مذهب الماتريدية في صفات الله تعالى
تعد الماتريدية من (الصفاتية)، وذلك لأنهم يثبتون بعض الصفات، ويثبتون لهذه الصفات معنى حقيقياً يقوم بذات الرب تعالى. فليست هي عندهم مجرد وصف الواصف أو نفي الضد (1) .
وتأكد الماتريدية على أن إثبات هذه الصفات لا يستلزم التشبيه، إذ أنه لا شبه بين حقيقة الخالق والمخلوق، ولو كان إثبات الصفات يستلزم التشبيه للزم قدم المخلوق أو حدوث الخالق، وهذا ما لا يقوم به عاقل.
قال الماتريدي: "ليس في إثبات الأسماء وتحقيق الصفات تشابه لنفي حقائق ما في الخلق عنه... فلو كان لشيء منه شبه يسقط عنه من ذلك القدم، أو عن غيره الحدث...، فلو وصف بالشبه بغيره بجهة فيصير من ذلك الوجه كأحد الخلق" (2).
وقال أبو المعين النسفي: "إن الصانع القديم - جل ثناؤه - لا يشبه العالم، ولا شيئاً من العالم بوجه من الوجوه، لأن المتشابهين هما المتماثلان، والمتماثلان ما ينوب أحدهما مناب صاحبه، ويسد مسده... فإن كان المتغايران ينوب أحدهما مناب صاحبه ويسد مسده من جميع الوجوه كانا مثلين من جميع الوجوه، وإن كان ينوب منابه، ويسد مسده من بعض الوجوه فهما مثلان من ذلك الوجه، ثم إنما ينوب أحدهما مناب صاحبه ويسد مسده في وجه من الوجوه إن استويا في ذلك الوجه، إذاً لو كان بينهما تفاوت في ذلك الوجه لما ناب أحدهما مناب صاحبه، ولا سد مسده، وإذا عرف هذا فنقول: إن الله تعالى لو كان مثلاً للعالم، أو لشيء من أجزائه من جميع الوجوه، لكان هو جل جلاله محدثاً من جميع الوجوه أو كان ما يماثله قديماً من جميع الوجوه. ولو كان يماثله بوجه من الوجوه لكان الله تعالى محدثاً من ذلك الوجه، أو ما يماثله من ذلك الوجه.
والقول بحدث القديم من جميع الوجوه أو بوجه من الوجوه، أو بقدم المحدث من جميع الوجوه أو بوجه من الوجوه محال" (3) .
وما ذكرته الماتريدية من الدليل العقلي على نفي التشبيه من جهة أنه يستلزم الجمع بين النقيضين صحيح. ولكنهم ساروا على هذا الأصل فقط فيما أثبتوه من الصفات، وأما في بقية الصفات فهم على النقيض من ذلك، إذ يعتقدون أن إثباتها على حقيقتها يستلزم التشبيه والتجسيم، وهذا في الحقيقة تناقض، إذ أن القول في جميع الصفات واحد نفياً وإثباتاً، ولا دليل على التفريق.
وأما من ناحية علاقة الصفات بالذات، فقد قالت الماتريدية بأن صفات الله لا هي هو ولا غيره، إذ لو كانت الصفات عين الذات لكانت ذاتاً، ولو كانت غيراً لزم تعدد القدماء، لأن الغيرين هما اللذان يجوز انفكاك أحدهما عن الآخر.
قال الأوشي:
صفات الله ليست عين ذات
ولا غيرا سواه ذا انفصال
قال ملا علي القاري: "أطلق الناظم صفات الله، فشملت صفات الذات وصفات الأفعال، فهي ليست عين الذات ولا غيرها... لو كانت عيناً لكانت ذاتاً، ولو كانت غيراً لزم التركيب وهو من المحالات" (4) .
والذي دفع الماتريدية إلى هذا القول، هو اعتراض المعتزلة عليهم عندما أثبتوا بعض الصفات، بأن إثباتها لله يستلزم تعدد القدماء، إذ أن الصفات غير الذات. فقالت الماتريدية بنفي الغيرية دفعاً لهذا الاعتراض، وقالت بنفي ذاتية الصفات دفعاً لنفي الصفات.
