تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: مذهب الماتريدية في صفات الله تعالى

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي مذهب الماتريدية في صفات الله تعالى

    مذهب الماتريدية في صفات الله تعالى


    تعد الماتريدية من (الصفاتية)، وذلك لأنهم يثبتون بعض الصفات، ويثبتون لهذه الصفات معنى حقيقياً يقوم بذات الرب تعالى. فليست هي عندهم مجرد وصف الواصف أو نفي الضد (1) .

    وتأكد الماتريدية على أن إثبات هذه الصفات لا يستلزم التشبيه، إذ أنه لا شبه بين حقيقة الخالق والمخلوق، ولو كان إثبات الصفات يستلزم التشبيه للزم قدم المخلوق أو حدوث الخالق، وهذا ما لا يقوم به عاقل.


    قال الماتريدي: "ليس في إثبات الأسماء وتحقيق الصفات تشابه لنفي حقائق ما في الخلق عنه... فلو كان لشيء منه شبه يسقط عنه من ذلك القدم، أو عن غيره الحدث...، فلو وصف بالشبه بغيره بجهة فيصير من ذلك الوجه كأحد الخلق" (2).


    وقال أبو المعين النسفي: "إن الصانع القديم - جل ثناؤه - لا يشبه العالم، ولا شيئاً من العالم بوجه من الوجوه، لأن المتشابهين هما المتماثلان، والمتماثلان ما ينوب أحدهما مناب صاحبه، ويسد مسده... فإن كان المتغايران ينوب أحدهما مناب صاحبه ويسد مسده من جميع الوجوه كانا مثلين من جميع الوجوه، وإن كان ينوب منابه، ويسد مسده من بعض الوجوه فهما مثلان من ذلك الوجه، ثم إنما ينوب أحدهما مناب صاحبه ويسد مسده في وجه من الوجوه إن استويا في ذلك الوجه، إذاً لو كان بينهما تفاوت في ذلك الوجه لما ناب أحدهما مناب صاحبه، ولا سد مسده، وإذا عرف هذا فنقول: إن الله تعالى لو كان مثلاً للعالم، أو لشيء من أجزائه من جميع الوجوه، لكان هو جل جلاله محدثاً من جميع الوجوه أو كان ما يماثله قديماً من جميع الوجوه. ولو كان يماثله بوجه من الوجوه لكان الله تعالى محدثاً من ذلك الوجه، أو ما يماثله من ذلك الوجه.
    والقول بحدث القديم من جميع الوجوه أو بوجه من الوجوه، أو بقدم المحدث من جميع الوجوه أو بوجه من الوجوه محال" (3) .


    وما ذكرته الماتريدية من الدليل العقلي على نفي التشبيه من جهة أنه يستلزم الجمع بين النقيضين صحيح. ولكنهم ساروا على هذا الأصل فقط فيما أثبتوه من الصفات، وأما في بقية الصفات فهم على النقيض من ذلك، إذ يعتقدون أن إثباتها على حقيقتها يستلزم التشبيه والتجسيم، وهذا في الحقيقة تناقض، إذ أن القول في جميع الصفات واحد نفياً وإثباتاً، ولا دليل على التفريق.


    وأما من ناحية علاقة الصفات بالذات، فقد قالت الماتريدية بأن صفات الله لا هي هو ولا غيره، إذ لو كانت الصفات عين الذات لكانت ذاتاً، ولو كانت غيراً لزم تعدد القدماء، لأن الغيرين هما اللذان يجوز انفكاك أحدهما عن الآخر.


    قال الأوشي:

    صفات الله ليست عين ذات
    ولا غيرا سواه ذا انفصال


    قال ملا علي القاري: "أطلق الناظم صفات الله، فشملت صفات الذات وصفات الأفعال، فهي ليست عين الذات ولا غيرها... لو كانت عيناً لكانت ذاتاً، ولو كانت غيراً لزم التركيب وهو من المحالات" (4) .

    والذي دفع الماتريدية إلى هذا القول، هو اعتراض المعتزلة عليهم عندما أثبتوا بعض الصفات، بأن إثباتها لله يستلزم تعدد القدماء، إذ أن الصفات غير الذات. فقالت الماتريدية بنفي الغيرية دفعاً لهذا الاعتراض، وقالت بنفي ذاتية الصفات دفعاً لنفي الصفات.


    يوضح هذا قول أبي المعين النسفي: "وما يزعم المعتزلة أن الله تعالى لو كانت له هذه الصفات لكانت أغياراً له، وفيه إبطال التوحيد، والقول بأزلية غير الله تعالى كلام باطل، لأن الصفات ليست بأغيار لله تعالى، بل كل صفة لا هي ولا هو ولا غيره، لأن الغيرين موجودان، يتصور وجود أحدهما مع انعدام صاحبه، وذلك في حق ذات الله تعالى وصفاته ممتنع، إذ ذاته أزلية، وكذا صفاته، والعدم على الأزلي محال. فانعدم حد المغايرة، وانعدمت المغايرة، كالواحد من العشرة لا يكون غير العشرة، ولا عين العشرة، لاستحالة بقائه بدونها، أو بقائها بدونه، إذ هو منها، فعدمها عدمه، ووجودها وجوده" (5) .


    وقال أيضاً: "لا حاجة بنا إلى الاشتغال بتحديد الغيرين، لأن الخصوم هم الذين يريدون نفي الصفات بعلة أنها لو كانت ثابتة، لكانت أغياراً للذات، فإذا منعناهم من إثبات المغايرة بطلت شبهتهم" (6) .


    وهذه المسألة من المغاليط التي ابتدعتها الجهمية حيث استخدموا في مناظراتهم ألفاظاً مجملة حتى يوقعوا الناس في شراكهم فيجذبونهم إلى ما هم فيه من الضلال والاعتقاد الفاسد.


    قال الإمام أحمد رحمه الله في رده على الجهمية: "ثم إن الجهم ادعى أمراً آخر، وهو من المحال.

    فقال: أخبرونا عن القرآن أهو الله، أو غير الله...؟
    فادعى في القرآن أمراً يوهم الناس. فإذا سئل الجاهل عن القرآن، هو الله، أو غير الله؟ فلابد له من أن يقول بأحد القولين.
    فإن قال: هو الله.
    قال له الجهمي: كفرت.
    وإن قال: هو غير الله.
    قال: صدقت، فلم لا يكون غير الله مخلوقاً؟
    فيقع في نفس الجاهل من ذلك ما يميل به إلى قوله الجهمي" (7) .
    والماتريدية لما ألجأتهم الجهمية والمعتزلة إلى هذا القول، أرادوا أن يتخلصوا من هذا الإشكال، فخرجوا بقول ثالث، وهو أن صفات الله لا هي ولا هو ولا غيره. وهو في الحقيقة قول متناقض لا سبيل إلى رفعه (8) ، إذ أنهم بقولهم هذا نفوا مسمى اللفظين مطلقاً.

    ولما كان أهل السنة والجماعة معتصمين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفقهم الله تعالى إلى الحق والصواب، ولم يقعوا في شراك الجهمية كما وقع غيرهم.


    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد تكلم الإمام أحمد في رده على الجهمية في جواب هذا، وبين أن لفظ (الغير) لم ينطق به الشرع لا نفياً ولا إثباتاً، وحينئذ فلا يلزم أن يكون داخلاً لفظ (الغير) في كلامه الشارع ولا غير داخل...، وأيضاً فهو لفظ مجمل، يراد بالغير ما هو منفصل عن الشيء، ويراد بالغير ما ليس هو الشيء. فلهذا لا يطلق القول بأن كلام الله وعلم الله ونحو ذلك هو هو، لأن هذا باطل، ولا يطلق أنه غيره، لئلا يفهم أنه بائن عنه منفصل عنه. وهذا الذي ذكره الإمام أحمد، عليه الحذاق من أئمة السنة، فهؤلاء لا يطلقون أنه هو، ولا يطلقون أنه غيره، ولا يقولون ليس هو هو ولا غيره. فإن هذا أيضاً إثبات قسم ثالث وهو خطأ. ففرق بين ترك إطلاق اللفظين لما في ذلك من الإجمال، وبين نفي مسمى اللفظين مطلقاً، وإثبات معنى ثالث خارج عن مسمى اللفظين" (9) .


    "والذي عليه سلف الأمة وأئمتها إذا قيل لهم علو الله وكلام الله، هل هو غير الله أم لا؟ لم يطلقوا النفي ولا الإثبات، فإنه إذا قيل لهم غيره أوهم أنه مباين له.

    وإذا قال ليس غيره أوهم أنه هو، بل يستفصل السائل، فإن أراد بقوله غيره أنه مباين له منفصل عنه، فصفات الموصوف لا تكون مباينة له منفصلة عنه، وإن كان مخلوقاً، فكيف بصفات الخالق؟ وإن أراد بالغير أنها ليست هي هو فليست الصفة هي الموصوف، فهي غيره بهذا الاعتبار" (10) .

    "فالواجب أن ينظر في هذا الباب، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني.
    وأما الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين..، فلا تطلق نفياً ولا إثباتاً حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان قد أراد بالنفي والإثبات معنى صحيحاً موافقاً لما أخبر به الرسول صوب المعنى الذي قصده بلفظه، ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص، لا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد بها" (11) .


    وأما الصفات الثبوتية عند الماتريدية فهي ثمان صفات، وهي: القدرة، والعلم، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والتكوين (12) .


