إن اللهَ سبحانه نَصَبَ في كلِّ زمانٍ رجالاً يحمونَ شريعتَه، وينصرون ملَّتَه، ويجاهدونَ فيه حقَّ جهادِه، إذا انتهكت حُرُماتُه غَضِبوا غَضَبَ الأَسَد، وإذا سُلِكَ سَبِيْلُه فَرِحُوا فرحَ الوالِد بالولد.
أسبلَ اللهُ عليهم من العلمِ النافع والعملِ الصالح ما أهَّلَهم للقيامِ بهذه المسؤوليةِ العظيمةِ، والمُهَّمةِ الجسيمة.
فاستخدموا هذا السلاحَ الذي أسبلَ اللهُ عليهم أذيالَه في هداية الخلقِ، وإرشادِهم إلى الطَّرِيْقِ السَّويِّ، والنَّهْجِ المَرْضِيّ.
كما استخدموه أيضا في استئصال شبه المنحرفين، والقضاء، على بدع المبتدعين.
وكان مقصودُهم بالردِّ على هؤلاء القيامَ بالمِيْثاقِ الذي أخذه اللهُ تعالى على أهلِ العلمِ في قوله:
{وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}.، والخوفَ من الوقوعِ في جريمةِ كتمِ العلمِ وإخفائه.
وكان من مقصودِهم أيضاً نُصْحُ الأُمَّةِ، والأَخْذُ بِحُجُزِها عن السقوط في المهالك، سواءٌ في ذلك المردودُ عليه منهم أو غيرُه،


فالمَرْدُوْدُ عليه بإيضاحِ الحقِّ له، وقِيامِ الحُجَّةِ عليه، وغيرُه بتحذيرِه من اتباعِ الأهواءِ، والسُّقُوطِ في شَرَكِهَا وإن من الرِّجالِ الذين هَيَّأَهم الله تعالى، ونَصَبَهم لحفظِ شريعتِه، والقيام عليها: أئمةَ الدَّعْوةِ بنجد، الذين أبلوا بلاءً حسناً في هذا المِضمَارِ، وحَمَوْا ثغوراً للشَّرِيْعة كاد أن يَقْتَحِمها المشركونَ والكُفَّارُ وأنفقوا نفيسَ العمرِ وعزيزَ المالِ في الدعوة إلى التوحيدِ ومُؤازَرَةِ أهلِه الأبرار.
فلا تجد شبهةً منحرفةً أثيرت في وقتِهم إلا وهم لها بالمرصاد، ولا تشكيكاً في الحقِّ إلا وهم لتفنيدِه وتَزْيِيْفِه على أتمِّ استعداد.--------------
انتقضت عرى الإسلام، وعبدت الكواكب والنجوم، وعظمت القبور، وبنيت عليها المساجد، وعبدت تلك الضرائح والمشاهد، واعتمد عليها في المهمات، دون الصمد الواحد، ولكن في الحديث: " إن الله تبارك وتعالى يبعث لهذه الأمة، على رأس كل قرن، من يجدد لها أمر الدين " ، ويبين المحجة بواضحات البراهين.
فبعث في القرن الثاني عشر، عند من خبر الأمور وسبر، ووقف على ما قرره أهل العلم والأثر، الآية الباهرة، والحجة الظاهرة، شيخ الإسلام والمسلمين، المعدود من أكابر السلف الماضين، المجدد لما درس من أصول الملة والدين، السلفي الأول، وإن تأخر زمنه عند من خبر وتأمل، بحر العلوم، أوحد المجتهدين، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب.
فشمر عن ساعد جده واجتهاده; وأعلن بالنصح لله ولكتابه ورسوله، وسائر عباده، دعا إلى ما دعت إليه الرسل، من توحيد الله وعبادته، ونهاهم عن الشرك، ووسائله وذرائعه; فالحمد لله الذي جعل في كل زمان من يقول الحق، ويرشد إلى الهدى والصدق، وتندفع بعلمه حجج المبطلين، وتلبيس الجاهلين المفتونين.