يوضح هذا قول أبي المعين النسفي: "وما يزعم المعتزلة أن الله تعالى لو كانت له هذه الصفات لكانت أغياراً له، وفيه إبطال التوحيد، والقول بأزلية غير الله تعالى كلام باطل، لأن الصفات ليست بأغيار لله تعالى، بل كل صفة لا هي ولا هو ولا غيره، لأن الغيرين موجودان، يتصور وجود أحدهما مع انعدام صاحبه، وذلك في حق ذات الله تعالى وصفاته ممتنع، إذ ذاته أزلية، وكذا صفاته، والعدم على الأزلي محال. فانعدم حد المغايرة، وانعدمت المغايرة، كالواحد من العشرة لا يكون غير العشرة، ولا عين العشرة، لاستحالة بقائه بدونها، أو بقائها بدونه، إذ هو منها، فعدمها عدمه، ووجودها وجوده" (5) .
وقال أيضاً: "لا حاجة بنا إلى الاشتغال بتحديد الغيرين، لأن الخصوم هم الذين يريدون نفي الصفات بعلة أنها لو كانت ثابتة، لكانت أغياراً للذات، فإذا منعناهم من إثبات المغايرة بطلت شبهتهم" (6) .
وهذه المسألة من المغاليط التي ابتدعتها الجهمية حيث استخدموا في مناظراتهم ألفاظاً مجملة حتى يوقعوا الناس في شراكهم فيجذبونهم إلى ما هم فيه من الضلال والاعتقاد الفاسد.
قال الإمام أحمد رحمه الله في رده على الجهمية: "ثم إن الجهم ادعى أمراً آخر، وهو من المحال.
فقال: أخبرونا عن القرآن أهو الله، أو غير الله...؟
فادعى في القرآن أمراً يوهم الناس. فإذا سئل الجاهل عن القرآن، هو الله، أو غير الله؟ فلابد له من أن يقول بأحد القولين.
فإن قال: هو الله.
قال له الجهمي: كفرت.
وإن قال: هو غير الله.
قال: صدقت، فلم لا يكون غير الله مخلوقاً؟
فيقع في نفس الجاهل من ذلك ما يميل به إلى قوله الجهمي" (7) .
والماتريدية لما ألجأتهم الجهمية والمعتزلة إلى هذا القول، أرادوا أن يتخلصوا من هذا الإشكال، فخرجوا بقول ثالث، وهو أن صفات الله لا هي ولا هو ولا غيره. وهو في الحقيقة قول متناقض لا سبيل إلى رفعه (8) ، إذ أنهم بقولهم هذا نفوا مسمى اللفظين مطلقاً.
ولما كان أهل السنة والجماعة معتصمين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفقهم الله تعالى إلى الحق والصواب، ولم يقعوا في شراك الجهمية كما وقع غيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد تكلم الإمام أحمد في رده على الجهمية في جواب هذا، وبين أن لفظ (الغير) لم ينطق به الشرع لا نفياً ولا إثباتاً، وحينئذ فلا يلزم أن يكون داخلاً لفظ (الغير) في كلامه الشارع ولا غير داخل...، وأيضاً فهو لفظ مجمل، يراد بالغير ما هو منفصل عن الشيء، ويراد بالغير ما ليس هو الشيء. فلهذا لا يطلق القول بأن كلام الله وعلم الله ونحو ذلك هو هو، لأن هذا باطل، ولا يطلق أنه غيره، لئلا يفهم أنه بائن عنه منفصل عنه. وهذا الذي ذكره الإمام أحمد، عليه الحذاق من أئمة السنة، فهؤلاء لا يطلقون أنه هو، ولا يطلقون أنه غيره، ولا يقولون ليس هو هو ولا غيره. فإن هذا أيضاً إثبات قسم ثالث وهو خطأ. ففرق بين ترك إطلاق اللفظين لما في ذلك من الإجمال، وبين نفي مسمى اللفظين مطلقاً، وإثبات معنى ثالث خارج عن مسمى اللفظين" (9) .
"والذي عليه سلف الأمة وأئمتها إذا قيل لهم علو الله وكلام الله، هل هو غير الله أم لا؟ لم يطلقوا النفي ولا الإثبات، فإنه إذا قيل لهم غيره أوهم أنه مباين له.
وإذا قال ليس غيره أوهم أنه هو، بل يستفصل السائل، فإن أراد بقوله غيره أنه مباين له منفصل عنه، فصفات الموصوف لا تكون مباينة له منفصلة عنه، وإن كان مخلوقاً، فكيف بصفات الخالق؟ وإن أراد بالغير أنها ليست هي هو فليست الصفة هي الموصوف، فهي غيره بهذا الاعتبار" (10) .
"فالواجب أن ينظر في هذا الباب، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني.
وأما الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين..، فلا تطلق نفياً ولا إثباتاً حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان قد أراد بالنفي والإثبات معنى صحيحاً موافقاً لما أخبر به الرسول صوب المعنى الذي قصده بلفظه، ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص، لا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد بها" (11) .
وأما الصفات الثبوتية عند الماتريدية فهي ثمان صفات، وهي: القدرة، والعلم، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والتكوين (12) .
وهم قد خصوا الإثبات بهذه الصفات دون غيرها، لأنها هي التي دل العقل عليها عندهم. وأما غيرها من الصفات، فإنه لا دليل عليها من العقل عندهم، فلذا قالوا بنفيها.
وسلكوا في الاستدلال على إثبات هذه الصفات طريقتين، وقد يسلكوا أحياناً طرقاً غيرها:
الأولى: التنزيه عن النقائص.
الثانية: دلالة المحدثات.
قال أبو المعين النسفي موضحاً الطريقة الأولى: "إذا ثبت أن صانع العالم قديم ومن شرط القدم التبري عن النقائص، ثبت أنه حي قادر سميع بصير عالم، إذ لو لم يكن كذلك لكان موصوفاً بالموت والجهل والعجز والعمى والصمم، إذ هذه الصفات متعاقبة لتلك الصفات، فلو لم تكن هذه الصفات ثابتة لله تعالى (لثبت) ما يعاقبها وهي صفات نقص ومن شرط القدم الكمال، فدل أنه موصوف بما بينا لضرورة انتفاء أضدادها التي هي من سمات (المحدث) لكونها نقائص" (13) .
وقال في الثانية: "وإذا ثبت أيضاً أنه هو المخترع لهذا العالم مع اختلاف أنواعه، وهو الخالق له على ما هو عليه من الإحكام والإتقان وبديع الصفة وعجيب النظم والترتيب وتركيب الأفلاك وما فيها من الكواكب السائرة وما يرى من البدايع في أبدان الحيوانات من الحياة والتميز والاهتداء إلى اجتلاب المنافع (وانتفاء) المضار، وما فيهن من الحواس، وما في الأجسام الجمادية من البدايع والخاصيات التي أودعت فيها على وجه لو تأمل ذو البصيرة الموصوف بدقة الفكرة وحدة الخاطر ورجاحة العقل وكمال الذهن وقوة التمييز جميع عمره فيها لما وقف على كنهها بل على جزء من ألف جزء مما فيها من آثار كمال الحكمة ولطف التدبير، ثبت أنه حي قادر عالم سميع بصير... يجري العلم بذلك مجرى الأوائل البديهية، حتى أن العقلاء بأسرهم ينسبون من يضيف نسيج الديباج المنقوشة، وتحصيل التصاوير المونقة، وبناء القصور العالية، واتخاذ السفن الجارية... إلى ميت عاجز جاهل، إما إلى الحماقة والغباوة وإما إلى العناد والمكابرة..." (14) .
وقبل ذكر استدلالهم على إثبات كل صفة على حدة، لابد من بيان أمر مهم وهو: أن ما أثبته الماتريدية من صفات الله تعالى ثابت بالشرع والعقل - ولا ريب في هذا - ولكن تخصيصهم هذه الصفات الثمان دون غيرها بالإثبات تخصيص من غير مخصص، ولا دليل عليه من العقل ولا من النقل.
بل إن الدليل النقلي والعقلي قد دل على اتصافه تعالى بهذه الصفات وغيرها، فالشرع قد أثبت صفات أخرى غير تلك الصفات الثمان، فما الموجب لعدم إثباتها؟
فإن قالوا: إن إثبات الصفة لابد له من دليل عقلي على تلك الصفة بعينها، ولم يقم لدينا دليل عقلي على غير ما أثبتناه من الصفات (15) .
قيل لهم: "إن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر الله به ورسوله من صفاته ليس موقوفاً على أن يقوم عليه دليل عقلي على تلك الصفة بعينها، فإنه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبرنا بشيء من صفات الله تعالى، وجب علينا التصديق به، وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا.
ومن لم يقر بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم: لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[الأنعام: 124] ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمناً بالرسول، ولا متلقياً عنه الأخبار بشأن الربوبية، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك، أو لم يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه ومالم يخبر به إن علمه بعقله آمن به وإلا فلا.