    وهم قد خصوا الإثبات بهذه الصفات دون غيرها، لأنها هي التي دل العقل عليها عندهم. وأما غيرها من الصفات، فإنه لا دليل عليها من العقل عندهم، فلذا قالوا بنفيها.


    وسلكوا في الاستدلال على إثبات هذه الصفات طريقتين، وقد يسلكوا أحياناً طرقاً غيرها:

    الأولى: التنزيه عن النقائص.
    الثانية: دلالة المحدثات.

    قال أبو المعين النسفي موضحاً الطريقة الأولى: "إذا ثبت أن صانع العالم قديم ومن شرط القدم التبري عن النقائص، ثبت أنه حي قادر سميع بصير عالم، إذ لو لم يكن كذلك لكان موصوفاً بالموت والجهل والعجز والعمى والصمم، إذ هذه الصفات متعاقبة لتلك الصفات، فلو لم تكن هذه الصفات ثابتة لله تعالى (لثبت) ما يعاقبها وهي صفات نقص ومن شرط القدم الكمال، فدل أنه موصوف بما بينا لضرورة انتفاء أضدادها التي هي من سمات (المحدث) لكونها نقائص" (13) .


    وقال في الثانية: "وإذا ثبت أيضاً أنه هو المخترع لهذا العالم مع اختلاف أنواعه، وهو الخالق له على ما هو عليه من الإحكام والإتقان وبديع الصفة وعجيب النظم والترتيب وتركيب الأفلاك وما فيها من الكواكب السائرة وما يرى من البدايع في أبدان الحيوانات من الحياة والتميز والاهتداء إلى اجتلاب المنافع (وانتفاء) المضار، وما فيهن من الحواس، وما في الأجسام الجمادية من البدايع والخاصيات التي أودعت فيها على وجه لو تأمل ذو البصيرة الموصوف بدقة الفكرة وحدة الخاطر ورجاحة العقل وكمال الذهن وقوة التمييز جميع عمره فيها لما وقف على كنهها بل على جزء من ألف جزء مما فيها من آثار كمال الحكمة ولطف التدبير، ثبت أنه حي قادر عالم سميع بصير... يجري العلم بذلك مجرى الأوائل البديهية، حتى أن العقلاء بأسرهم ينسبون من يضيف نسيج الديباج المنقوشة، وتحصيل التصاوير المونقة، وبناء القصور العالية، واتخاذ السفن الجارية... إلى ميت عاجز جاهل، إما إلى الحماقة والغباوة وإما إلى العناد والمكابرة..." (14) .


    وقبل ذكر استدلالهم على إثبات كل صفة على حدة، لابد من بيان أمر مهم وهو: أن ما أثبته الماتريدية من صفات الله تعالى ثابت بالشرع والعقل - ولا ريب في هذا - ولكن تخصيصهم هذه الصفات الثمان دون غيرها بالإثبات تخصيص من غير مخصص، ولا دليل عليه من العقل ولا من النقل.


    بل إن الدليل النقلي والعقلي قد دل على اتصافه تعالى بهذه الصفات وغيرها، فالشرع قد أثبت صفات أخرى غير تلك الصفات الثمان، فما الموجب لعدم إثباتها؟

    فإن قالوا: إن إثبات الصفة لابد له من دليل عقلي على تلك الصفة بعينها، ولم يقم لدينا دليل عقلي على غير ما أثبتناه من الصفات (15) .

    قيل لهم: "إن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر الله به ورسوله من صفاته ليس موقوفاً على أن يقوم عليه دليل عقلي على تلك الصفة بعينها، فإنه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبرنا بشيء من صفات الله تعالى، وجب علينا التصديق به، وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا.

    ومن لم يقر بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم: لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[الأنعام: 124] ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمناً بالرسول، ولا متلقياً عنه الأخبار بشأن الربوبية، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك، أو لم يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه ومالم يخبر به إن علمه بعقله آمن به وإلا فلا.

    فلا فرق عند من سلك هذه السبيل بين وجود الرسول وإخباره، وبين عدم الرسول وعدم إخباره، وكان ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع في هذا الباب عديم الأثر عنده، وهذا قد صرح به أئمة هذا الطريق" (16) .


    ثم يقال لهم: لم أثبتم له تعالى إرادة، وأنه مريد حقيقة، ونفيتم حقيقة الحب والرحمة ونحو ذلك.

    فإن قالوا: لأن إثبات هذا تشبيه.
    قيل لهم: وكذلك يقول لكم منازعكم في الإرادة.
    ويقول لكم أهل الإثبات: لابد لكم أن تأتوا في الدلالة على ما أثبتموه من الصفات بالعقل بقياس شمولي أو قياس تمثيلي. فتقولون في الشمولي كل فعل متقن محكم فإنه يدل على علم فاعله وقدرته وإرادته وهذه المخلوقات كذلك فهي دالة على علم الرب تعالى وقدرته ومشيئته، وتقولون في التمثيلي: الفعل المحكم المتقن يدل على علم فاعله وقدرته في الشاهد، فكان دليلاً في الغائب، والدلالة العقلية لا تختلف شاهداً وغائباً فلا يمكنكم أن تثبتوا له سبحانه بالعقل صفة أو فعلاً إلا بالقياس المتضمن قضية كلية، إما لفظاً كما في قياس الشمول، وإما معنى كما في قياس التمثيل فإذا كنتم لا يمكنكم إثبات الصانع ولا صفاته إلا بالقياس الذي لابد فيه من إثبات قدر مشترك بين المقيس والمقيس عليه، وبين أفراد القضية الكلية، ولم يكن هذا عندكم تشبيهاً ممتنعاً، فكيف تنكرون معاني ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وحقائقه بزعمكم أنه يتضمن تشبيهاً (17).

    فإن قالوا: الإرادة التي نثبتها لله ليست مثل إرادة المخلوقين، كما أن قد اتفقنا وسائر المسلمين على أنه حي، عليم، قدير، وليس هو مثل سائر الأحياء العلماء القادرين.

    قال لكم أهل الإثبات: كذلك الرحمة والمحبة التي نثبتها لله ليست مثل رحمة المخلوق، ومحبة المخلوق.

    فإن قالوا: لا نعقل من الرحمة والمحبة إلا هذا.

    قال لكم النفاة: ونحن لا نعقل من الإرادة إلا هذا (18) .
    فإن قالوا: إنا نثبت تلك الصفات بالعقل.
    قال لكم أهل الإثبات: لكم جوابان:
    أحدهما: أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، وعلى فرض أن ما سلكتم من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، والنافي لابد أن يأتي بديل كالمثبت سواء بسواء، وليس لكم أن تنفوا شيئاً من الصفات بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت، والسمع قد دل عليه، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم.

    الثاني: أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبتم به تلك الصفات من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم، يدل على الرحمة، كدلالة التخصيص على الإرادة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته تدل على حكمته البالغة (19).


    فإن قالوا: إنما نفينا الرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك من الصفات لأنه لا يعقل لها حقيقة تليق بالخالق إلا الإرادة.


    قيل لهم: هذا باطل، فإن نصوص الكتاب والسنة والإجماع مع الأدلة العقلية تبين الفرق، فإن الله سبحانه يقول: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7]، وقال تعالى: إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء: 108]، فبين أنه لا يرضى هذه المحرمات مع أن كل شيء كائن بسببه، وقال تعالى: وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [البقرة: 205].


    وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام، وبإجماع الأمة، أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الكفر والفسوق والعصيان، وأنه يرضى هذا ولا يرضى هذا والجميع بمشيئته وقدرته (20) .


    فعلم بهذا أن ما يجب إثباته لله تعالى من الصفات ليس مقصوراً على ما أثبتته الماتريدية. بل إن الواجب - وهو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها: أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل. وهذا هو المنهج الحق الواجب اتباعه والسبيل المستقيم الذي لا أعوجاج فيه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.


    وأما الطرق العقلية التي استدلت بها الماتريدية على إثبات ما أثبتوه من الصفات، فهي ولا ريب صحيحة مستقيمة، فمعرفة الخالق عن طريق التدبر والتفكر في المخلوقات أمر قد حث عليه الله تعالى في كتابه في آيات كثيرة، من ذلك: قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164]، وقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [آل عمران: 109]، وقوله تعالى: أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ [ق: 6-8] (21) .

    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وإذا تأملت ما دعا الله سبحانه في كتابه عباده إلى الفكر فيه أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى، وبوحدانيته، وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وعلمه وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وبره ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه، فبهذا تعرف إلى عباده وندبهم إلى التفكر في آياته" (22) .

    وقد دل كتاب الله أيضاً على الطريق العقلي الثاني، وهو ثبوت الكمال لله وتنزيه الله عن النقائص. كما في قوله تعالى: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ[النحل: 17] وقوله:ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [النحل: 75]،

    وقوله: وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل: 76]، وقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]، وقوله: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ [الأعراف: 148] وقول إبراهيم عليه السلام لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [مريم: 42] ومثل هذا كثير في القرآن.


    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الكمال ثابت لله بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى، يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه، فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وإن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية مع دلالة السمع على ذلك.


    وثبوت معنى الكمال قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة، دالة على معاني متضمنة لهذا المعنى، فما في القرآن من إثبات الحمد له وتفصيل محامده، وإن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه، ونحو ذلك كله دال على هذا المعنى" (23) .


    "والمقصود هنا أن نبين أن ثبوت الكمال لله معلوم بالعقل، وأن نقيض ذلك منتف عنه، فإن الاعتماد في الإثبات والنفي على هذه الطريق مستقيم في العقل والشرع" (24) .


