بهجة المطمئن
في تفسير قوله تعالى:{واضربوهن}

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وسلم تسليما كثيرا
أما بعد :

فإن الاسلام شَرَعَ للجنس البشري : الزواج ؛ وجعل له مقاصد عظيمة ؛ من أهمها : (السكن) ، كما قال سبحانه :(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[سورة الروم 21]
والسكن ضد الحركة والاضطراب وهو الهدوء والراحة ؛ قال البيضاوي رحمه الله في كتابه الماتع أنوار التنزيل وأسرار التأويل : ﴿لِتَسْكُنُوا إلَيْها﴾ لِتَمِيلُوا إلَيْها وتَأْلَفُوا بِها فَإنَّ الجِنْسِيَّةَ عِلَّةٌ لِلضَّمِّ ، والِاخْتِلافِ سَبَبٌ لِلتَّنافُر . هـ.
وجَعْلُ المودة والرحمة بينهما من أكبر الإشعارات بأنّ أساس قيام البيوتات في الاسلام وقوامها ينبغي أن يكون وفق هذه المعالم التي تجعل البيت مقرَّ راحة وسكون ، لا مكان اضطراب ومصدر أرق ونكد !
بل إن الزواج معراجٌ للنفس البشرية لترقى بالتفكر في آيات الله فيه ؛ ومن تأمّل ما في الزواج من آيات لأبصر بعيْنيْ قلبه ما فيه من الحِكَم الكثيرة ، لذلك قال الله في ختمهِ لآيةِ الزواج ومقاصده المذكورة أعلاه (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) فهذا الأمر الجلل لايحتوي على آية واحدة بل على آيات !


قال الآلوسي في تفسيرها في كتابه روح المعاني :
.....التَّنْبِيهِ عَلى أنَّ ما ذُكِرَ لَيْسَ بِآيَةٍ فَذَّة ، بَلْ هي مُشْتَمِلَةٌ عَلى آياتٍ شَتّى ، وإنَّها تَحْتاجُ إلى تَفَكُّرٍ...... وذَكَر الطِّيبِيُّ-رحمه الله- أنَّهُ لَمّا كانَ القَصْدُ مِن خَلْقِ الأزْواجِ والسُّكُونِ إلَيْها وإلْقاءِ المَحَبَّةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لَيْسَ مُجَرَّدَ قَضاءِ الشَّهْوَةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ بِها البَهائِم ُ، بَلْ تَكْثِيرُ النَّسْلِ وبَقاءُ نَوْعِ المُتَفَكِّرِين َ الَّذِينَ يُؤَدِّيهِمُ الفِكْرُ إلى المَعْرِفَةِ والعِبادَةِ الَّتِي ما خُلِقَتِ السَّماواتُ والأرْضُ إلّا لَها...هـ


ولإن تحققت هذه الأوصاف وفق هذه المقاصد الاسلامية السامية لربما عاشت الأسرة ولم تشهد بيوتاتهم صيحة واحدة فضلا عن ضربة !
وكلما ترَسَّم الأزواج خطى النبي صلى الله عليه وسلم كانت الأُسَر نبراسًا في النجاح .


ولكن لمّا كانت النفس البشرية تميل في بعض أحيانها إلى التمرد وضعت لها الشريعة قيودا تُلجمها ؛ ومن ذلك الزوجة التي تكون تحت الرجل ؛ والتي قد يحصل منها نشوز أو أعمالٌ لا تُطاق ؛ فكان من حكمة الله أن جعل القوامة للرجل عليها لتستقيم الحياة ؛ فالمُشَرِّع لتفاصيل هذه القوامة هو الله العليم الحكيم الخبير ، العلي الكبير .