فلا فرق عند من سلك هذه السبيل بين وجود الرسول وإخباره، وبين عدم الرسول وعدم إخباره، وكان ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع في هذا الباب عديم الأثر عنده، وهذا قد صرح به أئمة هذا الطريق" (16) .
ثم يقال لهم: لم أثبتم له تعالى إرادة، وأنه مريد حقيقة، ونفيتم حقيقة الحب والرحمة ونحو ذلك.
فإن قالوا: لأن إثبات هذا تشبيه.
قيل لهم: وكذلك يقول لكم منازعكم في الإرادة.
ويقول لكم أهل الإثبات: لابد لكم أن تأتوا في الدلالة على ما أثبتموه من الصفات بالعقل بقياس شمولي أو قياس تمثيلي. فتقولون في الشمولي كل فعل متقن محكم فإنه يدل على علم فاعله وقدرته وإرادته وهذه المخلوقات كذلك فهي دالة على علم الرب تعالى وقدرته ومشيئته، وتقولون في التمثيلي: الفعل المحكم المتقن يدل على علم فاعله وقدرته في الشاهد، فكان دليلاً في الغائب، والدلالة العقلية لا تختلف شاهداً وغائباً فلا يمكنكم أن تثبتوا له سبحانه بالعقل صفة أو فعلاً إلا بالقياس المتضمن قضية كلية، إما لفظاً كما في قياس الشمول، وإما معنى كما في قياس التمثيل فإذا كنتم لا يمكنكم إثبات الصانع ولا صفاته إلا بالقياس الذي لابد فيه من إثبات قدر مشترك بين المقيس والمقيس عليه، وبين أفراد القضية الكلية، ولم يكن هذا عندكم تشبيهاً ممتنعاً، فكيف تنكرون معاني ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وحقائقه بزعمكم أنه يتضمن تشبيهاً (17).
فإن قالوا: الإرادة التي نثبتها لله ليست مثل إرادة المخلوقين، كما أن قد اتفقنا وسائر المسلمين على أنه حي، عليم، قدير، وليس هو مثل سائر الأحياء العلماء القادرين.
قال لكم أهل الإثبات: كذلك الرحمة والمحبة التي نثبتها لله ليست مثل رحمة المخلوق، ومحبة المخلوق.
فإن قالوا: لا نعقل من الرحمة والمحبة إلا هذا.
قال لكم النفاة: ونحن لا نعقل من الإرادة إلا هذا (18) .
فإن قالوا: إنا نثبت تلك الصفات بالعقل.
قال لكم أهل الإثبات: لكم جوابان:
أحدهما: أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، وعلى فرض أن ما سلكتم من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، والنافي لابد أن يأتي بديل كالمثبت سواء بسواء، وليس لكم أن تنفوا شيئاً من الصفات بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت، والسمع قد دل عليه، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم.
الثاني: أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبتم به تلك الصفات من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم، يدل على الرحمة، كدلالة التخصيص على الإرادة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته تدل على حكمته البالغة (19).
فإن قالوا: إنما نفينا الرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك من الصفات لأنه لا يعقل لها حقيقة تليق بالخالق إلا الإرادة.
قيل لهم: هذا باطل، فإن نصوص الكتاب والسنة والإجماع مع الأدلة العقلية تبين الفرق، فإن الله سبحانه يقول: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7]، وقال تعالى: إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء: 108]، فبين أنه لا يرضى هذه المحرمات مع أن كل شيء كائن بسببه، وقال تعالى: وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [البقرة: 205].
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام، وبإجماع الأمة، أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الكفر والفسوق والعصيان، وأنه يرضى هذا ولا يرضى هذا والجميع بمشيئته وقدرته (20) .
فعلم بهذا أن ما يجب إثباته لله تعالى من الصفات ليس مقصوراً على ما أثبتته الماتريدية. بل إن الواجب - وهو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها: أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل. وهذا هو المنهج الحق الواجب اتباعه والسبيل المستقيم الذي لا أعوجاج فيه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وأما الطرق العقلية التي استدلت بها الماتريدية على إثبات ما أثبتوه من الصفات، فهي ولا ريب صحيحة مستقيمة، فمعرفة الخالق عن طريق التدبر والتفكر في المخلوقات أمر قد حث عليه الله تعالى في كتابه في آيات كثيرة، من ذلك: قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164]، وقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [آل عمران: 109]، وقوله تعالى: أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ [ق: 6-8] (21) .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وإذا تأملت ما دعا الله سبحانه في كتابه عباده إلى الفكر فيه أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى، وبوحدانيته، وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وعلمه وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وبره ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه، فبهذا تعرف إلى عباده وندبهم إلى التفكر في آياته" (22) .
وقد دل كتاب الله أيضاً على الطريق العقلي الثاني، وهو ثبوت الكمال لله وتنزيه الله عن النقائص. كما في قوله تعالى: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ[النحل: 17] وقوله:ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [النحل: 75]،
وقوله: وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل: 76]، وقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]، وقوله: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ [الأعراف: 148] وقول إبراهيم عليه السلام لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [مريم: 42] ومثل هذا كثير في القرآن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الكمال ثابت لله بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى، يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه، فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وإن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية مع دلالة السمع على ذلك.
وثبوت معنى الكمال قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة، دالة على معاني متضمنة لهذا المعنى، فما في القرآن من إثبات الحمد له وتفصيل محامده، وإن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه، ونحو ذلك كله دال على هذا المعنى" (23) .
"والمقصود هنا أن نبين أن ثبوت الكمال لله معلوم بالعقل، وأن نقيض ذلك منتف عنه، فإن الاعتماد في الإثبات والنفي على هذه الطريق مستقيم في العقل والشرع" (24) .
وقال رحمه الله: "وهذه الطريقة هي من أعظم الطرق في إثبات الصفات وكان السلف يحتجون بها، ويثبتون أن من عبد إلهاً لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، فقد عبد رباً ناقصاً معيباً مؤوفاً، ويثبتون أن هذه كمال، فالخالي عنها ناقص..." (25) .
وإذا تبين لنا هذا، يتبين لنا صحة الطرق العقلية التي استدلت بها الماتريدية على إثبات ما أثبتوه من الصفات. كما يتبين لنا "أن ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول، وأن أولى الناس بالحق أتبعهم له، وأعظمهم له موافقة وهم سلف الأمة وأئمتها، الذين أثبتوا ما دل عليه الكتاب والسنة من الصفات، ونزهوه عن مماثلة المخلوقات" (26) . (124)
صفة القدرة
استدلت الماتريدية على إثبات اتصاف الله تعالى بصفة القدرة بإيجاده تعالى وخلقه للمخلوقات، وهي طريقة (دلالة المحدثات) أو (دليل الأفعال) كما استدلوا بطريقة (التنزيه عن النقائص) إلا أن استدلالهم بالطريقة الأولى أقوى وأشهر عندهم، حتى أن كثيراً منهم لا يذكرون غيرها.
والماتريدي يستدل على ثبوت صفة القدرة بدلالة المحدثات، ويربط ثبوت القدرة بثبوت الاختيار. فالاتساق والحكمة في المعقولات وإيجاد المعدوم وإعدام الموجود، يقتضى ثبوت الاختيار من الفاعل، وإذا ثبت الاختيار ثبتت القدرة، إذا لا اختيار بغير قدرة.
يقول الماتريدي مقرراً هذا: "إن اتساق الفعل المتوالي بلا فساد... ولا خروج عن طريق الحكمة، يثبت كون المفعول بالاختيار من الفاعل، فثبت أن الخلق كان بفعله حقيقة...
وأيضاً أن الله تعالى إذا أنشأ شيء ثم أفناه، وفيه أيضاً ما قد أعاده نحو الليل والنهار، ثبت أن فعله بالاختيار، إذ تحقق به صلاح ما قد أفسده، وإعادة ما قد أفناه، وإيجاد المعدوم وإعدام الموجود، فثبت أن طريق ذلك الاختيار، إذ من كان الذي منه يكون بالطبع لا يجيء منه نفي ما يوجد، وإيجاد ما يعدمه...
وأيضاً إنا قد بينا حدث العالم لا من شيء، وذلك نوع ما لا يبلغه إلا فعل من هو في غاية معنى الاختيار، وما يكون بالطبع فحقه الاضطرار، ومحال أن يكون من يبلغ شأنه إلى إنشاء الأشياء لا من شيء، ثم يكون ذلك بالطبع، مع ما كان وقوع الشيء بالطبع هو تحت قهر آخر، وجعله بحيث يسقط عنه الإمكان، وذلك آية الحدث وإمارة الضعف، جل ربنا عن ذلك وتعالى. مع ما جرى التعارف المتوارث من الخلق بالدعوات والتضرع إلى الله تعالى بالفرج، وأنه قهر كذا ونصر كذا، وأعان فلاناً وخذل فلاناً وأن كل ذي قوة يفعل بقوة أنشأها، ولا ينال شيء من ذلك بالمضطر، ولايرغب فيه، دل ذلك على أن العالم باختياره، فإذا ثبت الاختيار ثبتت له القدرة على الخلق، والإرادة لكونه على ما هو عليه، لأن من لا قدرة له يخرج الذي يكون منه مضطرباً فاسداً، ولا يملك الشيء وضده. فثبت أن ما كان منه بقدرة كان باختيار، وذلك أمارات الفعل الحقيقية في الشاهد..." (27) .
وأما أبو المعين النسفي وعامة الماتريدية، فإنهم يثبتون القدرة بدلالة مطلق الفعل، بدون توسيط الاختيار في الاستدلال، وذلك أن فعل الفاعل لا يكون صادراً إلا عن قدرة، فالخلق لا يكون إلا من قادر.
وكل من الطريقتين محورهما واحد إلا أن الثانية أقل مقدمات فهي أقرب وأبسط في الاستدلال من الأولى.
قال أبو المعين النسفي مقرراً دلالة المحدثات على قدرة الله تعالى: "المفعول كما دل على الفاعل فمطلقه يدل على القدرة... فإن كل من رأي المفعول... استدل بكونه مفعولاً على قدرة فاعله عليه" (28) .
وقال أيضاً: "فلو لم يكن لله تعالى... قدرة، لما تصور منه إيجاد هذا العالم البديع، بما فيه من الأجرام العلوية، والنجوم السيارة والأشخاص الحيوانية وحيث حصلت به هذه الأشياء، دل على ان له... قدرة" (29) . (125)
صفة العلم
تثبت الماتريدية صفة العلم لله تعالى بدلالة المحدثات عليه، إذ الإحكام والإتقان في المخلوقات والمحدثات يدلان على علم الخالق والمحدث، إذ لا إحكام ولا إتقان بغير علم.
قال الماتريدي: "وعلى ما ذكرنا من تواصل الفعل.. وتتابعه محكماً متقناً هو الدليل أنه كان فعله على العلم به" (30) .
وقال أبو المعين النسفي: "ولنا أيضاً طريقة دلالة المحدثات على الصفات وهي: المفعول كما دل على الفعل فمطلقه يدل على القدرة، وكونه محكماً متقناً يدل على العلم، فإن كل من رأى المفعول محكماً متقناً استدل بكونه مفعولاً على قدرة فاعلة عليه، وبكونه محكماً على علم فاعله به..." (31) .
وقرر البياضي الدليل من ثلاثة أوجه:
"الأول: إثباته بخلقه للأشياء فإنه يقتضي معلومية الأشياء قبل أن تخلق.
الثاني: أنه يدل على قدرة الخالق أي كونه فاعلاً بالقصد والاختيار، لأن الخلق إيجاد عن عدم ولا يتصور الفعل بالقصد والاختيار إلا مع العلم بالمقصود.
الثالث: أن الخلق البديع يدل على علم الخالق" (32) .
وبعد أن ذكر هذه الأوجه قال: "وتقريره أن خلقه تعالى وأفعاله متقن مشتمل على الصنع الغريب والترتيب العجيب، وكل من كان فعله كذلك فهو عالم، أما الصغرى فظاهرة لمن نظر في الآفاق والأنفس وارتباط العلويات بالسفليات، وما أعطى الحيوانات من الأسباب والآلات المناسبة لمصالحها، وما أعطى النحل والعنكبوت من العلم بما يفعله من البيوت بلا فرجار وآلة، كما دل قوله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [النحل: 68]، وأما الكبرى فضرورية.
وقد ينبه عليها بأن من رأى خطوطاً حسنة أو سمع ألفاظاً عذبة تدل على معان دقيقة جزم بأن مصدرها عالم، وتوهم كفاية الظن مدفوع بالتكرار والتكثر على التصور ضروري وهو كاف في المقصود..." (33) .
كما أنهم استدلوا على إثبات صفة العلم بدليل التنزيه عن النقائص وتقريره: إذا لم يتصف الرب تعالى بالعلم، اتصف بالجهل، لأن العلم والجهل من الصفات المتعاقبة، واتصافه تعالى بالجهل ممتنع، لأنه صفة نقص، ومن شرط القدم التبري عن النقائص، فوجب اتصافه تعالى بالعلم.