    وقال رحمه الله: "وهذه الطريقة هي من أعظم الطرق في إثبات الصفات وكان السلف يحتجون بها، ويثبتون أن من عبد إلهاً لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، فقد عبد رباً ناقصاً معيباً مؤوفاً، ويثبتون أن هذه كمال، فالخالي عنها ناقص..." (25) .


    وإذا تبين لنا هذا، يتبين لنا صحة الطرق العقلية التي استدلت بها الماتريدية على إثبات ما أثبتوه من الصفات. كما يتبين لنا "أن ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول، وأن أولى الناس بالحق أتبعهم له، وأعظمهم له موافقة وهم سلف الأمة وأئمتها، الذين أثبتوا ما دل عليه الكتاب والسنة من الصفات، ونزهوه عن مماثلة المخلوقات" (26) . (124)


    صفة القدرة
    استدلت الماتريدية على إثبات اتصاف الله تعالى بصفة القدرة بإيجاده تعالى وخلقه للمخلوقات، وهي طريقة (دلالة المحدثات) أو (دليل الأفعال) كما استدلوا بطريقة (التنزيه عن النقائص) إلا أن استدلالهم بالطريقة الأولى أقوى وأشهر عندهم، حتى أن كثيراً منهم لا يذكرون غيرها.

    والماتريدي يستدل على ثبوت صفة القدرة بدلالة المحدثات، ويربط ثبوت القدرة بثبوت الاختيار. فالاتساق والحكمة في المعقولات وإيجاد المعدوم وإعدام الموجود، يقتضى ثبوت الاختيار من الفاعل، وإذا ثبت الاختيار ثبتت القدرة، إذا لا اختيار بغير قدرة.

    يقول الماتريدي مقرراً هذا: "إن اتساق الفعل المتوالي بلا فساد... ولا خروج عن طريق الحكمة، يثبت كون المفعول بالاختيار من الفاعل، فثبت أن الخلق كان بفعله حقيقة...

    وأيضاً أن الله تعالى إذا أنشأ شيء ثم أفناه، وفيه أيضاً ما قد أعاده نحو الليل والنهار، ثبت أن فعله بالاختيار، إذ تحقق به صلاح ما قد أفسده، وإعادة ما قد أفناه، وإيجاد المعدوم وإعدام الموجود، فثبت أن طريق ذلك الاختيار، إذ من كان الذي منه يكون بالطبع لا يجيء منه نفي ما يوجد، وإيجاد ما يعدمه...


    وأيضاً إنا قد بينا حدث العالم لا من شيء، وذلك نوع ما لا يبلغه إلا فعل من هو في غاية معنى الاختيار، وما يكون بالطبع فحقه الاضطرار، ومحال أن يكون من يبلغ شأنه إلى إنشاء الأشياء لا من شيء، ثم يكون ذلك بالطبع، مع ما كان وقوع الشيء بالطبع هو تحت قهر آخر، وجعله بحيث يسقط عنه الإمكان، وذلك آية الحدث وإمارة الضعف، جل ربنا عن ذلك وتعالى. مع ما جرى التعارف المتوارث من الخلق بالدعوات والتضرع إلى الله تعالى بالفرج، وأنه قهر كذا ونصر كذا، وأعان فلاناً وخذل فلاناً وأن كل ذي قوة يفعل بقوة أنشأها، ولا ينال شيء من ذلك بالمضطر، ولايرغب فيه، دل ذلك على أن العالم باختياره، فإذا ثبت الاختيار ثبتت له القدرة على الخلق، والإرادة لكونه على ما هو عليه، لأن من لا قدرة له يخرج الذي يكون منه مضطرباً فاسداً، ولا يملك الشيء وضده. فثبت أن ما كان منه بقدرة كان باختيار، وذلك أمارات الفعل الحقيقية في الشاهد..." (27) .


    وأما أبو المعين النسفي وعامة الماتريدية، فإنهم يثبتون القدرة بدلالة مطلق الفعل، بدون توسيط الاختيار في الاستدلال، وذلك أن فعل الفاعل لا يكون صادراً إلا عن قدرة، فالخلق لا يكون إلا من قادر.

    وكل من الطريقتين محورهما واحد إلا أن الثانية أقل مقدمات فهي أقرب وأبسط في الاستدلال من الأولى.

    قال أبو المعين النسفي مقرراً دلالة المحدثات على قدرة الله تعالى: "المفعول كما دل على الفاعل فمطلقه يدل على القدرة... فإن كل من رأي المفعول... استدل بكونه مفعولاً على قدرة فاعله عليه" (28) .


    وقال أيضاً: "فلو لم يكن لله تعالى... قدرة، لما تصور منه إيجاد هذا العالم البديع، بما فيه من الأجرام العلوية، والنجوم السيارة والأشخاص الحيوانية وحيث حصلت به هذه الأشياء، دل على ان له... قدرة" (29) . (125)


    صفة العلم
    تثبت الماتريدية صفة العلم لله تعالى بدلالة المحدثات عليه، إذ الإحكام والإتقان في المخلوقات والمحدثات يدلان على علم الخالق والمحدث، إذ لا إحكام ولا إتقان بغير علم.
    قال الماتريدي: "وعلى ما ذكرنا من تواصل الفعل.. وتتابعه محكماً متقناً هو الدليل أنه كان فعله على العلم به" (30) .

    وقال أبو المعين النسفي: "ولنا أيضاً طريقة دلالة المحدثات على الصفات وهي: المفعول كما دل على الفعل فمطلقه يدل على القدرة، وكونه محكماً متقناً يدل على العلم، فإن كل من رأى المفعول محكماً متقناً استدل بكونه مفعولاً على قدرة فاعلة عليه، وبكونه محكماً على علم فاعله به..." (31) .


    وقرر البياضي الدليل من ثلاثة أوجه:

    "الأول: إثباته بخلقه للأشياء فإنه يقتضي معلومية الأشياء قبل أن تخلق.

    الثاني: أنه يدل على قدرة الخالق أي كونه فاعلاً بالقصد والاختيار، لأن الخلق إيجاد عن عدم ولا يتصور الفعل بالقصد والاختيار إلا مع العلم بالمقصود.


    الثالث: أن الخلق البديع يدل على علم الخالق" (32) .


    وبعد أن ذكر هذه الأوجه قال: "وتقريره أن خلقه تعالى وأفعاله متقن مشتمل على الصنع الغريب والترتيب العجيب، وكل من كان فعله كذلك فهو عالم، أما الصغرى فظاهرة لمن نظر في الآفاق والأنفس وارتباط العلويات بالسفليات، وما أعطى الحيوانات من الأسباب والآلات المناسبة لمصالحها، وما أعطى النحل والعنكبوت من العلم بما يفعله من البيوت بلا فرجار وآلة، كما دل قوله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [النحل: 68]، وأما الكبرى فضرورية.


    وقد ينبه عليها بأن من رأى خطوطاً حسنة أو سمع ألفاظاً عذبة تدل على معان دقيقة جزم بأن مصدرها عالم، وتوهم كفاية الظن مدفوع بالتكرار والتكثر على التصور ضروري وهو كاف في المقصود..." (33) .


    كما أنهم استدلوا على إثبات صفة العلم بدليل التنزيه عن النقائص وتقريره: إذا لم يتصف الرب تعالى بالعلم، اتصف بالجهل، لأن العلم والجهل من الصفات المتعاقبة، واتصافه تعالى بالجهل ممتنع، لأنه صفة نقص، ومن شرط القدم التبري عن النقائص، فوجب اتصافه تعالى بالعلم.


    قال أبو المعين النسفي: "إنا عرفنا ثبوت هذه الصفات كلها لمعرفتنا بتعاقب أضدادها التي في أنفسها نقائص إياها، ومعرفتنا باستحالة ثبوت النقائص في القديم، فعرفنا ثبوت هذه الصفات التي هي صفات الكمال ضرورة انتفاء النقائص عن القديم، وعرف أن ثبوتها من شرائط القدم وهذه الطريقة جارية في هذه الصفات (34) .


    والدليل الأول هو المشهور عندهم وعند عامة المتكلمين في إثبات صفة العلم، ولا ريب في صحته فقد دل القرآن كما في قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14].


    ودلالة المحدثات - بما فيها من الأحكام والإتقان - على علم الخالق والمحدث أمر ضروري يدركه كل عاقل بدون إقامة دليل منطقي لا يفهمه كل أحد.


    وقوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قد دل على وجوب علمه تعالى بالأشياء من عدة أوجه:

    "أحدها: أنه خالق لها والخلق هو الإبداع بتقدير، وذلك يتضمن تقديرها في العلم قبل تكونها في الخارج.
    الثاني: أن ذلك مستلزم للإرادة، والمشيئة والإرادة مستلزمة لتصور المراد والشعور به، وهذه الطريقة المشهورة عند أكثر أهل الكلام.
    الثالث: أنها صادرة عنه، وهو سببها التام، والعلم بأصل الأمر وسببه، يوجب العلم بالفرع المسبب، فعلمه بنفسه مستلزم العلم بكل ما يصدر منه.
    الرابع: أنه في نفسه لطيف يدرك الدقيق، خبير يدرك الخفي، وهذا هو مقتضى العلم بالأشياء، فيجب وجود المقتضى لوجود السبب التام، فهو في علمه بالأشياء مستغن بنفسه عنها، كما هو غني بنفسه في جميع صفاته..." (35) .

    فالآية مع دلالتها على صحة طريقة الماتريدية، فهي أتم وأكمل وأوضح في الدلالة على وجوب اتصافه تعالى بالعلم من طريقتهم. (126)


    صفة الحياة
    اختلفت الماتريدية في طريقة الاستدلال على إثبات صفة الحياة، فذهب بعضهم إلى أن الحياة تثبت بدلالة المحدثات، إذ أن الفعل كما لا يتصور إلا من قادر عالم كذلك لا يتصور إلا من حي، وذهب بعضهم إلى أن الحياة تثبت بدلالة القدرة والعلم لا بدلالة الفعل، إذ يستحيل ثبوت القدرة والعلم بدون الحياة.

    قال أبو المعين النسفي موضحاً هذا: "ثبوت الحياة... عند بعض أصحابنا نصرهم الله بدلالة المحدثات عليها إذ إحكام الفعل كما لا يتصور إلا من قادر عالم لا يتصور إلا من حي، تحققه أن الحياة لذات ما لا يعرف في الشاهد إلا بوجود الأفعال الاختيارية، وعند وجودها يقع التيقن بثبوت الحياة بحيث لا مجال للريب في ذلك، ويعد الشاك فيه متجاهلاً، وكما يستدل بالفعل المحكم المتقن على كون الفاعل قادراً عالماً يستدل به على كونه حياً وتمكن في فكر العقول امتناع القول بوجود ذلك إلا من حي على ما ذكرنا.


    وعند بعض أصحابنا كانت الحياة من مدلولات العلم والقدرة لا من مدلولات الفعل بل الفعل يدل على علمه وقدرته ويستحيل ثبوتهما بدون الحياة، إذ الحياة شرط ثبوتهما، ودليل استحالة ثبوتهما بدون الحياة، أن الموت والجمادية يضادان العلم والقدرة، إذ العقول السليمة كما تأبي قبول قول من أخبر عن اجتماع الموت والحياة والسواد والبياض والحركة والسكون، تأبى قبول قول من يجوز ثبوت العلم والقدرة للميت، وتعرف امتناع اجتماعهما مع الموت، كما تعرف امتناع اجتماع الحياة والموت، ولا تفرق بينهما، فلو جاز ذا لجاز الأول ولو امتنع لامتنع هذا لانعدام ما يوجب التفرقة بين الأمرين في العقول الصحيحة السليمة، تحققه أن ذلك لو جاز لجاز أن يكون كل ديباج نفيس وكل صورة مونقة، وكل قصر عال في العالم كانت حاصلة عن فعل الجمادات والموتى، ولعل كل تصنيف دقيق في فن من العلوم كان في عمل الموتى والجمادات... وتجويز هذا كله هذيان وخروج عن قضية العقول التحاق بالمتجاهلة" (36) .


    واستدلوا أيضاً على ثبوت صفة الحياة بدليل ثبوت الكمال والتنزيه عن النقائص، فلو لم يتصف الخالق بالحياة، لوجب أن يتصف بالموت، إذ أن الموت ولحياة من الصفات المتعاقبة، والموت صفة نقص يجب تنزيه الخالق عنها، كما أن الحياة صفة كمال يجب اتصافه بها، إذ من شرط القدم الكمال والتبري عن النقائص، فثبت وجوب اتصافه بالحياة (37) .


    وكل هذه الطرق الثلاث التي استدلت بها الماتريدية على اتصاف الباري بالحياة الصحيحة مستقيمة. بل هي بديهية ضرورية، إذ أن معرفة اتصاف الخالق بالحياة أمر ضروري مستقر في الفطر، لا يجحده إلا مكابر ملحد.


    قال شيخ الإسلام في تعليقه على قول الأصفاني: (والدليل على أنه حي علمه وقدرته، لاستحالة قيام العلم والقدرة بغير الحي): "فهذا دليل مشهور للنظار، يقولون: قد علم أن من شرط العلم والقدرة الحياة، فإن ما ليس بحي يمتنع أن يكون عالماً، إذ الميت لا يكون عالماً، والعلم بهذا ضروري" (38) .


    فلذلك اضطر ابن رشد الفيلسوف إلى الاعتراف بصحة هذا الدليل حيث قال: "وأما صفة الحياة فظاهر وجودها من صفة العلم، وذلك أنه يظهر في الشاهد أن من شرط العلم الحياة. والشرط عند المتكلمين يجب أن ينتقل فيه الحكم من الشاهد إلى الغائب، ما قالوه في ذلك صواب" (39) . (127)


    الإرادة
    أثبتت الماتريدية الإرادة لله عز وجل بدليل أن الله تعالى قد خلق الخلق باختياره، ولا اختيار بدون إرادة، كما أنه لا اختيار بدون قدرة. وأيضاً اختصاص المفعول بوجه دون وجه، وبوقت دون وقت، دليل على اتصاف الفاعل بالإرادة، إذ هي المعنى الذي يوجب التخصيص. وكذلك استدلوا بدليل التنزيه إذ أن الخالق لو لم يكن مريداً لكان عاجزاً.

    قال الماتريدي: "إن شرط كل من فعله اختيار الإرادة، وكل من فعله الاضطرار أنه غير مريد..." (40) .


    وقال: "ثم الأصل الذي يقع عليه الفعل في الشاهد أن يكون على إرادة أو غلبة أو سهو، فكل من خرج في شيء عن الوصف بالغلبة فيه والسهو لزم الوصف بالإرادة التي هي الأفعال..." (41) .


    كما أن التخصيص في المفعولات يدل على اتصاف الفاعل بالإرادة دلالة بديهية، إذ لا تخصيص بلا إرادة.


    قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تعليقه على قول الأصفهاني: (والدليل على إرادته تخصيصه الأشياء بخصوصيات، واستحالة المخصص من غير مخصص): "فإن هذا دليل مشهور للنظار، ويقرر هنا: إن العالم فيه تخصيصات كثيرة، مثل تخصيص كل شيء بما له من القدر، والصفات، والحركات كطوله وقصره، وطعمه ولونه وريحه وحياته وقدرته وعلمه وسمعه وبصره وسائر ما فيه، مع العلم الضروري بأنه من الممكن أن يكون خلاف ذلك، إذ ليس واجب الوجود بنفسه. ومعلوم أن الذات المجردة التي لا إرادة لها لا تخصص، وإنما يكون التخصيص بالإرادة" (42).


    وثبوت الإرادة بدليل التنزيه أمر مدرك ببداهة العقول، إذ أنه من الضروريات. بل إن معرفة اتصاف الله تعالى بصفة الإرادة أمر لا يحتاج لإقامة الأدلة العقلية المنطقية عليه، إذ أنه يدرك بالفطرة والضرورة. ولا يجحد هذا إلا مختوم على قلبه، أو فاقد لعقله. (128)

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    السمع والبصر
    استدلت الماتريدة على اتصاف الله تعالى بصفتي السمع والبصر بدليل الكمال والتنزيه عن النقائص، وذلك أن السمع والبصر صفات كمال والصمم والعمى صفتا نقص، ومن شرط القدم الكمال والتبري عن النقائص، فلزم اتصافه بالسمع والبصر وتنزيهه عن الصمم والعمى.

    قال أبو المعين النسفي: "إذا ثبت أن صانع العالم قديم ومن شرط القدم التبري عن النقائص، ثبت أنه... سميع بصير... إذ لو لم يكن كذلك لكان موصوفاً بـ... العمى والصمم، إذ هذه الصفات متعاقبة لتلك الصفات، فلو لم يكن هذه الصفات ثابتة لله تعالى لثبت ما يعاقبها وهي صفات نقص ومن شرط القدم الكمال، فدل أنه موصوف بما بينا لضرورة انتفاء أضدادها التي هي سمات المحدث لكونها نقائص" (43) .


    وقال ابن الهمام: "إنه تعالى سميع بصير... بمرأى منه خفايا الهواجس والأوهام، وبمسمع منه صوت أرجل النملة على الصخرة الملساء، لأنهما صفتا كمال فهو الأحق بالاتصاف بهما من المخلوق، وقال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام: 83] وقد ألزم عليه السلام أباه الحجة بقوله: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم: 42] فأفاد أن عدمها نقص لا يليق بالمعبود" (44) .


    ويرى البياضي: أن ثبوت السمع والبصر من المعلوم من الدين بالضرورة، وأنه لا حاجة لإقامة الأدلة العقلية على ثبوت ذلك، بل يكتفي بالأدلة السمعية.


    وخالف ابن الهمام جمهور الماتريدية، حيث ذهب إلى أن السمع والبصر يرجعان إلى صفة العلم، وقد نص على ذلك بقوله: "اعلم أنهما (أي السمع والبصر) يرجعان إلى صفة العلم" (45) .


    ولا جرم أن القول بمغايرة السمع والبصر للعلم هو القول الصحيح، وذلك "لأن الله قرن بين العلم وبين السمع والبصر، وفرق بين السمع والبصر، وهو لا يفرق بين علم وعلم لتنوع المعلومات.


    قال تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 36]، وفي موضع آخر: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200]، وقال: وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 227] ذكر سمعه لأقوالهم، وعلمه ليتناول باطن أحوالهم، وقال لموسى وهارون: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46].


    وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قرأ على المنبر: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58] ووضع إبهامه على أذنه وسبابته على عينه (46) .


    ولا ريب أن مقصوده بذلك تحقيق الصفة، لا تمثيل الخالق بالمخلوق، فلو كان السمع والبصر العلم لم يصح ذلك" (47) .


    ويوضح هذا الإمام البيهقي رحمه الله في تعليقه على الحديث بقوله: "فالمراد بالإشارة المروية في هذا الخبر تحقيق الوصف لله عز وجل بالسمع والبصر، فأشار إلى محلي السمع والبصر منا لإثبات صفة السمع والبصر لله تعالى، كما يقال قبض فلان على مال فلان، ويشار باليد على معنى أنه عليم، إذ لو كان بمعنى العلم لأشار في تحقيقه إلى القلب، لأنه محل العلم منا..." (48) .


    وقال الإمام الدارمي رحمه الله في رده على بشر المريسي: "لا يقال لشيء إنه سميع بصير إلا لمن هو من ذوي الأسماع والأبصار، وقد يقال في مجاز الكلام: الجبال والقصور تتراءى وتسمع، على معنى أنها تقابل بعضها بعضاً، وتبلغها الأصوات ولا تفقه، ولا يقال: جبل سميع بصير، وقصر سميع بصير، لأن سميع مستحيل ذلك إلا لمن يسمع بسمع، ويبصر ببصر. فإن أنكر أصحاب المريسي ما قلنا فليسموا شيئاً من ليس من ذوي الأسماع والأبصار أجازت العرب أن يقولوا فيه هو سميع بصير. فإنهم لا يأتون بشيء يجوز أن يقال له ذلك" (49) .


    فإذا علم هذا، يتبين لنا أن القول بأن السمع والبصر يرجعان إلى صفة العلم قول ظاهر البطلان عقلاً ونقلاً، بل معلوم الفساد بالضرورة. (129)


    إن مذهب الماتريدية في صفات الله تعالى- مزيج أمشاج من حق، وباطل حيث دخل عليهم شيء كبير من الإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته وتعطيلها تحريف نصوصها، كما سيتضح للقراء بعد قليل.


    فنبدأ ببيان ما عندهم من الحق الذي يشكرون عليه، وبه فارقوا الجهمية الأولى والمعتزلة ووافقوا الكتاب والسنة، وبذلك قاربوا أهل السنة في الجملة.


    ونجمل أهم جوانبه فيما يلي:
    1- أثبتوا كثيراً من صفات الله تعالى الثبوتية الذاتية، كحياته تعالى، وعلمه، وقدرته، وإرادته سبحانه وتعالى، وإن كان عندهم تفلسف في طريق إثباتها كما سيأتي.

    2- كما أثبت جمهورهم سمعه تعالى، وبصره سبحانه.


    3- أما الصفات السلبية فأثبتوها مع إلحاد وتعطيل فاحشين وقوعا فيهما كما سيأتي.


    4- أثبتوا صفة التكوين باعتبار أنها مرجعٌ للصفات الفعلية، وهذا القول وإن كان في طيه تعطيل لكنه أحسن من التعطيل الصريح.


    5- استدلوا لإثبات الصفات التي أثبتوها بنصوص الكتاب والسنة (50) .

    فقد عرفوا بعض قيمة نصوص الوحي ولو في الجملة وهذا خير من ردها بالكلية.

    6- لهم جهود عظيمة طيبة في الرد على الجهمية الأولى لإثبات ما أثبتوه من الصفات وإن كانت تلك الردود ترتد عليهم فيما نفوه من الصفات؛ لأنهم كثيراً ما يحتجون بحجج أهل السنة على الجهمية الأولى والمعتزلة ثم يخالفون ما تدل عليه تلك الحجج فيتناقضون فترتد عليهم تلك الحججُ نفسها (51) .


    وأما ما عندهم من باطل في مذهبهم في صفات الله تعالى، فقد دخل عليهم باطل من إلحاد وتعطيل.


    الناحية الأولى: حول تقسيمهم للصفات:

    ونجملها فيما يلي:
    1- أول إلحاد وتعطيل وقعوا فيهما - هو حصرهم لصفات الله تعالى، فأنت رأيت أنهم حصروا جميع الصفات في إحدى وعشرين صفةً لا غير، وقد صرح أحد أئمتهم ألا وهو كمال الدين البياضي الحنفي الماتريدي (1098هـ) بحصر الصفات الذاتية الثبوتية في سبعٍ، والصفة الثامنة هي التكوين، وهي صفة فعلية فقال: "وعند جلة الخلف لا يزيد على الصفات الثمانية، والصفات الأخرى راجعة إليها" (52) .
    كما صرح الشاه محمد أنور الكشميري أحد كبار أئمة الديوبندية (1352هـ) بأن الأسماء الحسنى كلها مندرجة في صفة التكوين (53) .
    ومعلوم أن صفة التكوين مرجعٌ للصفات الفعلية عندهم فهي صفة فعل فأين يضعون لفظ الجلالة "الله" وهو الاسم الأعظم ونحوه من الأسماء الحسنى التي تدل على ذات الله تعالى وعلى الصفات الثبوتية الذاتية الكمالية، فهل يضعونها أيضاً في صفة التكوين؟.
    ولما قالوا بحصر الصفات الإلهية فيما ذكروه عطلوا جميع ما سواها من صفات الله الكمالية، وحرفوا نصوصها الصريحة المحكمة الصحيحة، كما سيأتي عدة أمثلة لذلك.
    وهذا - والله تعطيل وإلحاد صريحان قبيحان - كما ذكرنا في معنى الزندقة والإلحاد.

    2- الماتريدية تظاهروا بإثبات سبع صفات ذاتية ثبوتية ألا وهي: "الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام" لكنهم في الحقيقة لا يثبتونها كلها جميعاً باتفاقهم بل الحقيقة أنهم اتفقوا على إثبات الصفات الأربع الأول فقط، وأما صفتا "السمع والبصر" فجمهورهم يثبتونها وخالفهم بعضهم كالإمام ابن الهمام شارح الهداية (861هـ) فأرجعهما إلى صفة "العلم" (54) .


    ومعلوم أن إرجاع صفة إلى أخرى وتفسير صفة بمعنى أخرى تعطيل صريح وتحريف قبيح فمن فسر "العلم" بالحياة، أو فسر "اليد" بالقدرة ونحو ذلك فقد أبطل وعطل حتى بشهادة الإمام أبي حنيفة رحمه الله وفي ذلك عبرة (55) .


    وهم مع إثباتهم لهذه الصفات تفلسفوا في إثباتها تفلسفاً كادوا أن ينفوها ويعطلوها فإنهم قد صرحوا بأن كلاً من هذه الصفات صفة واحدة قديمة أزلية لا تكثر فيها ولا تجدد وإنما التجدد في متعلقاتها؛ لأن ذلك أليق بكمال التوحيد (56) .

    فأخرجوا الصفات عما عرف في الشرع والعقل والفطرة.

    هكذا كابروا العقل والنقل، ولذلك يقول في أمثالهم شيخُ الإسلام ذلك الإمام البعيد النظر الثاقب الفكر الذي كشف الأستار عن كثير من أسرار المتكلمين وأخرج خباياهم من زواياهم:

    "وإثبات إرادة واحدة كما ذكروه لا يعرف بشرع ولا عقل بل هو مخالف للشرع والعقل فإنه ليس في الكتاب والسنة ما يقتضى أن جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له وكذلك سائر ما ذكروه" (57) .
    وهو كلام الله تعالى المسموع بحرف وصوت وهو لم يزل ولا يزال متكلماً.

    ثانياً: أنهم قالوا صراحةً- دون حياءٍ- جهاراً دون إسرار- بخلق القرآن فسايروا الجهمية الأولى وشيوخهم المعتزلة، وفارقوا أهل السنة.


    ثالثاً: أنهم لم يكتفوا بهذين- التعطيل والإلحاد- بل زادوا بدعةً أخرى على بدعة الجهمية الأولى والمعتزلة، ألا وهي "بدعة الكلام النفسي" الذي لم يعرفه الأولون والآخرون من الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين وأئمة هذا الدين قبل ابن كلاب (240هـ) ولا يقره عقل صريح ولا نقل صحيح ولا فطرة سليمة ولا إجماع في آن واحد.


    4- الماتريدية تظاهروا بإثبات الصفات الفعلية- الصفات الاختيارية- والحقيقة أنهم لا يثبتون الصفات الفعلية ولا يقولون بقيامها بالله تعالى ومعلوم أن الصفة لا تكون صفةً إلا إذا قامت بالموصوف واتصف الموصوف بها، وإلا لزم أن تكون صفاتٌ لعمرو صفاتٍ لزيد، وهذا قلب الحقائق ومكابرة بداهة العقل السليم الصريح والنقل الصحيح.

    وهذه حقيقة اعترفوا بها في صدد احتجاجهم على المعتزلة فقالوا: "ومعلوم أن كلاً من ذلك يدل على معنى زائد على مفهوم الواجب. وليس الكل ألفاظاً مترادفة، وأن صدق المشتق على الشيء يقتضي ثبوت مأخذ الاشتقاق له فثبت له صفة العلم، والقدرة،، والحياة وغير ذلك، لا كما يزعم المعتزلة: أنه عالم لا علم له، وقادر لا قدرة له إلى غير ذلك، فإنه محال ظاهر بمنزلة قولنا: أسود لا سواد له، وقد نطقت النصوص بثبوت علمه، وقدرته، وغيرهما..."؛
    وقالوا: "ولا معنى له سوى أنه متصف بالكلام" (58) .

    ومعلوم أيضاً أنهم أرجعوا جميع الصفات الفعلية إلى صفة التكوين، وأن جميع الصفات الفعلية ليست صفاتٍ حقيقةً لله تعالى، وإنما هي من متعلقات صفة التكوين، والتكوين صفة أزلية وهي عندهم: مبدأ الإخراج من العدم إلى الوجود.

    فلا شك أن ما يزعمون من صفة التكوين ليس إلا مجموع صتفي "القدرة والإرادة"، ولا شيء غير ذلك، وأنه لا خلاف في الحقيقة بين الماتريدية وبين الأشعرية فكل متفقون على نفي الصفات الفعلية، ونفي قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى، حذراً عن تعدد القدماء، وفراراً عن حلول الحوادث بذاته تعالى في زعمهم كما تقدم ذلك في المسائل الخلافية بين الفريقين.

    5- الماتريدية خالفوا طريقة الكتاب والسنة، ونابذوا منهج سلف هذه الأمة، وعاكسوا أئمة السنة في باب الصفات السلبية، فأجملوا في الإثبات وفصلوا في النفي المحض ولذلك نرى الإثبات عندهم قليلاً. والنفي كثيراً، فعامة توحيدهم سلوب خالصة اقتداءً بشيوخهم المعتزلة، الثبوتية الذاتية التي هي من أعظم صفات الله تعالى الدالة على كماله سبحانه وتعالى، كصفة "العلو" لله سبحانه وتعالى، فيفسرون هذه الصفة العظيمة بالسلوب فيقولون: "المراد تعاليه عن الأمكنة، والمراد علو القهر، والتنزيه، وتعاليه عن كل موهوم، وتعاليه عن الأشباه، والأنداد، والصفات التي لا تليق به.

    والسلوب قد أشربوها في قلوبهم، وتوحيد السلوب قد شغفهم حباً إلى حد قالوا: "إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به، ولا منفصل عنه، ولا فوق العرش، ولا يمين، ولا شمال، ولا أمام، ولا خلف، فقالوا بما لا يقره عقل صريح ولا نقل صحيح، ولا فطرة سليمة، ولا إجماع، وأرادوا الفرار من التشبيه وقصدوا التنزه، فنزهوا الله تعالى عن كثير من صفاته الكمالية، ووقعوا في أبشع التشبيه وأشنعه وهو تشبيه الله تعالى بالحيوانات، بل بالجمادات، بل بالمعدومات، بل بالممتنعات، وقالوا: إن الله تعالى لا كلام له، ولا يتكلم ولا يناجي، ولا ينادي - بالمعنى الذي دل عليه الكتاب والسنة وفهمه سلف الأمة وأئمة السنة، ولا له يد، ولا يدان، ولا أصابع، ولا قبضة، ولا وجه، ولا عين، ولا ساق ولا قدم، ولا رجل، وأولوها إلى المعاني الأخرى.

    الناحية الثانية: حول ما أصلوه في "التشبيه والتنزيه" وما نتج من ذلك من إلحادٍ وتعطيل كثيرٍ من صفات الله تعالى وتحريف نصوصها.


    الماتريدية لما فهموا من صفات الله تعالى تشبيه الله بخلقه ورأوا أن ذلك يخالف تنزيهه تعالى، وأدخلوا في مفهوم التشبيه كثيراً من صفات الله، كما أدرجوا في التنزيه نفي كثير منها - كما تقدم تفصيله في مبحث التشبيه دخل عليهم الإلحادُ في أسمائه وصفاته سبحانه والتعطيلُ لكثير من صفات الله تعالى وتحريف نصوصها بشتى التأويلات.

    وفيما يلي بعض الأمثلة الواقعية من نصوصهم في كتبهم لتكون شاهدة لما قلنا ويكون القراء الكرام على بصيرة من أمر هؤلاء.

    المثال الأول: أنهم تظاهروا بإثبات "الحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة" لله ولكنهم تفلسفوا فيها فأخرجوها عما كانت عليه في العقل والنقل.


    المثال الثاني: أرجع بعضهم كالإمام ابن الهمام (861هـ) صفتي "السمع والبصر" إلى صفة "العلم" وهذا تعطيل واضح، وللعلامة محمد أنور شاه الكشميري أحد كبار أئمة الديوبندية (1352هـ) تفلسف آخر في معاني الصفتين "السمع والبصر" لا نطيل المقام بذكره (59) .


    المثال الثالث: تظاهر الماتريدية بإثبات الصفات الفعلية، ولكن الحقيقة أنها ليست صفاتٍ حقيقية قائمةً بالله تعالى - عندهم - وهذا تعطيل صريح.


    المثال الرابع: توسعوا وبالغوا وأسرفوا في السلوب وفصلوا فيها فأدخلوا فيها كثيراً من الصفات الذاتية الثبوتية، ونابذوا طريق الكتاب والسنة وعاكسوا سلف هذه الأئمة، وشاقوا أئمة السنة.


    المثال الخامس: عاملوا صفة "العلو" لله على خلقه - معاملةً كابروا بها صريح العقل وصحيح النقل وسليم الفطرة وواقع إجماع بني آدم من أولهم إلى آخرهم مسلمهم وكافرهم عربهم وعجمهم رجالهم ونسائهم.


    فعطلوا هذه الصفة العظيمة بأنواع من التحريفات، وقالوا: إن الله لا فوق، ولا تحت ولا خلف، ولا أمام ولا يمين، ولاشمال، ولا فوق العالم، ولا تحته، ولا خارج العالم، ولا داخله، إلى آخر ذلك الهذيان.


    المثال السادس: فعلوا في صفة "الكلام" ما لا يقره عقل ولا نقل ولا فطرة كفعلهم في صفة "العلو".


    فعطلوا هذه الصفة العظيمة عن مفهومها المعروف عند سلف هذه الأئمة وأئمة السنة، وأتوا ببدعة شنعاء ظلماء أخرى ألا وهي بدعة "الكلام النفسي" وحرفوا نصوص الشرع ونصوص أئمة الإسلام إلى تلك البدعة وصرحوا ببدعة القول بخلق القرآن جهاراً دون حياء.


    المثال السابع: عطلوا صفة "تكليم الله" لعباده من الرسل والملائكة وغيرهم، وحرفوا نصوصها، وقالوا بأن كلام الله غير مسموع، وأن موسى عليه الصلاة والسلام لم يسمع كلام الله تعالى، وإنما سمع صوتاً مخلوقاً الشجرة، وهذا عين كلام الجهمية الأولى بل هو كلام النصارى (60) .


    المثال الثامن: عطلوا صفة "نداء الله تعالى" عباده وحرفوا نصوصها بأنها تمثيل لكلام موسى عليه السلام من تلك الجهة (61) .


    المثال التاسع: صفة "الصوت" لله تعالى، فقد عطلوها، وحرفوا نصوصها إلى أن المراد من الصوت "صوت المخلوق" أو المراد "مخلوق غير قائم به تعالى" (62) .

    المثال العاشر: صفة "الأذن" بفتح الهمزة وفتح الذال المعجمة - أي "الاستماع" (63) أعني استماع الله سبحانه إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن)) (64) .
    فحرفوا هذه الصفة العظيمة التي يفرح بها المؤمن وتثير عواطفه وتشوقه فزعموا أنها لا حقيقة لها بل أنها مجاز عن تقريبه تعالى للقارئ، وإجزال ثوابه أو قبول قراءته (65) ففسروها باللوازم.

    المثال الحادي عشر: صفة "الصورة" لله تعالى، فقط عطلوها وحرفوا نصوصها إلى "صورة اعتقاد" أو "صورة الأمر" أو "صورة الحال" أو "صورة الملك الذي لا ينبغي لغيره" أو المراد من "الصورة" عظمة الله لا تشبه شيئاً" أو غير ذلك (66) .


    والكوثري لغلوه في التعطيل وإسرافه في البدعة، وانحرافه عن السنة وأهلها، وأئمتها لم يتمالك نفسه فقدح في حديث "الصورة" ظلماً وعدواناً (67) مع أنه حديث متفق عليه بين أئمة الإسلام ولاسيما البخاري ومسلم فقد أخرجاه وليس من الأحاديث المنتقدة عليهما حتى جاء هذا الجركسي فطعن فيه فخرق ثوب الحياء، كما خرق إجماع الفضلاء.


    وهو من حديث أبي هريرة في حديث طويل فيه قصة رجل هو آخر أهل الجنة دخولاً وفيه: ((فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه)).


    وفيه: ((فلا يزال يدعو حتى يضحك فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها)) (68) الحديث.

    وفي لفظ: ((فيأيتهم الله في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه)).

    وفيه ((... حتى يضحك الله منه، فإذا ضحك منه...)) (69) .

    وهو من حديث أبي سعيد الخدري في حديث الشفاعة الكبرى وفيه: ((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة...، فكيشف عن ساقه...)) (70) .
    وفي لفظ: ((... أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورةٍ من التي رأوه فيها... فيكشف عن ساق...)) (71) .

    قلت: طّعْنُ الكوثري في هذا الحديث الصحيح المحكم الصريح المتفق على صحته المتلقى بالقبول - يكفي لسقوطه عن منزلة الديانة والأمانة إلى درك الخيانة. هل هذا هو تثبت الكوثري واحتياطه وأمانته وديانته؟.


    المثال الثاني عشر: ما أثبته الله تعالى لنفسه من "النفس" فقد نفوها، قالوا: إن ذكر "النفس" للمشاكلة (72) .


    قلت: لقد ورد صفة "النفس" في الكتاب والسنة في مواضع لا تحتمل المشاكلة:

    منها قوله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28].
    وقوله تعالى: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12].
    وقوله سبحانه: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]
    وقوله تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41].
    وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله الخلق كتب في كتابه، وهو كتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش: إن رحمتى تغلب غضبي)) (73) .
    وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) (74) .

    وقد انتبه إلى ذلك العلامة الملا علي القاري الحنفي (1014هـ) فرد على احتمال المشاكلة (75) رحمه الله رحمة واسعة وإيانا آمين!


    تنبيه مهم: على أن "النفس" صفة، أم عبارة عن "الذات"؟
    عد كثير من سلف الأمة "النفس" من صفات الله تعالى، كالإمام أبي حنيفة، وإمام الأئمة ابن خزيمة رحمهما الله تعالى (311هـ) وغيرهما من أئمة السنة (76) .

    وبالغ الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله (280هـ) فاستنبط "الضمير" لله سبحانه من نصوص "النفس" (77) .


    وصنيعه هذا لا يتمشى مع طريقة أئمة السنة - وهو منهم - لأن "الضمير" لم نجد أثباته في نصوص الشرع، وإن كان قصدهُ معنىً صحيحاً.


    وذكر بعض أئمة السنة كالإمام البخاري رحمه الله (256هـ): "النفس" ونصوصها لإثبات إطلاقها على الله سبحانه وتعالى بدون التصريح بأنها من صفات الله تعالى (78) .

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    ولكن صرح كثير من أئمة السنة منهم شيخ الإسلام بأن "النفس" ليست من صفات الله تعالى، وإنما المراد من "النفس" "ذات الله المقدسة"، لأن "نفس الشيء" "ذاته وعينه" وأن هذا هو الصواب.
    فإذن نصوص "النفس" ليس من نصوص الصفات (79) .
    ومنه شيخنا عبدالله بن محمد الغنيمان حفظه الله تعالى فله تحقيق دقيق عميق أنيق وثيق حقيق بالقبول فقد حقق أن "نفس" الشيء "ذاته وعينه" ووفق بين كلام الأئمة أمثال ابن خزينة، والدارمي وبين كلام شيخ الإسلام فراجعه (80) .

    المثال الثالث عشر: صفة "الوجه الكريم" لله عز وجل، فقد عطلوها، وحرفوا نصوصها بتأويلها إلى "الوجود"، و"الذات" (81) .


    المثال الرابع عشر: صفة "العين" لله تعالى، فتراهم يعطلونها ويحرفونها إلى: "الحفظ، والرعاية، والإعلام، والأمر، والواحي، والمنظر، والمرءي" وغيرها (82) .


    الأمثلة: الخامس عشر إلى العشرين: صفات "اليدين"، و"اليد" و"اليمين" و"القبضة" و"الكيف" و"الأصابع" لله سبحانه وتعالى ليس كمثله جل وعلا، فهذه الصفات قد عطلوها وحرفوا نصوصها إلى "القدرة أو النعمة، أو التدبير، أو الذات" أو غيرها.


    المثال الحادي والعشرون: صفة "الرِجْل" له سبحانه وتعالى، عطلوها وحرفوا نصوصها إلى "رجل بعض المخلوقين"، أو المراد بالرجل أنه اسم لمخلوق من المخلوقين أو المراد "الجماعة"، أو "الجد في الأمر" أو "الزجر لجهنم والردع والقمع لها وتسكين حدتها" (83) .


    وقد ذكرنا حديث "الرجل" وخرجناه من الصحيحن وبينا بطلان قول من طعن فيه، ونصه يبطل تأويلات هؤلاء المتكلمين.


    المثال الثاني والعشرون: صفة "القدم" لله جل وعلا، فعطلوها وحرفوا نصوصها إلى أن المراد "المتقدم" أو "قدم بعض المخلوقين" أو "مخلوق اسمه قدم" أو "موضع" أو "اسم لما قدم من شيء، وغيرها (84) .


    وسقنا روايات صفة "القدم" وخرجناها من الصحيحين ونصوصها تبطل هذه التحريفات.


    وللإمام أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (224هـ) الذي يجعله الكوثرية وبعض الديوبندية حنفياً ويعدونه من كبار أئمة الحنفية (85) - حول أحاديث الرجل والقدم ونحوها من أحاديث الصفات، كلام يقضي عن تأويلات هؤلاء المتكلمين.

    ونصُّه: "نحن نروي هذه الأحاديث، ولا نزيغ لها المعاني" (86) .

    قلت: فمن أول هذه الأحاديث فقد عطل وحرف وزاغ، وهذا هو الإلحاد، بشهادة هذا الإمام وفيه عبرة للكوثري والكوثرية خاصة والماتريدية عامة فهل من مدّكر؟


    المثال الثالث والعشرون: صفة الساق له سبحانه وتعالى، فقد عطلوها وحرفوا نصوصها بأن المراد من الساق "الشدة، أو أمر مهول أو النور العظيم، أو جماعة من الملائكة، أو النفس، أو ذات الله تعالى، أو ساق أخرى يخلقها الله تعالى، أو تَجَلي الله سبحانه، وغيرها من التأويلات" (87) .


    قلت: حديث الساق من أعظم الأحاديث الصحيحة المحكمة الصريحة المتلقاة بالقبول والمتفق عليها، وقد ذكرنا نصه وخرجناه من الصحيحين. ومع ذلك قد طعن فيه ذلك الكوثري الجركسي الجهمي ظلماً وعدواً، وفيما يلي حاصل طعونه مع الجواب.


    أ- أن الكوثري قرر أن الساق لم ترد مضافة إلي الله لا في حديث صحيح ولا سقيم (88) .


    قلت: انظروا أيها المسلمون إلى هذا البهات الكذاب كيف ينفي وجود هذا الحديث بهذا الإطلاق؟ مع أن الساق موجودةٌ في صحيح البخاري مضافةً إلى الله تعالى، مع اعتراف الكوثري بوجود الساق مضافةً إلى الله سبحانه، في (صحيح البخاري) (89) .


    ب- كما غمز من رواة هذا الحديث الصحيح الذين في الصحيحين - يحيى بن عبدالله بن بكير، وسعيد بن أبي هلال، وسويد بن سعيد الهروي (90) ، مع أن "يحيى بن عبدالله بن بكير" وثقه جمهور أهل هذا الشأن، وشذ النسائي فضعفه، فالحكم للجماعة على الشاذ، فهو ثقة ولاسيما في "الليث بن سعد" بل هو أثبت الناس فيه (91) . وحديث الساق الذي رواه البخاري عن يحيى بن عبدالله بن بكير، هو من حديث الليث فماذا قيمة نسج هذا العنكبوت؟! فليس لحياكته ثبوت.

    ثم "يحيى بن عبدالله بن بكير" لم ينفرد بهذا الحديث عن "الليث" فقد رواه البخاري عن "آدم" عن "الليث". فماذا يصنع هذا الجهمي؟ الذي يعمل أعمال الجهنمي.
    وأما "سعيد بن أبي هلال" فهو صدوق بل ثقة وثقة ابن سعد، والعجلي، أبو حاتم، وابن خزيمة، والدارقطني، وابن حبان، وآخرون.

    ولم يعرف لابن حزم سلفٌ في تضعيفه، غير أن الساجي حكى عن الإمام أحمد: أنه اختلط (92) ولم يقل أحد من أهل هذا الشأن - وإليهم المرجع في هذا الشأن - إن هذا الحديث إنما أخذه البخاري عنه في حال اختلاط "سعيد بن أبي هلال" إن صحت حكاية الساجي، بل تلقاه الأئمة بالقبول ورواه البخاري في صحيحه مستدلاً به على إثبات صفة الساق له سبحانه وتعالى، حتى جاء أشقى القوم فتعاطى فعقر.

    وأما "سويد بن سعيد الهروي" فصدوق في نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه (93) ، ولم يقل أحد أن مسلماً أخذ عنه في حال عماه، وشأن مسلم تعالى عن ذلك؛ على أن هذا الحديث مروي في (صحيح البخاري) من غير طريق سويد بن سعيد، فهل وجود "سويد" عند مسلم يضير هذا الحديث الصحيح الصريح؟!.
    ولا تخفى مكانة الصحيحين على أحد إلا على المغرضين الممرضين، ورجال الصحيحين قد جاوزوا القنطرة عند أهل هذا الشأن (94) . وقد ذكرنا نبذةً من مكانة الصحيحين وموقف الكوثري والكوثرية وبعض الحنفية منهما.

    ج- قال الكوثريُ: "من عادة أهل الزيغ حمل المجاز المشهور في القرآن على الحقيقة" (95) .


    قلت: مذهب سلف هذه الأمة وأئمة السنة عدمُ تعطيل صفات الله تعالى وعدم تحريف نصوصها بالتأويلات، وحملها على الحقائق اللائقة بالله سبحانه كما تقدم في فصل التأويل مفصلاً.


    أما أهل الزيغ وأئمة التعطيل والتحريف فيعطلون صفات الله تعالى ويحرفون نصوصها وقد تقدم قول الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (224هـ) الذي يجعله الكوثري من كبار أئمة الحنفية، حول أحاديث "الرجل والقدم" ونحوها من أحاديث الصفات، ونصه: "نحن نروي هذه الأحاديث ولا نزيغ لها المعاني"، وتقدم أيضاً أن الكوثري سكت عليه فالآن نتحاكم إلى حكم الحق والإنصاف والعدل، وليتبين من هم أهل الزيغ؟! فلنعم ما قيل: "رمتنى بدائها وانسلت".

    ولله در القائل:
    فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيه ينضح


    وما أحسن ما قال القائل:
    وقال السهى يا شمس أنت خفيةٌ وقال الدجى يا صبح لونك حالكٌ


    المثال الرابع والعشرون: أن "النور" من أسماء الله الحسنى إذا أطلق عليه تعالى, وصفهٌ من صفاته جل وعلا إذا أضيف إليه سبحانه إضافة صفة إلى موصوفها أما إذا أضيف إلى غيره تعالى فلا يكون اسماً له تعالى، ولا صفة له بل خلقاً له (96) . ونظير ذلك: "الحق" فإنه يطلق على الله تعالى فيكون اسماً له سبحانه، ويطلق على صفاته جل وعلا (97) ، لكن الماتريدية وحلفاؤهم أولوا "النور" إلى أنه "ذو النور" و"الوجود" و"المنور" (98) .

    قلت: قصدهم بهذا التأويل أن "النور" ليس من أسمائه تعالى، ولا من صفاته، بل هو فعل من الأفعال المنفصلة عنه تعالى، أو معناه أن الله تعالى سبب لوجود الكائنات.


    قال شيخنا العلامة عبدالله بن محمد الغنيمان بعد ما ذكر تأويلات المؤولين معقباً عليها:

    "قلت: هذا تأويل باطل..." (99) .

    وقال شيخ الإسلام: "... جماهير المسلمين لا يتأولون هذا الاسم، وهذا مذهب السلفية، وجمهور الصفاتية من أهل الكلام، والفقهاء، والصوفية، وغيرهم وهو قول أبي سعيد بن كلاب، ذكره في الصفات ورد على الجهمية، تأويل اسم "النور" وهو شيخ المتكلمين في الصفاتية من الأشعرية - (الشيخ الأول)- وحكاه عنه أبو بكر بن فورك في كتاب (مقالات ابن كلاب)، والأشعري، ولم يذكروا تأويله إلا عن الجهمية المذمومين باتفاق، وهو أيضاً قول أبي الحسن الأشعري ذكره في الموجز..." (100) .


    قلت: الحاصل أن هذه التأويلات باطلة وفي هذه كفاية (101) .


    المثال الخامس والعشرون: صفة "البقاء" ذهب جمهرة الماتريدية إلى أن "البقاء" هو الوجود وليس زائداً عليه، وذهب الإمام أبو الحسن الأشعري، وقدماء الأشعرية إلى أن "البقاء" صفة وجودية "ثبوتية" زائدة على "الجودة" (102) .

    ومال نور الدين الصابوني الماتريدي (580هـ) إلى مذهب الأشعري في هذا، وناظر الفخر الرازي فيلسوف الأشعرية (606هـ)، ولكنه انهزم أمام الرازي (103) ، والرازي كعادته خالف الأشعري في هذا كما خالف في مسائل أخرى كما أن كثيراً من متأخري الأشعرية الجهمية المعطلة مالوا إلى مذهب الماتريدية فنفوا صفة البقاء زائدةً على الوجود وقالوا البقاءُ هو الوجود نفسه (104) .

    وقد صرح بعض الأشعرية والماتريدية بأن الباقلاني (403هـ) مال إلى مذهب الماتريدية (105) ، لكن رأيت في (تمهيده) خلاف ما ذكروه، فقد أثبت صفة "البقاء" وبوب لها فقال "باب البقاء من صفات ذاته" (106) ، بل قد صرح الإمام ابن فورك (406هـ) بالإجماع على إثبات هذه الصفة (107) .


    والحقيقة أن هؤلاء الماتريدية ومن وافقهم من متأخري الأشعرية على باطل محض وفي تعطيل بحت في تأويلهم لصفة "البقاء" إلى "الوجود" لأن "البقاء" أخص من "الوجود" وأكمل منه، و"الوجود" أعم من "البقاء" لأن البقاء استمرار الوجود، وهو الوجود المستمر الأبدي الذي لا نهاية له، فهو وجود مقيد بالدوام والاستمرار والأبدية، وهذا المعنى زائد على مفهوم مطلق الوجود دون شك.


    قاله الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، فوجود الله تعالى أزلي وأبدي، وليس كذلك وجود خلقه سبحانه وتعالى فالله متصف بـ"الوجود" و"البقاء" معاً.


    الأمثلة السادس والعشرون إلى التاسع والعشرين: صفات "الاستواء" (108) و"النزول" و"الإتيان" و"المجيء" له تعالى، وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى فقد عطلوها وحرفوا نصوصها معنوياً.


    المثالان الثلاثون والواحد والثلاثون: صفتا "الرضا" و"الغضب" له سبحانه وتعالى، نسأل الله رضاه ونعوذ به من غضبه جل وعلا.


    هاتان الصفتان عطلهما الماتريدية، وحرفوا نصوصهما اتباعاً للجهمية الأولى فحرفوا صفة "الغضب" إلى "الانتقام" و"إرادة الانتقام" (109) ، وحرفوا صفة "الرضى" إلى "الثواب" ونحوه (110) ، مع أن إمامهم الأعظم الإمام أبا حنيفة رحمه الله (150هـ) قال: "لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو يغضب ويرضى، ولا يقال: غضبه عقوبته ورضاه ثوابه، ونصفه كما وصف نفسه" (111) .


    كما صرح الإمام أن تفسير صفةْ بأخرى مذهبُ المعتزلة، وأن ذلك إبطال لتلك الصفة (112) .


    قلت: فالماتريدية خرجوا على أهل السنة والجماعة وعلى إمامهم الأعظم بشهادة هذا الإمام الأعظم، وفي ذلك لعبرة بالغة أيما عبرة.


    ومن العجب العجاب أن العلامة القاري اعترف بذلك (113) .
    وهذا من محاسن هذا الرجل التي يشكر عليها وكم له من اعتراف بالحق ورجوعٍ إلى الصواب مواقف طيبةٍ من ذم الكلام وأهله وكشف الأستار عن مخازيهم، وبيان شكوكهم وتشكيكهم وشبهاتهم، ومناصرته للعقيدة السلفية في الجملة في بعض المواضع ودفاعه الشديد المتين عن شيخ الإسلام، والإمام ابن القيم ونحو ذلك مما ترغم أنوف الكوثرية (114) .
    ومن حسن حظه أن الكوثري لقبه بـ"ناصر السنة" (115) . وفي ذلك عبرة للكوثرية.

    المثال الثاني والثلاثون: صفة "المحبة" فقد عطلوها وحرفوها إلى "إرادة خيري الدنيا والآخرة" و"إيصال الخير إلى العبد" و"إرادة الثواب" (116) ويكفي في الرد عليهم كلام الإمام أبي حنيفة السابق ذكره آنفاً.


    المثال الثالث والثلاثون: صفة "الرحمة" لله تعالى:

    عطلت الماتريدية هذه الصفة التي تُحَرِّكُ القلوب وتثير العواطف وبها يرجو المسلمون عفو الله سبحانه وتعالى، كما أنهم حرفوا نصوصها إلى "إرادة الإنعام" أو"الإعطاء" ومعنى "الرحمن الرحيم" عندهم "معطي جلائل النعم" و"رحمة الله" عندهم "إنعامه، والتفضل، الإحسان" (117) .

    فأنت ترى أنهم أرجعوها إلى صفة الإرادة وإلى فعل من الأفعال كالإعطاء ونحوه، وعلى هذا الفنجفيرية من الماتريدية المعاصرة (118) .


    وقد تقدم منهج الإمام أبي حنيفة وتصريحه بأن تفسير صفة بأخرى، وإرجاع صفة إلى أخرى تعطيلٌ لها وإبطال له، وهو مذهب المعتزلة وليس هذا من مذهب أهل السنة والجماعة.


    المثال الرابع والثلاثون: صفة "الضحك" لربنا سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وهذه الصفة ثابتة له جل وعلا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن الماتريدية عطلوها وحرفوا نصوصها إلى "ظهور تباشير الخير" أو"العفو" و"الارتضاء"، ونحوها (119) .


    المثال الخامس والثلاثون: صفة الغيرة لله عز وجل:

    فقد حرفوها وعطلوا نصوصها إلى "كراهية الإتيان إلى الفواحش" و"عدم رضاه" و"غضبه" أو "الزجر عن الفواحش" أو"التحريم لها" أو "المنع منها" أو غيرها من المجازات (120) .

    ولم يكتفوا بمجاز واحد بل ارتكبوا المجاز في المجاز فقالوا: ولازم

    "ولازم الغضب إرادة إيصال العقوبة عليها" (121) .
    فأنت ترى أنهم حرفوا صفة "الغيرة" بنوع من المجاز إلى "الغضب" و"عدم الرضا"، ثم حرفوا صفة "الغضب" إلى إرادة إيصال "العقوبة"، كما حرفوا صفة "الرضا" إلى ما سبق من المجاز.

    فارتكبوا المجاز في المجاز فصارت - في هذا الباب - كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39] أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ [النور:40].


    المثال السادس والثلاثون: صفة "الحياء" وهي صفة تزيد للمؤمنين رجاءً فعطلوها وحرفوا نصوصها إلى "الترك" و"الامتناع" (122) .

    وتقدم تخريج حديث يتعلق بهذه الصفة.

    المثال السابع والثلاثون: صفة "الألوهية" تلك الصفة العظيمة التي هي غاية إنزال الكتب وإرسال الرسل وخلق الجن والإنس؛ فقد عطلوها وحرفوها إلى صفة "الربوبية" (123) . (130)

    https://dorar.net/firq/503

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •