تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 25 من 28 الأولىالأولى ... 1516171819202122232425262728 الأخيرةالأخيرة
النتائج 481 إلى 500 من 550

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #481
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الشورى
    الحلقة (481)
    صــ 261 إلى صــ 270





    [ ص: 261 ] قوله تعالى: إن الذين يلحدون في آياتنا قال مقاتل: نزلت في أبي جهل . وقد شرحنا معنى الإلحاد في [النحل: 103]; وفي المراد به هاهنا خمسة أقوال .

    أحدها: أنه وضع الكلام على غير موضعه، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثاني: أنه المكاء والصفير عند تلاوة القرآن، قاله مجاهد .

    والثالث: أنه التكذيب بالآيات، قاله قتادة .

    والرابع: أنه المعاندة، قاله السدي .

    والخامس: أنه الميل عن الإيمان بالآيات، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: لا يخفون علينا هذا وعيد بالجزاء أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة وهذا عام، غير أن المفسرين ذكروا فيمن أريد به سبعة أقوال .

    أحدها: أنه أبو جهل وأبو بكر الصديق، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني: أبو جهل وعمار بن ياسر، قاله عكرمة . والثالث: أبو جهل ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن السائب، ومقاتل . والرابع: أبو جهل وعثمان بن عفان، حكاه الثعلبي . والخامس: أبو جهل وحمزة، حكاه الواحدي . والسادس: أبو جهل وعمر بن الخطاب . والسابع: الكافر والمؤمن، حكاهما الماوردي .

    [ ص: 262 ] قوله تعالى: اعملوا ما شئتم قال الزجاج : لفظه لفظ الأمر، ومعناه الوعيد والتهديد .

    قوله تعالى: إن الذين كفروا بالذكر يعني القرآن; ثم أخذ في وصف الذكر; وترك جواب "إن"، وفي جوابها هاهنا قولان .

    [أحدهما]: أنه "أولئك ينادون من مكان بعيد"، ذكره الفراء .

    والثاني: أنه متروك، وفي تقديره قولان . أحدهما: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به . والثاني: إن الذين كفروا يجازون بكفرهم .

    قوله تعالى: وإنه لكتاب عزيز فيه أربعة أقوال . أحدها: منيع من الشيطان لا يجد إليه سبيلا، قاله السدي . والثاني: كريم على الله، قاله ابن السائب . والثالث: منيع من الباطل، قاله مقاتل . والرابع: يمتنع على الناس أن يقولوا مثله، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: لا يأتيه الباطل فيه ثلاثة أقوال . أحدها: التكذيب، قاله سعيد بن جبير . والثاني: الشيطان . والثالث: التبديل، رويا عن مجاهد . قال قتادة: لا يستطيع إبليس أن ينقص منه حقا، ولا يزيد فيه باطلا . وقال مجاهد: لا يدخل فيه ماليس منه . وفي قوله: من بين يديه ولا من خلفه ثلاثة أقوال . أحدها: بين يدي تنزيله، وبعد نزوله . والثاني: أنه ليس قبله كتاب يبطله، ولا يأتي بعده كتاب يبطله . والثالث: لا يأتيه الباطل في إخباره عما تقدم، ولا في إخباره عما تأخر .
    ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم . ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى [ ص: 263 ] وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد .

    قوله تعالى: ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك فيه قولان .

    أحدهما: أنه قد قيل فيمن أرسل قبلك: ساحر وكاهن ومجنون، وكذبوا كما كذبت، هذا قول الحسن، وقتادة، والجمهور .

    والثاني: ما تخبر إلا بما أخبر الأنبياء قبلك من أن الله غفور، وأنه ذو عقاب، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: ولو جعلناه يعني الكتاب الذي أنزل عليه قرآنا أعجميا أي: بغير لغة العرب لقالوا لولا فصلت آياته أي: هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمه؟! أأعجمي وعربي قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وحفص عن عاصم: "آعجمي" [بهمزة] ممدودة . وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: "أأعجمي" بهمزتين، والمعنى: أكتاب أعجمي ونبي عربي؟! وهذا استفهام إنكار; أي لو كان كذلك لكان أشد لتكذيبهم .

    قل هو يعني القرآن للذين آمنوا هدى من الضلالة وشفاء للشكوك والأوجاع . و "الوقر": الصمم; فهم في ترك القبول بمنزلة من في أذنه صمم .

    وهو عليهم عمى أي: ذو عمى . قال قتادة: صموا عن القرآن وعموا عنه أولئك ينادون من مكان بعيد أي: إنهم لا يسمعون ولا يفهمون كالذي ينادى من بعيد .
    ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب . [ ص: 264 ] من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد .

    قوله تعالى: ولقد آتينا موسى الكتاب هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: كما آمن بكتابك قوم وكذب به قوم، فكذلك كتاب موسى، ولولا كلمة سبقت من ربك في تأخير العذاب إلى أجل مسمى وهو القيامة لقضي بينهم بالعذاب الواقع بالمكذبين وإنهم لفي شك من صدقك وكتابك، مريب أي: موقع لهم الريبة .
    إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد . وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص .

    قوله تعالى: إليه يرد علم الساعة سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن الساعة إن كنت رسولا كما تزعم، قاله مقاتل . ومعنى الآية: لا يعلم قيامها إلا هو، فإذا سئل عنها فعلمها مردود إليه .

    ( وما تخرج من ثمرة ) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي، [ ص: 265 ] وأبو بكر عن عاصم: "من ثمرة" . وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: "من ثمرات" على الجمع من أكمامها أي: أوعيتها . قال ابن قتيبة : أي: من المواضع التي كانت فيها مستترة، وغلاف كل شيء: كمه، وإنما قيل: كم القميص، من هذا . قال الزجاج : الأكمام: ما غطى، وكل شجرة تخرج ماهو مكمم فهي ذات أكمام، وأكمام النخلة: ما غطى، جمارها من السعف والليف والجذع، وكل ما أخرجته النخلة فهو ذو أكمام، فالطلعة كمها قشرها، ومن هذا قيل للقلنسوة: كمة، لأنها تغطي الرأس، ومن هذا كما القميص، لأنهما يغطيان اليدين .

    قوله تعالى: ويوم يناديهم أي: ينادي الله تعالى المشركين أين شركائي الذين كنتم تزعمون قالوا آذناك قال الفراء، وابن قتيبة : أعلمناك، وقال مقاتل: أسمعناك ما منا من شهيد فيه قولان .

    أحدهما: أنه من قول المشركين; والمعنى: ما منا من شهيد بأن لك شريكا، فيتبرؤون يومئذ مما كانوا يقولون، هذا قول مقاتل .

    والثاني: [أنه] من قول الآلهة التي كانت تعبد، والمعنى: ما منا من شهيد لهم بما قالوا، قاله الفراء، وابن قتيبة .

    قوله تعالى: وضل عنهم أي: بطل عنهم في الآخرة ما كانوا يدعون أي: يعبدون في الدنيا، وظنوا أي: أيقنوا ما لهم من محيص وقد شرحنا المحيص في سورة [النساء: 121] .
    [ ص: 266 ] لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط . ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض . قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد

    قوله تعالى: لا يسأم الإنسان قال المفسرون: المراد به الكافر; فالمعنى: لا يمل الكافر من دعاء الخير أي: من دعائه بالخير، وهو المال والعافية .

    وإن مسه الشر وهو الفقر والشدة; والمعنى: إذا اختبر بذلك يئس من روح الله، وقنط من رحمته . وقال أبو عبيدة: اليؤوس، فعول من يأس، والقنوط، فعول من قنط .

    قوله تعالى: ولئن أذقناه رحمة منا أي: خيرا وعافية وغنى، ليقولن هذا لي أي: هذا واجب لي بعملي وأنا محقوق به، ثم يشك في البعث فيقول: وما أظن الساعة قائمة أي: لست على يقين من البعث ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى يعني الجنة، أي: كما أعطاني في الدنيا يعطيني في الآخرة فلننبئن الذين كفروا أي: لنخبرنهم بمساوئ أعمالهم . وما بعده قد سبق [إبراهيم: 17، الإسراء: 83] إلى قوله تعالى: ونأى بجانبه قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : "ونأى" مثل "نعى" . وقرأ ابن عامر: "وناء" مفتوحة النون ممدودة والهمزة بعد الألف . وقرأ [ ص: 267 ] حمزة: "نئي" مكسورة النون والهمزة .

    فذو دعاء عريض قال الفراء، وابن قتيبة : معنى العريض: الكثير، وإن وصفته بالطول أو بالعرض جاز في الكلام .

    قل يا محمد لأهل مكة أرأيتم إن كان القرآن من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق أي: خلاف للحق بعيد عنه؟! وهو اسم; والمعنى: فلا أحد أضل منكم . وقال ابن جرير: معنى الآية: ثم كفرتم به، ألستم في شقاق للحق وبعد عن الصواب؟! فجعل مكان هذا باقي الآية .
    سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد . ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط .

    قوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم فيه خمسة أقوال .

    أحدها: في الآفاق: فتح أقطار الأرض، وفي أنفسهم: فتح مكة، قاله الحسن، ومجاهد، والسدي .

    والثاني: أنها في الآفاق: وقائع الله في الأمم الخالية، وفي أنفسهم: يوم بدر، قاله قتادة ، ومقاتل .

    والثالث: أنها في الآفاق: إمساك القطر عن الأرض كلها، وفي أنفسهم: البلايا التي تكون في أجسادهم، قاله ابن جريج .

    والرابع: أنها في الآفاق: آيات السماء كالشمس والقمر والنجوم، وفي أنفسهم: [ ص: 268 ] حوادث الأرض، قاله ابن زيد . وحكي عن ابن زيد أن التي في أنفسهم: سبيل الغائط والبول، فإن الإنسان يأكل ويشرب من مكان واحد، ويخرج من مكانين .

    والخامس: أنها في الآفاق: آثار من مضى قبلهم من المكذبين، وفي أنفسهم: كونهم خلقوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما إلى أن نقلوا إلى العقل والتمييز، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: حتى يتبين لهم أنه الحق في هاء الكناية قولان . أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن . والثاني: إلى جميع ما دعاهم إليه الرسول . وقال ابن جرير: معنى الآية: حتى يعلموا حقيقة ما أنزلنا على محمد وأوحينا إليه من الوعد له بأنا مظهرو دينه على الأديان كلها .

    أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد أي: أولم يكف به أنه شاهد على كل شيء؟! قال الزجاج : المعنى: أو لم يكفهم شهادة ربك؟!

    [ ص: 269 ] ومعنى الكفاية هاهنا: أنه قد بين لهم ما فيه كفاية في الدلالة على توحيده وتثبيت رسله .
    [ ص: 270 ] سُورَةُ حَم عسق

    وَاسْمُهَا سُورَةُ الشُّورَى

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْجُمْهُورُ . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وقَتَادَةَ قَالَا: إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ، أَوَّلُهَا: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [الشُّورَى: 23] وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِيهَا مِنَ الْمَدَنِيِّ قَوْلُهُ: ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا [الشُّورَى: 23] إِلَى قَوْلِهِ: بِذَاتِ الصُّدُورِ [الشُّورَى: 24] وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ [الشُّورَى: 39] إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ سَبِيلٍ [الشُّورَى: 41] .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #482
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الشورى
    الحلقة (482)
    صــ 271 إلى صــ 280





    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    حم عسق . كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُو نَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ [ ص: 271 ] الرَّحِيمُ . وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ

    قَوْلُهُ تَعَالَى: حم قَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ [الْمُؤْمِنِ] .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: عسق فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ حُرُوفٌ مِنْ أَسْمَاءٍ; ثُمَّ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَيْنَ عِلْمُ اللَّهُ، وَالسِّينَ سَنَاؤُهُ، وَالْقَافَ قُدْرَتُهُ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَيْنَ فِيهَا عَذَابٌ، وَالسِّينَ فِيهَا مَسْخٌ، وَالْقَافَ فِيهَا قَذْفٌ، رَوَاهُ أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْحَاءَ مِنْ حَرْبٍ، وَالْمِيمَ مِنْ تَحْوِيلِ مُلْكٍ، وَالْعَيْنَ مِنْ عَدُوٍّ مَقْهُورٍ، وَالسِّينَ اسْتِئْصَالٌ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، وَالْقَافَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ فِي مُلُوكِ الْأَرْضِ، قَالَهُ عَطَاءٌ . وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْعَيْنَ مِنْ عَالِمٍ، وَالسِّينَ مِنْ قُدُّوسٍ، وَالْقَافَ مِنْ قَاهِرٍ، قَالَهُ [سَعِيدُ] بْنُ جُبَيْرٍ . وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْعَيْنَ مِنَ الْعَزِيزِ، وَالسِّينَ مِنَ السَّلَامِ، وَالْقَافَ مِنَ الْقَادِرِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ .

    وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ .

    [ ص: 272 ] أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَمَا أَوْحَيْتُ "حم عسق" إِلَى كُلِّ نَبِيٍّ، كَذَلِكَ نُوحِيهَا إِلَيْكَ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّانِي: كَذَلِكَ نُوحِي إِلَيْكَ أَخْبَارَ الْغَيْبِ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى مَنْ قَبْلَكَ، رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالثَّالِثُ: أَنْ "حم عسق" نَزَلَتْ فِي أَمْرِ الْعَذَابِ، فَقِيلَ: كَذَلِكَ نُوحِي إِلَيْكَ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِمَنْ كَذَّبَكَ كَمَا أَوْحَيْنَا ذَلِكَ إِلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

    وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمَعْنَى: هَكَذَا نُوحِي إِلَيْكَ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ .

    وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: "يُوحَى" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ . كَأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: مَنْ يُوحِي؟ قِيلَ: اللَّهُ . وَرَوَى أَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ: "نُوحِي" بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْحَاءِ .

    تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ: "تَكَادُ" بِالتَّاءِ يَتَفَطَّرْنَّ" بِيَاءٍ وَتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا . وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ : "يَكَادُ بِالْيَاءِ يَتَفَطَّرْنَ" مِثْلُ قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: "تَكَادُ" بِالتَّاءِ "يَنْفَطِرْنَ" بِالنُّونِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا، أَيْ: يَتَشَقَّقْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أَيْ: مِنْ فَوْقِ الْأَرَضِينَ مِنْ عَظَمَةِ الرَّحْمَنِ; وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: "اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا" وَنَظِيرُهَا [الَّتِي] فِي [مَرْيَمَ: 90] .

    وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَلُّونَ بِأَمْرِ رَبِّهِمْ; وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُنَزِّهُونَهُ عَمَّا لَا يَجُوزُ فِي صِفَتِهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ فِيهِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ .

    [ ص: 273 ] وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ ، فَلَمَّا ابْتُلِيَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ اسْتَغْفَرُوا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ .

    وَمَعْنَى اسْتِغْفَارِهِم ْ: سُؤَالُهُمُ الرِّزْقَ لَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ . وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ مُقَاتِلٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَيَسْتَغْفِرُو نَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غَافِرٍ: 7]، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكُفَّارِ، فَلَفْظُ هَذِهِ الْآيَةِ عَامٌّ، وَمَعْنَاهَا خَاصٌّ، وَيَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ قَوْلُهُ: وَيَسْتَغْفِرُو نَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غَافِرٍ: 7]، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسْتَغْفَرَ لَهُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ اتَّخَذُوا آلِهَةً فَعَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أَيْ: حَافِظٌ لِأَعْمَالِهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ بِهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أَيْ: لَمْ نُوَكِّلْكَ بِهِمْ فَتُؤْخَذَ بِهِمْ . وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَا يَصِحُّ .

    وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير . ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير . أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير .

    قوله تعالى: وكذلك أي: ومثل ما ذكرنا أوحينا إليك قرآنا عربيا ليفهموا مافيه لتنذر أم القرى يعني مكة، والمراد: أهلها، [ ص: 274 ] وتنذر يوم الجمع أي: وتنذرهم يوم الجمع، وهو يوم القيامة، يجمع الله فيه الأولين والآخرين وأهل السموات والأرضين لا ريب فيه أي: لا شك في هذا الجمع أنه كائن، ثم بعد الجمع يتفرقون، وهو قوله: فريق في الجنة وفريق في السعير .

    ثم ذكر سبب افتراقهم فقال: ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة أي: على دين واحد، كقوله: لجمعهم على الهدى [الأنعام: 35] ولكن يدخل من يشاء في رحمته أي: في دينه والظالمون وهم الكافرون ما لهم من ولي يدفع عنهم العذاب ولا نصير يمنعهم منه .

    أم اتخذوا من دونه أي: بل اتخذ الكافرون من دون الله أولياء يعني آلهة يتولونهم فالله هو الولي أي: ولي أوليائه، فليتخذوه وليا دون الآلهة; وقال ابن عباس: وليك يا محمد وولي من اتبعك .
    وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب . فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس [ ص: 275 ] كمثله شيء وهو السميع البصير . له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم . شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب . وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب .

    قوله تعالى: وما اختلفتم فيه من شيء أي: من أمر الدين; وقيل: بل هو عام فحكمه إلى الله فيه قولان . أحدهما: علمه عند الله . والثاني: هو يحكم فيه . قال مقاتل: وذلك أن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن، وآمن بعضهم، فقال الله: أنا الذي أحكم فيه ذلكم الله الذي يحكم بين المختلفين هو ربي عليه توكلت في مهماتي وإليه أنيب أي: أرجع في المعاد .

    فاطر السماوات قد سبق بيانه [الأنعام: 14]، جعل لكم من أنفسكم أي: من مثل خلقكم أزواجا نساء ومن الأنعام أزواجا أصنافا ذكورا وإناثا; والمعنى أنه خلق لكم الذكر والأنثى من الحيوان كله يذرؤكم فيها ثلاثة أقوال . أحدها: يخلقكم، قاله السدي . والثاني: يعيشكم، قاله مقاتل . والثالث: يكثركم، قاله الفراء . و [في قوله] فيه قولان .

    أحدهما: أنها على أصلها، قاله الأكثرون . فعلى هذا في هاء الكناية ثلاثة أقوال . [ ص: 276 ] أحدها: أنها ترجع إلى بطون الإناث وقد تقدم ذكر الأزواج، قاله زيد بن أسلم . فعلى هذا يكون المعنى: يخلقكم في بطون النساء، وإلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة ، فقال: يخلقكم في الرحم أو في الزوج; وقال ابن جرير: يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم، ويعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام .

    والثاني: أنها ترجع إلى الأرض، قاله ابن زيد; فعلى هذا يكون المعنى: يذرؤكم فيما خلق من السموات والأرض .

    والثالث: أنها ترجع إلى الجعل المذكور; ثم في معنى الكلام قولان . أحدهما: يعيشكم فيما جعل من الأنعام، قاله مقاتل . والثاني: يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعل الأزواج، قاله الواحدي .

    والقول الثاني: أن "فيه" بمعنى "به"; والمعنى: يكثركم بما جعل لكم، قاله الفراء، والزجاج .

    قوله تعالى: ليس كمثله شيء قال ابن قتيبة : أي: ليس كهو شيء، والعرب تقيم المثل مقام النفس، فتقول: مثلي لا يقال له هذا، أي: أنا لا يقال لي هذا، وقال الزجاج : الكاف مؤكدة، والمعنى: ليس مثله شيء . وما بعد هذا قد سبق بيانه [الزمر: 63، الرعد: 26] إلى قوله: شرع لكم أي: بين وأوضح من الدين ما وصى به نوحا وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه تحليل الحلال وتحريم الحرام، قاله قتادة . والثاني: تحريم الأخوات والأمهات، قاله الحكم . والثالث: التوحيد وترك الشرك .

    قوله تعالى: والذي أوحينا إليك أي: من القرآن وشرائع الإسلام . قال الزجاج : المعنى: وشرع الذي أوحينا إليك وشرع لكم ما وصى به إبراهيم [ ص: 277 ] وموسى وعيسى . وقوله: أن أقيموا الدين تفسير قوله: وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ، وجائز أن يكون تفسيرا لـ "ما وصى به نوحا" ولقوله: والذي أوحينا إليك ولقوله: وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ، فيكون المعنى: شرع لكم ولمن قبلكم إقامة الدين وترك الفرقة، وشرع الاجتماع على اتباع الرسل . وقال مقاتل: أن أقيموا الدين يعني التوحيد ولا تتفرقوا فيه أي: لا تختلفوا كبر على المشركين أي: عظم على مشركي مكة ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد .

    قوله تعالى: الله يجتبي إليه أي: يصطفي من عباده لدينه من يشاء ويهدي إلى دينه، من ينيب أي: يرجع إلى طاعته .

    ثم ذكر افتراقهم بعد أن أوصاه بترك الفرقة، فقال: وما تفرقوا يعني أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: من بعد كثرة علمهم للبغي . والثاني: من بعد أن علموا أن الفرقة ضلال . والثالث: من بعد ما جاءهم القرآن، بغيا منهم على محمد صلى الله عليه وسلم .

    [ ص: 278 ] ولولا كلمة سبقت من ربك في تأخير المكذبين من هذه الأمة إلى يوم القيامة، لقضي بينهم بإنزال العذاب على المكذبين وإن الذين أورثوا الكتاب يعني اليهود والنصارى من بعدهم أي: من بعد أنبيائهم لفي شك منه أي: من محمد صلى الله عليه وسلم .
    فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنـزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .

    قوله تعالى: فلذلك فادع قال الفراء: المعنى: فإلى ذلك، تقول: دعوت إلى فلان، ودعوت لفلان، و "ذلك" بمعنى "هذا"; وللمفسرين فيه قولان .

    أحدهما: أنه القرآن، قاله ابن السائب . والثاني: أنه التوحيد، قاله مقاتل .

    [ ص: 279 ] قوله تعالى: ولا تتبع أهواءهم يعني أهل الكتاب، لأنهم دعوه إلى دينهم .

    قوله تعالى: وأمرت لأعدل بينكم قال بعض النحويين: المعنى: أمرت كي أعدل . وقال غيره: المعنى: أمرت بالعدل . وتقع "أمرت" على "أن"، وعلى "كي"، وعلى "اللام"; يقال: أمرت أن أعدل، وكي أعدل، ولأعدل .

    ثم في ما أمر أن يعدل فيه قولان . أحدهما: في الأحكام إذا ترافعوا إليه . والثاني: في تبليغ الرسالة .

    قوله تعالى: الله ربنا وربكم أي: هو إلهنا وإن اختلفنا، فهو يجازينا بأعمالنا، فذلك قوله: لنا أعمالنا أي: جزاؤها .

    لا حجة بيننا وبينكم قال مجاهد: لا خصومة بيننا وبينكم .

    فصل

    وفي هذه الآية قولان

    أحدهما: أنها اقتضت الاقتصار على الإنذار، وذلك قبل القتال، ثم نزلت آية السيف فنسختها، قاله الأكثرون .

    والثاني: أن معناها: إن الكلام -بعد ظهور الحجج والبراهين- قد سقط بيننا، فعلى هذا هي محكمة، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله عن طائفة من المفسرين .

    قوله تعالى: والذين يحاجون في الله أي: يخاصمون في دينه . قال قتادة: هم اليهود، قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن خير منكم . وعلى قول مجاهد: هم المشركون، طمعوا أن تعود الجاهلية .

    [ ص: 280 ] قوله تعالى: من بعد ما استجيب له أي: من بعد إجابة الناس إلى الإسلام حجتهم داحضة أي: خصومتهم باطلة .

    الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب . يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد . الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز . من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب .

    قوله تعالى: الله الذي أنزل الكتاب يعني القرآن بالحق أي: لم ينزله لغير شيء والميزان فيه قولان . أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس، وقتادة، والجمهور . والثاني: أنه الذي يوزن به، حكي عن مجاهد . ومعنى إنزاله: إلهام الخلق أن يعملوا به، وأمر الله عز وجل إياهم بالإنصاف . وسمي العدل ميزانا; لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية بين الخلق . وتمام الآية مشروح في [الأحزاب: 63] .

    قوله تعالى: يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها لأنهم لا يخافون ما فيها، إذ لم يؤمنوا بكونها، فهم يطلبون قيامها استبعادا واستهزاء والذين آمنوا مشفقون أي: خائفون منها لأنهم يعلمون أنهم محاسبون ومجزيون، ولا يدرون ما يكون منهم ويعلمون أنها الحق أي: أنها كائنة لا محالة ألا إن الذين يمارون في الساعة أي: يخاصمون في كونها لفي ضلال بعيد حين لم يتفكروا، فيعلموا قدرة الله على إقامتها .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #483
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الشورى
    الحلقة (483)
    صــ 281 إلى صــ 290





    [ ص: 281 ] الله لطيف بعباده قد شرحنا معنى [اسمه] "اللطيف" في [الأنعام: 103] . وفي عباده هاهنا قولان . أحدهما: أنهم المؤمنون . والثاني: أنه عام في الكل . ولطفه بالفاجر: أنه لا يهلكه .

    يرزق من يشاء أي: يوسع له الرزق .

    قوله تعالى: من كان يريد حرث الآخرة قال ابن قتيبة : أي: عمل الآخرة، يقال: فلان يحرث الدنيا، أي: يعمل لها ويجمع المال; فالمعنى: من أراد بعمله الآخرة نزد له في حرثه أي: نضاعف له الحسنات .

    قال المفسرون: من أراد العمل لله بما يرضيه، أعانه الله على عبادته، ومن أراد الدنيا مؤثرا لها على الآخرة لأنه غير مؤمن بالآخرة، يؤته منها، وهو الذي قسم له، وما له في الآخرة من نصيب لأنه كافر بها لم يعمل لها .

    فصل

    اتفق العلماء على أن أول هذه الآية إلى "حرثه" محكم، واختلفوا في باقيها على قولين .

    [ ص: 282 ] أحدهما: [أنه] منسوخ بقوله: عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد [الإسراء: 18]، وهذا قول جماعة منهم مقاتل .

    والثاني: أن الآيتين محكمتان متفقتان في المعنى، لأنه لم يقل في هذه الآية: نؤته مراده، فعلم أنه إنما يؤتيه الله ما أراد، وهذا موافق لقوله: "لمن نريد"، ويحقق هذا أن لفظ الآيتين لفظ الخبر ومعناهما معنى الخبر، وذلك لا يدخله النسخ، وهذا مذهب جماعة منهم قتادة .
    أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم . ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير . ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور . أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور .

    قوله تعالى: أم لهم شركاء يعني كفار مكة; والمعنى: ألهم آلهة شرعوا أي: ابتدعوا لهم دينا لم يأذن به الله؟! ولولا كلمة الفصل [ ص: 283 ] وهي: القضاء السابق بأن الجزاء يكون في القيامة لقضي بينهم في الدنيا بنزول العذاب على المكذبين . والظالمون في هذه الآية والتي تليها: يراد بهم المشركون . والإشفاق: الخوف . والذي كسبوا: هو الكفر والتكذيب، وهو واقع بهم يعني جزاءه . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: ذلك يعني: ما تقدم ذكره من الجنات الذي يبشر الله عباده قال أبو سليمان الدمشقي: "ذلك" بمعنى: هذا الذي أخبرتكم به بشرى يبشر الله بها عباده . وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: "يبشر" بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين .

    قوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن المشركين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني: أنه لما قدم المدينة كانت تنوبه نوائب وليس في يده سعة، فقال الأنصار: إن هذا الرجل قد هداكم الله به، وليس في يده سعة، فاجمعوا له من أموالكم مالا يضركم، ففعلوا ثم أتوه به، فنزلت هذه الآية، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا .

    والثالث: أن المشركين اجتمعوا في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة .

    [ ص: 284 ] والهاء في "عليه" كناية عما جاء به من الهدى .

    وفي الاستثناء هاهنا قولان .

    أحدهما: أنه من الجنس، فعلى هذا يكون سائلا أجرا . وقد أشار ابن عباس في رواية الضحاك إلى هذا المعنى، ثم قال: نسخت هذه بقوله: قل ما سألتكم من أجر فهو لكم . . . [الآية] [سبأ: 47]، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل .

    والثاني: أنه استثناء من غير الأول، لأن الأنبياء لا يسألون على تبليغهم أجرا; وإنما المعنى: لكني أذكركم المودة في القربى، وقد روى هذا المعنى جماعة عن ابن عباس، منهم العوفي، وهذا اختيار المحققين، وهو الصحيح، فلا يتوجه النسخ أصلا .

    وفي المراد بالقربى خمسة أقوال .

    أحدها: أن معنى الكلام: إلا أن تودوني لقرابتي منكم، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد في الأكثرين . قال ابن عباس: ولم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة .

    والثاني: إلا [أن] تودوا قرابتي، قاله علي بن الحسين، وسعيد بن جبير، والسدي . ثم في المراد بقرابته قولان . أحدهما: علي وفاطمة وولدها، وقد رووه [ ص: 285 ] مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . والثاني: أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة ويقسم فيهم الخمس، وهم بنو هاشم وبنو المطلب .

    والثالث: أن المعنى: إلا أن توددوا إلى الله تعالى فيما يقربكم إليه من العمل الصالح، قاله الحسن، وقتادة .

    والرابع: إلا أن تودوني، كما تودون قرابتكم، قاله ابن زيد .

    والخامس: إلا أن تودوا قرابتكم وتصلوا أرحامكم، حكاه الماوردي . والأول: أصح .

    قوله تعالى: ومن يقترف أي: من يكتسب حسنة نزد له فيها حسنا أي: نضاعفها بالواحدة عشرا فصاعدا . وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري : "يزد له" بالياء إن الله غفور للذنوب شكور للقليل حتى يضاعفه .

    أم يقولون أي: بل يقول كفار مكة افترى على الله كذبا حين زعم أن القرآن من عند الله! فإن يشأ الله يختم على قلبك فيه قولان .

    [ ص: 286 ] أحدهما: يختم على قلبك فينسيك القرآن، قاله قتادة .

    والثاني: يربط على قلبك بالصبر على أذاهم فلا يشق عليك قولهم: إنك مفتر، قاله مقاتل، والزجاج .

    قوله تعالى: ويمح الله الباطل قال الفراء: ليس بمردود على "يختم" فيكون جزما، وإنما هو مستأنف، ومثله مما حذفت منه الواو ويدع الإنسان بالشر [الإسراء: 11] . وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير . تقديره: والله يمحو الباطل . وقال الزجاج : الوقف عليها "ويمحوا" بواو وألف; والمعنى: والله يمحو الباطل على كل حال، غير أنها كتبت في المصاحف بغير واو، لأن الواو تسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين، فكتبت على الوصل، ولفظ الواو ثابت; والمعنى: ويمحو الله الشرك ويحق الحق بما أنزله من كتابه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم .
    وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون . ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد . ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير .

    قوله تعالى: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده قد ذكرناه في [براءة: 104] .

    قوله تعالى: ويعلم ما تفعلون أي: من خير وشر . قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بالتاء، وقرأ الباقون: بالياء، على الإخبار عن المشركين والتهديد لهم .

    و "يستجيب" بمعنى يجيب . وفيه قولان .

    [ ص: 287 ] أحدهما: أن الفعل فيه لله، والمعنى: يجيبهم إذا سألوه; وقد روى قتادة عن أبي إبراهيم اللخمي ويستجيب الذين آمنوا قال: يشفعون في إخوانهم، ويزيدهم من فضله قال: يشفعون في إخوان إخوانهم .

    والثاني: أنه للمؤمنين; فالمعنى: يجيبونه . والأول أصح .

    قوله تعالى: ولو بسط الله الرزق لعباده قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير فتمنيناها، فنزلت هذه الآية . ومعنى الآية: لو أوسع الله الرزق لعباده لبطروا وعصوا وبغى بعضهم على بعض، ولكن ينزل بقدر ما يشاء أي: ينزل أمره بتقدير ما يشاء مما يصلح أمورهم ولا يطغيهم إنه بعباده خبير بصير فمنهم من لا يصلحه إلا الغنى، ومنهم من لا يصلحه إلا الفقر .
    [ ص: 288 ] وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد . ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير . وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير .

    وهو الذي ينزل الغيث يعني المطر وقت الحاجة من بعد ما قنطوا أي: يئسوا، وذلك أدعى لهم إلى شكر منزله وينشر رحمته في الرحمة هاهنا قولان . أحدهما: المطر، قاله مقاتل . والثاني: الشمس بعد المطر، حكاه أبو سليمان الدمشقي . وقد ذكرنا "الولي" في سورة [النساء: 45] و "الحميد" في [البقرة: 267] .

    قوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة وهو ما يلحق المؤمن من مكروه فبما كسبت أيديكم من المعاصي . وقرأ نافع، وابن عامر: "بما كسبت أيديكم" بغير فاء، وكذلك [هي] في مصاحف أهل المدينة والشام ويعفو عن كثير من السيئات فلا يعاقب بها . وقيل لأبي سليمان الداراني: ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم؟ قال: إنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم، وقرأ هذه الآية .

    قوله تعالى: وما أنتم بمعجزين في الأرض إن أراد الله عقوبتكم ،وهذا يدخل فيه الكفار والعصاة كلهم .
    ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام . إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل [ ص: 289 ] صبار شكور . أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير . ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص . فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون .

    قوله تعالى: ومن آياته الجوار في البحر والمراد بالجوار: السفن . قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : "الجواري" بياء في الوصل، إلا أن ابن كثير يقف أيضا بياء، وأبو عمرو بغير ياء، ويعقوب يوافق ابن كثير، والباقون بغير ياء في الوصل والوقف; قال أبو علي: والقياس ما ذهب إليه ابن كثير، ومن حذف، فقد كثر حذف مثل هذا في كلامهم .

    كالأعلام قال ابن قتيبة : كالجبال، واحدها: علم . وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال: كل شيء مرتفع -عند العرب- فهو علم .

    قوله تعالى: إن يشأ يسكن الريح التي تجريها فيظللن يعني الجواري رواكد على ظهره أي: سواكن على ظهر البحر [لا يجرين] .

    أو يوبقهن أي: يهلكهن ويغرقهن، والمراد أهل السفن، ولذلك قال: بما كسبوا أي: من الذنوب ويعف عن كثير من ذنوبهم، فينجيهم من الهلاك .

    ويعلم الذين يجادلون قرأ نافع، وابن عامر: "ويعلم" بالرفع على الاستئناف وقطعه من الأول; وقرأ الباقون بالنصب . قال الفراء: هو مردود على الجزم، إلا أنه صرف، والجزم إذا صرف عنه معطوفه نصب .

    وللمفسرين في معنى الآية قولان .

    [ ص: 290 ] أحدهما: ويعلم الذين يخاصمون في آيات الله حين يؤخذون بالغرق أنه لا ملجأ لهم .

    والثاني: أنهم يعلمون بعد البعث أنه لا مهرب لهم من العذاب .

    قوله تعالى: فما أوتيتم من شيء أي: ما أعطيتم من الدنيا فهو متاع تتمتعون به، ثم يزول سريعا، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا لا للكافرين، لأنه إنما أعد لهم في الآخرة العذاب .
    والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون . والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة . وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون . والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون . وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين . ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل . إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم . ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور .

    قوله تعالى: والذين يجتنبون كبائر الإثم وقرأ حمزة، والكسائي: "كبير الإثم" على التوحيد من غير ألف، والباقون بألف . وقد شرحنا الكبائر في سورة [النساء: 31] . وفي المراد بالفواحش هاهنا قولان . أحدهما: الزنا . والثاني: موجبات الحدود .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #484
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الشورى
    الحلقة (484)
    صــ 291 إلى صــ 300







    قوله تعالى: وإذا ما غضبوا هم يغفرون أي: يعفون عمن ظلمهم [ ص: 291 ] طلبا لثواب الله تعالى .

    والذين استجابوا لربهم أي: أجابوه فيما دعاهم إليه .

    وأمرهم شورى بينهم قال ابن قتيبة : أي: يتشاورون فيه [بينهم] . وقال الزجاج : المعنى أنهم لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه .

    قوله تعالى: والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون اختلفوا في [هذا] البغي على ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه بغي الكفار على المسلمين . قال عطاء: هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم، ثم مكنهم الله منهم فانتصروا . وقال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين بمكة، فرقة كانت تؤذى فتعفو عن المشركين، وفرقة كانت تؤذى فتنتصر، فأثنى الله عز وجل عليهم جميعا، فقال في الذين لم ينتصروا: وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، وقال في المنتصرين: والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون أي: من المشركين . وقال ابن زيد: ذكر المهاجرين، وكانوا صنفين، صنفا عفا، و صنفا انتصر، فقال: "وإذا ما غضبوا هم يغفرون"، فبدأ بهم، وقال في المنتصرين: "والذين إذا أصابهم [ ص: 292 ] البغي هم ينتصرون" أي: من المشركين; وقال: "والذين استجابوا لربهم: إلى قوله: "ينفقون" وهم الأنصار; ثم ذكر الصنف الثالث فقال: "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون" من المشركين .

    والثاني: أنه بغي المسلمين على المسلمين خاصة .

    والثالث: أنه عام في جميع البغاة، سواء كانوا مسلمين أو كافرين .

    فصل

    واختلف في هذه الآية علماء الناسخ والمنسوخ، فذهب بعض القائلين بأنها في المشركين إلى أنها منسوخة بآية السيف، فكأنهم يشيرون إلى أنها أثبتت الانتصار بعد بغي المشركين، فلما جاز لنا أن نبدأهم بالقتال، دل على أنها منسوخة . وللقائلين بأنها في المسلمين قولان .

    أحدهما: أنها منسوخة بقوله: ولمن صبر وغفر [الشورى: 43] فكأنها نبهت على مدح المنتصر، ثم أعلمنا أن الصبر والغفران أمدح، فبان وجه النسخ .

    والثاني: أنها محكمة، لأن الصبر والغفران فضيلة، والانتصار مباح، فعلى هذا تكون محكمة، [وهو الأصح] .

    فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية -وظاهرها مدح المنتصر- وبين آيات الحث على العفو؟ فعنه ثلاثة أجوبة .

    أحدها: أنه انتصار المسلمين من الكافرين، وتلك رتبة الجهاد كما ذكرنا عن عطاء .

    [ ص: 293 ] والثاني: أن المنتصر لم يخرج عن فعل أبيح له، وإن كان العفو أفضل، ومن لم يخرج من الشرع بفعله، حسن مدحه . قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين، صنف يعفو، فبدأ بذكره، وصنف ينتصر .

    والثالث: أنه إذا بغى على المؤمن فاسق، فلأن له اجتراء الفساق عليه، وليس للمؤمن أن يذل نفسه، فينبغي له أن يكسر شوكة العصاة لتكون العزة لأهل الدين . قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق، فإذا قدروا عفوا . وقال القاضي أبو يعلى: هذه الآية محمولة على من تعدى وأصر على ذلك، وآيات العفو محمولة على أن يكون الجاني نادما .

    قوله تعالى: وجزاء سيئة سيئة مثلها قال مجاهد والسدي: هو جواب القبيح، إذا قال له كلمة إجابة بمثلها من غير أن يعتدي . وقال مقاتل: هذا في القصاص في الجراحات والدماء .

    فمن عفا فلم يقتص وأصلح العمل فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين يعني من بدأ بالظلم . وإنما سمى المجازاة سيئة، لما بينا عند قوله: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه [البقرة: 194] . قال الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم من كان أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا .

    ولمن انتصر بعد ظلمه أي: بعد ظلم الظالم إياه; والمصدر هاهنا مضاف إلى المفعول، ونظيره: من دعاء الخير [فصلت: 49] و بسؤال نعجتك [ص: 24]، فأولئك يعني المنتصرين ما عليهم من سبيل أي: من طريق إلى لوم ولا حد، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس أي: يبتدؤون بالظلم ويبغون في الأرض بغير الحق أي: يعملون فيها بالمعاصي .

    [ ص: 294 ] قوله تعالى: ولمن صبر فلم ينتصر وغفر إن ذلك الصبر والتجاوز لمن عزم الأمور وقد شرحناه في [آل عمران: 186] .
    ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل . وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم . وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل .

    قوله تعالى: ومن يضلل الله فما له من ولي أي: من أحد يلي هدايته بعد إضلال الله إياه .

    وترى الظالمين يعني المشركين لما رأوا العذاب في الآخرة يسألون الرجعة إلى الدنيا يقولون هل إلى مرد من سبيل ؟

    وتراهم يعرضون عليها أي: على النار خاشعين أي: خاضعين متواضعين من الذل ينظرون من طرف خفي وفيه أربعة أقوال .

    أحدها: من طرف ذليل، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد . وقال الأخفش: ينظرون من عين ضعيفة . وقال غيره: "من" بمعنى "الباء" .

    والثاني: يسارقون النظر، قاله قتادة ، والسدي .

    والثالث: ينظرون ببعض العين، قاله أبو عبيدة .

    والرابع: أنهم ينظرون إلى النار بقلوبهم، لأنهم قد حشروا عميا، فلم يروها بأعينهم، حكاه الفراء، والزجاج . وما بعد هذا قد سبق بيانه [الأنعام: 12، هود: 39] إلى قوله: ينصرونهم من دون الله أي: يمنعونهم من عذاب الله .
    [ ص: 295 ] استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير . فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور . لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور . أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير .

    قوله تعالى: استجيبوا لربكم أي: أجيبوه، فقد دعاكم برسوله من قبل أن يأتي يوم وهو يوم القيامة لا مرد له من الله أي: لا يقدر أحد على رده ودفعه ما لكم من ملجإ تلجؤون إليه، وما لكم من نكير قال مجاهد: من ناصر ينصركم . وقال غيره: من قدرة على تغيير ما نزل بكم .

    فإن أعرضوا عن الإجابة فما أرسلناك عليهم حفيظا لحفظ أعمالهم إن عليك إلا البلاغ أي: ما عليك إلا أن تبلغهم . وهذا عند المفسرين منسوخ بآية السيف .

    قوله تعالى: وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها قال المفسرون: [ ص: 296 ] المراد به: الكافر; والرحمة; الغنى والصحة والمطر ونحو ذلك، والسيئة: المرض والفقر والقحط [ونحو ذلك] . والإنسان هاهنا: اسم جنس، فلذلك قال: وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم أي: بما سلف من مخالفتهم فإن الإنسان كفور بما سلف من النعم .

    لله ملك السماوات والأرض أي: له التصرف فيها بما يريد، يهب لمن يشاء إناثا يعني البنات ليس فيهن ذكر، كما وهب للوط صلى الله عليه وسلم، فلم يولد له إلا البنات ويهب لمن يشاء الذكور يعني البنين ليس معهم أنثى، كما وهب لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، [فلم يولد له إلا الذكور] .

    أو يزوجهم يعني الإناث والذكور . قال الزجاج : ومعنى "يزوجهم": يقرنهم . وكل شيئين يقترن أحدهما بالآخر، فهما زوجان، ويقال لكل واحد منهما: زوج، تقول: عندي زوجان من الخفاف، يعني اثنين .

    وفي معنى الكلام للمفسرين قولان . أحدهما: أنه وضع المرأة غلاما ثم جارية ثم غلاما ثم جارية، قاله مجاهد، والجمهور . والثاني: [أنه] وضع المرأة جارية وغلاما توأمين، قاله ابن الحنفية . قالوا: وذلك كما جمع لمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنه وهب له بنين وبنات، ويجعل من يشاء عقيما لا يولد له، كيحيى بن زكريا عليهما السلام . وهذه الأقسام موجودة في سائر الناس، وإنما ذكروا الأنبياء تمثيلا .
    وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم . وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [ ص: 297 ] وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور .

    قوله تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا قال المفسرون: سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا صادقا كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال لهم: "لم ينظر موسى إلى الله"، ونزلت هذه الآية . والمراد بالوحي هاهنا: الوحي في المنام .

    أو من وراء حجاب كما كلم موسى .

    أو يرسل قرأ نافع، وابن عامر: "يرسل" بالرفع فيوحي بسكون الياء . وقرأ الباقون: "يرسل" بنصب اللام "فيوحي" بتحريك الياء، والمعنى: "أو يرسل رسولا" كجبرائيل "فيوحي" ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذنه ما يشاء . قال مكي بن أبي طالب: من قرأ "أو يرسل" بالنصب، عطفه على معنى قوله: "إلا وحيا" لأنه بمعنى: إلا أن يوحي . [ ص: 298 ] ومن قرأ بالرفع، فعلى الابتداء، كأنه قال، أو هو يرسل . قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية محمولة على أنه لا يكلم بشرا إلا من وراء حجاب في دار الدنيا .

    قوله تعالى: وكذلك أي: وكما أوحينا إلى الرسل أوحينا إليك ، وقيل: الواو عطف على أول السورة، فالمعنى: كذلك نوحي إليك وإلى الذين من قبلك .

    "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا" قال ابن عباس: هو القرآن . وقال مقاتل: وحيا بأمرنا .

    قوله تعالى: ما كنت تدري ما الكتاب وذلك أنه لم يكن يعرف القرآن قبل الوحي ولا الإيمان فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه بمعنى الدعوة إلى الإيمان، قاله أبو العالية .

    والثاني: أن المراد به: شرائع الإيمان ومعالمه، وهي كلها إيمان; وقد سمى الصلاة إيمانا بقوله: وما كان الله ليضيع إيمانكم [البقرة: 143]، هذا اختيار ابن قتيبة، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة .

    والثالث: أنه ما كان يعرف الإيمان حين كان في المهد وإذ كان طفلا قبل البلوغ، حكاه الواحدي . والقول ما اختاره ابن قتيبة ، وابن خزيمة، وقد اشتهر في الحديث عنه عليه السلام أنه كان قبل النبوة يوحد الله، ويبغض اللات والعزى، ويحج ويعتمر، ويتبع شريعة إبراهيم عليه السلام . قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه، فهو قول سوء: أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟ وقال ابن قتيبة : قد جاء في الحديث [ ص: 299 ] أنه كان على دين قومه أربعين سنة . ومعناه: أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إسماعيل، من ذلك حج البيت، والختان، وإيقاع الطلاق إذا كان ثلاثا، وأن للزوج الرجعة في الواحدة والاثنتين، ودية النفس مائة من الإبل، والغسل من الجنابة، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر . وكان عليه الصلاة والسلام على ما كانوا عليه من الإيمان بالله والعمل بشرائعهم في الختان والغسل والحج، وكان لا يقرب الأوثان، ويعيبها . وكان لا يعرف شرائع الله التي شرعها لعباده على لسانه، فذلك قوله: "ما كنت تدري ما الكتاب" [يعني القرآن] "ولا الإيمان" يعني شرائع الإيمان; ولم يرد الإيمان الذي هو الإقرار بالله، لأن آباءه الذين ماتوا على الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون له [البيت] مع شركهم .

    قوله تعالى: ولكن جعلناه في هاء الكناية قولان . أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن . والثاني: إلى الإيمان .

    نورا أي: ضياء ودليلا على التوحيد نهدي به من نشاء [من عبادنا] إلى دين الحق .

    [ ص: 300 ] وإنك لتهدي أي: لتدعو إلى صراط مستقيم وهو الإسلام .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #485
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الزُّخْرُفِ
    الحلقة (485)
    صــ 301 إلى صــ 310






    [ ص: 301 ] سُورَةُ الزُّخْرُفِ

    هِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ

    وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ مَكِّيَّةٌ، إِلَّا آيَةً، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا [الزُّخْرُفِ: 45] .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ . أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ . وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ . وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ . فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ . وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمُ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .

    [ ص: 302 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: حم قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ [الْمُؤْمِنِ] .

    وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ قَسَمٌ بِالْقُرْآنِ .

    إِنَّا جَعَلْنَاهُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنْزَلْنَاهُ . وَمَا بَعْدَ هَذَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ [النِّسَاءِ: 82، يُوسُفَ: 2] إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ يَعْنِي الْقُرْآنَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ قَالَ الزَّجَّاجُ : أَيْ: فِي أَصْلِ الْكِتَابِ، وَأَصْلُ كُلِّ شَيْءٍ: أُمُّهُ، وَالْقُرْآنُ مُثْبَتٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: لَدَيْنَا أَيْ: عِنْدَنَا لَعَلِيٌّ أَيْ: رَفِيعٌ .

    وَفِي مَعْنَى الْحَكِيمِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: مُحْكَمٌ، أَيْ: مَمْنُوعٌ مِنَ الْبَاطِلِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: حَاكِمٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِالْجَنَّةِ وَلِأَهْلِ الْكُفْرِ بِالنَّارِ، ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَالْمَعْنَى: إِنْ كَذَّبْتُمْ بِهِ يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّهُ عِنْدَنَا شَرِيفٌ عَظِيمُ الْمَحَلِّ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : أَيْ: نُمْسِكُ عَنْكُمْ فَلَا نَذْكُرُكُمْ صَفْحًا، أَيْ: إِعْرَاضًا، يُقَالُ: صَفَحْتُ عَنْ فُلَانٍ: إِذَا أَعْرَضْتُ عَنْهُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ تُوَلِّيَهُ صَفْحَةَ عُنُقِكَ، قَالَ كُثَيِّرٌ يَصِفُ امْرَأَةً:



    صَفُوحًا فَمَا تَلْقَاكَ إِلَّا بَخِيلَةً فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الْوَصْلَ مَلَّتِ


    أَيْ: مُعْرِضَةً بِوَجْهِهَا، يُقَالُ; ضَرَبْتُ عَنْ فُلَانٍ كَذَا: إِذَا أَمْسَكْتَهُ وَأَضْرَبْتَ عَنْهُ . أَنْ كُنْتُمْ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ: "أَنْ كُنْتُمْ" بِالنَّصْبِ، أَيْ: لِأَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ . وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، [ ص: 303 ] وَالْكِسَائِيُّ : "إِنْ كُنْتُمْ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ . قَالَ الزَّجَّاجُ : وَهَذَا عَلَى مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ ، أَيْ: إِنْ تَكُونُوا مُسْرِفِينَ نَضْرِبْ عَنْكُمُ الذِّكْرَ .

    وَفِي الْمُرَادِ بِالذِّكْرِ قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذِكْرُ الْعَذَابِ، فَالْمَعْنَى: أَفَنُمْسِكُ عَنْ عَذَابِكُمْ وَنَتْرُكُكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ؟! وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ .

    وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْقُرْآنُ، فَالْمَعْنَى: أَفَنُمْسِكُ عَنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِهِ؟! وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ، وَابْنِ زَيْدٍ .

    وَقَالَ قَتَادَةُ: "مُسْرِفِينَ" بِمَعْنَى مُشْرِكِينَ .

    ثُمَّ أَعَلَمَ نَبِيَّهُ أَنِّي قَدْ بَعَثْتُ رُسُلًا فَكُذِّبُوا فَأَهْلَكْتُ الْمُكَذِّبِينَ بِالْآيَاتِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: أَشَدَّ مِنْهُمْ أَيْ: مِنْ قُرَيْشٍ بَطْشًا أَيْ: قُوَّةً وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ أَيْ: سَبَقَ وَصْفُ عِقَابِهِمْ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ . وَقِيلَ: سَبَقَ تَشْبِيهُ حَالِ أُولَئِكَ بِهَؤُلَاءِ فِي التَّكْذِيبِ، فَسَتَقَعُ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَهُمْ فِي الْإِهْلَاكِ .

    ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ جَهْلِهِمْ حِينَ أَقَرُّوا بِأَنَّهُ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ عَبَدُوا غَيْرَهُ بِالْآيَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ; ثُمَّ الَّتِي تَلِيهَا مُفَسَّرَةٌ فِي [طَه: 53] إِلَى قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أَيْ: لِكَيْ تَهْتَدُوا فِي أَسْفَارِكُمْ إِلَى مَقَاصِدِكُمْ .
    والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون . والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين . وإنا إلى ربنا لمنقلبون .

    [ ص: 304 ] قوله تعالى: والذي نزل من السماء ماء بقدر قال ابن عباس: يريد أنه ليس كما أنزل على قوم نوح بغير قدر فأغرقهم، بل هو بقدر ليكون نافعا . ومعنى "أنشرنا": أحيينا .

    قوله تعالى: كذلك تخرجون قرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر: "تخرجون" بفتح التاء وضم الراء; والباقون بضم التاء وفتح الراء . وما بعد هذا قد سبق [يس: 36، 42] إلى قوله تعالى: لتستووا على ظهوره قال أبو عبيدة: هاء التذكير لـ "ما" .

    ثم تذكروا نعمة ربكم إذ سخر لكم ذلك المركب في البر والبحر، وما كنا له مقرنين قال ابن عباس ومجاهد: أي: مطيقين، قال ابن قتيبة : يقال: أنا مقرن لك، أي: مطيق لك، ويقال: هو من قولهم: أنا قرن لفلان: إذا كنت مثله في الشدة، فإن قلت: أنا قرن لفلان -بفتح القاف- فمعناه: أن تكون مثله بالسن . وقال أبو عبيدة: "مقرنين" أي: ضابطين، يقال: فلان مقرن لفلان، أي: ضابط له .

    قوله تعالى: وإنا إلى ربنا لمنقلبون أي: راجعون في الآخرة .
    [ ص: 305 ] وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين . أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين . وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم . أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين .

    قوله تعالى: وجعلوا له من عباده جزءا أما الجعل هاهنا، فمعناه: الحكم بالشيء، وهم الذين زعموا أن الملائكة بنات الله; والمعنى: جعلوا له نصيبا من الولد، قال الزجاج : وأنشدني بعض أهل اللغة بيتا يدل على أن معنى "جزء" معنى الإناث -ولا أدري البيت قديم أو مصنوع-:



    إن أجزأت حرة، يوما، فلا عجب قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا


    أي: آنثت، ولدت أنثى .

    قوله تعالى: إن الإنسان يعني الكافر لكفور أي: جحود لنعم الله عز وجل مبين أي: ظاهر الكفر .

    ثم أنكر عليهم فقال: أم اتخذ مما يخلق بنات وهذا استفهام توبيخ وإنكار وأصفاكم أي: أخلصكم بالبنين .

    وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا أي: بما جعل لله شبها، وذلك أن ولد كل شيء شبهه وجنسه . والآية مفسرة في [النحل: 58] .

    [ ص: 306 ] قوله تعالى: أومن ينشأ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: "ينشأ" بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين; وقرأ الباقون: بفتح الياء وسكون النون . قال المبرد: تقديره: أو يجعلون من ينشأ في الحلية . قال أبو عبيدة: الحلية: الحلى .

    قال المفسرون: والمراد بذلك: البنات، فإنهن ربين في الحلي . والخصام بمعنى المخاصمة، غير مبين حجة . قال قتادة: قلما تتكلم امرأة بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها .

    وقال بعضهم: هي الأصنام .
    وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون . وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون . أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون . بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون . وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون . قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون . فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين .

    قوله تعالى: وجعلوا الملائكة قال الزجاج : الجعل هاهنا بمعنى القول والحكم على الشيء، تقول: قد جعلت زيدا أعلم الناس، أي: قد وصفته بذلك وحكمت به . قال المفسرون: وجعلهم الملائكة إناثا قولهم: هن بنات الله .