وقد أُذن للرجل في حالات عصيان المرأة وتمردها أن يبسط قوامته عليها ليردَّها إلى جادة الصواب ؛ وهذه القوامة ليست هي الضرب فحسب ؛ بل قد سلْسَلَ معها العقوبة وجعل آخر التربية : الضرب ؛ وهذا يدلّ على أن الضرب وسيلة تُستعمل بعد استنفاد كل الوسائل التي تحقق مقصود القوامة ؛ ودليل ذلك ما قاله الله عزّ من قائل :
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)[سورة النساء 34]


فانظر رحمك الله إلى هذه الآية وكم فيها من فوائد لو حققّها الرجل في رجولته ، والأنثى في أنوثتها ؛ لعاشت الأُسَر في سعادة لا توصف ؛ ذلك أن الله ركّب في الطبائع وجبَل في التكوين الانساني خصائص لكل جنس ؛ وجعل لكل جنس في هذا الكون فاعلية في توظيف قدراته ، وتصريف طاقاته ؛ ولمّا أن وصلنا إلى زمن تبِعت فيه هذه الأمة الغرب في طريقة معيشتها ، واسْتَنَّتْ بسُننِهم في تفاصيل حياتها ، وشاكست فطرتها التي فطرها الله عليها ، وبدّلت وظائفها الجِبِلِّية ، وتمرّدت على التكوين الحكيم ، كانت النتيجة أن حصدت العلقم المر !


ومن ذلك أن اختلت قوامة الرجل لفقدانها لعناصرها ولمقوماتها !


فإنّ من عناصر القوامة تفضيل الرجل بالرزق على المرأة ؛ أما اليوم في الواقع الذي نعيش فالأمر مغاير عند الكثير ، وقد بات يشتكي فيه هؤلاء الكثيرون فقدان هذه القوامة !
وما ذلك إلا بَعد مشاكساتهم وتمردهم ؛ فضربوا كفّ حائر ، وندموا ، ثم جاؤوا يبكون!


لقد زاحمت المرأة الرجال في العمل ففُضِّلتْ عنه ففقدت البيوت ركن القوامة الأول !
فأنفقت كما يُنفق الرجل بل أكثر !
وضاع الركن الثاني للقوامة!
وبالتالي قد فقدت المرأة وصفها الذي تسلسل في الآية كما فقد الرجل وصف قوامته !
فلا هو قَوّام ، ولا هي من الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله !
وكيف يكون الحفظ وهي تجالس غير بعلِها كل يوم أكثر من مجالستها لبعلها في نهاره ؟!


فاضطربت البيوت عندما صارت لا تستمد تشريعها من ربها ؛ بل استمدتها من أربابها الذين رسموا لها هذه السبل التي تسببت برفع معالم السكن والمودة والرحمة ؛ فصار الرجل بركاناً ثائراً ، يمنعه عجزه عن الانفجار ؛ وصارت المرأة كالرجل في طبيعتها وفطرتها ؛ بعد أن ترجَّلت عندما صارت تكسب وتنفق !


بل تحولت الكثير منهن إلى قوَّامات على الرجال ، هي التي تعظ ، وهي التي تهجر الفراش ، ولإن اشتدّ نشوز ذَكَرِها اضطرَّت إلى ضربه ! - والله المستعان -


ولما أن قضى الله أن يكون في هذه الأمة المحمدية من لا يُبدِّل ولا يُغيِّر كان من الواجب أن تُنثر من أجلهم الأحكام ، وتُبرى لأجلهم الأقلام !


فهم أهل عملٍ إذا علموا عملوا ؛ وهم أهل سمعٍ إذا سمعوا استجابوا ؛ وسيّان أَوُجد القابلون لأحكام الله ام قلّوا وندروا ؛ فإنّ في البلاغ تحقيق لمقاصد التنزيل .


فإلى هؤلاء ومن يليهم من الراغبين في تطبيق الشريعة نقول : إن ضرب الرجل امرأتَه حكم شرعي يُباح للمصلحة وفي حالات ضيقة ، ويُحرّم إن كان عدواناً وظلماً ورعونة ، أو إذا غلب على الظن أنه لن يحقق المقصود من تشريعه .


وإباحة الضرب لم تُشرع عقوبة مباشرة إنما الذي شُرِع هو الترتيب في العقوبات ؛ كما تقدم ذلك في الأية وفيها : (....وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)[سورة النساء 34]


فلو سلك الرجل في مقام بسط قوامته هذا الترتيب الإلهي الحكيم ؛ لربما حصل المقصود قبل الوصول لتطبيق عقوبة الضرب !


