»» الفطرة العقلية و الفطرة اللغوية و علم المعرفة عند بياجيه :-
-------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم البحث : الابستمولوجيا التكوينية المؤلف : جان بياجيه ترجمة : د/السيد نفادي ، و راجعه ا.د/محمد علي ابوريان الناشر : دار التكوين & دار العالم الثالث – 2004م
-============================== ================-
- يفرق المترجم بين علم المعرفة (الإبستمولوجيا) و نظرية المعرفة ، فيقول : "بيد أنه ينبغي التفريق بين الإبستمولوجيا و نظرية المعرفة ، لأن نظرية المعرفة تعد مبحثا في النسبة بين الذات العارفة و الموضوع المعروف ، مثل كيف يمكنني أن أعرف على نحو يقيني ما إذا كانت العصا الغموسة إلى نصفها في الماء منكسرة في حقيقة الأمر ، أم غير منكسرة ؟ يمكنني أن أعرف على نحو يقيني إذا كنت أتذكر حقا حادثة مضت أو أن الأمر لا يعدو أنني أتخيلها فحسب ، و ما إذا كنت الأن يقظان أم حالما ؟ أفليس من المحتمل أن أكون ضحية وهم واحد لا ينقضي ؟ (الموسوعة الفلسفية المختصرة . نقلها عن الإنجليزية فؤاد كامل ، و جلال العشري ، و عبد الرشيد الصادق . مراجعة د.زكي نجيب محمود . دار القلم ، بيروت(د.ت) ص 476 .) و لكن تحت تأثير التقدم العلمي في حقل الفيزياء خاصة ، أصبحت ، الإبستمولوجيا هي الشائعة في قرننا هذا ، فقد أصبحت خطابا حول أسس الخطاب العلمي نفسه ، كما هو الحال عند الفيلسوف الفرنسي باشلار (الموسوعة الفلسفية العربية . معهد الإنماء العربي . المجلد الأول ، 1986. مادة : معرفة . ص 756 .)."
- أثناء عرض تصور بياجيه و ركائزه للإبستمولوجيا التكوينية ذكر (الحس المشترك) على أنه الأساس الذي عليه بنى تصوره لهذه الركائز و الأصول ، و وصفه بأنه ساهم في رسم الجزء الأكبر من تلك الأفكار و العمليات ، و إن لم يعترف بياجيه بهذا لكان بالأحرى به القول بأن هذه نظرته الشخصية لتكوين المعرفة و لا يدري هل تلتقي مع الأخرين أم لا ؟ لأنه لا سبيل لمعرفة ذلك على جهة اليقين ، و لكن نتلمسها تلمس الحريص في ثنايا الأقوال و الأفعال خاصة ردود الأفعال بالنسبة للأخرين ، فالأقوال يختص بها علوم اللغة اللسانية و ما يعاونها في ذلك من علوم أخرى ، و الأفعال يختص بها علوم النفس و الإجتماع و ما يعاونها على ذلك في تحديد و توضيح الصورة . فنجاح مثل هذا التصور المعرفي الذي يتمخضه العقل و الادراك الإنساني ، لأن يعمم على الغير أو أن يكون تفسيرا لمدركاتهم لما في الكون و الإعتقادات لهو أكبر دليل على الحس المشترك الذي هو ماثل في عقول البشرية كلها ، و لا يوجد تسمية لها غير الفطرة أو الغريزة ، و هي المناطة بقيادة نتائج هذه التصورات الأتية من أعضاء الحس و العقل و مبادئه ، و نحن ندعي بواحديتها الطبيعية و تماثلها لكل بشري مع غيره ، أما التفاوت الماثل في هذه المعرفة من شخص لأخر و من أمة لأخرى فتتوقف على عوامل خارجية تمثل دور المانع و المعترض و المبطيء لصيرورة هذه المعرفة التي تعتمد على الفطرة ، فإذا خلت الموانع و الإعتراضات و تركت الطريق مفتوح لعمل الفطرة و ما تنتجه من معرفة و تشكيل لتصورات عن الكون و الإنسان و القوة العظمى ، لتماثلت في النتيجة النهائية و الحصيلة الأخروية . و لم يبق إلا الحاجات المادية و الرغبات و الملذات تكون هي المحركة و المشكلة للمجتمعات و الأمم و لكن تهذب عند البعض و تترك على وحشيتها عند الأخر .
و تماثل طبيعة الفطرة يقتضي تماثل ما هو بالخارج عن النفس البشرية أن تكون لها حقيقة ثابتة و ماهية متحققة من دون إدراكنا لها فهي مستقلة عنا ، و لذلك يخطأ من يحكم على شيء ما بالخارج بحكم مخالف للجماعة المدركة لنفس الشيء ، فيوسمونه بالمرض و الخطأ ، لرسوخ الإعتقاد بإستقلالية الماهية للأشياء الخارجة عن النفس ، فهو إجماع بشري منذ القدم ، و على فرض تغيرها في الخارج و عدم ثباتها على حقيقة واحدة فإنها تُدرك على حالة و وضعية ثابتة لكل البشر فيكون الجزء المتصور منها و هو ما ندركه من الشيء هو الثابت و المستقل بإدراكنا له ، و ما دام الجزء المتغير منه ليس في مدروكنا و لا في نطاق إدراكنا فليس لنا له تصور حتى ينطلي عليه وسم التغير و عدم الثبات . و على افتراض جدلي أيضا يماثل في جدليته ما سبق و هو أنه من الممكن أن تكون الأشياء التي في الخارج متغايرة الحقيقة و الصورة و الماهية ، و يتم إدراكها كما هي تماما بالنسبة لكل إنسان ، و يتم التعارف الإجتماعي و الإشاري إليها على قدر يحقق ماهية التواصل و التعارف و التعيين بالرغم من تغايرها في النفوس و الاذهان لكل إنسان عن الأخر فيكون الجزء المشترك فيما بينهما هو المعول عليه في التواصل حول هذا الشيء و كافي في بيانه للنفس و للغير . و بما أننا لا نستطيع إثبات ذلك و لا التحقق منه و لا التيقن من هذه الصورة فلا بد من الناحية العقلية ان نركن لما هو أعقل و أوثق و هو أن هناك قدر معرفي مشترك بين البشرية كلها و لا يتوقف على لسان أو زمن و لا عرق أو لون ، و أن هذا القدر المعرفي المشترك هو نتاج الخِلقة للنفس البشرية و لما هو خارجها بهذه الكيفية التي تحقق هذا القدر المعرفي .
و الاستدلال على ذلك يكون من خارج فقط أي باللسان و ردود الأفعال و الاستجابات الجسدية و النفسية ، لأنه لا يوجد طريق أخرى للوقوف على ذلك غير ذلك . فقول بياجيه على ما سبق : " تسعى الإبستمولوجيا التكوينية إلى توضيح المعرفة ، و المعرفة العلمية بصفة خاصة و ذلك استنادا إلى تاريخها ، و إلى تكوينها الاجتماعي و إلى الأصول السيكولوجية للأفكار و العمليات التي تعتمد عليها بصفة خاصة . و لقد استندنا في رسم الجزء الاكبر من تلك الأفكار و العمليات إلى الحس المشترك و عليه فإن هذه الأصول يمكن أن تلقي الضوء على مغزاها كمعرفة ذات مستوى أعلى . كما تأخذ الإبستمولوجيا التكوينية في اعتبارها أيضا ، و بقدر المستطاع ، الصياغة و بصفة خاصة ، الصياغة المنطقية التي تنطبق على بنيات الفكر المتوازنة و على حالات معينة من التحولات التي ينتقل فيها الفكر – في مجرى تطوره – من مستوى إلى آخر . "
- و هنا نص لبياجيه يصف فيه تحليل للمدرسة الوضعية المنطقية بأنه استعادة الوضعيون المناطقة لإبستمولوجيتهم السيكولوجية ، و فيه تأكيد على أن اللغة اللسانية تتكون من بنيات لغوية هي بعينها الوحدات المنطقية و الرياضية ، و نستحلص من هذا أن اللسان ليس تعبيرا فقط عن المنطق العقلي بل تركيب اللسان نفسه يماثل المنطق العقلي نفسه ، و أنا اتسائل أين موضع العلامة الإعرابية في المنطق العقلي ؟ فإن كان معنى الجملة أو المفردة في التركيب يعرف من خلال ادراك العلاقات بينها و بين الأخرى التي معها في نفس التركيب فلو كان معنى مقبولا عقلا فيكون منطقيا أيضا و إلا فلا ، أما أن أجعل المعنى المنطقي رهين ظنية دلالة العلامة أو الحركة الإعرابية التي لا تبين عن المنطق و لا العقل فهذا هو عدم المنطق بعينه .
فيقول بياجيه : " يستعيد الوضعيون المناطقة إبستمولوجيتهم السيكولوجية و يؤكدون أن الوحدات المنطقية و الوحدات الرياضية ليست سوى بنيات لغوية و ذلك لأننا إذا أردنا السير في إجراءات المنطق أو الرياضيات ، فعلينا – طبقا لهم – أن نستخدم ببساطة السنتاكس العام أو السيمانطقيا العامة أو البراجماطيقا العامة و ذلك المعنى الذي قرره موريس و اعتمد الوحدة في هذه الحالة ، قاعدة أساسية لاستخدامات اللغة بوجه عام . و عليه فإن الصحة المنطقية و الرياضية عموما ، إنما تشتق من اللغة ، إذ أن المنطق و الرياضيات ليسا سوى بنيات لغوية متعينة ، فتصبح البنيات هنا موافقة لفحص الاكتشافات الواقعية . "
- إن نظرة بعض العلماء إلى اللغة و العقل على انهما متقابلان و مستقلان عن بعضهما البعض ، أو أن أحدهما يمثل الأخر في صورته التي ينتجها ، فالعقل يصور و يتصور و يحكم ثم يظهر هذه التصورات على هيئة صوتية لغوية لسانية فتكون محكمة و مجسدة للتصورات فيظن أن اللغة و اللسان هي التي يشتق منها المنطق كبلومفيلد ، خاصة على رأي من يقول أننا لا نستطيع أن نفكر إلا بالكلام ، و على الجانب الأخر من يرى أن العقل هو من تعتمد عليه اللغة و اللسان كتشومسكي ، و الحقيقة أن الفطرة هي الأصل و يتم تمثيلها في ناحيتين لا يختلفان و لا يتخلفان عن بعضهما البعض ، هما الفطرة العقلية و الفطرة اللغوية ، فهما يسيران جنبا إلى جنب بتواز ، و يقول بياجيه أن هذا الاختلاف حله في التجريبيات السلوكية و ليس التأملات الشخصية : " أن المواقف النظرية في حقل الدراسات اللغوية ذاته ، قد أختلف تماما ، و ذلك منذ العصر الذهبي للوضعية المنطقية . فلقد تمسك بلومفيلد في ذلك العصر ، و بشكل كامل ، بوجهة نظر الوضعيين المناطقة ، و هي وجهة النظر التي كانت ترى أن المنطق مشتق من اللغة . أما الأن ، فإن تشومسكي كما نعرف ، يصر على الموقف المعارض . إذ يؤكد تشومسكي ، ليس على أن المنطق يعتمد على اللغة ، و يشتق من اللغة ، بل على العكس من ذلك تماما ، على أن اللغة هي التي تعتمد على المنطق ، على العقل ، بل و يرى أن هذا العقل فطري و ربما يكون قد مضى بعيدا بتأكيده على فطرية العقل ، و لكن أعود فأكرر مرة أخرى ، أن هذه المسألة لا يمكن تقريرها إلا بالاستشهاد بالوقائع و باللجوء إلى البحث السيكولوجي ، فالسيكولوجيا وحدها هي المنوطة بحل هذه المسألة ، لأن بين العقلانية التي يدافع عنها تشومسكي هذه الايام (والتي ترى أن اللغة تعتمد على العقل ، و أن العقل فطري في الإنسان) ، و بين وجهة النظر اللغوية التي يتبناها الوضعيون (والتي ترى أن المنطق ببساطة ليس سوى اختراع لغوي) ، نجد مساحة واسعة لاختيار أحد الحلول الممكنة ، و ينبغي أن يعتمد هذا الاختيار على الواقعة ، على البحث السيكولوجي ، لأن المسألة لا تحل عن طريق التأمل . لست راغبا في أن أعطي انطباعا بأن الإبستمولوجيا التكوينية إنما تسعى إلى الإعتماد بشكل كامل و قاطع على السيكولوجيا ، بل على العكس من ذلك ، نرى أن الصياغة المنطقية ضرورية تماما في كل وقت ، لأن في مقدورنا دائما أن نصوغ صياغة ما ، حينما تصادفنا بنية مكتملة ما ، و ذلك في مجرى تطور الفكر ، و علينا أن نبذل مجهودا ، بالإشتراك مع المنطقيين أو المتخصصين في هذا المجال ، لكي نصوغ هذه البنية . و عليه فإننا نفترض أن ثمة تناظرا بين الصورة السيكولوجية من جهة ، و الصياغة المنطقية من جهة أخرى ."
و بعد أن أوضح صورة المعرفة و معنى المعرفة ، و مثّل لهما و استخلص مفاهيم محددة لعملية الفكر و المعرفة و التي تدور حول موضوع المعرفة و تحول المعرفة من مستوى لأخر ، أن المعرفة ليست انعكاس للواقع بدون تأثير و تأثر من الانسان المفكر ، و حدد المعرفة المتحولة بالتي هي من دور الإنسان المفكر بالتاثير و التأثر في الموضوع الخاص بالمعرفة إزاءه ، و ليست هي النابعة من ذات الموضوع فقط ، و ربما هذا ما خوَّل له مداخلة السيكولوجية في المعرفة ، بجانب المنطق سواء بسواء ، و لذلك فقد قال : " يمكن إيجاز افتراضنا على النحو التالي : لا توجد جذور الفكر المنطقي في اللغة وحدها ، و حتى برغم أهمية تنسيقات اللغة ، و إنما توجد أكثر ، و بصفة عامة ، في تنسيق الأفعال التي تعد أساسا للتجريد المنعكس . " أي أن التنسيقات الممنطقة للغة و اللسان ليست هي أساس المعرفة وحدها رغم أهمية المنطق و الصورة في نظرية المعرفة و لكن يجب التنبه للجانب السيكولوجي للإنسان المفكر و الذي يدور عليه المعرفة المتحولة من مستوى لأخر ، فبتأثيره و تأثره لموضوع المعرفة هو الذي يخلق نسق معرفي يبين النظرية المعرفية التكوينية و التي بدورها تشرح التقدم المعرفي و العلمي للإنسان . و هذا ما يقرر ما نذهب إليه من أن القوانين و القواعد المنطقية التي تحكم سريان اللسان و التكلم بما عرفت بالنحو ليست كافية في الاستقلال بالمعنى الكلي من وراء وجود اللسان في حد ذاته و لا في استعماله على مستوى البيان و التواصل ، فلا بد من دخول الجانب السيكولوجي في تقرير المعاني و توضيحها و توجيهها و ترجيحها . و اللغة عند بياجيه تمثل الجانب الصوري من المنطق أما الجانب الجوهري من المنطق فيكون في التنسيق العام للأفعال ، فيقول : " وأن أؤكد مرة أخرى على أن تكوين البنيات المنطقية و الرياضية في التفكير الإنساني لا يمكن تفسيره باللغة وحدها ، و إنما تكمن جذوره في التنسيق العام للأفعال . " ثم قرر مرة أخرى في بداية المقالة الثانية بقوله : " بعد أن برهنت على أن جذور البنيات المنطقية و الرياضية إنما تكمن في تنسيق الأفعال ، حتى قبل تطور اللغة "