    [ ص: 307 ] قوله تعالى: الذين هم عباد الرحمن قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، ويعقوب، وأبان عن عاصم، والشيزري عن الكسائي: "عند الرحمن" بنون من غير ألف وقرأ الباقون: "عباد الرحمن"، ومعنى هذه القراءة: جعلوا له من عباده بنات . والقراءة الأولى موافقة لقوله: إن الذين عند ربك [الأعراف: 206]، وإذا كانوا في السماء كان أبعد للعلم بحالهم . أشهدوا خلقهم؟ قرأ نافع، والمفضل عن عاصم: "أأشهدوا" بهمزتين، الأولى مفتوحة والثانية مضمومة . وروى المسيبي عن نافع: "أو شهدوا" ممدودة من أشهدت، والباقون لا يمدون .

    "أشهدوا" من شهدت، أي: أحضروه فعرفوا أنهم إناث؟! وهذا توبيخ لهم إذ قالوا فيما يعلم بالمشاهدة من غير مشاهدة . ستكتب شهادتهم على الملائكة أنها بنات الله وقال مقاتل: لما قال الله عز وجل: "أشهدوا خلقهم؟"، سئلوا عن ذلك فقالوا: [لا]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فما يدريكم أنها إناث؟" فقالوا: سمعنا من آبائنا، ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا، فقال الله: ستكتب شهادتهم ويسألون عنها في الآخرة . وقرأ أبو رزين، ومجاهد: "سنكتب" بنون مفتوحة "شهادتهم" بنصب التاء، ووافقهم ابن أبي عبلة في "سنكتب" وقرأ: "شهاداتهم" بألف .

    قوله تعالى: وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم في المكني عنهم قولان . أحدهما: أنهم الملائكة، قاله قتادة ، ومقاتل في آخرين . والثاني: الأوثان، قاله مجاهد . وإنما عنوا بهذا أنه لو لم يرض عبادتنا لها لعجل عقوبتنا، فرد عليهم قولهم بقوله: ما لهم بذلك من علم . وبعض المفسرين يقول: إنما أشار بقوله: [ ص: 308 ] "ما لهم بذلك من علم" إلى ادعائهم أن الملائكة إناث; قال: ولم يتعرض لقولهم: "لو شاء الرحمن ما عبدناهم" لأنه قول صحيح; والذي اعتمدنا عليه أصح، لأن هذه الآية كقوله: لو شاء الله ما أشركنا [الأنعام: 148]، وقوله: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه [يس: 470] وقد كشفنا عن هذا المعنى هنالك . و "يخرصون" بمعنى: يكذبون . وإنما كذبهم، لأنهم اعتقدوا أنه رضي منهم الكفر دينا .

    أم آتيناهم كتابا من قبله أي: من قبل هذا القرآن، أي: بأن يعبدوا غير الله فهم به مستمسكون يأخذون بما فيه .

    بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة أي: على سنة وملة ودين وإنا على آثارهم مهتدون فجعلوا أنفسهم مهتدين بمجرد تقليد الآباء من غير حجة; ثم أخبر أن غيرهم قد قال هذا القول، فقال: وكذلك أي: وكما قالوا قال مترفو القرى من قبلهم، وإنا على آثارهم مقتدون بهم .

    ( قل أولو جئتكم ) وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: "قال أولو جئتكم" [بألف] . قال أبو علي: فاعل "قال" النذير، المعنى: فقال لهم النذير . وقرأ أبو جعفر: "أولو جئناكم" بألف ونون بأهدى أي: بأصوب وأرشد .

    [ ص: 309 ] قال الزجاج : ومعنى الكلام: قل: أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جئتكم بأهدى منه؟! وفي هذه الآية إبطال القول بالتقليد . قال مقاتل: فردوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون ; ثم رجع إلى الأمم الخالية، فقال: فانتقمنا منهم . . . الآية .
    وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون . إلا الذي فطرني فإنه سيهدين . وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون . بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين . ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون .

    قوله تعالى: إنني براء قال الزجاج : البراء بمعنى البريء، والعرب تقول للواحد: أنا البراء منك، وكذلك للاثنين والجماعة، وللذكر والأنثى، يقولون: نحن البراء منك والخلاء منك، لا يقولون: نحن البراءان منك، ولا البراءون منك، وإنما المعنى: أنا ذو البراء منك، ونحن ذوو البراء منك، [ ص: 310 ] كما يقال: رجل عدل، وامرأة عدل . وقد بينا استثناء إبراهيم ربه عز وجل مما يعبدون عند قوله: إلا رب العالمين [الشعراء: 77] .

    قوله تعالى: وجعلها يعني كلمة التوحيد، وهي "لا إله إلا الله" كلمة باقية في عقبه أي: فيمن يأتي بعده من ولده، فلا يزال فيهم موحد لعلهم يرجعون إلى التوحيد كلهم إذا سمعوا أن أباهم تبرأ من الأصنام ووحد الله عز وجل .

    ثم ذكر نعمته على قريش فقال: بل متعت هؤلاء وآباءهم والمعنى: إني أجزلت لهم النعم ولم أعاجلهم بالعقوبة حتى جاءهم الحق وهو القرآن ورسول مبين وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فكان ينبغي لهم أن يقابلوا النعم بالطاعة للرسول، فخالفوا .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #486
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الزُّخْرُفِ
    الحلقة (486)
    صــ 311 إلى صــ 320




    ولما جاءهم يعني قريشا في قول الأكثرين . وقال قتادة: هم اليهود . والحق القرآن .
    وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون . [ ص: 311 ] ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون . وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين .

    قوله تعالى: وقالوا لولا أي: هلا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أما القريتان، فمكة والطائف، قاله ابن عباس، والجماعة; وأما عظيم مكة، ففيه قولان .

    أحدهما: الوليد بن المغيرة القرشي، رواه العوفي وغيره عن ابن عباس، [وبه قال قتادة، والسدي] .

    والثاني: عتبة بن ربيعة، قاله مجاهد .

    وفي عظيم الطائف خمسة أقوال .

    أحدها: حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثاني: مسعود بن عمرو بن عبيد الله، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والثالث: أنه أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي، رواه ليث عن مجاهد، وبه قال قتادة .

    والرابع: [أنه] ابن عبد ياليل، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .

    والخامس: كنانة بن عبد [بن] عمرو بن عمير الطائفي، قاله السدي .

    [ ص: 312 ] فقال الله عز وجل ردا عليهم وإنكارا: أهم يقسمون رحمت ربك يعني النبوة، فيضعونها حيث شاؤوا، لأنهم اعترضوا على الله بما قالوا .

    نحن قسمنا بينهم معيشتهم المعنى أنه إذا كانت الأرزاق بقدر الله، لا بحول المحتال -وهو دون النبوة- فكيف تكون النبوة؟! قال قتادة: إنك لتلقى ضعيف الحيلة عيي اللسان قد بسط له الرزق، وتلقى شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتور عليه .

    قوله تعالى: ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات فيه قولان: أحدهما: بالغنى والفقر . والثاني: بالحرية والرق ليتخذ بعضهم بعضا سخريا وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن: "سخريا" بكسر السين . ثم فيه قولان .

    أحدهما: يستخدم الأغنياء الفقراء بأموالهم، فيلتئم قوام العالم، وهذا على القول الأول .

    والثاني: ليملك بعضهم بعضا بالأموال فيتخذونهم عبيدا، وهذا على الثاني .

    [ ص: 313 ] قوله تعالى: ورحمت ربك فيها قولان . أحدهما: النبوة خير من أموالهم التي يجمعونها، قاله ابن عباس . والثاني: الجنة خير مما يجمعون في الدنيا، قاله السدي .

    قوله تعالى: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة فيه قولان . أحدهما: لولا أن يجتمعوا على الكفر، قاله ابن عباس . والثاني: على إيثار الدنيا على الدين، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة لهوان الدنيا عندنا . قال الفراء: إن شئت جعلت اللام في "لبيوتهم" مكررة، كقوله: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه [البقرة: 217]، وإن شئت جعلتها بمعنى "على"، كأنه قال: جعلنا لهم على بيوتهم، تقول للرجل: جعلت لك لقومك الأعطية، أي: جعلتها من أجلك لهم .

    قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : "سقفا" على التوحيد . وقرأ الباقون: :سقفا" بضم السين والقاف جميعا .

    قال الزجاج : والسقف واحد يدل على الجمع; فالمعنى: جعلنا لبيت كل واحد منهم سقفا من فضة ومعارج وهي الدرج; والمعنى: وجعلنا معارج [ ص: 314 ] من فضة، وكذلك "ولبيوتهم أبوابا" أي: من فضة "وسررا" أي: من فضة .

    قوله تعالى: عليها يظهرون قال ابن قتيبة : أي: يعلون، يقال: ظهرت على البيت: إذا علوت سطحه .

    قوله تعالى: وزخرفا وهو الذهب; والمعنى: ويجعل لهم مع ذلك ذهبا وغنى وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا المعنى: لمتاع الحياة الدنيا، و "ما" زائدة وقرأ عاصم، وحمزة "لما" بالتشديد، فجعلاه بمعنى "إلا"; والمعنى: إن ذلك يتمتع به قليلا ثم يزول والآخرة عند ربك للمتقين خاصة لهم .
    ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين . وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون . حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين . ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب [ ص: 315 ] مشتركون . أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين .

    قوله تعالى: ومن يعش فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: يعرض، قاله الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والفراء، والزجاج .

    والثاني: يعم، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال عطاء، وابن زيد .

    والثالث: أنه البصر الضعيف، حكاه الماوردي . وقال أبوعبيدة: تظلم عينه عنه . وقال الفراء: من قرأ: "يعش"، فمعناه: يعرض، ومن نصب الشين، أراد: يعم عنه; قال ابن قتيبة : لا أرى القول إلا قول أبي عبيدة، ولم نر أحدا يجيز "عشوت عن الشيء": أعرضت عنه، إنما يقال: "تعاشيت عن كذا"، أي: تغافلت عنه، كأني لم أره، ومثله: تعاميت، والعرب تقول: "عشوت إلى النار": إذا استدللت إليها ببصر ضعيف، قال الحطيئة:



    متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد


    ومنه حديث ابن المسيب: "أن إحدى عينيه ذهبت، وهو يعشو بالأخرى"، أي: يبصر بها بصرا ضعيفا .

    قال المفسرون: "ومن يعش عن ذكر الرحمن" فلم يخف عقابه ولم يلتفت إلى كلامه "نقيض له" أي: نسبب له "شيطانا" فنجعل ذلك جزاءه "فهو له قرين" لا يفارقه .

    [ ص: 316 ] وإنهم يعني الشياطين ليصدونهم يعني الكافرين، أي: يمنعونهم عن سبيل الهدى; وإنما جمع، لأن "من" في موضع جمع، ويحسبون يعني كفار بني آدم أنهم على هدى .

    حتى إذا جاءنا وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: "جاءنا" واحد، يعني الكافر . وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: "جاءانا" بألفين على التثنية، يعنون الكافر وشيطانه . وجاء في التفسير أنهما يجعلان يوم البعث في سلسلة، فلا يفترقان حتى يصيرهما الله إلى النار، قال الكافر للشيطان: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين أي: بعد ما بين المشرقين; وفيهما قولان .

    أحدهما: أنهما مشرق الشمس في أقصر يوم في السنة، ومشرقها في أطول يوم، قاله ابن السائب، ومقاتل .

    والثاني: أنه أراد المشرق والمغرب، فغلب ذكر المشرق، كما قالوا: سنة العمرين، يريدون: أبا بكر وعمر، وأنشدوا من ذلك:



    أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع



    يريد: الشمس والقمر; وأنشدوا:



    فبصرة الأزد منا والعراق لنا والموصلان ومنا مصر والحرم



    يريد: الجزيرة والموصل، [وهذا اختيار الفراء، والزجاج] .

    [ ص: 317 ] قوله تعالى: فبئس القرين أي: أنت أيها الشيطان . ويقول الله عز وجل يومئذ للكفار: ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أي: أشركتم في الدنيا أنكم في العذاب مشتركون أي: لن ينفعكم الشركة في العذاب، لأن لكل واحد منه الحظ الأوفر . قال المبرد: منعوا روح التأسي، لأن التأسي يسهل المصيبة، وأنشد للخنساء أخت صخر بن مالك في هذا المعنى



    ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي


    وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي



    وقرأ ابن عامر: "إنكم" بكسر الألف .

    ثم أخبر عنهم بما سبق لهم من الشقاوة بقوله: أفأنت تسمع الصم الآية .
    فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون . أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون . فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم . وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون .

    قوله تعالى: فإما نذهبن بك قال أبو عبيدة: معناها: فإن نذهبن; وقال الزجاج : دخلت "ما" توكيدا للشرط، ودخلت النون الثقيلة في "نذهبن" توكيدا أيضا; والمعنى: إنا ننتقم منهم إن توفيت أو نرينك ما وعدناهم ووعدناك فيهم من النصر . قال ابن عباس: ذلك يوم بدر . وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله: فإما نذهبن بك منسوخ بآية السيف، ولا وجه [له] .

    [ ص: 318 ] قوله تعالى: وإنه يعني القرآن لذكر لك أي: شرف لك بما أعطاك الله ولقومك في قومه ثلاثة أقوال . أحدها: العرب قاطبة . والثاني: قريش . والثالث: جميع من آمن به . وقد روى الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل: لمن هذا الأمر من بعدك؟ لم يخبر بشيء، حتى نزلت هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: "لقريش" . وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من هذا أنه يلي على المسلمين بحكم النبوة وشرف القرآن، وأن قومه يخلفونه من بعده في الولاية لشرف القرآن الذي أنزل على رجل منهم . ومذهب مجاهد أن القوم هاهنا: العرب، والقرآن شرف لهم إذ أنزل بلغتهم . قال ابن قتيبة : إنما وضع الذكر موضع الشرف، لأن الشريف يذكر . وفي قوله: وسوف تسألون قولان . أحدهما: عن شكر ما أعطيتم من ذلك . والثاني: عما لزمكم فيه من الحقوق .
    واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون . ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون [ ص: 319 ] وملئه فقال إني رسول رب العالمين، فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون . وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون . وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون . فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون . ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون . أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين . فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين . فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين . فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين . فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين .

    قوله تعالى: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا إن قيل: كيف يسأل الرسل وقد ماتوا قبله؟ فعنه ثلاثة أجوبة .

    أحدها: أنه لما أسري به جمع له الأنبياء فصلى بهم، ثم قال [له] جبريل: سل من أرسلنا قبلك . . . الآية . فقال: لا أسأل، قد اكتفيت، رواه عطاء عن ابن عباس، وهذا قول سعيد بن جبير، والزهري، وابن زيد; قالوا: جمع له الرسل ليلة أسري به، فلقيهم، وأمر أن يسألهم، فما شك ولا سأل .

    والثاني: أن المراد: [اسأل] مؤمني أهل الكتاب [من] الذين أرسلت إليهم الأنبياء، روي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي في آخرين . قال ابن الأنباري: والمعنى: سل أتباع من أرسلنا قبلك، [ ص: 320 ] كما تقول: السخاء حاتم، أي: سخاء حاتم، والشعر زهير، أي: شعر زهير . وعند المفسرين أنه لم يسأل على القولين . وقال الزجاج : هذا سؤال تقرير، فإذا سأل جميع الأمم، لم يأتوا بأن في كتبهم: أن اعبدوا غيري .

    والثالث: [أن] المراد بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم: خطاب أمته، فيكون المعنى: سلوا، قاله الزجاج . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: إذا هم منها يضحكون استهزاء بها وتكذيبا .

    وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها يعني ما ترادف عليهم من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس، فكانت كل آية أكبر من التي قبلها، وهي العذاب المذكور في قوله: وأخذناهم بالعذاب ، فكانت عذابا لهم، ومعجزات لموسى عليه السلام .

    قوله تعالى: وقالوا يا أيه الساحر في خطابهم له بهذا ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم أرادوا: يا أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيما، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أنهم قالوه على جهة الاستهزاء، قاله الحسن .

    والثالث: أنهم خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: إننا لمهتدون أي: مؤمنون بك . فدعا موسى، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا . وقد ذكرنا ما تركناه هاهنا في [الأعراف: 135] .

    قوله تعالى: تجري من تحتي أي: من تحت قصوري أفلا تبصرون عظمتي وشدة ملكي؟!




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #487
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الزُّخْرُفِ
    الحلقة (487)
    صــ 321 إلى صــ 330






    [ ص: 321 ] أم أنا خير قال أبو عبيدة: أراد بل أنا خير . وحكى الزجاج عن سيبويه والخليل أنهما قالا: عطف "أنا" بـ "أم" على "أفلا تبصرون" [فكأنه قال: أفلا تبصرون] أم أنتم بصراء؟! لأنهم إذا قالوا: أنت خير منه، فقد صاروا عنده بصراء . قال الزجاج : والمهين: القليل; يقال: شيء مهين، أي: قليل . وقال مقاتل: "مهين" بمعنى ذليل ضعيف .

    قوله تعالى: ولا يكاد يبين أشار إلى عقدة لسانه التي كانت به ثم أذهبها الله عنه، فكأنه عيره بشيء قد كان وزال، ويدل على زواله قوله تعالى: قد أوتيت سؤلك يا موسى [طه: 36]، وكان في سؤاله: واحلل عقدة من لساني [طه: 27] . وقال بعض العلماء: ولا يكاد يبين الحجة ولا يأتي ببيان يفهم .

    فلولا أي: فهلا ( ألقي عليه أساورة من ذهب ) وقرأ حفص عن [ ص: 322 ] عاصم: "أسورة" بغير ألف . قال الفراء: واحد الأساورة: إسوار، وقد تكون الأساورة جمع أسورة، كما يقال في جمع الأسقية: الأساقي، وفي جمع الأكرع: الأكارع . وقال الزجاج : يصلح أن تكون الأساورة جمع الجمع، تقول: أسورة وأساورة، كما تقول: أقوال وأقاويل، ويجوز أن تكون جمع إسوار، وإنما صرفت أساورة، لأنك ضممت الهاء إلى أساور، فصار اسما واحدا، وصار له مثال في الواحد، نحو "علانية" .

    قال المفسرون: إنما قال فرعون هذا، لأنهم كانوا إذا سودوا الرجل منهم سوروه بسوار .

    أو جاء معه الملائكة مقترنين فيه قولان . أحدهما: متتابعين، قاله قتادة . والثاني: يمشون معه، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: فاستخف قومه قال الفراء: استفزهم; وقال غيره: استخف أحلامهم وحملهم على خفة الحلم بكيده وغروره فأطاعوه في تكذيب موسى .

    فلما آسفونا قال ابن عباس: أغضبونا . قال ابن قتيبة : الأسف: الغضب، يقال: آسفت آسف أسفا، أي: غضبت .

    فجعلناهم سلفا أي: قوما تقدموا . وقرأها أبو هريرة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وحميد الأعرج: "سلفا" بضم السين وفتح اللام، كأن واحدته سلفة من الناس، مثل القطعة، يقال: تقدمت سلفة من الناس، أي: قطعة منهم . وقرأ حمزة، والكسائي: "سلفا" بضم السين واللام، وهو [ ص: 323 ] جمع "سلف"، كما قالوا: خشب وخشب ، وثمر وثمر ، ويقال: هو جمع "سليف"، وكله من التقدم . وقال الزجاج : "السليف" جمع قد مضى; والمعنى: جعلناهم سلفا متقدمين ليتعظ بهم الآخرون .

    قوله تعالى: ومثلا أي: عبرة [وعظة] .
    ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون . وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون . إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل . ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون . وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم . ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين . ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون . إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم . فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم . هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون .

    قوله تعالى: ولما ضرب ابن مريم مثلا أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزبعرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله: إنكم وما تعبدون من دون الله . . . [الآية] [الأنبياء: 98] . وقد شرحنا القصة في سورة [الأنبياء: 101] . والمشركون هم الذين ضربوا عيسى مثلا لآلهتهم [ ص: 324 ] وشبهوه بها، لأن تلك الآية إنما تضمنت ذكر الأصنام، لأنها عبدت من دون الله، فألزموه عيسى، وضربوه مثلا لأصنامهم، لأنه معبود النصارى . والمراد بقومه: المشركون .

    فأما يصدون فقرأ ابن عامر، ونافع، والكسائي: بضم الصاد، وكسرها الباقون; قال الزجاج : ومعناهما جميعا: يضجون، ويجوز أن يكون معنى المضمومة: يعرضون . وقال أبو عبيدة: من كسر الصاد، فمجازها: يضجون، ومن ضمها، فمجازها: يعدلون .

    قوله تعالى: وقالوا أآلهتنا خير أم هو المعنى: ليست خيرا منه، فإن كان في النار لأنه عبد من دون الله، فقد رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلته .

    ما ضربوه لك إلا جدلا أي: ما ذكروا عيسى إلا ليجادلوك به، لأنهم قد علموا أن المراد بـ "حصب جهنم" ما اتخذوه من الموات بل هم قوم خصمون أي: أصحاب خصومات .

    قوله تعالى: وجعلناه مثلا أي: آية وعبرة لبني إسرائيل يعرفون به قدرة الله على ما يريد، إذ خلقه من غير أب .

    [ ص: 325 ] ثم خاطب كفار مكة، فقال: ولو نشاء لجعلنا منكم فيه قولان .

    أحدهما: أن المعنى: لجعلنا بدلا منكم ملائكة ; ثم في معنى "يخلفون" ثلاثة أقوال . أحدها: يخلف بعضهم بعضا، قاله ابن عباس . والثاني: يخلفونكم ليكونوا بدلا منكم، قاله مجاهد . والثالث: يخلفون الرسل فيكونون رسلا إليكم بدلا منهم، حكاه الماوردي .

    والقول الثاني: أن المعنى: "ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة" أي: قلبنا الخلقة فجعلنا بعضكم ملائكة يخلفون من ذهب منكم، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: وإنه لعلم للساعة في هاء الكناية قولان .

    أحدهما: [أنها] ترجع إلى عيسى عليه السلام . ثم في معنى الكلام قولان . أحدهما: نزول عيسى من أشراط الساعة يعلم به قربها، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي . والثاني: أن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى، قاله ابن إسحاق .

    والقول الثاني: أنها ترجع إلى القرآن، قاله الحسن، وسعيد بن جبير .

    وقرأ الجمهور: "لعلم" بكسر العين وتسكين اللام; وقرأ ابن عباس، وأبو رزين ، وأبو عبد الرحمن، وقتادة، وحميد، وابن محيصن: بفتحهما .

    قال ابن قتيبة : من قرأ بكسر العين، فالمعنى أنه يعلم به قرب الساعة، ومن فتح العين واللام، فإنه بمعنى العلامة والدليل .

    [ ص: 326 ] قوله تعالى: فلا تمترن بها أي: فلا تشكن فيها واتبعون على التوحيد هذا الذي أنا عليه صراط مستقيم .

    ولما جاء عيسى بالبينات قد شرحنا هذا في [البقرة: 87] .

    قال قد جئتكم بالحكمة وفيها قولان . أحدهما: النبوة، قاله عطاء، والسدي . والثاني: الإنجيل، قاله مقاتل .

    ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه [أي]: من أمر دينكم; وقال مجاهد: "بعض الذي تختلفون فيه" من تبديل التوراة; وقال ابن جرير: من أحكام التوراة . وقد ذهب قوم إلى أن البعض هاهنا بمعنى الكل . وقد شرحنا ذلك في [حم المؤمن: 28]; قال الزجاج : والصحيح أن البعض لا يكون في معنى الكل، وإنما بين لهم عيسى بعض الذي اختلفوا فيه مما احتاجوا إليه; وقد قال ابن جرير: كان بينهم اختلاف في أمر دينهم ودنياهم، فبين لهم أمر دينهم فقط . وما بعد هذا قد سبق بيانه [النساء: 175، مريم: 37] إلى قوله: هل ينظرون يعني كفار مكة .
    [ ص: 327 ] الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين . يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون . الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون . يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون . وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون . لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون .

    قوله تعالى: الأخلاء أي: في الدنيا يومئذ أي: في القيامة بعضهم لبعض عدو لأن الخلة إذا كانت في الكفر والمعصية صارت عداوة يوم القيامة; وقال مقاتل: نزلت في أمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط إلا المتقين يعني الموحدين . فإذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ، فيرفع الخلائق رؤوسهم، فيقول: الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ، فينكس الكفار رؤوسهم .

    [ ص: 328 ] قرأ نافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: "يا عبادي" بإثبات الياء في الحالين وإسكانها، وحذفها في الحالين ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وحفص، والمفضل عن عاصم، وخلف .

    وفي أزواجهم قولان . أحدهما: زوجاتهم . والثاني: قرناؤهم .

    وقد سبق معنى تحبرون [الروم: 15] .

    قوله تعالى: يطاف عليهم بصحاف قال الزجاج : واحدها صحفة، وهي القصعة . والأكواب، واحدها: كوب، وهو إناء مستدير لا عروة له; قال الفراء: الكوب: [الكوز] المستدير الرأس الذي لا أذن له، وقال عدي:



    متكئا تصفق أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب


    وقال ابن قتيبة : الأكواب: الأباريق التي لا عرى لها . وقال شيخنا أبو منصور اللغوي: وإنما كانت بغير عرى ليشرب الشارب من أين شاء، لأن العروة ترد الشارب من بعض الجهات .

    قوله تعالى: (30 وفيها ما تشتهي الأنفس ) وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: "تشتهيه" بزيادة هاء . وحذف الهاء كإثباتها في المعنى .

    قوله تعالى: وتلذ الأعين يقال: لذذت الشيء، واستلذذته، والمعنى: ما من شيء اشتهته نفس أو استلذته عين إلا وهو في الجنة، وقد جمع الله تعالى جميع نعيم الجنة في هذين الوصفين، فإنه ما من نعمة إلا وهي نصيب النفس أو العين، وتمام النعيم الخلود، لأنه لو انقطع لم تطب .

    [ ص: 329 ] وتلك الجنة يعني التي ذكرها في قوله: "ادخلوا الجنة" التي أورثتموها قد شرحنا هذا في [الأعراف: 43] عند قوله: أورثتموها .
    إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون . لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون . وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين . ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون . لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون . أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون . أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون . قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين . سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون . فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون .

    قوله تعالى: إن المجرمين يعني الكافرين، لا يفتر أي: لا يخفف عنهم وهم فيه يعني في العذاب مبلسون قال ابن قتيبة : آيسون من رحمة الله . وقد شرحنا هذا في [الأنعام: 44] وما ظلمناهم أي: ما عذبناهم على غير ذنب ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم بما جنوا عليها . قال الزجاج : والبصريون يقولون: "هم" هاهنا فصل، كذلك يسمونها، ويسميها الكوفيون: العماد .

    قوله تعالى: ونادوا يا مالك وقرأ علي بن أبي طالب رضى الله عنه، وابن مسعود، وابن يعمر: ["يا مال"] بغير كاف مع كسر اللام . قال الزجاج : وهذا يسميه النحويون: [الترخيم]، ولكني أكرهها لمخالفة المصحف .

    قال المفسرون: يدعون مالكا خازن النار فيقولون: ليقض علينا ربك [ ص: 330 ] [أي]: ليمتنا; والمعنى: أنهم توسلوا به ليسأل الله تعالى لهم الموت فيستريحوا من العذاب; فيسكت عن جوابهم مدة، فيها أربعة أقوال . أحدها: أربعون عاما، قاله عبد الله بن عمرو، ومقاتل . والثاني: ثلاثون سنة، قاله أنس . والثالث: ألف سنة، قاله ابن عباس . والرابع: مائة سنة، قاله كعب .

    وفي سكوته عن جوابهم هذه المدة قولان . أحدهما: أنه سكت حتى أوحى الله إليه أن أجبهم، قاله مقاتل . والثاني: لأن بعد ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذل .

    قال الماوردي: فرد عليهم مالك فقال: إنكم ماكثون أي: مقيمون في العذاب .