فالعاقل لا يُبادر بالضرب ؛ بل يستجيب للإرشاد الإلهي الفطري ؛ فيعظ امرأته أولا ، ثم إذا لم تتقوّم هجرها في الفراش ، وبعدها يُشرع الضرب الذي جاء في الآية ، ولكن ليس مطلق الضرب ، فإن الضرب قد قيّدته السنة في الأحاديث الصِحاح!
وسنأتي على ذكر المقيدات−إن شاءالله−.


فبالله لو ترسّم الرجال هذه الخطوات في التربية والتقويم كم ستتقلص المشاكل من بيوتهم؟!
ــــــــ
تعريف النشوز :
قال تعالى : (واللاتي تخافون نشوزهن) :
قال البغوي - رحمه الله - في التفسير : نشوزهن أي عصيانهن ، وأصل النشوز : التكبر والارتفاع ، ومنه النشز للموضع المرتفع ...هـ 208/2..


وقال الماوردي في النكت والعيون : والنُّشُوزُ: هو مَعْصِيَةُ الزَّوْجِ والِامْتِناعُ مِن طاعَتِهِ بُغْضًا وكَراهَةً - وأصْلُ النُّشُوزِ: الِارْتِفاعُ، ومِنهُ قِيلَ : لِلْمَكانِ المُرْتَفِعِ مِنَ الأرْضِ نَشَزٌ ، فَسُمِّيَتِ المُمْتَنِعَةُ عَنْ زَوْجِها ناشِزًا لِبُعْدِها مِنهُ وارْتِفاعِها عَنْهُ.هـ


وفي البحر المحيط لأبي حيان رحمه الله : قالَ ابْنُ عَبّاس ٍ: نُشُوزُهُنَّ عِصْيانُهُنَّ .
وقالَ عَطاء ٌ: نُشُوزُها أنْ لا تَتَعَطَّرُ ، وتَمْنَعُهُ مِن نَفْسِها ، وتَتَغَيَّرُ عَنْ أشْياءَ كانَتْ تَتَصَنَّعُ لِلزَّوْجِ بِها.
وقالَ أبُو مَنصُور ٍ: نُشُوزُها كَراهِيَّتُها لِلزَّوْجِ .
وقِيلَ : امْتِناعُها مِنَ المَقامِ مَعَهُ في بَيْتِهِ ، وإقامَتُها في مَكانٍ لا يُرِيدُ الإقامَةَ فِيه ِ.
وقِيل َ: مَنعُها نَفْسَها مِنَ الِاسْتِمْتاعِ بِها إذا طَلَبَها لِذَلِكَ.
وهَذِهِ الأقْوالُ كُلُّها مُتَقارِبَةٌ.هـ


ـ السبيل الأول لدفع النشوز يكون بالموعظة ( الحسنة ) :


- ١ -
هب أن المرأة نشزت أو خيف عليها من النشوز الذي بدت ملامحه ، وظهرت قرائنه ؛ ماذا يفعل الرجل المتحقق بالقوامة؟!
والكلام هنا عن النشوز المتحقق واقعًا أو متيقنًا وقوعه لقوة القرائن وغلبة الظن ؛ أما أن يبني الرجل الحكم على فورة عارضة ، أو غضبة عابرة ، أو غيرة ثائرة ، أو جهلة عاثرة ، فهذا لا يُعَدُّ نشوزاً بل هو طبيعة تعرض للنساء لما تعتريهن من عوارض تؤثر على جانبهن النفسي ؛ تُشعلها الغيرة أو التغيرات التي تعتريهن من الحيض ومقدماته وغيره ؛ لذلك قال ابن عاشور رحمه الله : (والحاصِلُ أنَّهُ لا يَجُوزُ الهَجْرُ والضَّرْبُ بِمُجَرَّدِ تَوَقُّعِ النُّشُوزِ قَبْلَ حُصُولِهِ اتِّفاقًا...)هـ


وأما النشوز الحقيقي فلا بدّ من سلوك السبيل القويم لعلاجه ، وأوله يكون بقوله سبحانه :


(فعظوهن)


ذلك أن العظة من الرجل للزوجة بريد رحمة بينهما ..
فكم تشعر المرأة بالدفء حين تسمع زوجها يُخصصها بموعظة تُزيل همها وهي ترى بعينها زوجها يُفرِّغ لها وقتاً ليرشدها ويقومها بالتي هي أحسن ؟!
وهنا نكتة أن الموعظة لا بد وأن تكون حسنة لتحقق المقصود ؛ فالله عز وجل يقول : (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن)[سورة النحل 125]
فإذا كانت الموعظة الحسنة يحتاجها الداعي إلى الله وهو يدعو الناس خارج بيته فكيف وإن كانت الموعوظة امرأته وهي من الجنس الرقيق الذي يحتاج إلى مضاعفة في الموعظة الحسنة ؟!


- ٢ -
وعَظ الرجل امرأته وتعاهدها دون إملال بوعظِه ، ولم تنفع العِظة رغم حسنها وتخللها مرة بعد مرة ماذا يفعل؟ :


قال الله العليم الحكيم : ( واهجروهن في المضاجع ) والهجر كما قال ابن عباس : يوليها ظهره في الفراش ولا يكلمها (تفسير البغوي 208/2)
وقال علي بن أبي طلحة أيضا ، عن ابن عباس : يعظها ، فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع ، ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها ، وذلك عليها شديد. هـ
انظر تفسير ابن كثير .


وحتى لايفهم البعض أن الهجران هو ترك البيت بالكلية فقد جاءت النصوص والآثار موضحة كيفية الهجران :


وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال : يا رسول الله ، ما حق امرأة أحدنا ؟ قال : " أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت "
صححه الشيخ الالباني في الإرواء برقم (2033).
وقد تقدّم ما قاله ابن عباس تبياناً لهذا الحديث : يوليها ظهره في الفراش ولا يكلمها ...البغوي208/2


- ٣ - :
فإن لم تنفع العظة ولا الهجر يُشرع بعدها الضرب ولكن بالترتيب المسبوق آنفًا ؛ فليس لأحد أن يشرع بالضرب قبل الوعظ والهجران ، بل لا بد من الترتيب .


قال ابن كثير رحمه الله : وقوله : ( واضربوهن ) أي : إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران ، فلكم أن تضربوهن ضربا غير مبرح .هـ


وقال الآلوسي رحمه الله في روح المعاني : والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّياقُ والقَرِينَةُ العَقْلِيَّةُ أنَّ هَذِهِ الأُمُورَ الثَّلاثَةَ مُتَرَتِّبَةٌ ، فَإذا خِيفَ نُشُوزُ المَرْأةِ تُنْصَحُ ، ثُمَّ تُهْجَرُ ، ثُمَّ تُضْرَب...هـ


قال العلامة صديق حسن خان في تفسير البيان وهو يفسر الآية المذكورة ما نصه : فالأمور الثلاثة مرتبة أي لأنها لدفع الضرر ، كدفع الصائل ؛ فاعتُبَر فيها الأخف فالأخف ، وقيل إنه لا يهجرها إلا بعد عدم تأثير الوعظ ، فإن أثّر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر ، وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب..هـ


وقال البيضاوي رحمه الله في أنوار التنزيل وأسرار التأويل : (والأُمُورُ الثَّلاثَةُ مُرَتَّبَةٌ يَنْبَغِي أنْ يُتَدَرَّجَ فِيها...هـ
ـــــــ


مقيدات الضرب :
ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ قالَ في حَجَّةِ الوَداعِ: واتَّقُوا اللَّهَ في النِّساءِ، فَإنَّهُنَّ عَوانٌ عِنْدَكُمْ، ولَكم عَلَيْهِنَّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحَدًا تَكْرَهُونَه ُ، فَإنْ فَعَلْنَ فاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ» .


قال ابن كثير في تفسيره : ....
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي غَيْرَ مُؤَثِّرٍ. قَالَ الْفُقَهَاءُ: هُوَ أَلَا يَكْسِرَ فِيهَا عُضْوًا وَلَا يُؤَثِّرَ فِيهَا شَيْئًا.هـ


عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ذُباب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَا تَضْرِبوا إماءَ اللهِ". فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: ذئِرَت النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ. فَرَخَّصَ فِي ضَرْبِهِنَّ، فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَقَدْ أطافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
وصححه الشيخ الالباني في صحيح ابي دَاوُدَ وصحيح الجامع(7360)


وذكر البغوي رحمه الله عن عطاء : (ضربا بالسواك)
قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: هَذا مِن فِقْهِ عَطاءٍ وفَهْمِهِ الشَّرِيعَةَ ووُقُوفِهِ عَلى مَظانِّ الِاجْتِهادِ فعَلِمَ أنَّ الأمْرَ بِالضَّرْبِ هُنا أمْرُ إباحَةٍ، ووَقَفَ عَلى الكَراهِيَةِ مِن طَرِيقٍ أُخْرى كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «ولَنْ يَضْرِبَ خِيارُكم» .هـ أحكام القرآن .


قال ابن عاشور رحمه الله :
وأنا أرى لِعَطاءٍ نَظَرًا أوْسَعَ مِمّا رَآهُ لَهُ ابْنُ العَرَبِي ِّ: وهو أنَّهُ وضَعَ هاتِهِ الأشْياءَ مَواضِعَها بِحَسَبِ القَرائِنِ، ووافَقَهُ عَلى ذَلِكَ جَمْعٌ مِنَ العُلَماءِ
قالَ ابْنُ الفُرْسِ: وأنْكَرُوا الأحادِيثَ المَرْوِيَّةَ بِالضَّرْبِ. وأقُولُ: أوْ تَأوَّلُوها. والظّاهِرُ أنَّ الإذْنَ بِالضَّرْبِ لِمُراعاةِ أحْوالٍ دَقِيقَةٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَأذِنَ لِلزَّوْجِ بِضَرْبِ امْرَأتِهِ ضَرْبَ إصْلاحٍ لِقَصْدِ إقامَةِ المُعاشَرَةِ بَيْنَهُما؛ فَإنْ تَجاوَزَ ما تَقْتَضِيهِ حالَةُ نُشُوزِها كانَ مُعْتَدِيًا..هـ التحرير والتنوير
.


وهنا لفتة تدل على أن الإيذان بالضرب في نصوص الشريعة مصحوبٌ بمرهبات واقعية ؛ لأن للرجل حاجة شهوانية ، فلما أباح له الضرب ذكّرَه بتلك الحاجة لتجعله لا يطغى في الضرب من جهة ، أو ليستغني عنه ما أمكن من جهة أخرى ؛ وإلا فهل يُعقل أن يضربها ثم يطلبها من ليلتها للفراش؟!


لذلك كان هناك مُرَهِّبٌ نبوي حكيم يدلٌّ على أن الشريعة المحمدية لا تحرص على صيانة المجتمع فحسب ؛ بل تصون الفرد وتُراعي كرامته وما يختلج في صدره ؛ لا سيما الجنس الأنثوي الذي ندب الشارع في التعامل معهن إلى كمالات الرحمة وغاية الرفق واللين وعدم الكسر !


فتأمل هذا الحديث النبوي الذي يُراعي عواطف المرأة ويصون مروءة الرجل ويضبط العلاقة الفراشية بينهما ؛ لئلا تشعر المرأة أنها مهانة فتبثَّ من عينيْها شرارات الاستحقار لبعلِها وهو يضربها أول النهار ويعلوها آخر الليل!
فيحصل من هذا جرحٌ غائر لا يندمل !


وأعني بذلك ما أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ وجَماعَة ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قال َ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «أيَضْرِبُ أحَدُكُمُ امْرَأتَهُ كَما يُضْرَبُ العَبْدُ ثُمَّ يُجامِعُها في آخِرِ اليَوْمِ»؟!»
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاق ، عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها - بِلَفْظِ: «أما يَسْتَحِي أحَدُكم أنْ يَضْرِبَ امْرَأتَهُ كَما يُضْرَبُ العَبْدُ، يَضْرِبُها أوَّلَ النَّهارِ ثُمَّ يُجامِعُها آخِرَهُ»


ولك أن تتأمل ختم الآية بهذين الاسمين المناسبين للسياق : ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾


قال ابن كثير : تَهْدِيدٌ لِلرِّجَالِ إِذَا بَغَوْا عَلَى النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، فَإِنَّ اللَّهَ الْعَلِيَّ الْكَبِيرَ وَلِيُّهُنَّ وَهُوَ مُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُنَّ وَبَغَى عَلَيْهِنَّ. هـ


قال الإيجي في جامع البيان : فهو أقَدرَ عليكم منكم على أزواجكم، ويتجاوز عنكم ليلاً ونهارًا..هـ


كما أنّ ختم الآية بهذين الاسمين فيه إشعار بالترهيب ؛ قال القاسمي في محاسن التأويل :
﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ فاحْذَرُوه ُ، تَهْدِيدٌ لِلْأزْواجِ عَلى ظُلْمِ النِّسْوانِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ، فَإنَّهُنَّ - وإنْ ضَعُفْنَ عَنْ دَفْعِ ظُلْمِكُم ْ، وعَجَزْنَ عَنِ الِانْتِصافِ مِنكم - فاللَّهُ سُبْحانَهُ عَلِيٌّ قاهِرٌ كَبِيرٌ قادِرٌ، يَنْتَقِمُ مِمَّنْ ظَلَمَهُنَّ وبَغى عَلَيْهِن َّ، فَلا تَغْتَرُّوا بِكَوْنِكم أعْلى يَدًا مِنهُنَّ وأكْبَرَ دَرَجَةً مِنهُنّ ، فَإنَّ اللَّهَ أعْلى مِنكم وأقْدَرُ مِنكم عَلَيْهِن َّ، فَخَتْمُ الآيَةِ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ فِيهِ تَمامُ المُناسَبَة....هـ


وقال الرازي في مفاتيحه وهو يعدد فوائد الآية : الرّابِعُ: أنَّهُ مَعَ عُلُوِّهِ وكِبْرِيائِهِ لا يُؤاخِذُ العاصِي إذا تاب ، بَلْ يَغْفِرُ لَه ، فَإذا تابَتِ المَرْأةُ عَنْ نُشُوزِها فَأنْتُمْ أوْلى بِأنْ تَقْبَلُوا تَوْبَتَها وتَتْرُكُوا مُعاقَبَتَها.
الخامِسُ: أنَّهُ تَعالى مَعَ عُلُوِّهِ وكِبْرِيائِهِ اكْتَفى مِنَ العَبْدِ بِالظَّواهِر ، ولَمْ يَهْتِكِ السَّرائِر ، فَأنْتُمْ أوْلى أنْ تَكْتَفُوا بِظاهِرِ حالِ المَرْأةِ ، وأنْ لا تَقَعُوا في التَّفْتِيشِ عَمّا في قَلْبِها وضَمِيرِها مِنَ الحُبِّ والبُغْضِ.هـ


وقال الشوكاني رحمه الله في فتح القدير : إشارَةً إلى الأزْواجِ بِخَفْضِ الجَناحِ ولِينِ الجانِبِ ؛ أيْ: وإنْ كُنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلَيْهِنَّ فاذْكُرُوا قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْكم فَإنَّها فَوْقَ كُلِّ قُدْرَةٍ، واللَّهُ بِالمِرْصادِ لَكم..هـ


لذلك أجاز الفقهاء عند فشو حالة الضرب التي فيها ظلم وعدوان ورعونة وبطش ، أن يتدخل الولاة ويفرضوا لمنعه تعزيرات للحفاظ على حرمة المرأة أن تُنتهك ؛ وهذا التدخل ليس لمنع حُكمٍ إلهي قد أباحه الله للمصلحة ؛ ولكنه كفُّ يد بعض الجبارين الذين يستضعفون نساءهم ويضربوهن على كل كبيرة وصغيرة !


قال ابن عاشور في التحرير والتنوير : وأمّا الضَّرْبُ فَهو خَطِيرٌ وتَحْدِيدُهُ عَسِيرٌ، ولَكِنَّهُ أُذِنَ فِيهِ في حالَةِ ظُهُورِ الفَسادِ، لِأنَّ المَرْأةَ اعْتَدَتْ حِينَئِذٍ، ولَكِنْ يَجِبُ تَعْيِينُ حَدٍّ في ذَلِكَ، يُبَيَّنُ في الفِقْهِ، لِأنَّهُ لَوْ أُطْلِقَ لِلْأزْواجِ أنْ يَتَوَلَّوْهُ، وهم حِينَئِذٍ يَشْفُونَ غَضَبَهم، لَكانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ تَجاوُزِ الحَدِّ، إذْ قَلَّ مَن يُعاقِبُ عَلى قَدْرِ الذَّنْبِ، عَلى أنَّ أصْلَ قَواعِدِ الشَّرِيعَةِ لا تَسْمَحُ بِأنْ يَقْضِيَ أحَدٌ لِنَفْسِهِ لَوْلا الضَّرُورَةُ، بَيْدَ أنَّ الجُمْهُورَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِالسَّلامَةِ مِنَ الإضْرارِ، وبِصُدُورِهِ مِمَّنْ لا يُعَدُّ الضَّرْبُ بَيْنَهم إهانَةً وإضْرارًا. فَنَقُولُ: يَجُوزُ لِوُلاةِ الأُمُورِ إذا عَلِمُوا أنَّ الأزْواجَ لا يُحْسِنُونَ وضْعَ العُقُوباتِ الشَّرْعِيَّةِ مَواضِعَها، ولا الوُقُوفَ عِنْدَ حُدُودِها أنْ يَضْرِبُوا عَلى أيْدِيهِمُ اسْتِعْمالَ هَذِهِ العُقُوبَةِ، ويُعْلِنُوا لَهم أنَّ مَن ضَرَبَ امْرَأتَهُ عُوقِبَ، كَيْلا يَتَفاقَمَ أمْرُ الإضْرارِ بَيْنَ الأزْواجِ، لا سِيَّما عِنْدَ ضَعْفِ الوازِعِ.هـ


قلت : وهذا موكول إلى الولاة المسلمين الذين سلِم قصدهم من تعطيل الشريعة وبُغضها ؛ أما الذين يُبغضون أحكام الله ثم يجعلون ضرب المرأة جريمة دونما تفصيل ولا رجوع لحكم الله العليم الخبير ؛ فهؤلاء لا عبرة بما يقولون ولا يُلتفت إليهم ؛ ولحقوق المرأة جمعيات ، والكثير من هذه الجمعيات تُحركها أياد علمانية ماسونية قذرة ؛ جلُّ همها تعطيلُ أحكام الله وإقصاؤها عن الواقع وإلحاق كلِّ نقيصة بها !
فينبغي الحذر من هؤلاء المفسدين الذين يزعمون الإصلاح وجل همهم إلغاء الأحوال الشخصية وتعطيل المحاكم الشرعية في الدول التي لم يبق فيها من أحكام الإسلام غيرها .


وفي الختام أقول :
لا ينبغي للمسلم أن يكون ضرّاباً بغير حق ، كما لا ينبغي له أن يضرب بعنف فيؤتى الاسلام من قِبَله ؛ فكم تفاصحت الجمعيات الحقوقية التي تدّعي الدفاع عن المرأة لتسن القوانين للنهي عن الضرب فيما أسمته : [ العنف الأُسَري ] مستدلة على أحقيّتها بوقائعَ لجهالٍ من المسلمين وغيرهم قد بطشوا بنسائهم وأدموهن من الضرب !
فاتخذها هؤلاء العلمانيون فرصة للطعن في الاسلام !
وما علموا أن الجهل في أحكام الإسلام من بعض المسلمين قد طم وعم !
بل قد تجد بعض الحقوقيين من الكفار أعلم بأحكام الإسلام من بعض المنتسبين للدين !
فحريٌ بالمسلم أن يتعلم أحكام دينه من الكتاب والسنة وعلماء أهل السنة ، ويطبقها كما فهمها سلف الأمة ، فإنها بهذا التطبيق تتوافق مع الفِطر وتُرغِّبُ المنصفين في الدخول في الاسلام إن شهدوا عدل الله وحكمته ورحمته التي عكست آثارها على أتباع دينه والمنتسبين إليه .


هذا ما تيسر إعداده وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
كتبه : مصباح بن نزيه الحنون .
طرابلس الشام .
12/جمادى الأول/1438هـ..