لاشك أن رسالة الخطيب هي بيان القيم الإسلامية من خلال التوجيه والتربية على الأخلاق والآداب الفاضلة وجمع الكلمة، ورص الصف وبناء النفس، وأن يكون قدوة لهم في التمسك بتعاليم الدين الحنيف؛ وخاصة في بلاد خفتت فيها تلك المعاني الفاضلة وحيث تصبح فيها المسؤولية الملاقاة عليه أعظم والمهمة أكبر وهو ما نحاول بيانه في تلك الفقرات وبالله التوفيق:
دور المسجد:
كان وما يزال دور المسجد ومكانته في بناء الشخصية المسلمة، وكان أول ما باشر به الرسول الكريم هو بناء المسجد النبوي ليكون لبنة لبناء المجتمع الفاضل ولنشر رسالة المسجد إلى المعمورة، وعلى مر العصور لعب المسجد دورا هاما في توجيه المسلمين في شتى النواحي النفسية والروحية؛ ولكن هذا الدور أصبح مغيبا في بلاد المسلمين فضلا عن بلاد تنكرت للأديان السماوية فضلا عن رسالة الإسلام الخالدة والسبب يعود إلى جملة أمور لابد أن تؤخذ بنظر الاعتبار يشكل منها الخطيب والواعظ نصيبا منها من أجل إعادة دور المسجد الذي انطلق المسلمون منه لأجل تحقيق العبودية الخالصة، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ولا شريك له ومن تلك الأسباب.
1-إن عدم كفاءة بعض الأئمة والخطباء يؤثر بلا شك على سمعة الإسلام والمسلمين من خلال عدم تطبيقه لتعاليم الإسلام وبالتالي يعكس صورة خاطئة من خلال تعامله وعلاقاته أو من خلال توجيهه الخاطئ فيضيق فيما وسع الله به على الناس ويحرم فيما أحله الله لعدم تمكنه من فقه الواقع وفيما يصلح وما لا يصلح نظرا لقلة معلوماته وضيق افقه أو يتكلم بما لا يناسب حال من يخاطبهم ويعلمهم.
2-غياب العمل الجماعي وفقدان الرابطة الأخوية وضعف العلاقة بين الواعظ ورواد المسجد مما يشكل عاملا سلبيا على المدعوين حتى يفقد المسجد دوره في الحياة بل يفقدهم الهوية الإسلامية والذوبان في المجتمع الغربي بدلا من التأثير فيه.
إن الواعظ أو الخطيب هو المحرك والعامل على حب الحق والتمسك به، وهو من يوقظ المشاعر ويربي النفوس على معالي الأمور والثبات على معاني الإسلام؛ وخاصة في الظروف الصعبة والمواقف الحرجة؛ لأن ارتباطه المباشر بالمدعوين يمكّنه من أن يفعل ويؤثر بالحجة والبرهان وإزالة الشبهات وفض النزاعات وتوحيد الصف وجمع الكلمة من خلال مواعظه وخطبه التي تتضمن التشويق والتحذير والإنذار والكلمة والطيبة والخطبة المؤثرة والموعظة الهادفة والأسلوب الأمثل وامتثال القدوة الحسنة في الدعوة.
إن عمَلِيَّة الخطابة كانت في قرونٍ مضَتْ تُعالِج بِمَوضوعها وأسلوبها معظمَ الانْحِرافات العقَدِيَّة والاجتماعيَّة الَّتي تُصاب بها الأُمَّة، ومن خلال المنبر تسدُّ الخطابةُ معظم الثَّغرات التي تُعاني منها المُجتمَعات الإسلاميَّة بفضل ما كان الخطيبُ يتمتَّع به من شخصيَّة مؤثِّرةٍ فاعلة في المُجْتمع، وبفضل ما كان يتحَلَّى به من أخلاقٍ حَميدة، وصِفاتٍ جَليلة، من ورَعٍ وخُلق ودين، مما كان له الأثَرُ في سماع كلامه وتطبيقه من قبل مَن يذكرهم ويدعوهم (1) وذلك يمكن أن يتحقق في أمور منها:
1-الاهتمام بخطبة الجمعة من خلال طرح المواضيع الهادفة التي تحقق المقصود من توعية المسلمين وتربيتهم على معاني الإسلام ومن ذلك:
-التأكيد على معاني العقيدة الإسلامية وغرسها في النفوس كالإيمان بالله واليوم الأخر والجزاء والحساب مما له أبلغ الأثر في تزكية النفوس وحياة القلوب خاصة في بلاد أصبحت المادة بإشكالها هي المسيطرة على أذهان الناس واهتماماتهم والحذر من طرح ما لا يناسب أحوال المسلمين أو ما يعرضهم للأذى.
-مما يتوجب على الواعظ والخطيب أن يزيل الغشاوة عن أعين الناس في مسائل الدين والإحكام ويقوم بأسلوبه الحكيم في تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة عن الإسلام والمسلمين، ويفند الشبهات التي ألصقت به زورا وبهتانا؛ ليكون المسلم على بينة من أمره ليتحصن بالعلم النافع وتكون له نظرة صحيحة حول الإسلام وتعاليمه ليواجه بعض الأفكار الخاطئة وتكون له عونا على الثبات خاصة بعد تلك الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام بعد الإحداث الجسام وليكن دقيقا في تناوله المواضيع حريصا على دوام الخير واستمراره لا انقطاعه وزواله.
2-التأكيد على تطبيق معاني الإسلام وآدابه السمحة لأن الغرب ينظر إلى الإسلام من خلال من يحملونه ويدعون إليه وخاصة الواعظ إذ أنه يَعْكس الإسلام من خلال تعامله وخلقه، وقد اهتدى الكثيرُ - بفضل الله - بِما كان يتحلَّى به الخُطَباء من خُلقٍ إسلامي رفيع، وتعامُلٍ قائم على أساس الرَّحمة والحلم والعلم.
3-أن يوطد علاقته بجميع المصلين ورواد المسجد دون استثناء ويمد لهم يد العون والمساعدة في الدلالة على الخير ومن خلال السؤال عنهم وزيارتهم وتفقد أحوالهم ويكون أقرب إلى نفوسهم من الأب الحنون يحفزهم على الإيمان ويرسخه في نفوسهم، وإن رأى منهم فتورا رغبهم، وإن وقع أحدهم في خطاء أو ذنب فتح له باب الأمل والمسارعة إلى التوبة بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة وحذره من عاقبة الذنوب والبعد عن الطاعة.
4-أن يكون صدره رحبا للرأي المخالف، وأن يكون المثال في الحكمة والتعامل مع من حوله وأن لا يضيق ذرعا بمن يخالفه، وأن يكون توجيهه وتعليمه لكافة الفئات من طلاب وتجار ورجال ونساء، ويكون وسيلة مؤثرة في التقريب بين طبقات المجتمع كافة على أساس معاني الإسلام الواضحة وعقائده البينة والتي تسع عموم المسلمين لا وسيلة للتفريق والتشرذم.
الرفق أساس النجاح:
إن الرفق في التوجيه والنصح والاستماع إلى شكواهم ومحاولة منه لإيجاد الحلول لكل ما يعترض طريقهم؛ لأن الواعظ مثل الطبيب يحاول أن يصل إلى ما يعانون ويتسلل إلى قلوبهم ويضع الدواء والبلسم الشافي وأن يتصف بالرحمة والشفقة هي مِن أبرزِ صِفات الإمام الناجِح، وخاصَّةً مع رُوَّاد المسجد الجُدُد، فينظر إليهم كمن يَقِف على حافِّة وادٍ سحيق، فيَحميهم من السقوط والانحدار؛ لذا فهو يَبذُلُ جهدَه لانتشالهم، فيحبُّ لهم ما يحبُّ لنفسه مِن الهُدى، ولا يكفُّ عن نُصحهم وإرشادهم، وعمومًا لا بدَّ له من أن ينبضَ قلبُه بالرَّحْمة على مصلِّي المسجد، فلا يجرح، ولا يُشهِّر على المِنبر كلَّ مَن خالفه، ولا يكسِر الخواطر، ويَكشف الأسرار (2).
الكفاءة العلمية:
أن يكون ذو كفاءة علمية وله إلمام بفقه الواقع ومعرفة جيدة بأقوال العلماء المعاصرين واجتهاداتهم في مختلف القضايا والمستجدات الحاضرة أو ما يسمى بفقه التيسير ليتمكن من الإجابة الصحيحة ولئلا يقع في الفتوى بغير علم ويسبب الحرج والضيق على المصلين، ولذا ينبغي أن يكون حافظا لكتاب الله عالما بتفسيره والحديث وعلومه والمطلوب منه أن يعقد دروسا لتعليم الفرائض والسنن، وأن تكون له أنشطة وأن يشارك الناس مشاركة فعليه في أفراحهم ومختلف مناسباتهم وأحزانهم لا أن ينطوي في مسجده أو بيته تاركا المسلمين وشانهم
أخطاء يقع فيها بعض الخطباء:
- عدم التوازن في الخطاب الدعوي يحمل الكثير على أن تبقى عواطفه مشدودة إلى أمور خلافية أو سياسية فلا يمكنه أن يقدم للدعوة والمسلمين في الغرب شيئا فترى البعض يدعو على النصارى في خطبته (3) ويحثهم على التعبئة أو يستطرد في خطبه ومواعظه أحداث الشرق وما يجري فيها من تقلبات سياسية لا طائل من ورائها سوى تفريغ العواطف وعلى العكس نجد من يكرس خطبه للمواعظ الجافة؛ مع إن الإسلام هو بيان لأسلوب الحياة.
وأقول كيف يمكننا أن نكون دعاة هداية وحملة نور وخير والخطيب منا يكره أو يحقد؟! والواجب هو أن نحمل هموم أمتنا وقضايانا وأن نحس في الوقت ذاته أننا نعيش واقعا في بلاد الغرب يفرض علينا ممارسة دعوة يمكن أن يكون لها الأثر الايجابي بالنسبة لديننا الإسلامي مثل غرس العقيدة الصحيحة في النفوس والتدرج في التربية وهو المنهج الذي انطلق منه أصحاب رسول الله إلى العالم كافة حتى أصبحوا في الطليعة الأولى يحملون مشاعل النور إلى كافة البشرية.
-الفردية في العمل الدعوي وعدم التنسيق مع المؤسسات الدعوية التي تعمل في الغرب بسبب خلافات في الرأي بينما نرى أهل الباطل متعاونين في جهودهم وخبراتهم، وليعلم الواعظ أن العمل الجماعي يمكن أن يحقق من المصالح التي تهم الإسلام والمسلمين ما لا يمكن أن يحققه أفراد كثيرون والمسلم كثير بأخيه فلا بد من مرجعية يلجا إليه الخطيب أو الواعظ في الاستشارة والخبرة والمشورة فما خاب من استشار ولا ندم من استخار.
وأخيرا أقول: يَجِب على المراكز الإسلاميَّة في تلك البلاد تولِيَةُ وتوظيفُ الأصلَحِ والأنفَع؛ لأنَّه يَعْكس الإسلام من خلال تعامله وخلقه، والناس في تلك البلاد – كما نبهنا - ينظرون إلى الإسلام من خلال الواعظ والخطيب، وقد اهتدى الكثيرُ - بفضل الله - بِما كان يتحلَّى به الخُطَباء من خُلقٍ إسلامي رفيع، وتعامُلٍ قائم على أساس الرَّحمة والحلم والعلم.
____________
(1) من بحث لي بعنوان(خطيب لا يطبق ما يقوله )نشر على موقع الالوكة.
(2) من بحث لي بعنوان (إمام المسجد ودوره التربوي في رمضان )نشر على موقع الالوكة.
(3) ( كيف يمكن للمسلم أن يكون داعية لإنسان يتحرّج أن يبدأه بالسلام، أو يتكلّم معه بكلمة طيّبة، حتّى يظنّ غير المسلم أنّه ليس في قلب المسلم أيّة عاطفة نحو إنسان غير مسلم) للكاتب التجاني ميمون البوجي (رابطة الأئمة في اسبانيا ) من بحث له ماتع بعنوان (المسلمون في الغرب) وقد استفدت كثيرا من البحث المشار إليه.