    لقد جئناكم بالحق أي: أرسلنا رسلنا بالتوحيد ولكن أكثركم قال ابن عباس: يريد: كلكم كارهون لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى: أم أبرموا أمرا في "أم" قولان . أحدهما: أنها للاستفهام . والثاني: بمعنى "بل" . والإبرام: الإحكام . وفي هذا الأمر ثلاثة أقوال .

    أحدها: المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يخرجوه حين اجتمعوا في دار الندوة; وقد سبق بيان القصة [الأنفال: 30]، قاله الأكثرون .

    والثاني: أنه إحكام أمرهم في تكذيبهم، قاله قتادة .

    والثالث: أنه: إبرام أمرهم ينجيهم من العذاب، قاله الفراء .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #488
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الدُّخَانِ
    الحلقة (488)
    صــ 331 إلى صــ 340






    [ ص: 331 ] فإنا مبرمون أي: محكمون أمرا في مجازاتهم .

    أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم وهو ما يسرونه من غيرهم ونجواهم ما يتناجون به بينهم بلى والمعنى: إنا نسمع ذلك ورسلنا يعني [من] الحفظة لديهم يكتبون .

    قل إن كان للرحمن ولد في "إن" قولان .

    أحدهما: أنها بمعنى الشرط; والمعنى: إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم، فعلى هذا في قوله: فأنا أول العابدين أربعة أقوال .

    أحدها: فأنا أول الجاحدين، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أن أعرابيين اختصما إليه، فقال أحدهما: إن هذا كانت لي في يده أرض، فعبدنيها، فقال ابن عباس: الله أكبر، فأنا أول العابدين الجاحدين أن لله ولدا .

    والثاني: فأنا أول من عبد الله مخالفا لقولكم، هذا قول مجاهد وقال الزجاج : معناه: إن كنتم تزعمون للرحمن ولدا، فأنا أول الموحدين .

    والثالث: فأنا أول الآنفين لله مما قلتم، قاله ابن السائب، وأبو عبيدة . قال ابن قتيبة : يقال: عبدت من كذا، أعبد عبدا، فأنا عبد وعابد، قال الفرزدق:

    [ ص: 332 ]

    [أولئك قوم إن هجوني هجوتهم] وأعبد أن تهجى تميم بدارم


    أي: آنف . وأنشد أبو عبيدة:



    وأعبد أن أسبهم بقومي وأوثر دارما وبني رزاح



    والرابع: أن معنى الآية: كما أني لست أول عابد لله، فكذلك ليس له ولد; وهذا كما تقول: إن كنت كاتبا فأنا حاسب، أي: لست كاتبا ولا أنا حاسب; حكى هذا القول الواحدي عن سفيان بن عيينة .

    والقول الثاني: أن "إن" بمعنى "ما"، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد; فيكون المعنى: ما كان للرحمن [ولد]، فأنا أول من عبد الله على يقين أنه لا ولد له . وقال أبو عبيدة: الفاء على [هذا القول] بمعنى الواو .

    قوله تعالى: فذرهم يعني كفار مكة يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم حتى يلاقوا وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن محيصن، وأبو جعفر: "حتى يلقوا" بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف . والمراد: يلاقوا [يوم] القيامة وهذه الآية [عند الجمهور] منسوخة بآية السيف .
    وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم . وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون . ولا يملك الذين يدعون [ ص: 333 ] من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون . ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون . وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون . فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون .

    قوله تعالى: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله قال مجاهد، وقتادة: يعبد في السماء ويعبد في الأرض . وقال الزجاج : هو الموحد في السماء وفي الأرض . وقرأ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عباس، وابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري : "في السماء الله وفي الأرض الله" بألف ولام من غير تنوين ولا همز فيهما . وما بعد هذا سبق بيانه [الأعراف: 54، لقمان: 34] إلى قوله: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة سبب نزولها أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا، فنحن نتولى الملائكة، فهم أحق بالشفاعة من محمد، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل .

    [ ص: 334 ] وفي معنى الآية قولان .

    أحدهما: أنه أراد بالذين يدعون من دونه: آلهتهم، ثم استثنى عيسى وعزيرا والملائكة، فقال: إلا من شهد بالحق وهو أن يشهد أن لا إله إلا الله وهم يعلمون بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم، وهذا مذهب الأكثرين، منهم قتادة .

    والثاني: أن المراد بالذين يدعون: عيسى وعزير والملائكة الذين عبدهم المشركون بالله لا يملك هؤلاء الشفاعة لأحد إلا من شهد أي: [إلا] لمن شهد بالحق وهي كلمة الإخلاص وهم يعلمون أن الله عز وجل خلق عيسى وعزيرا والملائكة، وهذا مذهب قوم، منهم مجاهد . وفي الآية دليل على أن شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالما بما يشهد به .

    قوله تعالى: وقيله يا رب قال قتادة: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه . وقال ابن عباس: شكا إلى الله تخلف قومه عن الإيمان . قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو : "وقيله" بنصب اللام; وفيها ثلاثة أوجه .

    أحدها: أنه أضمر معها قولا، كأنه قال: وقال قيله، وشكا شكواه إلى ربه .

    والثاني: أنه عطف على قوله: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله; فالمعنى: ونسمع قيله، ذكر القولين الفراء، والأخفش .

    والثالث: أنه منصوب على معنى: وعنده علم الساعة ويعلم قيله، لأن معنى "وعنده علم الساعة": يعلم الساعة ويعلم قيله، هذا اختيار الزجاج . وقرأ عاصم، وحمزة: "وقيله" بكسر اللام والهاء حتى تبلغ إلى الياء; والمعنى: وعنده علم الساعة وعلم قيله . وقرأ أبو هريرة، وأبو رزين ، [ ص: 335 ] وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، والجحدري ، وقتادة، وحميد: برفع اللام; والمعنى: ونداؤه هذه الكلمة: يارب; ذكر علة الخفض والرفع الفراء والزجاج .

    قوله تعالى: فاصفح عنهم أي: فأعرض عنهم وقل سلام فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: قل خيرا بدلا من شرهم، قاله السدي .

    والثاني: اردد [عليهم] معروفا، قاله مقاتل .

    والثالث: قل ما تسلم به من شرهم، حكاه الماوردي .

    فسوف يعلمون فيه ثلاثة أقوال . أحدها: يعلمون عاقبة كفرهم . والثاني: أنك صادق . والثالث: حلول العذاب بهم، وهذا تهديد لهم: "فسوف يعلمون" . وقرأ نافع، وابن عامر: "تعلمون" بالتاء . ومن قرأ بالياء، فعلى الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخاطبهم بهذا، قاله مقاتل; فنسخت آية السيف الإعراض والسلام .
    [ ص: 336 ] سُورَةُ الدُّخَانِ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ . فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ . أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ . رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ . لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ . بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ .

    قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ[الْمُؤْمِنُ، وَالزُّخْرُفُ]، وَجَوَابُ الْقَسَمِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ، وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْكِتَابِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ وَفِيهَا قَوْلَانِ .

    أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، [ ص: 337 ] فَوُضِعَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أُنْزِلَ نُجُومًا . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا .

    وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أَيْ: مُخَوِّفِينَ عِقَابَنَا .

    فِيهَا أَيْ: فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ يُفْرَقُ كُلُّ أَيْ: يُفْصَلُ . وَقَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو نُهَيْكٍ، وَمُعَاذٌ الْقَارِئُ: "يَفَرِقُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ . [ ص: 338 ] "كُلَّ" بِنَصْبِ اللَّامِ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَيْ: مُحْكَمٍ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْتَبُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَاهُوَ كَائِنٌ فِي السَّنَةِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ، حَتَّى الْحَاجُّ، وَإِنَّكَ لَتَرَى الرَّجُلُ يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ وَقَدْ وَقَعَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَى، وَعَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَالرِّوَايَةُ عَنْهُ بِذَلِكَ مُضْطَرِبَةٌ قَدْ خُولِفَ الرَّاوِي لَهَا، فَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَعَلَى هَذَا الْمُفَسِّرُونَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا قَالَ الْأَخْفَشُ: "أَمْرًا" وَ "رَحْمَةً" مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ; الْمَعْنَى; إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ آمِرِينَ أَمْرًا وَرَاحِمِينَ رَحْمَةً . قَالَ الزَّجَّاجُ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِـ "يُفْرَقُ" بِمَنْزِلَةِ يُفْرَقُ فَرْقًا، لِأَنَّ "أَمْرًا" بِمَعْنَى "فَرْقًا" . قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ أَنْ تُنْصَبَ الرَّحْمَةُ بِوُقُوعِ "مُرْسِلِينَ" عَلَيْهَا، فَتَكُونُ الرَّحْمَةُ هِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "مُرْسِلِينَ" بِمَعْنَى مَنْزِلِينَ هَذَا الْقُرْآنَ، أَنْزَلْنَاهُ رَحْمَةً لِمَنْ آمَنَ بِهِ . وَقَالَ غَيْرُهُ: "أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا" أَيْ: إِنَّا نَأْمُرُ بِنَسْخِ مَا يُنْسَخُ مِنَ اللَّوْحِ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ الْأَنْبِيَاءَ، رَحْمَةً مِنَّا بِخَلْقِنَا رَبِّ السَّمَاوَاتِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ: "رَبُّ" بِالرَّفْعِ . وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: "رَبِّ" بِكَسْرِ الْبَاءِ . وَمَا بَعْدَ هَذَا ظَاهِرٌ إِلَى قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ يَعْنِي الْكُفَّارَ فِي شَكٍّ مِمَّا جِئْنَاهُمْ بِهِ يَلْعَبُونَ يَهْزَؤُونَ بِهِ .
    [ ص: 339 ] فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين . يغشى الناس هذا عذاب أليم . ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون . أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين . ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون . إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون . يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون .

    فارتقب أي: فانتظر يوم تأتي السماء بدخان مبين اختلفوا في هذا الدخان ووقته على ثلاثة أقوال .

    أحدها: [أنه] دخان يجيء قبل قيام الساعة، فروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الدخان يجيء فيأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام . وروى عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس ذات يوم، فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت: لم؟ قال: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يطرق الدخان، وهذا المعنى مروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #489
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الدُّخَانِ
    الحلقة (489)
    صــ 341 إلى صــ 350






    [ ص: 340 ] والثاني: أن قريشا أصابهم جوع، فكانوا يرون بينهم وبين السماء دخانا من الجوع; فروى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث مسروق، قال: كنا عند عبد الله، فدخل علينا رجل، فقال: جئتك من المسجد وتركت رجلا يقول في هذه [الآية] "يوم تأتي السماء بدخان مبين": يغشاهم يوم القيامة دخان يأخذ بأنفاسهم حتى يصيبهم منه كهيئة الزكام; فقال عبد الله: من علم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، إنما كان [هذا] لأن قريشا لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام والميتة، وجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فقالوا: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ، [ ص: 341 ] فقال الله تعالى: إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون ، فكشف عنهم، ثم عادوا إلى الكفر، فأخذوا يوم بدر، فذلك قوله: يوم نبطش البطشة الكبرى ، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد، وأبو العالية، والضحاك ، وابن السائب، ومقاتل .

    والثالث: أنه يوم فتح مكة لما حجبت السماء بالغبرة، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: هذا عذاب أي: يقولون: هذا عذاب .

    ربنا اكشف عنا العذاب فيه قولان . أحدهما: الجوع . والثاني: الدخان إنا مؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن .

    أنى لهم الذكرى أي: من أين لهم التذكر والاتعاظ بعد نزول هذا البلاء، "و" حالهم أنه " قد جاءهم رسول مبين " أي: ظاهر الصدق؟!

    ثم تولوا عنه أي: أعرضوا ولم يقبلوا قوله: وقالوا معلم مجنون أي: هو معلم يعلمه بشر مجنون بادعائه النبوة; قال الله تعالى: إنا كاشفو العذاب قليلا أي: زمانا يسيرا . وفي العذاب قولان .

    أحدهما: الضر الذي نزل بهم كشف بالخصب، هذا على قول ابن مسعود . قال مقاتل: كشفه إلى يوم بدر .

    والثاني: أنه الدخان، قاله قتادة .

    قوله تعالى: إنكم عائدون فيه قولان . أحدهما: إلى الشرك، قاله ابن مسعود . والثاني: إلى عذاب الله، قاله قتادة .

    [ ص: 342 ] قوله تعالى: يوم نبطش البطشة الكبرى وقرأ الحسن، وابن يعمر، وأبو عمران: "يوم تبطش" بتاء مرفوعة وفتح الطاء "البطشة" بالرفع . قال الزجاج : المعنى: واذكر يوم نبطش، ولا يجوز أن يكون منصوبا بقوله: "منتقمون"، لأن ما بعد "إنا" لا يجوز أن يعمل فيما قبلها .

    وفي هذا اليوم قولان .

    أحدهما: يوم بدر، قاله ابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبو هريرة، وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك .

    والثاني: يوم القيامة، قاله ابن عباس، والحسن . والبطش: الأخذ بقوة .
    ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم . أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين . وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين . وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون . وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون . فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون . فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون . واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم . ونعمة كانوا فيها فاكهين . كذلك وأورثناها قوما آخرين . فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين .

    قوله تعالى: ولقد فتنا أي: ابتلينا قبلهم أي: قبل قومك قوم فرعون بإرسال موسى إليهم وجاءهم رسول كريم وهو موسى بن عمران .

    وفي معنى "كريم" ثلاثة أقوال . أحدها: حسن الخلق، قاله مقاتل . [ ص: 343 ] والثاني: كريم على ربه، قاله الفراء . والثالث: شريف وسيط النسب، قاله أبو سليمان .

    قوله تعالى: أن أدوا أي: بأن أدوا إلي عباد الله وفيه قولان .

    أحدهما: أدوا إلي ما أدعوكم إليه من الحق باتباعي، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس . فعلى هذا ينتصب "عباد الله" بالنداء . قال الزجاج : ويكون المعنى: أن أدوا إلي ما آمركم به يا عباد الله .

    والثاني: أرسلوا معي بني إسرائيل، قاله مجاهد، وقتادة، والمعنى: أطلقوهم من تسخيركم، وسلموهم إلي .

    وأن لا تعلوا على الله فيه ثلاثة أقوال . أحدها: لا تفتروا عليه، قاله ابن عباس . والثاني: لا تعتوا عليه، قاله قتادة . والثالث: لا تعظموا عليه، قاله ابن جريج إني آتيكم بسلطان مبين أي: بحجة تدل على صدقي .

    فلما قال هذا تواعدوه بالقتل فقال: وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وفيه قولان .

    أحدهما: أنه رجم القول، قاله ابن عباس; فيكون المعنى: أن يقولوا: شاعر أو مجنون .

    والثاني: القتل، قاله السدي .

    وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون أي: فاتركوني لا معي ولا علي، فكفروا ولم يؤمنوا، فدعا ربه أن هؤلاء قال الزجاج : من فتح "أن"، فالمعنى: بأن هؤلاء; ومن كسر، فالمعنى: قال: إن هؤلاء، و "إن" بعد القول مكسورة . وقال المفسرون: المجرمون هاهنا: المشركون .

    [ ص: 344 ] فأجاب الله دعاءه، وقال: فأسر بعبادي ليلا يعني بالمؤمنين إنكم متبعون يتبعكم فرعون وقومه; فأعلمهم أنهم يتبعونهم، وأنه سيكون سببا لغرقهم .

    واترك البحر رهوا أي: ساكنا على حاله بعد أن انفرق لك، ولا تأمره أن يرجع كما كان حتى يدخله فرعون وجنوده . والرهو: مشي في سكون .

    قال قتادة: لما قطع موسى عليه السلام البحر، عطف يضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل [له]: "واترك البحر رهوا"، أي: كما هو- طريقا يابسا .

    قوله تعالى: إنهم جند مغرقون أخبره الله عز وجل بغرقهم ليطمئن قلبه في ترك البحر على حاله .

    كم تركوا أي: بعد غرقهم من جنات وقد فسرنا الآية في [الشعراء: 57] . فأما "النعمة" فهو العيش اللين الرغد . وما بعد هذا قد سبق بيانه [يس: 55] إلى قوله: وأورثناها قوما آخرين يعني بني إسرائيل .

    فما بكت عليهم السماء أي: على آل فرعون، وفي معناه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه على الحقيقة; روى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم إلا وله في السماء بابان، باب يصعد فيه عمله، وباب ينزل منه [ ص: 345 ] رزقه، فإذا مات بكيا عليه" وتلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية . وقال علي رضي الله عنه: إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم في الأرض مصلى ولا في السماء مصعد عمل، فقال الله تعالى: "فما بكت عليهم السماء والأرض"، وإلى نحو هذا ذهب ابن عباس، والضحاك ، ومقاتل . وقال ابن عباس: الحمرة التي في السماء: بكاؤها . وقال مجاهد: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا، فقيل له: أو تبكي؟ قال: وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل؟! .

    والثاني: أن المراد: أهل السماء وأهل الأرض، قاله الحسن، ونظير هذا قوله تعالى: حتى تضع الحرب أوزارها [محمد: 4]، أي: أهل الحرب .

    والثالث: أن العرب تقول إذا أرادت تعظيم مهلك عظيم: أظلمت الشمس له، وكسف القمر لفقده، وبكته الريح والبرق والسماء والأرض، يريدون المبالغة في وصف المصيبة، وليس ذلك بكذب منهم، لأنهم جميعا [ ص: 346 ] متواطئون عليه، والسامع له يعرف مذهب القائل فيه; ونيتهم في قولهم: أظلمت الشمس: كادت تظلم، وكسف القمر: كاد يكسف، ومعنى "كاد": هم أن يفعل ولم يفعل; قال ابن مفرغ يرثي رجلا:



    الريح تبكي شجوه والبرق يلمع في غمامه


    وقال الآخر



    الشمس طالعة ليست بكاسفة- تبكي عليك- نجوم الليل والقمرا



    أراد: الشمس طالعة تبكي عليه، وليست مع طلوعها كاسفة النجوم والقمر، لأنها مظلمة، وإنما تكسف بضوئها، فنجوم الليل بادية بالنهار، فيكون معنى الكلام: إن الله لما أهلك قوم فرعون لم يبك عليهم باك: ولم يجزع جازع، ولم يوجد لهم فقد، هذا كله كلام ابن قتيبة .
    ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين . من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين . ولقد اخترناهم على علم على العالمين . وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين . إن هؤلاء ليقولون . إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين . فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين . أهم خير أم قوم تبع والذين [ ص: 347 ] من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين . وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين . ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون . إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين . يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون . إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم .

    قوله تعالى: من العذاب المهين يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والتعب في أعمال فرعون، إنه كان عاليا أي: جبارا .

    ولقد اخترناهم يعني بني إسرائيل على علم علمه الله فيهم على عالمي زمانهم، وآتيناهم من الآيات كانفراق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، إلى غير ذلك ما فيه بلاء مبين أي: نعمة ظاهرة .

    ثم رجع إلى ذكر كفار مكة، فقال: إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى يعنون التي تكون في الدنيا وما نحن بمنشرين أي: بمبعوثين، فأتوا بآبائنا أي: ابعثوهم لنا إن كنتم صادقين في البعث . وهذا جهل منهم من وجهين .

    أحدهما: أنهم قد رأوا من الآيات ما يكفي في الدلالة; فليس لهم أن يتنطعوا .

    والثاني: أن الإعادة للجزاء; وذلك في الآخرة، لا في الدنيا .

    ثم خوفهم عذاب الأمم قبلهم، فقال: أهم خير أي: أشد وأقوى أم قوم تبع ؟! أي: ليسوا خيرا منهم . روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أدري تبعا، نبي، أو غير نبي . وقالت [ ص: 348 ] عائشة: لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا، ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه . وقال وهب: أسلم تبع ولم يسلم قومه، فلذلك ذكر قومه ولم يذكر . وذكر بعض المفسرين أنه كان يعبد النار، فأسلم ودعا قومه -وهم حمير- إلى الإسلام، فكذبوه .

    فأما تسميته بـ "تبع" فقال أبو عبيدة: كل ملك من ملوك اليمن كان يسمى: تبعا، لأنه يتبع صاحبه، فموضع "تبع" في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام . وقال مقاتل: إنما سمي تبعا لكثرة أتباعه، واسمه ملكيكرب . وإنما ذكر قوم تبع، لأنهم كانوا أقرب في الهلاك إلى كفار مكة من غيرهم . وما بعد هذا قد تقدم [الأنبياء: 16، الحجر: 85] إلى قوله تعالى: إن يوم الفصل وهو يوم يفصل الله عز وجل بين العباد ميقاتهم أي: ميعادهم أجمعين يأتيه الأولون والآخرون .

    يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا فيه قولان .

    أحدهما: لا ينفع قريب قريبا، قاله مقاتل . وقال ابن قتيبة : لا يغني ولي عن وليه بالقرابة أو غيرها .

    [ ص: 349 ] والثاني: لا ينفع ابن عم ابن عمه، قاله أبو عبيدة .

    ولا هم ينصرون أي: لا يمنعون من عذاب الله، إلا من رحم الله وهم المؤمنون، فإنه يشفع بعضهم في بعض .
    إن شجرت الزقوم طعام الأثيم . كالمهل يغلي في البطون . كغلي الحميم . خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم . ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم . ذق إنك أنت العزيز الكريم . إن هذا ما كنتم به تمترون . إن المتقين في مقام أمين . في جنات وعيون . يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين . كذلك وزوجناهم بحور عين . يدعون فيها بكل فاكهة آمنين . لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم . فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم . فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون . فارتقب إنهم مرتقبون .

    إن شجرت الزقوم قد ذكرناها في [الصافات: 62] . و "الأثيم": الفاجر; وقال مقاتل: هو أبو جهل . وقد ذكرنا معنى "المهل" في [الكهف: 29] .

    قوله تعالى: يغلي في البطون قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: "يغلي" بالياء; والباقون: بالتاء . فمن قرأ ["تغلي"] بالتاء، فلتأنيث الشجرة; ومن قرأ بالياء، حمله على الطعام قال أبو علي الفارسي: ولا يجوز أن يحمل الغلي على المهل . لأن المهل ذكر للتشبيه في الذوب، وإنما يغلي ما شبه به كغلي الحميم وهو الماء الحار إذا اشتد غليانه .

    [ ص: 350 ] قوله تعالى: خذوه أي: يقال للزبانية: خذوه فاعتلوه وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، ويعقوب: بضم التاء; وكسرها الباقون; قال ابن قتيبة : ومعناه: قودوه بالعنف، يقال: جيء بفلان يعتل إلى السلطان، و "سواء الجحيم": وسط النار . قال مقاتل: الآيات في أبي جهل يضربه الملك من خزان جهنم على رأسه بمقمعة من حديد فتنقب عن دماغه، فيجري دماغه على جسده، ثم يصب الملك في النقب ماء حميما قد انتهى حره، فيقع في بطنه، ثم يقول [له] الملك: ذق العذاب إنك أنت العزيز الكريم هذا توبيخ له بذلك; وكان أبو جهل يقول: أنا أعز قريش وأكرمها . وقرأ الكسائي: "ذق أنك" بفتح الهمزة; والباقون: بكسرها . قال أبو علي: من كسرها، فالمعنى: أنت العزيز في زعمك، ومن فتح، فالمعنى: بأنك .

    فإن قيل: كيف سمي بالعزيز وليس به؟!

    فالجواب من ثلاثة أوجه .

    أحدها: أنه قيل ذلك استهزاء به، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل .

    والثاني: أنت العزيز [الكريم] عند نفسك، قاله قتادة .

    والثالث: أنت العزيز في قومك، الكريم على أهلك، حكاه الماوردي .

    ويقول الخزان لأهل النار: إن هذا ما كنتم به تمترون أي: تشكون في كونه .

    ثم ذكر مستقر المتقين فقال: إن المتقين في مقام أمين قرأ نافع، وابن عامر: "في مقام" بضم الميم; والباقون: بفتحها . قال الفراء: المقام، بفتح الميم: المكان، وبضمها: الإقامة .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #490
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
    الحلقة (490)
    صــ 351 إلى صــ 360




    قوله تعالى: أمين أي: أمنوا فيه الغير والحوادث . وقد ذكرنا [ ص: 351 ] "الجنات" في [البقرة: 25] و[ذكرنا] معنى "العيون" ومعنى "متقابلين" في [الحجر: 45، 47] وذكرنا "السندس والإستبرق" في [الكهف: 31] .

    قوله تعالى: كذلك أي: الأمر كما وصفنا وزوجناهم بحور عين قال المفسرون: المعنى: قرناهم بهن، وليس من عقد التزويج . قال أبو عبيدة: المعنى: جعلنا ذكور أهل الجنة أزواجا بحور عين من النساء، تقول للرجل: زوج هذه النعل الفرد بالنعل الفرد، أي: اجعلهما زوجا، والمعنى: جعلناهم اثنين اثنين . وقال يونس: العرب لا تقول: تزوج بها، إنما يقولون: تزوجها . ومعنى "وزوجناهم بحور عين": قرناهم . وقال ابن قتيبة : يقال: زوجته امرأة، وزوجته بامرأة . وقال أبو علي الفارسي: والتنزيل على ما قال يونس، وهو قوله تعالى: زوجناكها [الأحزاب: 37]، وما قال: زوجناك بها .

    فأما الحور، فقال مجاهد: الحور: النساء النقيات البياض . وقال الفراء: الحوراء: البيضاء من الإبل; قال: وفي "الحور العين" لغتان: حور عين، وحير عين، وأنشد:



    أزمان عيناء سرور المسير وحوراء عيناء من العين الحير


    وقال أبو عبيدة: الحوراء: الشديدة بياض بياض العين، الشديدة سواد سوادها . وقد بينا معنى "العين" في [الصافات: 48] .

    قوله تعالى: يدعون فيها بكل فاكهة آمنين فيه قولان . أحدهما: آمنين من انقطاعها في بعض الأزمنة . والثاني: آمنين من التخم والأسقام والآفات .

    قوله تعالى: إلا الموتة الأولى فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها بمعنى "سوى"، فتقدير الكلام: لا يذوقون في الجنة الموت [ ص: 352 ] سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا; ومثله: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف [النساء: 22]، وقوله: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك [هود: 107] أي: سوى ما شاء لهم ربك من الزيادة على مقدار الدنيا، هذا قول الفراء، والزجاج .

    والثاني: أن السعداء حين يموتون يصيرون إلى الروح والريحان وأسباب من الجنة يرون منازلهم منها، وإذا ماتوا في الدنيا، فكأنهم ماتوا في الجنة، لاتصالهم بأسبابها، ومشاهدتهم إياها، قاله ابن قتيبة .

    والثالث: أن "إلا" بمعنى "بعد"، كما ذكرنا في أحد الوجوه في قوله: إلا ما قد سلف [النساء: 22]، وهذا قول ابن جرير .

    قوله تعالى: فضلا من ربك أي: فعل الله ذلك بهم فضلا منه .

    فإنما يسرناه أي: سهلناه، والكناية عن القرآن بلسانك أي: بلغة العرب لعلهم يتذكرون أي: لكي يتعظوا فيؤمنوا، فارتقب [ ص: 353 ] أي: انتظر بهم العذاب إنهم مرتقبون هلاكك; وهذه عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح .
    [ ص: 354 ] سُورَةُ الْجَاثِيَةِ

    وَتُسَمَّى سُورَةَ الشَّرِيعَةِ

    رَوَى الْعَوْفِيُّ وَابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، [وَعِكْرِمَةَ]، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْجُمْهُورِ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَةً، وَهِيَ قَوْلُهُ: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا [الْجَاثِيَةِ: 14] .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    حم . تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ . وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ . وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ . تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ . وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ . يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا [ ص: 355 ] فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ . مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ . اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: حم . تَنْزِيلُ الْكِتَابِ قَدْ شَرَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ [الْمُؤْمِنِ] .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي خَلْقِكُمْ أَيْ: مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ إِلَى أَنْ يَتَكَامَلَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ أَيْ: وَمَا يُفَرِّقُ فِي الْأَرْضِ مِنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَ عَلَى اخْتِلَافِ ذَلِكَ فِي الْخَلْقِ وَالصُّوَرِ آيَاتُ تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِه ِ . قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ: "آيَاتٌ" رَفْعًا "وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ" رَفْعًا أَيْضًا . وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ : بِالْكَسْرِ فِيهِمَا . وَالرِّزْقُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْمَطَرِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ أَيْ: هَذِهِ حُجَجُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ أَيْ: بَعْدَ حَدِيثِهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ؟ !

    قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ . وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهَا فِي [الشُّعَرَاءِ: 222]، وَالْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا مُفَسَّرَةٌ فِي [لُقْمَانَ: 7] .

    [ ص: 356 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ: إِذَا سَمِعَ . وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "وَإِذَا عُلِّمَ" بِرَفْعِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِهَا .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّخَذَهَا هُزُوًا أَيْ: سَخِرَ مِنْهَا، وَذَلِكَ كَفِعْلِ أَبِي جَهْلٍ حِينَ نَزَلَتْ: إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ [الدُّخَانِ: 43، 44] فَدَعَا بِتَمْرٍ وَزُبْدٍ، وَقَالَ: تَزَقَّمُوا فَمَا يَعِدُكُمْ مُحَمَّدٌ إِلَّا هَذَا . وَإِنَّمَا قَالَ: " أُولَئِكَ " لِأَنَّهُ رَدَّ الْكَلَامَ إِلَى مَعْنَى "كُلٍّ" .

    مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ قَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي [إِبْرَاهِيمَ: 16] وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَلَا مَا عَبَدُوا مِنَ الْآلِهَةِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا هُدًى يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: "أَلِيمٌ" بِالرَّفْعِ عَلَى نَعْتِ الْعَذَابِ . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْكَسْرِ عَلَى نَعْتِ الرِّجْزِ . وَالرِّجْزُ بِمَعْنَى الْعَذَابِ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي [الْأَعْرَافِ: 134] .

    قَوْلُهُ تَعَالَى: جَمِيعًا مِنْهُ أَيْ: ذَلِكَ التَّسْخِيرُ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ مِنْ فَضْلِهِ . وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْجَحْدَرِيّ ُ : "جَمِيعًا مِنَّةً" بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِهَا وَتَاءٍ مَنْصُوبَةٍ مُنَوَّنَةٍ . وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "مَنُّهُ" بِفَتْحِ الْمِيمِ وَرَفْعِ النُّونِ وَالْهَاءِ مُشَدَّدَةَ النُّونِ .
    قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون . من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون . ولقد آتينا [ ص: 357 ] بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين . وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون . ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون . إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين . هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون . أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون . وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون .

    قوله تعالى: قل للذين آمنوا يغفروا . . . [الآية] في سبب نزولها أربعة أقوال .

    أحدها: أنهم نزلوا في غزاة بني المصطلق على بئر يقال لها: "المريسيع"، فأرسل عبد الله بن أبي غلامة ليستقي الماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر، ما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر، وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك، فبلغ قوله عمر، فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس .

    [ ص: 358 ] والثاني: [أنها] لما نزلت: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا [البقرة: 245] قال يهودي بالمدينة يقال له فنحاص: احتاج رب محمد، فلما سمع بذلك عمر، اشتمل [على] سيفه وخرج في طلبه، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلب عمر، فلما جاء، قال: "يا عمر، ضع سيفك" وتلا عليه الآية، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس .

    والثالث: أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذى شديد من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، قاله القرظي، والسدي .

    والرابع: أن رجلا من كفار قريش شتم عمر بن الخطاب، فهم عمر أن يبطش به، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل .

    ومعنى الآية: قل للذين آمنوا: اغفروا، ولكن شبه بالشرط والجزاء، كقوله: قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة [إبراهيم: 31] وقد مضى بيان هذا .

    وقوله: للذين لا يرجون أي: لا يخافون وقائع الله في الأمم الخالية، لأنهم لا يؤمنون به، فلا يخافون عقابه . وقيل: لا يدرون أنعم الله عليهم، أم لا . وقد سبق بيان معنى "أيام الله" في سورة [إبراهيم: 5] .

    [ ص: 359 ] فصل

    وجمهور المفسرين على أن هذه الآية منسوخة، لأنها تضمنت الأمر بالإعراض عن المشركين . واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال .

    أحدها: [أنه] قوله: فاقتلوا المشركين [التوبة: 5]، رواه معمر عن قتادة .

    والثاني: أنه قوله في [الأنفال: 57]: فإما تثقفنهم في الحرب ، وقوله في [براءة: 36]: وقاتلوا المشركين كافة ، رواه سعيد عن قتادة .

    والثالث: [أنه] قوله: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا [الحج: 39]، قاله أبو صالح .

    قوله تعالى: ليجزي قوما وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: "لنجزي" بالنون "قوما" يعني الكفار، فكأنه قال: لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن .

    وما بعد هذا قد سبق [الإسراء: 7] إلى قوله: ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب يعني التوراة والحكم وهو الفهم في الكتاب، ورزقناهم من الطيبات يعني المن والسلوى وفضلناهم على العالمين أي: عالمي زمانهم .

    وآتيناهم بينات من الأمر فيه قولان .

    أحدهما: بيان الحلال والحرام، قاله السدي .

    والثاني: العلم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوته، ذكره الماوردي .

    وما بعد هذا قد تقدم بيانه [آل عمران: 19] إلى قوله:

    [ ص: 360 ] ثم جعلناك على شريعة من الأمر سبب نزولها أن رؤساء قريش دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملة آبائه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    فأما قوله: على شريعة فقال ابن قتيبة : [أي] على ملة ومذهب، ومنه يقال: شرع فلان في كذا: إذا أخذ فيه، ومنه "مشارع الماء" وهي الفرض التي شرع فيها الوارد .

    قال المفسرون: ثم جعلناك بعد موسى على طريقة من الأمر، أي: من الدين فاتبعها و الذين لا يعلمون كفار قريش .

    إنهم لن يغنوا عنك أي: لن يدفعوا عنك عذاب الله إن اتبعتهم، وإن الظالمين يعني المشركين . والله ولي المتقين الشرك . والآية التي بعدها [مفسرة] في آخر [الأعراف: 203] .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #491
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
    الحلقة (491)
    صــ 361 إلى صــ 370





    [ ص: 361 ] أم حسب الذين اجترحوا السيئات سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة مثلما تعطون من الأجر، قاله مقاتل . والاستفهام هاهنا استفهام إنكار . و "اجترحوا" بمعنى اكتسبوا .

    سواء محياهم ومماتهم قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وزيد عن يعقوب: "سواء" نصبا; وقرأ الباقون: بالرفع . فمن رفع، فعلى الابتداء; ومن نصب، جعله مفعولا ثانيا، على تقدير: أن نجعل محياهم ومماتهم سواء; والمعنى: إن هؤلاء يحيون مؤمنين ويموتون مؤمنين، وهؤلاء يحيون كافرين ويموتون كافرين; وشتان ماهم في الحال والمآل ساء ما يحكمون أي: بئس ما يقضون .

    ثم ذكر بالآية التي تلي هذه أنه خلق السموات والأرض بالحق، أي: للحق والجزاء بالعدل، لئلا يظن الكافر أنه لا يجزى بكفره .

    [ ص: 362 ] أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون . وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون . وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين . قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون . وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون . هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين . وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين .

    قوله تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه قد شرحناه في [الفرقان: 43] . وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السهمي .

    قوله تعالى: وأضله الله على علم أي: على علمه السابق فيه أنه [ ص: 363 ] لا يهتدي وختم على سمعه أي: طبع عليه فلم يسمع الهدى "و" على " قلبه " فلم يعقل الهدى . وقد ذكرنا الغشاوة والختم في [البقرة: 7] .

    فمن يهديه من بعد الله؟! أي: من بعد إضلاله إياه أفلا تذكرون فتعرفوا قدرته على ما يشاء؟! . وما بعد [هذا] مفسر في سورة [المؤمنون: 37] إلى قوله: وما يهلكنا إلا الدهر أي: اختلاف الليل والنهار وما لهم بذلك من علم أي: ما قالوه عن علم، إنما قالوه شاكين فيه . ومن أجل هذا قال نبينا عليه الصلاة والسلام: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر"، أي: هو الذي يهلككم، لا ما تتوهمونه من مرور الزمان . وما بعد هذا ظاهر، وقد تقدم بيانه [البقرة: 28، الشورى: 7] إلى قوله: يخسر المبطلون يعني المكذبين الكافرين أصحاب الأباطيل; [ ص: 364 ] والمعنى: يظهر خسرانهم يومئذ . وترى كل أمة قال الفراء: ترى أهل كل دين جاثية قال الزجاج : أي: جالسة على الركب، يقال: قد جثا فلان جثوا: إذا جلس على ركبتيه، ومثله: جذا يجذو . والجذو أشد استيفازا من الجثو، لأن الجذو: أن يجلس صاحبه على أطراف أصابعه . قال ابن قتيبة : والمعنى أنها غير مطمئنة .

    قوله تعالى: كل أمة تدعى إلى كتابها فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه كتابها الذي فيه حسناتها وسيئاتها، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أنه حسابها، قاله الشعبي، والفراء، وابن قتيبة .

    والثالث: كتابها الذي أنزل على رسوله، حكاه الماوردي .

    ويقال لهم: اليوم تجزون ما كنتم تعملون .

    هذا كتابنا وفيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنه كتاب الأعمال الذي تكتبه الحفظة، قاله ابن السائب . والثاني: اللوح المحفوظ، قاله مقاتل . والثالث: القرآن، والمعنى أنهم يقرؤونه فيدلهم ويذكرهم، فكأنه ينطق عليهم، قاله ابن قتيبة .

    [ ص: 365 ] قوله تعالى: إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون أي: نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، أي: بكتبها وإثباتها . وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ، من اللوح المحفوظ، تستنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقا ما يعملونه . قالوا: والاستنساخ لا يكون إلا من أصل . قال الفراء: يرفع الملكان العمل كله، فيثبت الله منه ما فيه ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو . وقال الزجاج : نستنسخ ما تكتبه الحفظة، ويثبت عند الله عز وجل .

    قوله تعالى: في رحمته قال مقاتل: في جنته .

    قوله تعالى: أفلم تكن آياتي فيه إضمار، تقديره: فيقال لهم ألم تكن آياتي، يعني آيات القرآن تتلى عليكم فاستكبرتم عن الإيمان بها وكنتم قوما مجرمين ؟! قال ابن عباس: كافرين .

    وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين . وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين . ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون . فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين . وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .

    [ ص: 366 ] قوله تعالى: وإذا قيل إن وعد الله بالبعث حق أي: كائن والساعة قرأ حمزة: "والساعة" بالنصب "لا ريب فيها" أي: كائنة بلا شك قلتم ما ندري ما الساعة أي: أنكرتموها إن نظن إلا ظنا أي: ما نعلم ذلك إلا ظنا وحدسا، ولا نستيقن كونها .

    وما بعد هذا قد تقدم [الزمر: 48] إلى قوله: وقيل اليوم ننساكم أي: نترككم في النار كما نسيتم لقاء يومكم هذا أي: كما تركتم الإيمان والعمل للقاء هذا اليوم .

    ذلكم الذي فعلنا بكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا أي: مهزوءا بها وغرتكم الحياة الدنيا حتى قلتم: إنه لا بعث ولا حساب فاليوم لا يخرجون وقرأ حمزة، والكسائي: "لا يخرجون" بفتح الياء وضم الراء . وقرأ الباقون: ["لا يخرجون"] بضم الياء وفتح الراء منها أي: من النار ولا هم يستعتبون أي: لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله عز وجل، لأنه ليس بحين توبة ولا اعتذار .

    قوله تعالى: وله الكبرياء فيه ثلاثة أقوال . أحدها: السلطان، قاله مجاهد . والثاني: الشرف، قاله ابن زيد . والثالث: العظمة، [ ص: 367 ] قاله يحيى بن سلام، والزجاج .

    [ ص: 368 ]
    سورة الأحقاف

    بسم الله الرحمن الرحيم

    حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون . قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين .

    فصل في نزولها

    روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور . وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: فيها آية مدنية، وهي قوله: قل أرأيتم إن كان من عند الله [الأحقاف: 10] . وقال مقاتل: نزلت بمكة غير آيتين: قوله: قل أرأيتم إن كان من عند الله [الأحقاف: 10] وقوله: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [الأحقاف: 35] نزلتا بالمدينة . وقد تقدم تفسير فاتحتها [المؤمن، الحجر: 85] [ ص: 369 ] إلى قوله: وأجل مسمى وهو أجل فناء السموات والأرض، وهو يوم القيامة .

    قوله تعالى: قل أرأيتم مفسر في [فاطر: 40] إلى قوله: ائتوني بكتاب ، وفي الآية اختصار، تقديره: فإن ادعوا أن شيئا من المخلوقات صنعة آلهتهم، فقل لهم: ائتوني بكتاب من قبل هذا أي: من قبل القرآن فيه برهان ما تدعون من أن الأصنام شركاء الله، أو أثارة من علم وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه الشيء يثيره مستخرجه، قاله الحسن .

    والثاني: بقية من علم تؤثر عن الأولين، قاله ابن قتيبة ، وإلى نحوه ذهب الفراء، وأبو عبيدة .

    والثالث: علامة من علم، قاله الزجاج .

    وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين ، وأيوب السختياني، ويعقوب: "أثرة" بفتح الثاء، مثل شجرة . ثم ذكروا في معناها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه الخط، قاله ابن عباس; وقال: هو خط كانت العرب تخطه في الأرض، قال أبو بكر بن عياش: الخط هو العيافة .

    والثاني: أو علم تأثرونه عن غيركم، قاله مجاهد .

    والثالث: خاصة من علم، قاله قتادة .

    وقرأ أبي بن كعب ، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والضحاك ، وابن يعمر: "أثرة" بسكون الثاء من غير ألف بوزن نظرة .

    [ ص: 370 ] وقال الفراء: قرئت "أثارة" و "أثرة"، وهي لغات، ومعنى الكل: بقية من علم، ويقال: أو شيء مأثور من كتب الأولين، فمن قرأ "أثارة" فهو المصدر، مثل قولك: السماحة والشجاعة، ومن قرأ "أثرة" فإنه بناه على الأثر، كما قيل: قترة، ومن قرأ "أثرة" فكأنه أراد مثل قوله: "الخطفة" [الصافات: 10] و "الرجفة" [الأعراف: 78] .

    وقال اليزيدي: الأثارة: البقية; والأثرة، مصدر أثره يأثره، أي: يذكره ويرويه، ومنه: حديث مأثور .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #492
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الأحقاف
    الحلقة (492)
    صــ 371 إلى صــ 380




    ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون . وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين . وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين . أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم .

    قوله تعالى: من لا يستجيب له يعني الأصنام وهم عن دعائهم غافلون لأنها جماد لا تسمع، فإذا قامت القيامة صارت الآلهة أعداء لعابديها في الدنيا . ثم ذكر [بما] بعد هذا أنهم يسمون القرآن سحرا وأن محمدا افتراه .

    [ ص: 371 ] قوله تعالى: فلا تملكون لي من الله شيئا أي: لا تقدرون على أن تردوا عني عذابه، أي: فكيف أفتري من أجلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عذابه عني؟! هو أعلم بما تفيضون فيه أي: بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب والقول بأنه سحر كفى به شهيدا بيني وبينكم أن القرآن جاء من عند الله وهو الغفور الرحيم في تأخير العذاب عنكم . وقال الزجاج : إنما ذكر هاهنا الغفران والرحمة ليعلمهم أن من أتى ما أتيتم ثم تاب فإن الله تعالى غفور له رحيم به .

    قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين . قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .

    قوله تعالى: قل ما كنت بدعا من الرسل أي: ما أنا بأول رسول . والبدع والبديع من كل شيء: المبتدأ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة: "ما يفعل" بفتح الياء . ثم فيه قولان .

    [ ص: 372 ] أحدهما: أنه أراد بذلك ما يكون في الدنيا . ثم فيه قولان .

    أحدهما: [أنه] لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى في المنام أنه هاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء، فقصها على أصحابه، فاستبشروا بذلك لما يلقون من أذى المشركين . ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك، فقالوا: يا رسول الله متى تهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، يعني لا أدري، أخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا؟ ثم قال: "إنما هو شيء رأيته في منامي، وما ( اتبع إلا ما يوحى إلي ) "، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وكذلك قال عطية: ما أدري هل يتركني بمكة أو يخرجني منها .

    والثاني: ما أدري هل أخرج كما أخرج الأنبياء قبلي، أو أقتل كما قتلوا، ولا أدري ما يفعل بكم، أتعذبون أم تؤخرون؟ أتصدقون أم تكذبون؟ قاله الحسن

    والقول الثاني: أنه أراد ما يكون في الآخرة . روى ابن أبي طلحة عن [ ص: 373 ] ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية، نزل بعدها ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [الفتح: 2] وقال: ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات . . . الآية [الفتح: 5] فأعلم ما يفعل به وبالمؤمنين . وقيل: إن المشركين فرحوا عند نزول هذه الآية وقالوا: ما أمرنا وأمر محمد إلا واحد، ولولا أنه ابتدع ما يقوله لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فنزل قوله: ليغفر لك الله . . . الآية [الفتح: 2]، فقال الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت: ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات . . . الآية [الفتح: 5]; وممن ذهب إلى هذا القول أنس، وعكرمة، وقتادة . وروي عن الحسن ذلك .

    قوله تعالى: قل أرأيتم إن كان من عند الله يعني القرآن وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل وفيه قولان .

    أحدهما: أنه عبد الله بن سلام، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، والضحاك ، وابن زيد .

    والثاني: أنه موسى بن عمران عليه السلام، قاله الشعبي، ومسروق .

    فعلى القول الأول يكون ذكر المثل صلة، فيكون المعنى: وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه، أي: على أنه من عند الله، فآمن الشاهد، وهو ابن سلام واستكبرتم يا معشر اليهود .

    وعلى الثاني يكون المعنى: وشهد موسى على التوراة التي هي مثل القرآن [ ص: 374 ] أنها من عند الله، كما شهد محمد على القرآن أنه كلام الله، "فآمن" من آمن بموسى والتوراة "واستكبرتم" أنتم يا معشر العرب أن تؤمنوا بمحمد والقرآن .

    فإن قيل: أين جواب "إن"؟ قيل: هو مضمر; وفي تقديره ستة أقوال . أحدها: أن جوابه: فمن أضل منكم، قاله الحسن . والثاني: أن تقدير الكلام: وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن، أتؤمنون؟ قاله الزجاج . والثالث: أن تقديره: أتأمنون عقوبة الله؟ قاله أبو علي الفارسي . والرابع: أن تقديره: أفما تهلكون؟ ذكره الماوردي . والخامس: من المحق منا ومنكم ومن المبطل؟ ذكره الثعلبي . والسادس: أن تقديره: أليس قد ظلمتم؟ ويدل على هذا المحذوف قوله: إن الله لا يهدي القوم الظالمين ، ذكره الواحدي .

    وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم . ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين . إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون . ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين . أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا [ ص: 375 ] ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون .

    قوله تعالى: وقال الذين كفروا للذين آمنوا . . . الآية، في سبب نزولها خمسة أقوال .

    أحدها: أن الكفار قالوا: لو كان دين محمد خيرا ما سبقنا إليه اليهود، فنزلت هذه الآية، قاله مسروق .

    والثاني: أن امرأة ضعيفة البصر أسلمت، وكان الأشراف من قريش يهزؤون بها ويقولون: والله لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا هذه إليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الزناد .

    والثالث: أن أبا ذر الغفاري أسلم واستجاب به قومه إلى الإسلام، فقالت قريش: لو كان خيرا ما سبقونا إليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو المتوكل .

    والرابع: أنه لما اهتدت مزينة وجهينة وأسلمت، قالت أسد وغطفان: لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاء الشاء، يعنون مزينة وجهينة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب .

    والخامس: أن اليهود قالوا: لو كان دين محمد خيرا ما سبقتمونا إليه، لأنه لا علم لكم بذلك، ولو كان حقا لدخلنا فيه، ذكره أبو سليمان الدمشقي وقال: [هو قول من يقول: إن الآية نزلت بالمدينة; ومن قال: هي مكية، قال]: هو قول المشركين . فقد خرج في "الذين كفروا" قولان . أحدهما: أنهم المشركون . والثاني: اليهود .

    وقوله: لو كان خيرا أي: لو كان دين محمد خيرا ما سبقونا إليه .

    [ ص: 376 ] فمن قال: هم المشركون، قال: أرادوا: إنا أعز وأفضل; ومن قال: هم اليهود، [قال]: أرادوا: لأنا أعلم .

    قوله تعالى: وإذ لم يهتدوا به أي: بالقرآن فسيقولون هذا إفك قديم أي: كذب متقدم، يعنون أساطير الأولين .

    ومن قبله كتاب موسى أي: من قبل القرآن التوراة . وفي الكلام محذوف، تقديره: فلم يهتدوا، لأن المشركين لم يهتدوا بالتوارة .

    إماما قال الزجاج : هو منصوب على الحال ورحمة عطف عليه وهذا كتاب مصدق المعنى: مصدق للتوراة لسانا عربيا منصوب على الحال; المعنى: مصدق لما بين يديه عربيا; وذكر "لسانا" توكيدا، كما تقول: جاءني زيد رجلا صالحا، تريد: جاءني زيد صالحا .

    قوله تعالى: لينذر الذين ظلموا قرأ عاصم، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: "لينذر" بالياء . وقرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب: "لتنذر" بالتاء . وعن ابن كثير كالقراءتين . و "الذين ظلموا" المشركين وبشرى أي: وهو بشرى للمحسنين وهم الموحدون يبشرهم بالجنة .

    وما بعد هذا قد تقدم تفسيره [فصلت: 30] إلى قوله: بوالديه حسنا وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: "إحسانا" بألف .

    حملته أمه كرها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : "كرها" بفتح الكاف; وقرأ الباقون: بضمها . قال الفراء: والنحويون يستحبون الضم هاهنا، ويكرهون الفتح، للعلة التي بيناها عند قوله: وهو كره لكم [البقرة: 216] . قال الزجاج : والمعنى: حملته على مشقة ووضعته على مشقة . [ ص: 377 ] وفصاله أي: فطامه . وقرأ يعقوب: "وفصله" بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف ثلاثون شهرا . قال ابن عباس: "ووضعته كرها" يريد به شدة الطلق . واعلم أن هذه المدة قدرت لأقل الحمل وأكثر الرضاع; فأما الأشد، ففيه أقوال قد تقدمت; واختار الزجاج أنه بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، لأنه وقت كمال الإنسان في بدنه وقوته واستحكام شأنه وتمييزه . وقال ابن قتيبة : أشد الرجل غير أشد اليتيم، لأن أشد الرجل: الاكتهال والحنكة وأن يشتد رأيه وعقله، وذلك ثلاثون سنة، ويقال: ثمان وثلاثون سنة، وأشد الغلام: أن يشتد خلقه ويتناهى نباته . وقد ذكرنا بيان الأشد في [الأنعام: 153] وفي [يوسف: 22] وهذا تحقيقه . واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال .

    أحدها: [أنها] نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة وهم يريدون الشام في تجارة، فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال [له]: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، [ ص: 378 ] فقال: هذا والله نبي، وما استظل تحتها أحد بعد عيسى إلا محمد نبي الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضره، فلما نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو ابن أربعين سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة- صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ أربعين سنة قال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الأكثرون; قالوا: فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة، دعا الله عز وجل بما ذكره في هذه الآية، فأجابه الله، فأسلم والداه وأولاده ذكورهم وإناثهم، ولم يجتمع ذلك لغيره من الصحابة .

    والقول الثاني: أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد شرحنا قصته في سورة [العنكبوت: 8]، وهذا مذهب الضحاك، والسدي .

    والثالث: أنها نزلت على العموم، قاله الحسن . وقد شرحنا في سورة [النمل: 19] معنى قوله: أوزعني .

    قوله تعالى: وأن أعمل صالحا ترضاه قال ابن عباس: أجابه الله -يعني أبا بكر- فأعتق تسعة من المؤمنين كانوا يعذبون في الله عز وجل، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه، واستجاب له في ذريته فآمنوا، إني تبت إليك أي: رجعت إلى كل ما تحب .

    [ ص: 379 ] قوله تعالى: أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: "يتقبل" "ويتجاوز" بالياء المضمومة فيهما . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف: "نتقبل" "ونتجاوز" بالنون فيهما . وقرأ أبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو عمران الجوني: "يتقبل" "ويتجاوز" بياء مفتوحة فيهما، يعني أهل هذا القول . والأحسن بمعنى الحسن .

    في أصحاب الجنة أي: في جملة من يتجاوز عنهم، وهم أصحاب الجنة . وقيل: "في" بمعنى "مع" .

    وعد الصدق قال الزجاج : هو منصوب، لأنه مصدر مؤكد لما قبله، لأن قوله: "أولئك الذين نتقبل عنهم" بمعنى الوعد، لأنه وعدهم القبول بقوله: "وعد الصدق"، يؤكد ذلك قوله: الذي كانوا يوعدون أي: على ألسنة الرسل في الدنيا .

    والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين . أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن [ ص: 380 ] والإنس إنهم كانوا خاسرين . ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون . ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون .

    قوله تعالى: والذي قال لوالديه أف لكما قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: أف لكما بالخفض من غير تنوين . وقرأ ابن كثير . وابن عامر: بفتح الفاء . وقرأ نافع، وحفص عن عاصم: "أف" بالخفض والتنوين . وقرأ ابن يعمر: "أف" بتشديد الفاء مرفوعة منونة . وقرأ حميد، والجحدري : "أفا" بتشديد الفاء وبالنصب والتنوين . وقرأ عمرو بن دينار: "أف" بتشديد الفاء وبالرفع من غير تنوين . وقرأ أبو المتوكل، [وعكرمة]، وأبو رجاء: "أف لكما" بإسكان الفاء خفيفة . وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: "أفي" بتشديد الفاء وياء ساكنة ممالة . وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام، وهو يأبى، وعلى هذا جمهور المفسرين . وقد روي عن عائشة أنها كانت تنكر أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن، وتحلف على ذلك وتقول: لوشئت لسميت الذي نزلت فيه . قال الزجاج : وقول من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن، باطل بقوله: أولئك الذين حق عليهم القول ، فأعلم الله أن هؤلاء لا يؤمنون، وعبد الرحمن مؤمن; والتفسير الصحيح أنا نزلت في الكافر العاق . وروي [عن] مجاهد أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر، وعن [ ص: 381 ] الحسن [أنها] نزلت في جماعة من كفار قريش قالوا ذلك لآبائهم .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #493
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الأحقاف
    الحلقة (493)
    صــ 381 إلى صــ 390



    قوله تعالى: وقد خلت القرون من قبلي فيه قولان . أحدهما: مضت القرون فلم يرجع منهم أحد، قاله مقاتل . والثاني: مضت القرون مكذبة بهذا، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى: وهما يستغيثان الله أي: يدعوان الله له بالهدى، ويقولان له: ويلك آمن أي: صدق بالبعث، فيقول ما هذا الذي تقولان إلا أساطير الأولين وقد سبق شرحها [الأنعام: 25] .

    قوله تعالى: أولئك يعنى الكفار الذين حق عليهم القول أي: وجب عليهم قضاء الله أنهم من أهل النار في أمم أي: مع أمم . فذكر الله تعالى في الآيتين قبل هذه من بر والديه وعمل بوصية الله عز وجل، ثم ذكر من لم يعمل بالوصية ولم يطع ربه ولا والديه، إنهم كانوا خاسرين وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران: "أنهم" بفتح الهمزة .

    ثم قال: ولكل درجات مما عملوا أي: منازل ومراتب بحسب ما اكتسبوه من إيمان وكفر، فيتفاضل أهل الجنة في الكرامة، وأهل النار في [ ص: 382 ] العذاب وليوفيهم أعمالهم قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو : "وليوفيهم" بالياء، وقرأ الباقون: بالنون; أي: جزاء أعمالهم .

    قوله تعالى: ويوم يعرض المعنى: واذكر لهم يوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم أي: ويقال لهم: أذهبتم، قرأ ابن كثير: ["آذهبتم" بهمزة مطولة . وقرأ] ابن عامر: "أأذهبتم" بهمزتين . وقرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: "أذهبتم" على الخبر، وهو توبيخ لهم . قال الفراء والزجاج: [العرب] توبخ بالألف وبغير الألف، فتقول: أذهبت وفعلت كذا؟! و: ذهبت ففعلت؟! قال المفسرون: والمراد بطيباتهم: ما كانوا فيه من اللذات مشتغلين بها عن الآخرة معرضين عن شكرها . ولما وبخهم الله بذلك، آثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون بعدهم اجتناب نعيم العيش ولذته ليتكامل أجرهم ولئلا يلهيهم عن معادهم . وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على خصفة وبعضه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا، فقال: يا رسول الله أنت نبي الله وصفوته، وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عمر، إن أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم، وهي وشيكة الانقطاع، وإنا أخرت لنا طيباتنا" . وروى جابر بن عبد الله قال: رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي، فقال: ما هذا يا جابر؟ فقلت: اشتهيت لحما فاشتريته، فقال: أو كلما اشتهيت [ ص: 383 ] اشتريت يا جابر؟! أما تخاف هذه الآية: "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" . وروي عن عمر أنه قيل له: لو أمرت أن نصنع لك طعاما ألين من هذا، فقال: إني سمعت الله عير أقواما فقال: "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" .

    قوله تعالى: تستكبرون في الأرض أي: تتكبرون عن عبادة الله والإيمان به .

    واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون . فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم . تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين .

    قوله تعالى: واذكر أخا عاد يعني هودا إذ أنذر قومه بالأحقاف قال الخليل: الأحقاف: الرمال العظام . وقال ابن قتيبة : واحد الأحقاف: حقف، وهو من الرمل: ما أشرف من كثبانه واستطال وانحنى . وقال ابن جرير: هو ما استطال من الرمل ولم يبلغ أن يكون جبلا .

    واختلفوا في المكان الذي سمي بهذا الاسم على ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه جبل بالشام، قاله ابن عباس، والضحاك .

    [ ص: 384 ] والثاني: أنه واد، ذكره عطية . وقال مجاهد: هي أرض . وحكى ابن جرير: أنه واد بين عمان ومهرة . وقال ابن إسحاق: كانوا ينزلون ما بين عمان وحضرموت، واليمن كله .

    والثالث: أن الأحقاف: رمال مشرفة على البحر بأرض يقال لها: الشحر، قاله قتادة .

    قوله تعالى: وقد خلت النذر أي: قد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده بإنذار أممها ألا تعبدوا إلا الله ; والمعنى: لم يبعث رسول قبل هود ولا بعده إلا بالأمر بعبادة الله وحده . وهذا كلام اعترض بين إنذار هود وكلامه لقومه . ثم عاد إلى كلام هود فقال: إني أخاف عليكم .

    قوله تعالى: لتأفكنا أي: لتصرفنا عن عبادة آلهتنا بالإفك .

    قوله تعالى: إنما العلم عند الله أي: هو يعلم متى يأتيكم العذاب .

    فلما رأوه يعني ما يوعدون في قوله: "بما تعدنا" عارضا أي: سحاب يعرض من ناحية السماء . قال ابن قتيبة : العارض: السحاب . قال المفسرون: كان المطر قد حبس عن عاد، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فلما رأوها فرحوا و قالوا هذا عارض ممطرنا ، فقال لهم هود: بل هو ما استعجلتم به ، ثم بين ما هو فقال: ريح فيها عذاب أليم ، فنشأت الريح من تلك السحابة، تدمر كل شيء أي: تهلك كل شيء مرت به من الناس والدواب والأموال . قال عمرو بن ميمون: لقد كانت الريح تحتمل الظعينة فترفعها حتى ترى كأنها جرادة، فأصبحوا يعني عادا لا يرى إلا مساكنهم [ ص: 385 ] قرأ عاصم، وحمزة: "لا يرى" برفع الياء "إلا مساكنهم" برفع النون . وقرأ علي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والجحدري : "لا ترى" بتاء مضمومة . وقرأ أبو عمران، وابن السميفع: "لا ترى" بتاء مفتوحة . "إلا مسكنهم" على التوحيد . وهذا لأن السكان هلكوا، فقيل: أصبحوا وقد غطتهم الريح بالرمل فلا يرون .

    ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون . فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون .

    ثم خوف كفار مكة، فقال عز وجل: ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه في "إن" قولان .

    أحدهما: أنها بمعنى "لم"، فتقديره: فيما لم نمكنكم فيه، [قاله ابن عباس، وابن قتيبة . وقال الفراء: هي بمنزلة "ما" في الجحد، فتقدير الكلام: في الذي لم نمكنكم فيه] .

    والثاني: أنها زائدة; والمعنى: فيما مكناكم فيه، وحكاه ابن قتيبة أيضا .

    [ ص: 386 ] ثم أخبر أنه جعل لهم آلات الفهم، فلم يتدبروا بها، ولم يتفكروا فيما يدلهم على التوحيد . قال المفسرون: والمراد بالأفئدة: القلوب; وهذه الآلات لم ترد عنهم عذاب الله .

    ثم زاد كفار مكة في التخويف، فقال: ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى كديار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من الأمم المهلكة وصرفنا الآيات أي: بيناها لعلهم يعني أهل القرى يرجعون عن كفرهم . وهاهنا محذوف، تقديره: فما رجعوا عن كفرهم .

    فلولا أي: فهلا نصرهم أي: منعهم من عذاب الله الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة ؟! يعني الأصنام التي تقربوا بعبادتها إلى الله على زعمهم; وهذا استفهام إنكار، معناه: لم ينصروهم بل ضلوا عنهم أي: لم ينفعوهم عند نزول العذاب وذلك يعني دعاءهم الآلهة إفكهم أي: كذبهم . وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن يعمر، وأبو عمران: "وذلك أفكهم" بفتح الهمزة وقصرها وفتح الفاء وتشديدها ونصب الكاف . وقرأ أبي بن كعب ، وابن عباس، وأبو رزين ، والشعبي، وأبو العالية، والجحدري : "أفكهم" بفتح الهمزة وقصرها ونصب الكاف والفاء [وتخفيفها] . قال ابن جرير: أي: أضلهم . وقال الزجاج : معناها: صرفهم عن الحق فجعلهم ضلالا . وقرأ ابن مسعود، [ ص: 387 ] وأبو المتوكل: "آفكهم" بفتح الهمزة ومدها وكسر الفاء وتخفيفها ورفع الكاف، أي: مضلهم .

    وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين .

    قوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن وبخ الله عز وجل بهذه الآية كفار قريش بما آمنت به الجن . وفي سبب صرفهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم صرفوا إليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشهب . روى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر، فمر النفر الذين توجهوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بـ "نخلة" وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا [ ص: 388 ] القرآن تسمعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد [الجن: 1 -2] . فأنزل الله على نبيه قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن [الجن: 1] . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن، ولا رآهم، وإنما أتوه وهو بـ "نخلة" فسمعوا القرآن .

    والثاني: أنهم صرفوا إليه لينذرهم، وأمر أن يقرأ عليهم القرآن، هذا مذهب جماعة، منهم قتادة . وفي أفراد مسلم من حديث علقمة قال: قلت لعبد الله: من كان منكم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال: ما كان منا معه أحد، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة، فقلنا: اغتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استطير، فانطلقنا نطلبه في الشعاب، فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا: يا رسول الله، أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال: "إنه أتاني داعي الجن، فذهبت أقرئهم القرآن"، فذهب بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم . وقال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني أمرت أن أقرأ على الجن، فأيكم يتبعني؟" فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا، فأتبعه عبد الله بن مسعود، فدخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له: "شعب الحجون"، وخط على عبد الله خطا ليثبته به، قال: فسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع قلت: يا نبي الله، ما اللغط [ ص: 389 ] الذي سمعت؟ قال: "اجتمعوا إلي في قتيل كان بينهم، فقضيت بينهم بالحق"

    والثالث: أنهم مروا به وهو يقرأ، فسمعوا القرآن . فذكر بعض المفسرين أنه لما يئس من أهل مكة أن يجيبوه، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام- وقيل: ليلتمس نصرهم- وذلك بعد موت أبي طالب، فلما كان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمر به نفر من أشراف جن نصيبين، فاستمعوا القرآن . فعلى هذا القول والقول الأول، لم يعلم بحضورهم حتى أخبره الله تعالى; وعلى القول الثاني، علم بهم حين جاءوا . وفي المكان الذي سمعوا فيه تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم قولان . أحدهما: الحجون، وقد ذكرناه عن ابن مسعود، وبه قال قتادة . والثاني: بطن نخلة، وقد ذكرناه عن ابن عباس، وبه قال مجاهد .

    وأما النفر، فقال ابن قتيبة : يقال: إن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة . وللمفسرين في عدد هؤلاء النفر ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن مسعود، وزر بن حبيش، ومجاهد، ورواه عكرمة عن ابن عباس .

    [ ص: 390 ] والثاني: تسعة، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثالث: اثني عشر ألفا، روي عن عكرمة، ولا يصح، لأن النفر لا يطلق على الكثير .

    قوله تعالى: فلما حضروه أي: حضروا استماعه، و قضي يعني: فرغ من تلاوته ولوا إلى قومهم منذرين أي: محذرين عذاب الله عز وجل إن لم يؤمنوا .

    وهل أنذروا قومهم من قبل أنفسهم، أم جعلهم رسول الله رسلا إلى قومهم؟ فيه قولان .

    قال عطاء: كان دين أولئك الجن اليهودية، فلذلك قالوا: من بعد موسى .

    قوله تعالى: أجيبوا داعي الله يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم . وهذا يدل على أنه أرسل إلى الجن والإنس .

    قوله تعالى: يغفر لكم من ذنوبكم "من" هاهنا صلة .

    [ ص: 391 ] قوله تعالى: فليس بمعجز في الأرض أي: لا يعجز الله تعالى وليس له من دونه أولياء أي: أنصار يمنعونه من عذاب الله تعالى أولئك الذين لا يجيبون الرسل في ضلال مبين .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #494
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ مُحَمَّدٍ
    الحلقة (494)
    صــ 391 إلى صــ 400



    أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير . ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون .

    ثم احتج على إحياء الموتى بقوله: أولم يروا . . . إلى آخر الآية . والرؤية هاهنا بمعنى العلم .

    ولم يعي أي: لم يعجز عن ذلك; يقال: عي فلان بأمره، إذا لم يهتد له ولم يقدر عليه . قال الزجاج : يقال: عييت بالأمر، إذا لم تعرف وجهه، وأعييت، إذا تعبت .

    [ ص: 392 ] قوله تعالى: بقادر قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة مؤكدة . وقال الفراء: العرب تدخل الباء مع الجحد، مثل قولك: ما أظنك بقائم، وهذا قول الكسائي، والزجاج . وقرأ يعقوب: "يقدر" بياء مفتوحة مكان الباء وسكون القاف ورفع الراء من غير ألف . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: كما صبر أولو العزم أي: ذوو الحزم والصبر; وفيهم عشرة أقوال .

    أحدها: أنهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلى الله عليهم وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، وعطاء الخراساني، وابن السائب .

    والثاني: نوح، وهود، وإبراهيم، ومحمد، صلى الله عليهم وسلم، قاله أبو العالية الرياحي .

    والثالث: أنهم الذين لم تصبهم فتنة من الأنبياء، قاله الحسن .

    والرابع: أنهم العرب من الأنبياء، قاله مجاهد، والشعبي .

    والخامس: أنهم إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد، صلى الله عليهم وسلم، قاله السدي

    والسادس: أن منهم إسماعيل، ويعقوب، وأيوب، وليس منهم آدم، ولا يونس، ولا سليمان، قاله ابن جريج .

    والسابع: أنهم الذين أمروا بالجهاد والقتال، قاله ابن السائب، وحكي عن السدي .

    والثامن: أنهم جميع الرسل، فإن الله لم يبعث رسولا إلا كان من أولي العزم، قاله ابن زيد، واختاره ابن الأنباري، وقال: "من" دخلت للتجنيس لا للتبعيض، كما تقول: قد رأيت الثياب من الخز والجباب من القز .

    [ ص: 393 ] والتاسع: أنهم الأنبياء الثمانية عشر المذكورون في سورة [الأنعام: 83 -86]، قاله الحسين بن الفضل .

    والعاشر: أنهم جميع الأنبياء إلا يونس، حكاه الثعلبي .

    قوله تعالى: ولا تستعجل لهم يعني العذاب . قال بعض المفسرين: كان النبي صلى الله عليه وسلم ضجر بعض الضجر، وأحب أن ينزل العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر .

    قوله تعالى: كأنهم يوم يرون ما يوعدون أي: من العذاب لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار لأن ما مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلا . وقيل: لأن مقدار مكثهم في الدنيا قليل في جنب مكثهم في عذاب الآخرة . وهاهنا تم الكلام . ثم قال: بلاغ أي: هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ عن الله إليكم .

    وفي معنى وصف القرآن بالبلاغ قولان .

    أحدهما: أن البلاغ بمعنى التبليغ .

    والثاني: أن معناه: الكفاية، فيكون المعنى: ما أخبرناهم به لهم فيه كفاية وغنى .

    وذكر ابن جرير وجها آخر، وهو أن المعنى: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، ذلك لبث بلاغ، أي: ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى آجالهم، ثم حذفت "ذلك لبث" اكتفاء بدلالة ما ذكر في الكلام عليها .

    [ ص: 394 ] وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: "بلغ" بكسر اللام وتشديدها وسكون الغين من غير ألف .

    قوله تعالى: فهل يهلك وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل، وابن محيصن: "يهلك" بفتح الياء وكسر اللام، أي: عند رؤية العذاب إلا القوم الفاسقون الخارجون عن أمر الله عز وجل؟! .

    [ ص: 395 ]

    سُورَةُ مُحَمَّدٍ
    صلى الله عليه وسلم

    وفيها قولان .

    أحدهما: [أنها] مدنية، قاله الأكثرون، منهم مجاهد، ومقاتل . وحكي عن ابن عباس وقتادة أنها مدنية، إلا آية منها نزلت عليه بعد حجه حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت، وهي قوله: وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك [محمد: 13] .

    والثاني: أنها مكية، قاله الضحاك، والسدي .

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم . والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم . ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم . فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم [ ص: 396 ] فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم . ويدخلهم الجنة عرفها لهم

    قوله تعالى: الذين كفروا أي: بتوحيد الله وصدوا الناس عن الإيمان به، وهم مشركو قريش، أضل أعمالهم أي: أبطلها، ولم يجعل لها ثوابا، فكأنها لم تكن; وقد كانوا يطعمون الطعام، ويصلون الأرحام، ويتصدقون، ويفعلون ما يعتقدونه قربة .

    والذين آمنوا وعملوا الصالحات يعني أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وآمنوا بما نزل على محمد وقرأ ابن مسعود: "نزل" بفتح النون والزاي وتشديدها . وقرأ أبي بن كعب ، ومعاذ القارئ: "أنزل" بهمزة مضمومة مكسورة الزاي . وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، وأبو عمران: "نزل" بفتح النون والزاي وتخفيفها، كفر عنهم سيئاتهم أي: غفرها لهم وأصلح بالهم أي: حالهم، قاله قتادة ، والمبرد .

    قوله تعالى: ذلك قال الزجاج : معناه: الأمر ذلك، وجائز أن يكون: ذلك الإضلال، لاتباعهم الباطل، وتلك الهداية والكفارات باتباع المؤمنين الحق، كذلك يضرب الله للناس أمثالهم أي: كذلك يبين أمثال حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين كهذا البيان .

    قوله تعالى: فضرب الرقاب إغراء; والمعنى: فاقتلوهم، لأن الأغلب في موضع القتل ضرب العنق حتى إذا أثخنتموهم أي: أكثرتم فيهم [ ص: 397 ] القتل فشدوا الوثاق يعني في الأسر; وإنما يكون الأسر بعد المبالغة في القتل . و "الوثاق" اسم من الإيثاق; تقول: أوثقته إيثاقا ووثاقا، إذا شددت أسره لئلا يفلت فإما منا بعد قال أبو عبيدة: إما أن تمنوا، وإما أن تفادوا، ومثله: سقيا، ورعيا، وإنما هو سقيت ورعيت . وقال الزجاج : إما مننتم عليهم بعد أن تأسروهم منا، وإما أطلقتموهم بفداء .

    فصل

    وهذه الآية محكمة عند عامة العلماء . وممن ذهب إلى أن حكم المن والفداء باق لم ينسخ: ابن عمر، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، وأحمد، والشافعي . وذهب قوم إلى نسخ المن والفداء بقوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وممن ذهب إلى هذا ابن جريج، والسدي، وأبو حنيفة . وقد أشرنا إلى القولين في [براءة: 5] .

    قوله تعالى: حتى تضع الحرب أوزارها قال ابن عباس: حتى لا يبقى أحد من المشركين . وقال مجاهد: حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام . وقال سعيد بن جبير: حتى يخرج المسيح . وقال الفراء: حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم . وفي معنى الكلام قولان .

    أحدهما: حتى يضع أهل الحرب سلاحهم; قال الأعشى:


    وأعددت للحرب أوزارها: رماحا طوالا وخيلا ذكورا


    [ ص: 398 ] وأصل "الوزر" ما حملته، فسمي السلاح "أوزارا" لأنه يحمل، هذا قول ابن قتيبة .

    والثاني: حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا ولا يعبدوا إلا الله، ذكره الواحدي .

    قوله تعالى: ذلك أي: الأمر ذلك الذي ذكرنا ولو يشاء الله لانتصر منهم بإهلاكهم أوتعذيبهم بما شاء ولكن أمركم بالحرب ليبلو بعضكم ببعض فيثيب المؤمن ويكرمه بالشهادة، ويخزي الكافر بالقتل والعذاب .

    قوله تعالى: والذين قتلوا قرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم: "قتلوا" بضم القاف وكسر التاء; والباقون: "قاتلوا" بألف .

    قوله تعالى: سيهديهم فيه أربعة أقوال . أحدها: يهديهم إلى أرشد الأمور، قاله ابن عباس . والثاني: يحقق لهم الهداية، قاله الحسن . والثالث: إلى محاجة منكر ونكير . والرابع: إلى طريق الجنة، حكاهما الماوردي .

    وفي قوله: عرفها لهم قولان .

    أحدهما: عرفهم منازلهم فيها فلا يستدلون عليها ولا يخطئونها، هذا قول الجمهور، منهم مجاهد، وقتادة، واختاره الفراء، وأبو عبيدة .

    والثاني: طيبها لهم، رواه عطاء عن ابن عباس . قال ابن قتيبة : وهو قول أصحاب اللغة، يقال: طعام معرف، أي: مطيب .

    وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، وابن محيصن: "عرفها لهم" بتخفيف الراء .

    [ ص: 399 ] يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم . ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها . ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم . إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم . وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم . أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم .

    قوله تعالى: إن تنصروا الله أي: تنصروا دينه ورسوله ينصركم على عدوكم ويثبت أقدامكم عند القتال . وروى المفضل عن عاصم: "ويثبت" بالتخفيف .

    والذين كفروا فتعسا لهم قال الفراء: المعنى: فأتعسهم الله: والدعاء قد يجري مجرى الأمر والنهي . قال ابن قتيبة : هو من قولك: تعست، [ ص: 400 ] أي: عثرت وسقطت . وقال الزجاج : التعس في اللغة: الانحطاط والعثور . وما بعد هذا قد سبق بيانه [الكهف: 105، يوسف: 109] إلى قوله: دمر الله عليهم أي: أهلكهم [الله] وللكافرين أمثالها أي: أمثال تلك العاقبة .

    ذلك الذي فعله بالمؤمنين من النصر، وبالكافرين من الدمار بأن الله مولى الذين آمنوا أي: وليهم .

    وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: ويأكلون كما تأكل الأنعام أي: أن الأنعام تأكل وتشرب، ولا تدري ما في غد، فكذلك الكفار لا يلتفتون إلى الآخرة . و "المثوى": المنزل .

    وكأين مشروح في [آل عمران: 146] . والمراد بقريته: مكة; وأضاف القوة والإخراج إليها، والمراد أهلها، ولذلك قال: أهلكناهم .

    قوله تعالى: أفمن كان على بينة من ربه فيه قولان . أحدهما: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أبو العالية . والثاني: أنه المؤمن، قاله الحسن .

    وفي "البينة" قولان . أحدهما: القرآن، قاله ابن زيد . والثاني: الدين، قاله ابن السائب .

    كمن زين له سوء عمله يعني عبادة الأوثان، وهو الكافر واتبعوا أهواءهم بعبادتها .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #495
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ مُحَمَّدٍ
    الحلقة (495)
    صــ 401 إلى صــ 410



    [ ص: 401 ] مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم .

    مثل الجنة التي وعد المتقون أي: صفتها، وقد شرحناه في [الرعد: 35] . و "المتقون" عند المفسرين: الذين يتقون الشرك . و "الآسن" المتغير الريح، قاله أبو عبيدة، والزجاج . وقال ابن قتيبة : هو المتغير الريح والطعم، و "الآجن" نحوه . وقرأ ابن كثير: "غير أسن" بغير مد . وقد شرحنا قوله لذة للشاربين في [الصافات: 46] .

    قوله تعالى: من عسل مصفى أي: من عسل ليس فيه عكر ولا كدر كعسل أهل الدنيا .

    قوله تعالى: كمن هو خالد في النار قال الفراء: أراد: من كان في هذا النعيم، كمن هو خالد في النار؟! .

    قوله تعالى: ماء حميما أي: حارا شديد الحرارة . و "الأمعاء" جميع ما في [ ص: 402 ] البطن من الحوايا .

    ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم . والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم . فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم .

    قوله تعالى: ومنهم من يستمع إليك يعني المنافقين . وفيما يستمعون قولان . أحدهما: أنه سماع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة . والثاني: سماع قوله على عموم الأوقات . فأما " الذين أوتوا العلم " ، فالمراد: بهم علماء الصحابة .

    قوله تعالى: ماذا قال آنفا قال الزجاج : أي: ماذا قال الساعة، وهو من قولك: استأنفت الشيء: إذا ابتدأته، وروضة أنف: لمن ترع، أي: لها أول يرعى; فالمعنى: ماذا قال في أول وقت يقرب منا . وحدثنا عن أبي عمر غلام ثعلب أنه قال: معنى "آنفا" مذ ساعة . وقرأ ابن كثير، في بعض الروايات عنه: "أنفا" بالقصر، وهذه قراءة عكرمة، وحميد، وابن محيصن . قال أبو علي: يجوز أن يكون ابن كثير توهم، مثل حاذر وحذر، وفاكه وفكه .

    وفي استفهامهم قولان . أحدهما: لأنهم لم يعقلوا ما يقول، ويدل عليه باقي الآية . والثاني: أنهم قالوه استهزاء .

    قوله تعالى: والذين اهتدوا فيهم قولان . أحدهما: أنهم المسلمون، [ ص: 403 ] قاله الجمهور . والثاني: قوم من أهل الكتاب كانوا على الإيمان بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به، قاله عكرمة .

    وفي الذي زادهم ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الله عز وجل . والثاني: قول الرسول . والثالث: استهزاء المنافقين زاد المؤمنين هدى، ذكرهن الزجاج . وفي معنى الهدى قولان . أحدهما: أنه العلم . والثاني: البصيرة .

    وفي قوله: وآتاهم تقواهم ثلاثة أقوال . أحدها: ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي . والثاني: اتقاء المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية . والثالث: أعطاهم التقوى مع الهدى، فاتقوا معصيته خوفا من عقوبته، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    وينظرون بمعنى ينتظرون، أن تأتيهم وقرأ أبي بن كعب ، وأبو الأشهب، وحميد: "إن تأتهم" بكسر الهمزة من غير ياء بعد التاء . والأشراط: العلامات; قال أبو عبيدة: الأشراط: الأعلام، وإنما سمي الشرط -فيما ترى- لأنهم أعلموا أنفسهم . قال المفسرون: ظهور النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وانشقاق القمر والدخان وغير ذلك .

    [ ص: 404 ] فأنى لهم أي: فمن أين لهم إذا جاءتهم الساعة ذكراهم ؟! قال قتادة: أنى لهم أن يذكروا ويتوبوا إذا جاءت؟!

    فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم . ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم . طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم .

    قوله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله قال بعضهم: اثبت على علمك، وقال قوم: المراد بهذا الخطاب غيره; وقد شرحنا هذا في فاتحة " الأحزاب " . وقيل: إنه كان يضيق صدره بما يقولون، فقيل له: اعلم أنه لا كاشف لما بك إلا الله .

    فأما قوله: واستغفر لذنبك فإنه كان يستغفر في اليوم مائة مرة، وأمر أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات إكراما لهم لأنه شفيع مجاب .

    [ ص: 405 ] والله يعلم متقلبكم ومثواكم فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: متقلبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة، وهو معنى قول ابن عباس .

    والثاني: متقلبكم في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء، ومقامكم في القبور، قاله عكرمة .

    والثالث: "متقلبكم" بالنهار و "مثواكم" أي: مأواكم بالليل، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة قال المفسرون: سألوا ربهم أن ينزل سورة فيها ثواب القتال في سبيل الله، اشتياقا منهم إلى الوحي وحرصا على الجهاد، فقالوا: "لولا" أي: هلا; وكان أبو مالك الأشجعي يقول: "لا" هاهنا صلة، فالمعنى: لو أنزلت سورة، شوقا منهم إلى الزيادة في العلم، ورغبة في الثواب والأجر بالاستكثار من الفرائض .

    وفي معنى "محكمة" ثلاثة أقوال . أحدها: أنها التي يذكر فيها القتال، قاله قتادة . والثاني: أنها التي يذكر فيها الحلال والحرام . والثالث: التي لا منسوخ فيها، حكاهما أبو سليمان الدمشقي .

    ومعنى قوله: وذكر فيها القتال أي: فرض فيها الجهاد .

    وفي المراد بالمرض قولان . أحدهما: النفاق، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور . والثاني: الشك، قاله مقاتل .

    [ ص: 406 ] قوله تعالى: ينظرون إليك أي يشخصون نحوك بأبصارهم ينظرون نظرا شديدا كما ينظر الشاخص ببصره عند الموت، لأنهم يكرهون القتال، ويخافون إن قعدوا أن يتبين نفاقهم .

    فأولى لهم قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد: "أولى لك" أي: وليك وقاربك ما تكره . وقال ابن قتيبة : هذا وعيد وتهديد، تقول للرجل -إذا أردت به سوءا، ففاتك- أولى لك، ثم ابتدأ، فقال: طاعة وقول معروف . . . وقال سيبويه والخليل: المعنى: طاعة وقول معروف أمثل . وقال الفراء: الطاعة معروفة في كلام العرب، إذا قيل لهم: افعلوا كذلك، قالوا: سمع وطاعة، فوصف [الله] قولهم قبل أن تنزل السورة أنهم يقولون: سمع وطاعة، فإذا نزل الأمر كرهوا . وأخبرني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال الله تعالى: فأولى ، ثم قال: لهم أي: للذين آمنوا منهم طاعة ، فصارت "أولى" وعيدا لمن كرهها، واستأنف الطاعة بـ "لهم"; والأول عندنا كلام العرب، وهذا غير مردود، يعني حديث أبي صالح . وذكر بعض المفسرين أن الكلام متصل بما قبله; والمعنى: فأولى لهم أن يطيعوا وأن يقولوا معروفا بالإجابة .

    قوله تعالى: فإذا عزم الأمر قال الحسن: جد الأمر . وقال غيره: جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد، ولزم فرض القتال، وصار الأمر معروفا عليه . وجواب "إذا" محذوف، تقديره: فإذا عزم الأمر نكلوا; يدل على المحذوف فلو صدقوا الله أي: في إيمانهم وجهادهم لكان خيرا لهم من المعصية والكراهة .

    [ ص: 407 ] فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم . أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها . إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم . ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم . فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم . ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم

    قوله تعالى: فهل عسيتم إن توليتم في المخاطب بهذا أربعة أقوال . أحدها: المنافقون، وهو الظاهر . والثاني: منافقو اليهود، قاله مقاتل . والثالث: الخوارج، قاله بكر بن عبد الله المزني . والرابع: قريش، حكاه جماعة منهم الماوردي .

    وفي قوله: توليتم قولان .

    أحدهما: أنه بمعنى الإعراض . فالمعنى: إن أعرضتم عن الإسلام أن تفسدوا في الأرض بأن تعودوا إلى الجاهلية يقتل بعضكم بعضا، ويغير بعضكم على بعض، ذكره جماعة من المفسرين .

    والثاني: أنه من الولاية لأمور الناس، قاله القرظي . فعلى هذا يكون معنى "أن تفسدوا في الأرض": بالجور والظلم .

    وقرأ يعقوب: "وتقطعوا" بفتح التاء والطاء وتخفيفها وسكون القاف . ثم ذم من يريد ذلك بالآية التي بعد هذه .

    [ ص: 408 ] وما بعد هذا قد سبق [النساء: 82] إلى قوله: أم على قلوب أقفالها "أم" بمعنى "بل"، وذكر الأقفال استعارة، والمراد أن القلب يكون كالبيت المقفل لا يصل إليه الهدى . [قال مجاهد]: الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد ذلك كله، وقال خالد بن معدان: مامن آدمي إلا وله أربع أعين، عينان في رأسه لدنياه وما يصلحه من معيشته، وعينان في قلبه لدينه وما وعد الله من الغيب، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه، وإذا أراد به غير ذلك طمس عليهما، فذلك قوله: "أم على قلوب أقفالها" .

    قوله تعالى: إن الذين ارتدوا على أدبارهم أي: رجعوا كفارا; وفيهم قولان . أحدهما: أنهم المنافقون، قاله ابن عباس، والسدي، وابن زيد . والثاني: أنهم اليهود، قاله قتادة ، ومقاتل . من بعد ما تبين لهم الهدى أي: من بعد ما وضح لهم الحق . ومن قال: هم اليهود، قال: من بعد أن [ ص: 409 ] تبين لهم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم . و سول بمعنى زين . وأملى لهم قرأ أبو عمرو، وزيد عن يعقوب: "وأملي لهم" بضم الهمزة وكسر اللام وبعدها ياء مفتوحة . وقرأ يعقوب إلا زيدا، وأبان عن عاصم كذلك، إلا أنهما أسكنا الياء . وقرأ الباقون بفتح الهمزة واللام . وقد سبق معنى الإملاء [آل عمران: 178، الأعراف: 183] .

    قوله تعالى: ذلك قال الزجاج : المعنى: الأمر ذلك، أي: ذلك الإضلال بقولهم للذين كرهوا ما نزل الله وفي الكارهين قولان .

    أحدهما: أنهم المنافقون، فعلى هذا في معنى قوله: سنطيعكم في بعض الأمر ثلاثة أقوال . أحدها: في القعود عن نصرة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي . والثاني: في الميل إليكم والمظاهرة على محمد صلى الله عليه وسلم . والثالث: في الارتداد بعد الإيمان، حكاهما الماوردي .

    والثاني: أنهم اليهود، فعلى هذا في الذي أطاعوهم فيه قولان . أحدهما: في أن لا يصدقوا شيئا من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الضحاك . والثاني: في كتم ما علموه من نبوته، قاله ابن جريج .

    والله يعلم إسرارهم قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، والوليد عن يعقوب: بكسر الألف على أنه مصدر أسررت; وقرأ الباقون: بفتحها على أنه جمع سر، والمعنى أنه يعلم ما بين اليهود والمنافقين من السر .

    [ ص: 410 ] قوله تعالى: فكيف إذا توفتهم الملائكة أي: فكيف يكون حالهم حينئذ؟ وقد بينا في [الأنفال: 50] معنى قوله: يضربون وجوههم وأدبارهم .

    قوله تعالى: وكرهوا رضوانه أي: كرهوا ما فيه الرضوان، وهو الإيمان والطاعة .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #496
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الْفَتْحِ
    الحلقة (496)
    صــ 411 إلى صــ 420




    أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم .

    قوله تعالى: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أي: نفاق أن لن يخرج الله أضغانهم قال الفراء: أي لن يبدي الله عداوتهم وبغضهم لمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال الزجاج : أي: لن يبدي عداوتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم ويظهره على نفاقهم .

    [ ص: 411 ] ولو نشاء لأريناكهم أي: لعرفناكهم: تقول: قد أريتك هذا الأمر، أي: قد عرفتك إياه، المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة، وهي السيماء فلعرفتهم بسيماهم أي: بتلك العلامة ولتعرفنهم في لحن القول أي: في فحوى القول، فدل بهذا على أن قول القائل وفعله يدل على نيته . وقول الناس: قد لحن فلان، تأويله: قد أخذ في ناحية عن الصواب، وعدل عن الصواب إليها، وقول الشاعر:


    منطق صائب وتلحن أحيا نا، وخير الحديث ما كان لحنا


    تأويله: خير الحديث من مثل هذه ما كان لا يعرفه كل أحد، إنما يعرف قولها في أنحاء قولها . قال المفسرون: ولتعرفنهم في فحوى الكلام ومعناه ومقصده، فإنهم يتعرضون بتهجين أمرك والاستهزاء بالمسلمين . قال ابن جرير: ثم عرفه الله إياهم .

    قوله تعالى: ولنبلونكم أي: ولنعاملنكم معاملة المختبر بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم العلم الذي هو علم وجود، وبه يقع الجزاء; وقد شرحنا هذا في [العنكبوت: 3] .

    قوله تعالى: ونبلو أخباركم أي: نظهرها ونكشفها بإباء من يأبى القتال ولا يصبر على الجهاد . وقرأ أبو بكر عن عاصم: "وليبلونكم" بالياء "حتى يعلم" بالياء "ويبلو" بالياء فيهن . وقرأ معاذ القارئ، [ ص: 412 ] وأيوب السختياني: "أخياركم" بالياء جمع "خير" .

    قوله تعالى: إن الذين كفروا . . . [الآية] اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .

    أحدها: أنها في المطعمين يوم بدر، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنها نزلت في الحارث بن سويد، ووحوح الأنصاري، أسلما ثم ارتدا، فتاب الحارث ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى صاحبه أن يرجع حتى مات، قاله السدي .

    والثالث: أنها في اليهود، قاله مقاتل .

    والرابع: أنها في قريظة [والنضير]، ذكره الواحدي .

    قوله تعالى: ولا تبطلوا أعمالكم اختلفوا في مبطلها على أربعة أقوال . أحدها: المعاصي والكبائر، قاله الحسن . والثاني: الشك والنفاق، قاله عطاء . والثالث، الرياء والسمعة، قاله ابن السائب . والرابع: بالمن، وذلك [ ص: 413 ] أن قوما من الأعراب قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتيناك طائعين، فلنا عليك حق، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله: يمنون عليك أن أسلموا [الحجرات: 17]، هذا قول مقاتل . قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدل على أن كل من دخل في قربة لم يجز له الخروج منها قبل إتمامها، وهذا على ظاهره في الحج، فأما في الصلاة والصيام، فهو على سبيل الاستحباب .

    فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم .

    قوله تعالى: فلا تهنوا أي: فلا تضعفوا وتدعوا إلى السلم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: "إلى السلم" بفتح السين; وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: بكسر السين، والمعنى: لا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء . وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز طلب الصلح من المشركين، ودلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل مكة صلحا، لأنه نهاه عن الصلح .

    [ ص: 414 ] قوله تعالى: وأنتم الأعلون أي: أنتم أعز منهم، والحجة لكم، وآخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات والله معكم بالعون والنصرة ولن يتركم قال ابن قتيبة : أي: لن ينقصكم ولن يظلمكم، يقال: وترتني حقي، أي: بخستنيه . قال المفسرون: المعنى: لن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا .

    قوله تعالى: ولا يسألكم أموالكم أي: لن يسألكموها كلها .

    قوله تعالى: فيحفكم قال الفراء: يجهدكم . وقال ابن قتيبة : يلح عليكم بما يوجبه في أموالكم تبخلوا ، [يقال: أحفاني بالمسألة وألحف: إذا ألح . وقال السدي: إن يسألكم جميع ما في أيديكم تبخلوا] .

    ويخرج أضغانكم وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن يعمر: "ويخرج" بياء مرفوعة وفتح الراء "أضغانكم" بالرفع . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو رزين ، وعكرمة، وابن السميفع، وابن محيصن، والجحدري : "وتخرج" بتاء مفتوحة ورفع الراء "أضغانكم" بالرفع . وقرأ ابن مسعود، والوليد عن [ ص: 415 ] يعقوب: "ونخرج" بنون مرفوعة وكسر الراء "أضغانكم" بنصب النون، أي: يظهر بغضكم وعداوتكم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم; ولكنه فرض عليكم يسيرا .

    وفيمن يضاف إليه هذا الإخراج وجهان .

    أحدهما: إلى الله عز وجل . والثاني: البخل، حكاهما الفراء . وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، وليس بصحيح، لأنا قد بينا أن معنى الآية: إن يسألكم جميع أموالكم; والزكاة لا تنافي ذلك .

    قوله تعالى: ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله يعني ما فرض عليكم في أمولكم فمنكم من يبخل بما فرض عليه من الزكاة ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه أي: على نفسه بما ينفعها في الآخرة والله الغني عنكم وعن أموالكم وأنتم الفقراء إليه وإلى ما عنده من الخير والرحمة وإن تتولوا عن طاعته يستبدل قوما غيركم أطوع له منكم ثم لا يكونوا أمثالكم بل خيرا منكم . وفي هؤلاء القوم ثمانية أقوال .

    أحدها: أنهم العجم، قاله الحسن . وفيه حديث يرويه أبو هريرة قال: لما نزلت "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم" كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين إذا تولينا استبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم [يده] على منكب سلمان، فقال: "هذا وقومه، والذي نفسي بيده، لو أن الدين معلق بالثريا لتناوله رجال من فارس" . والثاني: فارس والروم، قاله [ ص: 416 ] عكرمة . والثالث: من يشاء من جميع الناس، قاله مجاهد . والرابع: يأتي بخلق جديد غيركم، وهو معنى قول قتادة . والخامس: كندة والنخع، قاله ابن السائب . والسادس: أهل اليمن، قاله راشد بن سعد، وعبد الرحمن بن جبير، وشريح بن عبيد . والسابع: الأنصار، قاله مقاتل . والثامن: أنهم الملائكة، حكاه الزجاج وقال: فيه بعد [لأنه] لا يقال للملائكة "قوم"، إنما يقال ذلك [ ص: 417 ] للآدميين; قال: وقد قيل: إن تولى أهل مكة استبدل الله بهم أهل المدينة، وهذا [معنى] ما ذكرنا عن مقاتل .

    [ ص: 418 ]
    سُورَةُ الْفَتْحِ
    وهي مدنية كلها بإجماعهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا .

    قوله تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا . . . [الآية] سبب نزولها أنه لما نزل قوله: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم [الأحقاف: 9] قال اليهود: كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به؟! فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس .

    وفي المراد بالفتح أربعة أقوال .

    أحدها: أنه كان يوم الحديبية، قاله الأكثرون . قال البراء بن عازب: نحن نعد الفتح بيعة الرضوان . وقال الشعبي: هو فتح الحديبية، غفر له [ ص: 419 ] ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس . قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام . قال مجاهد: يعني بالفتح ما قضى الله له من نحر الهدي [ ص: 420 ] بالحديبية وحلق رأسه، وقال ابن قتيبة : "إنا فتحنا لك فتحا مبينا" أي: قضينا لك قضاء عظيما، ويقال للقاضي: الفتاح . قال الفراء: والفتح قد يكون صلحا، ويكون أخذ الشيء عنوة، ويكون بالقتال . وقال غيره: معنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصلح الذي جعل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذرا حتى فتحه الله تعالى .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #497
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الْفَتْحِ
    الحلقة (497)
    صــ 421 إلى صــ 430




    الإشارة إلى قصة الحديبية

    روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في النوم كأن قائلا يقول [له]: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين، فأصبح فحدث الناس برؤياه، وأمرهم بالخروج للعمرة; فذكر أهل العلم بالسير أنه خرج واستنفر أصحابه للعمرة، وذلك في سنة ست، ولم يخرج بسلاح إلا السيوف في القرب . وساق هو وأصحابه البدن . فصلى الظهر بـ "ذي الحليفة"، ثم دعا بالبدن فجللت، ثم أشعرها وقلدها، وفعل ذلك أصحابه، وأحرم ولبى، فبلغ المشركين خروجه، فأجمع رأيهم على صده عن المسجد الحرام، [ ص: 421 ] وخرجوا حتى عسكروا بـ "بلدح"، وقدموا مائتي فارس إلى كراع الغميم، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دنا من الحديبية; قال الزجاج : وهي بئر، فسمي المكان باسم البئر; قالوا: وبينها وبين مكة تسعة أميال، فوقفت يدا راحلته، فقال المسلمون: حل حل يزجرونها، فأبت، فقالوا: خلأت القصواء -والخلاء في الناقة مثل الحران في الفرس- فقال: "ما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل، أما والله لا يسألوني خطة فيها تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم إياها"، ثم جرها فقامت، فولى راجعا عوده على بدئه حتى نزل على ثمد من أثماد الحديبية قليل الماء، فانتزع سهما من كنانته فغرزه فيها، فجاشت لهم بالرواء، وجاءه بديل بن ورقاء في ركب فسلموا وقالوا: جئناك من [ ص: 422 ] عند قومك وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، يقسمون، لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراءهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم نأت لقتال أحد إنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه"، فرجع [بديل] فأخبر قريشا، فبعثوا عروة بن مسعود، فكلمه بنحو ذلك، فأخبر قريشا، فقالوا: نرده من عامنا هذا، ويرجع من قابل فيدخل مكة ويطوف بالبيت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، قال: "اذهب إلى قريش فأخبرهم أنا لم نأت لقتال أحد، وإنما جئنا زوارا لهذا البيت، معنا الهدي ننحره وننصرف، فأتاهم فأخبرهم، فقالوا: لا كان هذا أبدا، ولا يدخلها العام، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فقال: "لا نبرح حتى نناجزهم"، فذاك حين دعا المسلمين إلى بيعة الرضوان، فبايعهم تحت الشجرة .

    وفي عددهم يومئذ أربعة أقوال .

    أحدها: ألف وأربعمائة، قاله البراء، وسلمة بن الأكوع، وجابر، ومعقل بن يسار .

    والثاني: ألف وخمسمائة، روي عن جابر أيضا، وبه قال قتادة .

    والثالث: ألف وخمسمائة وخمس وعشرون، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والرابع: ألف وثلاثمائة، قاله عبد الله بن أبي أوفى، قال: وضرب يومئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله على يمينه لعثمان، وقال: إنه ذهب في حاجة الله ورسوله، [ ص: 423 ] وجعلت الرسل تختلف بينهم، فأجمعوا على الصلح، فبعثوا سهيل بن عمرو في عدة رجال، فصالحه كما ذكرنا في [براءة: 7]، فأقام بالحديبية بضعة عشر يوما، ويقال: عشرين ليلة، ثم انصرف، فلما كان بـ "ضجنان" نزل عليه: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا"، فقال جبريل: يهنيك يا رسول الله، وهنأه المسلمون .

    والقول الثاني: أن هذا الفتح فتح مكة، رواه مسروق عن عائشة، وبه قال السدي . وقال بعض من ذهب إلى هذا: إنما وعد بفتح مكة بهذه الآية .

    والثالث: أنه فتح خيبر، قاله مجاهد، والعوفي وعن أنس بن مالك كالقولين .

    والرابع: أنه القضاء له بالإسلام، قاله مقاتل . وقال غيره: حكمنا لك بإظهار دينك والنصرة على عدوك .

    قوله تعالى: ليغفر لك الله قال ثعلب: اللام لام "كي"، والمعنى: لكي يجتمع لك [مع] المغفرة تمام النعمة في الفتح، فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث، حسن معنى "كي"، وغلط من قال: ليس الفتح سبب المغفرة .

    قوله تعالى: ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال ابن عباس: والمعنى: "ما تقدم" في الجاهلية، و "ما تأخر" ما لم تعلمه، وهذا على سبيل التأكيد، كما تقول: فلان يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه .

    قوله تعالى: ويتم نعمته عليك فيه أربعة أقوال .

    أحدها: أن ذلك في الجنة . والثاني: أنه بالنبوة والمغفرة، رويا عن ابن عباس . والثالث: بفتح مكة والطائف وخيبر، حكاه الماوردي . والرابع: بإظهار دينك على سائر الأديان، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى: ويهديك صراطا مستقيما أي: ويثبتك عليه; وقيل: [ ص: 424 ] ويهدي بك، وينصرك الله على عدوك نصرا عزيزا قال الزجاج : أي: نصرا ذا عز لا يقع معه ذل .

    هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما إنا أرسلناك [ ص: 425 ] شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما .

    قوله تعالى: هو الذي أنزل السكينة أي: السكون والطمأنينة في قلوب المؤمنين لئلا تنزعج قلوبهم لما يرد عليهم، فسلموا لقضاء الله، وكانوا قد اشتد عليهم صد المشركين لهم عن البيت، حتى قال عمر: علام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني"، ثم أوقع الله الرضى بما جرى في قلوب المسلمين، فسلموا وأطاعوا .

    ليزدادوا إيمانا وذلك أنه كلما نزلت فريضة زاد إيمانهم .

    ولله جنود السماوات والأرض يريد أن جميع أهل السموات والأرض ملك له، لو أراد نصرة نبيه بغيركم لفعل، ولكنه اختاركم لذلك، فاشكروه .

    قوله تعالى: ليدخل المؤمنين . . . [الآية] سبب نزولها أنه لما نزل قوله: "إنا فتحنا لك" قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هنيئا لك يا رسول الله بما أعطاك الله، فما لنا؟ فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك . قال مقاتل: [ ص: 426 ] فلما سمع عبد الله بن أبي بذلك، انطلق في نفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما لنا عند الله؟ فنزلت: ويعذب المنافقين . . . الآية .

    قال ابن جرير: كررت اللام في "ليدخل" على اللام في "ليغفر"، فالمعنى: إنا فتحنا لك ليغفر لك الله ليدخل المؤمنين، ولذلك لم يدخل بينهما واو العطف، والمعنى: ليدخل وليعذب .

    قوله تعالى: عليهم دائرة السوء قرأ ابن كثير، وأبو عمرو : بضم السين; والباقون: بفتحها .

    قوله تعالى: وكان ذلك أي: ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم عند الله أي: في حكمه فوزا عظيما لهم; والمعنى: أنه حكم لهم بالفوز، فلذلك وعدهم إدخال الجنة .

    قوله تعالى: الظانين بالله ظن السوء فيه خمسة أقوال .

    أحدها: أنهم ظنوا أن لله شريكا . والثاني: أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه . والثالث: أنهم ظنوا به حين خرج إلى الحديبية أنه سيقتل أويهزم ولا يعود ظافرا . والرابع: أنهم ظنوا أنهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة واحدة عند الله . والخامس: ظنوا أن الله لا يبعث الموتى . وقد بينا معنى "دائرة السوء" في [براءة: 98] .

    وما بعد هذا قد سبق بيانه [الفتح: 4، الأحزاب: 45] إلى قوله: ( ليؤمنوا [ ص: 427 ] بالله ورسوله ) قرأ ابن كثير" وأبو عمرو : "ليؤمنوا" بالياء "ويعزروه ويوقروه ويسبحوه" كلهن بالياء; والباقون: بالتاء; على معنى: قل لهم: إنا أرسلناك، لتؤمنوا وقرأ علي بن أبي طالب، وابن السميفع: "ويعززوه" بزاءين . وقد ذكرنا في [الأعراف: 157] معنى "ويعزروه" عند قوله: وعزروه ونصروه .

    قوله تعالى: ( ويوقروه ) أي: يعظموه ويبجلوه . واختار كثير من القراء الوقف هاهنا، لاختلاف الكناية فيه وفيما بعده .

    قوله تعالى: ( ويسبحوه ) هذه الهاء ترجع إلى الله عز وجل . والمراد بتسبيحه هاهنا: الصلاة له . قال المفسرون: والمراد بصلاة البكرة: الفجر، وبصلاة الأصيل: باقي الصلوات الخمس .

    قوله تعالى: إن الذين يبايعونك يعني بيعة الرضوان بالحديبية . وعلى ماذا بايعوه؟ فيه قولان .

    أحدهما: أنهم بايعوه على الموت، قاله عبادة بن الصامت .

    والثاني: على أن لا يفروا، قاله جابر بن عبد الله . ومعناهما متقارب، لأنه أراد: على أن لا تفروا ولو متم . وسميت بيعة، لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة، وكان العقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم بايعوا الله عز وجل، لأنه ضمن لهم الجنة بوفائهم .

    يد الله فوق أيديهم فيه أربعة أقوال .

    أحدها: يد الله في الوفاء فوق أيديهم . والثاني: يد الله في الثواب فوق أيديهم . والثالث: يد الله عليهم في المنة بالهداية فوق أيديهم بالطاعة، ذكر هذه [ ص: 428 ] الأقوال الزجاج . والرابع: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم، ذكره ابن جرير، وابن كيسان .

    قوله تعالى: فمن نكث أي: نقض ما عقده من هذه البيعة فإنما ينكث على نفسه أي: يرجع ذلك النقض عليه ومن أوفى بما عاهد عليه الله من البيعة ( فسنؤتيه ) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبان عن عاصم: "فسنؤتيه" بالنون . وقرأ عاصم، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: بالياء أجرا عظيما وهو الجنة . قال ابن السائب: فلم ينكث العهد منهم غير رجل واحد يقال له: الجد بن قيس، وكان منافقا .

    سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ولله ملك السماوات [ ص: 429 ] والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما .

    قوله تعالى: سيقول لك المخلفون من الأعراب قال ابن إسحاق: لما أراد العمرة استنفر من حول المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه، خوفا من قومه أن يعرضوا له بحرب أو بصد، فتثاقل عنه كثير منهم، فهم الذين عنى الله بقوله: "سيقول لك المخلفون من الأعراب"، قال أبو صالح عن [ابن عباس]: وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع والديل وأسلم . قال يونس النحوي: الديل في عبد القيس ساكن الياء . والدول من حنيفة ساكن الواو، والدئل في كنانة رهط أبي الأسود الدؤلي . فأما المخلفون، فإنهم تخلفوا مخافة القتل . شغلتنا أموالنا وأهلونا أي: خفنا عليهم الضيعة فاستغفر لنا أي: ادع [الله] أن يغفر لنا تخلفنا عنك يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم أي: ما يبالون استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم .

    قوله تعالى: فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: "ضرا" بضم الضاد; والباقون: بالفتح . قال أبو علي: "الضر" بالفتح: خلاف النفع، وبالضم: سوء الحال، ويجوز أن يكونا لغتين كالفقر والفقر، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع بسلامة أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم الله تعالى أنه إن أراد بهم شيئا، لم يقدر أحد على دفعه [عنهم]، بل كان الله بما تعملون خبيرا من تخلفهم وقولهم عن المسلمين أنهم سيهلكون، وذلك قوله: بل ظننتم أي: توهمتم أن [ ص: 430 ] لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أي: لا يرجعون إلى المدينة، لاستئصال العدو إياهم، وزين ذلك في قلوبكم وذلك من تزيين الشيطان .

    قوله تعالى: وكنتم قوما بورا قد ذكرناه في [الفرقان: 18] .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #498
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الْفَتْحِ
    الحلقة (498)
    صــ 431 إلى صــ 440





    سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا .

    وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: سيقول المخلفون الذين تخلفوا عن الحديبية إذا انطلقتم إلى مغانم ذلك أنهم لما انصرفوا عن الحديبية بالصلح وعدهم الله فتح خيبر، وخص بها من شهد الحديبية فانطلقوا إليها، فقال هؤلاء المخلفون: ذرونا نتبعكم ، قال الله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: "أن يبدلوا كلم الله" بكسر اللام .

    وفي المعنى قولان .

    أحدهما: أنه مواعيد الله بغنيمة خيبر لأهل الحديبية خاصة، قاله ابن عباس .

    والثاني: أمر الله نبيه أن لا يسير معه منهم أحد، وذلك أن الله وعده وهو بالحديبية أن يفتح عليه خيبر، ونهاه أن يسير معه أحد من المتخلفين، قاله مقاتل .

    وعلى القولين: قصدوا أن يجيز لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف أمر الله، فيكون تبديلا لأمره .

    قوله تعالى: كذلكم قال الله من قبل فيه قولان .

    [ ص: 431 ] أحدهما: قال: إن غنائم خيبر لمن شهد الحديبية، وهذا على القول الأول .

    والثاني: قال: لن تتبعونا، وهذا قول مقاتل .

    فسيقولون بل تحسدوننا أي: يمنعكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم .

    قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما .

    قوله تعالى: ستدعون إلى قوم المعنى: إن كنتم تريدون الغزو والغنيمة فستدعون إلى جهاد قوم أولي بأس شديد .

    وفي هؤلاء القوم ستة أقوال .

    أحدها: أنهم فارس، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وابن أبي ليلى، وابن جريج في آخرين . والثاني: فارس والروم، قاله الحسن، ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد . والثالث: أنهم أهل الأوثان، رواه ليث عن مجاهد . والرابع: أنهم الروم، قاله كعب . والخامس: أنهم هوازن وغطفان، وذلك يوم حنين، قاله سعيد بن جبير، وقتادة . والسادس: بنو حنيفة يوم اليمامة، وهم أصحاب مسيلمة الكذاب، قاله الزهري، وابن السائب، ومقاتل . قال مقاتل: خلافة أبي بكر في هذه بينة مؤكدة . [ ص: 432 ] وقال رافع بن خديج: كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعي أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم هم . وقال بعض أهل العلم: لا يجوز أن تكون هذه الآية إلا في العرب، لقوله: تقاتلونهم أو يسلمون ، وفارس والروم إنما يقاتلون حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية . وقد استدل جماعة من العلماء على صحة إمامة أبي بكر وعمر بهذه الآية، لأنه إن أريد بها بنو حنيفة، فأبو بكر دعا إلى قتالهم، وإن أريد بها فارس والروم، فعمر دعا إلى قتالهم، والآية تلزمهم اتباع طاعة من يدعوهم، وتتوعدهم على التخلف بالعقاب . قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدل على صحة إمامتهما إذا كان المتولي عن طاعتهما مستحقا للعقاب .

    قوله تعالى: فإن تطيعوا قال ابن جريج: فإن تطيعوا أبا بكر وعمر، وإن تتولوا عن طاعتهما كما توليتم عن طاعة محمد صلى الله عليه وسلم في المسير إلى الحديبية . وقال الزجاج : المعنى: إن تبتم وتركتم نفاقكم وجاهدتم، يؤتكم الله أجرا حسنا، وإن توليتم فأقمتم على نفاقكم، وأعرضتم عن الإيمان والجهاد كما توليتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعذبكم عذابا أليما .

    [ ص: 433 ] قوله تعالى: ليس على الأعمى حرج قال المفسرون: عذر الله أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية .

    قوله تعالى: يدخله جنات قرأ نافع، وابن عامر: "ندخله" و "نعذبه" بالنون فيهما; والباقون: بالياء .

    لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا .

    [ ص: 434 ] ثم ذكر الذين أخلصوا نيتهم وشهدوا بيعة الرضوان بقوله: لقد رضي الله عن المؤمنين وقد ذكرنا سبب هذه البيعة آنفا . وإنما سميت بيعة الرضوان، لقوله: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة روى إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه، قال: بينما نحن قائلون زمن الحديبية، نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، البيعة، البيعة، نزل روح القدس، قال: فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة، فبايعناه . وقال عبد الله بن مغفل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة يبايع الناس، وإني لأرفع أغصانها عن رأسه . وقال بكير بن الأشج: كانت الشجرة بفج نحو مكة . قال نافع: كان الناس يأتون تلك الشجرة فيصلون عندها، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فأوعدهم فيها، وأمر بها فقطعت .

    قوله تعالى: فعلم ما في قلوبهم أي: من الصدق والوفاء، والمعنى: علم أنهم مخلصون فأنزل السكينة عليهم يعني الطمأنينة والرضى حتى [ ص: 435 ] بايعوا على أن يقاتلوا ولا يفروا وأثابهم أي: عوضهم على الرضى بقضائه والصبر على أمره فتحا قريبا وهو خيبر، ومغانم كثيرة يأخذونها أي: من خيبر، لأنها كانت ذات عقار وأموال . فأما قوله بعد هذا: وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فقال المفسرون: هي الفتوح التي تفتح على المسلمين إلى يوم القيامة .

    فعجل لكم هذه فيها قولان . أحدهما: أنها غنيمة خيبر، قاله مجاهد، وقتادة، والجمهور . والثاني: أنه الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، رواه العوفي عن ابن عباس .

    قوله تعالى: وكف أيدي الناس عنكم فيهم ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم اليهود هموا أن يغتالوا عيال المسلمين الذين خلفوهم في المدينة، فكفهم الله عن ذلك، قاله قتادة .

    والثاني: أنهم أسد وغطفان جاؤوا لينصروا أهل خيبر، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فانصرفوا عنهم، قاله مقاتل . وقال الفراء: كانت أسد وغطفان [مع أهل خيبر، فقصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالحوه وخلوا بينه وبين خيبر . وقال غيرهما: بل همت أسد وغطفان] باغتيال [أهل] المدينة، فكفهم الله عن ذلك .

    والثالث: أنهم أهل مكة كفهم الله بالصلح، حكاهما الثعلبي وغيره .

    [ ص: 436 ] ففي قوله: "عنكم" قولان . أحدهما: أنه على أصله، قاله الأكثرون . والثاني: عن عيالكم، قاله ابن قتيبة ، وهو مقتضى قول قتادة .

    ولتكون آية للمؤمنين في المشار إليها قولان .

    أحدهما: أنها الفعلة التي فعلها بكم من كف أيديهم عنكم كانت آية للمؤمنين، فعلموا أن الله تعالى متولي حراستهم في مشهدهم ومغيبهم .

    والثاني: أنها خيبر كان فتحها علامة للمؤمنين في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وعدهم به .

    قوله تعالى: ويهديكم صراطا مستقيما فيه قولان .

    أحدهما: طريق التوكل عليه والتفويض إليه، وهذا على القول الأول .

    والثاني: يزيدكم هدى بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من وعد الله تعالى بالفتح والغنيمة .

    قوله تعالى: وأخرى المعنى: وعدكم الله مغانم أخرى; وفيها أربعة أقوال .

    أحدها: أنها ما فتح للمسلمين بعد ذلك . روى سماك الحنفي عن ابن عباس "وأخرى لم تقدروا عليها" قال: ما فتح لكم من هذه الفتوح، وبه قال مجاهد .

    والثاني: أنها خيبر، رواه عطية، والضحاك عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد .

    والثالث: فارس والروم، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال الحسن، وعبد الرحمن بن أبي ليلى .

    والرابع: مكة، ذكره قتادة، وابن قتيبة .

    قوله تعالى: قد أحاط الله بها فيه قولان . أحدهما: أحاط بها علما [ ص: 437 ] أنها ستكون من فتوحكم . والثاني: حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى فتحتموها .

    قوله تعالى: ولو قاتلكم الذين كفروا هذا خطاب لأهل الحديبية، قاله قتادة ; والذين كفروا مشركو قريش . فعلى هذا يكون المعنى: لو قاتلوكم يوم الحديبية لولوا الأدبار لما في قلوبهم من الرعب ثم لا يجدون وليا لأن الله قد خذلهم . قال الزجاج : المعنى: لو قاتلك من لم يقاتلك لنصرت عليه، لأن سنة الله النصرة لأوليائه . و "سنة الله" منصوبة على المصدر، لأن قوله: لولوا الأدبار معناه: سن الله عز وجل خذلانهم سنة . وقد مر مثل هذا في قوله: كتاب الله عليكم [النساء: 24]، وقوله: صنع الله [النمل: 88] .

    قوله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم روى أنس بن مالك أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سلما، فاستحياهم، وأنزل الله [ ص: 438 ] هذه الآية . وروى عبد الله بن مغفل قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة، فبينما نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل جئتم في عهد؟" أو "هل جعل لكم أحد أمانا؟" قالوا: اللهم لا، فخلى سبيلهم، ونزلت هذه الآية . وذكر قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا، فأتوه باثني عشر فارسا من الكفار، فأرسلهم، وقال مقاتل: خرجوا يقاتلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهزمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالطعن والنبل حتى أدخلهم بيوت مكة . قال المفسرون: ومعنى الآية: أن الله تعالى ذكر منته إذ حجز بين الفريقين فلم يقتتلا حتى تم الصلح بينهم .

    وفي بطن مكة ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الحديبية، قاله أنس . والثاني: وادي مكة، قاله السدي . والثالث: التنعيم، حكاه أبو سليمان الدمشقي .

    فأما "مكة" فقال الزجاج : "مكة" لا تنصرف لأنها مؤنثة، وهي معرفة، ويصلح أن يكون اشتقاقها كاشتقاق "بكة"، والميم تبدل من الباء، يقال: ضربة لازم، ولازب، ويصلح أن يكون اشتقاقها من قولهم: امتك الفصيل ما في ضرع الناقة: إذا مص مصا شديدا حتى لا يبقي فيه شيئا، فيكون سميت [ ص: 439 ] بذلك لشدة الازدحام فيها; قال: والقول الأول أحسن . وقال قطرب: مكة من تمككت المخ: إذا أكلته . وقال ابن فارس: تمككت العظم: إذا أخرجت مخه; والتمكك: الاستقصاء; وفي الحديث:"لا تمككوا على غرمائكم" .

    وفي تسمية "مكة" أربعة أقوال .

    أحدها: لأنها مثابة يؤمها الخلق من كل فج، وكأنها هي التي تجذبهم إليها، وذلك من قول العرب: امتك الفصيل ما في ضرع الناقة .

    والثاني: أنها سميت "مكة" من قولك: بككت الرجل: إذا وضعت منه ورددت نخوته، فكأنها تمك من ظلم فيها، أي: تهلكه وتنقصه، وأنشدوا:


    يا مكة، الفاجر مكي مكا ولا تمكي مذحجا وعكا


    والثالث:[ أنها] سميت بذلك لجهد أهلها .

    والرابع: لقلة الماء بها .

    وهل مكة وبكة واحد؟ قد ذكرناه في [آل عمران: 96] .

    قوله تعالى: من بعد أن أظفركم عليهم أي: بهم; يقال: ظفرت بفلان، وظفرت عليه .

    قوله تعالى: وكان الله بما تعملون بصيرا قرأ أبو عمرو: ["يعملون"] بالياء; والباقون: بالتاء .

    [ ص: 440 ] هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما .

    قوله تعالى: هم الذين كفروا يعني أهل مكة وصدوكم عن المسجد الحرام أن تطوفوا به وتحلوا من عمرتكم والهدي قال الزجاج : أي: وصدوا الهدي معكوفا أي: محبوسا أن يبلغ أي: عن أن يبلغ محله قال المفسرون: "محله" منحره، وهو حيث يحل نحره ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات وهم المستضعفون بمكة لم تعلموهم أي: لم تعرفوهم أن تطئوهم بالقتل . ومعنى الآية: لولا أن تطؤوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات بالقتل، وتوقعوا بهم ولا تعرفونهم، فتصيبكم منهم معرة وفيها أربعة أقوال .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #499
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الْفَتْحِ
    الحلقة (499)
    صــ 441 إلى صــ 450





    أحدهما: إثم، قاله ابن زيد . والثاني: غرم الدية، قاله ابن إسحاق . والثالث: كفارة قتل الخطإ، قاله ابن السائب . والرابع: عيب بقتل من هو على دينكم، حكاه جماعة من المفسرين . وفي الآية محذوف، تقديره: لأدخلتكم من عامكم هذا; وإنما حلت بينكم وبينهم ليدخل الله في رحمته أي: في دينه من يشاء من أهل مكة، وهم الذين أسلموا بعد الصلح لو تزيلوا قال ابن عباس: لو تفرقوا . وقال ابن قتيبة ، والزجاج: لو تميزوا . [ ص: 441 ] قال المفسرون: لو انماز المؤمنون من المشركين لعذبنا الذين كفروا بالقتل والسبي بأيديكم . وقال قوم: لو تزيل المؤمنون من أصلاب الكفار لعذبنا الكفار . وقال بعضهم: قوله: "لعذبنا" جواب لكلامين، أحدهما: "لولا رجال"، والثاني: "لو تزيلوا" وقوله: إذ جعل من صلة قوله: لعذبنا . والحمية: الأنفة والجبرية . قال المفسرون: وإنما أخذتهم الحمية حين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول مكة، فقالوا: يدخلون علينا [وقد قتلوا] أبناءنا وإخواننا فتتحدث العرب بذلك! والله لا يكون ذلك، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين فلم يدخلهم ما دخل أولئك فيخالفوا الله في قتالهم . وقيل: الحمية ما تداخل سهيل بن عمرو من الأنفة أن يكتب في كتاب الصلح ذكر "الرحمن الرحيم" وذكر "رسول الله" صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى: وألزمهم كلمة التقوى فيه خمسة أقوال .

    أحدهما: "لا إله إلا الله"، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والضحاك ، والسدي، وابن زيد في آخرين، وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم; فعلى هذا يكون معنى: "ألزمهم": حكم لهم بها، وهي التي تنفي الشرك .

    [ ص: 442 ] والثاني: "لا إله إلا الله والله أكبر"، قاله ابن عمر . وعن علي بن أبي طالب كالقولين .

    والثالث: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، قاله عطاء بن أبي رباح .

    والرابع: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، قاله عطاء الخرساني .

    والخامس: "بسم الله الرحمن الرحيم"، قاله الزهري .

    فعلى هذا يكون المعنى أنه لما أبى المشركون أن يكتبوا هذا في كتاب الصلح، ألزمه الله المؤمنين وكانوا أحق بها من المشركين "و" كانوا أهلها في علم الله تعالى .

    لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا .

    قوله تعالى: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق قال المفسرون: سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أري في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلا يقول له: لتدخلن المسجد الحرام إلى قوله: لا تخافون ورأى كأنه هو وأصحابه يدخلون مكة وقد حلقوا وقصروا، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، فلما خرجوا إلى الحديبية حسبوا أنهم يدخلون مكة في عامهم ذلك، فلما رجعوا [ ص: 443 ] ولم يدخلوا قال المنافقون: أين رؤياه التي رأى؟! فنزلت هذه الآية، فدخلوا في العام المقبل .

    وفي قوله: إن شاء الله ستة أقوال .

    أحدها: أن "إن" بمعنى "إذ" قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة .

    والثاني: أنه استثناء من الله، وقد علمه، والخلق يستثنون فيما لا يعلمون، قاله ثعلب; فعلى هذا يكون المعنى أنه علم أنهم سيدخلونه، ولكن استثنى على ما أمر الخلق به من الاستثناء .

    والثالث: أن المعنى: لتدخلن المسجد الحرام إن أمركم الله به، قاله الزجاج .

    والرابع: أن الاستثناء يعود إلى دخول بعضهم أو جميعهم، لأنه علم أن بعضهم يموت، حكاه الماوردي .

    والخامس: أنه على وجه الحكاية لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أن قائلا يقول: "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين"، حكاه القاضي أبو يعلى .

    [ ص: 444 ] والسادس: أنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول، فلا شك فيه، حكاه الثعلبي .

    قوله تعالى: آمنين من العدو محلقين رءوسكم ومقصرين من الشعر لا تخافون عدوا .

    فعلم ما لم تعلموا فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: علم أن الصلاح في الصلح . والثاني: أن في تأخير الدخول صلاحا . والثالث: فعلم أن يفتح عليكم خيبر قبل ذلك .

    قوله تعالى: فجعل من دون ذلك فتحا قريبا فيه قولان .

    أحدهما: فتح خيبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وابن زيد، ومقاتل .

    والثاني: صلح الحديبية، قاله مجاهد، والزهري، وابن إسحاق . وقد بينا كيف كان فتحا في أول السورة .

    وما بعد هذا مفسر في [براءة: 33] إلى قوله: وكفى بالله شهيدا وفيه قولان .

    [ ص: 445 ] أحدهما: أنه شهد له على نفسه أنه يظهره على الدين كله، قاله الحسن .

    والثاني: كفى به شهيدا أن محمدا رسوله، قاله مقاتل .

    محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما .

    قوله تعالى: محمد رسول الله وقرأ الشعبي، وأبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدري : "محمدا رسول الله" بالنصب فيهما . قال ابن عباس : شهد له بالرسالة .

    قوله تعالى: والذين معه يعني أصحابه . والأشداء: جمع شديد . قال الزجاج : والأصل: أشدداء، نحو نصيب وأنصباء، ولكن الدالين تحركتا، فأدغمت الأولى في الثانية، [ومثله] من يرتد منكم [المائدة: 54] .

    قوله تعالى: رحماء بينهم الرحماء جمع رحيم، والمعنى أنهم يغلظون على الكفار، ويتوادون بينهم تراهم ركعا سجدا يصف كثرة [ ص: 446 ] صلاتهم يبتغون فضلا من الله وهو الجنة ورضوانا وهو رضى الله عنهم . وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور وروى مبارك بن فضالة عن الحسن البصري أنه قال: "والذين معه" أبو بكر "أشداء على الكفار" عمر "رحماء بينهم" عثمان "تراهم ركعا سجدا" علي بن أبي طالب "يبتغون فضلا من الله ورضوانا" طلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة .

    قوله تعالى: سيماهم أي: علامتهم في وجوههم ، وهل هذه العلامة في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه قولان .

    أحدهما: في الدنيا . ثم فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها السمت الحسن، قاله ابن عباس في رواية ابن أبي طلحة; وقال في رواية مجاهد: أما إنه ليس بالذي ترون، ولكنه سيما الإسلام وسمته وخشوعه، وكذلك قال مجاهد: ليس بندب التراب في الوجه، ولكنه الخشوع والوقار والتواضع .

    والثاني: أنه ندى الطهور وثرى الأرض، قاله سعيد بن جبير . وقال أبو العالية: لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب . وقال الأوزاعي: بلغني أنه ما حملت جباههم من الأرض .

    [ ص: 447 ] والثالث: أنه السهوم، فإذا سهم وجه الرجل من الليل أصبح مصفارا . قال الحسن البصري: "سيماهم في وجوههم": الصفرة; وقال سعيد بن جبير: أثر السهر; وقال شمر بن عطية: هو تهيج في الوجه من سهر الليل .

    والقول الثاني: أنها في الآخرة . ثم فيه قولان .

    أحدهما: أن مواضع السجود من وجوههم يكون أشد وجوههم بياضا يوم القيامة، قاله عطية العوفي، وإلى نحو هذا ذهب الحسن، والزهري . وروى العوفي عن ابن عباس قال: صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة .

    والثاني: أنهم يبعثون غرا محجلين من أثر الطهور، ذكره الزجاج .

    قوله تعالى: ذلك مثلهم أي: صفتهم; والمعنى أن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في التوراة هذا .

    فأما قوله: ومثلهم في الإنجيل ففيه ثلاثة أقوال .

    [ ص: 448 ] أحدها: أن هذا المثل المذكور أنه في التوراة هو مثلهم في الإنجيل . قال مجاهد: مثلهم في التوراة والإنجيل واحد .

    والثاني: أن المتقدم مثلهم في التوراة . فأما مثلهم في الإنجيل فهو قوله: كزرع ، وهذا قول الضحاك، وابن زيد .

    والثالث: أن مثلهم في التوراة والإنجيل كزرع، ذكر هذه الأقوال أبو سليمان الدمشقي .

    قوله تعالى: أخرج شطأه وقرأ ابن كثير، وابن عامر: ["شطأه" بفتح الطاء والهمزة . وقرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: "شطأه" بسكون الطاء . وكلهم يقرأ بهمزة مفتوحة . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو العالية، وابن أبي عبلة]: "شطاءه" بفتح الطاء [وبالمد] والهمزة وبألف . قال أبو عبيدة: أي: فراخه يقال: أشطأ الزرع فهو مشطئ: إذا أفرخ فآزره أي: ساواه، وصار مثل الأم . وقرأ ابن عامر: "فأزره" مقصورة الهمزة مثل فعله . وقال ابن قتيبة : آزره: أعانه وقواه فاستغلظ أي: غلظ فاستوى على سوقه وهي جمع "ساق"، وهذا مثل ضربه الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم إذ خرج وحده، فأيده بأصحابه، كما قوى الطاقة من الزرع بما نبت منها حتى كبرت وغلظت واستحكمت . وقرأ ابن كثير: "على سؤقه" مهموزة; والباقون: بلا همزة . وقال قتادة: في الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع .

    [ ص: 449 ] وفيمن أريد بهذا المثل قولان .

    أحدهما: أن أصل الزرع: عبد المطلب "أخرج شطأه": أخرج محمدا صلى الله عليه وسلم فآزره : بأبي بكر، فاستغلظ : بعمر، فاستوى : بعثمان، على سوقه : علي بن أبي طالب، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثاني: أن المراد بالزرع: محمد صلى الله عليه وسلم "أخرج شطأه" أبو بكر "فآزره": بعمر "فاستغلظ": بعثمان "فاستوى على سوقه": بعلي . يعجب الزراع : يعني المؤمنين "ليغيظ بهم الكفار" وهو قول عمر لأهل مكة: لا يعبد الله سرا بعد اليوم، رواه الضحاك عن ابن عباس، ومبارك عن الحسن .

    قوله تعالى: ليغيظ بهم الكفار أي: إنما كثرهم وقواهم ليغيظ بهم الكفار . وقال مالك بن أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية . وقال ابن إدريس: لا آمن أن يكونوا قد ضارعوا الكفار، يعني الرافضة، لأن الله تعالى يقول: "ليغيظ بهم الكفار" .

    [ ص: 450 ] قوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما قال الزجاج : في "من" قولان .

    أحدهما: أن يكون تخليصا للجنس من غيره، كقوله: فاجتنبوا الرجس من الأوثان [الحج: 30]، ومثله أن تقول: أنفق من الدراهم، أي: اجعل نفقتك من هذا الجنس . قال ابن الأنباري: معنى الآية: وعد الله الذين آمنوا من هذا الجنس، أي: من جنس الصحابة .

    والثاني: أن يكون [هذا] الوعد لمن أقام منهم على الإيمان والعمل الصالح .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #500
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الْحُجُرَاتِ
    الحلقة (500)
    صــ 451 إلى صــ 460




    [ ص: 451 ]
    سُورَةُ الْحُجُرَاتِ

    وهي مدنية بإجماعهم

    روى ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله أعطاني السبع الطول مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزبور المثاني، وفضلني ربي بالمفصل . أما السبع الطول فقد ذكرناها ["عند قوله"]: [ ص: 452 ] ولقد آتيناك سبعا من المثاني [الحجر: 87] . وأما المئون، فقال ابن قتيبة : هي ما ولي الطول، وإنما سميت بالمئين; لأن كل سورة تزيد على مائة آية أو تقاربها، والمثاني: ما ولي المئين من السور التي دون المائة، كأن المئين مباد، وهذه مثان، وأما المفصل: فهو ما يلي المثاني من قصار السور، وإنما سميت مفصلا لقصرها وكثرة الفصول فيها بسطر: بسم الله الرحمن الرحيم .

    وقد ذكر الماوردي في أول تفسيره في المفصل ثلاثة أقوال . أحدها: أنه من أول سورة " محمد " إلى آخر القرآن . قاله الأكثرون . والثاني: من سورة [قاف] إلى آخره، حكاه عيسى بن عمر عن كثير من الصحابة . والثالث: من [الضحى] إلى آخره، قاله ابن عباس .

    [ ص: 453 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر [ ص: 454 ] بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم .

    قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله في سبب نزولها أربعة أقوال .

    أحدها: أن ركبا من بني تميم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله إلى قوله: ولو أنهم صبروا ، فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم [بعد هذه الآية] حتى يستفهمه، رواه عبد الله بن الزبير .

    والثاني: أن قوما ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الذبح، فنزلت الآية، قاله الحسن .

    [ ص: 455 ] والثالث: أنها نزلت في قوم كانوا يقولون: لو أنزل الله في كذا وكذا! فكره الله ذلك، وقدم فيه، قاله قتادة .

    والرابع: [أنها] نزلت في عمرو بن أمية الضمري، وكان قد قتل رجلين من بني سليم قبل أن يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن السائب . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة . وروى العوفي عنه قال: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه . وروي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم . ومعنى الآية على جميع الأقوال . لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل . قال ابن قتيبة : يقال فلان يقدم بين يدي الإمام وبين يدي أبيه، أي: يعجل بالأمر والنهي دونه .

    فأما "تقدموا" فقرأ ابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو رزين ، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والضحاك ، وابن سيرين، وقتادة، وابن يعمر، ويعقوب: بفتح التاء والدال . وقرأ الباقون: بضم التاء وكسر الدال . قال الفراء: [ ص: 456 ] كلاهما صواب، يقال: قدمت، وتقدمت; وقال الزجاج : كلاهما واحد; فأما "بين يدي الله ورسوله" فهو عبارة عن الأمام، لأن ما بين يدي الإنسان أمامه; فالمعنى: لا تقدموا قدام الأمير .

    قوله تعالى: لا ترفعوا أصواتكم في سبب نزولها قولان .

    أحدهما: أن أبا بكر وعمر رفعا أصواتهما فيما ذكرناه آنفا في حديث ابن الزبير، وهذا قول ابن أبي مليكة .

    والثاني: [أنها] نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وكان جهوري الصوت، فربما كان إذا تكلم تأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوته، قاله مقاتل .

    [ ص: 457 ] قوله تعالى: ولا تجهروا له بالقول فيه قولان .

    أحدهما: أنه الجهر بالصوت في المخاطبة، قاله الأكثرون .

    والثاني: لا تدعوه باسمه: يا محمد، كما يدعو بعضكم بعضا، ولكن قولوا: يا رسول الله، ويا نبي الله، وهو معنى قول سعيد بن جبير، والضحاك، ومقاتل .

    قوله تعالى: أن تحبط قال ابن قتيبة : لئلا تحبط . وقال الأخفش: مخافة أن تحبط . قال أبو سليمان الدمشقي: وقد قيل معنى الإحباط هاهنا: نقص المنزلة، لا إسقاط العمل من أصله كما يسقط بالكفر .

    قوله تعالى: إن الذين يغضون أصواتهم قال ابن عباس: لما نزل قوله: "لا ترفعوا أصواتكم" تألى أبو بكر أن لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، فأنزل الله في أبي بكر: "إن الذين يغضون أصواتهم"، والغض: النقص كما بينا عند قوله: قل للمؤمنين يغضوا [النور: 30] .

    [ ص: 458 ] أولئك الذين امتحن الله قلوبهم قال ابن عباس: أخلصها للتقوى من المعصية . وقال الزجاج : اختبر قلوبهم فوجدهم مخلصين، كما تقول: قد امتحنت هذا الذهب والفضة، أي: اختبرتهما بأن أذبتهما حتى خلصا، فعلمت حقيقة كل واحد منهما . وقال ابن جرير: اختبرها بامتحانه إياها، فاصطفاها وأخلصها للتقوى .

    إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم .

    قوله تعالى: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات في سبب نزولها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن بني تميم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب: يا محمد اخرج إلينا، فإن مدحنا زين وإن ذمنا شين، فخرج وهو يقول: "إنما ذلكم الله"، فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال: "ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا"، فقال الزبرقان بن بدر لشاب منهم: قم فاذكر فضلك وفضل قومك، فقام فذكر ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس، فأجابه، وقام شاعرهم، فأجابه حسان، فقال الأقرع بن حابس: والله ما أدري ما هذا الأمر؟! تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر، ثم دنا فأسلم، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم، وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، هذا قول جابر بن عبد الله في آخرين . وقال ابن إسحاق: نزلت في جفاة بني تميم، وكان فيهم الأقرع [ ص: 459 ] بن حابس، وعيينة بن حصن، والزبرقان بن بدر، [وقيس بن عاصم المنقري]، وخالد بن مالك، وسويد بن هشام، وهما نهشليان، والقعقاع بن معبد، وعطاء بن حابس، ووكيع بن وكيع .

    والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى بني العنبر، وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري، فلما علموا بذلك هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة، فجاء رجالهم يفدون الذراري، فقدموا وقت الظهيرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائل، فجعلوا ينادون يا محمد اخرج إلينا، حتى أيقظوه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس .

    والثالث: أن ناسا من العرب قال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيا نكن أسعد الناس به، وإن يكن ملكا نعش في جناحه، فجاؤوا، فجعلوا ينادون يا محمد، يا محمد، فنزلت هذه الآية، [قاله زيد بن أرقم] .

    فأما "الحجرات" فقرأ أبي بن كعب ، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي، ومجاهد، وأبو العالية، وابن يعمر، [وأبو جعفر، وشيبة]: بفتح الجيم; وأسكنها أبو رزين، وسعيد بن المسيب، وابن أبي عبلة; وضمها الباقون . قال الفراء: وجه [ ص: 460 ] الكلام أن تضم الحاء والجيم، وبعض العرب يقول: الحجرات والركبات، وربما خففوا فقالوا: "الحجرات"، والتخفيف في تميم، والتثقيل في أهل الحجاز . وقال ابن قتيبة : واحد الحجرات حجرة، مثل ظلمة وظلمات . قال المفسرون: وإنما نادوا من وراء الحجرات، لأنهم لم يعلموا في أي الحجر رسول الله .

    قوله تعالى: ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم قال الزجاج : أي: لكان الصبر خيرا لهم . وفي وجه كونه خيرا لهم قولان .

    أحدهما: لكان خيرا لهم فيما قدموا له من فداء ذراريهم، فلو صبروا خلى سبيلهم بغير فداء، قاله مقاتل .

    والثاني: لكان أحسن لآدابهم في طاعة الله ورسوله، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: والله غفور رحيم أي: لمن تاب منهم .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •