إرشادات للباحث والمؤلف المبتدئ (2)
(تصنيف موضوعات وأقسام البحث)

الكاتب
أحمد محمد عبد الرؤوف المنيفي


اكتساب ملَكة التصنيف:

يُقصَد بالتصنيف أن يُصنِّف الباحث موضوعاتِ الكتاب إلى مسائلَ ومباحث وفصول، ويقوم الباحث في التصنيف بعملية استنباطٍ لأفكار عامة من مجملِ ما قرأه أو نقلَه مِن الكتب الأخرى، وهذه الأفكارُ العامَّة يندرج تحتها مجموعاتٌ مختلفة من المعلومات، وقد يندرج تحت الفكرةِ التي استنبطها الباحث مجموعةٌ كبيرة ومتنوعة من المعلومات، فتكون هذه الفكرة عنوانَ فصل، وقد يندرج تحت الفكرة مجموعات جزئية من المعلومات، وعندئذٍ تصلُحُ هذه الفكرة عنوانًا لمبحث، أو عنوانًا جزئيًّا لفِقرة أو لموضوع من عدة فِقرات داخل المبحث الواحد.



ويبدأ الباحثُ عادةً باستنباط عنوان فصل أو فصول من الكتاب، ويتضمَّن هذا العنوان معنًى كليًّا، أو فكرةً تنتمي إليها مجموعات واسعة ومتنوعة من المعلومات، ثم يتدرَّج إلى استنباط معانٍ أو أفكار جزئية عامة تربط بين مجموعات المعلومات التي تقع تحت عنوان هذا الفصل، ويُشكِّل مِن هذه الأفكار أو المعاني العامة عناوينَ المباحث، ثم ينتقل إلى المسائل الفرعية وعناوين الموضوعات، وهكذا.



وهذا النوع من التصنيف واستنباط مباحثِ الكتاب ومسائله المختلفة، هو الذي يتضمَّن معنى الإبداع؛ لأن الباحث يبتكر فيه معانيَ وأفكارًا جديدة[1]، وقد وضع الإمام ابن خلدون استنباط العلم ومباحثه ومسائلِه أولَ مقاصد التأليف[2].

ويُلاحَظ أن عملية التصنيف هي نوع من أنواع الاستنباط يتعلق باستنباط معانٍ وأفكار كلية من معلومات جزئية، وهذا النوع من الاستنباط يُماثِل ما يقوم به علماء الفقه والأصول من استنباط مبادئ عامة وقواعدَ كلية من نصوص جزئية، وأكثر ما يوجد هذا النوعُ من الاستنباط لعلماء الفقه والأصوليين في مباحث المصلحة المرسَلة من كتب الأصول، والسبب في ذلك أن المصالح المرسلة هي مصالحُ جديدة لم ينصَّ عليها الشارعُ، ولا يوجد نص خاصٌّ تقاس عليه، فيلجأ الأصوليون والفقهاء إلى استنباط مبادئ عامة وقواعد كلية من نصوص الكتاب والسُّنة، ثم يُطبِّقون هذه المبادئ والقواعد عليها.



ولذلك؛ فإن الباحث الذي يريد أن يكتسب ملَكةَ التصنيف، عليه أن ينظر في الخطوات التي اتَّبَعَها علماء الأصول والفقهاء في استنباط المبادئ والقواعد الكلية للمصالح الجديدة التي واجهتهم في أزمانهم، وأن يتدارس هذه الخطوات ويتدرب عليها؛ حتى ترسخ فيه ملكة التصنيف، وتنمو قدرته على استنباط الأفكار والعناوين العامة.



ومِن أحسن الكتب الحديثة التي تناولت طرق علماء الأصول والفقهاء في استنباط المبادئ والقواعد الكلية، التي تتعلق بالمصالح المرسلة: كتاب "نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي"؛ للشيخ الدكتور حسين حامد حسان، وهو كتابٌ نفيس، غزير الفوائد، ولا يستغني عنه أيُّ باحث في الأصول، ويكفي الباحثَ أن يتدارس منه - لعدة مرات - الفصولَ التي تناولت المذهب المالكيَّ والمذهب الشافعي.



ومِن الكتب الحديثة أيضًا: كتابِي "منهج الحكم على المصلحة التي لا نص فيها عند الأصوليين"؛ المتاح على الألوكة، وقد كتبتُ فيه عن منهج علماء الأصول الذين اشتَهَروا بالقول بالمصلحة، وهم: الإمام الجويني، والإمام الغزالي، والإمام الشاطبي، والإمام الشافعي، وتناولتُ ما بين أربعة إلى خمسةٍ من أمثلة المصلحة لكل إمامٍ، وشرحت الخطوات التي اتَّبعها كل إمام في استنباط المبادئ العامة والقواعد الكلية في هذه الأمثلة، ولا شك أن النظر في هذه الأمثلة مِن أكثر ما ينتفع به الباحث عمليًّا في اكتساب ملَكة الاستنباط.



وأما الكتب القديمة، فمن أهمها:

مبحث الفرقِ بين المصلحة والبدعة، في كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي.

ومبحث العموم المعنوي، في قسم العموم والخصوص؛ من كتاب الموافقات للشاطبي.

ومبحث المصلحة، في الجزء الأول من كتاب المستصفى للإمام الغزالي.

ومبحث القياس في كتاب الرسالة للإمام الشافعي.

وجميع هذه المباحث ترسخ في الناظر فيها ملكةَ استنباط المعاني والأفكار العامة من جزئيات كثيرة ومتفرقة.



وقد شرحت معظم هذه المباحث في كتابِي آنفِ الذكر، لكن هذا الشرح لا يُغني عن الرجوع إلى هذه المباحث الأصلية؛ لأن طريقة وأسلوب استدلال هؤلاء العلماء التي وردت في كتبهم، هي التي تكسب الباحثَ المِرانَ والتدريب على هذا النوع من الاستنباط للأفكار والمعاني العامة.



الاسترشاد بالدراسات والبحوث المماثلة:

وعلى الباحث أن ينتفعَ بجهود الباحثين الذين سبَقوه، فيطَّلِع على دراساتِهم وأبحاثهم، ويسترشد بمناهجهم وأساليبهم في تخطيط رسائلهم وكتبهم، ولكن عليه أن يختار الرسائل والكتب الناجحة العالية المستوى، التي تصلح أن تكون نموذجًا يحتذي به، وأن يبحث عن معلومات حول الكتاب ومؤلِّفه في محركات البحث على الإنترنت قبل أن يقوم بقراءته، كما أن عليه أن يبحث عن الرسائل والأبحاث المتصلة بالموضوع، والمجال الذي يبحث فيه؛ وذلك حتى يستطيع الانتفاع بها والاستفادة منها في الموضوع الذي يبحث فيه[3].

والحمد لله رب العالمين

[1] أصول علم النفس؛ أحمد عزت راجح، دار الفكر، ناشرون وموزعون، الأردن، 2009 م، ص 293.

[2] مقدمة ابن خلدون، مؤسسة الرسالة، ناشرون، لبنان، ط1، 2005 م، ص595.

[3] كيف تكتب بحثًا أو رسالة؛ أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، 1992 م، ط (21)، ص45، 46.