والحمد لله الذي صدق وعده، وأورثه الرضى وحده، وأنجز وعده، واستجاب دعاءه، فصارت ذريته، وذرياتهم، وتلامذتهم نجوم هداية، وبحور دراية، ثبتوا على سبيل الكتاب والسنة، وناضلوا عنه أشد النضال، ولم يعدوا ما كان عليه الصحابة والسابقون، والأئمة الموثوق بهم، كأبي حنيفة والسفيانينى،; ومالك والشافعي وأحمد وأمثالهم. ولم يثنهم عن عزمهم طلاقة لسان مخادع، ولا سفسطة متأول، ولا بهرجة ملحد، ولا زخرفة متفلسف، وكلما انقضت طبقة منهم، أنشأ الله طبقة بعدها على سبيل من قبلها، فهم الأبدال والأخيار والأنجاب.
وقد أخبر الصادق الأمين: " لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته " وقال: " لا تزال طائفة من أمتي على أمر الله، لا يضرها من خالفها " . وقد أقام الله بهم السنة والفرض; فصاروا حجة على جميع أهل الأرض، وأشرقت بهم نجد على جزيرة العرب، ولله در القائل حيث قال:
ففيها الهداة العارفون بربهم ... ذوو العلم والتحقيق أهل البصائر
محابرهم تعلو بها كل سنة ... مطهرة أنعم بها من محابر
مناقبهم في كل مصر شهيرة ... رسائلهم يغدو بها كل ماهر
وفيها من الطلاب للعلم عصبة ... إذا قيل من للمشكلات البوادر
ولا يعرف شعب دخل في جميع الأطوار، التي دخل فيها الإسلام في نشأته الأولى، غربة وجهادا وهجرة وقوة، غير هذا الشعب. فلقد ظهر هذا الشيخ المجدد المجتهد، في وقت كان أهله شرا من حال المشركين، وأهل الكتاب في زمن البعثة، من شرك وخرافات، وبدع على مذهب الحبر الإمام ابن حنبل ... عليهم من المولى سلام يوافيا
عقائدهم سنية أجمع الملا ... عليها خصوصا تابعا وصحابيا
وأسلمها عقدا وأعلمها هدى ... وأحكمها فاشدد عليها الأياديا
صرائح قرآن نصوص صريحة ... ومن ردها دارت عليه الدواهيا
كانوا على مذهب الحبر الرباني، والصديق الثاني، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه، لقوة علمه وفضله، تتبعوا دليله، واقتدوا به من غير تقليد له، يأخذون من الروايتين عنه فأكثر بما كان أقرب إلى الدليل، وربما اختاروا ما ليس منصوصا في المذهب، إذا ظهر وجه صوابه، وكان قد قال به أحد الأئمة المعتبرين. وليس ذلك خروجا عن المذهب، إذ قد تقرر عنه، وعن سائر الأئمة، رحمهم الله أنه إذا خالف قول أحدهم السنة، ترك قوله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالجملة، فمن تأمل حالهم، واستقرأ مقالهم، عرف أنهم على صراط مستقيم، ومنهح واضح قويم;
شمروا عن ساعد الجد والاجتهاد، وصرفوا عنايتهم في نصرة هذا الدين، الذي كان الأكثر في غاية من الجهالة بمبانيه العظام، ونهاية من الإعراض عن الاعتناء به والقيام، فشرعوا فيه للناس موارد، بعد أن كان في سالف الزمن طامسا خامدا، وعمروا لهم فيه معاهد، حتى صار طاهرا مستنيرا مشاهدا.
فنشروا شريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم لجميع الخلائق،وكشفوا قناعها، وحققوا الحقائق، وأنشأوا المدارس وعمروها بالتعليم، وجاهدوا في الله كل طاغ أثيم، وصنفوا الكتب فأجادوا، وكشفوا الشبهات فأبادوا، وأجابوا السائل فأفادوا، فكشفوا عن الدين ما عراه، وأبدوا وأعادوا. فحق لقوم هذا شأنهم، أن يعتنى برسائلهم، وفتاويهم، وردودهم -- رحم الله علماء الدعوة النجدية [الدرر السنية]