اللغة العربية في المدونة التفسيرية
. محمد بنعمر
تقديم
مما يقف عليه الباحث والمتابع والدارس للعلوم الإسلامية، هو ذلك الحضور القوي واللافت للغة العربية في المدونة التفسيرية؛ بحيث تأخذ هذه الملاحظة كل مهتم ومشتغل بالدراسات والبحوث القرآنية. وهذا الحضور يعود إلى طبيعة القرآن الكريم، ومحوريته بين العلوم، ومشاركة كثير من العلوم المتصلة به والخادمة له، وهي العلوم الصانعة والخادمة للفهم والتأويل والتفسير، وكانت الغاية من هذا التلاحم والاجتماع بين هذه العلوم، هو تحقيق المعنى المراد، والوصول إلى القصد.
وهو ما جعل القرآن الكريم محورًا للبحث المشترك، ومَدارًا للعناية الجامعة لكثير من العلوم، ولا سيما ما كان من العلوم البيانية واللغوية، فكان القرآن الكريم هو المنطلق والمرجع والمدار والجامع، والأداة لكل الجهود والبحوث والدراسات العلمية، التي أُعِدَّت وأُنْجِزَت حول النص القرآني في جهة المعنى، وهو المقتضي الذي جعل كثيرًا من العلوم المشتغلة على صناعة الفهم وتحصيل المعنى، تتطوّر وتتأصل في أحضان كتب ومدونات التفسير؛ بحيث اجتمع في المدونة التفسيرية من العلوم ما ضاع وفُقِدَ في غيرها، من مصادرها ومظانّها الأصلية.
القرآن الكريم هو مدار العلوم البيانية
لما كان القرآن هو مدار العلوم، ومركز المعرفة؛ فقد اختارت كثير من العلوم، أن تكون صانعة وخادمة للفهم والبيان، ومسدّدة للتأويل، وهي العلوم التي تُسمَّى بالعلوم الصانعة والمُسدِّدة للفهم.
فجميع العلوم البيانية واللغوية، والمعارف الإسلامية بأنواعها وأشكالها، وأقسامها، وفروعها كانت متَّجهة أساسًا إلى خدمة النص القرآني في جهة الفهم، وهذه العناية الكبيرة تعود -كما قال المفسر الأندلسي ابن جزي الكلبي (ت741هـ) في مقدمة تفسيره- إلى كون القرآن الكريم، بالنسبة للعلوم «هو المقصود بنفسه، وسائر العلوم أدوات تعين عليه....»[1].
العلوم اللغوية في المدونة التفسيرية
تتفق كثير من الدراسات والبحوث الجامعية، على أن في أحضان النص القرآني، تطورت كثير من العلوم التي ترجع أصولها إلى اللغة العربية، وهي العلوم التي سُمِّيت ونُعِتَتْ بالعلوم المقصودة لتفهُّم النص القرآني، وهي علوم تعمل على تحصيل المعنى المراد للوصول إلى القصد. وأعني: علم المعجم القرآني، وعلم الدلالة، وعلم القراءات، وعلم الأصوات، وعلم النحو، وعلم الصرف، وعلم البلاغة.[2]
وتطور العلوم اللغوية في أحضان معظم كتب التفسير؛ أفصح عنه الإمام والمفسر واللغوي الزمخشري ت 538هـبقوله: «وذلك أنهم لا يجدون علمًا من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها وعلمي تفسيرها وأخبارها؛ إلا وافتقاره إلى العربية بَيِّنٌ لا يُدْفَع، ومكشوفٌ لا يتقنَّع، ويَرَوْن الكلام في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنيًّا على علم الإعراب».[3]
وهذه العناية بعلوم الفهم والاستمداد التي ترجع إلى اللغة العربية، تعود إلى عدة اعتبارات؛ منها مشاركة لغة القرآن الكريم للغة العربية في المستويات الدلالية والتركيبية والمعجمية، إضافةً إلى توافق القرآن الكريم مع اللغة العربية في معهود وسنن اللغة العربية في التخاطب والأداء وإبلاغ المعاني، وهو المعنى الذي يُستفاد من قول الإمام الشافعي (ت2014ه): «إنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تَعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها...».[4]
ما يعني، وبعبارة صريحة، أن لغة القرآن الكريم، هي من جنس كلام العرب، فلُغته محكومة بالقواعد النحوية واللغوية والدلالية التي تحكم مجمل الكلام العربي بشكل عام[5].
وهو المعنى الذي أكَّده الإمام الشاطبي (ت 970هـ) في كتابه «الموافقات» عندما قال: «إن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية فلا يَفهمها حقّ الفهم إلا مَن فَهم اللغة العربية حقّ الفهم؛ لأنهما سيّان في النمط...»[6].
وهذا الاختيار أخذ به كثير من علماء التفسير، ومنهم المفسّر الإمام الطاهر ابن عاشور، عندما صرّح في مقدمة تفسيره، بأن علم التفسير بحاجة إلى علوم اللسان العربــي بصفة عامة، فهو يقول في مقدمة تفسيره «التحرير والتنوير»: «إن القرآن كلام عربــــي، فكانت قواعد العربية طريقًا لفهم معانيه. ونعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربــي، وهي اللغة والتصريف والنحو والمعاني والبيان»[7].
هذه النقول تعبّر عن أن النص القرآني نزل في ثقافة وبيئة تعبّر عن نفسها وقِيَمها وأفكارها بواسطة اللغة العربية؛ لأن النص القرآني جاء منضبطًا بضوابط اللغة العربية، محتكمًا إلى سُننها في التعبير وطرقها في التواصل، ومنطقها في الأداء والخطاب.
والسند في اتخاذ اللغة العربية مرجعًا في التفسير والبيان، أنَّ الله أنزل القرآن الكريم واضحًا بلسان عربي مبين، تُحمل معانيه على الظاهر، فمن أراد له خلاف ذلك؛ فقد عارَض القصد الذي من أجله نزل القرآن الكريم.
لغة القرآن الكريم
لعل هذه الخصائص التي اختصَّت بها لغة القرآن الكريم، هي التي أهَّلت المدونة التفسيرية لأن تكون حاملة وغنية بالنقول اللغوية والبلاغية والمعجمية والدلالية، ما جعل هذه المدونة تَنال هذه الشهرة الكبيرة والذيوع الواسع، وتحظى بموقع خاص وبمكانة متميزة ومتابعة أكاديمية كبيرة وواسعة بين المشتغلين بالقضايا والمسائل اللغوية والدلالية في الآونة الأخيرة؛ تحدوهم هذه الرغبة المعرفية والمحدَّدة في هذا الترابط الوثيق القائم بين اللغة العربية وبين لغة القرآن الكريم؛ فاللغة العربية هي السبيل والطريق إلى فهم النص القرآني، والإلمام بفحوى الخطاب القرآني ومقصوده، وفي معرفة أسرار بيان القرآن الكريم، وإظهار أَوْجُه إعجازه.[8]
فالقرآن الكريم مُعْجِز بلغته وبأسلوبه[9]، والواقع أن القرآن الكريم يعترف أن التحدي في إعجاز القرآن الكريم، إنما وقع في الأسلوب واللغة «وتوالي فصاحة ألفاظه»[10].
فهذه الاعتبارات المذكورة، جعلت المدونة التفسيرية مدوّنة غنية بالقضايا النحوية واللغوية والبلاغية والشواهد الشعرية؛ لأن الأساس والمرجع الذي كان يأخذ به علماء التفسير، هو اعتبار من جنس كلام العرب، فلُغته محكومة بالقواعد النحوية واللغوية والدلالية التي تحكم مجمل الكلام العربي بشكل عام.
وعليه فلا ينبغي أن يَقتحم التفسير، ولا يتصدّر للبيان، إلا مَن حصّل وبرع في العلوم الشرعية والنقلية، بجانب العلوم اللغوية والبيانية باختلاف تخصصاتها وشُعبها وفروعها.[11]
اللغة العربية والوظيفة البيانية
في أحضان النص القرآني، تطورت كثير من العلوم التي ترجع إلى اللغة العربية، وهذه العلوم نُعِتَتْ بالعلوم المقصودة لتفهُّم النص القرآني، وتحصيل المراد للوصول إلى القصد، وأعني بالأخص: علم المعجم القرآني، وعلم الدلالة، وعلم القراءات، وعلم الأصوات، وعلم النحو، وعلم الصرف، وعلم البلاغة.
وهذه العناية بعلوم الفهم والاستمداد والبيان، تعود إلى مشاركة لغة القرآن الكريم للغة العربية في الجانب الأسلوبي والدلالي، وهو ما يُستفاد من قول الإمام الشافعي (ت201هـ): «إنما خاطَب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تَعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها....».[12]
ما يعني أن لغة القرآن الكريم، هي من جنس كلام العرب، ومن معهوده، فلُغته محكومة بالقواعد النحوية واللغوية والدلالية التي تتحكم في مجمل الكلام العربي بشكل عام.
التفسير اللغوي للقرآن الكريم
من العادة التي جرت وترسّخت بين الباحثين أن ينعتوا التفسير اللغوي بالتفسير البياني؛ وهو ذلك التفسير الذي عادةً ما يعتمد على اللغة العربية، ويهتم بإبراز مناحي ووجوه الإعجاز البياني، عن طريق الاستعانة باللغة العربية، واستثمار علوم البلاغة بشُعَبها المتفرقة، والاستفادة من المعجم القرآني في البيان.
وقد عرَّفه الشيخ مساعد الطيار في أطروحته الجامعية «التفسير اللغوي للقرآن الكريم»؛ بأنه «ذلك التفسير الذي يراهن على بيان معاني القرآن الكريم بما ورد في لغة العرب، مع تحقيق ألفاظ اللغة العربية، وأساليبها وتراكيبها التي نزل بها القرآن الكريم».[13]
وبعبارة مختصرة موجزة: التفسير اللغوي هو الذي يجعل من اللغة العربية الأداة والأساس لفهم القرآن الكريم، واستمداد معانيه واستخلاص مقاصده. أو هو التفسير الذي يُبْنَى على القواعد النحوية والبلاغية، حسب السياق الذي يَقتضيه المعنى العربي الذي استعملته العرب وسار على معهودها.
فمثلاً علم النحو ضروري للمفسِّر، وإن التقصير والضعف في هذا العِلْم مُبْعِد للفهم، ويُوقِع المفسِّر في الخطأ، ويجعله في منأى من أن يُحقِّق أو يصل إلى المعنى، أو أن يحقق المقصد.
وقديمًا قال ابن حزم الأندلسي -رحمه الله-: «لو سقط النحو لسقط فَهم القرآن الكريم».[14]
ما يعني أن العلاقة بين التفسير والنحو هي علاقة تلازمية؛ بحيث يتوقف الفهم على النحو، وقد بيَّن حيثيات هذه العلاقة كثيرٌ من الدارسين، ومن أبرزهم الأستاذ مصطفى أبو حازم في أطروحته الجامعية «النحو والتفسير: أصول نظرية ومعالم تطبيقية».
ومثل علم النحو: علم البلاغة؛ فقد اعتبر المفسر الإمام الزمخشري (ت 538ه)، علم البلاغة من العلوم المساعدة والضرورية لمن قصد التفسير؛ فقد قال في هذا الشأن: «فان علم التفسير، الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن؛ وهما: علما البيان والمعاني».[15]
أما الإمام السكاكي البلاغي (ت:626هـ) فهو يُحذِّر في كتابه «مفتاح العلوم» مَن قصَد التفسير وهو يفتقد لعلم البلاغة، فهو يقول عن عِلْمَي المعاني والبيان: «فالويل كل الويل: لمن تعاطى التفسير، وهو فيهما رَاجِل».[16]
ومن تنبيهات المفسرين في هذا الشأن، أن عدم استيفاء وتحصيل واكتساب هذه العلوم الصانعة للفهم، وعدم ضبط الشروط التي يتوقف عليها التفسير، أو التقصير في طلبها، أو الإعراض عنها لسببٍ من الأسباب، أو لعارض من العوارض الذاتية أو الموضوعية، من شأنه أن يُعرِّض المُفسِّر، ويُوقعه في الخطأ والزلل، ويبعده عن تحصيل المعنى، وتحقيق المعنى المراد من كلام الله.[17]
خاتمة واستنتاج
إن هذه الاعتبارات المشار إليها اتفقت مع ما أجمع عليه المفسرون والأصوليون وعلماء الدراسات القرآنية من أنَّ الضابط اللغوي يُعتبر الطريق الأول في فَهْم آي القرآن الكريم.
وبصيغة أخرى؛ فإنه لا يمكن أن يقوم أيّ تفسير، أيًّا كان نوعه وطبيعته، إلا بالاعتماد على اللغة؛ «فلا يمكن الوصول إلى معنى جزئي في النص فقهيًّا كان أو شرعيًّا أو أصوليًّا إلا بالانطلاق من اللغة العربية والاستعانة بعلومها المختلفة»[18].
[1] التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي الكلبي: 1/22.
[2] اللغة في كتب التفسير، للدكتور الهادي الجلطاوي، ص: 23.
[3] المفصل، للإمام الزمخشري، ص: 19.
[4] الرسالة، للإمام الشافعي: ص57.
[5] الدرس النحوي في توجيه المعنى في تفسير الشيخ عند الطاهر ابن عاشور، للدكتور عاطف فاضل، ص: 321.
[6] الموافقات للإمام الشاطبي: 4/117.
[7] التحرير والتنوير، للشيخ عند الطاهر ابن عاشور، ج1، ص:11.
[8] التفسير اللغوي للقرآن الكريم، للشيخ مساعد الطيار، ص: 56.
[9] البلاغة والتفسير: مقدمة منهجية عبد الجليل هنوش ضمن كتاب: بلاغة النص القرآني، وهو من منشورات الرابطة المحمدية للعلماء: 2012م.
[10] المحرر الوجيز: ج1 ص 52.
[11] مقدمة تفسير الإمام البيضاوي: ج1، ص11.
[12] الرسالة للإمام الشافعي: ص57.
[13] التفسير اللغوي للقرآن الكريم، للشيخ مساعد الطيار، ص: 546
[14] رسائل ابن حزم: ج3 ص132.
[15] تفسير الإمام الزمخشري: ج1 ص:11.
[16] مفتاح العلوم للإمام السكاكي، ص77.
[17] أسباب الخطأ في التفسير، للدكتور محمود محمد يعقوب، ج2 ص987.
[18] دراسة الطبري للمعنى، للدكتور محمد المالكي: ص121.