قال أبو المعين النسفي: "إنا عرفنا ثبوت هذه الصفات كلها لمعرفتنا بتعاقب أضدادها التي في أنفسها نقائص إياها، ومعرفتنا باستحالة ثبوت النقائص في القديم، فعرفنا ثبوت هذه الصفات التي هي صفات الكمال ضرورة انتفاء النقائص عن القديم، وعرف أن ثبوتها من شرائط القدم وهذه الطريقة جارية في هذه الصفات (34) .
والدليل الأول هو المشهور عندهم وعند عامة المتكلمين في إثبات صفة العلم، ولا ريب في صحته فقد دل القرآن كما في قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14].
ودلالة المحدثات - بما فيها من الأحكام والإتقان - على علم الخالق والمحدث أمر ضروري يدركه كل عاقل بدون إقامة دليل منطقي لا يفهمه كل أحد.
وقوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قد دل على وجوب علمه تعالى بالأشياء من عدة أوجه:
"أحدها: أنه خالق لها والخلق هو الإبداع بتقدير، وذلك يتضمن تقديرها في العلم قبل تكونها في الخارج.
الثاني: أن ذلك مستلزم للإرادة، والمشيئة والإرادة مستلزمة لتصور المراد والشعور به، وهذه الطريقة المشهورة عند أكثر أهل الكلام.
الثالث: أنها صادرة عنه، وهو سببها التام، والعلم بأصل الأمر وسببه، يوجب العلم بالفرع المسبب، فعلمه بنفسه مستلزم العلم بكل ما يصدر منه.
الرابع: أنه في نفسه لطيف يدرك الدقيق، خبير يدرك الخفي، وهذا هو مقتضى العلم بالأشياء، فيجب وجود المقتضى لوجود السبب التام، فهو في علمه بالأشياء مستغن بنفسه عنها، كما هو غني بنفسه في جميع صفاته..." (35) .
فالآية مع دلالتها على صحة طريقة الماتريدية، فهي أتم وأكمل وأوضح في الدلالة على وجوب اتصافه تعالى بالعلم من طريقتهم. (126)
صفة الحياة
اختلفت الماتريدية في طريقة الاستدلال على إثبات صفة الحياة، فذهب بعضهم إلى أن الحياة تثبت بدلالة المحدثات، إذ أن الفعل كما لا يتصور إلا من قادر عالم كذلك لا يتصور إلا من حي، وذهب بعضهم إلى أن الحياة تثبت بدلالة القدرة والعلم لا بدلالة الفعل، إذ يستحيل ثبوت القدرة والعلم بدون الحياة.
قال أبو المعين النسفي موضحاً هذا: "ثبوت الحياة... عند بعض أصحابنا نصرهم الله بدلالة المحدثات عليها إذ إحكام الفعل كما لا يتصور إلا من قادر عالم لا يتصور إلا من حي، تحققه أن الحياة لذات ما لا يعرف في الشاهد إلا بوجود الأفعال الاختيارية، وعند وجودها يقع التيقن بثبوت الحياة بحيث لا مجال للريب في ذلك، ويعد الشاك فيه متجاهلاً، وكما يستدل بالفعل المحكم المتقن على كون الفاعل قادراً عالماً يستدل به على كونه حياً وتمكن في فكر العقول امتناع القول بوجود ذلك إلا من حي على ما ذكرنا.
وعند بعض أصحابنا كانت الحياة من مدلولات العلم والقدرة لا من مدلولات الفعل بل الفعل يدل على علمه وقدرته ويستحيل ثبوتهما بدون الحياة، إذ الحياة شرط ثبوتهما، ودليل استحالة ثبوتهما بدون الحياة، أن الموت والجمادية يضادان العلم والقدرة، إذ العقول السليمة كما تأبي قبول قول من أخبر عن اجتماع الموت والحياة والسواد والبياض والحركة والسكون، تأبى قبول قول من يجوز ثبوت العلم والقدرة للميت، وتعرف امتناع اجتماعهما مع الموت، كما تعرف امتناع اجتماع الحياة والموت، ولا تفرق بينهما، فلو جاز ذا لجاز الأول ولو امتنع لامتنع هذا لانعدام ما يوجب التفرقة بين الأمرين في العقول الصحيحة السليمة، تحققه أن ذلك لو جاز لجاز أن يكون كل ديباج نفيس وكل صورة مونقة، وكل قصر عال في العالم كانت حاصلة عن فعل الجمادات والموتى، ولعل كل تصنيف دقيق في فن من العلوم كان في عمل الموتى والجمادات... وتجويز هذا كله هذيان وخروج عن قضية العقول التحاق بالمتجاهلة" (36) .
واستدلوا أيضاً على ثبوت صفة الحياة بدليل ثبوت الكمال والتنزيه عن النقائص، فلو لم يتصف الخالق بالحياة، لوجب أن يتصف بالموت، إذ أن الموت ولحياة من الصفات المتعاقبة، والموت صفة نقص يجب تنزيه الخالق عنها، كما أن الحياة صفة كمال يجب اتصافه بها، إذ من شرط القدم الكمال والتبري عن النقائص، فثبت وجوب اتصافه بالحياة (37) .
وكل هذه الطرق الثلاث التي استدلت بها الماتريدية على اتصاف الباري بالحياة الصحيحة مستقيمة. بل هي بديهية ضرورية، إذ أن معرفة اتصاف الخالق بالحياة أمر ضروري مستقر في الفطر، لا يجحده إلا مكابر ملحد.
قال شيخ الإسلام في تعليقه على قول الأصفاني: (والدليل على أنه حي علمه وقدرته، لاستحالة قيام العلم والقدرة بغير الحي): "فهذا دليل مشهور للنظار، يقولون: قد علم أن من شرط العلم والقدرة الحياة، فإن ما ليس بحي يمتنع أن يكون عالماً، إذ الميت لا يكون عالماً، والعلم بهذا ضروري" (38) .
فلذلك اضطر ابن رشد الفيلسوف إلى الاعتراف بصحة هذا الدليل حيث قال: "وأما صفة الحياة فظاهر وجودها من صفة العلم، وذلك أنه يظهر في الشاهد أن من شرط العلم الحياة. والشرط عند المتكلمين يجب أن ينتقل فيه الحكم من الشاهد إلى الغائب، ما قالوه في ذلك صواب" (39) . (127)
الإرادة
أثبتت الماتريدية الإرادة لله عز وجل بدليل أن الله تعالى قد خلق الخلق باختياره، ولا اختيار بدون إرادة، كما أنه لا اختيار بدون قدرة. وأيضاً اختصاص المفعول بوجه دون وجه، وبوقت دون وقت، دليل على اتصاف الفاعل بالإرادة، إذ هي المعنى الذي يوجب التخصيص. وكذلك استدلوا بدليل التنزيه إذ أن الخالق لو لم يكن مريداً لكان عاجزاً.
قال الماتريدي: "إن شرط كل من فعله اختيار الإرادة، وكل من فعله الاضطرار أنه غير مريد..." (40) .
وقال: "ثم الأصل الذي يقع عليه الفعل في الشاهد أن يكون على إرادة أو غلبة أو سهو، فكل من خرج في شيء عن الوصف بالغلبة فيه والسهو لزم الوصف بالإرادة التي هي الأفعال..." (41) .
كما أن التخصيص في المفعولات يدل على اتصاف الفاعل بالإرادة دلالة بديهية، إذ لا تخصيص بلا إرادة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تعليقه على قول الأصفهاني: (والدليل على إرادته تخصيصه الأشياء بخصوصيات، واستحالة المخصص من غير مخصص): "فإن هذا دليل مشهور للنظار، ويقرر هنا: إن العالم فيه تخصيصات كثيرة، مثل تخصيص كل شيء بما له من القدر، والصفات، والحركات كطوله وقصره، وطعمه ولونه وريحه وحياته وقدرته وعلمه وسمعه وبصره وسائر ما فيه، مع العلم الضروري بأنه من الممكن أن يكون خلاف ذلك، إذ ليس واجب الوجود بنفسه. ومعلوم أن الذات المجردة التي لا إرادة لها لا تخصص، وإنما يكون التخصيص بالإرادة" (42).
وثبوت الإرادة بدليل التنزيه أمر مدرك ببداهة العقول، إذ أنه من الضروريات. بل إن معرفة اتصاف الله تعالى بصفة الإرادة أمر لا يحتاج لإقامة الأدلة العقلية المنطقية عليه، إذ أنه يدرك بالفطرة والضرورة. ولا يجحد هذا إلا مختوم على قلبه، أو فاقد لعقله. (128)