الأخبار وهو الذي وقع فيه التبديل لفظا وأما الأحكام التي في التوراة فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها.
    وقد ذكر طائفة من العلماء أن قوله - تعالى -: في الإنجيل {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47] هو خطاب لمن كان على دين المسيح قبل النسخ والتبديل لا الموجودين بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -.

    وهذا القول يناسب مناسبة ظاهرة لقراءة من قرأ " وليحكم أهل الإنجيل " بكسر اللام كقراءة حمزة فإن هذه لام كي، فإنه تعالى قال {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين - وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 46 - 47]
    فإذا قرئ " وليحكم " كان المعنى وآتيناه الإنجيل لكذا وكذا وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وهذا يوجب الحكم بما أنزل الله في الإنجيل الحق لا يدل على أن الإنجيل الموجود في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو ذلك الإنجيل.
    وأما قراءة الجمهور {وليحكم أهل الإنجيل} [المائدة: 47] فهو أمر بذلك، فمن العلماء من قال: هو أمر لمن كان الإنجيل الحق موجودا عندهم أن يحكموا بما أنزل الله فيه وعلى هذا يكون قوله - تعالى -: " وليحكم " أمر لهم قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال: آخرون لا حاجة إلى هذا التكلف، فإن القول في الإنجيل كالقول في التوراة وقد قال - تعالى -:{ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم - سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين - وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين - إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون - وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون - وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل} [المائدة: 41 - 46] فهذا قد صرح بأن أولئك الذين تحاكموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود عندهم التوراة فيها حكم الله، ثم تولوا عن حكم الله وقال: بعد ذلك {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47] وهذه لام الأمر وهو أمر من الله أنزله على لسان محمد وأمر من مات قبل هذا الخطاب ممتنع وإنما يكون الأمر أمرا لمن آمن به من بعد خطاب الله لعباده بالأمر فعلم أنه أمر لمن كان موجودا حينئذ أن يحكموا بما أنزل الله في الإنجيل، والله أنزل في الإنجيل الأمر باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما أمر به في التوراة فليحكموا بما أنزل الله في الإنجيل مما لم ينسخه محمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما أمر أهل التوراة أن يحكموا بما أنزله مما لم ينسخه المسيح وما نسخه فقد أمروا فيها باتباع المسيح وقد أمروا في الإنجيل باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - فمن حكم من أهل الكتاب بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بما أنزل الله في التوراة والإنجيل لم يحكم بما يخالف حكم محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ كانوا مأمورين في التوراة والإنجيل باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما قال - تعالى -: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] وقال - تعالى -: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} [المائدة: 48].
    فجعل القرآن مهيمنا. والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيها مما لم ينسخه الله ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يبدل ولهذا قال {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} [المائدة: 48] وقد ثبت في الصحاح والسنن والمساند هذا. ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: «إن اليهود جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال: لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تجدون في التوراة في شأن الرجم قالوا: نفضحهم ويجلدون فقال: عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا: صدق يا محمد فأمر بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجما».

    وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال: «أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق حتى جاء يهود فقال: ما تجدون في التوراة على من زنى قالوا: نسود وجوههما ويطاف بهما قال: {فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93] قال: فجاءوا بها فقرأوها حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها فقال عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم قالوا: صدق فيها آية الرجم، ولكننا نتكاتمه بيننا وأن أحبارنا أحدثوا التحميم والتجبية فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجمهما فرجما».


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #265
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 263)

    من صــ 141 الى صـ 155


    وأخرج مسلم عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه قال: «مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم فدعى رجلا من علمائهم فقال: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم، فأنزل الله تعالى {ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم} [المائدة: 41] إلى قوله: فأولئك هم الكافرون إلى الظالمون إلى الفاسقون قال: هي في الكفار كلها».

    وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: «رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا من أسلم ورجلا من اليهود».
    وأما السنن ففي سنن أبي داود عن زيد بن أسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: «أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القف فأتاهم في بيت المدراس فقالوا: يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بينهم فوضعوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسادة فجلس عليها، ثم قال: ائتوني التوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال: آمنت بك وبمن أنزلك، ثم قال: ائتوني بأعلمكم فأتي بشاب، ثم ذكر قصة الرجم».

    وأخرج أيضا أبو داود وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: «زنى رجل من اليهود بامرأة فقال: بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله فقلنا: نبي من أنبيائك قالوا: فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟.
    قالوا نحممه ونجبيه ونجلده والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار ويقابل أقفيتهما، ويطاف بهما قال: وسكت شاب منهم فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - ساكتا أنشده فقال: اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد في التوراة الرجم فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - فما أول ما ارتخصتم أمر الله قال: زنى ذو قرابة ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم قال: النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما».
    قال الزهري فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا} [المائدة: 44] فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم.
    وأيضا فقد تحاكموا إليه في القود الذي كان بين بني قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل بعض إحدى القبيلتين قتيلا من الأخرى فيقتلونه ولم يضعفوا الدية وإذا قتل من القبيلة الشريفة قتلوا به وأضعفوا الدية.
    قال أبو داود سليمان بن الأشعث في سننه حدثنا محمد بن العلاء حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: «كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودي مائة وسق من تمر».
    فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - «قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله فقالوا: بيننا وبينكم محمد فأتوه فنزلت {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة: 42]» والقسط النفس بالنفس، ثم نزلت {أفحكم الجاهلية يبغون} [المائدة: 50] قال: أبو داود قريظة والنضير من ولد هارون.

    وبسط هذا له موضع آخر وعلى كل قول، فقد أخبر الله - عز وجل - أن في التوراة الموجودة بعد المسيح - عليه السلام - حكم الله وأن أهل الكتاب اليهود تركوا حكم الله الذي في التوراة مع كفرهم بالمسيح وهذا ذم من الله لهم على ما تركوه من حكمه الذي جاء به الكتاب الأول ولم ينسخه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الثاني:.
    وهذا من التبديل الثاني: الذي ذموا عليه ودل ذلك على أن في التوراة الموجودة بعد مبعث المسيح حكما أنزله الله أمروا أن يحكموا به وهكذا يمكن أن يقال في الإنجيل.
    ومعلوم أن الحكم الذي أمروا أن يحكموا به من أحكام التوراة ولم ينسخه الإنجيل ولا القرآن، فكذلك ما أمروا أن يحكموا به من أحكام الإنجيل هو مما لم ينسخه القرآن وذلك أن الدين الجامع أن يعبد الله وحده ويأمر بما أمر الله به ويحكم بما أنزله الله في أي كتاب أنزله ولم ينسخه، فإنه يحكم به.

    ولهذا كان مذهب جماهير السلف والأئمة أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ومن حكم بالشرع المنسوخ فلم يحكم بما أنزل الله، كما أن الله أمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يحكموا بما أنزل الله في القرآن وفيه الناسخ والمنسوخ فهكذا القول في جنس الكتب المنزلة.
    قال - تعالى -: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون - وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون - أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون - ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين - فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين - ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين - ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم - إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة: 48 - 56].

    فقد أمر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بما أنزل الله إليه وحذره اتباع أهوائهم وبين أن المخالف لحكمه هو حكم الجاهلية حيث قال - تعالى -: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [المائدة: 50] وأخبره تعالى أنه جعل لكل من أهل التوراة والإنجيل والقرآن شرعة ومنهاجا، وأمره تعالى بالحكم بما أنزل الله أمر عام لأهل التوراة والإنجيل والقرآن ليس لأحد في وقت من الأوقات أن يحكم بغير ما أنزل الله والذي أنزله الله هو دين واحد اتفقت عليه الكتب والرسل وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة وإن تنوعوا في الشرعة والمنهاج بين ناسخ ومنسوخ فهو شبيه بتنوع حال الكتاب الواحد، فإن المسلمين كانوا أولا مأمورين بالصلاة لبيت المقدس، ثم أمروا أن يصلوا إلى المسجد الحرام وفي كلا الأمرين إنما اتبعوا ما أنزل الله - عز وجل -.

    وكذلك موسى - عليه السلام - كان مأمورا بالسبت محرما عليه ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزله الله - عز وجل - والمسيح أحل بعض ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزل الله - عز وجل - فليس في أمر الله لأهل التوراة والإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ ; كما أنه ليس في أمر أهل القرآن أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ، بل إذا كان ناسخ ومنسوخ فالذي أنزل الله هو الحكم بالناسخ دون المنسوخ فمن حكم بالمنسوخ فقد حكم بغير ما أنزل الله - عز وجل - ومما يوضح هذا قوله - تعالى -: {قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين} [المائدة: 68] فإن هذا يبين أن هذا أمر لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لأهل الكتاب الذي بعث إليهم أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم فدل ذلك على أنهم عندهم ما يعلم أنه منزل من الله وأنهم مأمورون بإقامته إذ كان ذلك مما قرره محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم ينسخه ومعلوم أن كل ما أمر الله به على لسان نبي ولم ينسخه النبي - صلى الله عليه وسلم - الثاني بل أقره كان الله آمرا به على لسان نبي بعد نبي ولم يكن في بعثة الثاني ما يسقط وجوب اتباع ما أمر به النبي الأول وقرره النبي الثاني.
    ولا يجوز أن يقال إن الله ينسخ بالكتاب الثاني جميع ما شرعه بالكتاب الأول وإنما المنسوخ قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والشرائع.
    وأيضا ففي التوراة والإنجيل ما دل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإذا حكم أهل التوراة والإنجيل بما أنزل الله فيهما حكموا بما أوجب عليهم اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -.
    وهذا يدل على أن في التوراة والإنجيل ما يعلمون أن الله أنزله إذ لا يؤمرون أن يحكموا بما أنزل الله ولا يعلمون ما أنزل الله، والحكم إنما يكون في الأمر والنهي والعلم ببعض معاني الكتب لا ينافي عدم العلم ببعضها وهذا متفق عليه في المعاني، فإن المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وأنه أرسل إلى الخلق رسلا من البشر وأنه أوجب العدل وحرم الظلم والفواحش والشرك وأمثال ذلك من الشرائع الكلية وأن فيها الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب بل هم متفقون على الإيمان باليوم الآخر وقد تنازعوا في بعض معانيها واختلفوا في تفسير ذلك ; كما اختلفت اليهود والنصارى في المسيح المبشر به النبوات، هل هو المسيح ابن مريم - عليه السلام - أو مسيح آخر ينتظر والمسلمون يعلمون أن الصواب في هذا مع النصارى لكن لا يوافقونهم على ما أحدثوا فيه من الإفك والشرك.

    وكذلك يقال إذا بدل قليل من ألفاظها الخبرية لم يمنع ذلك أن يكون أكثر ألفاظها لم يبدل لا سيما إذا كان في نفس الكتاب ما يدل على المبدل وقد يقال أن ما بدل من ألفاظ التوراة والإنجيل ففي نفس التوراة والإنجيل ما يدل على تبديله فبهذا يحصل الجواب عن شبهة من يقول أنه لم يبدل شيء من ألفاظها، فإنهم يقولون إذا كان التبديل قد وقع في ألفاظ التوراة والإنجيل قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم الحق من الباطل، فسقط الاحتجاج بهما ووجوب العمل بهما على أهل الكتاب فلا يذمون حينئذ على ترك اتباعهما.
    والقرآن قد ذمهم على ترك الحكم بما فيهما واستشهد بهما في مواضع.

    وجواب ذلك أن ما وقع من التبديل قليل والأكثر لم يبدل والذي لم يبدل فيه ألفاظ صريحة تبين بها المقصود من غلط ما خالفها ولها شواهد ونظائر متعددة يصدق بعضها بعضا بخلاف المبدل، فإنه ألفاظ قليلة، وسائر نصوص الكتب يناقضها، وصار هذا بمنزلة كتب الحديث المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه إذا وقع في سنن أبي داود والترمذي أو غيرهما أحاديث قليلة ضعيفة كان في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يبين ضعف تلك.
    بل وكذلك صحيح مسلم فيه ألفاظ قليلة غلط، وفي نفس الأحاديث الصحيحة مع القرآن ما يبين غلطها، مثل ما روي أن الله خلق التربة يوم السبت وجعل خلق المخلوقات في الأيام السبعة، فإن هذا الحديث قد بين أئمة الحديث كيحيى بن معين وعبد الرحمن بن مهدي والبخاري وغيرهم أنه غلط، وأنه ليس في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بل صرح البخاري في تاريخه الكبير أنه من كلام كعب الأحبار ; كما قد بسط في موضعه، والقرآن يدل على غلط هذا، ويبين أن الخلق في ستة أيام، وثبت في الصحيح أن آخر الخلق كان يوم الجمعة فيكون أول الخلق يوم الأحد.
    وكذلك ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم -، «صلى الكسوف بركوعين أو ثلاثة».

    فإن الثابت المتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو وغيرهم أنه صلى كل ركعة بركوعين ولهذا لم يخرج البخاري إلا ذلك، وضعف الشافعي والبخاري وأحمد في أحد الروايتين عنه وغيرهم حديث الثلاث والأربع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى الكسوف مرة واحدة وفي حديث الثلاث والأربع أنه صلاها يوم مات إبراهيم ابنه، وأحاديث الركوعين كانت ذلك اليوم فمثل هذا الغلط إذا وقع كان في نفس الأحاديث الصحيحة ما يبين أنه غلط، والبخاري إذا روى الحديث بطرق في بعضها غلط في بعض الألفاظ ذكر معه الطرق التي تبين ذلك الغلط ; كما قد بسطنا الكلام على ذلك في موضعه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #266
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 264)

    من صــ 156 الى صـ 170





    فكذلك إذا قيل أنه وقع تبديل في بعض ألفاظ الكتب المتقدمة كان في الكتب ما يبين لك الغلط وقد قدمنا أن المسلمين لا يدعون أن كل نسخة في العالم من زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - بكل لسان من التوراة والإنجيل والزبور بدلت ألفاظها، فإن هذا لا أعرف أحدا من السلف قاله وإن كان من المتأخرين من قد يقول ذلك، كما في بعض المتأخرين من يجوز الاستنجاء بكل ما في العالم من نسخ التوراة والإنجيل فليست هذه الأقوال ونحوها من أقوال سلف الأمة وأئمتها وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التوراة قال: يا كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها فعلق الأمر على ما يمتنع العلم به ولم يجزم عمر - رضي الله عنه - بأن ألفاظ تلك مبدلة لما لم يتأمل كل ما فيها.

    والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهما ما أنزله الله - عز وجل - والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذر ولا حاجة بنا إلى ذكره ولا علم لنا بذلك ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد، فإن هذا مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختباره وامتحانه وإنما يعلم مثل هذا بالوحي وإلا فلا يمكن أحدا من البشر أن يقابل كل نسخة موجودة في العالم بكل نسخة من جميع الألسنة بالكتب الأربعة والعشرين وقد رأيناها مختلفة في الألفاظ اختلافا بينا، والتوراة هي أصح الكتب وأشهرها عند اليهود والنصارى ومع هذا فنسخة السامرة مخالفة لنسخة اليهود والنصارى حتى في نفس الكلمات العشر ذكر في نسخة السامرة منها من أمر استقبال الطور ما ليس في نسخة اليهود والنصارى وهذا مما يبين أن التبديل وقع في كثير من نسخ هذه الكتب، فإن عند السامرة نسخا متعددة.

    وكذلك رأينا في الزبور نسخا متعددة تخالف بعضها بعضا مخالفة كثيرة في كثير من الألفاظ والمعاني يقطع من رآها أن كثيرا منها كذب على زبور داود - عليه السلام - وأما الأناجيل فالاضطراب فيها أعظم منه في التوراة.
    فإن قيل فإذا كانت الكتب المتقدمة منسوخة فلماذا ذم أهل الكتاب على ترك الحكم بما أنزل الله منها؟ قيل: النسخ لم يقع إلا في قليل من الشرائع وإلا فالإخبار عن الله وعن اليوم الآخر وغير ذلك لا نسخ فيه.
    وكذلك الدين الجامع والشرائع الكلية لا نسخ فيها وهو سبحانه ذمهم على ترك اتباع الكتاب الأول ; لأن أهل الكتاب كفروا من وجهين من جهة تبديلهم الكتاب الأول، وترك الإيمان والعمل ببعضه، ومن جهة تكذيبهم بالكتاب الثاني: وهو القرآن، كما قال - تعالى -: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 91] فبين أنهم كفروا قبل مبعثه بما أنزل عليهم وقتلوا الأنبياء كما كفروا حين مبعثه بما أنزل عليه وقال - تعالى -: {الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين} [آل عمران: 183] وقال - تعالى -: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} [آل عمران: 184] وقال - تعالى -: {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون - قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 48 - 49] وإذا كان الأمر كذلك فهو سبحانه يذمهم على ترك اتباع ما أنزله في التوراة والإنجيل وعلى ترك اتباع ما أنزله في القرآن ويبين كفرهم بالكتاب الأول وبالكتاب الثاني: وليس في شيء من ذلك أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ من الكتاب الأول ; كما ليس فيه أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ في الكتاب الثاني.
    (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وإذا كان من قول السلف: إن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق فكذلك في قولهم: إنه يكون فيه إيمان وكفر ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة؛ كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قالوا: كفروا كفرا لا ينقل عن الملة وقد اتبعهم على ذلك أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة.
    عن ابن طاووس عن أبيه قال: قلت لابن عباس: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} فهو كافر. قال: هو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله.
    عن عطاء قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق.
    قال محمد بن نصر: قالوا: وقد صدق عطاء قد يسمى الكافر ظالما ويسمى العاصي من المسلمين ظالما فظلم ينقل عن ملة الإسلام وظلم لا ينقل. قال الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} وقال: {إن الشرك لظلم عظيم} وذكر حديث ابن مسعود المتفق عليه قال: {لما نزلت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بذلك. ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إن الشرك لظلم عظيم} إنما هو الشرك}.

    حدثنا محمد بن يحيى حدثنا الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه فدخل ذات يوم فقرأ فأتى على هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} إلى آخر الآية فانتعل وأخذ رداءه ثم أتى إلى أبي بن كعب فقال: يا أبا المنذر أتيت قبل على هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} وقد نرى أنا نظلم ونفعل. فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا ليس بذلك يقول الله: {إن الشرك لظلم عظيم} إنما ذلك الشرك.

    قال محمد بن نصر: وكذلك " الفسق فسقان ": فسق ينقل عن الملة وفسق لا ينقل عن الملة فيسمى الكافر فاسقا والفاسق من المسلمين فاسقا ذكر الله إبليس فقال: {ففسق عن أمر ربه} وكان ذلك الفسق منه كفرا وقال الله تعالى: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} يريد الكفار دل على ذلك قوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} وسمي الفاسق من المسلمين فاسقا ولم يخرجه من الإسلام. قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} وقال تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} فقالت العلماء في تفسير الفسوق هاهنا: هي المعاصي. قالوا: فلما كان الظلم ظلمين والفسق فسقين كذلك الكفر كفران:(أحدهما ينقل عن الملة) و (الآخر لا ينقل عن الملة) وكذلك الشرك " شركان ": شرك في التوحيد ينقل عن الملة وشرك في العمل لا ينقل عن الملة وهو الرياء قال تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} يريد بذلك المراءاة بالأعمال الصالحة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم {الطيرة شرك}.
    قال محمد بن نصر: فهذان مذهبان هما في الجملة محكيان عن أحمد بن حنبل في موافقيه من أصحاب الحديث حكى الشالنجي إسماعيل بن سعيد أنه سأل أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصيام هل يكون مصرا من كانت هذه حاله؟ قال: هو مصر مثل قوله: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن}. يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام ومن نحو قوله: {لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن} ومن نحو قول ابن عباس في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فقلت له: ما هذا الكفر؟ فقال: كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض وكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه. وقال ابن أبي شيبة: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} لا يكون مستكمل الإيمان يكون ناقصا من إيمانه قال: وسألت أحمد بن حنبل عن " الإسلام والإيمان " فقال: الإيمان قول وعمل والإسلام إقرار. قال: وبه قال أبو خيثمة وقال ابن أبي شيبة لا يكون الإسلام إلا بإيمان ولا إيمان إلا بإسلام.
    (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47)
    [فصل: الرد عليهم في زعمهم أن الإسلام عظم إنجيلهم الذي بين أيديهم]

    فصل
    قالوا وأما تعظيمه لإنجيلنا وكتبنا التي بأيدينا فيقول: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه} [المائدة: 48] وقال: في سورة آل عمران: {الم - الله لا إله إلا هو الحي القيوم - نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل - من قبل هدى للناس} [آل عمران: 1 - 4]. وقال: في سورة البقرة {الم - ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين - الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون - والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون - أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} [البقرة: 1 - 5]. فأعني بالكتاب الإنجيل والذين يؤمنون بالغيب نحن النصارى الذين آمنا بالمسيح وما رأيناه، ثم اتبع بالقول {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [البقرة: 4] فأعني بهم المسلمين الذين آمنوا بما آتى به وما أتى من قبله وقال: في سورة المائدة {وموعظة للمتقين - وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 46 - 47] وقال في سورة آل عمران: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} [آل عمران: 184] فأعني أيضا بالكتاب المنير الذي هو الإنجيل المقدس.

    وقال: أيضا: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} [يونس: 94].
    فثبت بهذا ما معنا ونفي عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.
    والجواب: بعد أن تعرف أن لفظ الآية الأولى من سورة المائدة {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48]. أن يقال: أما تصديق خاتم الرسل محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أنزل الله قبله من الكتب ولمن جاء قبله من الأنبياء فهذا معلوم بالاضطرار من دينه متواترا تواترا ظاهرا كتواتر إرساله إلى الخلق كلهم وهذا من أصول الإيمان.
    قال - تعالى -: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون - فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 136 - 137] وقال - تعالى -: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون - ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران: 84 - 85]

    وقال: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} [البقرة: 177]
    وقال - تعالى -: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير - لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 285 - 286] وتصديقه للتوراة والإنجيل مذكور في مواضع من القرآن وقد قال {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48].

    وقال - تعالى -: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني} [الزمر: 23] وقال: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} [يوسف: 3] فبين أنه أنزل هذا القرآن مهيمنا على ما بين يديه من الكتب والمهيمن الشاهد المؤتمن الحاكم يشهد بما فيها من الحق وينفي ما حرف فيها ويحكم بإقرار ما أقره الله من أحكامها وينسخ ما نسخه الله منها وهو مؤتمن في ذلك عليها وأخبر أنه أحسن الحديث وأحسن القصص وهذا يتضمن أنه كل من كان متمسكا بالتوراة قبل النسخ من غير تبديل شيء من أحكامها، فإنه من أهل الإيمان والهدى وكذلك من كان متمسكا بالإنجيل من غير تبديل شيء من أحكامه قبل النسخ فهو من أهل الإيمان والهدى وليس في ذلك مدح لمن تمسك بشرع مبدل فضلا عمن تمسك بشرع منسوخ ولم يؤمن بما أرسل الله إليه من الرسل وما أنزل إليه من الكتب بل قد بين كفر اليهود والنصارى بتبديل الكتاب الأول وبترك الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في غير موضع.
    وأما تأويلهم قوله: {ذلك الكتاب} [البقرة: 2] أنه الإنجيل و {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 3]عنى بهم النصارى فهو من تحريف الكلم عن مواضعه وتبديل كلام الله ; كما فعلوه في قوله: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا} [آل عمران: 85] وفي قوله: بإذني أي باللاهوت وفي قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6].
    وفي غير ذلك مما ذكروه وتأولوه من القرآن على غير المعنى الذي أراد الله به وهذا مما يؤيد أنهم فعلوا كذلك بالتوراة والإنجيل، فإنه إذا كان القرآن الذي قد عرف تفسيره والمراد به العام والخاص ونقل ذلك عن الرسول نقلا متواترا حتى عرف معناه علما يقينا اضطراريا فيبدلون معناه ويحرفون الكلم عن مواضعه فماذا يصنعون بالتوراة والإنجيل ولم ينقل لفظ ذلك ومعناه ; كما نقل القرآن وليس في أهل تلك الكتب من يذب عن لفظها ومعناها ; كما يذب المسلمون عن لفظ القرآن ومعناه؟.
    وهؤلاء غرهم قوله: {ذلك الكتاب} [البقرة: 2] فظنوا أن لفظ ذلك لما كان يشار بها إلى الغائب أشير بها إلى الإنجيل.
    فيقال: لهم هذا كقوله: {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم} [آل عمران: 58] وأشار بذلك إلى ما تلاه قبل هذه الآية، وقوله: {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم} [الممتحنة: 10]

    وقوله: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر} [الطلاق: 2] ومثله قوله - تعالى -: بعد أن ذكر خبر يوسف الصديق {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك} [يوسف: 102] وقال أيضا: لما ذكر خبر مريم: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم} [آل عمران: 44] ; كما قال: لما ذكر آيات يخبر فيها عن نوح {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك} [هود: 49] وقال: {الر - تلك آيات الكتاب المبين - إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [يوسف: 1 - 2] وتلك في المؤنث مثل ذلك في المذكر ومع هذا فأشار إلى القرآن ومنه قوله: {الر - تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} [الحجر: 1] وقوله: {طس - تلك آيات القرآن وكتاب مبين} [النمل: 1] ومنه قوله: {طسم - تلك آيات الكتاب المبين} [القصص: 1 - 2] ومنه قوله: {حم - عسق - كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم} [الشورى: 1 - 3] وقوله: {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا} [الشورى: 7] وقوله: {المر - تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق} [الرعد: 1] الآية.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #267
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 265)

    من صــ 171 الى صـ 185




    ومثل هذا كثير وذلك أنه لما أنزل قوله: {ذلك الكتاب - تلك آيات الكتاب} [يونس: 2 - 1] ونحو ذلك لم يكن الكتاب المشار إليه قد أنزل تلك الساعة وإنما كان قد أنزل قبل ذلك فصار كالغائب الذي يشار إليه ; كما يشار إلى الغائب وهو باعتبار حضوره عند النبي - صلى الله عليه وسلم - يشار إليه ; كما يشار إلى الحاضر ; كما قال - تعالى -: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} [الأنبياء: 50]
    ولهذا قال: غير واحد من السلف ذلك الكتاب أي هذا الكتاب يقولون المراد هذا الكتاب وإن كانت الإشارة تكون تارة إشارة غائب وتارة إشارة حاضر وقد قال {هدى للمتقين - الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 2 - 3] وقد وصف النصارى بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وأنهم كافرون ظالمون فكيف يجعلهم المتقين الذين يؤمنون بالغيب.
    قال - تعالى -: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29].
    وأول التقوى تقوى الشرك وقد وصف النصارى بالشرك في قوله:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31] وقال - تعالى -: لما ذكر المسيح {فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم - أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} [مريم: 37 - 38] وقال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 72] وقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] ونهى عن موالاتهم فقال {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة: 51] وقد أخبر أن الله ولي المتقين فقال {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون - إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين} [الجاثية: 18 - 19]
    فلو كانوا من المتقين فضلا عن أن يكونوا هم المتقين لكان الله وليهم ولكانت موالاتهم واجبة على المؤمنين وهو قد نهى عن موالاتهم وجعل من يتولاهم ظالما وجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكفار بعضهم أولياء بعض ولهذا لما قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين الكافرين.
    قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم».
    واتفق المسلمون على أن اليهودي والنصراني لا يرث مسلما ولو كان ابنه وأباه ; لأن الله قطع الموالاة بينهما وقد قال - تعالى -: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22] وأيضا فإنه قال - تعالى -: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة} [البقرة: 3]

    وهي الصلاة التي أمر بها في قوله: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء: 78] وقد قال: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» والنصارى يصلون بغير طهور.
    وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وهم لا يقرؤونها. والصلاة التي فرضها وأثنى عليها مشتملة على استقبال الكعبة وعلى ركوع وسجدتين في كل ركعة وغير ذلك مما لا يفعله النصارى فكيف يمدحهم بإقامة الصلاة وهم لا يقيمون الصلاة التي أمر بإقامتها.
    ثم لو قال اليهودي المراد بقوله: {ذلك الكتاب} [البقرة: 2] التوراة وبالمتقين اليهود لكان هذا مع بطلانه أقرب من قول القائل أن المراد بالكتاب الإنجيل ; لأن التوراة أحق بذلك من الإنجيل، فإنها الأصل والله تعالى يقرن بينها وبين القرآن في غير موضع كقوله: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة} [هود: 17] وقوله - تعالى -: {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [الأحقاف: 10].
    وقد قالت الجن لما سمعت القرآن {قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم} [الأحقاف: 30] وقال: النجاشي لما سمع القرآن إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة وكذلك ورقة بن نوفل قال: هذا هو الناموس الذي كان ينزل على موسى بن عمران.
    وقال - تعالى -: قالوا: {لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا} [القصص: 48] أي: التوراة والقرآن. وقالوا ساحران تظاهرا أي موسى ومحمد وقالوا إنا بكل كافرون.

    قال الله: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 49] فقد بين أنه لم يأت من عند الله كتاب أهدى من التوراة والقرآن.
    وقال - تعالى -: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون - وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون} [الأنعام: 91 - 92].

    وأما قوله - تعالى -: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [البقرة: 4] فهي صفة ثانية للذين يؤمنون بالغيب مجملا، ثم وصفهم بإيمان مفصل بما أنزل إليك وما أنزل من قبله. والعطف بالواو يكون لتغاير الذوات ويكون لتغاير الصفات كقوله - تعالى -: {سبح اسم ربك الأعلى - الذي خلق فسوى - والذي قدر فهدى - والذي أخرج المرعى - فجعله غثاء أحوى} [الأعلى: 1 - 5] والذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى وهو الذي أخرج المرعى وكذلك قوله - تعالى -: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم - الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون - والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون - والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} [الزخرف: 9 - 12] ومثله قوله: {قد أفلح المؤمنون - الذين هم في صلاتهم خاشعون - والذين هم عن اللغو معرضون - والذين هم للزكاة فاعلون - والذين هم لفروجهم حافظون - إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين - فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون - والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون - والذين هم على صلواتهم يحافظون - أولئك هم الوارثون - الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} [المؤمنون: 1 - 11].
    فهم صنف واحد وصفهم بهذه الصفات بحرف الواو وكذلك في قوله: {إن الإنسان خلق هلوعا - إذا مسه الشر جزوعا - وإذا مسه الخير منوعا - إلا المصلين - الذين هم على صلاتهم دائمون - والذين في أموالهم حق معلوم - للسائل والمحروم - والذين يصدقون بيوم الدين - والذين هم من عذاب ربهم مشفقون - إن عذاب ربهم غير مأمون - والذين هم لفروجهم حافظون - إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين - فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون - والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون - والذين هم بشهاداتهم قائمون - والذين هم على صلاتهم يحافظون - أولئك في جنات مكرمون} [المعارج: 19 - 35].
    وقد فسر قبل قوله: يؤمنون بالغيب صفة المؤمنين من غير أهل الكتاب كمشركي العرب، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك صفة من آمن به من أهل الكتاب.
    وعلى هذا القول: هؤلاء غير هؤلاء، لكن هذا ضعيف، فإنه لا بد في المؤمنين من غير أهل الكتاب أن يؤمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله ولا بد في مؤمن أهل الكتاب أن يؤمن بالغيب. فكل من الإيمانين واجب على كل واحد ولا يكون أحد على هدى من ربه مفلحا إلا بهذا وهذا.
    وأما قول النصارى نحن الذين آمنا بالسيد المسيح وما رأيناه فهكذا اليهود آمنوا بموسى - عليه السلام - وما رأوه والمسلمون آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما رأوه بل المسلمون آمنوا بموسى وعيسى وسائر النبيين وما رأوهم بخلاف اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. ثم الغيب ليس المراد به صورة النبي - عليه السلام -، فإن صورة النبي ليست من الغيب، فإن الناس يرونها وليس في رؤيتها ما يوجب إيمانا ولا كفرا، ولكن الغيب ما غاب عن مشاهدة الخلق وهو ما أخبرت به الأنبياء من الغيب فيدخل فيه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وهو الإيمان بأنهم رسل الله، وسواء رؤيت أبدانهم أو لم تر فقد يراهم من لم يؤمن برسالتهم وقد يؤمن برسالتهم من لم يرهم.
    والمقصود الإيمان برسالتهم لا بنفس صورهم حتى يقول القائل آمنا بنبي ولم نره وقد يعلم من دلائل نبوته وأعلام رسالته من لم يره أكثر مما يعلمها من رآه.
    فصل
    وأما قوله: في سورة المائدة {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين - وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 46 - 47] فهذا ثناء منه على المسيح والإنجيل وأمر للنصارى بالحكم بما أنزل فيه ; كما أثنى على موسى والتوراة بأعظم مما عظم به المسيح والإنجيل فقال تعالى: {ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك} [المائدة: 41] أي: قائلون للكذب مصدقون مستجيبون مطيعون لقوم آخرين لم يأتوك فهم مصدقون للكذب مطيعون لمن يخالفك وأنت رسول الله.

    فكل من تصديق الكذب والطاعة لمن خالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الذنوب.
    ولفظ السميع يراد به الإحساس بالصوت ويراد به فهم المعنى ويراد به قبوله فيقال: فلان سمع ما يقول فلان أي يصدقه أو يطيعه ويقبل منه.
    فقوله: سماعون للكذب أي مصدقون به وإلا مجرد سماع صوت الكاذب وفهم كلامه ليس مذموما على الإطلاق.
    وكذلك سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي مستجيبون لهم مطيعون ; كما قال: في حق المنافقين وفيكم سماعون لهم أي مستجيبون مطيعون لهم ومن قال: إن المراد به الجاسوس فهو غالط كغلط من قال: سماعون لهم هم الجواسيس، فإن الجاسوس إنما ينقل خبر القوم إلى من لا يعرفه، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ما يذكره ويأمر به ويفعله يراه ويسمعه كل من بالمدينة مؤمنهم ومنافقهم ولم يكن يقصد أن يكتم يهود المدينة ما يقوله ويفعله خلاف من كان يأتيه من اليهود وهم يصدقون الكذب ويطيعون لليهود الآخرين الذين لم يأتوه والله نهى نبيه أن يحزنه المسارعون في الكفر من هاتين الطائفتين المنافقتين الذين أظهروا الإيمان به ولم تؤمن قلوبهم ومن أهل الكتاب الذين يطلبون أن يحكم بينهم وليس مقصودهم أن يطيعوه ويتبعوا حكمه بل إن حكم بما يهوونه قبلوه وإن حكم بخلاف ذلك لم يقبلوه لكونهم مطيعين لقوم آخرين لم يأتوه.
    قال - تعالى -: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين} [المائدة: 41] أي لم يأتك أولئك القوم الآخرون يقولون أي يقول السماعون {إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [المائدة: 41] والحكم يفتقر إلى الصدق والعدل فلا بد أن يكون الشاهد صادقا والحاكم عادلا وهؤلاء يصدقون الكاذبين من الشهود ويتبعون حكم المخالفين للرسل الذين يحكمون بغير ما أنزل الله وإذا لم يكن قصدهم اتباع الصدق والعدل فليس عليك أن تحكم بينهم بل إن شئت فاحكم بينهم وإن شئت فلا تحكم.
    ولكن إذا حكمت فلا تحكم إلا بما أنزل الله إليك إذ هو العدل.
    قال - تعالى -: {سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} [المائدة: 42]، ثم قال {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين - إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون - وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 43 - 45] فهذا ثناؤه على التوراة وإخباره أن فيها حكم الله وأنه أنزل التوراة وفيها {هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44] وقال: عقب ذكرها {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44]

    وهذا أعظم مما ذكره في الإنجيل، فإنه قال: في الإنجيل {وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور} [المائدة: 46] وقال فيه: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 47] وقال: في التوراة {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44] وقال: عقب ذكرها {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] فهو سبحانه مع إخباره بإنزال الكتابين يصف التوراة بأعظم مما يصف به الإنجيل.

    كما قال - تعالى -: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44] وإذا كان ما ذكره من مدح موسى والتوراة لم يوجب ذلك مدح اليهود الذين كذبوا المسيح ومحمدا - صلى الله عليه وسلم -وليس فيه ثناء على دين اليهود المبدل المنسوخ باتفاق المسلمين والنصارى، فكذلك أيضا ما ذكره من مدح المسيح والإنجيل ليس فيه مدح النصارى الذين كذبوا محمدا وبدلوا أحكام التوراة والإنجيل واتبعوا المبدل المنسوخ، واليهود توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح للنصارى، والنصارى توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح لليهود بعد النسخ والتبديل. فعلم اتفاق أهل الملل كلها: المسلمون واليهود والنصارى على أنه ليس فيما ذكر في القرآن من ذكر التوراة والإنجيل وموسى وعيسى مدح لأهل الكتاب الذين كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولا مدح لدينهم المبدل قبل مبعثه فليس في ذلك مدح لمن تمسك بدين مبدل ولا بدين منسوخ، فكيف بمن تمسك بدين مبدل منسوخ.
    (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48)
    [فصل: رفض دعواهم أن القرآن صدق كتبهم التي بين أيديهم]

    قالوا فثبت بهذا ما معنا نعم، ونفى عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.
    فيقال: كلامكم الذي تحتجون به في هذا الموضع وغيره إما أن يكون باطلا محضا وإما أن يكون مما لبستم فيه الحق بالباطل، فإن قولكم بتصديقه إياها إن أردتم أنه صدق التوراة والإنجيل والزبور التي أنزلها الله على أنبيائه فهذا لا ريب فيه، فإن هذا مذكور في القرآن في غير موضع وقد أوجب على عباده أن يؤمنوا بكل كتاب أنزله وكل نبي من الأنبياء مع إخباره أنه أنزل هذه الكتب قبل القرآن وأنزل القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #268
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 266)

    من صــ 186 الى صـ 200




    وقال - تعالى -: {الم - الله لا إله إلا هو الحي القيوم - نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل - من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان} [آل عمران: 1 - 4] وقال - تعالى -: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48]
    وقال - تعالى -: {ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت} [النساء: 47] وقال: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48] وقال: {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير} [فاطر: 31] وقال: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} [البقرة: 101] وقال - تعالى -: {آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم} [النساء: 47] وقد أوجب على عباده أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله وحكم بكفر من آمن ببعض وكفر ببعض، فقال تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون - فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 136 - 137] وقال - تعالى -: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة: 285]

    وقال - تعالى -: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا - أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا - والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما} [النساء: 150 - 152] فذم المفرق بينهم بأن يؤمن ببعض دون بعض وبين أنه فضل بعضهم على بعض فقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253]
    فبين أنه فضل بعضهم على بعض وقال - تعالى -: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} [الإسراء: 55] وقد اتفق المسلمون على ما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام وهو أنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين وبجميع ما أنزله الله من الكتب فمن كفر بنبي واحد تعلم نبوته مثل إبراهيم ولوط وموسى وداود وسليمان ويونس وعيسى فهو كافر عند جميع المسلمين حكمه حكم الكفار وإن كان مرتدا استتيب، فإن تاب وإلا قتل.

    ومن سب نبيا واحدا من الأنبياء قتل أيضا باتفاق المسلمين وما علم المسلمون أن نبيا من الأنبياء أخبر به فعليهم التصديق به ; كما يصدقون بما أخبر به محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم يعلمون أن أخبار الأنبياء لا تتناقض ولا تختلف وما لم يعلموا أن النبي أخبر به فهو كما لم يعلموا أن محمدا أخبر به صلى الله عليهم أجمعين، ولكن لا يكذبون إلا بما علموا أنه كذب ; كما لا يجوز أن يصدقوا إلا بما علموا أنه صدق وما لم يعلموا أنه كذب ولا صدق لم يصدقوا به ولم يكذبوا به ; كما أمرهم نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وبهذا أمرهم المسيح - عليه السلام - فقال: الأمور ثلاثة أمر تبين رشده فاتبعوه وأمر تبين غيه فاجتنبوه وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه.
    فصل
    وإن أرادوا بتصديقه كتبهم أنه صدق ما هم عليه من العقائد والشرائع التي ابتدعوها بغير إذن من الله وخالفوا بها ما تقدمه من شرائع المسلمين أو خالفوا بها الشرع الذي بعث به مثل القول بالتثليث والأقانيم والقول بالحلول والاتحاد بين اللاهوت والناسوت وقولهم: أن المسيح هو الله وابن الله وما هم عليه من إنكار ما يجب الإيمان به من الإيمان بالله واليوم الآخر ومن تحليل ما حرمه الله ورسله كالخنزير وغيره وبين أنهم لا يدينون بدين الحق الذي أنزل به كتابه وأرسل به رسوله بل بدين مبتدع ابتدعه لهم أكابرهم ; كما قال - تعالى -: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم} [التوبة: 31]

    وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لعدي بن حاتم وكان نصرانيا لما جاءه ليؤمن به وقد آمن به عدي وكان من خيار الصحابة فسمعه يقرأ هذه الآية {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31] قال: عدي قلت يا رسول الله ما عبدوهم.
    قال «أنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم».
    فإن أرادوا بتصديقهم في هذه الأمور أو أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - صدق ما عندهم مما لم يأت به الأنبياء عن الله فقد كذبوا على محمد - صلى الله عليه وسلم - كذبا ظاهرا معلوما بالاضطرار من دينه وإنما صدق ما جاءت به الأنبياء قبله.

    وأما ما أحدثوه وابتدعوه فلم يصدقوه ; كما أنه لم يشرع لهم أن يستمروا على ما هم عليه من الشرع الأول ولو لم يكن مبدلا بل دعاهم وجميع الإنس والجن إلى الإيمان به وبما جاء به واتباع ما بعث به من الكتاب والحكمة وحكم بكفر كل من لم يتبع كتابه المنزل عليه وأوجب مع خلودهم في عذاب الآخرة جهادهم في الدنيا حتى يكون الدين كله لله وحتى تكون كلمة الله هي العليا.
    وقد دعا أهل الكتاب من اليهود والنصارى عموما، ثم كلا من الطائفتين خصوصا في غير موضع مع دعائه الناس كلهم أهل الكتاب وغيرهم كقوله - تعالى -:{ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون - الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون - قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} [الأعراف: 156 - 158] وقال - تعالى -: يخاطب النصارى {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا - لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا - فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} [النساء: 171 - 173]

    وقال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] وقال - تعالى -: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14] أخبر سبحانه أن النصارى تركوا حظا مما ذكرهم به وبسبب ذلك أغرى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة فعلم أنه سبحانه بين أنهم تركوا بعض ما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء واستحقوا لذلك أن يغري بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
    وقال - تعالى -: {قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77] فنهاهم عن الغلو في دينهم وعن اتباع أهواء الذين ابتدعوا بدعا غيروا بها شرع المسيح فضلوا من قبل هؤلاء الأتباع وأضلوا كثيرا من هؤلاء الأتباع وغيرهم وضلوا عن سواء السبيل وهو وسط السبيل بين الضلال وقيده بعد أن أطلقه وأجمله.

    وقال - تعالى -: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29] وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتالهم بنفسه عام تبوك واستنفر لقتالهم جميع المؤمنين ولم يأذن لأحد من القادرين على الغزو في التخلف ومن تخلف لأنه لم ير قتالهم واجبا كان كافرا وإن أظهر الإسلام كان منافقا ملعونا بين الله أنه لا يغفر لهم ونهى نبيه عن الصلاة عليهم وأنزل في ذلك جمهور سورة براءة بالنقل المتواتر حتى بين كفر الذين استأذنوه في ترك الخروج معه لقتال النصارى.
    قال - تعالى -:{ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل - إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير - إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم - انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون - لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون - عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين - لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين - إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون - ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين - لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين - لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون} [التوبة: 38 - 48].
    فصل
    فتبين أن قولهم: فثبت بهذا ما معنا نعم، ونفي عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.
    إن أرادوا به أنه ثبت ما جاءت الأنبياء قبله عن الله فهذا حق.

    وإن أرادوا به أنه ثبت ما هم عليه بعد مبعثه من الشرع الذي خالف شرعه أو ما ابتدعوه مما لم يأت به الأنبياء - عليهم السلام - قبله فهذا باطل.
    وإن أرادوا بذلك أنه صدق ألفاظ الكتب التي بأيدينا أي التوراة والإنجيل فهذا مما يسلمه لهم بعض المسلمين وينازعهم فيه أكثر المسلمين وإن كان أكثر ذلك مما يسلمه أكثر المسلمين.
    فأما تحريف معاني الكتب بالتفسير والتأويل وتبديل أحكامها فجميع المسلمين واليهود والنصارى يشهدون عليهم بتحريفها وتبديلها ; كما يشهدون هم والمسلمون على اليهود بتحريف كثير من معاني التوراة وتبديل أحكامها وإن كانوا هم واليهود يقولون إن التوراة لم تحرف ألفاظها.

    وحينئذ فلا ينفعهم بقاء حروف الكتب عندهم مع تحريف معانيها إلا ; كما ينفع اليهود بقاء حروف التوراة والنبوات عندهم مع تحريف معانيها بل جميع النبوات التي يقرون بها هي عند اليهود، وهم مع اليهود ينفون عنها التهم والتبديل لألفاظها مع أن اليهود عندهم من أعظم الخلق كفرا واستحقاقا لعذاب الله في الدنيا والآخرة وهم عند النصارى الذين يكفرون المسلمين أكثر من هؤلاء وشر منهم، فإن النصارى متفقون على أن المسلمين خير من اليهود وكذلك اليهود متفقون على أن المسلمين خير من النصارى بل جميع الأمم المخالفين للمسلمين يشهدون أن المسلمين خير من سائر الأمم والطوائف إلا أنفسهم وشهادتهم لأنفسهم لا تقبل فصار هذا اتفاق أهل الأرض على تفضيل دين الإسلام.
    فعلم أن بقاء حروف الكتاب مع الإعراض عن اتباع معانيها وتحريفها لا يوجب إيمان أصحابها ولا يمنع كفرهم.
    وحينئذ فليس شهادة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته للمسيح - عليه السلام - ولما أنزل عليه من الإنجيل في تثبيت ما عند النصارى بأعظم من شهادة المسيح - عليه السلام - والحواريين وسائر من اتبعه لموسى ولما أنزل عليه من التوراة في تثبيت ما عند اليهود، فإن المسيح أمر أتباعه باتباع التوراة إلا القدر اليسير الذي نسخه منها.
    وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فبعث بكتاب مستقل وشرع مستقل كامل تام لم يحتج معه إلى شرع سابق تتعلمه أمته من غيره ولا إلى شرع لاحق يكمل شرعه ولهذا قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح «أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر».
    فجزم أن من كان قبله كان فيهم محدثون وعلق الأمر في أمته وإن كان هذا المعلق قد تحقق ; لأن أمته لا تحتاج بعده إلى نبي آخر، فلأن لا تحتاج معه إلى محدث ملهم أولى وأحرى.
    وأما من كان قبله فكانوا يحتاجون إلى نبي بعد نبي فأمكن حاجتهم إلى المحدثين الملهمين ولهذا إذا نزل المسيح ابن مريم في أمته لم يحكم فيهم إلا بشرع محمد - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان مع هذا فشهادة المسيح والحواريين وكل من آمن بالمسيح للتوراة بأنها حق ولموسى بأنه رسول لا يمنع كفر اليهود لكونهم بدلوا شرع التوراة وكذبوا بالمسيح والإنجيل.
    فكيف تكون شهادة محمد وأمته للإنجيل بأنه منزل من عند الله وللمسيح بأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مانعة من كفر النصارى مع تبديلهم شرع الإنجيل وتكذيبهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وشرع القرآن؟.

    وأما إيمان من يؤمن منهم بأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب أو بكثير مما جاء به القرآن فلا يمنع كفرهم إذا كفروا ببعض ما جاء به، بل من كذب بشيء مما جاءت به الرسل عن الله فهو كافر وإن آمن بأكثر ما جاءت به الرسل ; كما قال - تعالى -: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا - أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} [النساء: 150 - 151] وقال - تعالى -:{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة: 85] وقد صرح بكفر النصارى في غير موضع وأمر بجهادهم وقتالهم وحكم بكفر من لا يوجب جهادهم وقتالهم أو لا يرى ذلك عبادة لله وطاعة له ; كما تقدم التنبيه على ذلك فإذا كان من لا يرى جهادهم عبادة لله كافرا عند محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف حالهم عنده - صلى الله عليه وسلم -.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #269
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 267)

    من صــ 201 الى صـ 215




    [فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَاهُمْ تَنَاقُضُ خَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
    وَإِذَا تَبَيَّنَ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مِمَّنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ كَفَرَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ وَالْأَنْبِيَاء ِ مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ شَاهِدًا بِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ يُكَفِّرُ جَمِيعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَتُهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَشَهِدَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ حَرَّفُوا كَثِيرًا مِنْ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ وَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كُلَّهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَشْهَدُونَ أَيْضًا بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ حَرَّفَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يَحْتَجَّ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صِحَّةِ دِينِهِمُ الَّذِي شَهِدَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ بَاطِلٌ مُبَدَّلٌ مَنْسُوخٌ وَأَهْلُهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ.
    وَإِذَا قَالُوا: نَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ لِنُبَيِّنَ تَنَاقُضَهُ حَيْثُ صَدَّقَهَا وَهِيَ تُنَاقِضُ بَعْضَ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَوْ لِنُبَيِّنَ أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ يُنَاقِضُ خَبَرَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا فِيمَا جَاءَ بِهِ.
    أَجَابَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ هَذَا بِعِدَّةِ طُرُقٍ.
    أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولُوا أَمَّا مُنَاقَضَةُ بَعْضِ خَبَرِهِ لِبَعْضٍ ; كَمَا يَزْعُمُهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ كِتَابَهُ يَمْدَحُ أَهْلَ الْكِتَابِ مَرَّةً وَيَذُمُّهُمْ أُخْرَى وَأَنَّهُ يُصَدِّقُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ تَارَةً وَيَذُمُّهَا أُخْرَى فَهَذَا قَدْ ظَهَرَ بُطْلَانُهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا مَدَحَ مَنِ اتَّبَعَ مُوسَى وَالْمَسِيحَ عَلَى الدِّينِ الَّذِي لَمْ يُبَدَّلْ وَلَمْ يُنْسَخْ.
    وَأَمَّا مَنِ اتَّبَعَ الدِّينَ الْمُبَدَّلَ الْمَنْسُوخَ فَقَدْ كَفَّرَهُ.
    فَأَمَّا دَعْوَاهُمْ مُنَاقَضَةَ خَبَرِهِ لِخَبَرِ غَيْرِهِ فَيُقَالُ: هُوَ مُصَدِّقٌ لِلْأَنْبِيَاءِ فَمَا أَخْبَرُوا بِهِ.
    وَأَمَّا مَا بُدِّلَ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا بِالتَّرْجَمَةِ أَوْ فُسِّرَ بِغَيْرِ مُرَادِهِمْ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ وَيُقَالُ أَيْضًا إِنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَثْبُتُ بِمِثْلِ مَا تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّاتُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَبِأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَيَّنَ أَنَّ التَّكْذِيبَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّةِ غَيْرِهِ فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ وَأَنَّهُ مَا مِنْ طَرِيقٍ يُعْلَمُ بِهَا نُبُوَّةُ غَيْرِهِ إِلَّا وَنُبُوَّتُهُ تُعْلَمُ بِمِثْلِ تِلْكَ الطَّرِيقِ وَبِأَعْظَمَ مِنْهَا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ نُبُوَّتُهُ وَطَرِيقُ ثُبُوتِهَا إِلَّا مثل نبوة غيره وطريق ثبوتها لوجب التصديق بنبوته ; كما وجب التصديق بنبوة غيره ولكان تكذيبه كتكذيب إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل فكيف إذا كان ذلك أعظم من وجوه متعددة.

    وحينئذ فالأنبياء كلهم صادقون مصدقون معصومون فيما يخبرون به عن الله لا يجوز أن يثبت في خبرهم عن الله خبر باطل لا عمدا ولا خطأ فلا يجوز أن يخبر أحدهم بخلاف ما أخبر به غيره بل ولا يفترقون في الدين الجامع ; كما قال - تعالى -: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13] وقال - تعالى -: {ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم - وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون - فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 51 - 53] وإنما يقع النسخ في بعض الشرائع ; كما يقع النسخ في شريعة الرسول الواحد وحينئذ فيعلم أن كل ما ينقل عن الأنبياء المتقدمين مما يناقض ما علم من إخبار محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو باطل سواء كان اللفظ نفسه باطلا لم يقله ذلك النبي أو قد قال: لفظا وغلط المترجمون له من لغة إلى لغة أو كان اللفظ وترجمته صحيحين لكن وقع الغلط في معرفة مراد ذلك النبي بذلك الكلام.

    فإن كل ما يحتج به من الألفاظ المنقولة عن الأنبياء أنبياء بني إسرائيل وغيرهم ممن أرسل بغير اللغة العربية لا بد في الاحتجاج بألفاظه من هذه المقدمات أن يعلم اللفظ الذي قاله ويعلم ترجمته ويعلم مراده بذلك اللفظ.
    والمسلمون وأهل الكتاب متفقون على وقوع الغلط في تفسير بعض الألفاظ وبيان مراد الأنبياء بها وفي ترجمة بعضها، فإنك تجد بالتوراة عدة نسخ مترجمة وبينها فروق يختلف بها المعنى المفهوم وكذلك في الإنجيل وغيره فهذا الطريق في الجواب طريق عام لكل من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وشهد أنه رسول الله باطنا وظاهرا يخاطب به كل يهودي ونصراني على وجه الأرض وإن لم يكن عارفا بما عند أهل الكتاب، فإنه لا يقدر أحد من أهل الأرض يقيم دليلا صحيحا على نبوة موسى وعيسى وبطلان نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذا ممتنع لذاته بل ولا يمكنه أن يقيم دليلا صحيحا على نبوة أحدهما إلا وإقامة مثل ذلك الدليل أو أعظم منه على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أولى وحينئذ فلا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يحتج بشيء من المنقولات عن الأنبياء المخالفة لما ثبت عن محمد - صلى الله عليه وسلم - سواء أقر بنبوته أو أنكرها بل إن احتج بشيء مما نقل عن محمد - صلى الله عليه وسلم - بين له بطلان احتجاجه به وأنه حجة عليه لا له.

    وإن احتج بشيء من المنقول عن غيره من الأنبياء - عليهم السلام - طولب بتقدير نبوة ذلك النبي مع تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلا فبتقدير أن ينقل عن اثنين ادعيا النبوة وأتيا بالآيات التي تثبت بها النبوات خبران مناقضان لا يجوز تصديق هذا وتكذيب ذاك إن لم يتبين ما يدل على صدق هذا وكذب هذا وكذلك إذا عورض أحدهما بجنس ما يعارض الآخر.
    وهذا لا يرد على المسلمين إذا ردوا ما يحتج به أهل الكتاب مما ينقلونه عن الأنبياء مخالفا لخبر محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن المسلمين لا يطعنون في نبوة أحد من الأنبياء المعروفين وإنما يطعنون في أنهم أخبروا بما يخالف خبر محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن ذلك لا يثبت أي لم يثبت اللفظ والترجمة وتفسير اللفظ وهذه المقدمات يمتنع أن تقوم على شيء يخالف خبر محمد لا جملة ولا تفصيلا.
    فأهل الكتاب يطالبون فيما يعارضون به بثلاث مقدمات.
    أحدها: تقدير أن أولئك صادقون ومحمد - صلى الله عليه وسلم - كاذب.
    والثاني: ثبوت ما أتوا به لفظا.

    والثالث: معرفة المراد باللفظ ترجمة وتفسيرا وإن قال الكتابي للمسلم: أنت توافقني على نبوة هؤلاء المتقدمين، إجابة المسلم بوجوه.
    منها أن يقول إني لم أوافقك على نبوة واحد منهم مع التكذيب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بل دين المسلمين كلهم أنه من آمن ببعض الأنبياء وكفر ببعض فهو كافر فكيف بمن كفر بمن هو عند المسلمين أفضل الأنبياء وخاتمهم بل قد يقول له أكثر المسلمين نحن لم نعلم نبوة أولئك إلا بإخبار محمد أنهم أنبياء فلو قدحنا في الأصل الذي قد علمنا به نبوتهم لزم القدح في نبوتهم والفرع إذا قدح في أصله دل على فساده في نفسه سواء قدر أصله صحيحا أو فاسدا، فإنه إن كان أصله فاسدا فسد هو وإن كان أصله صحيحا وهو يناقضه بطل هو، فإنه إن كان أصله فاسدا فسد هو وإن كان أصله صحيحا وهو يناقضه بطل هو فهو إذا ناقض أصله باطل على كل تقدير.
    وكذلك إذا قال: له الكتابي قد اتفقنا على تصديق موسى والتوراة والمسيح والإنجيل.
    قال له المسلم إنما وافقتك على تصديق موسى وعيسى الذين بشرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما أخبرنا به محمد عن الله حيث قال الله - تعالى -: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون - الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} [الأعراف: 156 - 157] الآية.
    وقال - تعالى -: {وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6] إلى أمثال ذلك.
    فأما الإيمان بموسى الذي ذكر أن شريعته مؤيدة لا ينسخ منها شيء أو بمسيح ادعى أنه الله أو أن الله اتحد به أو حل فيه ونحو ذلك مما يدعيه أهل الكتاب في الرسولين والكتابين ويخالفهم فيه المسلمون فهذا من موارد النزاع لا من مواقع الإجماع فليس لأحد من أهل الكتاب أن يحتج على أحد من المسلمين بموافقته له على ذلك.
    ومن تمام ذلك أن يقول المسلم نعم أنا أقر بنبوة موسى والمسيح وإن التوراة والإنجيل كلام الله لكن يمتنع عقلا الإقرار بنبوة واحد من هؤلاء دون نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن البراهين والآيات والأدلة الدالة على صدق موسى والمسيح تدل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى فلو انتقضت تلك الأدلة لزم فسادها وأن لا أصدق بأحد من الأنبياء وإن كانت حقا لزم تصديقهم كلهم فلزم إما أن نصدقهم كلهم وإما أن نكذبهم كلهم ولهذا كان من آمن ببعض وكذب ببعض كافرا.
    ومن الأجوبة للمسلمين أن يقولوا نحن نصدق الأنبياء المتقدمين في كل ما أخبروا به لكن من نقل عنهم أنهم أخبروا بما يناقض خبر محمد فلا بد له من مقدمتين، ثبوت ذلك اللفظ عن الأنبياء والعلم بمعناه الذي يعلم أنه مناقض للمعنى الذي علم أن محمدا عناه، ثم العلم باللفظ يحتاج مع الخطاب بغير ألسن الأنبياء العربية سواء كانت عربية أو رومية أو سريانية أو قبطية إلى أن يعرف أن هذا اللفظ الذي ترجم به لفظه مطابق للفظه ويمتنع ثبوت المقدمتين ; لأن في ثبوتهما تناقض الأدلة العلمية، والأدلة العلمية لا تتناقض.
    الطريق الثاني: أن يقول المسلمون: ما تذكرونه من المنقول عن الأنبياء مناقضة لما أخبر به محمد أمور لم تعلم صحتها فلا يجوز اعتقاد ثبوتها والجزم بها ولو لم يعلم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أخبر بخلافها فكيف إذا علم أنه أخبر بخلافها وذلك أن العلم بثبوتها مبني على مقدمات.
    أحدها: العلم بنبوتهم وهذا ممتنع مع تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
    والثانية: أنهم قالوا: هذه الألفاظ وهذا يحتاج إلى إثبات تواتر هذه الألفاظ عن الأنبياء ولم يثبت أنها تواترت عنهم.
    والثالثة: أن معناها هو المعنى المناقض لخبر محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يعلم ذلك.
    وكل واحدة من هذه المقدمات تمنع العلم بثبوت هذه المعاني المناقضة لخبر محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف إذا اجتمعت.
    وهي تمنع العلم بصحتها ولو لم تناقض خبر محمد فكيف إذا ناقضته.
    الطريق الثالث: طريق من يبين أن ألفاظ هذه الكتب لم تتواتر ويثبتون ذلك بانقطاع تواتر التوراة لما خرب بيت المقدس وانقطاع تواتر الإنجيل في أول الأمر.
    الطريق الرابع: طريق من يبين أن بعض ألفاظ الكتب حرفت،ويقيم الأدلة الشرعية والعقلية على تبديل بعض ألفاظها.
    الطريق الخامس: أن يبين أن الألفاظ التي بأيديهم لا تناقض ما أخبر به محمد بل تدل على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ويتكلم على تفسير تلك الألفاظ بأعيانها.
    وهذه الطريق يسلكها من لا ينازع في ثبوت الألفاظ من المسلمين.
    وأما الجمهور الذين يقولون بتبديل هذه الألفاظ فيسلكون هذه الطريق ويسلكون أيضا بيان عدم تواتر الألفاظ بل بيان التبديل في ألفاظها.
    (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ... (48)

    فأمره أن يحكم بما أنزل الله على من قبله لكل جعلنا من الرسولين والكتابين شرعة ومنهاجا أي سنة وسبيلا فالشرعة الشريعة وهي السنة والمنهاج الطريق والسبيل وكان هذا بيان وجه تركه لما جعل لغيره من السنة والمنهاج إلى ما جعل له ثم أمره أن يحكم بينهم بما أنزل الله إليه فالأول نهى له أن يأخذ بمنهاج غيره وشرعته والثاني وإن كان حكما غير الحكم الذي أنزل نهى له أن يترك شيئا مما أنزل فيها عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فمن لم يتبعه لم يحكم بما أنزل الله وإن لم يكن من أهل الكتاب الذين أمروا أن يحكموا بما فيها مما يخالف حكمه.
    (ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (51)
    (فصل في ذكر أشياء من منكرات دين النصارى)
    قال الشيخ - رضي الله عنه -:

    ونذكر أشياء من منكرات دين النصارى لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلي ببعضها وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله. وقد بلغني أنهم يخرجون في الخميس الحقير. الذي قبل ذلك أو السبت أو غير ذلك إلى القبور. وكذلك يبخرون في هذه الأوقات وهم يعتقدون أن في البخور بركة ودفع مضرة ويعدونه من القرابين مثل الذبائح ويرقونه بنحاس يضربونه كأنه ناقوس صغير وبكلام مصنف ويصلبون على أبواب بيوتهم إلى غير ذلك من الأمور المنكرة حتى إن الأسواق تبقى مملوءة أصوات النواقيس الصغار وكلام الرقايين من المنجمين وغيرهم بكلام أكثره باطل وفيه ما هو محرم أو كفر. وقد ألقي إلى جماهير العامة أو جميعهم إلا من شاء الله وأعني بالعامة هنا: كل من لم يعلم حقيقة الإسلام فإن كثيرا ممن ينسب إلى فقه ودين قد شاركهم في ذلك ألقي إليهم أن هذا البخور المرقي ينفع ببركته من العين والسحر والأدواء والهواء.

    ويصورون صور الحيات والعقارب. ويلصقونها في بيوتهم زعما أن تلك الصور الملعون فاعلها التي لا تدخل الملائكة بيتا هي فيه تمنع الهوام وهو ضرب من طلاسم الصابئة. ثم كثير منهم على ما بلغني يصلب باب البيت. ويخرج خلق عظيم في الخميس الحقير المتقدم وعلى هذا يبخرون القبور ويسمون هذا المتأخر الخميس الكبير وهو عند الله الخميس المهين الحقير هو وأهله ومن يعظمه فإن كل ما عظم بالباطل من مكان أو زمان أو حجر أو شجر أو بنية يجب قصد إهانته كما تهان الأوثان المعبودة وإن كانت لولا عبادتها لكانت كسائر الأحجار. ومما يفعله الناس من المنكرات: أنهم يوظفون على الفلاحين وظائف أكثره كرها؛ من الغنم والدجاج واللبن والبيض يجتمع فيها تحريمان: أكل مال المسلم والمعاهد بغير حق وإقامة شعار النصارى ويجعلونه ميقاتا لإخراج الوكلاء على المزارع ويطبخون منه ويصطبغون فيه البيض وينفقون فيه النفقات الواسعة ويزينون أولادهم إلى غير ذلك من الأمور التي يقشعر منها قلب المؤمن. الذي لم يمت قلبه بل يعرف المعروف وينكر المنكر. وخلق كثير منهم يضعون ثيابهم تحت السماء رجاء لبركة نزول مريم عليها فهل يستريب من في قلبه أدنى حبة من الإيمان أن شريعة جاءت بما قدمنا بعضه من مخالفة اليهود والنصارى. لا يرضى من شرعها ببعض هذه القبائح.
    وأصل ذلك كله إنما هو اختصاص أعياد الكفار بأمر جديد أو مشابهتهم في بعض أمورهم فيوم الخميس هو عندهم يوم عيد المائدة ويوم الأحد يسمونه عيد الفصح وعيد النور والعيد الكبير. ولما كان عيدا صاروا يصنعون لأولادهم فيه البيض المصبوغ ونحوه لأنهم فيه يأكلون ما يخرج من الحيوان من لحم ولبن وبيض إذ صومهم هو عن الحيوان وما يخرج منه. وعامة هذه الأعمال المحكية عن النصارى وغيرها مما لم يحك قد زينها الشيطان لكثير ممن يرى الإسلام وجعل لها في قلوبهم مكانة وحسن ظن وزادوا في بعض ذلك ونقصوا وقدموا وأخروا. وكل ما خصت به هذه الأيام من أفعالهم وغيرها فليس للمسلم أن يشابههم في أصله ولا في وصفه. ومن ذلك أيضا أنهم يكسون بالحمرة دوابهم ويصبغون الأطعمة التي لا تكاد تفعل في عيد الله ورسوله ويتهادون الهدايا التي تكون في مثل مواسم الحج.

    وعامتهم قد نسوا أصل ذلك وبقي عادة مطردة. وهذا كله تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم {لتتبعن سنن من كان قبلكم} وإذا كانت المتابعة في القليل ذريعة ووسيلة إلى بعض هذه القبائح. كانت محرمة فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله من التبرك بالصليب والتعمد في المعمودية. وقول القائل: المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن: إما كون الشريعة النصرانية أو اليهودية المبدلين المنسوخين موصلة إلى الله وإما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله أو التدين بذلك أو غير ذلك مما هو كفر بالله ورسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا خلاف بين الأمة. وأصل ذلك المشابهة والمشاركة. وبهذا يتبين لك كمال موقع الشريعة الحنيفية. وبعض حكم ما شرع الله لرسوله من مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة الأمور؛ لتكون المخالفة أحسم لمادة الشر وأبعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #270
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 268)

    من صــ 216 الى صـ 230



    فينبغي للمسلم إذا طلب منه أهله وأولاده شيئا من ذلك أن يحيلهم على ما عند الله ورسوله ويقضي لهم في عيد الله من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله ومن أغضب أهله لله أرضاه الله وأرضاهم. فليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء}. وأكثر ما يفسد الملك والدول طاعة النساء. ففي صحيح البخاري عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة}. وروي أيضا: {هلكت الرجال حين أطاعت النساء} وقد {قال صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين لما راجعنه في تقديم أبي بكر: إنكن صواحب يوسف}. يريد أن النساء من شأنهن مراجعة ذي اللب كما قال في الحديث الآخر: {ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن}. {ولما أنشده الأعشى - أعشى باهلة - أبياته التي يقول فيها: وهن شر غالب لمن غلب جعل النبي صلى الله عليه وسلم يرددها ويقول: وهن شر غالب لمن غلب} ولذلك امتن الله سبحانه على زكريا حيث قال: {وأصلحنا له زوجه} قال بعض العلماء ينبغي للرجل أن يجتهد إلى الله في إصلاح زوجته.
    وقد قال صلى الله عليه وسلم {من تشبه بقوم فهو منهم}. وقد روى البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهية الدخول على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم؛ والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم - عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن عطاء بن دينار قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه " لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخط ينزل عليهم ". فهذا عمر قد نهى عن تعلم لسانهم وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم فكيف من يفعل بعض أفعالهم؟ أو قصد ما هو من مقتضيات دينهم؟ أليست موافقتهم في العمل أعظم من موافقتهم في اللغة؟ أو ليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد تعرض لعقوبة ذلك.

    ثم قوله: " اجتنبوا أعداء الله في عيدهم " أليس نهيا عن لقائهم والاجتماع بهم فيه؟ فكيف بمن عمل عيدهم وقال ابن عمر في كلام له: من صنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم. وقال عمر: اجتنبوا أعداء الله في عيدهم. ونص الإمام أحمد على أنه لا يجوز شهود أعياد اليهود والنصارى واحتج بقول الله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} قال الشعانين وأعيادهم. وقال عبد الملك بن حبيب من أصحاب مالك في كلام له قال: فلا يعاونون على شيء من عيدهم؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم. وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك وهو قول مالك وغيره: لم أعلم أنه اختلف فيه.
    وأكل ذبائح أعيادهم داخل في هذا الذي اجتمع على كراهيته بل هو عندي أشد: وقد سئل أبو القاسم عن الركوب في السفن التي ركب فيها النصارى إلى أعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخط عليهم بشركهم. الذي اجتمعوا عليه وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم} فيوافقهم ويعينهم {فإنه منهم}. وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى قال: قلت لعمر: إن لي كاتبا نصرانيا قال: ما لك قاتلك الله أما سمعت الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} ألا اتخذت حنيفيا قال: قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله.
    وقال الله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} قال مجاهد: أعياد المشركين وكذلك قال الربيع بن أنس. وقال القاضي أبو يعلى (مسألة في النهي عن حضور أعياد المشركين وروى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده في شروط أهل الذمة عن الضحاك في قوله: {والذين لا يشهدون الزور} قال: عيد المشركين وبإسناده عن سنان عن الضحاك {والذين لا يشهدون الزور} كلام المشركين. وروى بإسناده عن ابن سلام عن عمرو بن مرة {والذين لا يشهدون الزور} لا يماكثون أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم. وقد دل الكتاب وجاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين التي أجمع أهل العلم عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم. . . (1) إيقاد النار والفرح بها من شعار المجوس عباد النيران. والمسلم يجتهد في إحياء السنن. وإماتة البدع. ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم {اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون} وقد أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. والله سبحانه أعلم.
    وسئل:
    عمن يفعل من المسلمين: مثل طعام النصارى في النيروز. ويفعل سائر المواسم مثل الغطاس والميلاد وخميس العدس وسبت النور ومن يبيعهم شيئا يستعينون به على أعيادهم أيجوز للمسلمين أن يفعلوا شيئا من ذلك؟ أم لا؟
    فأجاب:
    الحمد لله، لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك. ولا يحل فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك. ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار زينة. وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام لا يخصه المسلمون بشيء من خصائصهم.
    وأما إذا أصابه المسلمون قصدا فقد كره ذلك طوائف من السلف والخلف.

    وأما تخصيصه بما تقدم ذكره فلا نزاع فيه بين العلماء. بل قد ذهب طائفة من العلماء إلى كفر من يفعل هذه الأمور لما فيها من تعظيم شعائر الكفر. وقال طائفة منهم: من ذبح نطيحة يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيرا. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من [تأسى] (*) ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة. وفي سنن أبي داود عن ثابت بن الضحاك قال: {نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل كان فيها من وثن يعبد من دون الله من أوثان الجاهلية؟ قال: لا قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم} فلم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل أن يوفي بنذره مع أن الأصل في الوفاء أن يكون واجبا حتى أخبره أنه لم يكن بها عيد من أعياد الكفار وقال: {لا وفاء لنذر في معصية الله}.

    فإذا كان الذبح بمكان كان فيه عيدهم معصية. فكيف بمشاركتهم في نفس العيد؟ بل قد شرط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة وسائر أئمة المسلمين أن لا يظهروا أعيادهم في دار المسلمين وإنما يعملونها سرا في مساكنهم. فكيف إذا أظهرها المسلمون أنفسهم؟ حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه " لا تتعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخط ينزل عليهم ". وإذا كان الداخل لفرجة أو غيرها منهيا عن ذلك؛ لأن السخط ينزل عليهم. فكيف بمن يفعل ما يسخط الله به عليهم مما هي من شعائر دينهم؟ وقد قال غير واحد من السلف في قوله تعالى {والذين لا يشهدون الزور} قالوا أعياد الكفار فإذا كان هذا في شهودها من غير فعل فكيف بالأفعال التي هي من خصائصها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسند والسنن أنه قال: {من تشبه بقوم فهو منهم} وفي لفظ: {ليس منا من تشبه بغيرنا} وهو حديث جيد. فإذا كان هذا في التشبه بهم وإن كان من العادات فكيف التشبه بهم فيما هو أبلغ من ذلك؟!.
    وقد كره جمهور الأئمة - إما كراهة تحريم أو كراهة تنزيه - أكل ما ذبحوه لأعيادهم وقرابينهم إدخالا له فيما أهل به لغير الله وما ذبح على النصب وكذلك نهوا عن معاونتهم على أعيادهم بإهداء أو مبايعة وقالوا: إنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئا من مصلحة عيدهم لا لحما ولا دما ولا ثوبا ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيء من دينهم؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك. لأن الله تعالى يقول: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}. ثم إن المسلم لا يحل له أن يعينهم على شرب الخمور بعصرها أو نحو ذلك. فكيف على ما هو من شعائر الكفر. وإذا كان لا يحل له أن يعينهم هو فكيف إذا كان هو الفاعل لذلك والله أعلم.
    [النهي عن موالاة الكفار ومودتهم]
    وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة: 51] وقال سبحانه: {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم} [المجادلة: 14] يعيب بذلك المنافقين الذين تولوا اليهود. . . إلى قوله: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22] إلى قوله: {أولئك حزب الله} [المجادلة: 22].
    وقال تعالى:
    {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض} [الأنفال: 72] إلى قوله: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال: 73]
    إلى قوله: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} [الأنفال: 75].
    فعقد سبحانه الموالاة بين المهاجرين والأنصار، وبين من آمن بعدهم وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة.
    والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه والجهاد باق إلى يوم القيامة.
    فكل شخص يمكن أن يقوم به هذان الوصفان، إذ كان كثير من النفوس اللينة تميل إلى هجر السيئات دون الجهاد، والنفوس القوية قد تميل إلى الجهاد دون هجر السيئات، وإنما عقد الموالاة لمن جمع الوصفين، وهم أمة محمد حقيقة.

    وقال: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة: 55 - 56] ونظائر هذا في غير موضع من القرآن: يأمر سبحانه بموالاة المؤمنين حقا - الذين هم حزبه وجنده - ويخبر أن هؤلاء لا يوالون الكافرين ولا يوادونهم.
    والموالاة والموادة: وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم.
    ومشاركتهم في الظاهر: إن لم تكن ذريعة أو سببا قريبا أو بعيدا إلى نوع ما من الموالاة والموادة، فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة، مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة - كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة - ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات.
    فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: " قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتبا نصرانيا قال: ما لك؟ قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [المائدة: 51] ألا اتخذت حنيفا؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، لي كتابته وله دينه. قال:
    لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله " ولما دل عليه معنى الكتاب: وجاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين، التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم.
    ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» أمر بمخالفتهم؛ وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمرا مقصودا للشارع؛ لأنه: إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود، وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط، فهو لأجل ما فيه من المخالفة فالمخالفة: إما علة مفردة أو علة أخرى، أو بعض علة، وعلى التقديرات تكون مأمورا بها مطلوبة
    من الشارع؛ لأن الفعل المأمور به إذا عبر عنه. بلفظ مشتق من معنى أعم من ذلك الفعل؛ فلا بد أن يكون ما منه الاشتقاق أمرا مطلوبا، لا سيما إن ظهر لنا أن المعنى المشتق منه معنى مناسب للحكمة، كما لو قيل للضيف: أكرمه، بمعنى أطعمه، أو للشيخ الكبير: وقره، بمعنى اخفض صوتك له، أو نحو ذلك.
    [وجوه الأمر بمخالفة الكفار]

    وذلك لوجوه:
    * أحدها أن الأمر إذا تعلق باسم مفعول مشتق من معنى كان المعنى علة للحكم، كما في قوله عز وجل: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5]
    وقوله {فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات: 10] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني» وهذا كثير معلوم.
    فإذا كان نفس الفعل المأمور به مشتقا من معنى أعم منه؛ كان نفس الطلب والاقتضاء قد علق بذلك المعنى الأعم، فيكون مطلوبا بطريق الأولى.
    * الوجه الثاني: أن جميع الأفعال مشتقة، سواء كانت مشتقة من المصدر، أو كان المصدر مشتقا منها، أو كان كل منهما مشتقا من الآخر، بمعنى: أن بينهما مناسبة في اللفظ والمعنى، لا بمعنى: أن أحدهما أصل والآخر فرع، بمنزلة المعاني المتضايفة كالأبوة والبنوة أو كالأخوة من الجانبين، ونحو ذلك.
    فعلى كل حال: إذا أمر بفعل كان نفس مصدر الفعل أمرا مطلوبا للآمر، مقصودا له كما في قوله: اتقوا الله و {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195] و {آمنوا بالله ورسوله} [النساء: 136] و {اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 72] و {فعليه توكلوا} [يونس: 84].
    فإن نفس التقوى، والإحسان، والإيمان، والعبادة أمور مطلوبة مقصودة، بل هي نفس المأمور به.
    ثم المأمور به أجناس لا يمكن أن تقع إلا معينة، وبالتعيين تقترن بها أمور غير مقصودة للآمر، لكن لا يمكن العبد إيقاع الفعل المأمور به؛ إلا مع أمور معينة له، فإنه إذا قال: {فتحرير رقبة} [النساء: 92] فلا بد إذا أعتق العبد رقبة أن يقترن بهذا المطلق تعيين: من سواد، أو بياض، أو طول، أو قصر،
    أو عربية، أو عجمية، أو غير ذلك من الصفات، لكن المقصود: هو المطلق المشترك بين هذه المعينات.
    وكذلك إذا قيل: اتقوا الله وخالفوا اليهود؛ فإن التقوى تارة تكون بفعل واجب: من صلاة، أو صيام، وتارة تكون بترك محرم: من كفر أو زنا، أو نحو ذلك، فخصوص ذلك الفعل إذا دخل في التقوى لم يمنع دخول غيره، فإذا رئي رجل على زنا فقيل: له اتق الله؛ كان أمرا له بعموم التقوى، داخلا فيه خصوص ترك ذلك الزنا؛ لأن سبب اللفظ العام لا بد أن يدخل فيه. كذلك إذا قيل: " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " كان أمرا بعموم المخالفة، داخلا فيه المخالفة بصبغ اللحية؛، لأنه سبب اللفظ العام.
    وسببه: أن الفعل فيه عموم وإطلاق لفظي ومعنوي فيجب الوفاء به، وخروجه على سبب يوجب أن يكون داخلا فيه لا يمنع أن يكون غيره داخلا فيه - وإن قيل: إن اللفظ العام يقصر على سببه - لأن العموم هاهنا من جهة المعنى - فلا يقبل من التخصيص ما يقبله العموم اللفظي.

    فإن قيل: الأمر بالمخالفة أمر بالحقيقة المطلقة وذلك لا عموم فيه بل يكفي فيه المخالفة في أمر ما، وكذلك سائر ما يذكرونه فمن أين اقتضى ذلك المخالفة في غير ذلك الفعل المعين؟.
    قلت: هذا سؤال قد يورده بعض المتكلمين في عامة الأفعال المأمور بها ويلبسون به على الفقهاء وجوابه من وجهين.
    أحدهما: أن التقوى والمخالفة ونحو ذلك من الأسماء والأفعال المطلقة قد يكون العموم فيها من جهة عموم الكل لأجزائه لا من جهة عموم الجنس لأنواعه؛ فإن العموم ثلاثة أقسام:
    1 - عموم الكل لأجزائه: وهو ما لا يصدق فيه الاسم العام، ولا أفراده على جزئه.
    2 - عموم الجميع لأفراده: وهو ما يصدق فيه أفراد الاسم العام على آحاده.
    3 - عموم الجنس لأنواعه وأعيانه: وهو ما يصدق فيه نفس الاسم العام على أفراده.

    فالأول: عموم الكل لأجزائه في الأعيان والأفعال والصفات كما في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] فإن اسم الوجه يعم الخد والجبين والجبهة ونحو ذلك وكل واحد من هذه الأجزاء ليس هو الوجه فإذا غسل بعض هذه الأجزاء لم يكن غاسلا للوجه لانتفاء المسمى بانتفاء جزئه.
    وكذلك في الصفات والأفعال إذا قيل: صل فصلى ركعة وخرج بغير سلام أو قيل: صم فصام بعض يوم لم يكن ممتثلا لانتفاء معنى الصلاة المطلقة والصوم المطلق وكذلك إذا قيل: أكرم هذا الرجل. فأطعمه وضربه لم يكن ممتثلا؛ لأن الإكرام المطلق يقتضي فعل ما يسره وترك ما يسوءه.
    فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» فلو أطعمه بعض كفايته وتركه جائعا لم يكن مكرما له؛ لانتفاء أجزاء الإكرام، ولا يقال: الإكرام حقيقة مطلقة وذلك يحصل بإطعام لقمة كذلك إذا قال: خالفوهم. فالمخالفة المطلقة تنافي الموافقة في بعض الأشياء، أو في أكثرها على طريق التساوي؛ لأن المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فيكون الأمر بأحدهما نهيا عن الآخر، ولا يقال: إذا خالف في شيء ما فقد حصلت المخالفة، كما لا يقال: إذا وافقه في شيء ما فقد حصلت الموافقة.
    وسر ذلك الفرق بين مفهوم اللفظ المطلق وبين المفهوم المطلق من اللفظ، فإن اللفظ يستعمل مطلقا ومقيدا.
    فإذا أخذت المعنى المشترك بين جميع موارده مطلقها ومقيدها؛ كان أعم من المعنى المفهوم منه عند إطلاقه وذلك المعنى المطلق يحصل بحصول بعض مسميات اللفظ في أي استعمال حصل من استعمالاته المطلقة والمقيدة.

    وأما معناه في حال إطلاقه فلا يحصل بعض معانيه عند التقييد بل يقتضي أمورا كثيرة لا يقتضيها اللفظ المقيد.
    فكثيرا ما يغلط الغالطون هنا. ألا ترى أن الفقهاء يفرقون بين الماء المطلق وبين المائية المطلقة الثابتة في المني والمتغيرات وسائر المائعات، فأنت تقول عند التقييد: أكرم الضيف بإعطاء هذا الدرهم. فهذا إكرام مقيد، فإذا قلت: أكرم الضيف. كنت آمرا بمفهوم اللفظ المطلق وذلك يقتضي أمورا
    لا تحصل بحصول إعطاء درهم فقط.
    ، وأما القسم الثاني من العموم فهو عموم الجميع لأفراده كما يعم قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] كل مشرك.
    والقسم الثالث من أقسام العموم: عموم الجنس لأعيانه كما يعم قوله: «لا يقتل مسلم بكافر» جميع أنواع القتل والمسلم والكافر.
    __________
    Q (1) بياض بالأصل


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #271
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 269)

    من صــ 231 الى صـ 245




    إذا تبين هذا فالمخالفة المطلقة لا تحصل بالمخالفة في شيء ما إذا كانت الموافقة قد حصلت في أكثر منه وإنما تحصل بالمخالفة في جميع الأشياء أو في غالبها، إذ المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فلا يجتمعان، بل الحكم للغالب وهذا تحقيق جيد، لكنه مبني على مقدمة وهو أن المفهوم من لفظ المخالفة عند الإطلاق، يعم المخالفة في عامة الأمور الظاهرة، فإن خفي هذا في هذا الموضع المعين فخذ في:
    الوجه الثاني وهو العموم المعنوي وهو أن المخالفة مشتقة، فإنما أمر بها لمعنى كونها مخالفة، كما تقدم تقريره وذلك ثابت في كل فرد من أفراد المخالفة فيكون العموم ثابتا من جهة المعنى المعقول، وبهذين الطريقين يتقرر العموم في قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر: 2] وغير ذلك من الأفعال.
    وإن كان أكثر الناس إنما يفزعون إلى الطريق الثاني وقل منهم من يتفطن للطريق الأول وهو أبلغ إذا صح.
    ثم نقول: هب أن الإجزاء يحصل بما يسمى مخالفة، لكن الزيادة على القدر المجزئ مشروعة؛ إذا كان الأمر مطلقا كما في قوله: {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] ونحو ذلك من الأوامر المطلقة.
    الوجه الثالث في أصل التقرير أن عدول الأمر عن لفظ الفعل الخاص به إلى لفظ أعم منه معنى كعدوله عن لفظ: أطعمه. إلى لفظ: أكرمه. وعن لفظ: فاصبغوا إلى لفظ: فخالفوهم لا بد له من فائدة، وإلا فمطابقة اللفظ للمعنى أولى من إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص، وليست هنا فائدة تظهر إلا تعلق القصد بذلك المعنى العام المشتمل على هذا الخاص وهذا بين عند التأمل.
    الوجه الرابع: أن العلم بالعام عاما يقتضي العلم بالخاص، والقصد العام عاما يوجب القصد للمعنى الخاص، فإنك إذا علمت أن كل مسكر خمر، وعلمت أن النبيذ مسكر، كان علمك بذلك الأمر العام وبحصوله في الخاص موجبا لعلمك بوصف الخاص كذلك إذا كان قصدك طعاما مطلقا، أو مالا مطلقا، وعلمت وجود طعام معين أو مال معين في مكان حصل قصدك له إذ العلم والقصد يتطابقان في مثل هذا والكلام يبين مراد المتكلم ومقصوده.
    فإذا أمر بفعل باسم دال على معنى عام مريدا به فعلا خاصا كان ما ذكرناه من الترتيب الحكمي يقتضي أنه قاصد بالأول لذلك المعنى العام وأنه إنما قصد ذلك الفعل الخاص لحصوله به.
    ففي قوله: أكرمه. طلبان طلب للإكرام المطلق وطلب لهذا الفعل الذي يحصل به الفعل المطلق؛ وذلك؛ لأن حصول المعين مقتض لحصول المطلق، وهذا معنى صحيح، إذا صادف فطنة من الإنسان وذكاء؛ انتفع به في كثير من المواضع وعلم به طريق البيان والدلالة.
    بقي أن يقال هذا يدل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وهذا صحيح لكن قصد الجنس قد يحصل الاكتفاء فيه بالمخالفة في بعض الأمور، فما زاد على ذلك لا حاجة إليه. قلت: إذا ثبت أن الجنس مقصود في الجملة كان ذلك حاصلا في كل فرد من أفراده ولو فرض أن الوجوب سقط بالبعض؛ لم يرفع حكم الاستحباب عن الباقي.
    وأيضا فإن ذلك يقتضي النهي عن موافقتهم؛ لأن من قصد
    مخالفتهم بحيث أمر بإحداث فعل يقتضي مخالفتهم فيما لم تكن الموافقة فيه من فعلنا، ولا قصدنا كيف لا ينهانا عن أن نفعل فعلا فيه موافقتهم سواء قصدنا موافقتهم أو لم نقصدها.
    الوجه الخامس: أنه رتب الحكم على الوصف بحرف الفاء فيدل هذا على أنه علة له من غير وجه حيث قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم. فإنه يقتضي أن علة الأمر بهذه المخالفة كونهم لا يصبغون فالتقدير: اصبغوا؛ لأنهم لا يصبغون وإذا كان علة الأمر بالفعل عدم فعلهم له دل على أن قصد المخالفة لهم ثابت بالشرع، وهو المطلوب يوضح ذلك أنه لو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصبغ لم يكن لذكرهم فائدة، ولا حسن تعقيبه به، وهذا وإن دل على أن مخالفتهم أمر مقصود للشرع فذلك لا ينفي أن يكون في نفس الفعل الذي خولفوا فيه مصلحة مقصودة مع قطع النظر عن مخالفتهم فإن هنا شيئين:
    أحدهما: أن نفس المخالفة لهم في الهدى الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب
    المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان.

    والثاني: أن نفس ما هم عليه من الهدى والخلق قد يكون مضرا أو منقصا فينهى عنه، ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال، وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو ناقص؛ لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة، وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص، فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال، ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملا قط، فإذا المخالفة فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورهم حتى ما هم عليه من إتقان بعض أمور دنياهم قد يكون مضرا بأمر الآخرة أو بما هو أهم منه من أمر الدنيا لمخالفة فيه صلاح لنا.

    وبالجملة فالكفر بمنزلة مرض القلب وأشد ومتى كان القلب مريضا لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة، وإنما الصلاح أن لا تشبه
    مريض القلب في شيء من أموره، وإن خفي عليك مرض ذلك العضو لكن يكفيك أن فساد الأصل لا بد أن يؤثر في الفرع، ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله فإن من في قلبه مرض قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة لعدم استبانته لفائدته، أو يتوهم أن هذا من جنس أمر الملوك والرؤساء القاصدين للعلو في الأرض، ولعمري إن النبوة غاية الملك الذي يؤتيه الله من يشاء وينزعه ممن يشاء، ولكن ملك هو غاية صلاح من أطاعه من العباد في معاشهم ومعادهم.
    وحقيقة الأمر: أن جميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خلل يمنعها أن تتم منفعة بها.
    ولو فرض صلاح شيء من أموره على التمام، لاستحق بذلك ثواب الآخرة، ولكن كل أموره إما فاسدة وإما ناقصة، فالحمد لله على نعمة الإسلام التي هي أعظم النعم، وأم كل خير كما يحب ربنا ويرضى.
    فقد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة، ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة يعللون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول: ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب، لا يتشبه بأهل الكتاب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا بأهل الكتاب».
    وقال إسحاق بن إبراهيم سمعت أبا عبد الله يقول لأبي
    : يا أبا هاشم اخضب ولو مرة واحدة، أحب لك أن تخضب، ولا تشبه باليهود.
    وهذا اللفظ الذي احتج به أحمد قد رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود.». قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
    وقد رواه النسائي من حديث محمد بن كناسة عن هشام بن عروة عن عثمان بن
    عروة عن أبيه عن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود» ورواه أيضا من حديث عروة عن عبد الله بن عمر لكن قال النسائي: كلاهما ليس بمحفوظ.
    وقال الدارقطني المشهور عن عروة مرسلا.
    وهذا اللفظ دل على الأمر بمخالفتهم والنهي عن مشابهتهم فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بيض الشيب الذي ليس من فعلنا، فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى، ولهذا كان هذا التشبه يكون محرما بخلاف الأول.

    وأيضا ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب، وأوفوا اللحى». رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه فأمر بمخالفة المشركين مطلقا ثم قال: «أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى». وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى، فإن الإبدال يقع في الجمل كما يقع في المفردات كقوله تعالى: {يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [البقرة: 49] فهذا الذبح والاستحياء هو سوء العذاب كذلك هنا هذا هو المخالفة للمشركين المأمور بها هنا لكن الأمر بها أولا بلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وإن عينت هنا في هذا الفعل فإن تقديم المخالفة علة تقدم العام على الخاص كما يقال: أكرم ضيفك: أطعمه، وحادثه. فأمرك بالإكرام أولا دليل على أن إكرام الضيف مقصود، ثم عينت الفعل الذي يكون إكراما في ذلك الوقت.
    والتقرير من هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله: لا يصبغون فخالفوهم. وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس».

    فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب، وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع، وهو العلة في هذا الحكم، أو علة أخرى،
    أو بعض علة، وإن كان الأظهر عند الإطلاق: أنه علة تامة؛ ولهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس، في هذا وغيره، كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي صلى الله عليه وسلم من هدى المجوس.
    وقال المروذي سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن حلق القفا فقال: هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
    وقال أيضا: قيل لأبي عبد الله: يكره للرجل أن يحلق قفاه، أو وجهه. فقال: أما أنا فلا أحلق قفاي.
    وقد روي فيه حديث مرسل عن قتادة
    كراهيته وقال: إن حلق القفا من فعل المجوس.
    قال وكان أبو عبد الله يحلق قفاه وقت الحجامة.
    وقال أحمد أيضا: لا بأس أن يحلق قفاه وقت الحجامة.
    وقد روى عنه ابن منصور قال: سألت أحمد عن حلق القفا فقال: لا أعلم فيه حديثا إلا ما يروى عن إبراهيم أنه كره قردا يرقوس وذكر الخلال هذا وغيره.
    وذكره أيضا بإسناده عن الهيثم بن حميد قال: حف القفا من شكل المجوس.
    وعن المعتمر بن سليمان التيمي قال: كان أبي إذا جز شعره لم يحلق قفاه. قيل له: لم؟ قال: كان يكره أن يتشبه بالعجم.
    والسلف تارة يعللون الكراهة بالتشبه بأهل الكتاب، وتارة بالتشبيه بالأعاجم، وكلا العلتين منصوصة في السنة مع أن الصادق صلى الله عليه وسلم قد أخبر بوقوع المشابهة لهؤلاء وهؤلاء كما قدمنا بيانه.
    وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا
    اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم» رواه أبو داود.
    وهذا مع أن نزع اليهود نعالهم مأخوذ عن موسى عليه السلام لما قيل له: {فاخلع نعليك} [طه: 12].
    عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر» رواه مسلم في صحيحه.
    وهذا يدل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع وقد صرح بذلك فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن

    النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون».
    وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى.
    وإذا كان مخالفتهم سببا لظهور الدين فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله، فيكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة.
    وهكذا روى أبو داود من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا
    المغرب إلى أن تشتبك النجوم» ورواه ابن ماجه من حديث العباس ورواه الإمام أحمد من حديث السائب بن يزيد.
    وقد جاء مفسرا تعليله: لا يزالون بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى طلوع النجم مضاهاة لليهودية، ويؤخروا الفجر إلى
    محاق النجوم مضاهاة للنصرانية.
    قال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا الصلت بن بهرام عن الحارث بن وهب عن أبي عبد الرحمن الصنابحي
    قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمتي على مسكة ما لم ينتظروا بالمغرب اشتباك النجوم مضاهاة لليهودية ولم ينتظروا بالفجر محاق النجوم مضاهاة للنصرانية ولم يكلوا الجنائز إلى أهلها».

    وقال سعيد بن منصور: حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط عن أبيه عن ليلى
    امرأة بشير بن الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فنهاني عنه بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني عن ذلك وقال: «إنما يفعل ذلك النصارى، صوموا كما أمركم الله وأتموا الصوم كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا». وقد رواه أحمد في المسند.
    فعلل النهي عن الوصال بأنه صوم النصارى وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشبه أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها.
    وعن حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه: «أن اليهود كانوا إذا
    حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة: 222] إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    اصنعوا كل شيء إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا
    فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفنا أنه لم يجد عليهما» رواه مسلم.
    فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا: ما يريد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه.
    ثم إن المخالفة كما سنبينه تارة تكون في أصل الحكم وتارة في وصفه.
    ومجانبة الحائض: لم يخالفوا في أصله بل خولفوا في وصفه حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى، فلما أراد بعض الصحابة أن يعتدي في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله، تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الباب - باب الطهارة - كان على اليهود فيه أغلال عظيمة فابتدع النصارى ترك ذلك كله حتى
    إنهم لا ينجسون شيئا، بلا شرع من الله فهدى الله الأمة الوسط بما شرعه لها إلى وسط من ذلك وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضا مشروعا، فاجتناب ما لم يشرع الله اجتنابه مقاربة لليهود وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

    وعن أبي أمامة عن «عمرو بن عبسة قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة فإنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، قال: فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال أنا نبي. فقلت: وما نبي؟ قال أرسلني الله. فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء. فقلت له: من معك على هذا؟ قال: حر وعبد. قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال فقلت: إني متبعك. قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني. قال فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم نفر من أهل يثرب من أهل المدينة. فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك. فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت يا رسول الله، أتعرفني قال: نعم، أنت الذي لقيتني بمكة. قال: فقلت: يا نبي الله، أخبرني عما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة قال: صل
    صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار» وذكر الحديث رواه مسلم.

    فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب، معللا بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان وأنه حينئذ يسجد لها الكفار.
    ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان ولا أن الكفار يسجدون لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسما لمادة المشابهة بكل طريق، ويظهر بعض فائدة ذلك بأن من الصابئة المشركين اليوم ممن يظهر الإسلام ويعظم الكواكب، ويزعم أنه يخاطبها بحوائجه، ويسجد لها وينحر ويذبح.
    وقد صنف بعض المنتسبين إلى الإسلام في مذهب المشركين من الصابئة والبراهمة كتبا في عبادة الكواكب توسلا بذلك زعموا إلى مقاصد دنيوية من الرئاسة وغيرها وهي من السحر الذي كان عليه الكنعانيون الذين ملوكهم النماردة الذين بعث الله الخليل صلوات الله وسلامه عليه بالحنيفية وإخلاص الدين كله لله إلى هؤلاء المشركين.
    فإذا كان في هذه الأزمنة من يفعل مثل هذا، تحققت حكمة الشارع
    صلوات الله وسلامه عليه في النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، سدا للذريعة وكان فيه تنبيه على أن كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها، مما يكون كفرا أو معصية بالنية، ينهى المؤمنون عن ظاهره وإن لم يقصدوا به قصد المشركين سدا للذريعة وحسما للمادة.
    ومن هذا الباب أنه صلى الله عليه وسلم، كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولم يصمد له صمدا.
    ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة، وإن لم يكن العابد يقصد ذلك، ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل وإن لم يقصد الساجد ذلك لما فيه من مشابهة السجود لغير الله، فانظر كيف قطعت الشريعة المشابهة في الجهات وفي الأوقات وكما لا يصلى إلى القبلة التي يصلون إليها كذلك لا يصلى إلى ما يصلون له بل هذا أشد فسادا، فإن القبلة
    شريعة من الشرائع قد تختلف باختلاف شرائع الأنبياء، أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله كما قال سبحانه وتعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45].
    وأيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلا يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة فقال له: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذبون وفي رواية تلك صلاة المغضوب عليهم وفي رواية «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده». رواهن أبو داود.
    ففي هذا الحديث النهي عن هذه الجلسة معللا بأنها جلسة المعذبين، وهذه مبالغة في مجانبة هديهم.
    وأيضا فروى البخاري عن مسروق عن عائشة أنها كانت تكره
    أن يجعل يده في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله ورواه أيضا من حديث أبي هريرة قال: «نهى عن الخصر في الصلاة» وفي لفظ: «نهى أن يصلي الرجل مختصرا.» قال وقال هشام وأبو هلال عن ابن سيرين
    عن أبي هريرة نهى النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا رواه مسلم في صحيحه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وعن زياد بن صبيح قال: «صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه.» رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
    وأيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا». رواه مسلم وأبو داود من حديث الليث
    عن أبي الزبير عن جابر. .
    ورواه أبو داود وغيره من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: «ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا بالمدينة فصرعه على جذم نخلة فانقطعت قدمه، فأتيناه نعوده، فوجدناه في مشربة لعائشة يسبح جالسا. قال: فقمنا خلفه، فسكت عنا، ثم أتيناه مرة أخرى نعوده فصلى المكتوبة جالسا، فقمنا خلفه، فأشار إلينا فقعدنا. قال: فلما قضى الصلاة. قال: إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا وإذا صلى الإمام قائما فصلوا قياما، ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها» وأظن في غير رواية أبي داود «ولا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا».
    ففي هذا الحديث أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة، وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم، في قيامهم وهم قعود.
    ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم لله لا لإمامه وهذا
    تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد، ونهى أيضا عما يشبه ذلك، وإن لم يقصد به ذلك، ولهذا نهى عن السجود لله بين يدي الرجل، وعن الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله، كالنار ونحوها.
    وفي هذا الحديث أيضا نهى عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم لقوله فلا تفعلوا. فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية.

    ثم هذا الحديث سواء كان محكما في قعود الإمام أو منسوخا فإن الحجة منه قائمة؛ لأن نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجح عليها مثل كون القيام فرضا في الصلاة فلا يسقط الفرض بمجرد المشابهة الصورية، وهذا محل اجتهاد، وأما المشابهة الصورية إذا لم تسقط فرضا كانت تلك العلة التي علل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمة عن معارض أو نسخ؛ لأن القيام في الصلاة ليس بمشابهة في الحقيقة فلا يكون محذورا فالحكم إذا علل بعلة، ثم نسخ مع بقاء العلة، فلا بد من أن يكون غيرها ترجح عليها وقت الناسخ أو ضعف تأثيرها أما أن تكون في نفسها باطلة فهذا محال هذا كله لو كان الحكم هنا منسوخا فكيف، والصحيح أن هذا الحديث محكم قد عمل به غير واحد من الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كونهم علموا صلاته في مرضه.

    وقد استفاض عنه صلى الله عليه وسلم الأمر به استفاضة صحيحة صريحة يمتنع معها أن يكون حديث المرض ناسخا له على ما هو مقرر في غير هذا الموضع إما بجواز الأمرين إذ فعل القيام لا ينافي فعل القعود، وإما بالفرق بين المبتدئ للصلاة قاعدا والصلاة التي ابتدأها الإمام قائما لعدم دخول
    هذه الصلاة في قوله. وإذا صلى قاعدا ولعدم المفسدة التي علل بها، ولأن بناء فعل آخر الصلاة على أولها أولى من بنائها على صلاة الإمام ونحو ذلك من الأمور المذكورة في غير هذا الموضع.
    وأيضا فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حبر فقال: هكذا نصنع يا محمد. قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: خالفوهم. رواه أبو داود وابن
    ماجه والترمذي وقال: بشر بن رافع ليس بالقوي في الحديث.
    قلت: قد اختلف العلماء في القيام للجنازة إذا مرت ومعها إذا شيعت، وأحاديث الأمر بذلك كثيرة مستفيضة ومن اعتقد نسخها أو نسخ القيام للمارة فعمدته حديث علي وحديث عبادة هذا.
    وإن كان القول بهما ممكنا؛ لأن المشيع يقوم لها حتى توضع عن أعناق الرجال لا في اللحد فهذا الحديث إما أن يقال به جمعا بينه وبين غيره، أو ناسخا لغيره وقد علل المخالفة ومن لا يقول به يضعفه، وذلك لا يقدح في الاستشهاد والاعتضاد به على جنس المخالفة.
    وقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم كان يمشي بين يدي الجنازة، ولا يقوم لها ويخبر عن عائشة قالت: كان أهل الجاهلية يقومون لها، يقولون إذا رأوها: كنت في أهلك ما كنت. مرتين فقد استدل من كره القيام بأنه كان من فعل الجاهلية وليس ال غرض هنا الكلام في عين هذه المسألة.
    وأيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللحد لنا والشق لغيرنا رواه أهل السنن الأربعة» وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللحد لنا والشق لغيرنا» رواه أحمد وابن ماجه وفي رواية لأحمد: «والشق لأهل
    الكتاب.» وهو مروي من طرق فيها لين لكن يصدق بعضها بعضا.
    وفيه التنبيه على مخالفتنا لأهل الكتاب حتى في وضع الميت في أسفل القبر.
    (ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ... (54)
    فإن قيل: قوله تبارك وتعالى {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} هو خطاب لذلك القرن كقوله تعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم}. ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أهل اليمن الذين دخلوا في الإسلام لما ارتد من ارتد من العرب: ويدل على ذلك أنه في آخر الأمر لا يبقى مؤمن. قيل: قوله تبارك وتعالى {يا أيها الذين آمنوا} خطاب لكل من بلغه القرآن من المؤمنين كسائر أنواع هذا الخطاب كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} وأمثالها. وكذلك قوله تعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم}. وكلاهما وقع ويقع كما أخبر الله عز وجل.

    فإنه ما ارتد عن الإسلام طائفة إلا أتى الله بقوم يحبهم يجاهدون عنه وهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة. يبين ذلك أنه ذكر هذا في سياق النهي عن موالاة الكفار فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} - إلى قوله - {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}. فالمخاطبون بالنهي عن موالاة اليهود والنصارى هم المخاطبون بآية الردة. ومعلوم أن هذا يتناول جميع قرون الأمة. وهو لما نهى عن موالاة الكفار وبين أن من تولاهم من المخاطبين فإنه منهم بين أن من تولاهم وارتد عن دين الإسلام لا يضر الإسلام شيئا.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #272
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 270)

    من صــ 246 الى صـ 260



    بل سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه فيتولون المؤمنين دون الكفار ويجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم كما قال في أول الأمر {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين}. فهؤلاء الذين لم يدخلوا في الإسلام وأولئك الذين خرجوا منه بعد الدخول فيه - لا يضرون الإسلام شيئا. بل يقيم الله من يؤمن بما جاء به رسوله وينصر دينه إلى قيام الساعة. وأهل اليمن هم ممن جاء الله بهم لما ارتد من ارتد إذ ذاك. وليست الآية مختصة بهم ولا في الحديث ما يوجب تخصيصهم. بل قد أخبر الله أنه يأتي بغير أهل اليمن كأبناء فارس لا يختص الوعد بهم. بل قد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} وهذا أيضا خطاب لكل قرن وقد أخبر فيه أنه من نكل عن الجهاد المأمور به عذبه واستبدل به من يقوم بالجهاد. وهذا هو الواقع.
    [فصل البرهان الخامس والعشرون " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " والجواب عليه]
    فصل
    قال الرافضي: " البرهان الخامس والعشرون: قوله تعالى:
    {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [سورة المائدة: 54] قال الثعلبي: إنما نزلت في علي، وهذا يدل على أنه أفضل، فيكون هو الإمام ".
    والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا كذب على الثعلبي، فإنه قال في تفسيره [في] هذه الآية: " قال علي وقتادة والحسن: إنهم أبو بكر وأصحابه. وقال مجاهد: هم أهل اليمن ". وذكر حديث عياض بن غنم: أنهم أهل اليمن، وذكر الحديث: " «أتاكم أهل اليمن» ". فقد نقل الثعلبي أن عليا فسر هذه الآية بأنهم أبو بكر وأصحابه.
    وأما أئمة التفسير، فروى الطبري عن المثنى، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا سيف بن عمر، عن أبي روق، [عن الضحاك]، عن أبي أيوب، عن علي [في قوله: {ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه} [سورة المائدة: 54] قال: علم الله المؤمنين، ووقع معنى السوء على الحشو الذي فيهم [من] المنافقين ومن في علمه أن يرتدوا، فقال: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله}: المرتدة في دورهم، {بقوم يحبهم ويحبونه}: بأبي بكر وأصحابه - رضي الله عنهم -.

    وذكر بإسناده هذا القول عن قتادة والحسن والضحاك وابن جريج، وذكر قوم أنهم الأنصار، وعن آخرين أنهم أهل اليمن، ورجح هذا الآخر وأنهم رهط أبي موسى، قال: " ولولا صحة الخبر بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان القول عندي [في ذلك] إلا قول من قال: هم أبو بكر وأصحابه " قال: " لما ارتد المرتدون جاء الله بهؤلاء على عهد عمر - رضي الله عنه -.
    الثاني: أن هذا قول بلا حجة، فلا يجب قبوله.
    الثالث: أن هذا معارض بما هو أشهر منه وأظهر، وهو أنها نزلت في أبي بكر وأصحابه، الذين قاتلوا معه أهل الردة. وهذا هو المعروف [عند الناس] كما تقدم. لكن هؤلاء الكذابون أرادوا أن يجعلوا الفضائل التي جاءت في أبي بكر يجعلونها لعلي، وهذا من المكر السيئ الذي لا يحيق إلا بأهله.
    وحدثني الثقة من أصحابنا أنه اجتمع بشيخ أعرفه، وكان فيه دين وزهد وأحوال معروفة لكن كان فيه تشيع. قال: وكان عنده كتاب يعظمه، ويدعي أنه من الأسرار، وأنه أخذه من خزائن الخلفاء، وبالغ في وصفه. فلما أحضره، فإذا به كتاب قد كتب بخط حسن، وقد عمدوا إلى الأحاديث التي في البخاري ومسلم جميعها في فضائل أبي بكر وعمر ونحوهما جعلوها لعلي. ولعل هذا الكتاب كان من خزائن بني عبيد المصريين، فإن خواصهم كانوا ملاحدة زنادقة غرضهم قلب الإسلام، وكانوا قد وضعوا من الأحاديث المفتراة التي يناقضون بها الدين ما لا يعلمه إلا الله.

    ومثل هؤلاء الجهال يظنون أن الأحاديث التي في البخاري ومسلم إنما أخذت عن البخاري ومسلم، كما يظن مثل ابن الخطيب ونحوه ممن لا يعرف حقيقة الحال، وأن البخاري ومسلما كان الغلط يروج عليهما، أوكانا يتعمدان الكذب، ولا يعلمون أن قولنا: رواه البخاري ومسلم علامة لنا على [ثبوت] صحته، لا أنه كان صحيحا بمجرد رواية البخاري ومسلم، بل أحاديث البخاري ومسلم رواها غيرهما من العلماء والمحدثين من لا يحصي عدده إلا الله، ولم ينفرد واحد منهما بحديث، بل ما من حديث إلا وقد رواه قبل زمانه وفي زمانه وبعد زمانه طوائف، ولو لم يخلق البخاري ومسلم لم ينقص من الدين شيء، وكانت تلك الأحاديث موجودة بأسانيد يحصل بها المقصود وفوق المقصود.

    وإنما قولنا: رواه البخاري ومسلم كقولنا: قرأه القراء السبعة. والقرآن منقول بالتواتر، لم يختص هؤلاء السبعة بنقل شيء منه، وكذلك التصحيح لم يقلد أئمة الحديث فيه البخاري ومسلما، بل جمهور ما صححاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحا متلقى بالقبول، وكذلك في عصرهما وكذلك بعدهما قد نظر أئمة هذا الفن في كتابيهما، ووافقوهما على تصحيح ما صححاه، إلا مواضع يسيرة، نحو عشرين حديثا، غالبها في مسلم، انتقدها عليهما طائفة من الحفاظ، وهذه
    المواضع المنتقدة غالبها في مسلم، وقد انتصر طائفة لهما فيها، وطائفة قررت قول المنتقدة.
    والصحيح التفصيل ; فإن فيها مواضع منتقدة بلا ريب، مثل حديث أم حبيبة، وحديث خلق الله البرية يوم السبت، وحديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر.
    وفيها مواضع لا انتقاد فيها في البخاري، فإنه أبعد الكتابين عن الانتقاد، ولا يكاد يروي لفظا فيه انتقاد، إلا ويروي اللفظ الآخر الذي يبين أنه منتقد، فما في كتابه لفظ منتقد، إلا وفي كتابه ما يبين أنه منتقد.
    وفي الجملة من نقد سبعة آلاف درهم، فلم يرج عليه فيها إلا دراهم يسيرة، ومع هذا فهي مغيرة ليست مغشوشة محضة، فهذا إمام في صنعته. والكتابان سبعة آلاف حديث وكسر.
    والمقصود أن أحاديثهما انتقدها الأئمة الجهابذة قبلهم وبعدهم، ورواها خلائق لا يحصي عددهم إلا الله، فلم ينفردا لا برواية ولا بتصحيح، والله - سبحانه وتعالى - هو الكفيل بحفظ هذا الدين، كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [سورة الحجر: 9].
    وهذا مثل غالب المسائل التي توجد في الكتب المصنفة في مذاهب الأئمة مثل القدوري والتنبيه والخرقي والجلاب، غالب ما فيها إذا قيل: ذكره فلان، علم أنه مذهب ذلك الإمام، وقد نقل ذلك سائر أصحابه، وهم خلق كثير ينقلون مذهبه بالتواتر.
    وهذه الكتب فيها مسائل انفرد بها بعض أهل المذهب، وفيها نزاع بينهم، لكن غالبا هو قول أهل المذهب. وأما البخاري ومسلم فجمهور ما فيهما اتفق عليه أهل العلم بالحديث، الذين هم أشد عناية بألفاظ الرسول وضبطا لها ومعرفة بها من أتباع الأئمة لألفاظ أئمتهم، وعلماء الحديث أعلم بمقاصد الرسول [في ألفاظه] من أتباع الأئمة بمقاصد أئمتهم، والنزاع بينهم في ذلك أقل من تنازع أتباع الأئمة في مذاهب أئمتهم.

    والرافضة - لجهلهم - يظنون أنهم إذا قبلوا ما في نسخة من ذلك، وجعلوا فضائل الصديق لعلي، أن ذلك يخفى على أهل العلم، الذين حفظ الله بهم الذكر.
    الرابع: أن يقال: إن الذي تواتر عند الناس أن الذي قاتل أهل الردة هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي قاتل مسيلمة الكذاب المدعي للنبوة وأتباعه بني حنيفة وأهل اليمامة. قد قيل: كانوا نحو مائة ألف أو أكثر، وقاتل طليحة الأسدي، وكان قد ادعى النبوة بنجد، واتبعه من أسد وتميم وغطفان ما شاء الله، ادعت النبوة سجاح، امرأة تزوجها مسيلمة الكذاب، فتزوج الكذاب بالكذابة.

    وأيضا فكان من العرب من ارتد عن الإسلام، ولم يتبع متنبئا كذابا.
    ومنهم قوم أقروا بالشهادتين، لكن امتنعوا من أحكامهما كمانعي الزكاة. وقصص هؤلاء مشهورة متواترة يعرفها كل من له بهذا الباب أدنى معرفة.
    والمقاتلون للمرتدين [هم من الذين يحبهم الله ويحبونه]، وهم أحق الناس بالدخول في هذه الآية، وكذلك الذين قاتلوا سائر الكفار من الروم والفرس. وهؤلاء أبو بكر وعمر ومن اتبعهما من أهل اليمن وغيرهم. ولهذا روي أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هؤلاء، فأشار إلى أبي موسى الأشعري، وقال: " هم قوم هذا ".
    فهذا أمر يعرف بالتواتر والضرورة: أن الذين أقاموا الإسلام وثبتوا عليه حين الردة، وقاتلوا المرتدين والكفار، هم داخلون في قوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} [سورة المائدة: 54].
    وأما علي - رضي الله عنه - فلا ريب أنه ممن يحب الله ويحبه الله، لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان، ولا * كان جهاده للكفار والمرتدين أعظم من جهاد هؤلاء، ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم * مما حصل بهؤلاء، بل كل منهم له سعي مشكور وعمل مبرور وآثار صالحة في الإسلام، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خير جزاء، فهم
    الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون، الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون.

    وأما أن يأتي إلى أئمة الجماعة الذين كان نفعهم في الدين والدنيا أعظم، فيجعلهم كفارا أو فساقا ظلمة، ويأتي إلى من لم يجر على يديه من الخير مثل ما جرى على يد واحد منهم، * فيجعله الله أو شريكا لله، أو شريك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو الإمام المعصوم الذي لا يؤمن إلا من * جعله معصوما منصوصا عليه، ومن خرج عن هذا فهو كافر، ويجعل الكفار المرتدين الذي قاتلهم أولئك كانوا مسلمين، ويجعل المسلمين الذين يصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان، ويحجون البيت، ويؤمنون بالقرآن يجعلهم كفارا لأجل قتال هؤلاء.
    فهذا عمل أهل الجهل والكذب والظلم والإلحاد في دين الإسلام، عمل من لا عقل له ولا دين ولا إيمان.
    والعلماء دائما يذكرون أن الذي ابتدع الرفض كان زنديقا ملحدا، مقصوده إفساد [دين] الإسلام. ولهذا [صار] الرفض مأوى الزنادقة الملحدين من الغالية والمعطلة، كالنصيرية والإسماعيلية ونحوهم.

    وأول الفكرة آخر العمل، فالذي ابتدع الرفض كان مقصوده إفساد
    دين الإسلام، ونقض عراه، وقلعه بعروشه آخرا، لكن صار يظهر منه ما يكنه من ذلك، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
    وهذا معروف عن ابن سبأ وأتباعه، وهو الذي ابتدع النص في علي، وابتدع أنه معصوم. فالرافضة الإمامية هم أتباع المرتدين، وغلمان الملحدين، وورثة المنافقين، لم يكونوا أعيان المرتدين الملحدين.
    الوجه الخامس: أن يقال: هب أن الآية نزلت في علي، أيقول القائل: أنها مختصة به، ولفظها يصرح بأنهم جماعة؟ قال تعالى: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [سورة المائدة: 54] إلى قوله: {لومة لائم}. أفليس هذا صريحا في أن هؤلاء ليسوا رجلا، فإن الرجل لا يسمى قوما في لغة العرب: لا حقيقة ولا مجازا.
    ولو قال: المراد هو وشيعته.
    لقيل: إذا كانت الآية أدخلت مع علي غيره، فلا ريب أن الذين قاتلوا الكفار والمرتدين أحق بالدخول فيها ممن لم يقاتل إلا أهل القبلة، فلا ريب أن أهل اليمن، الذين قاتلوا مع أبي بكر وعمر وعثمان أحق بالدخول فيها من الرافضة، الذين يوالون اليهود والنصارى والمشركين، ويعادون السابقين الأولين.
    فإن قيل: الذين قاتلوا مع علي كان كثير منهم من أهل اليمن.
    قيل: والذين قاتلوه أيضا كان كثير منهم من أهل اليمن. فكلا العسكرين كانت اليمانية والقيسية فيهم كثيرة جدا، وأكثر أذواء اليمن كانوا مع معاوية، كذي كلاع وذي عمرو، وذي رعين، ونحوهم. وهم الذين يقال لهم: الذوين.
    كما قال الشاعر:
    وما أعني بذلك أصغريهم ... ولكني أريد به الذوينا.
    الوجه السادس: قوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} لفظ مطلق، ليس فيه تعيين. وهو متناول لمن قام بهذه الصفات كائنا ما كان، لا يختص ذلك بأبي بكر ولا بعلي. وإذا لم يكن مختصا بإحداهما، لم يكن هذا من خصائصه، فبطل أن يكون بذلك أفضل ممن يشاركه فيه، فضلا عن أن يستوجب بذلك الإمامة.
    بل هذه الآية تدل على أنه لا يرتد أحد [عن الدين] إلى يوم القيامة إلا أقام الله قوما يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون هؤلاء المرتدين.
    والردة قد تكون عن أصل الإسلام، كالغالية من النصيرية والإسماعيلية، فهؤلاء مرتدون باتفاق أهل السنة والشيعة، وكالعباسية.
    وقد تكون الردة عن بعض الدين، كحال أهل البدع الرافضة وغيرهم. والله تعالى يقيم قوما يحبهم ويحبونه، ويجاهدون من ارتد عن الدين، أو عن بعضه، كما يقيم من يجاهد الرافضة المرتدين عن الدين، أو عن بعضه، في كل زمان.
    والله سبحانه المسئول أن يجعلنا من الذين يحبهم ويحبونه، الذين يجاهدون المرتدين [وأتباع المرتدين]، ولا يخافون لومة لائم.
    (فصل في الرد على من قال: إن المراد بمحبة الله محبة التقرب إليه)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    ومن قال: إن المراد بمحبة الله محبة التقرب إليه فقوله متناقض؛ فإن محبة التقرب إليه تبع لمحبته. فمن أحب الله نفسه أحب التقرب إليه ومن كان لا يحبه نفسه امتنع أن يحب التقرب إليه. وأما من كان لا يطيعه ولا يمتثل أمره إلا لأجل غرض آخر فهو في الحقيقة إنما يحب ذلك الغرض الذي عمل لأجله وقد جعل طاعة الله وسيلة إليه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الجنة؟ ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة} ". فأخبر أن النظر إليه أحب إليهم من كل ما يتنعمون به ومحبة النظر إليه تبع لمحبته فإنما أحبوا النظر إليه لمحبتهم إياه وما من مؤمن إلا ويجد في قلبه محبة الله وطمأنينة بذكره وتنعما بمعرفته ولذة وسرورا بذكره ومناجاته. وذلك يقوى ويضعف ويزيد وينقص بحسب إيمان الخلق. فكل من كان إيمانه أكمل كان تنعمه بهذا أكمل.

    ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وغيره: {حبب إلي من دنياكم النساء والطيب - ثم قال - وجعلت قرة عيني في الصلاة} وكان صلى الله عليه وسلم يقول {أرحنا بالصلاة يا بلال} وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن عباده المؤمنين يحبونه وهو يحبهم سبحانه وتعالى وحبهم له بحسب فعلهم لما يحبه كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها. فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه}.

    فقد بين أن العبد إذا تقرب إلى الله بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الله فحب الله لعبده بحسب فعل العبد لما يحبه الله. وما يحبه الله من عبادته وطاعته فهو تبع لحب نفسه وحبه ذلك هو سبب حب عباده المؤمنين فكان حبه للمؤمنين تبعا لحب نفسه. فالمؤمنون وإن كانوا يحمدون ربهم ويثنون عليه فهم لا يحصون ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك. وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك} وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال {لا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه}. {وقال له الأسود بن سريع: إني حمدت ربي بمحامد فقال إن ربك يحب الحمد} فهو يحب حمد العباد له وحمده لنفسه أعظم من حمد العباد له ويحب ثناءهم عليه وثناؤه على نفسه أعظم من ثنائهم عليه. وكذلك حبه لنفسه وتعظيمه لنفسه فهو سبحانه أعلم بنفسه من كل أحد وهو الموصوف بصفات الكمال التي لا تبلغها عقول الخلائق فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #273
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 271)

    من صــ 261 الى صـ 275





    وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أنه قرأ على المنبر {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه}. قال يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يهزهن ثم يقول: أنا الملك أنا القدوس أنا السلام أنا المؤمن أنا المهيمن أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا أنا الذي أعيدها} وفي رواية {يمجد الرب نفسه سبحانه} فهو يحمد نفسه ويثني عليها ويمجد نفسه سبحانه وتعالى وهو الغني بنفسه لا يحتاج إلى أحد غيره بل كل ما سواه فقير إليه {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن} وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
    فإذا فرح بتوبة التائب وأحب من تقرب إليه بالنوافل ورضي عن السابقين الأولين ونحو ذلك لم يجز أن يقال: هو مفتقر في ذلك إلى غيره ولا مستكمل بسواه فإنه هو الذي خلق هؤلاء وهو الذي هداهم وأعانهم حتى فعلوا ما يحبه ويرضاه ويفرح به. فهذه المحبوبات لم تحصل إلا بقدرته ومشيئته وخلقه فله الملك لا شريك له وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون. فهذا ونحوه يحتج به الجمهور الذين يثبتون لأفعاله حكمة تتعلق به يحبها ويرضاها ويفعل لأجلها.
    (فصل: أصل المحبة هو معرفة الله سبحانه وتعالى ولها أصلان)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    وأصل المحبة هو معرفة الله سبحانه وتعالى ولها أصلان:
    أحدهما: وهو الذي يقال له محبة العامة لأجل إحسانه إلى عباده وهذه المحبة على هذا الأصل لا ينكرها أحد فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها والله سبحانه هو المنعم المحسن إلى عبده بالحقيقة فإنه المتفضل بجميع النعم وإن جرت بواسطة؛ إذ هو ميسر الوسائط ومسبب الأسباب ولكن هذه المحبة في الحقيقة إذا لم تجذب القلب إلى محبة الله نفسه فما أحب العبد في الحقيقة إلا نفسه وكذلك كل من أحب شيئا لأجل إحسانه إليه فما أحب في الحقيقة إلا نفسه. وهذا ليس بمذموم بل محمود. وهذه المحبة هي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم {أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله وأحبوا أهلي بحبي} والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة الله ما يستوجب أنه يحبه إلا إحسانه إليه وهذا كما قالوا: إن الحمد لله على " نوعين ":
    " حمد " هو شكر وذلك لا يكون إلا على نعمته.
    و " حمد " هو مدح وثناء عليه ومحبة له وهو بما يستحقه لنفسه سبحانه فكذلك الحب فإن الأصل الثاني فيه هو محبته لما هو له أهل وهذا حب من عرف من الله ما يستحق أن يحب لأجله وما من وجه من الوجوه التي يعرف الله بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إلا وهو يستحق المحبة الكاملة من ذلك الوجه حتى جميع مفعولاته إذ كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل ولهذا استحق أن يكون محمودا على كل حال ويستحق أن يحمد على السراء والضراء وهذا أعلى وأكمل وهذا حب الخاصة.
    وهؤلاء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم ويتلذذون بذكره ومناجاته ويكون ذلك لهم أعظم من الماء للسمك حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من الألم ما لا يطيقون وهم السابقون كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال {مر النبي صلى الله عليه وسلم بجبل يقال له: حمدان فقال: سيروا هذا حمدان سبق المفردون قالوا: يا رسول الله من المفردون؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات} وفي رواية أخرى قال: {المستهترون بذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون الله يوم القيامة خفافا} والمستهتر بذكر الله يتولع به ينعم به كلف لا يفتر منه.

    وفي حديث هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {قال موسى يا رب أي عبادك أحب إليك؟ قال الذي يذكرني ولا ينساني قال: أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يطلب علم الناس إلى علمه ليجد كلمة تدله على هدى أو ترده عن رديء قال أي عبادك أحكم؟ قال: الذي يحكم على نفسه كما يحكم على غيره ويحكم لغيره كما يحكم لنفسه} فذكر في هذا الحديث الحب والعلم والعدل وذلك جماع الخير.

    ومما ينبغي التفطن له أنه لا يجوز أن يظن في باب محبة الله تعالى ما يظن في محبة غيره مما هو من جنس التجني والهجر والقطيعة لغير سبب ونحو ذلك مما قد يغلط فيه طوائف من الناس حتى يتمثلون في حبه بجنس ما يتمثلون به في حب من يصد ويقطع بغير ذنب أو يبعد من يتقرب إليه وإن غلط في ذلك من غلط من المصنفين في رسائلهم حتى يكون مضمون كلامهم إقامة الحجة على الله بل لله الحجة البالغة. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقول الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة}. وفي بعض الآثار يقول الله تعالى: {أهل ذكري أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيارتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي وإن تابوا فأنا حبيبهم} - لأن الله يحب التوابين - {وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب حتى أطهرهم من المعائب}.
    وقد قال تعالى {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} قالوا: الظلم أن يحمل عليه سيئات غيره والهضم أن ينقص من حسنات نفسه. وقال تعالى: {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله تعالى: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم.

    يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه}.

    (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55) ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون (56)
    وقد وضع بعض الكذابين حديثا مفترى، أن هذه الآية نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة، وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل، وكذبه بين من وجوه كثيرة.
    منها أن قوله الذين صيغة جمع. وعلي واحد.
    ومنها أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك لكان لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع. فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة.
    ومنها أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب، وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجب ولا مستحب، باتفاق علماء الملة، فإن الصلاة شغلا.
    ومنها أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسنا لم يكن فرق بين حال الركوع وغير الركوع، بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن.
    ومنها أن عليا لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
    ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم، فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزئ إخراج الخاتم في الزكاة.
    ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل، والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور، لا ينتظر أن يسأله سائل.
    ومنها أن الكلام في سياق النهي عن موالاة الكفار، والأمر بموالاة المؤمنين، كما يدل عليه سياق الكلام، وسيجيء إن شاء الله تعالى تمام الكلام على هذه الآية، فإن الرافضة لا يكادون يحتجون بحجة إلا كانت حجة عليهم لا لهم، كاحتجاجهم بهذه الآية على الولاية التي هي الإمارة، وإنما هي في الولاية التي هي ضد العداوة.
    والرافضة مخالفون لها، والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم يوالون الكفار، من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، ويعادون المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبوعهم بإحسان إلى يوم الدين، وهذا أمر مشهور.
    [فصل: في المنهج الثاني عند الرافضي في الأدلة من القرآن على إمامة علي رضي الله عنه]
    [البرهان الأول " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " والجواب عليه]

    قال الرافضي: " المنهج الثاني: في الأدلة المأخوذة من القرآن، والبراهين الدالة على إمامة علي من الكتاب العزيز كثيرة.
    الأول: قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} [سورة المائدة: 55] وقد أجمعوا أنها نزلت في علي. قال الثعلبي في إسناده إلى أبي ذر: قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهاتين وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول: "علي قائد البررة، وقاتل الكفرة، فمنصور من نصره، ومخذول من خذله " أما إني صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما) صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحد شيئا، فرفع السائل يده إلى السماء، وقال: " اللهم إنك تشهد أني) سألت في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعطني أحد شيئا، وكان علي راكعا، فأومأ بخنصره اليمنى، وكان متختما فيها، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم، وذلك بعين النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء، وقال: " اللهم إن موسى سألك وقال: {رب اشرح لي صدري - ويسر لي أمري - واحلل عقدة من لساني - يفقهوا قولي - واجعل لي وزيرا من أهلي - هارون أخي - اشدد به أزري - وأشركه في أمري} [سورة طه: 25 - 32] فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا} [سورة القصص: 35]. اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللهم فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيرا من أهلي، عليا اشدد به ظهري " قال أبو ذر: " فما استتم كلام [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] حتى نزل عليه جبريل من عند الله فقال: يا محمد اقرأ.

    قال: وما أقرأ؟ قال: اقرأ: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} [سورة المائدة: 55] ".
    ونقل الفقيه ابن المغازلي الواسطي الشافعي أن هذه نزلت في علي، والولي هو المتصرف، وقد أثبت له الولاية في الآية، كما أثبتها الله تعالى لنفسه ولرسوله ".
    والجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: " ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا، بل كل ما ذكره كذب وباطل، من جنس السفسطة. وهو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة ; فإن البرهان في القرآن وغيره يطلق على ما يفيد العلم واليقين، كقوله تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [سورة البقرة: 111].

    وقال تعالى: {أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء
    والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [سورة النمل: 64].
    فالصادق لا بد له من برهان على صدقه، والصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم.
    وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب، فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة، فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل. وسنبين - إن شاء الله تعالى - عند كل واحدة منها ما يبين كذبها، فتسمية هذه براهين من أقبح الكذب.
    ثم إنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس، مع أنه قد يكون كذبا عليه، وإن كان صدقا فقد خالفه أكثر الناس. فإن كان قول الواحد [الذي] لم يعلم صدقه، وقد خالفه الأكثرون برهانا، فإنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله، فتتعارض البراهين فتتناقض، والبراهين لا تتناقض.

    بل سنبين - إن شاء الله تعالى - قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين، وأن الكذب في عامتها كذب ظاهر،
    لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه، وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق، وأن القرآن حق، وأن دين الإسلام حق - تناقض ما ذكره من البراهين، فإن غاية ما يدعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب، وتأمل لوازمه وجده يقدح في الإيمان والقرآن والرسول.
    وهذا لأن أصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين، مقصودهم الطعن في القرآن والرسول ودين الإسلام، فوضعوا من الأحاديث ما يكون التصديق به طعنا في دين الإسلام، وروجوها على أقوام، فمنهم من كان صاحب هوى وجهل، فقبلها لهواه، ولم ينظر في حقيقتها. ومنهم من كان له نظر فتدبرها، فوجدها تقدح في [حق] الإسلام، فقال بموجبها، وقدح بها في دين الإسلام، إما لفساد اعتقاده في الدين، وإما لاعتقاده أن هذه صحيحة وقدحت فيما كان يعتقده من دين الإسلام.

    ولهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب، فإن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلطوا به على الطعن في الإسلام، وصارت شبها عند من لم [يعلم] أنه كذب، وكان عنده خبرة بحقيقة الإسلام.
    وضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية والنصيرية، وغيرهم من الزنادقة الملاحدة المنافقين. وكان مبدأ ضلالهم تصديق الرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن والحديث، كأئمة العبيديين إنما يقيمون مبدأ دعوتهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة ; ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضلال، ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة، إلى القدح في علي، ثم في النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم في الإلهية، كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم. ولهذا كان الرفض أعظم باب ودهليز إلى الكفر والإلحاد.
    ***
    ثم نقول: ثانيا: الجواب عن هذه الآية حق من وجوه: الأول: أنا نطالبه بصحة هذا النقل، أو لا يذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة ; فإن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبي، أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات، الصادقين في نقلها، ليس بحجة باتفاق أهل العلم، إن لم نعرف ثبوت إسناده، وكذلك إذا روى فضيلة لأبي بكر وعمر، لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم.
    فالجمهور - أهل السنة - لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته: لا حكما، ولا فضيلة، ولا غير ذلك. وكذلك الشيعة.
    وإذا كان هذا بمجرده ليس بحجة باتفاق [الطوائف] كلها، بطل الاحتجاج به. وهكذا القول في كل ما نقله وعزاه إلى أبي نعيم أو الثعلبي أو النقاش أو ابن المغازلي ونحوهم.
    الثاني: قوله: " قد أجمعوا أنها نزلت في علي " من أعظم الدعاوى الكاذبة، بل أجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علي بخصوصه، وأن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة، وأجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع.
    وأما ما نقله من تفسير الثعلبي، فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعات، كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبي أمامة في فضل تلك السورة، وكأمثال ذلك. ولهذا يقولون: " هو كحاطب ليل ".
    وهكذا الواحدي تلميذه، وأمثالهما من المفسرين: ينقلون الصحيح والضعيف.
    ولهذا لما كان البغوي عالما بالحديث، أعلم به من الثعلبي والواحدي، وكان تفسيره مختصر تفسير الثعلبي، لم يذكر في تفسيره شيئا من الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبي، ولا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبي، مع أن الثعلبي فيه خير ودين، لكنه لا خبرة له بالصحيح من الأحاديث، ولا يميز بين السنة والبدعة في كثير من الأقوال.

    وأما أهل العلم الكبار: أهل التفسير، مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وبقي بن مخلد، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، وأمثالهم - فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات.
    دع من هو أعلم منهم، مثل تفسير أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه. بل ولا يذكر مثل هذا عند ابن حميد ولا عبد الرزاق، مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع، ويروي كثيرا من فضائل علي، وإن كانت ضعيفة ; لكنه أجل قدرا من أن يروي مثل هذا الكذب الظاهر.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #274
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 272)

    من صــ 276 الى صـ 295





    وقد أجمع أهل العلم بالحديث إلى أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد، من جنس الثعلبي والنقاش والواحدي، وأمثال هؤلاء المفسرين ; لكثرة ما يروونه من الحديث ويكون ضعيفا، بل موضوعا. فنحن لو لم نعلم كذب هؤلاء من وجوه أخرى، لم يجز أن نعتمد عليه ; لكون الثعلبي وأمثاله رووه، فكيف إذا كنا عالمين بأنه كذب؟!.
    وسنذكر - إن شاء الله تعالى - ما يبين كذبه عقلا ونقلا، وإنما المقصود هنا

    بيان افتراء هذا المصنف أو كثرة جهله، حيث قال: " * قد أجمعوا أنها نزلت في علي " فيا ليت شعري من نقل هذا الإجماع من أهل العلم والعالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور؟ *. فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يقبل من غير أهل العلم بالمنقولات، وما فيها من إجماع واختلاف.
    فالمتكلم والمفسر والمؤرخ ونحوهم، لو ادعى أحدهم نقلا مجردا بلا إسناد ثابت لم يعتمد عليه، فكيف إذا ادعى إجماعا؟!.
    الوجه الثالث: أن يقال: هؤلاء المفسرون الذين نقل من كتبهم، هم - ومن هم أعلم منهم - قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدعى، والثعلبي [قد نقل] في تفسيره أن ابن عباس يقول: نزلت في أبي بكر. ونقل عن عبد الملك: قال: سألت أبا جعفر، قال: هم المؤمنون. قلت: فإن ناسا يقولون: هو علي. قال: فعلي من الذين آمنوا. وعن الضحاك مثله.

    وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه قال: حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثنا معاوية [بن صالح]، حدثنا علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه، قال: " كل من آمن فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا ". قال: وحدثنا أبو سعيد الأشج، عن المحاربي، عن عبد الملك بن
    أبي سليمان، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن هذه الآية، فقال: " هم الذين آمنوا ". قلت: نزلت [في علي؟ قال: علي من الذين آمنوا]. وعن السدي مثله.
    الوجه الرابع: أنا نعفيه من الإجماع، ونطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح. وهذا الإسناد الذي ذكره الثعلبي إسناده ضعيف، فيه رجال متهمون. وأما نقل ابن المغازلي الواسطي فأضعف وأضعف، فإن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب على من له أدنى معرفة بالحديث، والمطالبة بإسناد يتناول هذا وهذا.
    الوجه الخامس: أن يقال: لو كان المراد بالآية أن يؤتي الزكاة حال ركوعه، كما يزعمون أن عليا تصدق بخاتمه في الصلاة ; لوجب أن يكون
    ذلك شرطا في الموالاة، وأن لا يتولى المسلمون إلا عليا وحده، فلا يتولى الحسن ولا الحسين ولا سائر بني هاشم. وهذا خلاف إجماع المسلمين.
    الوجه السادس: أن قوله: " الذين " صيغة جمع ; فلا يصدق على علي وحده.
    الوجه السابع: أن الله تعالى لا يثني على الإنسان [إلا] بما هو محمود عنده: إما واجب، وإما مستحب. والصدقة والعتق والهدية والهبة والإجارة والنكاح والطلاق، وغير ذلك من العقود في الصلاة، ليست واجبة ولا مستحبة باتفاق المسلمين، بل كثير منهم يقول: إن ذلك يبطل الصلاة وإن لم يتكلم، بل تبطل بالإشارة المفهمة. وآخرون يقولون: لا يحصل الملك بها لعدم الإيجاب الشرعي. ولو كان هذا مستحبا ; لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله ويحض عليه أصحابه، ولكان علي يفعله في غير هذه الواقعة.
    فلما لم يكن شيء من ذلك، علم أن التصدق في الصلاة ليس من الأعمال الصالحة، وإعطاء السائل لا يفوت، فيمكن المتصدق إذا سلم أن يعطيه، وإن في الصلاة لشغلا.
    الوجه الثامن: أنه لو قدر أن هذا مشروع في الصلاة، لم يختص بالركوع، بل يكون في القيام والقعود أولى منه في الركوع، فكيف يقال: لا ولي [لكم] إلا الذين يتصدقون في كل الركوع. فلو تصدق المتصدق
    في حال القيام والقعود: أما كان يستحق هذه الموالاة؟.
    فإن قيل: هذه أراد بها التعريف بعلي على خصوصه.
    قيل له: أوصاف علي التي يعرف بها كثيرة ظاهرة، فكيف يترك تعريفه بالأمور المعروفة، ويعرفه بأمر لا يعرفه إلا من سمع هذا وصدقه؟.
    وجمهور الأمة لم تسمع هذا الخبر، ولا [هو] في شيء من كتب المسلمين المعتمدة: لا الصحاح، ولا السنن، ولا الجوامع، ولا المعجمات، ولا شيء من الأمهات. فأحد الأمرين لازم: إن قصد به المدح بالوصف فهو باطل، وإن قصد به التعريف فهو باطل.
    الوجه التاسع: أن يقال: قوله: {ويؤتون الزكاة وهم راكعون} على قولهم يقتضي أن يكون قد أتى الزكاة في حال ركوعه. وعلي - رضي الله عنه - لم يكن ممن تجب عليه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان فقيرا، وزكاة الفضة إنما تجب على من ملك النصاب حولا، وعلي لم يكن من هؤلاء.
    الوجه العاشر: أن إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزئ عند كثير من
    الفقهاء، إلا إذا قيل بوجوب الزكاة في الحلي. وقيل: إنه يخرج من جنس الحلي، ومن جوز ذلك بالقيمة، فالتقويم في الصلاة متعذر، والقيم تختلف باختلاف الأحوال.
    الوجه الحادي عشر: أن هذه الآية بمنزلة قوله: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} [سورة البقرة: 43] هذا أمر بالركوع.
    وكذلك قوله: {يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [سورة آل عمران: 43] وهذا أمر بالركوع.
    قد قيل: ذكر ذلك ليبين أنهم يصلون الجماعة ; لأن المصلي في الجماعة إنما يكون مدركا للركعة بإدراك ركوعها، بخلاف الذي لم يدرك إلا السجود، فإنه قد فاتته الركعة. وأما القيام فلا يشترط فيه الإدراك.
    وبالجملة " الواو " إما واو الحال، وإما واو العطف. والعطف هو الأكثر، وهي المعروفة في مثل هذا الخطاب. وقوله إنما يصح إذا كانت واو الحال، فإن لم يكن ثم دليل على تعيين ذلك بطلت الحجة، [فكيف إذا كانت الأدلة تدل على خلافه؟!].
    الوجه الثاني عشر: أنه من المعلوم المستفيض عند أهل التفسير، خلفا عن سلف، أن هذه الآية نزلت في النهي عن موالاة الكفار، والأمر بموالاة المؤمنين ; لما كان بعض المنافقين، كعبد الله بن أبي، يوالي اليهود، ويقول: إني أخاف الدوائر. فقال بعض المؤمنين، وهو عبادة بن الصامت: إني
    يا رسول الله، أتولى الله ورسوله، وأبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.
    ولهذا لما جاءتهم بنو قينقاع وسبب تآمرهم عبد الله بن أبي بن سلول، فأنزل الله هذه الآية، يبين فيها وجوب موالاة المؤمنين عموما، وينهى عن موالاة الكفار عموما. وقد تقدم كلام الصحابة والتابعين أنها عامة لا تختص بعلي.
    الوجه الثالث عشر: أن سياق الكلام يدل على ذلك لمن تدبر القرآن، فإنه قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [سورة المائدة: 51]. فهذا نهي عن موالاة اليهود والنصارى.

    ثم قال: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده} إلى قوله: {فأصبحوا خاسرين} [سورة المائدة: 52 - 53]. فهذا وصف الذين في قلوبهم مرض، الذين يوالون الكفار كالمنافقين.
    ثم قال: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } [سورة المائدة: 54] فذكر فعل المرتدين وأنهم لن يضروا الله شيئا، وذكر من يأتي به بدلهم.
    ثم قال: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}. {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [سورة المائدة: 55 - 56].

    فتضمن هذا الكلام ذكر أحوال من دخل في الإسلام من المنافقين، وممن يرتد عنه، وحال المؤمنين الثابتين عليه ظاهرا وباطنا.
    فهذا السياق، مع إتيانه أتى بصيغة الجمع، مما يوجب لمن تدبر ذلك علما يقينا لا يمكنه دفعه عن نفسه: أن الآية عامة في كل المؤمنين المتصفين بهذه الصفات، لا تختص بواحد بعينه: لا أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا غيرهم. لكن هؤلاء أحق الأمة بالدخول فيها.
    الوجه الرابع عشر: أن الألفاظ المذكورة في الحديث مما يعلم أنها كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن عليا ليس قائدا لكل البررة، بل لهذه الأمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا هو أيضا قاتلا لكل الكفرة، بل قتل بعضهم، كما قتل غيره بعضهم. وما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفار، إلا وهو قاتل لبعض الكفرة.
    وكذلك قوله: " "منصور من نصره، مخذول من خذله" " هو خلاف
    الواقع. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقا، لا سيما على قول الشيعة ; فإنهم يدعون أن الأمة كلها خذلته إلى قتل عثمان.

    ومن المعلوم أن الأمة كانت منصورة في أعصار الخلفاء الثلاثة، نصرا لم يحصل لها بعده مثله. ثم لما قتل عثمان، وصار الناس ثلاثة أحزاب: حزب نصره وقاتل معه، وحزب قاتلوه، وحزب خذلوه لم يقاتلوا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء - لم يكن الذين قاتلوا معه منصورين على الحزبين الآخرين ولا على الكفار، بل أولئك الذين نصروا عليهم، وصار الأمر لهم ; لما تولى معاوية، فانتصروا على الكفار، وفتحوا البلاد، إنما كان علي منصورا كنصر أمثاله في قتال الخوارج والكفار.
    والصحابة الذين قاتلوا الكفار والمرتدين كانوا منصورين نصرا عظيما، فالنصر وقع كما وعد الله به حيث قال: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [سورة غافر: 51].
    فالقتال الذي كان بأمر الله وأمر رسوله من المؤمنين للكفار والمرتدين والخوارج، كانوا فيه منصورين [نصرا عظيما] إذا اتقوا وصبروا، فإن التقوى والصبر من تحقيق الإيمان الذي علق به النصر.
    وأيضا فالدعاء الذي ذكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب التصدق بالخاتم من أظهر الكذب. فمن المعلوم أن الصحابة أنفقوا في سبيل الله وقت الحاجة إليه، ما هو أعظم قدرا ونفعا من إعطاء سائل خاتما.
    وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " "ما نفعني مال كمال أبي بكر" "، " "إن أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا".
    وقد "تصدق عثمان بألف بعير في سبيل الله في غزوة العسرة، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم" ".

    والإنفاق في سبيل الله وفي إقامة الدين في أول الإسلام أعظم من صدقة على سائل محتاج. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " "لا تسبوا أصحابي ; فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" " أخرجاه في الصحيحين.
    قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} [سورة الحديد: 10].
    فكذلك الإنفاق الذي صدر في أول الإسلام في إقامة الدين ما بقي له نظير يساويه.
    وأما إعطاء السؤال لحاجتهم فهذا البر يوجد مثله إلى يوم القيامة. فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل تلك النفقات العظيمة النافعة الضرورية لا يدعو بمثل هذا الدعاء، فكيف يدعو به لأجل إعطاء خاتم لسائل قد يكون كاذبا في سؤاله؟.

    ولا ريب أن هذا ومثله من كذب جاهل أراد أن يعارض ما ثبت لأبي بكر بقوله: {وسيجنبها الأتقى - الذي يؤتي ماله يتزكى - وما لأحد عنده من نعمة تجزى - إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى - ولسوف يرضى} [سورة الليل: 17 - 21]. بأن يذكر لعلي شيئا من هذا الجنس، فما أمكنه أن يكذب أنه فعل ذلك في أول الإسلام، فكذب هذه الأكذوبة التي لا تروج إلا على مفرط في الجهل.
    وأيضا فكيف يجوز أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة والنصرة -: واجعل لي وزيرا من أهلي، عليا اشدد به ظهري، مع أن الله قد أعزه بنصره وبالمؤمنين، كما قال تعالي: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} [سورة الأنفال: 62]، وقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40].
    فالذي كان معه حين نصره الله ; {إذ أخرجه الذين كفروا}، هو أبو بكر وكانا اثنين الله ثالثهما، وكذلك لما كان يوم بدر ; لما صنع له عريش كان الذي دخل معه في العريش دون سائر الصحابة أبو بكر، وكل من الصحابة له في نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعي مشكور وعمل مبرور.
    وروي أنه "لما جاء علي بسيفه يوم أحد، قال لفاطمة: اغسليه يوم أحد
    غير ذميم. فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن تك أحسنت فقد أحسن فلان وفلان وفلان" " فعدد جماعة من الصحابة.
    ولم يكن لعلي اختصاص بنصر النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أمثاله، ولا عرف موطن احتاج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه إلى معونة علي وحده، لا باليد ولا باللسان، ولا كان إيمان الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاعتهم له لأجل علي، بسبب دعوة علي لهم، وغير ذلك من الأسباب الخاصة، كما كان هارون وموسى، فإن بني إسرائيل كانوا يحبون هارون جدا ويهابون موسى، وكان هارون يتألفهم.
    والرافضة تدعي أن الناس كانوا يبغضون عليا، وأنهم لبغضهم له لم يبايعوه. فكيف يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتاج إليه، كما احتاج موسى إلى هارون؟.
    وهذا أبو بكرالصديق أسلم على يديه ستة أو خمسة من العشرة: عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة. ولم يعلم أنه أسلم على يد علي وعثمان وغيرهما أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
    ومصعب بن عمير هو الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة لما بايعه الأنصار ليلة العقبة، وأسلم على يده رءوس الأنصار كسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته، وأسيد بن حضير وغير هؤلاء.
    وكان أبو بكر يخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو معه الكفار إلى الإسلام في الموسم، ويعاونه معاونة عظيمة في الدعوة، بخلاف غيره. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: " "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" ".
    وقال: " "أيها الناس إني جئت إليكم، فقلت: إني رسول الله، فقلتم: كذبت. وقال أبو بكر: صدقت. فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ " ".
    ثم إن موسى دعا بهذا الدعاء قبل أن يبلغ الرسالة إلى الكفار ليعاون عليها. ونبينا - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ الرسالة لما بعثه الله: بلغها وحده، وأول من آمن به باتفاق أهل الأرض أربعة، أول من آمن به من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد.

    وكان أنفع الجماعة في الدعوه باتفاق الناس أبو بكر، ثم خديجة ; لأن أبا بكر هو أول رجل حر بالغ آمن به باتفاق الناس، وكان له قدر عند قريش لما كان فيه من المحاسن، فكان أمن الناس عليه في صحبته وذات يده. ومع هذا فما دعا الله أن يشد أزره بأحد: لا بأبي بكر ولا بغيره،بل قام مطيعا لربه، متوكلا عليه، صابرا له، كما أمره بقوله: {قم فأنذر}. {وربك فكبر}. {وثيابك فطهر}. {والرجز فاهجر}. {ولا تمنن تستكثر}. {ولربك فاصبر} [سورة المدثر: 2 - 7] وقال: {فاعبده وتوكل عليه} [سورة هود: 123].
    فمن زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل الله - عز وجل - أن يشد أزره بشخص من الناس، كما سأل موسى أن يشد أزره بهارون، فقد افترى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبخسه حقه. ولا ريب أن الرفض مشتق من الشرك والإلحاد والنفاق، لكن تارة يظهر [لهم] ذلك فيه وتارة يخفى.

    الوجه الخامس عشر: أن يقال: غاية ما في الآية أن المؤمنين عليهم موالاة الله ورسوله والمؤمنين، فيوالون عليا. ولا ريب أن موالاة علي واجبة على كل مؤمن، كما يجب على كل مؤمن مولاة أمثاله من المؤمنين.
    قال تعالى: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} [سورة التحريم: 4]. فبين الله أن كل صالح من المؤمنين فهو مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله مولاه، وجبريل مولاه، وليس في كون الصالح من المؤمنين مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما أن الله مولاه، وجبريل مولاه، أن يكون صالح المؤمنين متوليا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا متصرفا فيه.
    وأيضا فقد قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}
    [سورة التوبة: 71]، فجعل كل مؤمن وليا لكل مؤمن. وذلك لا يوجب أن يكون أميرا عليه معصوما، لا يتولى عليه إلا هو.
    وقال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. {الذين آمنوا وكانوا يتقون} [سورة يونس: 62 - 63]، فكل مؤمن تقي فهو ولي لله، والله وليه. كما قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا} [سورة البقرة: 257] وقال: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} [سورة محمد: 11] وقال: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا} إلى قوله: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [سورة الأنفال: 72 - 75].
    فهذه النصوص كلها ثبتت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأن هذا ولي هذا، وهذا ولي هذا، وأنهم أولياء الله، وأن الله وملائكته والمؤمنين موالي رسوله، كما أن الله ورسوله والذين آمنوا هم أولياء المؤمنين. وليس في شيء من هذه النصوص أن من كان وليا للآخر كان أميرا عليه دون غيره، وأنه يتصرف فيه دون سائر الناس.
    الوجه السادس عشر: أن الفرق بين " الولاية " بالفتح و " الولاية " بالكسر معروف ; فالولاية ضد العداوة، وهي المذكوره في هذه النصوص، ليست هي الولاية بالكسر التي هي الإمارة. وهؤلاء الجهال يجعلون الولي هو الأمير، ولم يفرقوا بين الولاية والولاية. والأمير يسمى الوالي لا يسمى
    الولي، ولكن قد يقال: هو ولي الأمر، كما يقال: وليت أمركم، ويقال: أولو الأمر.
    وأما إطلاق القول بالمولى وإراده الولي، فهذا لا يعرف، بل يقال في الولي: المولى، ولا يقال الوالي. ولهذا قال الفقهاء: إذا اجتمع في الجنازة الوالي والولي، فقيل: يقدم الوالي، وهو قول أكثرهم. وقيل: يقدم الولي.
    فبين أن الولاية دلت على الموالاة، المخالفة للمعاداة، الثابتة لجميع المؤمنين بعضهم على بعض. وهذا مما يشترك فيه الخلفاء الأربعة، وسائر أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان. فكلهم بعضهم أولياء بعض، ولم تدل الآية على أحد منهم يكون أميرا على غيره، بل هذا باطل من وجوه كثيرة، إذ لفظ " الولي " و " الولاية " غير لفظ " الوالي ". والآية عامة في المؤمنين، والإمارة لا تكون عامة.
    الوجه السابع عشر: أنه لو أراد الولاية التي هي الإمارة لقال: إنما يتولى عليكم الله ورسوله والذين آمنوا، ولم يقل: ومن يتولى الله ورسوله ; فإنه لا يقال لمن ولي عليهم وال: إنهم يقولون: تولوه، بل يقال: تولى عليهم.
    الوجه الثامن عشر: أن الله - سبحانه وتعالى - لا يوصف بأنه متول على عباده وأنه أمير عليهم، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، فإنه خالقهم ورازقهم، وربهم ومليكهم، له الخلق والأمر، ولا يقال: إن الله أمير المؤمنين، كما يسمى المتولي، مثل علي وغيره: أمير المؤمنين بل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضا لا يقال إنه متول على الناس، وإنه أمير عليهم، فإن قدره أجل من هذا. بل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لم يكونوا يسمونه إلا خليفة رسول الله وأول من سمي من الخلفاء " أمير المؤمنين " هو عمر - رضي الله عنه -.

    وقد روي أن عبد الله بن جحش كان أميرا في سرية، فسمي أمير المؤمنين، لكن إمارة خاصة في تلك السرية، لم يسم أحد بإمارة المؤمنين عموما قبل عمر، وكان خليقا بهذا الاسم.
    وأما الولاية المخالفة للعداوة فإنه يتولى عباده المؤمنين ; فيحبهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، ومن عادى له وليا فقد بارزه بالمحاربة. وهذه الولاية من رحمته وإحسانه، ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجته إليه.
    قال تعالى: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل} [سورة الإسراء: 111]. فالله تعالى ليس له ولي من الذل، بل هو القائل: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} [سورة فاطر: 10] بخلاف الملوك وغيرهم ممن يتولاه لذاته، إذا لم يكن له ولي ينصره.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #275
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 273)

    من صــ 296 الى صـ 310





    الوجه التاسع عشر: أنه ليس كل من تولى عليه إمام عادل يكون من حزب الله، ويكون غالبا ; فإن أئمة العدل يتولون على المنافقين والكفار، كما كان في مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت حكمه ذميون ومنافقون. وكذلك كان تحت ولاية علي كفار ومنافقون. والله تعالى يقول: {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [سورة المائدة: 56] ; فلو أراد الإمارة لكان المعنى: إن كل من تأمر عليهم الذين آمنوا يكونون من حزبه الغالبين، وليس كذلك. وكذلك الكفار والمنافقون تحت أمر الله الذي هو قضاؤه وقدره، مع كونه لا يتولاهم بل يبغضهم.
    (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل (60)
    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ.
    منها قوله: {وعبد الطاغوت} والصواب عطفه على قوله: {من لعنه الله} فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية؛ لكن المتقدمة الفاعل الله مظهرا أو مضمرا وهذا الفعل اسم من عبد الطاغوت وهو الضمير في عبد ولم يعد حرف (من) لأن هذه الأفعال لصنف واحد وهم اليهود.
    (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين (64)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    قال: {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله} فهذا اللفظ أصله أن المحاربين يوقدون نارا يجتمع إليها أعوانهم وينصرون وليهم على عدوهم فلا تتم محاربتهم إلا بها فإذا طفئت لم يجتمع أمرهم ثم صار هذا كما تستعمل الأمثال في كل محارب بطل كيده كما يقال: يداك أوكتا وفوك نفخ ومعناه أنت الجاني على نفسك. وكما يقال: الصيف ضيعت اللبن معناه: فرطت وقت الإمكان. وهذه الألفاظ كان لها معنى خاص نقلت بعرف الاستعمال إلى معنى أعم من ذلك وصار يفهم منها ذلك عند الإطلاق لغلبة الاستعمال ولا يفهم منها خصوص معناها الأول كسائر الألفاظ التي نقلها أهل العرف إلى أعم من معناها مثل لفظ الرقبة والرأس في قوله: {فتحرير رقبة} وقد يقال: إن هذا من باب دلالة اللزوم فإن تحرير العنق يستلزم تحرير سائر البدن؛ ولهذا تنازع الفقهاء إذا قال: يدك حر إن دخلت الدار؛ فقطعت يده ثم دخل الدار: هل يعتق؟ على وجهين بناء على أنه من باب السراية أو من باب العبادة. والصحيح أنه من باب العبادة ومعناه: أنت حر إن فعلت كذا والحقيقة الحرفية والشرعية معلومة في اللغة.
    [فصل: الجواب عن شبهة النصارى في إقرار المسلمين في الصفات وأنه لا يقتضي التشبيه والتجسيم]
    قال الحاكي عنهم: فقلت لهم: إنهم يقولون لنا: إذا كان اعتقادكم في الباري - تعالى - أنه واحد، فما حملكم على أن تقولوا: أب وابن وروح قدس، فتوهمون السامعين أنكم تعتقدون في الله ثلاثة أشخاص مركبة، أو ثلاثة آلهة، أو ثلاثة أجزاء، وأن له ابنا، ويظن من لا يعرف اعتقادكم أنكم تريدون بذلك ابن المباضعة والتناسل، فتطرقون على أنفسكم تهمة أنتم منها بريئون؟
    قالوا: وهم أيضا، لما كان اعتقادهم في الباري جلت عظمته أنه غير ذي جسم، وغير ذي جوارح وأعضاء، وغير محصور في مكان، فما حملهم على أن يقولوا: إن له عينين يبصر بهما، ويدين يبسطهما، وساقا، ووجها يوليه إلى كل مكان، وجنبا، وأنه يأتي في ظلل من الغمام، فيوهمون السامعين أن الله ذو جسم وذو أعضاء وجوارح، وأنه ينتقل من مكان إلى مكان في ظلل من الغمام، فيظن من لا يعرف اعتقادهم أنهم يجسمون الباري، حتى إن قوما منهم اعتقدوا ذلك واتخذوه مذهبا، ومن لم يتحقق اعتقادهم يتهمهم بما هم بريئون منه.
    قال: فقلت لهم: إنهم يقولون: إن العلة في قولهم هذا، أن الله له عينان ويدان ووجه وساق وجنب، وأنه يأتي في ظلل من الغمام، فهو أن القرآن نطق به، وأن ذلك غير ظاهر اللفظ، وكل من يحمل ذلك على ظاهر اللفظ ويعتقد أن الله له عينان ويدان ووجه وجنب وجوارح وأعضاء، وأن ذاته تنتقل، فهم يلعنونه ويكفرونه، فإذا كفروا من يعتقد هذا، فليس لمخالفيهم أن يلزموهم هذا بعد أن لا يعتقدوه.
    قالوا: وكذلك نحن أيضا النصارى، العلة في قولنا: إن الله ثلاثة أقانيم: أب، وابن، وروح قدس، أن الإنجيل نطق به، والمراد بالأقانيم: غير الأشخاص المركبة والأجزاء والأبعاض وغير ذلك مما يقتضي الشرك والتكثير، وبالأب والابن غير أبوة وبنوة نكاح أو تناسل، أو جماع أو مباضعة.
    وكل من يعتقد أن الثلاثة أقانيم ثلاثة آلهة مختلفة، أو ثلاثة آلهة متفقة، أو ثلاثة أجسام مؤلفة، أو ثلاثة أجزاء متفرقة، أو ثلاثة أشخاص مركبة، أو أعراض، أو قوى، أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير والتبعيض والتشبيه، أو بنوة نكاح، أو تناسل، أو مباضعة، أو جماع، أو ولادة زوجة، أو من بعض الأجسام، أو من بعض الملائكة، أو من بعض المخلوقين، فنحن نلعنه ونكفره ونجرمه.

    وإذا لعنا أو كفرنا من يعتقد ذلك، فليس لمخالفينا أن يلزمونا بعد أن لا نعتقده، وإن ألزمونا الشرك والتشبيه لأجل قولنا: أب وابن وروح
    قدس ; لأن ظاهر ذلك يقتضي التكثير والتشبيه، ألزمناهم أيضا - نحن - التجسيم والتشبيه لقولهم: إن الله له عينان ويدان ووجه وساق وجنب، وأن ذاته تنتقل من مكان إلى مكان، وأنه استوى على العرش من بعد أن لم يكن عليه، وغير ذلك مما يقتضي ظاهره التجسيم والتشبيه.
    والجواب من وجوه:أحدها: أن يقال: من آمن بما جاءت به الرسل وقال ما قالوه من غير تحريف للفظه ولا معناه، فهذا لا إنكار عليه، بخلاف من ابتدع أقوالا لم تقلها الرسل، بل هي تخالف ما قالوه، وحرف ما قالوه، إما لفظا ومعنى، وإما معنى فقط، فهذا يستحق الإنكار عليه باتفاق الطوائف.

    وأصل دين المسلمين أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه في كتبه، وبما وصفته به رسله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبتون له - تعالى - ما أثبته لنفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، ويتبعون في ذلك أقوال رسله، ويجتنبون ما خالف أقوال الرسل، كما قال تعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [الصافات: 180] أي عما يصفه الكفار المخالفون للرسل. {وسلام على المرسلين} [الصافات: 181]
    لسلامة ما قالوه من النقص والعيب. {والحمد لله رب العالمين} [الأنعام: 45].
    فالرسل وصفوا الله بصفات الكمال، ونزهوه عن النقائص المناقضة للكمال، ونزهوه عن أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال، وأثبتوا له صفات الكمال على وجه التفصيل، ونفوا عنه التمثيل، فأتوا بإثبات مفصل ونفي مجمل.
    فمن نفى عنه ما أثبته لنفسه من الصفات، كان معطلا، ومن جعلها مثل صفات المخلوقين، كان ممثلا، والمعطل يعبد عدما، والممثل يعبد صنما.
    وقد قال تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] وهو رد على الممثلة، {وهو السميع البصير} [الشورى: 11] وهو رد على المعطلة.
    فوصفته الرسل بأنه حي منزه عن الموت، عليم منزه عن الجهل، قدير قوي عزيز منزه عن العجز والضعف والذل واللغوب، سميع بصير منزه عن الصم والعمى، غني منزه عن الفقر، جواد منزه عن البخل، حكيم حليم منزه عن السفه، صادق منزه عن الكذب، إلى سائر صفات الكمال، مثل وصفه بأنه ودود رحيم لطيف، وقد قال تعالى: {قل هو الله أحد - الله الصمد - لم يلد ولم يولد - ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 1 - 4].
    فالصمد، اسم يتضمن إثبات صفات الكمال ونفي النقائص، وهو العليم الكامل في علمه، القدير الكامل في قدرته، الحكيم الكامل في حكمته.
    ولنا مصنف مبسوط في تفسير هذه السورة، وآخر في بيان أنها تعادل ثلث القرآن، وذكرنا كلام علماء المسلمين من الصحابة والتابعين في معنى " الصمد " وأن عامة ما قالوه حق، كقول من قال منهم: (إن الصمد الذي لا جوف له) ومن قال منهم: (إنه السيد الذي انتهى سؤدده) كما قيل: (إنه المستغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه محتاج إليه) وكما قيل: (إنه العليم الكامل في علمه، والقدير الكامل في قدرته) إلى سائر صفات الكمال.
    وذكر تعالى في هذه السورة، أنه أحد ليس له كفوا أحد، فنفى بذلك أن يكون شيئا من الأشياء له كفوا، وبين أنه أحد لا نظير له.

    وقال في آية أخرى: {فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا} [مريم: 65] وقال: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] وقال: {فلا تضربوا لله الأمثال} [النحل: 74] وقال: {فلا تجعلوا لله أندادا} [البقرة: 22]
    وما ورد في القرآن والسنة من إثبات صفات الله، فقد ورد في التوراة وغيرها من كتب الله مثل ذلك.
    فهو أمر اتفقت عليه الرسل، وأهل الكتاب في ذلك كالمسلمين.
    وإذا كان كذلك، فهم في أمانتهم لم يقولوا ما قاله المسيح والأنبياء، بل ابتدعوا اعتقادا لا يوجد في كلام الأنبياء، فليس في كلام الأنبياء لا المسيح ولا غيره ذكر أقانيم لله، لا ثلاثة ولا أكثر، ولا إثبات ثلاث صفات، ولا تسمية شيء من صفات الله ابنا لله ولا ربا، ولا تسمية حياته روحا، ولا أن لله ابنا هو إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، وأنه خالق كما أن الله خالق، إلى غير ذلك من الأقوال المتضمنة لأنواع من الكفر، لم تنقل عن نبي من الأنبياء.
    فقالوا في شريعة إيمانهم: نؤمن بالله الأب، مالك كل شيء، صانع ما يرى وما لايرى، وهذا حق.
    ثم قالوا: وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد، بكر الخلايق كلها، مولود ليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، نور من نور، مساو للأب في الجوهر الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء، الذي من أجلنا - معشر الناس - ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء البتول، وصار إنسانا، وحبل به وولد من مريم البتول، وتألم وصلب ودفن، وقام في اليوم الثالث، كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء.
    ونؤمن بروح القدس المحيي، وروح الحق المنبثق من أبيه، أو الذي خرج من أبيه روح محييه.
    فأين في كلام الأنبياء أن شيئا من صفات الله أو من مخلوقاته يقال فيه: إنه أقنوم، وإنه حق من إله حق، من جوهر أبيه، وإنه مساو لله في الجوهر، وإنه خالق خلق كل شيء، وإنه قعد عن يمين الله فوق العرش، وإنه الذي يقضي بين الناس يوم القيامة؟
    وأين في كلام الأنبياء أن لله ولدا قديما أزليا؟
    ومن الذي سمى كلام الله أو علمه أو حكمته - مولودا له أو ابنا له، أو شيئا من صفاته مولودا له أو ابنا له؟
    ومن الذي قال من الأنبياء: إنه مولود، وهو - مع ذلك - قديم أزلي؟
    وأين في كلامهم أن لله أقنوما ثالثا هو حياته، ويسمى بروح القدس، وأنه أيضا رب حي محي.
    فلو كان النصارى آمنوا بنصوص الأنبياء، كما آمن المؤمنون،
    لم يكن عليهم ملام.
    ومن اعترض على نصوص الأنبياء، كان لفساد فهمه ونقص معرفته.

    ولكنهم ابتدعوا أقوالا وعقائد ليست منصوصة عن أحد من الأنبياء - عليهم السلام - وفيها كفر ظاهر وتناقض بين.
    فلو قدر أنهم أرادوا بها معنى صحيحا، لم يكن لأحد أن يبتدع كلاما لم يأت به نبي يدل على الكفر المتناقض الذي يخالف الشرع والعقل، ويقول: إني أردت به معنى صحيحا، من غير أن يكون لفظه دالا على ذلك، فكيف والمراد الذي يفسرون به كلامهم فاسد متناقض كما تقدم؟
    فهم ابتدعوا أقوالا منكرة وفسروها بتفسير منكر، فكان الرد عليهم من كل واحد من الوجهين، وهم - في ذلك - نظير بعض ملاحدة المسلمين الذين يعتقدون إلهية بعض أهل البيت، أو بعض المشايخ، ويصفون الله بصفات لم ينطق بها كتاب، وهؤلاء ملحدون عند المسلمين.
    بخلاف المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله، الذين آمنوا بما قالت الأنبياء، ولم يبتدعوا أقوالا لم يأت بها الأنبياء، وجعلوها أصل دينهم.
    الوجه الثاني: أن يقال: ما ذكرتموه عن المسلمين كذب ظاهر عليهم.
    فهذا النظم الذي ذكروه ليس هو في القرآن، ولا في الحديث،
    ولا يعرف عالم مشهور من علماء المسلمين، ولا طائفة مشهورة من طوائفهم، يطلقون العبارة التي حكوها عن المسلمين، حيث قالوا عنهم: (إنهم يقولون: إن لله عينين يبصر بهما، ويدين يبسطهما، وساقا ووجها يوليه إلى كل مكان، وجنبا).
    ولكن هؤلاء ركبوا من ألفاظ القرآن بسوء تصرفهم وفهمهم، تركيبا زعموا أن المسلمين يطلقونه.
    وليس في القرآن ما يدل ظاهره على ما ذكروه، فإن الله - تعالى - قال في كتابه: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائدة: 64]
    واليهود أرادوا بقولهم: (يد الله مغلولة) أنه بخيل، فكذبهم الله في ذلك، وبين أنه جواد لا يبخل، فأخبر أن يديه مبسوطتان، كما قال: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا} [الإسراء: 29]
    فبسط اليدين المراد به الجواد والعطاء، ليس المراد ما توهموه من بسط مجرد.
    ولما كان العطاء باليد يكون ببسطها، صار من المعروف في اللغة التعبير ببسط اليد عن العطاء.
    فلما قالت اليهود: (يد الله مغلولة) وأرادوا بذلك أنه بخيل، كذبهم الله في ذلك، وبين أنه جواد ماجد.
    وإثبات اليدين له موجود في التوراة وسائر النبوات، كما هو موجود في القرآن.
    فلم يكن في هذا شيء يخالف ما جاءت به الرسل، ولا ما يناقض العقل، وقد قال تعالى لإبليس: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75]
    فأخبر أنه خلق آدم بيديه، وجاءت الأحاديث الصحيحة توافق ذلك.
    وأما لفظ (العينين)، فليس هو في القرآن، ولكن جاء في حديث.

    وذكر الأشعري عن أهل السنة والحديث أنهم يقولون: إن لله عينين.
    ولكن الذي جاء في القرآن: {ولتصنع على عيني - واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} [هود: 39 - 37]،
    {وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا} [القمر: 13].
    وأما قولهم: (له وجه يوليه إلى كل مكان) فليس هذا في القرآن ولكن في القرآن: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 26] وقوله: {كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون} [القصص: 88] وقوله: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]
    وهذا قد قال فيه طائفة من السلف: فثم قبلة الله ; أي فثم جهة الله، والجهة كالوعد والعدة، والوزن والزنة.
    والمراد بوجه الله وجهة الله - الوجه، والجهة والوجهة الذي لله يستقبل في الصلاة، كما قال في أول الآية: {ولله المشرق والمغرب} [البقرة: 115] ثم قال: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]

    كما قال تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 142]
    فإذا كان لله المشرق والمغرب، {ولكل وجهة هو موليها} [البقرة: 148] وقوله: (موليها) ; أي متوليها أو مستقبلها، فهذا كقوله: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115] أي فأينما تستقبلوا فثم وجه الله. وقد قيل: إنه يدل على صفة الله، لكن يدل على أن ثم وجه لله، وأن العباد أينما يولون فثم وجه الله، فهم الذين يولون ويستقبلون، لا أنه هو يولي وجهه إلى كل مكان، فهذا تحريف منهم للفظ القرآن عن معناه وكذب على المسلمين.
    ومن قال بالقول الثاني من المسلمين، فإن ذلك يقتضي أن الله محيط بالعالم كله، كما قد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع.
    إذ المقصود هنا بيان ضلال هؤلاء في دينهم فيما ابتدعوا من الكفر والتثليث والاتحاد، دون الذين آمنوا بالله ورسله، وما أخبرت به الرسل عن الله - تبارك وتعالى -.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #276
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 274)

    من صــ 311 الى صـ 325



    وأما قولهم: (وجنب) فإنه لا يعرف عالم مشهور عند المسلمين، ولا طائفة مشهورة من طوائف المسلمين، أثبتوا لله جنبا نظير جنب الإنسان، وهذا اللفظ جاء في القرآن في قوله: {أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله} [الزمر: 56]
    فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أن يكون المضاف إلى الله
    صفة له، بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة وصفاتها القائمة بها ما ليس بصفة له باتفاق الخلق، كقوله: (بيت الله) و (ناقة الله) و (عباد الله) بل وكذلك (روح الله) عند سلف المسلمين وأئمتهم وجمهورهم.
    ولكن إذا أضيف إليه ما هو صفة له وليس بصفة لغيره، مثل كلام الله وعلم الله، ويد الله ونحو ذلك، كان صفة له.
    وفي القرآن ما يبين أنه ليس المراد بالجنب ما هو نظير جنب الإنسان فإنه قال: {أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله} [الزمر: 56]
    والتفريط ليس في شيء من صفات الله - عز وجل -.
    والإنسان إذا قال: فلان قد فرط في جنب فلان أو جانبه، لا يريد به أن التفريط وقع في شيء من نفس ذلك الشخص، بل يريد به أنه فرط في جهته وفي حقه.
    فإذا كان هذا اللفظ إذا أضيف إلى المخلوق لا يكون ظاهره أن التفريط في نفس جنب الإنسان المتصل بأضلاعه، بل ذلك التفريط لم يلاصقه، فكيف يظن أن ظاهره في حق الله - أن التفريط كان في ذاته؟

    وجنب الشيء وجانبه، قد يراد به منتهاه وحده، ويسمى جنب الإنسان جنبا بهذا الاعتبار، قال تعالى:
    {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا} [السجدة: 16] وقال تعالى: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} [آل عمران: 191]
    وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين: " (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع، فعلى جنب) "
    وإذا قدر أن الإضافة هنا تتضمن صفة الله، كان الكلام في هذا كالكلام في سائر ما يضاف إليه تعالى من الصفات، وفي التوراة من ذلك نظير ما في القرآن.
    وهذا يتبين بالوجه الثالث: وهو أن يقال ما في القرآن والحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وصف الله بهذه الصفات التي يسميها بعض الناس تجسيما، هو مثل ما في التوراة وسائر كتب الأنبياء، وهذا الذي في التوراة وكتب الأنبياء ليس مما أحدثه أهل الكتاب.
    ولو كانوا هم ابتدعوا ذلك، ووصفوا الخالق بما يمتنع عليه من التجسيم، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذمهم على ذلك، كما ذمهم على ما وصفوه به من النقائص في مثل قوله تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181] وقوله: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائدة: 64] وقال تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38]
    فنفى عنه اللغوب الذي يظن في لفظ الاستراحة الذي في التوراة، فإن فيها أن الله خلق العالم في ستة أيام، ثم استراح في يوم السبت، فظن بعض الناس أنه تعب فاستراح.
    ثم من علماء المسلمين من قال: إن هذا اللفظ حرفوا معناه دون لفظه، وهذا لفظ التوراة المنزلة. قاله ابن قتيبة
    وغيره وقالوا معناه: ثم ترك الخلق، فعبر عن ذلك بلفظ استراح.
    ومنهم من قال: بل حرفوا لفظه، كما قال أبو بكر الأنباري وغيره.
    وقالوا: ليس هذا لفظ التوراة المنزلة، وأما ما في التوراة من إثبات الصفات، فلم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا من ذلك، بل كان علماء اليهود إذا ذكروا شيئا من ذلك يقرهم عليه ويصدقهم عليه، كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، "أن حبرا من اليهود جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا محمد إن الله - عز وجل - يوم القيامة يحمل السماوات على إصبع،
    والأرض على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك). قال: فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه تعجبا وتصديقا لقول الحبر، ثم قرأ: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] الآية".
    وفي التوراة: " إن الله كتب التوراة بإصبعه ".
    وإذا ثبت أن مثل هذه النصوص في التوراة والكتب المتقدمة باتفاق أهل الكتاب وبما يشهد على ذلك من أخبار الرسول بنظير ذلك وترك إنكاره لما في التوراة، وتصديقه على ما كانوا يذكرونه من ذلك - لم يكن المسلمون مختصين بذكر ما سموه تجسيما، بل يلزم أهل الكتاب اليهود والنصارى من ذلك نظير ما يلزم المسلمين.
    وقد افترق أهل الكتاب في ذلك كما افترق فيه المسلمون، منهم الغالي في النفي والتعطيل، ومنهم الغالي في التشبيه والتمثيل.
    والمسلمون أئمتهم وجمهورهم مقتصدون بين التعطيل والتمثيل، وكذلك طائفة من أهل الكتاب.
    والمقصود أنه إذا كانت هذه الصفات قد جاءت في الكتب الإلهية، التوراة وغيرها، كما جاءت في القرآن، لم يكن للمسلمين بذلك اختصاص.
    ولم يجز للنصارى أن يجعلوا ذلك نظير ما اختصوا به من التثليث والاتحاد، فإن ذلك مختص بهم.
    وهذه الصفات قد اشترك فيها أهل الملل الثلاث ; لأن التثليث والاتحاد ليس منصوصا عن أحد من الأنبياء - عليهم السلام - وهذه الصفات منصوصة في القرآن والتوراة وغيرهما من كتب الأنبياء، فكيف يجوز تشبيه هذا بهذا؟
    الوجه الرابع: قولهم: (فيوهمون السامعين أن الله ذو جسم وأعضاء وجوارح) - كلام باطل؛ وذلك أن الله سمى نفسه وصفاته بأسماء، وسمى بعض عباده وصفات عباده بأسماء هي في حقهم نظير تلك الأسماء في حقه سبحانه وتعالى.

    فسمى نفسه حيا، كقوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255] الآية.
    {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] وسمى بعض عباده حيا، كقوله: {يخرج الحي من الميت} [الأنعام: 95]
    مع العلم بأنه ليس الحي كالحي، وسمى نفسه عليما، كقوله: {إن ربك حكيم عليم} [الأنعام: 83].
    وسمى بعض عباده عليما، كقوله: {وبشروه بغلام عليم} [الذاريات: 28]
    مع العلم بأنه ليس العليم كالعليم.
    وسمى نفسه حليما، بقوله: {والله غني حليم} [البقرة: 263] وسمى بعض عباده حليما، بقوله: {فبشرناه بغلام حليم} [الصافات: 101]
    وسمى نفسه رءوفا رحيما، بقوله: {إن الله بالناس لرءوف رحيم} [البقرة: 143].
    وسمى بعض عباده رءوفا رحيما، بقوله: {بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]
    وليس الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم.
    وكذلك سمى نفسه ملكا جبارا متكبرا عزيزا، وسمى بعض عباده ملكا، وبعضهم عزيزا، وبعضهم جبارا متكبرا، وليس هو في ذلك مماثلا لخلقه.
    وكذلك سمى بعض صفاته علما وقوة وأيدا، وقدرة ورحمة وغضبا، ورضى ويدا وغير ذلك، وسمى بعض صفات عباده بذلك، وليس علمه كعلمهم، ولا قدرته كقدرتهم، ولا رحمته وغضبه كرحمتهم وغضبهم، ولا يده كأيديهم.
    وكذلك ما أخبر به عن نفسه من استوائه على العرش، ومجيئه في ظلل من الغمام، وغير ذلك من هذا الباب، ليس استواؤه كاستوائهم، ولا مجيئه كمجيئهم.
    وهذه المعاني التي تضاف إلى الخالق تارة وإلى المخلوق أخرى، تذكر على ثلاثة أوجه:
    تارة تقيد بالإضافة إلى الخالق أو بإضافته إليها، كقوله
    - تعالى -: {ولا يحيطون بشيء من علمه} [البقرة: 255] الآية. {إن الله هو الرزاق ذو القوة} [الذاريات: 58]

    وتارة تتقيد بالمخلوق كقوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} [آل عمران: 18].
    وتارة تطلق مجردة.
    فإذا قيدت بالخالق، لم تدل على شيء من خصائص المخلوقين.
    فإذا قيل: علم الله وقدرته واستواؤه ومجيئه ويده ونحو ذلك، كانت هذه الإضافة توجب ما يختص به الرب الخالق، وتمنع أن يدخل فيها ما يختص به المخلوق.
    وكذلك إذا قيل: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} [المؤمنون: 28] كانت هذه الإضافة توجب ما يختص بالعبد وتمنع أن يدخل في ذلك ما يختص بالرب - عز وجل -.
    وإذا جرد اللفظ عن القيود فذكر بوصف العموم والإطلاق، تناول الأمرين كسائر الألفاظ التي تطلق على الخالق والمخلوق.
    وهذه للناس فيها أقوال.
    قيل: إنها حقيقة في الخالق، مجاز في المخلوق، كقول أبي العباس الناشئ.
    وقيل: بالعكس كقول غلاة الجهمية والباطنية والفلاسفة.
    وقيل: حقيقة فيهما، وهو قول الجمهور.
    ثم قيل: هي مشتركة اشتراكا لفظيا، وقيل: متواطئة وهو قول الجمهور.
    ثم من جعل المشككة نوعا من المتواطئة لم يمتنع - عنده - إذا قيل: مشككة، أن تكون متواطئة، ومن جعل ذلك نوعا آخر جعلها مشككة لا متواطئة.
    وهذا نزاع لفظي، فإن المتواطئة التواطؤ العام، يدخل فيها المشككة.
    إذ المراد بالمشككة، ما يتفاضل معانيها في مواردها، كلفظ الأبيض الذي يقال على البياض الشديد، كبياض الثلج، والخفيف كبياض العاج، والشديد أولى به.
    ومعلوم أن مسمى البياض في اللغة لا يختص بالشديد دون الخفيف، فكان اللفظ دالا على ما به الاشتراك، وهو المعنى العام الكلي، وهو متواطئ بهذا الاعتبار، وهو باعتبار التفاضل يسمى مشككا.
    وأما إذا أريد بالتواطؤ، ما تستوي معانيه، كانت المشككة نوعا آخر.
    لكن تخصيص لفظ المتواطئة بهذا عرف حادث، وهو خطأ أيضا.
    فإن عامة المعاني العامة تتفاضل، والتماثل فيها في جميع مواردها، بحيث لا تتفاضل في شيء من مواردها، إما قليل وإما معدوم.
    فلو لم تكن هذه الأسماء متواطئة بل مشككة، كان عامة الأسماء الكلية غير متواطئة، وهذا مبسوط في موضع آخر.

    والمقصود هنا أن الله - سبحانه وتعالى - إذا أضاف إلى نفسه ما أضافه إضافة يختص بها، وتمنع أن يدخل فيها شيء من خصائص المخلوقين، وقد قال مع ذلك: إنه (ليس كمثله شيء) وإنه (لم يكن له كفوا أحد) وأنكر أن يكون له سمي، كان من فهم من هذه ما يختص به المخلوق - قد أتي من سوء فهمه ونقص عقله، لا من قصور في بيان الله ورسوله، ولا فرق في ذلك بين صفة وصفة.
    فمن فهم من علم الله ما يختص به المخلوق من أنه عرض محدث باضطرار أو اكتساب، فمن نفسه أتي، وليس في قولنا: علم الله - ما يدل على ذلك.
    وكذلك من فهم من قوله: {بل يداه مبسوطتان} [المائدة: 64] الآية. {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75]
    ما يختص به المخلوق من جوارحه وأعضائه، فمن نفسه أتي،
    فليس في ظاهر هذا اللفظ ما يدل على ما يختص به المخلوق كما في سائر الصفات.

    وكذلك إذا قال: {ثم استوى على العرش} [الأعراف: 54]. من فهم من ذلك ما يختص بالمخلوق، كما يفهم من قوله: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} [المؤمنون: 28]
    فمن نفسه أتي، فإن ظاهر اللفظ يدل على استواء يضاف إلى الله - عز وجل - كما يدل في تلك الآية على استواء يضاف إلى العبد.
    وإذا كان المستوي ليس مماثلا للمستوي، لم يكن الاستواء مماثلا للاستواء.
    فإذا كان العبد فقيرا إلى ما استوى عليه، يحتاج إلى حمله.
    وكان الرب - عز وجل - غنيا عن كل ما سواه والعرش وما سواه فقيرا إليه، وهو الذي يحمل العرش وحملة العرش، لم يلزم إذا كان الفقير محتاجا إلى ما استوى عليه أن يكون الغني عن كل شيء وكل شيء محتاج إليه - محتاجا إلى ما استوى عليه.
    وليس في ظاهر كلام الله - عز وجل - ما يدل على ما يختص به المخلوق من حاجة إلى حامل وغير ذلك، بل توهم هذا من سوء الفهم، لا من دلالة اللفظ.
    لكن إذا تخيل المتخيل في نفسه أن الله مثله، تخيل أن يكون استواؤه كاستوائه، وإذا عرف أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، علم أن استواءه ليس كاستوائه، ومجيئه كمجيئه، كما أن علمه وقدرته ورضاه وغضبه، ليس كعلمه وقدرته ورضاه وغضبه.
    وما بين الأسماء من المعنى العام الكلي كما بين قولنا: حي وحي، وعالم وعالم. وهذا المعنى العام الكلي المشترك لا يوجد عاما كليا مشتركا إلا في العلم والذهن، وإلا فالذي في الخارج أمر يختص بالموصوف.
    فصفات الرب - عز وجل - مختصة به، وصفات المخلوق مختصة به، ليس بينهما اشتراك ولا بين مخلوق ومخلوق.
    الوجه الخامس: قولهم: (لما كان اعتقادهم في الباري جلت قدرته أنه غير ذي جسم) استعمال منهم للفظ الجسم في القدر والغلظ، لا في ذي القدر والغلظ، وهذا أحد موردي استعماله، وهو الأشهر في لغة العامة، فيقولون: هذا الثوب له جسم، وهذا ليس له جسم ; أي هذا له غلظ وكثافة دون هذا.
    ولكن النظار أكثر ما يستعملون لفظ الجسم في نفس ذي القدر، فيقولون للقائم بنفسه ذي القدر: إنه جسم.
    وهذا اللفظ لما كثر استعماله في كلام النظار، تفرقوا في معانيه لغة وعقلا وشرعا، تفرقا ضل به كثير من الناس، فإن هذا اللفظ أصله في اللغة هو الجسد.
    قال غير واحد من أهل اللغة، كالأصمعي وأبي زيد وغيرهما: الجسم هو الجسد.
    وهذا إنما يستعمله أهل اللغة فيما كان غليظا كثيفا، فلا يسمون الهواء جسما ولا جسدا، ويسمون بدن الإنسان جسدا.
    وقد تقدم أن الجسم يراد به نفس الجسد، ويراد به قدر الجسد وغلظه، قال تعالى: {وزاده بسطة في العلم والجسم} [البقرة: 247] وقال تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة} [المنافقون: 4]
    وقد يراد به هذا وهذا.

    ثم إن أهل النظر استعملوا لفظ " الجسد " في أعم من معناه في
    اللغة، كما فعلوا مثل ذلك في لفظ " الجوهر " ولفظ " العرض " ولفظ " الوجود " ولفظ " الذات " وغير ذلك.
    فاستعملوا لفظ " الجسم " فيما يقوم بنفسه وتمكن الإشارة إليه الحسية المختلفة.
    ثم تنازعوا نزاعا عقليا فيما يشار إليه، كالهواء والنار والتراب والماء وغير ذلك، هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة، أو من المادة والصورة، أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا، على ثلاثة أقوال قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع.
    فمن اعترف أنها مركبة من هذا أو هذا، يلزمه - إذا قال: إن الله جسم - أن يكون الله مركبا من هذا أو هذا.
    ولهذا قالوا: إن هذا باطل وأوجبوا - على أصلهم - نفي مسمى هذا الاسم، وهذا هو المشهور عند هؤلاء.

    ومن اعتقد أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا، قال: يلزمني إذا قلت: هو جسم أن يكون مركبا.
    فمن هؤلاء من أطلق عليه لفظ " الجسم "، وأراد به القائم بنفسه أو الموجود، كما أطلق هؤلاء لفظ الجوهر، وقالوا: أردنا بالجوهر القائم بنفسه. وكما قال هؤلاء: ليس في الوجود إلا جوهر أو عرض.
    فإن الوجود إما قائم بنفسه، وهو الجوهر، أو بغيره، وهو العرض، والجوهر أشرف القسمين.
    وقال الآخرون: ليس في الوجود إلا قائم بنفسه، وهو الجسم أو قائم بغيره، وهو العرض، والجسم أشرف القسمين. وقال: فما سماه أولئك جوهرا، سماه أولئك جسما، وكلاهما ليست تسميته لغوية ولا شرعية.
    وإذا قال هؤلاء: هو جوهر لا كالجواهر، كما يقال: هو شيء لا كالأشياء.
    قال أولئك: هو جسم لا كالأجسام، كما يقال: هو شيء لا كالأشياء.
    وإذا قال هؤلاء: الجوهر ينقسم إلى كثيف ولطيف، قال أولئك: والجسم ينقسم إلى لطيف وكثيف.
    والمقصود هنا، أن هؤلاء الذين نزهوه عما يمتنع عليه من مماثلة المخلوقين، وسموه جسما - نزاعهم مع النفاة قد يكون لفظيا، كنزاع النصارى في لفظ " الجوهر "، وقد يكون عقليا، كنزاعهم في المشار إليه، هل هو مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، أو لا من هذا ولا من هذا.

    ومن قال من القائلين بأنه جسم، فيقول: إنه مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، فهؤلاء مذمومون لفظا ومعنى عند جماهير المسلمين وغيرهم، وإن كان النصارى وغيرهم يعجزون عن الرد على هؤلاء، إذ كان ما يعتمدون عليه في تنزيه الله عن خصائص الأجسام طرقا ضعيفة لا تثبت على المعيار العقلي، كما قد بسط في موضع آخر.
    بخلاف من كان نزاعه لفظيا، فهذا يذم إما لغة وإما لغة وشرعا ; لكونه أطلق لفظا لم يأذن به الشرع، أو استعمله في خلاف معناه اللغوي، كما قد يذم النافي لمثل ذلك لغة وشرعا، إذا كان معناه صحيحا.
    وأما من كان من النفاة أو المثبتة نفى حقا أو أثبت باطلا، فهذا مذموم ذما معنويا شرعا وعقلا.
    وأما الشرع، فالرسل وأتباعهم الذين من أمة موسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، لم يقولوا: إن الله جسم، ولا إنه ليس بجسم، ولا إنه جوهر، ولا إنه ليس بجوهر.
    لكن النزاع اللغوي والعقلي والشرعي في هذه الأسماء، هو مما أحدث في الملل الثلاث بعد انقراض الصدر الأول من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #277
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 275)

    من صــ 326 الى صـ 340





    والذي اتفقت عليه الرسل وأتباعهم، ما جاء به القرآن والتوراة من أن الله موصوف بصفات الكمال، وأنه ليس كمثله شيء، فلا تمثل صفاته بصفات المخلوقين، مع إثبات ما أثبته لنفسه من الصفات، ولا يدخل في صفاته ما ليس منها، ويخرج منها ما هو داخل فيها.
    إذا تبين هذا، فالمسلمون لما كان اعتقادهم بأن الله - تعالى - موصوف بما وصف به نفسه، وأنه ليس كمثله شيء، وكان ما أثبتوه له من الصفات مما جاءت به الرسل، لم يكن عليهم ملام ; لأنهم أثبتوا ما أثبته الرسل، ونفوا ما نفته الرسل، فكان في هذا النفي ما ينفي الوهم الباطل.
    بخلاف من أثبت أمورا لم تأت بها الرسل، وضم إليها ما يؤكد المعنى الباطل لا ما ينفيه، وكان مما نفوا عنه أنه ليس بجسم مركب من الجواهر المنفردة، ولا من المادة والصورة.
    أما على أحد قولي النظار بل أظهرهما، فإن ما سواه من الموجودات القائمة بأنفسها، ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا.
    فهو سبحانه أحق بتنزيهه عن مثل هذا، إذ كل نقص نفي عن المخلوق، فالخالق أحق بتنزيهه منه.
    وأما على القول الآخر، فتارة يقولون: لأن المركب من الجواهر المنفردة يمكن افتراق أجزائه، وذلك ممتنع في حق الله - تعالى -، وتارة يقولون: لأنه مفتقر إلى أجزائه، وذلك ممتنع في حق الله
    - تعالى -، إذ جزؤه غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه قديما أزليا، كما قد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر.
    ثم منهم من لا يطلق من النفي والإثبات إلا الألفاظ الشرعية، فكما لا يقول: هو جسم وجوهر، لا يقول: ليس بجسم ولا جوهر.
    ومنهم من يطلق هذه الألفاظ، وهؤلاء منهم من ينفيها، ومنهم من يثبتها.
    وكل من الطائفتين قد يدخل في ذلك ما يوافق الشرع، وقد يدخل في ذلك ما يخالف الشرع.
    وكل من الطائفتين يدعي النظر العقلي أو اللغوي، وربما اعتصم بعضهم بما يظنه دليلا شرعيا.
    والغالب عليهم أنهم لا يعتصمون في ذلك بشرع، إذ لم يكن في ذلك شرع، وإنما يتكلفون تغيير اللغة التي بعث بها الرسول، ثم يحملون ألفاظه على ما ابتدعوه من اللغة، كما فعلته النصارى في حمل كلام الأنبياء على ما ابتدعوه من اللغة.
    فإن الأنبياء لم يسموا علم الله وحياته ابنا، وروح قدس، ولا ربا، فسمى النصارى علمه وحياته ابنا، وروح قدس، وربا، ثم حملوا كلام الأنبياء على ذلك.
    كذلك طائفة من أهل الكلام كان السلف يسمونهم الجهمية، أحدثوا تسمية الواحد والأحد ونحوهما لما لا يشار إليه ويميز الحس منه
    شيئا عن شيء، وهذا خلاف اللغة، فإن أهل اللغة يسمون بالواحد والوحيد والأحد في النفي لما يشار إليه ويميز الحس منه شيئا من شيء، قال تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11] فسمى الإنسان وحيدا، وقال تعالى: {وإن كانت واحدة فلها النصف} [النساء: 11] فسمى المرأة واحدة، {وما أمرنا إلا واحدة} [القمر: 50] وقال: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] فسمى المستجير وهو الإنسان أحدا.
    وكذلك قوله تعالى: {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4] فنفى أن يكون أحد كفوا له.

    فلو كان ما يشار إليه لا يسمى أحدا، لم يكن قد نزهه عن مماثلة المخلوقات له، فإن المشهود من المخلوقات كلها يشار إليها، فإن لم يدخل في أحد، لم يكن قد نزه نفسه عن مماثلتها.
    فهؤلاء لما أحدثوا أن مسمى الأحد والواحد لا يكون مشارا إليه، قالوا: والرب قد سمى نفسه أحدا وواحدا، فيجب أن لا يكون مشارا إليه.
    ولغة الرسول التي خاطب بها الناس لم تكن موافقة لما ابتدعوه من اللغة.
    وكذلك الذين قالوا: " هو جسم " غيروا اللغة، وجعلوا الجسم اسما لما يشار إليه، أو لكل موجود، ولكل قائم بنفسه.
    ثم قالوا: هو موجود، أو قائم بنفسه، أو مشار إليه، فيكون جسما
    ولا يوجد في اللغة اسم الجسم، لا لهذا، ولا لهذا، ولا لهذا.
    وقالوا: لا يلزم من كونه مشارا إليه أن يكون مركبا من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة.
    وقال أولئك: بل يلزم أن كل مركب، يسمى في اللغة جسما، فيلزم أن يسمى جسما، إذا قلنا: هو مشار إليه، أو يرى بالأبصار، أو متصفا بصفات تقوم به.
    وليس ما ذكروه عن اللغة بمستقيم، فإن أهل اللغة لا يعنون بالجسم المركب، بل الجسم عندهم هو الجسد، ولا يسمون الهواء جسما.
    إذا تبين هذا، فتمثيل هؤلاء النصارى باطل، على قول كل طائفة من طوائف المسلمين.
    فمنهم من يقول: الجسم - في اللغة - هو المركب، والله ليس بمركب، فليس بجسم. لا يقولون بما ذكروه من أن الله له وجه يوليه إلى كل مكان، وجنب ونحو ذلك.
    وكذلك من قال: إن الله ليس بمركب، وسماه جسما، بمعنى أنه قائم بنفسه، أو لم يسمه جسما، لا يقول بذلك أيضا، ومن حكى عنه يثبت له خصائص الأجسام المركبة، فهؤلاء إن أطلقوا ما نفاه، فلا حجة للنصارى عليهم، وإن لم يطلقوه، فحجتهم أبعد.
    فقد تبين أنه ليس لهم حجة على أفسد الناس قولا في التجسيم، فضلا عن غيرهم.

    الوجه السادس: أن يقال لهؤلاء النصارى: إما أن تعنوا بلفظ الجسم المعنى اللغوي وهو الجسد، وإما أن تعنوا به المعنى الاصطلاحي عند أهل الكلام، كالمشار إليه مثلا.
    فإن عنيتم الأول، لم يلزم من نفي ذلك نفي ما ذكرتموه من الصفات لا سيما وأنتم تقولون: إنه جوهر، وقسمتم الجوهر إلى لطيف وكثيف.
    فإذا كان الكثيف هو الجسم، واللطيف جوهر ليس بجسم، لم يمتنع على مثل هذا أن يكون له ما يناسبه من الصفات كالملائكة،فإن الملائكة لا يمتنع وصفها بذلك، وإن لم تكن أجساما على هذا الاصطلاح، بل هي جواهر روحانية، وكذلك روح الإنسان التي تخرج منه، لا يمتنع وصفها بما يناسبها من ذلك، وإن كانت ليست بجسم على هذا التقدير.
    فتبين أن نفي مسمى الجسم اللغوي عن الشيء، لا يمتنع اتصافه بما ذكر من الصفات وأمثالها.
    وإن عنيتم بالجسم القائم بنفسه أو المشار إليه، لم يمتنع - عندكم - أن يكون جسما، فإنكم سميتموه جوهرا، وعنيتم القائم بنفسه.
    فإن قام الدليل على أن كل قائم بنفسه يشار إليه، كان أيضا مشارا إليه.
    وإن قام دليل على أنه قائم بنفسه لا يشار إليه، كان جوهرا وجسما عند من يفسر الجسم بالقائم بنفسه، ومن فسره بالمشار إليه لم يسم عنده جسما، فتبين أنه على - أصلكم - لا يمتنع أن يسمى جسما مع تسميتكم له جوهرا، إلا إذا ثبت أن من الموجودات ما هو جوهر قائم بنفسه لا يشار إليه، وهذا لم يقيموا عليه دليلا، وليس هذا قول أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، وإنما هو قول طائفة من الفلاسفة، وقليل من أهل الملل وافقوهم.
    ثم يقال لكم: أنتم قلتم: إنه حي ناطق، وله حياة ونطق، بل زدتم على ذلك حتى جعلتموه أقانيم ثلاثة.
    ومعلوم أن الحياة والنطق لا تعقل إلا صفة قائمة بموصوف، ولا يعلم موصوف بالحياة والنطق إلا ما هو مشار إليه، بل ما هو جسم كالإنسان.
    فإن جاز لكم أن تثبتوا هذه الأعراض في غير جسم، جاز لغيركم أن يثبت المجيء واليد ونحو ذلك لغير الجسم.
    وإن قلتم: هذا لا يعقل إلا لجسم، قيل لكم: وذلك لا يعقل إلا لجسم، فإن رجعتم إلى الشاهد، كان حجة عليكم، وإن جاز لكم أن تثبتوا في الغائب حكما على خلاف الشاهد، جاز لغيركم، وحينئذ فلا تناقض بين ما نفاه المسلمون وأثبتموه، لو كان ما ذكرتموه عنهم من النفي والإثبات حقا على وجهه، فكيف وقد وقع التحريف في الطرفين؟
    الوجه السابع: أن يقال: غاية مقصودكم أن تقولوا: إن المسلمين لما أطلقوا ألفاظا ظاهرها كفر عندهم، لمجيء النص بها، وهم لا يعتقدون ظاهر مدلولها، كذلك نحن أطلقنا هذه الألفاظ التي ظاهرها كفر، لمجيء النص بها، ونحن لا نعتقد مدلولها.
    فيقال لكم: أولا: إن ما أطلقه المسلمون من نصوص الصفات أطلقتموه أنتم، كما وردت به التوراة، فهذا مشترك بينكم وبينهم، وما اختصصتم به من التثليث، والاتحاد لم يشركوكم فيه.
    ثم يقال ثانيا: إن المسلمين أطلقوا ألفاظ النصوص، وأنتم أطلقتم ألفاظا لم يرد بها نص.
    والمسلمون قرنوا تلك الألفاظ بما جاءت به النصوص من نفي التمثيل.
    وأنتم لم تقرنوا بألفاظكم ما ينفي ما أثبتموه من التثليث والاتحاد.
    والمسلمون لم يعتقدوا معنى باطلا.
    وأنتم اعتقدتم من التثليث في الأقانيم والاتحاد ما هو معنى باطل.
    والمسلمون لم يسموا صفات الله بأسماء أحدثوا تسمية الصفات بها وحملوا كلام الرسل عليها.
    وأنتم أحدثتم لصفات الله أسماء سميتموه أنتم بها لم تسمعه الرسل، وحملتم كلام الرسل عليها.
    والمسلمون لم يعدلوا عن النصوص الكثيرة المحكمة البينة الواضحة إلى ألفاظ قليلة متشابهة.
    وأنتم عدلتم عن هذا إلى هذا.
    والمسلمون لم يضعوا لهم شريعة اعتقاد غير ما جاءت به الرسل.
    وأنتم وضعتم شريعة اعتقاد غير ما جاءت به الرسل.

    والمسلمون لم يقولوا قولا لا يعقل.
    وأنتم قلتم قولا لا يعقل.
    والمسلمون لم يتناقضوا، فيجعلوا الإله واحدا ويجعلونه
    اثنين، بل ثلاثة، وأنتم تناقضتم.
    فهذه الفروق وغيرها مما يبين فساد تشبيهكم أنفسكم بالمسلمين.
    الوجه الثامن: قولكم: وكذلك - نحن النصارى - العلة في قولنا: (إن الله ثلاثة أقانيم، أب، وابن، وروح قدس، أن الإنجيل نطق به.
    فيقال لكم: هذا باطل، فإنه لم ينطق لا الإنجيل ولا شيء من النبوات بأن الله ثلاثة أقانيم، ولا خص أحد من الأنبياء الرب بثلاث صفات دون غيرها، ولا قال المسيح ولا غيره: إن الله هو الأب والابن وروح القدس، ولا إن له أقنوما هو الابن، وأقنوما هو روح القدس، ولا قال: إن الابن كلمته أو علمه أو حكمته أو نطقه، وإن روح القدس حياته، ولا سمى شيئا من صفاته ابنا ولا ولدا، ولا قال عن شيء من صفات الرب إنه مولود، ولا جعل القديم الأزلي مولودا، ولا قال لا عن قديم ولا مخلوق، إنه إله حق من إله حق، ولا قال عن صفات الله إنها آلهة، وإن الكلمة إله والروح إله، ولا قال إن الله اتحد لا بذاته ولا بصفاته بشيء من البشر، بل هذا كله مما ابتدعتموه وخرجتم به عن الشرع والعقل، فخالفتم الكتب المنزلة والعقول الصريحة، وكنتم ممن قيل فيهم: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10]
    فإنكم أنتم الذين سميتم نطق الله ابنا، وقلتم: سميناه ابنا ; لأنه تولد منه كما يتولد الكلام من العقل، فكان ينبغي أيضا أن تسموا حياته ابنا ; لأنها منبثقة منه ومتولدة عنه أيضا، إذ لا فرق بين علم الرب وحياته.
    فعلمه لازم له وحياته لازمة له، فلماذا جعلتم هذا ابنا دون هذا.
    وقلتم: إنه مولود من الله، وإنه قديم أزلي، وأنتم تعترفون بأن أحدا من الأنبياء لم يسم علم الله ولا كلامه ولا حكمته مولودا منه.
    والذي يعقله الخلق في المولود الذي يولد من غيره، كما يتولد العلم والكلام من نفس الإنسان، أنه حادث فيه أو منفصل عنه، لا يعقل أنه قائم به، وأنه متولد منه قديم أزلي.
    ثم قلتم في أمانتكم، إنه تجسم من روح القدس، أو منه ومن مريم.
    وهو إنما تجسم عندكم من الكلمة التي سميتموها الابن دون روح القدس.
    وإن كان تجسم من روح القدس، فيكون هو روح القدس لا يكون هو الكلمة التي هي الابن.
    ثم تقولون: هو كلمة الله وروحه، فيكون حينئذ أقنومين، أقنوم الكلمة وأقنوم الروح، وإنما هو عندكم أقنوم واحد.
    فهذا تناقض وحيرة، تجعلونه الابن الذي هو الكلمة، وهو أقنوم الكلمة فقط
    وتقولون: تجسم من روح القدس، ولا تقولون: إنه تجسم من الكلمة.
    وتقولون: هو كلمة الله وروحه، والكلمة والروح أقنومان.
    ولا تقولون: إنه أقنومان، بل أقنوم واحد.

    وتقولون: إنه خالق العالم، والخالق هو الأب وتقولون: ليس هو الأب، وتقولون: إله حق من إله حق، وتقولون: إله واحد ساوى الأب في الجوهر.
    وتقولون: ليس له مثل، وليس شيء من هذا في كلام أحد من الأنبياء، فكيف تشبهون أنفسكم بمن اتبع نصوص الأنبياء، ولم يحرفها؟
    وغاية ما عندكم ما وجد في إنجيل " متى " دون سائر الأناجيل من أن المسيح - عليه السلام - قال: (عمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس).
    وأنتم قد عرفتم في كلام المسيح وغيره من الأنبياء أنهم يريدون بالابن صفة الله، لا كلامه ولا علمه ولا حكمته.
    ولا يريدون بالابن: إله حق من إله حق، ولا مولود قديم أزلي،
    بل يريدون به وليه، وهو ناسوت لا لاهوت، كيعقوب والحواريين.
    ولا يريدون بروح القدس نفس حياة الله، ولا يريدون به أنه رب حي، وإنما يريدون بها الملك أو ما ينزله الله على قلوب أنبيائه وأصفيائه من الهدى والتأييد ونحو ذلك.
    فروح القدس يكون عندكم وعند المسلمين في الأنبياء وغيرهم، كما كانت في داود وغيره وكانت في الحواريين.
    فلو قدر أن لفظ الابن وجد في كلام المسيح مستعملا تارة في كلمة الله، وتارة في وليه الناسوت، وروح القدس مستعملا تارة في حياته، وتارة فيما ينزله على قلوب أنبيائه - كان جزمكم بأنه أراد بذلك هنا صفات الله جزما باطلا.
    فما وصف به المسيح من أنه ابن الله، ومن أن روح القدس فيه - قد وصف به غيره من الأنبياء والصالحين.
    فإن كان الابن وروح القدس صفتين لله، وجب أن يكون غير المسيح لاهوتا وناسوتا كالمسيح، إذ الذي حل في المسيح حل في غيره.
    ثم جزمكم بأن هذه الصفات أقانيم، وأنه ليس لله صفات ذاتية أو جوهرية أو نحو ذلك إلا هذه الثلاثة، ثم تفرقتم في الثلاثة، هل المراد بالأقانيم الوجود والعلم والحياة، أو الحكمة والكلام، أو النطق

    بدل لفظ العلم، أو المراد الوجود والعلم والقدرة، بدل الحياة، أو المراد الوجود والحياة والقدرة، أو المراد الوجود مع الحياة والعلم والقدرة؟ إلى أقوال أخرى يطول أمرها.
    فيا ليت شعري، ما الذي أراد المسيح بلفظ الأب والابن وروح القدس من هذه الأمور التي اختلفتم فيها، لو كان مراده ما ادعيتموه من الأقانيم؟
    والأقانيم - لفظا ومعنى - لا يوجد في كلام أحد من الأنبياء، بل قيل فيها: إنها لفظة رومية، يفسرونها تارة بالأصل، وتارة بالشخص، وتارة بالذات مع الصفة، ويفسرونها تارة بالخاصة، وتارة بالصفة.
    فهلا تركتم كلام المسيح على حاله، ولم تحرفوه هذه التحريفات.
    ولقد أحسن بعض الفضلاء إذ قال: لو سألت نصرانيا وابنه وابن ابنه عما يعتقدونه، لأخبرك كل واحد بعقيدة تخالف عقيدة الآخر، إذ كان أصل اعتقادهم جهلا وضلالا، ليس معهم علم لا نقل ولا عقل، فهم كما قال الله - تعالى -: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} [الحج: 8]
    وليس معهم بما اعتقدوه من التثليث والاتحاد علم، بوجه من الوجوه فضلا عما هو أخص من ذلك، وهو علم يهتدون به، فليسوا
    بمهتدين فضلا عما هو أخص من الهدى وهو " كتاب منير " فليس معهم به كتاب منير.
    ولو تكلمتم بهذا الكلام، وقلتم: لا نفهم معناه أو ظاهره باطل، وله تأويل مقبول، كما حكيتموه عمن تشبهتم به من المسلمين من أنه يقوله في الصفات - لكان هذا أقرب إلى القياس.
    فكيف والأمر بعكس ما ذكرتم؟
    وذلك يتبين بالوجه التاسع: وهو أنكم إنما ضللتم بعدولكم عن صريح كلام الأنبياء وظاهره، إلى ما تأولتموه عليه من التأويلات التي لا يدل عليها لفظه، لا نصا ولا ظاهرا، فعدلتم عن المحكم واتبعتم المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

    فلو تمسكتم بظاهر هذا الكلام، لم تضلوا، فإن الابن ظاهره في كلام الأنبياء، لا يراد به شيء من صفات الله، بل يراد به وليه وحبيبه ونحو ذلك، وروح القدس يراد به صفته، بل يراد به وحيه وملكه ونحو ذلك، فعدلتم عن ظاهر اللفظ ومفهومه إلى معنى لا يدل عليه اللفظ البتة، فكيف تدعون أنكم اتبعتم نصوص الأنبياء؟
    الوجه العاشر: أنكم بالغتم في ذم المسيح وإنجيله، كما بالغتم في سب الله وشتمه، وإن كنتم لا تعلمون أن ذلك ذم، فلم ترضوا أن تجعلوا ظاهر كلام المسيح ما أنتم عليه من الكفر حتى جعلتم ظاهره كفرا لا ترضونه، مثل ثلاثة آلهة متفقة أو متفرقة، أو ثلاثة أجسام مؤلفة، أو ثلاثة أجزاء مفرقة، أو ثلاثة أشخاص مركبة.
    فهذا ونحوه هو الذي ادعيتم أنه ظاهر كلام المسيح - عليه السلام -.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #278
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 276)

    من صــ 341 الى صـ 355





    وأنتم لا تقولون بهذا الظاهر، بل تكفرون قائله، كما يكفر المسلمون من يقول بالظاهر الذي هو التجسيم والتمثيل.
    وهذا ما يتضمن أن كلام المسيح ظاهر في إثبات ثلاثة آلهة، وثلاثة أشخاص مؤلفة، وثلاثة أجزاء متفرقة، وثلاثة أشخاص مركبة.
    كما زعمتم أن ظاهر القرآن التجسيم، وأنكم عدلتم عن هذا الظاهر إلى إثبات الأقانيم الثلاثة التي جعلتم فيها كلمة الله هي ابنه، وهو جوهر خالق يساويه في الجوهر، وأن المسيح هو هذا الابن المساوي للأب في الجوهر خالق العالمين، وديان يوم الدين والجالس فوق العرش عن يمين الرب، وأنه إله حق من إله حق، والروح أيضا إله ثالث، والآلهة الثلاثة إله واحد.
    وهذا الذي ذكرتموه فيه من عيب المسيح وذمه ما ينتصر الله به للمسيح، وممن افترى عليه منكم ومن غيركم.
    فإن المسيح - عليه السلام - على قولكم - لم يفصح لكم بأمانة تعتقدونها، ولا بتوحيد تعرفون به ربكم - عز وجل -، بل تكلم بما ظاهره إثبات ثلاثة آلهة، وثلاثة أجسام مركبة، وثلاثة أجزاء متفرقة، وأنكم أنتم أصلحتم ذلك حتى جعلتموه ثلاثة أقانيم، ووضعتم تلك الأمانة المخالفة لعقول ذوي العقول، ولكل كتاب جاء به رسول، مع أن المسيح لم ينطق بتثليث قط، ولا باتحاد، ولا بما يدل على ذلك.

    وعمدتم على ما نقله " متى " عنه دون الثلاثة أنه قال: (عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس).
    وهذا الكلام ظاهر، بل نصه حجة على خلاف قولكم، وأنه أراد بالابن نفسه، وهو الناسوت، ولم يرد به صفة الله، وأراد بروح القدس ما أيده الله به، أو روح القدس الذي نفخ في أمه حتى حبلت به، لم يرد به صفة الله - تعالى -.
    فتأولتم كلامه على خلاف ظاهره، تأويلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول، فكيف تدعون أنكم تمسكتم بظاهر كلامه؟
    ولما كان قول النصارى في التثليث متناقضا في نفسه لا حقيقة له، صار مجرد تصوره التام كافيا في العلم بفساده من غير احتياج إلى دليل، وإن كانت الأدلة تظهر بفساده.
    ولهذا سلك طائفة من العلماء في الكلام معهم هذا المسلك، وهو أن مجرد تصور مذهبهم كاف في العلم بفساده، فإنه غير معقول.
    وقالوا: إن النصارى ناقضت في اللفظ وأحالت في المعنى، فلا يجوز أن يعتقد ما يدعون انتحاله لتناقضه.
    وذلك أنهم يزعمون أن الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة، وهذا لا يصح اعتقاده ; لأنه لا يجوز أن يعتقد المعتقد في شيء أنه ثلاثة، مع اعتقاده فيه أنه واحد ; لأن ذلك متضاد.
    وإذا كان ذلك كذلك، فليس يخلو من أن يعتقد أنه ثلاثة، أو أنه واحد.
    وليس يحتاج أن يعرف بدليل بطلان قول من ادعى أن الواحد ثلاثة، وأن الثلاثة واحد ; لأن ذلك لا يعقل.
    وهو كمن ادعى في الشيء أنه موجود معدوم، أو قديم محدث، أو في الجسم أنه قائم قاعد، متحرك ساكن.
    وإذا كان كذلك، فتناقضه أظهر من أن يحتاج فيه إلى دلالة.
    وإذا قال النصارى: إنه أحدي الذات ثلاثي الصفات.
    قيل: لو اقتصرتم على قولكم: إنه واحد له صفات متعددة، لم ينكر ذلك عليكم جمهور المسلمين، بل ينكرون تخصيص الصفات بثلاث، فإن هذا باطل من وجوه متعددة:منها: أن الأب عندكم هو الجوهر ليس هو صفة، فلا يكون له صفة إلا الحياة والعلم، فيكون جوهرا واحدا له أقنومان، وأنتم جعلتم ثلاثة أقانيم.
    ومنها: أن صفات الرب لا تنحصر في العلم والحياة، بل هو موصوف بالقدرة وغيرها.
    ومنها: أنكم تارة تفسرون روح القدس بالحياة، وتارة بالقدرة، وتارة بالوجود.
    وتفسرون الكلمة تارة بالعلم، وتارة بالحكمة، وتارة بالكلام.
    فبطلان قولكم في إثبات ثلاث صفات، كثير وأنتم مع هذا تجعلون كل واحدة منها إلها. فتجعلون الحياة إلها، والعلم إلها، وهذا باطل.
    وأما من لم يثبت الصفات من المسلمين وغيرهم، فيردون عليكم من وجوه أخرى كقول بعضهم: إذا قيل: ألستم تقولون: إن الأبعاض
    الكثيرة تكون إنسانا واحدا، والآحاد الكثيرة عشرة واحدة، والأجسام الكثيرة دارا واحدة ومدينة واحدة، وما جرى هذا المجرى مما هو أكثر من أن يحصى، وأظهر من أن يخفى.
    فكيف عبتم ذلك من النصارى؟ ولم أنكرتم أن يكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا؟
    قيل: إن قولنا: إنسان واحد، ودار واحدة، وعشرة واحدة، وما يجري هذا المجرى، أسماء تنبئ عن الجمل لا عن آحاد.
    وإذا قلنا: إنسان واحد، فكأنا قلنا: جملة واحدة، وكذلك إذا قلنا: عشرة واحدة، لا أنا نثبته واحدا في الحقيقة.
    كيف ونحن نقول: إن أبعاض الإنسان متغايرة، فكل بعض منها غير سائرها، وكذلك كل واحد من العشرة غير سائرها؟

    فنحن وإن قلنا: إنسان واحد، فلسنا نثبته شيئا واحدا في نفسه، ولو أثبتنا ذلك، لتناقضنا مناقضة النصارى، وإنما قلنا: هي جملة واحدة، ولو قالت النصارى مثل ذلك، لم تتناقض، حتى يزعموا أنها ثلاثة أشياء جملة واحدة.
    فيكون مرادهم في ذلك بوصفهم الأقانيم الثلاثة، بأنها جوهر واحد مما نريد بقولنا: الأبعاض الكثيرة - أنه إنسان واحد.
    فيكون وصفهم لها بأنها جوهر، إنما ينبئ أنها جملة، وليس هذا مما يذهبون إليه، ولا يعتقدونه ولا يجعلون له معنى ; لأنهم لا يعطون
    حقيقة التثليث، فيثبتون الأقانيم الثلاثة متغايرة، ولا حقيقة التوحيد، فيثبتون القديم واحدا ليس باثنين ولا أكثر من ذلك.
    وإذا كان ذلك كذلك، فما قالوه هو شيء لا يعقل، ولا يصلح اعتقاده، ويمكن أن يعارضوا على قولهم بكل حال.
    فيقال لهم: إذا جاز عندكم أن تكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا، فلم لا يجوز أن تكون ثلاثة آلهة جوهرا واحدا، وثلاثة فاعلين جوهرا واحدا، وثلاثة أغيار جوهرا واحدا، وثلاثة أشياء جوهرا واحدا، وثلاثة قادرين جوهرا واحدا، وكل ثلاثة أشياء جوهرا واحدا، وكل ما يجري هذا المجرى من المعارضة؟ فلا يجدون فصلا.
    الوجه الحادي عشر: أن غلاة المجسمة الذين يكفرهم المسلمون أحسن حالا منكم شرعا وعقلا، وهم أقل مخالفة للشرع والعقل منكم.
    فإذا كان هؤلاء خيرا منكم، فكيف تشبهون أنفسكم بمن هو خير من هؤلاء من أهل السنة من المسلمين الذين لا يقولون لا بتمثيل ولا بتعطيل.
    وبيان ذلك أن التوراة والإنجيل وسائر كتب الله، وغير ذلك مما هو مأثور عن الأنبياء فيه نصوص كثيرة صريحة ظاهرة واضحة في وحدانية الله، وأنه لا إله غيره، وهو مسمى فيها بالأسماء الحسنى، موصوف بالصفات العلى، وأن كل ما سواه مخلوق له، ليس فيه
    تثليث ولا اتحاد الخالق بشيء من المخلوقات، لا المسيح ولا غيره.
    وفيها ألفاظ قليلة مشكلة متشابهة، وهي - مع ذلك - لا تدل على ما ذكرتموه من التثليث والاتحاد، لا نصا ولا ظاهرا، ولكن بعضها يحتمل بعض ما قلتم، وليس فيها شيء يحتمل جميع ما قلتم، فضلا عن أن يكون ظاهرا فيه أو نصا، بل بعضها يحتمل بعض قولكم.
    فأخذتم ذلك المحتمل وضممتم إليه من الكفر الصريح والتناقض القبيح ما صيرتموه أمانة لكم ; (أي عقيدة إيمان لكم).
    ولو كانت كلها تحتمل جميع ما قلتم، لم يجز العدول عن النص والظاهر إلى المحتمل، ولو كان بعضها ظاهرا فيما قلتم، لم يجز العدول عن النصوص الصريحة إلى الظاهر المحتمل.
    ولو قدر أن فيها نصوصا صريحة قد عارضتها نصوص أخرى صريحة، لكان الواجب أن ينظروا بنور الله الذي أيد به عباده المؤمنين، فيتبعون أحسن ما أنزل الله، وهو المعنى الذي يوافق صريح المعقول وسائر كتب الله، وذلك النص الآخر إن فهموا تفسيره، وإلا فوضوا معناه إلى الله - تعالى - إن كان ثابتا عن الأنبياء.

    وهؤلاء عدلوا عما يعلم بصريح المعقول، وعما يعلم بنصوص الأنبياء الكثيرة، إلى ما يحتمله بعض الألفاظ لموافقته لهواهم، فلم يتبعوا: {إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 23]
    وأما كفار المجسمة، فهؤلاء أعذر وأقل كفرا من النصارى، فإن هؤلاء يقولون كما يقوله معهم النفاة: إن ظواهر جميع الكتب هو التجسيم.
    ففي التوراة والقرآن من الآيات التي ظاهرها التجسيم ما لا يحصى.
    وليس فيها نص بما يقوله النفاة من أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا هو فوق العرش، ولا يشار إليه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا يقرب منه شيء، ولا يدنو من شيء، ولا يدنو إليه شيء، إلى نحو ذلك من النفي الذي يقوله نفاة الصفات.
    فمعلوم أنه ليس في الكتب الإلهية لا التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا القرآن ولا غير ذلك من النبوات - من هذا حرف واحد، وكلها مملوءة مما يقول هؤلاء: إنه تجسيم.
    فيقول هؤلاء: نحن اتبعنا نصوص الأنبياء، ولم نعدل عنها إلى غيرها، ولم نجد في نصوصهم نصا محكما صريحا بالنفي الذي يقوله نفاة الصفات.
    ووجدنا نصوصهم كلها بالإثبات الذي يقولون: إنه تجسيم.
    فكان على قولنا وقولهم نصوص الأنبياء ظاهرة في التجسيم، وليس لهم نص يناقض ذلك، فاتبعنا نصوصهم، وكل من عارض إثبات الصفات، لم يعارضها بنصوص صريحة عن الأنبياء، لكن بحجج عقلية.
    فيقول هؤلاء: إن النصارى خالفوا صريح المعقول، وصريح كلام الأنبياء، واتبعوا قليلا من متشابه كلامهم، ونحن اتبعنا نصوص الأنبياء، ولم نخالف شيئا من صريح نصوصهم، ولكن مخالفنا يقول: إنا خالفنا العقل.
    ونحن ننازعه في ذلك، وندعي أن العقل معنا لا علينا، وأن ما يدعيه من المعقولات التي تعارض كلام الأنبياء فهي باطلة.
    أو يقولون: نحن والنصارى متفقون على أنا لا نعارض كلام الأنبياء بالشبه العقلية، لكن نحن اتبعنا كلامهم المحكم الظاهر الكثير، الذين لا مخالف له من كلامهم.
    وهم خالفوا كلامهم الكثير المحكم، واتبعوا قليلا من المتشابه.
    ويقول الغلاة من هؤلاء الذين يكفرهم أئمة المسلمين وجمهورهم الذي يحكي عنهم: أن الله ينزل إلى الأرض عشية عرفة، فيعانق المشاة ويصافح الركبان، وأنه يتمشى في الأرض، يكون موطئ أقدامه مروجا، ونحو ذلك.
    ليس هذا القول بأعجب من قول النصارى الذين يقولون: إنه هو المسيح، وأن اللاهوت والناسوت اتحدا.
    فنحن نقول أيضا: إنه حل في بعض الأجساد المخلوقة، كما يقوله النصارى.

    أو نقول: إنه تجسد كما تتجسد الملائكة والجن، وهذا أقرب من قول النصارى: إنه اتحد بجسم المسيح.
    فإنا قد عهدنا اللطائف من الملائكة تتصور في صورة بشرية، ولم نعهد ملكا صار هو والبشر شيئا واحدا.
    فإذا لم يجز أن يتحد الملك بالبشر، فكيف يجوز أن يتحد رب الخلائق كلهم بالبشر؟
    قالوا: وقد يحل الجني في بدن الإنسي ويتكلم على لسانه، إلا أنهما جوهران ومشيئتان وطبيعتان، ليس بينهما اتحاد، لكنه دخل فيه وتكلم على لسانه.
    والنصارى يقولون: إن رب العالمين اتحد بالبشر، فمنهم من يقول: جوهر واحد، ومنهم من يقول: شخص واحد وأقنوم واحد، ومنهم من يقول: مشيئة واحدة، فلابد لكل منهم من نوع اتحاد، وهذا أبعد من حلول الجني في الإنسي، فإذا كان ما يقولونه ممتنعا في الجن والملائكة، فكيف برب العالمين؟
    ومن غلاة المجسمة اليهود، من يحكىعنه أنه قال: (إن الله بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة، وأنه ندم حتى عض يده وجرى منه الدم)، وهذا كفر واضح صريح، ولكن يقولون: قولنا خير من قول النصارى، فإن النصارى يقولون: (إنه أخذ وضرب بالسياط وبصق في وجهه، ووضع الشوك على رأسه كالتاج، وصلب بين لصين، وفعل به من أقبح ما يفعل باللصوص قطاع الطرق.
    وقد صرح كثير منهم بأن هذا فعل باللاهوت والناسوت جميعا.
    وشريعة إيمانهم تدل على ذلك، وهو لازم لمن أنكر ذلك منهم، فإنه مع القول بالاتحاد الذي لا بد لطوائفهم الثلاثة منه، يمتنع أن تحل هذه العقوبات في هذا دون ذاك، فلا يمكن أن يحل في الناسوت دون اللاهوت، فإن هذا إنما يتصور إذا كان اثنين، ومن قال بالاتحاد، امتنع عنده أن يكون هناك اثنان.
    وفي الجملة، فالنصارى المثلثة، إما أن يصرحوا بالاتحاد من كل وجه كاليعقوبية، وهؤلاء يصرحون بأن الآلآم حلت باللاهوت.
    وإما أن يقولوا بالاتحاد من وجه كقول الملكية: إنهما شخص
    واحد، وقول النسطورية: هما مشيئة واحدة.
    وحينئذ فما قالوه من التعدد الذي يوجب المباينة، وأنه لا يتصف أحدهما بما يتصف به الآخر، ولا يحل به ما حل به، فيكون متناقضا لهذا.
    فأحسن أحوالهم أن يتناقضوا في الاتحاد، كما تناقضوا في التثليث، وهذا حقيقة قول خيار هؤلاء يتكلمون بالكفر وبما يناقضه، وبالتوحيد وبما يناقضه.
    ومعلوم أن ما يفعله بنفسه من ندم وبكاء وحزن، هو دون ما يفعله أعداؤه به من ضرب وصفع وجعل الشوك على رأسه، وصلبه بين لصين، وأن استغاثته بمن يخلصه من ذلك أشد نقصا من ندمه وحزنه.
    وإن قالوا: فعل هذا حتى يعلم عباده التشبه به - أمكن أولئك المجسمة الكفرة أن يقولوا: بكى وندم وعض يده ندما حتى جرى الدم، حتى يعلم عباده التوبة من الذنوب.
    ففي الجملة، ما قال قوم من أهل الملل قولا في الله، إلا وقول النصارى أقبح منه.

    ولهذا، كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يقول: لا ترحموهم، فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر، ولهذا يعظم الله فريتهم على الله في القرآن أشد من تعظيم افتراء غيرهم كقوله: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا - لقد جئتم شيئا إدا - تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا - أن دعوا للرحمن ولدا - وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا - إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا - لقد أحصاهم وعدهم عدا - وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} [مريم: 88 - 95].
    وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ("يقول الله - عز وجل - كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته").
    ورواه البخاري عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ("قال الله - عز وجل -: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي، فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة ولا ولدا").
    وفي الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ("ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله - عز وجل - إنه يشرك به ويجعل له ند وهو يعافيهم ويرزقهم ويدفع عنهم".)
    الوجه الثاني عشر: أن كل من يعتقد في التجسيم ما يعتقد، يمكنه أن يقول كما يقوله النصارى، فإن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني آدم، قالوا: إنه إله تام وإنسان تام، وليس فيه من الإلهية شيء، فما بقي مع هذا يمتنع أن يعتقد في نظائره ما يعتقد فيه.
    فلو قال القائل: إن موسى بن عمران كان هو الله، لم يكن هذا أبعد من قول النصارى، فإن معجزات موسى كانت أعظم وانتصاره على عدوه أظهر، وقد سماه الله في التوراة إلها لهارون ولفرعون.
    فإذا قيل فيه ما قالوه في المسيح: إنه أظهر المعجز بلاهوته، وأظهر العبودية بناسوته، لم يكن بطلان هذا أظهر من بطلان قول النصارى، بل متى جوزوا اتحاد اللاهوت بالناسوت، لم يمكنهم دفع ذلك عن أحد ممن يدعى فيه إلا بدليل خاص، بل إذا قيل لهم حل في كثير من الأنبياء والقداديس، لم يمكنهم نفي ذلك.
    وإذا قالوا: لم يخبر بذلك أحد، ولم يبشر به نبي، أو هذا غير معلوم.

    قيل لهم: غاية هذا كله، أنكم لا تعلمون ذلك، ولم يقم عندكم دليل عليه، وعدم العلم ليس علما بالعدم، فعدم علمكم وعدم علم غيركم بالشيء، ليس علما بعدم ذلك الشيء.
    وكذلك عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول عليه، فإن كل ما خلقه الله دليل عليه، ثم إذا عدم ذلك لم يلزم عدم الخالق، فلا يجوز نفي الشيء لعدم الدليل الدال عليه، إلا أن يكون عدم الدليل مستلزما لعدمه، كالأمور التي تتوفر الهمم على نقلها، إذا لم ينقل علم انتفاؤها.
    والمقصود أنكم - مع العدم - يمكنكم النفي العام عن غير المسيح لعدم الدليل الدال عليه، فإنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول في نفس الأمر، لا سيما وهو كان متحدا بالمسيح عندهم أكثر من ثلاثين سنة، ومع هذا فكان يخفي نفسه ولا يظهر إلا العبودية.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #279
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 277)

    من صــ 356 الى صـ 370





    فإذا قيل لهم: هكذا كان متحدا بغيره من الأنبياء والصالحين، ولكن أخفى نفسه لحكمة له في ذلك، أو أظهر على نفسه بعض خواص عباده، أو أظهر لطائفة لم ينقل إلينا خبرهم ونحو ذلك، لم يمكن مع تصديق النصارى فيما يدعونه الجزم بكذب هؤلاء، بل من جوز قول النصارى، جوز أن يكون متحدا بغير ذلك من الأجسام، فيجعل كثيرا من الأجسام المخلوقة هي رب العالمين، إذ كانت ليس هو متحدا بها في نفس الأمر.
    فإذا اعتقدوا الاتحاد فيها، كما اعتقدته النصارى في المسيح، لم يكن ثم إله في الحقيقة إلا ذلك الجسم الناسوتي المخلوق.
    لكن ظن الضال أنه رب العالمين، كما ظن عباد العجل أن العجل إله موسى. فإذا جاز أن يتحد الرب - عز وجل - ببعض الأجسام، لم ينكر على أصحاب العجل إذا جوزوا أن يكون رب العالمين اتحد بالعجل، وقد رأوا منه نوع خرق عادة. فليس للنصارى أن ينكروا على عباد العجل ولا عباد شيء من الأصنام إذا أمكن أن يكون الرب - عز وجل - حل فيها عندهم إن لم يقيموا دليلا على أن الرب لم يحل في ذلك.
    فإذا قيل: إن موسى - عليه السلام - أنكر على عباد العجل.

    قيل: نعم. وموسى ينكر على كل من عبد شيئا من المخلوقات، حتى لو عبد أحد الشجرة التي كلمه الله منها لأنكر عليه، فإنكاره على النصارى أعظم.
    وموسى - عليه السلام - لم يقل قط: إن الله يتحد بشيء مع المخلوقات ويحل فيه، بل أخبر من عظمة الله - عز وجل - بما يناقض ذلك.
    ففي التوراة من نهيه عن عبادة ما سوى الله ومن تعظيم أمره وعقوبة المشركين به، وبما أخبر به من صفات الله - عز وجل - ما يناقض قول النصارى.
    ولهذا كان من تدبر التوراة وغيرها من كلام الأنبياء - عليهم السلام - من النصارى، تبين له أن دينهم يناقض دين الأنبياء كلهم، وأن ما هم عليه من التثليث والاتحاد والشرك، لم يبعث به أحد من الأنبياء - عليهم السلام -.
    وما يفعلونه من دعاء المخلوقين كالملائكة، أو كالأنبياء والصالحين الذين ماتوا، مثل دعائهم مريم وغيرها، وطلبهم من الأموات الشفاعة لهم عند الله - لم يبعث به أحد من الأنبياء، فكيف وقد صوروا تماثيلهم ليكون تذكيرا لهم بأصحابها، ويدعون تلك الصور؟
    وإن قصدوا دعاء أصحابها، فهم إذا صرحوا بدعاء أصحابها وطلبوا منهم الشفاعة وهم موتى وغائبون، كانوا مشركين.
    فكيف إذا كان الدعاء في الظاهر لتماثيلهم المصورة، وهذا مما يعترف حذاق علمائهم بأنه مخالف لدين الأنبياء كلهم.
    ولهذا وقع بينهم تنازع في اتخاذ الصور في الكنائس لما ابتدعه بعضهم، كما هو مذكور في أخبارهم، ولم يأت من ابتدع ذلك بحجة شرعية.
    والمجسمة يعتقدون أن الله قديم أزلي، وأنه عظيم جدا، لا يقولون: إنه متحد بشيء من الأجسام المخلوقة، ولا يحل فيها. فمن
    قال باتحاده وحلوله فيها، كان قوله شرا من قول هؤلاء المجسمة.
    كما أن المتفلسفة الذين يقولون بأن الأفلاك أجسام قديمة أزلية واجبة بنفسها أولها علة تتشبه بها كما يقوله " أرسطو " وذووه، أو يثبتون لها علة فاعلة، لم تزل مقارنة لها، كما يقوله " ابن سينا " وأمثاله.
    وهؤلاء قولهم شر من قول اليهود والنصارى ومشركي العرب الذين يثبتون للسموات والأرض خالقا خلقها بمشيئته وقدرته.
    ولو قال من قال منهم: إن ذلك جسم فغايته أن يثبت جسما قديما أزليا موصوفا بصفات الكمال
    فمن أثبت جسما قديما أزليا ليس موصوفا بصفات الكمال، كان قوله شرا من قول هذا.
    فتبين أن المجسمة الذين يثبتون جسما قديما أزليا واجب الوجود بنفسه عالما بكل شيء قادرا على كل شيء مع قولهم: إنه تحله الحوادث وتقوم به الحركة والسكون - خير من قول
    الفلاسفة الذين يقولون: إن الأفلاك أجسام قديمة أزلية واجبة الوجود بنفسها، كما يقوله " أرسطو " وذووه، وخير من النصارى أيضا.
    الوجه الثالث عشر: قولهم: من قال: ثلاثة آلهة مختلفة أو متفقة، أو ثلاثة أشخاص مركبة، أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير والتبعيض والتشبيه - فنحن نلعنه ونكفره.
    فيقال لهم: وأنتم أيضا تلعنون من قال: إن المسيح ليس هو إله حق من إله حق، ولا هو مساوي الأب في الجوهر، ومن قال: إنه
    ليس بخالق، ومن قال: إنه ليس بجالس عن يمين أبيه، ومن قال أيضا: إن روح القدس ليس برب حق محي، ومن قال: إنه ليس ثلاثة أقانيم.
    وتلعنون أيضا مع قولكم إنه الخالق من قال: إنه الأب، والأب هو الخالق، فتلعنون من قال: هو الأب الخالق، ومن قال: ليس هو الخالق، فتجمعون بين النقيضين.
    فتلعنون من جرد التوحيد بلا شرك ولا تثليث، ومن أثبت التثليث مع انفصال كل واحد عن الآخر، وتجمعون بين النقيضين.
    فمن أثبت أحدهما منفكا عن الآخر لعنتموه، كمن قال: عندي واحد ثلاثة.
    فمن قال: هو واحد ليس بثلاثة - كذبه، ومن قال: هو ثلاثة ليس واحدا - كذبه.
    ومن قال: عندي شيء موجود معدوم، فمن قال: هو موجود ليس بمعدوم - كذبه، ومن قال: معدوم ليس بموجود - كذبه.
    ومن قال: عندي شيء هو حي ميت، هو عالم جاهل، هو قادر عاجز، فمن قال: هو حي ليس بميت - كذبه، ومن قال: هو ميت ليس بحي - كذبه.
    فهكذا أنتم تجمعون بين قولين متناقضين، أحدهما حق والآخر باطل.
    فمن قال الحق ونفى الباطل لعنتموه، ومن قال الباطل ونفى
    الحق لعنتموه.
    وأنتم تشبهون الملاحدة من الجهمية والفلاسفة والباطنية الذين يسلبون عنه النقيضين، أو يمتنعون عن إثبات أحد النقيضين، فيقولون: لا نقول هو حي ولا ليس بحي، ولا هو عالم ولا ليس بعالم، ولا قادر ولا ليس بقادر.
    بل منهم من يقول: لا نقول: هو موجود ولا معدوم، ولا نقول هو شيء ولا نقول ليس بشيء.

    ومنهم من يقول: ليس بحي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز.
    ومنهم من يقول: لا نطلق لا هذا ولا هذا.
    فيقال لهم: رفع النقيضين كجمع النقيضين، والامتناع عن إثبات أحد النقيضين، كالامتناع عن نفي أحد النقيضين.
    وكذلك من وصفه بأنه موجود واجب الوجود لذاته، ثم وصفه بصفات تستلزم عدمه، فقد جمع بين النقيضين.
    وكل قول يتضمن جمع النقيضين وإثبات الشيء ونفيه، أو رفع النقيضين الإثبات والنفي - فهو باطل.
    والنصارى في هذا الباب من أبلغ الناس تناقضا يقولون الشيء ويقولون بما يناقضه، ويلعنون من قال هذا ومن قال هذا.
    وأيضا فكل طائفة منكم تلعن الأخرى، فإن أهل الأمانة تلعن الأريوسية وغيرهم من طوائف النصارى، وهم يلعنونكم وكل من فرقكم
    الثلاثة، النسطورية، واليعقوبية، والملكية، تلعن الطائفتين الأخريين.
    فأنتم واليعقوبية تلعنون من يقول: إن مريم لم تلد إلها، ويقولون: إن مريم ولدت إنسانا تاما إلها تاما.
    وأنتم والنسطورية تلعنون من قال: إنهما جوهر واحد بمشيئة واحدة وطبيعة واحدة.
    ومن قال: إن اللاهوت تألم مع قولكم: إن اللاهوت مولود من مريم، ومع قولكم: المسيح الذي ولدته مريم مات وصلب، وفي أقوالكم من العجائب المتناقضة التي توجب أنكم ملعونون، ما يطول وصفه، فما منكم من أحد إلا وهو لاعن ملعون، فلعنكم من قال بهذه المقالات، لا يوجب أنكم على الحق، بل يوجب أن يكون من جملة الملعونين عندكم كطائفة من طوائفكم. والنصارى طوائف كثيرون مختلفون اختلافا كثيرا.
    والطوائف الثلاثة المشهورة في الأزمان المتأخرة منهم - بعض طوائفهم، وإلا فهم طوائف كثيرون مختلفون في التثليث والاتحاد.
    وتجد كل صنف منهم أو غيرهم في مقالاتهم يحكي أقوالا غير الأقوال التي حكاها الآخرون.
    ومن أجل من جمع أخبارهم عندهم، سعيد بن البطريق بترك الإسكندرية في أثناء المائة الرابعة من دولة الإسلام، وقد بحث لهم بحثا استقصى فيه - بزعمه - نصر مذهبهم، وهو ملكي، وقد ذكرت
    كلامه في غير هذا الموضع.
    وفيهم من يقول: إن مريم زوجة الله، وفيهم من يجعلها إلها آخر كالمسيح.
    وفيهم من يثبت أن المسيح ابن الله، الولادة المعقولة المعروفة من الحيوان.
    والأمانة التي جعلوها عقيدتهم وأصل إيمانهم في زمن " قسطنطين " بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة، هي وغيرها من أقوالهم الظاهرة تدل على هذه الأمور المنكرة القبيحة دلالة بينة.
    لكن علماؤهم يتأولونها بتأويلات تناقض مدلولها، مع فساد تلك المعاني التي يحملونها عليها عقلا وشرعا.

    وليست تلك ألفاظ الأنبياء حتى يقال: حكمهم في ذلك حكم سائر الطوائف من المسلمين وغيرهم، الذين يقولون ما يرونه متشابها من كلام الأنبياء، ويقولون: إن الأنبياء تكلموا بما لا يعرف أحد معناه، أو إنهم خاطبوا الجمهور بما أرادوا به تفهيمهم أمورا ينتفعون بها، وإن كان ذلك كذبا باطلا في نفس الأمر.
    فإن هؤلاء الطوائف، وإن كان فيهم من الضلال والجهل ما قد بسط في غير هذا الموضع، فقد فعلوا ذلك في ألفاظ الأنبياء التي لها حرمة النبوة.
    بخلاف النصارى فإنهم وضعوا عقيدة وشريعة، ليست ألفاظها منقولة عن أحد من الأنبياء.
    الوجه الرابع عشر: قولهم: ويراد بالأب والابن غير أبوة وبنوة نكاح، ومن أراد ولادة زوجة لعناه.
    فيقال: لفظ الولادة المعروفة، إنما يكون من أصلين، وإنما يكون بانفصال جزء من الأصلين، وإنما يكون بحدوث المولود سواء أريد ولادة الحيوان أو غيرها، كما تتولد النار من بين الزنادين، فإذا قدح أحدهما بالآخر، خرج منهما جزء لطيف، فاستحال نارا، ثم سقط على الحراق.
    وقد توسع بعض الناس في الولادة حتى عبر به عما يحدث عن الشيء، وإن لم يكن بانفصال جزء منه، كتولد الشعاع عن النار والشمس وغيرها ; لأن هذا يحدث بشيئين أحدهما ما يصدر عنه من الشمس والنار، والثاني المحل القابل له الذي ينعكس عليه، وهو الجرم المقابل له الذي يقوم به الشعاع.
    فأما ما يحدث عن شيء واحد، فلا يعرف أنه يسمى ولادة إن قدر وجود ذلك، وكذلك لا يعرف ما يلزم الشيء الواحد أنه يسمى ولدا.
    فأما ما يقوم بالموصوف من صفاته اللازمة له، فهذا أبعد
    شيء عن أن يسمى هذا الملزوم ولادة، بل لا تكون الولادة إلا عن أصلين.
    وكل من قال: إن لله ولدا، لزمه أن يكون له صاحبة بأي وجه فسر الولادة، وأن يكون له ولد حادث، ولهذا قال تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون - بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 100 - 101]. فاستفهم تعالى استفهام إنكار، ليبين امتناع أن يكون له ولد، إذ لم تكن له صاحبة، فإن الولد لا يكون إلا من أصلين، وهذا مما ينبغي أن يتفطن له، فإن جعل ما يلزم الشيء الواحد متولدا عنه لا يعرف، لا سيما صفاته القائمة به اللازمة له، كعلمه وحياته، لا سيما الصفات القديمة الأزلية اللازمة لذات رب العالمين الذي لم يزل ولا يزال موصوفا بها، فإن صفات العبد اللازمة له، كحياته وقدرته ونحو ذلك، ليست متولدة عنه عند جميع العقلاء.
    ولا يقول عاقل يعقل ما يقول: إن لون السماء وقدرها متولد عنها، ولا إن قدر الشمس وضوءها القائم بها اللازم لها متولد عنها، ولا يقول أحد: إن حرارة النار وضوءها القائم بها متولد عنها.
    وإنما يقال: إن قيل فيما ليس بقائم بها، بل قائم بغيرها، أو فيما هو حادث بعد أن لم يكن، كالشعاع القائم بالأرض والحيطان، وهذا ليس بقائم بها، بل قائم بغيرها، هو حادث متولد عن أصلين لا عن أصل واحد.
    فأما صفات المخلوق القائمة به اللازمة له، فلا يقول أحد من العقلاء: إنها متولدة عنه.
    والنصارى يزعمون أن كلمة الله التي يفسرونها بعلمه أو حكمته، وروح القدس التي يفسرونها بحياته وقدرته - هي صفة له قديمة أزلية، لم يزل ولا يزال موصوفا بها.
    ويقولون - مع ذلك -: إن الكلمة هي مولودة منه، فيجعلون علمه القديم الأزلي متولدا عنه، ولا يجعلون حياته القديمة الأزلية متولدة عنه.
    وقد أصابوا في أنهم لم يجعلوا حياته متولدة عنه، لكن ظهر بذلك بعض مناقضاتهم وضلالهم، فإنه أنواع كثيرة، فإنه إن كانت صفة الموصوف القديمة اللازمة لذاته يقال: إنها ابنه وولده ومتولد عنه، ونحو ذلك، فتكون حياته أيضا ابنه وولده ومتولدا عنه، وإن لم يكن كذلك، فلا يكون علمه ابنه ولا ولده ولا متولدا عنه.
    وأبلغ من ذلك أن روح القدس المنفصلة عنه القائمة بالأنبياء والصديقين، يقولون إنها ولده ولا إنها متولدة عنه، بل يخصون
    ذلك بالكلمة، فلا ينقلون عن أحد من الأنبياء أنه سمى شيئا من صفات الله ابنا ولا ولدا، ولا قال: إن علم الله أو كلامه أو حكمته ولده أو ابنه، أو هو متولد عنه.

    فعلم أن القوم في غاية التناقض في المعاني والألفاظ، وأنهم مخالفون للكتب الإلهية كلها، ولما فطر الله عليه عباده من المعقولات التي يسمونها نواميس عقلية، ومخالفون لجميع لغات الآدميين، وهذا مما يظهر به فساد تمثيلهم، فإنهم قالوا: تولدت الكلمة عنه، كما تولد الكلمة والحكمة فينا عن العقل.
    فيقال لهم: لو قدر أن الأنبياء سموا ذلك تولدا، فما يتولد فينا حادث بعد أن لم يكن، وحدوثه يتسبب من فعلنا وقدرتنا ومشيئتنا.
    فأما صفاتنا اللازمة لنا، التي لا اختيار لنا في اتصافنا بها، ولم نزل متصفين بها، فلا يقول عاقل: إنها متولدة فينا وعنا.
    وأنتم تجعلون صفة الله القديمة اللازمة له التي لم يزل ولا يزال متصفا بها، متولدة عنه.
    فلو قدر أن ما ذكرتموه من التولد العقلي أمر معروف في اللغة والعقل والشرع، لم يكن لكم أن تجعلوا علم الله وحكمته التي فسرتم بها كلمته ابنا له ومولودا منه، لم يزل مولودا منه ; لأن هذا باطل عقلا وشرعا ولغة.
    أما العقل، فإن صفة الموصوف اللازمة له - وإن كان مخلوقا -
    ليست متولدة عنه، فكيف الصفة القديمة للموصوف القديم؟
    ولو جاز هذا، جاز أن يجعل ما كان لازما لغيره ولدا له ومولودا منه، فيجعل كيفيات الأشياء وكمياتها متولدة عنها وأمثالها.
    ويقال: إن طول الجسم وعرضه وعمقه متولد عنه، وإن حياة الحي متولدة عنه، وإن القوى والطبايع التي جعلها الله في المخلوقات متولدة عنها.
    وأما الشرع، فإن هذا لو كان متولدا وهو في بعض اللغات يسمى ولدا، لم يجز أن يحمل على ذلك كلام الأنبياء، إلا أن يكون في لغتهم يسمى ولدا.
    وكل من نظر في كتب الأنبياء من علماء النصارى وغيرهم، لم يجد أحدا من الأنبياء يسمي علم الله وكلمته وحياته ولدا له، ولا ابنا له، ولا قال: إن ذلك يتولد عنه.
    فقولهم عن المسيح: عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس: إنه أراد بالابن كلمة الله القديمة الأزلية، وإنها متولدة منه، وإنه أراد بروح القدس حياة الله القديمة الأزلية - كذب محض على المسيح - عليه السلام - لا يوجد قط في كلامه ولا كلام غيره من الأنبياء أنهم سموا علم الله وحكمته، ولا شيئا من صفاته القائمة به ابنا، ولا سموا حياته روح القدس.
    وأما اللغة، فإن هذا التعبير الذي ذكروا - وهو تسمية صفات
    الموصوف اللازمة له ولدا وابنا ومتولدا - لا يعرف في لغات بني آدم المعروفة.
    وقد يتبنى الرجل ولد غيره فيتخذه ولدا ويجعله بمنزلة الولد، وإن لم يكن متولدا عنه، كما كانت تفعله أهل الجاهلية من العرب وغيرهم، ولهذا نزه الله - تعالى - نفسه عن الولادة وعن اتخاذ الولد فقال تعالى: {ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون} [الصافات: 151] وقال تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون - بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 100 - 101]. وقال تعالى: {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 3]
    وأما اتخاذ الولد، ففي مواضع متعددة، كقوله تعالى: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك} [الإسراء: 111] وقوله تعالى:




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #280
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 278)

    من صــ 371 الى صـ 385





    {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون - بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [البقرة: 116 - 117]. وقوله: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون - لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون - يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون - ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} [الأنبياء: 26 - 29]. وقوله: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] وقوله: {لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء} [الزمر: 4]
    وأهل الكتاب يذكرون أن في كتبهم تسمية عباد الله الصالحين ابنا، وتسمية الله أبا، وتسمية المصطفين أبناء، وهذا إذا كان ثابتا عن الأنبياء، فإنهم لا يعنون به إلا معنى صحيحا
    واللفظ قد يكون له في لغة معنى، وله في لغة أخرى معنى غير ذلك، والمراد بهذا الولد والابن لا ينافي كونه مخلوقا مربوبا عبدا لله - عز وجل -.
    وأما تسمية شيء من صفات الله ابنا أو ولدا، فهذا لا يعرف عن أحد من الأنبياء، ولا الأمم أهل اللغات سوى مبتدعة النصارى. ولم يبق للتولد إلا معنيان: أحدهما: أن ينفصل عنه جزء، والثاني: أن يحدث عنه شيء، إما باختياره، وإما بغير اختياره وقدرته، كحدوث الشعاع عن النار والشمس.
    وكل من الأمرين لا يكون إلا عن أصلين، ولا بد أن يكون حادثا، لا يكون من صفاته اللازمة له، فيمتنع أن يتولد عنه شيء إن لم يكن معه أصل آخر يتولد عنهما.
    والتولد عنه بغير قدرته ومشيئته، ممتنع عند أهل الملل، المسلمين واليهود والنصارى وسائر الأمم، سوى طائفة من المتفلسفة يقولون: إنه موجب بذاته مستلزما لما يصدر عنه، فهؤلاء قولهم يناسب هذا التولد.
    والنصارى تكفر هؤلاء، لكن قد ضاهوهم في القول، كما قال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30].
    وهذا قاله طائفة من اليهود، وهو معروف عن شخص يقال له فنحاص بن عازورا وأتباعه.
    قال أبو محمد بن حزم: والصدوقية طائفة من اليهود نسبوا إلى رجل يقال له صدوق، وهم يقولون - من بين سائر اليهود -: إن العزير ابن الله، وكانوا بجهة اليمن.
    ولكن المتفلسفة الذين يقولون بصدور العقول والأفلاك عنه، وإن سمي ذلك تولدا، فهم يجعلون ولده منفصلا عنه، لكن يثبتون ولدا قديما أزليا صدر عنه بغير اختياره، ويجعلون الشيء الواحد متولدا عنه.
    وسائر الطوائف الذين أثبتوا لله ولدا، جعلوه حادثا منفصلا عنه.

    فأما جعل صفته القائمة به ولدا له ومولودا، فهذا لا يعرف عن غير النصارى، فإذا أثبتوا له ولدا وابنا غير مخلوق، والصفة القائمة به اللازمة له، لم تتولد عنه ولا تسمى ابنا ولا ولدا عند أحد من الأنبياء وغيرهم - تعين أن يكون الولد إما جزءا منفصلا عنه، وإما معلولا له صادرا عنه بغير قدرته ومشيئته، وأي القولين قالوه فهم فيه كفار مضاهئون لقول الذين كفروا من قبل.
    وبعض علمائهم، وإن أنكر ذلك، لكنهم يقولون ما يستلزم ذلك ويشبهونه بالشعاع من الشمس، ويقولون عن الروح: هو منبثق من الله خارج منه.
    وهذا كله يناسب الولادة التي هي خروج شيء منه، أو حدوث شيء عنه بغير اختياره ومشيئته، ولا بد له - مع ذلك - من محل يقوم به، فإن الشعاع لا يقوم إلا بالأرض.
    والأمر المنبثق الخارج من غيره، إما أن يكون جوهرا قائما بنفسه، أو صفة قائمة بغيرها.
    فإن كان جوهرا، فقد انفصل من الرب جزء.
    وإن كان عرضا، فلا بد له من محل، فيكون متولدا عن أصلين.
    وتشبيههم بتولد الكلام عن العقل تشبيه باطل، فإن ذلك يحصل بقدرة الإنسان ومشيئته، وهو حادث بعد أن لم يكن.
    هذا إذا عرف أن ما يقوم بقلب الإنسان من علم وحكمة، يقال: إنه يتولد عنه، ويقال: إنه ابنه، مع أن هذا أمر غير معروف في اللغات، ولو كان معروفا في لغة بعض الأمم، لم يجز أن يفسر به كلام الأنبياء، إن لم يكن معروفا في لغتهم.
    وأما ما يدعونه، فإنهم يقولون: إن الكلمة لازمة لذات الله أزلا وأبدا، وهي مولودة منه، مع أنها غير مصنوعة، فهذا كلام متناقض باطل من وجوه.
    فإن المتولد عن الشيء لا يتولد إلا عنه وعن غيره، وأما الشيء الواحد فلا يتولد عنه وحده شيء، وأيضا فإن ما تولد عن غيره لم يكن حادثا، وأما الصفة القديمة اللازمة لذات الرب فليست مولودة له، ولا متولدة عنه، بل هي قائمة به لازمة لذاته.
    وأيضا، فإن المولود اسم مفعول، يقال: ولده يلده فهو مولود، وهذا لا يقال إلا في الحادث المتجدد، فإنه مفعول فعل الوالد.
    والقديم الأزلي لا يكون مفعولا مولودا.
    وأيضا فتسمية الصفة القديمة الأزلية مولودا وابنا، لا يوجد في كلام أحد من الأنبياء - عليهم السلام -.
    فهب أن هذا مما يسوغ لنا في اللغة أن نقوله، لكن لا يجوز أن نحدث لغة غير لغة الأنبياء، ونحمل كلام الأنبياء عليها، فإن هذا كذب عليهم.
    وهكذا تفعل النصارى وأمثالهم من أهل التحريف بكلام الأنبياء، يحدثون لهم لغة مخالفة للغة الأنبياء، ويحملون كلام الأنبياء عليه.
    مثال ذلك أن الأنبياء أخبروا بأن الله إله واحد، وكفروا من أثبت إلهين اثنين، وأمروا بالتوحيد ودعوا إليه، وحرموا الشرك وكفروا أهله، وأخبروا أن الله واحد أحد، وكان مرادهم بذلك توحيده، وأنه لا يجوز أن يعبد إلا الله، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو، ليس مقصودهم بذلك نفي صفاته.

    فلم يقصدوا بلفظ " الأحد والواحد " أنه ليس له علم ولا قدرة ولا شيء من الصفات.
    فجاء طائفة من أهل البدع، ففسروا لفظ اسم " الواحد والأحد " بما جعلوه اصطلاحا لهم، فقالوا: الواحد الذي ليس فيه تركيب ولا ينقسم، ولو كان له صفات لكان مركبا، ولو قامت به الصفات لكان جسما، والجسم مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، فلا يكون أحدا ولا واحدا.
    فيقال: هذا الذي قالوه، لو قدر أنه صحيح في العقل واللغة، فليس هو لغة الأنبياء التي خاطبوا بها الخلق، فكيف إذا لم يكن هذا الواحد من لغة أحد من الأمم؟
    بل جميع الأمم تسمي ما قام به الصفات واحدا، بل يسمونه وحيدا، وقد يسمونه في غير الإثبات أحدا، كقوله: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] وقوله: {ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11] وأمثال ذلك.
    وأما البحث العقلي في هذا، فقد بسطناه في غير هذا الموضع، وبينا أن ما يسميه هؤلاء المتفلسفة تركيبا، كقولهم: إن الشيء مركب من وجود وماهية، وقولهم: إن الأنواع مركبة من الأجناس والفصول، هو باطل عند جميع جمهور العقلاء.
    وليس في الخارج إلا ذات متصفة بصفات، ليس في الخارج وجود القائم بنفسه، وماهية أخرى غير هذا الشيء الموجود القائم بنفسه مثلا.
    ولكن قد يعنى بلفظ " ماهية " ما يتصور في الأذهان، وبالوجود ما يوجد في الأعيان، وحينئذ فهذه الماهية غير هذا الموجود، وحينئذ فيقال: هذه الماهية غير هذا الوجود.
    وكذلك قولهم: إن الإنسان الموجود في الخارج مركب من الجنس والفصل، فإن الإنسان الموجود هو ذات متصفة بصفات هو وغيره من الموجودات.
    ولكن يتصور في الذهن ما هو مركب من الحيوان والناطق، كما يتصور ما هو مركب من الحيوان والضاحك، وهذا تركيب ذهني لا تركيب في الخارج، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
    وتبين أن ما جعلوه من الصفات داخلا في الماهية، وما جعلوه خارجا عنها لازما لها، وما هو مجموع أجزاء الماهية، يرجع عند التحقيق إلى ما هو مدلول عليه بالتضمن والالتزام والمطابقة.
    ومن ذلك تركيب الجسم من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة.
    وأكثر العقلاء ينكرون تركيب الجسم من هذا وهذا، كما قد بسط في موضع آخر.
    والمقصود هنا، أن كلام الأنبياء لا يجوز أن يحمل إلا على لغتهم التي من عادتهم أن يخاطبوا بها الناس، لا يجوز أن يحدث لغة غير لغتهم، ويحمل كلامهم عليها.
    بل إذا كان لبعض الناس - عادة ولغة - يخاطب بها أصحابه، وقدر أن ذلك يجوز له، فليس له أن يحمل ذلك، لغة النبي، ويحمل كلام النبي على ذلك.
    ومن هذا إخبار الأنبياء بأن الله يقول ويتكلم وينادي ويناجي، وأنه قال كذا وتكلم بكذا، ونادى موسى ونحو ذلك.
    والمعروف في لغتهم ولغة سائر الأمم، أن المتكلم من قام به الكلام، وإن كان متكلما بقدرته ومشيئته، لا يعرف في لغتهم أن المتكلم من أحدث كلاما منفصلا عنه، ولا أن المتكلم من قام به الكلام بدون قدرته ومشيئته.

    فليس لأحد - إذا جعل اسم المتكلم لمن يحدث كلاما بائنا عنه، أو من قام به بدون قدرته ومشيئته - أن يحمل كلام الأنبياء على هذا.
    بل المتكلم - عند الإطلاق - من تكلم بقدرته ومشيئته، مع قيام الكلام به.
    وهذا هو المعروف في لغة الأنبياء وسائر الأمم عند الإطلاق، ونظائر هذا متعددة.
    فمن فسر كلام الأنبياء بغير لغتهم المعروفة، فهم ممن بدل كلامهم وحرفه، والنصارى من هؤلاء.
    وكذلك اسم العادل والظالم ونحوهما، فإن المعروف من كلام الأنبياء وغيرهم أن العادل من قام به العدل وفعل العدل بمشيئته وقدرته.
    والظالم من قام به الظلم، وفعله بقدرته ومشيئته، لا يسمون من لم يقم به الظلم، ولكن قام بغيره، لكون قد جعل ذلك فاعلا له، ولا يسمون من لم يفعل الظلم - ولكن فعله غيره فيه - ظالما.
    فمن جعل الظالم والكافر والفاسق من لم يفعل شيئا من ذلك ولكن فعله غيره فيه، أو جعل الظالم من لم يقم به ظلم فعله، ولكن جعل غيره متصفا به ظالما - فقد خرج عن المعروف من كلام الأنبياء وغيرهم.
    وأبلغ من ذلك أن المحدث والحادث في لغة جميع الأمم، لا يسمى به إلا ما كان بعد أن لم يكن، والمخلوق أبلغ من المحدث والحادث فليس لأحد - إذا أحدث اصطلاحا سمى به القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا، ولكنه زعم أنه معلول لغيره، فسماه محدثا بهذا الاعتبار - أن يقول: أنا أحمل كلام الأنبياء الذي أخبروا به، أن السماوات والأرض
    وما بينهما مخلوق أو مصنوع أو معقول أو محدث أو نحو ذلك من العبارات - على أن مرادهم بذلك أنه معلول، مع كونه قديما أزليا لم يزل.
    وأما لفظ " القديم " فهو في اللغة المشهورة التي خاطبنا بها الأنبياء، يراد به ما كان متقدما على غيره تقدما زمانيا، سواء سبقه عدم أو لم يسبقه، كما قال تعالى: {حتى عاد كالعرجون القديم} [يس: 39] وقال تعالى: {تالله إنك لفي ضلالك القديم} [يوسف: 95] وقال " الخليل ": {أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [الشعراء: 75]
    فلهذا كان القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا، ولم يسبقه عدم - أحق باسم القديم من غيره.
    وليس لأحد أن يجعل القديم والمتقدم اسما لما قارن غيره في الزمان لزعمه أنه متقدم عليه بالعلة، ويقول: إنه متقدم على غيره وسابق له بهذا الاعتبار، وإن ذلك المعلول متأخر عنه بهذا الاعتبار، ثم يحمل ما جاء من كلام الأنبياء وأتباع الأنبياء وعموم الخلق على هذا الاصطلاح لو كان حقا، فكيف إذا كان باطلا.
    وما ذكره من التقدم والسبق والتأخر بغير الزمان، أمر غير موجود ولا معقول ولا يعرف في الوجود من فعل شيئا، وكان علة فاعلة له إلا وهو متقدم عليه سابق له، ليس مقارنا له في الزمان ألبتة، بل متقدم عليه تقدما زمانيا.
    وكل من يعرف أنه سبب أو علة فاعلة، فإنه متقدم على مسببه ومعلوله، لكن قد يكون متصلا به ليس بينهما زمان آخر.

    فيقال: ليس هذا متأخرا عن هذا ; أي هو متصل به ليس بينهما فصل.
    ويقال: ليس ذلك متقدما على هذا ; أي ليس بينهما زمان، بل هو متصل به، إذ قد يراد بلفظ التقدم هذا، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ("الجنازة متبوعة، وليست بتابعة، ليس منها من تقدمها") ; أي من كان قد تقدمها، حتى لم يكن قريبا منها، لم يكن تابعا لها، كما جاء في الحديث الآخر: ("الراكب خلف الجنازة، والماشي أمامها ووراءها، وعن يمينها ويسارها، قريبا منها") رواه أبو داود وغيره، وهو أبين حديث
    روي في هذا الباب في هذا الحكم، ومنه قوله تعالى: {ولا الليل سابق النهار} [يس: 40] أي لا يتقدم عليه، بحيث يكون بينهما انفصال، بل كل منهما متصل بالآخر.
    والمقصود هنا أن معرفة اللغة التي خاطبنا بها الأنبياء وحمل كلامهم عليها - أمر واجب متعين، ومن سلك غير هذا المسلك، فقد حرف كلامهم عن مواضعه، وكذب عليهم وافترى.
    ومثل هذا التحريف والتبديل قد اتفق المسلمون واليهود والنصارى على أنه وقع فيه خلق كثير من أهل الكتب الثلاثة، وأن التوراة والإنجيل حرفا بهذا الاعتبار، وكذلك القرآن حرفه أهل الإلحاد والبدع بهذا الاعتبار.
    فأهل الكتاب نقلوا عن الأنبياء أنهم تكلموا بلفظ الأب والابن ومرادهم - عندهم - بالأب: الرب، وبالابن: المصطفى المختار المحبوب.
    ولم ينقل أحد منهم عن الأنبياء أنهم سموا شيئا من صفات الله ابنا، ولا قالوا عن شيء من صفاته: إنه تولد عنه، ولا إنه مولود له.
    فإذا وجد في كلام المسيح - عليه السلام - أنه قال: (عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس) ثم فسروا الابن بصفة الله
    القديمة الأزلية، كان هذا كذبا بينا على المسيح، حيث لم يكن في لغته أن لفظ الابن يراد به صفة الله القديمة الأزلية.
    وكذلك إذا لم يكن في كلام الأنبياء أن حياة الله تسمى روح القدس، وإنما يريدون بروح القدس ما ينزله الله - تبارك وتعالى - على الأنبياء والصالحين ويؤيدهم، كان تفسير قول المسيح: " روح القدس ": إنه أراد حياة الله - كذبا على المسيح.
    وهذا من بعض الوجوه أفسد من قول بعض المتفلسفة: إن العقول والنفوس والأفلاك معلولة له متولدة عنه، لازمة له أزلا وأبدا، وإن كان هذا أيضا باطلا في صريح العقل، كما هو كفر بما أخبرت به الأنبياء، كما قد بسط في موضع آخر، فإنه لا يصدر شيء عن فاعل الأشياء بعد شيء لا يتصور أن يكون المفعول مقارنا للفاعل لا يتأخر عنه، ولا يكون التولد إلا عن أصلين.
    والواحد من كل وجه الذي ليس له صفة ثبوتية، لا وجود له، ولو كان له وجود لم يصدر عنه وحده شيء، كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع أخر.
    ومما يوضح ذلك، أن خواص النصارى وعلماءهم - مع تجويزهم أن يقال: إن المسيح ابن الله - يلزمهم أن تكون مريم صاحبة الله وامرأته، كما قال ذلك من يغلو منهم، ومنهم من يجعل مريم إلها مع الله، كما جعل المسيح إلها.
    فإن قالوا بذلك، جعلوا لله صاحبة وولدا، وجعلوا المسيح ابن
    مريم وأمه إلهين من دون الله، كما فعل ذلك من فعله منهم.
    فإنهم يعبدون مريم ويدعونها بما يدعون به الله - سبحانه - والمسيح، ويجعلونها إلها كما يجعلون المسيح إلها، فيقولون: يا والدة الإله، اغفري لنا وارحمينا، ونحو ذلك، فيطلبون منها ما يطلبونه من الله - عز وجل -.
    ومنهم من يقول عن مريم: إنها صاحبة الله - سبحانه وتعالى -.
    وبيان لزوم ذلك أن المسيح - عندهم - إنسان تام وإله تام، ناسوت ولاهوت، فناسوته من مريم، ولاهوته الكلمة القديمة الأزلية، وهي الخالق عندهم.
    فالمسيح بين أصلين، ناسوت ولاهوت، فإذا كان الأب هو الله - عندهم - والكلمة المولودة عن الأب ابن الله، فمعلوم أن اللاهوت لما التحم بالناسوت ليصير منهما المسيح ازدوج به وقارنه، وهذا معنى الزوجية.
    فكما أنهم قالوا: إن الولادة عقلية لا حسية، فكذلك الازدواج والنكاح عقلي لا حسي، فإن اللاهوت - على قولهم - ازدوج بناسوت مريم ونكحها نكاحا عقليا، وخلق المسيح من هذا وهذا.
    وهم يقولون في الأمانة: إن المسيح تجسد من مريم ومن روح القدس.
    فإن فسروا روح القدس بجبريل - كما يقوله المسلمون - فهو
    الحق، وبطل قولهم لكنهم يقولون: روح القدس هو الأقنوم الثالث، كما يقولون في الكلمة وهو اللاهوت عندهم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •