تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 11 من 16 الأولىالأولى ... 2345678910111213141516 الأخيرةالأخيرة
النتائج 201 إلى 220 من 301

الموضوع: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

  1. #201
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    كتاب الأشربة " فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله
    المجلد العاشر باب 19/ ج5620
    الموافق 18/ رجب / 1441 هجري
    الموافق 12/ مارس / 2020 ميلادي

    (ج10/ ص 6)
    ‏والجمع أضحى وبه سمي يوم الأضحى، وهو يذكر ويؤنث، وكأن تسميتها اشتقت من اسم الوقت الذي تشرع فيه، وكأنه ترجم بالسنة إشارة إلى مخالفة من قال بوجوبها، قال ابن حزم‏:‏ لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين، وهي عند الشافعية والجمهور سنة مؤكدة على الكفاية، وفي وجه للشافعية من فروض الكفاية، وعن أبي حنيفة تجب على المقيم الموسر، وعن مالك مثله في رواية لكن لم يقيد بالمقيم، ونقل عن الأوزاعي والليث مثله، وخالف أبو يوسف من الحنفية وأشهب من المالكية فوافقا الجمهور‏.‏
    وقال أحمد‏:‏ يكره تركها مع القدرة، وعنه واجبة، وعن محمد بن الحسن هي سنة غير مرخص في تركها، قال الطحاوي وبه نأخذ، وليس في الآثار ما يدل على وجوبها ا هـ‏.‏
    وأقرب ما يتمسك به للوجوب حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ‏"‏ أخرجه ابن ماجه وأحمد ورجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك فليس صريحا في الإيجاب‏.‏
    وللترمذي محسنا من طريق جبلة بن سحيم أن رجلا سأل ابن عمر عن الأضحية‏:‏ أهي واجبة‏؟‏ فقال‏:‏ ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده، قال الترمذي‏:‏ العمل على هذا عند أهل العلم أن الأضحية ليست بواجبة، وكأنه فهم من كون ابن عمر لم يقل في الجواب نعم أنه لا يقول بالوجوب، فإن الفعل المجرد لا يدل على ذلك، وكأنه أشار بقوله ‏"‏ والمسلمون ‏"‏ إلى أنها ليست من الخصائص، وكان ابن عمر حريصا على اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك لم يصرح بعدم الوجوب، وقد احتج من قال بالوجوب بما ورد في حديث مخنف بن سليم رفعه ‏"‏ على أهل كل بيت أضحية ‏"‏ أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي، ولا حجة فيه لأن الصيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق، وقد ذكر معها العتيرة، ولبست بواجبة عند من قال بوجوب الأضحية‏.‏
    واستدل من قال بعدم الوجوب بحديث ابن عباس ‏"‏ كتب علي النحر ولم يكتب عليكم ‏"‏ وهو حديث ضعيف أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني والدار قطني وصححه الحاكم فذهل، وقد استوعبت طرقه ورجاله في ‏"‏ الخصائص ‏"‏ من تخريج أحاديث الرافعي، وسيأتي شيء من المباحث في وجوب الأضحية في الكلام على حديث البراء في حديث أبي بردة بن نيار بعد أبواب‏.‏
    ثم ذكر المصنف حديث البراء وأنس في أمر من ذبح قبل الصلاة بالإعادة،
    وحجة الجمهور حيث جبير بن مطعم رفعه ‏"‏ فجاج منى منحر، وفي كل أيام التشريق ذبح ‏"‏ أخرجه أحمد لكن في سنده انقطاع، ووصله الدار قطني ورجاله ثقات، واتفقوا على أنها تشرع ليلا كما تشرع نهارا إلا رواية عن مالك وعن أحمد أيضا‏.‏
    وقال ابن التين‏:‏ هو مذهب مالك أن الإمام يبرز أضحيته للمصلى فيذبح هناك، وبالغ بعض أصحابه وهو أبو مصعب فقال‏:‏ من لم يفعل ذلك لم يؤتم به‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ قال أبو حنيفة ومالك لا يذبح حتى يذبح الإمام إن كان ممن يذبح، قال ولم أر له دليلا‏.
    (ج9/ ص 13)
    وأخرج أبو داود من وجه آخر عن جابر ‏"‏ ذبح النبي صلى الله عليه وسلم كبشين أقرنين أملحين موجوءين‏"‏، قال‏:‏ الخطابي الموجوء - يعني بضم الجيم وبالهمز - منزوع الأنثيين، والوجاء الخصاء، وفيه جواز الخصي في الضحية، وقد كرهه بعض أهل العلم لنقص العضو، لكن ليس هذا عيبا لأن الخصاء يفيد اللحم طيبا وينفي عنه الزهومة وسوء الرائحة‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ حديث أبي سعيد يعني الذي أخرجه الترمذي بلفظ ‏"‏ ضحى بكبش فحل ‏"‏ أي كامل الخلقة لم تقطع أنثياه يرد رواية موجوءين، وتعقب باحتمال أن يكون ذلك وقع في وقتين‏.‏
    (ج10/ ص 14)
    وصله أبو نعيم في المستخرج من طريق أحمد بن حنبل عن عباد بن العوام أخبرني يحيى بن سعيد وهو الأنصاري ولفظه ‏"‏ كان المسلمون يشتري أحدهم الأضحية فيسمنها ويذبحها في آخر ذي الحجة ‏"‏ قال أحمد‏:‏ هذا الحديث عجيب، قال ابن التين كان بعض المالكية يكره تسمين الأضحية لئلا يتشبه باليهود، وقول أبي أمامة أحق، قاله الداودي‏.‏
    (ج10/ ص 15)
    قال الشافعية أن الأضحية بسبع شياه أفضل من البعير لأن الدم المراق فيها أكثر والثواب يزيد بحسبه، وأن من أراد أن يضحي بأكثر من واحد يعجله وحكى الروياني من الشافعية استحباب التفريق على أيام النحر، قال النووي‏:‏ هذا أرفق بالمساكين لكنه خلاف السنة، كذا قال والحديث دال على اختيار التثنية، ولا يلزم منه أن من أراد أن يضحي بعدد فضحى أول يوم باثنين ثم فرق البقية على أيام النحر أن يكون مخالفا للسنة وفيه أن الذكر في الأضحية أفضل من الأنثى وهو قول أحمد، وعنه رواية أن الأنثى أولى، وحكى الرافعي فيه قولين عن الشافعي أحدهما عن نصه في البويطي الذكر لأن لحمه أطيب وهذا هو الأصح، والثاني أن الأنثى أولى، قال الرافعي وإنما يذكر ذلك في جزاء الصيد عند التقويم، والأنثى أكثر قيمة فلا تفدى بالذكر، أو أراد الأنثى التي لم تلد‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ الأصح أفضلية الذكور على الإناث في الضحايا وقيل هما سواء، وفيه استحباب التضحية بالأقرن وأنه أفضل من الأجم مع الاتفاق على جواز التضحية بالأجم وهو الذي لا قرن له، واختلفوا في مكسور القرن‏.‏
    (ج10/ ص17)
    أخرج ابن منده من طريق جابر الجعفي عن الشعبي عن البراء قال ‏"‏ كان اسم خالي قليلا فسماه النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا‏.‏
    وقال‏:‏ يا كثير إنما نسكنا بعد صلاتنا
    (ج10/ ص 20)
    في الحديث أن الجذع من المعز لا يجزي وهو قول الجمهور، وعن عطاء وصاحبه الأوزاعي يجوز مطلقا، وهو وجه لبعض الشافعية حكاه الرافعي‏.‏
    وقال النووي‏:‏ وهو شاذ أو غلط، وأغرب عياض فحكى الإجماع على عدم الإجزاء، قيل والإجزاء مصادر للنص ولكن يحتمل أن يكون قائله قيد ذلك بمن لم يجد غيره، ويكون معنى نفي الإجزاء عن غير من أذن له في ذلك محمولا على من وجد، وأما الجذع من الضأن فقال الترمذي‏:‏ إن العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لكن حكى غيره عن ابن عمر والزهري أن الجذع لا يجزي مطلقا سواء كان من الضأن أم من غيره، وممن حكاه عن ابن عمر ابن المنذر في ‏"‏ الأشراف ‏"‏ وبه قال ابن حزم وعزاه لجماعة من السلف وأطنب في الرد على من أجازه، ويحتمل أن يكون ذلك أيضا مقيدا بمن لم يجد، وقد صح فيه حديث جابر رفعه ‏"‏ لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن ‏"‏ أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم لكن نقل النووي عن الجمهور أنهم حملوه على الأفضل، والتقدير يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فاذبحوا جذعة من الضأن‏.‏
    ال‏:‏ وليس فيه تصريح بمنع الجذعة من الضأن وأنها لا تجزي، قال‏:‏ وقد أجمعت الأمة على أن الحديث ليس على ظاهره، لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويله‏.‏
    قلت‏:‏ ويدل للجمهور الأحاديث الماضية قريبا، وكذا حديث أم هلال بنت هلال عن أبيها رفعه ‏"‏ يجوز الجذع من الضأن أضحية ‏"‏ أخرجه ابن ماجه، وحديث رجل من بني سليم يقال له مجاشع ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن الجذع يوفي ما يوفي منه الثني ‏"‏ أخرجه أبو داود وابن ماجه، وأخرجه النسائي من وجه آخر، لكن لم يسم الصحابي، بل وقع عنده أنه رجل من مزينة، وحديث معاذ بن عبد الله بن حبيب عن عقبة بن عامر ‏"‏ ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجذع من الضأن ‏"‏ أخرجه النسائي بسند قوي، وحديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ نعمت الأضحية الجذعة من الضأن ‏"‏ أخرجه الترمذي وفي سنده ضعف‏.‏
    واختلف القائلون بإجزاء الجذع من الضأن - وهم الجمهور - في سنه على آراء‏:‏ أحدها أنه ما أكمل سنة ودخل في الثانية وهو الأصح عند الشافعية وهو الأشهر عند أهل اللغة، ثانيها نصف قول الحنفية والحنابلة، ثالثها سبعة أشهر وحكاه صاحب ‏"‏ الهداية ‏"‏ من الحنفية عن الزعفراني، رابعها ستة أو سبعة حكاه الترمذي عن وكيع، خامسها التفرقة بين ما تولد بين شابين فيكون له نصف سنة أو بين هرمين فيكون ابن ثمانية، سادسها ابن عشر، سابعها لا يجزي حتى يكون عظيما حكاه ابن العربي وقال‏:‏ إنه مذهب باطل، كذا قال، وقد قال صاحب ‏"‏ الهداية ‏"‏ إنه إذا كانت عظيمة بحيث لو اختلطت بالثنيات اشتبهت على الناظر من بعيد أجزأت‏.‏
    وقال العبادي من الشافعية‏:‏ لو أجذع قبل السنة أي سقطت أسنانه أجزأ كما لو تمت السنة قبل أن يجذع ويكون ذلك كالبلوغ إما بالسن وإما بالاحتلام، وهكذا قال البغوي‏:‏ الجذع ما استكمل السنة أو جذع قبلها، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 21)
    وقال الخطابي‏:‏ لا يجوز أن يضحى بشاة واحدة عن اثنين، وادعى نسخ ما دل عليه حديث عائشة الآتي في ‏"‏ باب من ذبح ضحية غيره‏"‏، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ وفيه أن العمل وإن وافق نية حسنة لم يصح إلا إذا وقع على وفق الشرع‏.‏
    (ج10/ ص 25)
    ووقع لنا بعلو في خبرين كلاهما من طريق المسيب بن رافع ‏"‏ أن أبا موسى كان يأمر بناته أن يذبحن نسائكهن بأيديهن ‏"‏ وسنده صحيح، قال ابن التين‏:‏ فيه جواز ذبيحة المرأة، ونقل محمد عن مالك كراهته‏.‏
    قلت‏:‏ وقد سبق في الذبائح مبينا‏.‏
    وهذا الأثر مباين للترجمة، فيحتمل أن يكون محله في الترجمة التي قبلها أو أراد أن الأمر في ذلك على اختيار المضحي، وعن الشافعية الأولى للمرأة أن توكل في ذبح أضحيتها ولا تباشر الذبح بنفسها‏.‏
    (ج10/ ص 27)
    ال ابن دقيق العيد‏:‏‏:‏ فيه دليل على أن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى الأمر لم يعذر بالجهل، والفرق بين المأمورات والمنهيات أن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها، وذلك لا يحصل إلا بالفعل‏.‏
    والمقصود من المنهيات الكف عنها بسبب مفاسدها، ومع الجهل والنسيان لم يقصد المكلف فعلها فيعذر‏.‏
    (ج9/ ص 28)
    نقل الطحاوي عن مالك والأوزاعي والشافعي‏:‏ لا تجوز أضحية قبل أن يذبح الإمام، وهو معروف عن مالك والأوزاعي لا الشافعي، قال القرطبي‏:‏ ظواهر الأحاديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة، لكن لما رأى الشافعي أن من لا صلاة عيد عليه مخاطب بالتضحية حمل الصلاة على وقتها‏.‏
    وقال أبو حنيفة والليث‏:‏ لا ذبح قبل الصلاة، ويجوز بعدها ولو لم يذبح الإمام، وهو خالص بأهل المصر، فأما أهل القرى والبوادي فيدخل وقت الأضحية في حقهم إذا طلع الفجر الثاني‏.‏
    وقال مالك‏:‏ يذبحون إذا نحر أقرب أئمة القرى إليهم، فإن نحروا قبل أجزأهم‏.‏
    وقال عطاء وربيعة‏:‏ يذبح أهل القرى بعد طلوع الشمس‏.‏
    وقال أحمد وإسحاق‏:‏ إذا فرغ الإمام من الصلاة جازت الأضحية، وهو وجه للشافعية قوي من حيث الدليل وإن ضعفه بعضهم، ومثله قول الثوري‏:‏ يجوز بعد صلاة الإمام قبل خطبته وفي أثنائها، ويحتمل أن يكون قوله ‏"‏ حتى ينصرف ‏"‏ أي من الصلاة، كما في الروايات الأخر‏.‏
    وأصرح من ذلك ما وقع عند أحمد من طريق يزيد بن البراء عن أبيه رفعه ‏"‏ إنما الذبح بعد الصلاة ‏"‏ ووقع في حديث جندب عند مسلم ‏"‏ من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ‏"‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ هذا اللفظ أظهر في اعتبار فعل الصلاة من حديث البراء، أي حيث جاء فيه ‏"‏ من ذبح قبل الصلاة ‏"‏ قال‏:‏ لكن إن أجريناه على ظاهره اقتضى أن لا تجزئ الأضحية في حق من لم يصل العيد، فإن ذهب إليه أحد فهو أسعد الناس بظاهر هذا الحديث، وإلا وجب الخروج عن الظاهر في هذه الصورة ويبقى ما عداها في محل البحث‏.‏
    ويشهد لذلك قوله في حديث البراء ‏"‏ أن أول ما نصنع أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع فننحر ‏"‏ فإنه دال على أن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة، ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام‏.
    (ج9/ ص 33)
    وقد ورد في الادخار ‏"‏ كان يدخر لأهله قوت سنة ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ كان لا يدخر لغد ‏"‏ والأول في الصحيحين والثاني في مسلم، والجمع بينهما أنه كان لا يدخر لنفسه ويدخر لعياله، أو أن ذلك كان باختلاف الحال فيتركه عند حاجة الناس إليه ويفعله عند عدم الحاجة‏.‏
    عن الشافعي‏:‏ يستحب قسمتها أثلاثا لقوله ‏"‏ كلوا وتصدقوا وأطعموا ‏"‏ قال ابن عبد البر‏:‏ وكان غيره يقول‏:‏ يستحب أن يأكل النصف ويطعم النصف‏.‏
    وقد أخرج أبو الشيخ في ‏"‏ كتاب الأضاحي ‏"‏ من طريق عطاء بن يسار عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ من ضحى فليأكل من أضحيته ‏"‏ ورجاله ثقات لكن قال أبو حاتم الرازي‏:‏ الصواب عن عطاء مرسل‏.‏
    قال النووي‏:‏ مذهب الجمهور أنه لا يجب الأكل من الأضحية، وإنما الأمر فيه للإذن‏.‏
    وذهب بعض السلف إلى الأخذ بظاهر الأمر، وحكاه الماوردي عن أبي الطيب بن سلمة من الشافعية‏.‏
    وأما الصدقة منها فالصحيح أنه يجب التصدق من الأضحية يما يقع عليه الاسم، والأكمل أن يتصدق بمعظمها‏.‏
    (ج10/ ص 34)
    خذ المتأخرون من الشافعية، فقال الرافعي‏:‏ الظاهر أنه لا يحرم اليوم بحال، وتبعه النووي فقال في ‏"‏ شرح المهذب ‏"‏‏:‏ الصواب المعروف أنه لا يحرم الادخار اليوم بحال، وحكى في شرح مسلم عن جمهور العلماء أنه من نسخ السنة بالسنة، قال‏:‏ والصحيح نسخ النهي مطلقا وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة، فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث والأكل إلى متى شاء ا هـ
    (ج10/ ص 35)
    نقل ابن عبد البر ما يوافق ما نقله النووي فقال‏:‏ لا خلاف بين فقهاء المسلمين في إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وأن النهي عن ذلك منسوخ، كذا أطلق، وليس بجيد، فقد قال القرطبي‏:‏ حديث سلمة وعائشة نص على أن المنع كان لعلة، فلما ارتفعت ارتفع لارتفاع موجبه فتعين الأخذ به، وبعود الحكم تعود العلة، فلو قدم على أهل بلد ناس محتاجون في زمان الأضحى ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا تعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث‏.‏
    قلت‏:‏ والتقييد بالثلاث واقعة حال، وإلا فلو لم تستد الخلة إلا بتفرقة الجميع لزم على هذا التقرير عدم الإمساك ولو ليلة واحدة، وقد حكى الرافعي عن بعض الشافعية أن التحريم كان لعلة فلما زالت زال الحكم لكن لا يلزم عود الحكم عند عود العلة‏.‏
    (ج10/ ص 41)
    وذكر أبو جعفر النحاس أن بعضهم استدل لتحريم الخمر بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق‏)‏ وقد قال تعالى في الخمر والميسر ‏(‏فيهما إثم كبير ومنافع للناس‏)‏ فلما أخبر أن في الخمر إثما كبيرا ثم صرح بتحريم الإثم ثبت تحريم الخمر بذلك، قال‏:‏ وقول من قال إن الخمر تسمى الإثم لم نجد له أصلا في الحديث ولا في اللغة، ولا دلالة أيضا في قول الشاعر‏:‏ شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول فإنه أطلق الإثم على الخمر مجازا بمعنى أنه ينشأ عنها الإثم‏.‏
    واللغة الفصحى تأنيث الخمر، وأثبت أبو حاتم السجستاني وابن قتيبة وغيرهما جواز التذكير، ويقال لها الخمرة أثبته فيها جماعة من أهل اللغة منهم الجوهري‏.‏
    وقال ابن مالك في المثلث‏:‏ الخمرة هي الخمر في اللغة، وقيل‏:‏ سميت الخمر لأنها تغطي العقل وتخامره أي تخالطه، أو لأنها هي تخمر أي تغطى حتى تغلي، أو لأنها تختمر أي تدرك كما يقال للعجين اختم
    قول عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ والخمر ما خامر العقل
    (ج10/ ص 42)
    جائز أن يدخل الجنة بالعفو ثم لا يشرب فيها خمرا ولا تشتهيها نفسه وإن علم بوجودها فيها، ويؤيده حديث أبي سعيد مرفوعا ‏"‏ من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو ‏"‏ قلت‏:‏ أخرجه الطيالسي وصححه ابن حبان‏.‏
    وقريب منه حديث عبد الله بن عمرو رفعه ‏"‏ من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة ‏"‏ أخرجه أحمد بسند حسن، وقد لخص عياض كلام ابن عبد البر وزاد احتمالا آخر وهو أن المراد بحرمانه شربها أنه يحبس عن الجنة مدة إذا أراد الله عقوبته، ومثله الحديث الآخر ‏"‏ لم يرح رائحة الجنة ‏"‏ قال‏:‏ ومن قال لا يشربها في الجنة بأن ينساها أو لا يشتهيها يقول ليس عليه في ذلك حسرة ولا يكون ترل شهوته إياها عقوبة في حقه، بل هو نقص نعيم بالنسبة إلى من هو أتم نعيما منه كما تختلف درجاتهم، ولا يلحق من هو أنقص درجة حينئذ بمن هو أعلى درجة منه استغناء بما أعطي واغتباطا له‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ ظاهر الحديثين أنه لا يشرب الخمر في الجنة ولا يلبس الحرير فيها، وذلك لأنه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد به فحرمه عند ميقاته، كالوارث فإنه إذا قتل مورثه فإنه يحرم ميراثه لاستعجاله‏.‏
    وبهذا قال نفر من الصحابة ومن العلماء، وهو موضع احتمال وموقف إشكال، والله أعلم كيف يكون الحال‏.‏
    وفصل بعض المتأخرين بين من يشربها مستحلا فهو الذي لا يشربها أصلا لأنه لا يدخل الجنة أصلا، وعدم الدخول يستلزم حرمانها، وبين من يشربها عالما بتحريمها فهو محل الخلاف، وهو الذي يحرم شربها مدة ولو في حال تعذيبه إن عذب، أو المعنى أن ذلك جزاؤه إن جوزي والله أعلم‏.‏
    في الحديث أن التوبة تكفر المعاصي الكبائر، وهو في التوبة من الكفر قطعي وفي غيره من الذنوب خلاف بين أهل السنة هل هو قطعي أو ظني‏.‏
    قال النووي‏:‏ الأقوى أنه ظني‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ من استقرأ الشريعة علم أن الله يقبل توبة الصادقين قطعا‏.‏
    (ج10/ ص 45)
    ‏ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ هذا أشد ما ورد في شرب الخمر، وبه تعلق الخوارج فكفروا مرتكب الكبيرة عامدا عالما بالتحريم، وحمل أهل السنة الإيمان هنا على الكامل، لأن العاصي يصير أنقص حالا في الإيمان ممن لا يعصي، ويحتمل أن يكون المراد أن فاعل ذلك يئول أمره إلى ذهاب الإيمان، كما وقع في حديث عثمان الذي أوله ‏"‏ اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث - وفيه - وإنها لا تجتمع هي والإيمان إلا وأوشك أحدهما أن يخرج صاحبه ‏"‏ أخرجه البيهقي مرفوعا وموقوفا، وصححه ابن حبان مرفوعا‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ وإنما أدخل البخاري هذه الأحاديث المشتملة على الوعيد الشديد في هذا الباب ليكون عوضا عن حديث ابن عمر ‏"‏ كل مسكر حرام ‏"‏ وإنما لم يذكره في هذا الباب لكونه روي موقوفا، كذا قال، وفيه نظر، لأن في الوعيد قدرا زائدا على مطلق التحريم، وقد ذكر البخاري ما يؤدي معنى حديث ابن عمر
    (ج10/ ص 46)
    قال ابن المنير‏:‏ غرض البخاري الرد على الكوفيين إذ فرقوا بين ماء العنب وغيره فلم يحرموا من غيره إلا القدر المسكر خاصة، وزعموا أن الخمر ماء العنب خاصة، قال‏:‏ لكن في استدلاله بقول ابن عمر - يعني الذي أورده في الباب ‏"‏ حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء ‏"‏ - على أن الأنبذة التي كانت يومئذ تسمى خمرا نظر، بل هو بأن يدل على أن الخمر من العنب خاصة أجدر، لأنه قال‏:‏ وما منها بالمدينة شيء - يعني الخمر - وقد كانت الأنبذة من غير العنب موجودة حينئذ بالمدينة، فدل على أن الأنبذة ليست خمرا، إلا أن يقال إن كلام ابن عمر يتنزل على جواب قول من قال لا خمر إلا من العنب، فيقال‏:‏ قد حرمت الخمر وما بالمدينة من خمر العنب شيء، بل كان الموجود بها من الأشربة ما يصنع من البسر والتمر ونحو ذلك، وفهم الصحابة من تحريم الخمر تحريم ذلك كله، ولولا ذلك ما بادروا إلى إراقتها‏.‏
    وقد أخرج أبو نعيم في ‏"‏ الحلية ‏"‏ في ترجمة شعبة من حديث عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ حرم أبو بكر الخمر على نفسه فلم يشربها في جاهلية ولا إسلام
    (ج10/ ص 51)
    وأما دعوى بعضهم أن الخمر حقيقة في ماء العنب، مجاز في غيره، فإن سلم في اللغة لزم من قال به جواز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، والكوفيون لا يقولون بذلك انتهى‏.‏
    وأما من حيث الشرع فالخمر حقيقة في الجميع، لثبوت حديث ‏"‏ كل مسكر خمر ‏"‏ فمن زعم أنه جمع بين الحقيقة والمجاز في هذا اللفظ لزمه أن يجيزه، وهذا ما لا انفكاك لهم عنه‏.‏
    ن السكر المتخذ من غير العنب يحرم شرب قليله كما يحرم شرب القليل من المتخذ من العنب إذا أسكر كثيره، لأن الصحابة فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم ما يتخذ للسكر من جميع الأنواع، ولم يستفصلوا‏.‏
    وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين‏.‏
    وخالف في ذلك الحنفية ومن قال بقولهم من الكوفيين فقالوا‏:‏ يحرم المتخذ من العنب قليلا كان أو كثيرا إلا إذا طبخ
    وقد انعقد الإجماع على أن القليل من الخمر المتخذ من العنب يحرم قليله وكثيره، وعلى أن العلة في تحريم قليله كونه يدعو إلى تناول كثيره، فيلزم ذلك من فرق في الحكم بين المتخذ من العنب وبين المتخذ من غيرها فقال في المتخذ من العنب‏:‏ يحرم القليل منه والكثير إلا إذا طبخ
    (ج10/ ص 52)
    قال الشافعي‏:‏ قال لي بعض الناس الخمر حرام، والسكر من كل شراب حرام، ولا يحرم المسكر منه حتى يسكر، ولا يحد شاربها‏.‏
    فقلت‏:‏ كيف خالفت ما جاء به عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن عمر ثم عن علي ولم يقل أحد من الصحابة خلافه‏؟‏ قال‏:‏ وروينا عن عمر، قلت‏:‏ في سنده مجهول عنده فلا حجة فيه‏.‏
    قال البيهقي‏:‏ أشار إلى رواية سعيد بن ذي لعوة أنه شرب من سطيحة لعمر فكسر فجلده عمر، قال‏:‏ إنما شربت من سطيحتك‏.‏
    قال‏:‏ أضربك على السكر‏.‏
    وسعيد قال البخاري وغيره‏:‏ لا يعرف‏.‏
    قال‏:‏ وقال بعضهم سعيد بن ذي حدان، وهو غلط‏.‏
    ثم ذكر البيهقي الأحاديث التي جاءت في كسر النبيذ بالماء، منها حديث همام بن الحارث عن عمر ‏"‏ أنه كان في سفر، فأتي بنبيذ فشرب منه فقطب، ثم قال‏:‏ إن نبيذ الطائفة له عرام - بضم المهملة وتخفيف الراء - ثم دعا بماء فصبه عليه ثم شرب ‏"‏ وسنده قوي، وهو أصح شيء ورد في ذلك، وليس نصا في أنه بلغ حد الإسكار، فلو كان بلغ حد الإسكار لم يكن صب الماء عليه مزيلا لتحريمه، وقد اعترف الطحاوي بذلك فقال‏:‏ لو كان بلغ التحريم لكان لا يخل، ولو ذهبت شدته بصب الماء، فثبت أنه قبل أن يصب عليه الماء كان غير حرام‏.‏
    قلت‏:‏ وإذا لم يبلغ حد الإسكار فلا خلاف في إباحة شرب قليله وكثيره، فدل على أن تقطيبه لأمر غير الإسكار‏.‏
    قال البيهقي‏:‏ حمل هذه الأشربة على أنهم خشوا أن تتغير فتشتد، فجوزوا صب الماء فيها ليمتنع الاشتداد، أولى من حملها على أنها كانت بلغت حد الإسكار، فكان صب الماء عليها لذلك‏.‏
    لأن مزجها بالماء لا يمنع إسكارها إذا كانت قد بلغت حد الإسكار‏.‏
    ويحتمل أن يكون سبب صب الماء كون ذلك الشراب كان حمض، ولهذا قطب عمر لما شربه، فقد قال نافع‏:‏ والله ما قطب عمر وجهه لأجل الإسكار حين ذاقه، ولكنه كان تخلل‏.
    خرج النسائي والأثرم من طريق خالد بن سعد عن أبي مسعود قال‏:‏ عطش النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف فأتي بنبيذ من السقاية فقطب، فقيل‏:‏ أحرام هو‏؟‏ قال لا‏:‏ علي بذنوب من ماء زمزم، فصب عليه وشرب ‏"‏ قال الأثرم‏:‏ احتج به الكوفيون لمذهبهم، ولا حجة فيه، لأنهم متفقون على أن النبيذ إذا اشتد بغير طبخ لا يحل شربه، فإن زعموا أن الذي شربه النبي صلى الله عليه وسلم كان من هذا القبيل فقد نسبوا إليه أنه شرب المسكر، ومعاذ الله من ذلك‏.‏
    وإن زعموا أنه قطب من حموضته لم يكن لهم فيه حجة، لأن النقيع ما لم يشتد فكثيره وقليله حلال بالاتفاق‏.‏
    قلت‏:‏ وقد ضعف حديث أبي مسعود المذكور النسائي وأحمد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم، لتفرد يحيى بن يمان برفعه وهو ضعيف‏.‏
    (ج10/ ص 55)
    قال المازري‏:‏ أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال، وعلى أنه إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد حرم قليله وكثيره، ثم لو حصل له تخلل بنفسه حل بالإجماع أيضا، فوقع النظر في تبدل هذه الأحكام عند هذه المتخذات فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض، ودل على أن علة التحريم الإسكار فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناول قليله وكثيره انتهى‏.
    فعند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أسكر كثيره فقليله حرام ‏"‏ وللنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله، وسنده إلى عمرو صحيح‏.‏
    ولأبي داود من حديث عائشة مرفوعا، ‏"‏ كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ‏"‏ ولابن حبان والطحاوي من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره ‏"‏ وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث، لكن قال‏:‏ اختلفوا في تأويل الحديث، فقال بعضهم‏:‏ أراد به جنس ما يسكر‏.‏
    (ج10/ ص 56)
    حديث ابن عباس رفعه ‏"‏ حرمت الخمر قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب‏"‏‏.‏
    قلت‏:‏ وهو حديث أخرجه النسائي ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف في وصله وانقطاعه وفي رفعه ووقفه، وعلى تقدير صحته فقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية فيه بلفظ ‏"‏ والمسكر ‏"‏ بضم الميم وسكون السين لا ‏"‏ السكر
    (ج10/ص 57)
    معلى تقدير ثبوتها فهو حديث فرد ولفظه محتمل، فكيف يعارض عموم تلك الأحاديث مع صحتها وكثرتها‏؟‏ وجاء أيضا عن علي عند الدار قطني وعن ابن عمر عند ابن إسحاق والطبراني وعن خوات بن جبير عند الدار قطني والحاكم والطبراني وعن زيد بن ثابت عند الطبراني وفي أسانيدها مقال، لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها قوة وشهرة‏.‏
    قال أبو المظفر بن السمعاني - وكان حنفيا فتحول شافعيا -‏:‏ ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر، ثم ساق كثيرا منها ثم قال‏:‏ والأخبار في ذلك كثيرة ولا مساغ لأحد في العدول عنها والقول بخلافها، فإنها حجج قواطع‏.‏
    قال‏:‏ وقد زل الكوفيون في هذا الباب ورووا أخبارا معلولة لا تعارض هذه الأخبار بحال، ومن ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب مسكرا فقد دخل في أمر عظيم وباء بإثم كبير، وإنما الذي شربه كان حلوا ولم يكن مسكرا‏.‏
    وقد روى ثمامة بن حزن القشيري أنه ‏"‏ سأل عائشة عن النبيذ فدعت جارية حبشية فقالت‏:‏ سل هذه، فإنها كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الحبشية‏:‏ كنت أنبذ له في سقاء من الليل وأوكؤه وأعلقه فإذا أصبح شرب منه ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏
    (ج10/ ص 57)
    روى الحسن البصري عن أمه عن عائشة نحوه ثم قال‏:‏ فقياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والاضطراب من أجل الأقيسة وأوضحها، والمفاسد التي توجد في الخمر توجد في النبيذ، ومن ذلك أن علة الإسكار في الخمر لكون قليله يدعو إلى كثيره موجودة في النبيذ، لأن السكر مطلوب على العموم، والنبيذ عندهم عند عدم الخمر يقوم مقام الخمر لأن حصول الفرح والطرب موجود في كل منهما، وإن كان في النبيذ غلظ وكدرة وفي الخمر رقة وصفاء لكن الطبع يحتمل ذلك في النبيذ لحصول السكر كما تحتمل المرارة في الخمر لطلب السكر، قال‏:‏ وعلى الجملة فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر قل أو كثر مغنية عن القياس والله أعلم‏.‏
    وقد قال عبد الله بن المبارك‏:‏ لا يصح في حل النبيذ الذي يسكر كثيره عن الصحابة شيء ولا عن التابعين، إلا عن إبراهيم النخعي، قال‏:‏ وقد ثبت حديث عائشة ‏"‏ كل شراب أسكر فهو حرام ‏"‏ وأما ما أخر
    أخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي وائل‏:‏ كنا ندخل على ابن مسعود فيسقينا نبيذا شديدا، ومن طريق علقمة‏:‏ أكلت مع ابن مسعود فأتينا بنبيذ شديد نبذته سيرين فشربوا منه، فالجواب عنه من ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ لو حمل على ظاهره لم يكن معارضا للأحاديث الثابتة في تحريم كل مسكر‏.‏
    ثانيها‏:‏ أنه ثبت عن ابن مسعود تحريم المسكر قليله وكثيره، فإذا اختلف القليل عنه كان الموافق لقول إخوانه من الصحابة مع موافقة الحديث المرفوع أولى‏.‏
    ثالثها‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بالشدة شدة الحلاوة أو شدة الحموضة فلا يكون فيه حجة أصلا‏.‏
    وأسند أبو جعفر النحاس عن يحيى بن معين أن حديث عائشة ‏"‏ كل شراب أسكر فهو حرام ‏"‏ أصح شيء في الباب، وفي هذا تعقب على من نقل عن ابن معين أنه قال‏:‏ لا أصل له‏.‏
    وقد ذكر الزيلعي في ‏"‏ تخريج أحاديث الهداية ‏"‏ وهو من أكثرهم إطلاعا أنه لم يثبت في شيء من كتب الحديث نفل هذا عن ابن معين اهـ‏.‏
    وكيف يتأتى القول بتضعيفه مع وجود مخارجه الصحيحة ثم مع كثرة طرقه، حتى قال الإمام أحمد‏:‏ إنها جاءت عن عشرين صحابيا، فأورد كثيرا منها في ‏"‏ كتاب الأشربة ‏"‏ المفرد، فمنها ما تقدم ومنها حديث ابن عمر المتقدم ذكره أول الباب، وحديث عمر بلفظ ‏"‏ كل مسكر حرام ‏"‏ عند أبي يعلى وفيه الإفريقي، وحديث علي بلفظ ‏"‏ اجتنبوا ما أسكر ‏"‏ عند أحمد وهو حسن، وحديث ابن مسعود عند ابن ماجه من طريق لين بلفظ عمر، وأخرجه أحمد من وجه آخر لين أيضا بلفظ علي، وحديث أنس أخرجه أحمد بسند صحيح بلفظ ‏"‏ ما أسكر فهو حرام ‏"‏ وحديث أبي سعيد أخرجه البزار بسند صحيح بلفظ عمر، وحديث الأشج العصري أخرجه أبو يعلى كذلك بسند جيد وصححه ابن حبان، وحديث ديلم الحميري أخرجه أبو داود بسند حسن في حديث فيه ‏"‏ قال هل يسكر‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فاجتنبوه ‏"
    (ج10/ ص 58)
    وأخرج مسلم من طريق زاذان قال‏:‏ ‏"‏ سألت ابن عمر عن الأوعية فقلت‏:‏ أخبرناه بلغتكم وفسره لنا بلغتنا، فقال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحنتمة وهي الجرة، وعن الدباء وهي القرعة، وعن النقير وهي أصل النخلة تنقر نقرا، وعن المزفت وهو المقير‏"‏‏.‏
    (ج10/ ص 60)
    لو سلم أن الخمر في اللغة يختص بالمتخذ من العنب فالاعتبار بالحقيقة الشرعية وقد تواردت الأحاديث على أن المسكر من المتخذ من غير العنب يسمى خمرا، والحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة ‏"‏ قال البيهقي‏.‏
    ليس المراد الحصر فيهما لأنه ثبت أن الخمر تتخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره، وإنما فيه الإشارة إلى أن الخمر شرعا لا تختص بالمتخذ من العنب، قلت‏:‏ وجعل الطحاوي هذه الأحاديث متعارضة، وهي حديث أبي هريرة في أن الخمر من شيئين مع حديث عمر ومن وافقه أن الخمر تتخذ من غيرهما، وكذا حديث ابن عمر ‏"‏ لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء ‏"‏ وحديث أنس يعني المتقدم ذكره وبيان اختلاف ألفاظه منها‏:‏ ‏"‏ إن الخمر حرمت وشرابهم الفضيخ ‏"‏ وفي لفظ له ‏"‏ إنا نعدها يومئذ خمرا ‏"‏ وفي لفظ له ‏"‏ إن الخمر يوم حرمت البسر والتمر ‏"‏ قال فلما اختلف الصحابة في ذلك ووجدنا اتفاق الأمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد فهو خمر وأن مستحله كافر دل على أنهم لم يعملوا بحديث أبي هريرة، إذ لو عملوا به لكفروا مستحل نبيذ التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر غير المتخذ من عصير العنب اهـ‏.‏
    ولا يلزم من كونهم لم يكفروا مستحل نبيذ التمر أن يمنعوا تسميته خمرا فقد يشترك الشيئان في التسمية ويفترقان في بعض الأوصاف، مع أنه هو يوافق على أن حكم المسكر من نبيذ التمر حكم قليل العنب في التحريم، فلم تبق المشاححة إلا في التسمية‏.‏
    والجمع بين حديث أبي هريرة وغيره بحمل حديث أبي هريرة على الغالب؛ أي أكثر ما يتخذ الخمر من العنب والتمر،
    (ج10/ ص 60)
    وقد قال الراغب في ‏"‏ مفردات القرآن ‏"‏ سمي الخمر لكونه خامرا للعقل أي ساترا له، وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر وعند بعضهم للمتخذ من العنب خاصة، وعند بعضهم للمتخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم لغير المطبوخ، فرجح أن كل شيء يستر العقل يسمى خمرا حقيقة، وكذا قال أبو نصر بن القشيري في تفسيره‏:‏ سميت الخمر خمرا لسترها العقل أو لاختمارها‏.‏
    وكذا قال غير واحد من أهل اللغة منهم أبو حنيفة الدينوري وأبو نصر الجوهري، ونقل عن ابن الأعرابي قال‏:‏ سميت الخمر لأنها تركت حتى اختمرت، واختمارها تغير رائحتها‏.‏
    وقيل‏:‏ سميت بذلك لمخامرتها العقل‏.‏
    نعم جزم ابن سيده في ‏"‏ المحكم ‏"‏ بأن الخمر حقيقة إنما هي للعنب، وغيرها من المسكرات يسمى خمرا مجازا‏.‏
    وقال صاحب ‏"‏ الفائق ‏"‏ في حديث ‏"‏ إياكم والغبيراء فإنها خمر العالم ‏"‏ هي نبيذ الحبشة متخذة من الذرة سميت الغبيراء لما فيها من الغبرة‏.‏
    (ج10/ ص 61)
    وقال الخطابي‏:‏ زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم‏:‏ إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرا، عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحا لما أطلقوه‏.‏
    وقال ابن عبد البر‏:‏ قال الكوفيون إن الخمر من العنب لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏أعصر خمرا‏)‏ قال‏:‏ فدل على أن الخمر هو ما يعتصر لا ما ينتبذ، قال‏:‏ ولا دليل فيه على الحصر‏.‏
    وقال أهل المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم‏:‏ كل مسكر خمر وحكمه حكم ما اتخذ من العنب، ومن الحجة لهم أن القرآن لما نزل بتحريم الخمر فهم الصحابة وهم أهل اللسان أن كل شيء يسمى خمرا يدخل في النهي فأراقوا المتخذ من التمر والرطب ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب‏.‏
    وعلى تقدير التسليم فإذا ثبت تسمية كل مسكر خمرا من الشرع كان حقيقة شرعية وهي مقدمة على الحقيقة اللغوية‏.‏
    وعن الثانية ما تقدم من أن اختلاف مشتركين في الحكم في الغلظ لا يلزم منه افتراقهما في التسمية، كالزنا مثلا فإنه يصدق على من وطئ أجنبية وعلى من وطئ امرأة جاره، والثاني أغلظ من الأول، وعلى من وطئ محرما له وهو أغلظ، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة، وأيضا فالأحكام الفرعية لا يشترط فيها الأدلة القطعية، فلا يلزم من القطع بتحريم المتخذ من العنب، وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره، أن لا يكون حراما بل يحكم بتحريمه إذا ثبت بطريق ظني تحريمه، وكذا تسميته خمرا والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 62)
    ذهب بعض الشافعية إلى موافقة الكوفيين في دعواهم أن اسم الخمر خاص بما يتخذ من العنب مع مخالفتهم له في تفرقتهم في الحكم وقولهم بتحريم قليل ما أسكر كثيره من كل شراب، فقال الرافعي‏:‏ ذهب أكثر الشافعية إلى أن الخمر حقيقة فيما يتخذ من العنب مجاز في غيره، وخالفه ابن الرفعة فنقل عن المزني وابن أبي هريرة وأكثر الأصحاب أن الجميع يسمى خمرا حقيقة‏.‏
    قال‏:‏ وممن نقله عن أكثر الأصحاب القاضيان أبو الطيب والروياني، وأشار ابن الرفعة إلى أن النقل الذي عزاه الرافعي للأكثر لم يجد نقله عن الأكثر إلا في كلام الرافعي، ولم يتعقبه النووي في ‏"‏ الروضة‏"‏، لكن كلامه في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏ يوافقه وفي ‏"‏ تهذيب الأسماء ‏"‏ يخالفه، وقد نقل ابن المنذر عن الشافعي ما يوافق ما نقلوا عن المزني فقال‏:‏ قال إن الخمر من العنب ومن غير العنب عمر وعلي وسعيد وابن عمر وأبو موسى وأبو هريرة وابن عباس وعائشة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعروة والحسن وسعيد بن جبير وآخرون، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث، ويمكن الجمع بأن من أطلق على غير المتخذ من العنب حقيقة يكون أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية‏.‏
    وقد أجاب بهذا ابن عبد البر وقال‏:‏ إن الحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي دون اللغوي والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 65)
    ال أبو عبيد‏:‏ جاءت في الخمر آثار كثيرة بأسماء مختلفة فذكر منها السكر بفتحتين قال‏:‏ وهو نقيع التمر إذا غلى بغير طبخ، والجعة بكسر الجيم وتخفيف العين نبيذ الشعير، والسكركة خمر الحبشة من الذرة - إلى أن قال - وهذه الأشربة المسماة كلها عندي كناية عن الخمر، وهي داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها‏"‏، ويؤيد ذلك قول عمر‏:‏ ‏"‏ الخمر ما خامر العقل‏"‏‏.‏
    (ج10/ ص 67)
    وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد‏)‏ هكذا في جميع النسخ من الصحيح من جميع الروايات مع تنوعها عن الفربري، وكذا من رواية النسفي وحماد بن شاكر، وذهل الزركشي في توضيحه فقال‏:‏ معظم الرواة يذكرون هذا الحديث في البخاري معلقا، وقد أسنده أبو ذر عن شيوخه فقال‏:‏ ‏"‏ قال البخاري‏:‏ حدثنا الحسين بن إدريس حدثنا هشام بن عمار ‏"‏ قال‏:‏ فعلى هذا يكون الحديث صحيحا على شرط البخاري‏.‏
    وبذلك يرد على ابن حزم دعواه الانقطاع اهـ‏.‏
    وهذا الذي قاله خطأ نشأ عن عدم تأمل، وذلك أن القائل ‏"‏ حدثنا الحسين بن إدريس ‏"‏ هو العباس بن الفضل شيخ أبي ذر لا البخاري، ثم هو الحسين بضم أوله وزيادة التحتانية الساكنة وهو الهروي لقبه خرم بضم المعجمة وتشديد الراء، وهو من المكثرين، وإنما الذي وقع في رواية أبي ذر من الفائدة أنه استخرج هذا الحديث من رواية نفسه من غير طريق البخاري إلى هشام، على عادة الحفاظ إذا وقع لهم الحديث عاليا عن الطريق التي في الكتاب المروي لهم يوردونها عالية عقب الرواية النازلة، وكذلك إذا وقع في بعض أسانيد الكتاب المروي خلل ما من انقطاع أو غيره وكان عندهم من وجه آخر سالما أوردوه، فجرى أبو ذر على هذه الطريقة، فروى الحديث عن شيوخه الثلاثة عن الفربري عن البخاري قال‏:‏ ‏"‏ وقال هشام بن عمار ‏"‏ ولما فرغ من سياقه قال أبو ذر‏:‏ حدثنا أبو منصور الفضل بن العباس النضروي حدثنا الحسين بن إدريس حدثنا هشام بن عمار به ‏"‏ وأما دعوى ابن حزم التي أشار إليها فقد سبقه إليها ابن الصلاح في ‏"‏ علوم الحديث ‏"‏ فقال‏:‏ التعليق في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها، وصورته صورة الانقطاع وليس حكمه ولا خارجا - ما وجد ذلك فيه من قبيل الصحيح - إلى قبيل الضعيف، ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر وأبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف ‏"‏ الحديث من جهة أن البخاري أورده قائلا ‏"‏ قال هشام بن عمار ‏"‏ وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع اهـ‏.‏
    ولفظ ابن حزم في ‏"‏ المحلى ‏"‏‏:‏ ولم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد‏.‏
    حكى ابن الصلاح في موضع آخر أن الذي يقول البخاري فيه قال فلان ويسمي شيخا من شيوخه يكون من قبيل الإسناد المعنعن، وحكي عن بعض الحفاظ أنه يفعل ذلك فيما يتحمله عن شيخه مذاكرة، وعن بعضهم أنه فيما يرويه مناولة‏.‏
    وقد تعقب شيخنا الحافظ أبو الفضل كلام ابن الصلاح بأنه وجد في الصحيح عدة أحاديث يرويها البخاري عن بعض شيوخه قائلا قال فلان ويوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ‏.

    قلت‏:‏ الذي يورده البخاري من ذلك على أنحاء‏:‏ منها ما يصرح فيه بالسماع عن ذلك الشيخ بعينه إما في نفس الصحيح وإما خارجه، والسبب في الأول إما أن يكون أعاده في عدة أبواب وضاق عليه مخرجه فتصرف فيه حتى لا يعيده على صورة واحدة في مكانين، وفي الثاني أن لا يكون على شرطه إما لقصور في بعض رواته وإما لكونه موقوفا، ومنها ما يورده بواسطة عن ذلك الشيخ والسبب فيه كالأول، لكنه في غالب هذا لا يكون مكثرا عن ذلك الشيخ، ومنها ما لا يورده في مكان آخر من الصحيح مثل حديث الباب، فهذا مما كان أشكل أمره علي، والذي يظهر لي الآن أنه لقصور في سياقه، وهو هنا تردد هشام في اسم الصحابي
    وأما قول ابن الصلاح أن الذي يورده بصيغة ‏"‏ قال ‏"‏ حكمه حكم الإسناد المعنعن، والعنعنة من غير المدلس محمولة على الاتصال، وليس البخاري مدلسا، فيكون متصلا، فهو بحث وافقه عليه ابن منده والتزمه فقال‏:‏ أخرج البخاري ‏"‏ قال ‏"‏ وهو تدليس، وتعقبه شيخنا بأن أحدا لم يصف البخاري بالتدليس، والذي يظهر لي أن مراد ابن منده أن صورته صورة التدليس لأنه يورده بالصيغة المحتملة ويوجد بينه وبينه واسطة وهذا هو التدليس بعينه، لكن الشأن في تسليم أن هذه الصيغة من غير المدلس لها حكم العنعنة فقد قال الخطيب‏:‏ وهو المرجوع إليه في الفن أن ‏"‏ قال ‏"‏ لا تحمل على السماع إلا ممن عرف من عادته أنه يأتي بها في موضع السماع، مثل حجاج بن محمد الأعور، فعلى هذا ففارقت العنعنة فلا تعطى حكمها ولا يترتب عليه أثرها من التدليس ولا سيما ممن عرف من عادته أن يوردها لغرض غير التدليس، وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم يكون صحيحا إلى من علق عنه ولو لم يكن من شيوخه، لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولا إلى من علقه بشرط الصحة أزال الإشكال، ولهذا عنيت في ابتداء الأمر بهذا النوع وصنفت كتاب ‏"‏ تعليق التعليق‏"‏‏.‏
    وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي وفي كلامه على علوم الحديث أن حديث هشام بن عمار جاء عنه موصولا في ‏"‏ مستخرج الإسماعيلي ‏"‏
    ننبه فيه على موضعين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الطبراني أخرج الحديث في معجمه الكبير عن موسى بن سهل الجويني وعن جعفر بن محمد الفريابي كلاهما عن هشام، والمعجم الكبير أشهر من مسند الشاميين فعزوه إليه أولى، وأيضا فقد أخرجه أبو نعيم في مستخرجه على البخاري من رواية عبدان بن محمد المروزي ومن رواية أبي بكر الباغندي كلاهما عن هشام، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن الحسين بن عبد الله القطان عن هشام‏.‏
    ثانيهما‏:‏ قوله‏:‏ إن أبا داود أخرجه يوهم أنه عند أبي داود باللفظ الذي وقع فيه النزاع وهو المعازف، وليس كذلك بل لم يذكر فيه الخمر الذي وقعت ترجمة البخاري لأجله فإن لفظه عند أبي داود بالسند المذكور إلى عبد الرحمن بن يزيد ‏"‏ حدثنا عطية بن قيس سمعت عبد الرحمن بن غنم الأشعري يقول حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني أنه سمع رسول الله يقول‏:‏ ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر - وذكر كلاما قال - يمسخ منهم قردة وخنازير إلى يوم القيامة ‏"‏ نعم ساق الإسماعيلي الحديث من هذا الوجه من رواية دحيم عن بشر بن بكر بهذا الإسناد فقال‏:‏ ‏"‏ يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ‏"‏ الحديث‏.‏
    (ج10/ ص 70)
    ونقل القرطبي عن الجوهري أن المعازف الغناء، والذي في صحاحه أنها آلات اللهو، وقيل‏:‏ أصوات الملاهي‏.‏
    وفي حواشي الدمياطي‏:‏ المعازف الدفوف وغيرها مما يضرب به، ويطلق على الغناء عزف، وعلى كل لعب عزف، ووقع في رواية مالك بن أبي مريم ‏"‏ تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف‏"‏‏.‏
    (ج10/ ص 71)
    ‏ويضع العلم‏)‏ أي يوقعه عليهم‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ إن كان العلم جبلا فيدكدكه وإن كان بناء فيهدمه ونحو ذلك‏.‏
    وأغرب ابن العربي فشرحه على أنه بكسر العين وسكون اللام فقال‏:‏ وضع العلم إما بذهاب أهله كما سيأتي في حديث عبد الله بن عمرو، وإما بإهانة أهله بتسليط الفجرة عليهم‏.‏
    (ج10/ ص 71)
    والعلة في تحريم الخمر الإسكار، فمهما وجد الإسكار وجد التحريم ولو لم يستمر الاسم‏.‏
    قال ابن العربي‏:‏ هو أصل في أن الأحكام إنما تتعلق بمعاني الأسماء لا بألقابها، ردا على من حمله على اللفظ‏.
    (ج10/ ص 72)
    ‏شارة إلى أن النقيع يسمى نبيذا، فيحمل ما ورد في الأخبار بلفظ النبيذ على النقيع، وقد ترجم له بعد قليل ‏"‏ باب نقيع التمر ما لم يسكر ‏"‏ قال المهلب‏:‏ النقيع حلال ما لم يشتد فإذا اشتد وغلى حرم‏.‏
    وشرط الحنفية أن يقذف بالزبد، قال‏:‏ وإذا نقع من الليل وشرب النهار أو بالعكس لم يشتد، وفيه حديث عائشة، يشير إلى ما أخرجه مسلم عن عائشة ‏"‏ كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء توكي أعلاه فيشربه عشاء، وتنبذه عشاء فيشربه غدوة ‏"‏ وعند أبي داود من وجه آخر عن عائشة أنها ‏"‏ كانت تنبذ للنبي صلى الله عليه وسلم غدوة، فإذا كان من العشي تعشى فشرب على عشائه، فإن فضل شيء صبته ثم تنبذ له بالليل، فإذا أصبح وتغدى شرب على غدائه، قالت نغسل السقاء غدوة وعشية ‏"‏ وفي حديث عبد الله بن الديلمي عن أبيه ‏"‏ قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما نصنع بالزبيب‏؟‏ قال‏:‏ انبذوه على عشائكم، واشربوه على غدائكم ‏"‏ أخرجه أبو داود والنسائي‏.‏
    فهذه الأحاديث فيها التقييد باليوم والليلة‏.‏
    (ج10/ ص 79)
    وقال ابن قرقول‏:‏ الباذق المطبوخ من عصير العنب إذا أسكر، أو إذا طبخ بعد أن اشتد‏.‏
    وذكر ابن سيده في ‏"‏ المحكم ‏"‏ أنه من أسماء الخمر، وأغرب الداودي فقال‏:‏ إنه يشبه الفقاع إلا أنه ربما اشتد وأسكر، وكلام من أعرف منه بذلك يخالفه، ويقال للباذق أيضا المثلث إشارة إلى أنه ذهب منه بالطبخ ثلثاه، وكذلك المنصف وهو ما ذهب نصفه، وتسميه العجم مينختج بفتح الميم وسكون التحتانية وضم الموحدة وسكون المعجمة وفتح المثناة وآخره جيم، ومنهم من يضم المثناة، وروايته في مصنف ابن أبي شيبة بدال بدل المثناة وبحذف الميم والياء من أوله‏.‏
    (ج10/ ص 80)
    فإن النار لا تحل شيئا قد حرم ‏"‏ وهذا يقيد ما أطلق في الآثار الماضية، وهو أن الذي يطبخ إنما هو العصير الطري قبل أن يتخمر، أما لو صار خمرا فطبخ فإن الطبخ لا يطهره ولا يحله إلا على رأي من يجيز تخليل الخمر، والجمهور على خلافه، وحجتهم الحديث الصحيح عن أنس وأبي طلحة أخرجه مسلم‏.‏
    وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي من طريق سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي ‏"‏ اشرب العصير ما لم يغل ‏"‏ وعن الحسن البصري ‏"‏ ما لم يتغير ‏"‏ وهذا قول كثير من السلف أنه إذا بدأ فيه التغير يمتنع، وعلامة ذلك أن يأخذ في الغليان، وبهذا قال أبو يوسف، وقيل إذا انتهى غليانه وابتدأ في الهدو بعد الغليان، وقيل إذا سكن غليانه‏.‏
    وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يحرم عصير العنب النيئ حتى يغلي ويقذف بالزبد‏.‏
    فإذا غلى وقذف بالزبد حرم‏.‏
    وأما المطبوخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فلا يمتنع مطلقا ولو غلى وقذف بالزبد بعد الطبخ‏.‏
    وقال مالك والشافعي والجمهور‏:‏ يمتنع إذا صار مسكرا شرب قليله وكثيره سواء غلى أم لم يغل، لأنه يجوز أن يبلغ حد الإسكار بأن يغلي ثم يسكن غليانه بعد ذلك، وهو مراد من قال‏:‏ حد منع شربه أن يتغير والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 83)
    قال أبو الليث السمرقندي‏:‏ شارب المطبوخ إذا كان يسكر أعظم ذنبا من شارب الخمر لأن شارب الخمر يشربها وهو يعلم أنه عاص بشربها، وشارب المطبوخ يشرب المسكر ويراه حلالا، وقد قام الإجماع على أن قليل الخمر وكثيره حرام، وثبت قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏كل مسكر حرام ‏"‏ ومن استحل ما هو حرام بالإجماع كفر‏.‏
    قلت‏:‏ وقد سبق إلى نحو هذا بعض قدماء الشعراء في أول المائة الثالثة فقال يعرض ببعض من كان يفتي بإباحة المطبوخ‏:‏ وأشربها وأزعمها حراما وأرجو عفو رب ذي امتنان ويشربها ويزعمها حلالا وتلك على المسيء خطيئتان
    (ج10/ ص 87)
    ال النووي‏:‏ وذهب أصحابنا وغيرهم من العلماء إلى أن سبب النهي عن الخليط أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يشتد فيظن الشارب أنه لم يبلغ حد الإسكار، ويكون قد بلغه‏.‏
    قال‏:‏ ومذهب الجمهور أن النهي، في ذلك للتنزيه‏.‏
    وإنما يمتنع إذا صار مسكرا، ولا تخفى علامته‏.‏
    وقال بعض المالكية‏.‏
    هو للتحريم‏.‏
    واختلف في خلط نبيذ البسر الذي لم يشتد مع نبيذ التمر الذي لم يشتد عند الشرب هل يمتنع أو يختص النهي عن الخلط عند الانتباذ‏؟‏ فقال الجمهور‏:‏ لا فرق‏.‏
    وقال الليث‏:‏ لا بأس بذلك عند الشرب‏.‏
    ونقل ابن التين عن الداودي أن سبب النهي أن النبيذ يكون حلوا، فإذا أضيف إليه الآخر أسرعت إليه الشدة‏.‏
    وهذه صورة أخرى، كأنه يخص النهي بما إذا نبذ أحدهما ثم أضيف إليه الآخر، لا ما إذا نبذا معا‏.‏
    واختلف في الخليطين من الأشربة غير النبيذ، فحكى ابن التين عن بعض الفقهاء أنه كره أن يخلط للمريض شرابين، ورده بأنهما لا يسرع إليهما الإسكار اجتماعا وانفرادا، وتعقب باحتمال أن يكون قائل ذلك يرى أن العلة الإسراف كما تقدم، لكن لا يقيد هذا في مسألة المريض بما إذا كان المفرد كافيا في دواء ذلك المرض، وإلا فلا مانع حينئذ من التركيب‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ ثبت تحريم الخمر لما يحدث عنها من السكر، وجواز النبيذ الحلو الذي لا يحدث عنه سكر، وثبت النهي عن الانتباذ في الأوعية ثم نسخ، وعن الخليطين فاختلف العلماء‏:‏ فقال أحمد وإسحاق وأكثر الشافعية بالتحريم ولو لم يسكر‏.‏
    وقال الكوفيون بالحل‏.‏
    قال‏:‏ واتفق علماؤنا على الكراهة، لكن اختلقوا هل هو للتحريم أو للتنزيه‏؟‏ واختلف في علة المنع‏:‏ فقيل لأن أحدهما يشد الآخر، وقيل لأن الإسكار يسرع إليهما‏.‏
    قال ولا خلاف أن العسل باللبن ليس بخليطين، لأن اللبن لا ينبذ، لكن قال ابن عبد الحكم‏:‏ لا يجوز خلط شرابي سكر كالورد والجلاب وهو ضعيف‏.‏
    قال‏:‏ واختلفوا في الخليطين لأجل التخليل، ثم قال‏:‏ ويتحصل لنا أربع صور‏:‏ أن يكون الخليطان منصوصين فهو حرام، أو منصوص ومسكوت عنه فإن كان كل منهما لو انفرد أسكر فهو حرام قياسا على المنصوص، أو مسكوت عنهما وكل منهما لو انفرد لم يسكر جاز‏.‏
    قال‏:‏ وهنا مرتبة رابعة وهي ما لو خلط شيئين وأضاف إليهما دواء يمنع الإسكار فيجوز في المسكوت عنه ويكره في المنصوص‏.‏
    وما نقله عن أكثر الشافعية وجد نص الشافعي بما يوافقه فقال‏:‏ ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الخليطين، فلا يجوز بحال‏.‏
    وعن مالك قال‏:‏ أدركت على ذلك أهل العلم ببلدنا‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ ذهب إلى تحريم الخليطين وإن لم يكن الشراب منهما مسكرا جماعة عملا بظاهر الحديث، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق، وظاهر مذهب الشافعي‏.‏
    وقالوا‏:‏ من شرب الخليطين أثم من جهة واحدة، فإن كان بعد الشدة أثم من جهتين، وخص الليث النهي بما إذا نبذ معا اهـ‏.‏
    وجرى ابن حزم على عادته في الجمود فخص النهي عن الخليطين بخلط واحد من خمسة أشياء وهي‏:‏ التمر والرطب والزهو والبسر والزبيب في أحدها أو في غيرها، فأما لو خلط واحد من غيرها في واحد من غيرها لم يمتنع كاللبن والعسل مثلا، ويرد عليه ما أخرجه أحمد في الأشربة من طريق المختار بن فلفل عن أنس قال‏:‏ ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين شيئين نبيذا مما يبغي أحدهما على صاحبه ‏"‏ وقال القرطبي‏:‏ النهي عن الخليطين ظاهر في التحريم، وهو قول جمهور فقهاء الأمصار، وعن مالك يكره فقط، وشذ من قال لا بأس به لأن كلا منهما يحل منفردا فلا يكره مجتمعا، قال‏:‏ وهذه مخالفة للنص، وقياس مع وجود الفارق، فهو فاسد من وجهين‏.‏
    (ج10/ ص 90)
    وأحسن الأجوبة في شرب النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن مع كون الراعي أخبرهم أن الغنم لغيره أنه كان في عرفهم التسامح بذلك، أو كان صاحبها أذن للراعي أن يسقي من يمر به إذا التمس ذلك منه‏.‏
    وقيل فيه احتمالات أخرى تقدمت‏
    (ج10/ ص 92)
    قال ابن المنير‏:‏ لم يذكر السر في عدوله عن العسل إلى اللبن كما ذكر السر في عدوله عن الخمر، ولعل السر في ذلك كون اللبن أنفع، وبه يشتد العظم وينبت اللحم، وهو بمجرده قوت، ولا يدخل في السرف بوجه، وهو أقرب إلى الزهد، ولا منافاة بينه وبين الورع بوجه‏.‏
    والعسل وإن كان حلالا لكنه من المستلذات التي قد يخشى على صاحبها أن يندرج في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏أذهبتم طيباتكم‏)‏ ‏.‏
    قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون السر فيه ما وقع في بعض طرق الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم عطش - كما تقدم في بعض طرقه مبينا هناك - فأتي بالأقداح، فآثر اللبن دون غيره لما فيه من حصول حاجته دون الخمر والعسل، فهذا هو السبب الأصلي في إيثار اللبن، وصادف مع ذلك رجحانه عليهما من عدة جهات‏.‏
    ال ابن المنير‏:‏ ولا يعكر على ما ذكرته ما سيأتي قريبا أنه كان يحب الحلوى والعسل، لأنه إنما كان يحبه مقتصدا في تناوله لا في جعله ديدنا ولا تنطعا‏.‏
    ويؤخذ من قول جبريل في الخمر ‏"‏ غوت أمتك ‏"‏ أن الخمر ينشأ عنها الغي، ولا يختص ذلك بقدر معين‏.‏
    (ج10/ ص 94)
    قال ابن بطال‏:‏ استعذاب الماء لا ينافي الزهد ولا يدخل في الترفه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه فقد كرهه مالك لما فيه من السرف، وأما شرب الماء الحلو وطلبه فمباح، فقد فعله الصالحون‏.‏
    وليس في شرب الماء الملح فضيلة، قال‏:‏ وفيه دلالة على أن استطابة الأطعمة جائزة وأن ذلك من فعل أهل الخير، وقد ثبت أن قوله تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏)‏ نزل في الذين أرادوا الامتناع من لذائذ المطاعم، قال‏:‏ ولو كانت مما لا يريد الله تناوله ما امتن بها على عباده، بل نهيه عن تحريمها يدل على أنه أراد منهم تناولها ليقابلوا نعمته بها عليهم بالشكر لها، وإن كانت نعمه لا يكافئها شكرهم‏.‏
    وقال ابن المنير‏:‏ أما أن استعذاب الماء لا ينافي الزهد والورع فواضح، وأما الاستدلال بذلك على لذيذ الأطعمة فبعيد‏.‏
    وقال ابن التين‏:‏ هذا الحديث أصل في جواز شرب الماء من البستان بغير ثمن‏.‏
    قلت‏:‏ المأذون له في الدخول فيه لا شك فيه، وأما غيره فلما اقتضاه العرف من المسامحة بذلك، وثبوت ذلك بالفعل المذكور فيه نظر‏.‏
    (ج10/ ص 95)
    قدم في الشرب من طريق شعيب عن الزهري في هذا الحديث ‏"‏ فقال عمر وخاف أن يعطيه الأعرابي‏:‏ أعط أبا بكر ‏"‏ وفي رواية أبي طوالة ‏"‏ فقال عمر هذا أبو بكر ‏"‏ قال الخطابي وغيره‏:‏ كانت العادة جارية لملوك الجاهلية ورؤسائهم بتقديم الأيمن في الشرب، حتى قال عمرو بن كلثوم في قصيدة له‏:‏ ‏"‏ وكان الكأس مجراها اليمينا ‏"‏ فخشي عمر لذلك أن يقدم الأعرابي على أبي بكر في الشرب فنبه عليه لأنه احتمل عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر تقديم أبي بكر على تلك العادة فتصير السنة تقديم الأفضل في الشرب على الأيمن، فبين النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله أن تلك العادة لم تغيرها السنة، وأنها مستمرة، وأن الأيمن يقدم على الأفضل في ذلك‏.‏
    واستنبط بعضهم من تكرار الأيمن أن السنة إعطاء من على اليمين ثم الذي يليه وهلم جرا، ويلزم منه أن يكون عمر في الصورة التي وردت في هذا الحديث شرب بعد الأعرابي ثم شرب أبو بكر بعده‏.‏
    لكن الظاهر عن عمر إيثاره أبا بكر بتقديمه عليه‏.‏
    والله أعلم‏.



    في الحديث من الفوائد غير ما ذكر أن من سبق إلى مجلس علم أو مجلس رئيس لا ينحى منه لمجيء من هو أولى منه بالجلوس في الموضع المذكور، بل يجلس الآتي حيث انتهى به المجلس، لكن إن آثره السابق جاز، وأن من استحق شيئا لما يدفع عنه إلا بإذنه كبيرا كان أو صغيرا إذا كان ممن يجوز إذنه‏.‏
    وفيه أن الجلساء شركاء فيما يقرب إليهم على سبيل الفضل لا اللزوم، للإجماع على أن المطالبة بذلك لا تجب قاله ابن عبد البر، ومحله ما إذا لم يكن فيهم الإمام أو من يقوم مقامه، فإن كان فالتصرف في ذلك له‏.‏
    وفيه دخول الكبير بيت خادمه وصاحبه ولو كان صغير السن وتناوله مما عندهم من طعام وشراب من غير بحث‏.‏
    (ج10/ ص97)
    ما أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا بها ‏"‏ الحديث ولكن في سنده ضعف، فإن كان محفوظا فالنهي فيه للتنزيه، والفعل لبيان الجواز، أو قصة جابر قبل النهي، أو النهي في غير حال الضرورة، وهذا الفعل كان لضرورة شرب الماء الذي ليس ببارد فيشرب بالكرع لضرورة العطش لئلا تكرهه نفسه إذا تكررت الجرع، فقد لا يبلغ الغرض من الري، أشار إلى هذا الأخير ابن بطال، وإنما قيل للشرب بالفم كرع لأنه فعل البهائم لشربها بأفواهها والغالب أنها تدخل أكارعها حينئذ في الماء، ووقع عند ابن ماجه من وجه آخر عن ابن عمر فقال‏:‏ ‏"‏ نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا ‏"‏ وهو الكرع، وسنده أيضا ضعيف، فهذا إن ثبت احتمل أن يكون النهي خاصا بهذه الصورة، وهي أن يكون الشارب منبطحا على بطنه، ويحمل حديث جابر على الشرب بالفم من مكان عال لا يحتاج إلى الانبطاح‏.‏
    ووقع في رواية أحمد ‏"‏ وإلا تجرعنا ‏"‏ بمثناة وجيم وتشديد الراء أي شربنا جرعة جرعة، وهذا قد يعكر على الاحتمال المذكور‏.‏
    ال المهلب‏:‏ في الحديث أنه لا بأس بشرب الماء البارد في اليوم الحار، وهو من جملة النعم التي امتن الله بها على عباده، وقد أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة‏:‏ ألم أصح جسمك، وأرويك من الماء البارد ‏"‏‏؟‏
    (ج10/ ص 99)
    وقال ابن بطال‏:‏ الحلوى كل شيء حلو، وهو كما قال، لكن استقر العرف على تسمية ما لا يشرب من أنواع الحلو حلوى ولأنواع ما يشرب مشروب ونقيع أو نحو ذلك، ولا يلزم مما قال اختصاص الحلوى بالمشروب‏.‏
    (ج10/ ص 100)
    وقال الله تعالى‏:‏ ‏(‏ويحرم عليهم الخبائث‏)‏ والرجس من جملة الخبائث، ويرد على استدلال الزهري جواز أكل الميتة عند الشدة وهي رجس أيضا، ولهذا قال ابن بطال‏:‏ الفقهاء على خلاف قول الزهري، وأشد حال البول أن يكون في النجاسة والتحريم مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، ولم يختلفوا في جواز تناولها عند الضرورة‏.‏
    وأجاب بعض العلماء عن الزهري باحتمال أنه كان يرى أن القياس لا يدخل الرخص، والرخصة في الميتة لا في البول‏.‏
    قلت‏:‏ وليس هذا بعيدا من مذهب الزهري، فقد أخرج البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من رواية ابن أخي الزهري قال‏:‏ كان الزهري يصوم يوم عاشوراء في السفر، فقيل له أنت تفطر في رمضان إذا كنت مسافرا، فقال‏:‏ إن الله تعالى قال في رمضان ‏(‏فعدة من أيام أخر‏)‏ وليس ذلك لعاشوراء‏.‏
    قال ابن التين‏:‏ وقد يقال إن الميتة لسد الرمق، والبول لا يدفع العطش، فإن صح هذا صح ما قال الزهري إذ لا فائدة فيه‏.
    (ج10/ ص 101)
    ما أخرجه الطبراني من طريق قتادة قال‏:‏ السكر خمور الأعاجم،
    د رويت الأثر المذكور في ‏"‏ فوائد علي بن حرب الطائي ‏"‏ عن سفيان بن عيينة عن منصور عن أبي وائل قال‏:‏ اشتكى رجل منا يقال له خثيم بن العداء داء ببطنه يقال له الصفر فنعت له السكر، فأرسل إلى ابن مسعود يسأله، فذكره‏.‏
    وأخرجه ابن أبي شيبة عن جرير عن منصور وسنده صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه أحمد في كتاب الأشربة والطبراني في الكبير من طريق أبي وائل نحوه، وروينا في ‏"‏ نسخة داود بن نصير الطائي ‏"‏ بسند صحيح عن مسروق قال‏:‏ ‏"‏ قال عبد الله هو ابن مسعود‏:‏ لا تسقوا أولادكم الخمر فإنهم ولدوا على الفطرة، وإن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ‏"‏ وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن مسعود كذلك، وهذا يؤيد ما قلناه أولا في تفسير السكر‏.‏
    (ج10/ ص 101)
    كذا قال النووي في الفرق بين جواز إساغة اللقمة لمن شرق بها بالجرعة من الخمر فيجوز وبين التداوي بها فلا يجوز لأن الإساغة تتحقق بها بخلاف الشفاء فإنه لا يتحقق‏.‏
    ونقل الطحاوي عن الشافعي أنه قال‏:‏ لا يجوز سد الرمق من الجوع ولا من العطش بالخمر لأنها لا تزيده إلا جوعا وعطشا، ولأنها تذهب بالعقل‏.‏
    وتعقبه بأنه إن كانت لا تسد من الجوع ولا تروي من العطش لم يرد السؤال أصلا، وأما إذهابها العقل فليس البحث فيه بل هو فيما يسد به الرمق وقد لا يبلغ إلى حد إذهاب العقل‏.‏
    قلت‏:‏ والذي يظهر أن الشافعي أراد أن يردد الأمر بأن التناول منها إن كان يسيرا فهو لا يغني من الجوع ولا يروي من العطش، وإن كانت كثيرا فهو يذهب العقل، ولا يمكن القول بجواز التداوي بما يذهب العقل لأنه يستلزم أن يتداوى من شيء فيقع في أشد منه‏.‏
    وقد اختلف في جواز شرب الخمر للتداوي وللعطش، قال مالك لا يشربها لأنها لا تزيده إلا عطشا، وهذا هو الأصح عند الشافعية، لكن التعليل يقتضي قصر المنع على المتخذ من شيء يكون بطبعه حارا كالعنب والزبيب، أما المتخذ من شيء بارد كالشعير فلا‏.‏
    وأما التداوي فإن بعضهم قال إن المنافع التي كانت فيها قبل التحريم سلبت بعد التحريم بدليل الحديث المتقدم ذكره، وأيضا فتحريمها مجزوم به، وكونها دواء مشكوك بل يترجح أنها ليست بدواء بإطلاق الحديث‏.‏
    ثم الخلاف إنما هو فيما لا يسكر منها‏.‏
    أما ما يسكر منها فإنه لا يجوز تعاطيه في التداوي إلا في صورة واحدة وهو من اضطر إلى إزالة عقله لقطع عضو من الأكلة والعياذ بالله، فقد أطلق الرافعي تخريجه على الخلاف في التداوي، وصحح النووي هنا الجواز، وينبغي أن يكون محله فيما إذا تعين ذاك طريقا إلى سلامة بقية الأعضاء ولم يجد مرقدا غيرها، وقد صرح من أجاز التداوي بالثاني، وأجازه الحنفية مطلقا لأن الضرورة تبيح الميتة وهي لا يمكن أن تنقلب إلى حالة تحل فيها، فالخمر التي من شأنها أن تنقلب خلا فتصير حلالا أولى، وعن بعض المالكية إن دعته إليها ضرورة يغلب على ظنه أنه يتخلص بشربها جاز كما لو غص بلقمة، والأصح عند الشافعية في الغص الجواز‏.‏
    وهذا ليس من التداوي المحض
    (ج10/ ص 102)
    قال ابن بطال‏:‏ أشار بهذه الترجمة إلى أنه لم يصح عنده الأحاديث الواردة في كراهة الشرب قائما‏.‏
    كذا قال، وليس بجيد، بل الذي يشبه صنيعه أنه إذا تعارضت عنده الأحاديث لا يثبت الحكم‏
    (ج10/ ص 104)
    عن علي أنه شرب قائما، فرأى الناس كأنهم أنكروه فقال‏:‏ ما تنظرون أن أشرب قائما‏؟‏ فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما، وإن شربت قاعدا فقد رأيته يشرب قاعدا ‏"‏ ووقع في رواية النسائي والإسماعيلي زيادة في آخر الحديث من طرق عن شعبة ‏"‏ وهذا وضوء من لم يحدث ‏"‏ وهي على شرط الصحيح، وكذا ثبت في رواية الأعمش عند الترمذي‏.‏
    واستدل بهذا الحديث على جواز الشرب للقائم، وقد عارض ذلك أحاديث صريحة في النهي عنه‏.‏
    ومنها عند مسلم عن أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما ‏"‏ ومثله عنده عن أبي سعيد بلفظ ‏"‏ نهى ‏"‏ ومثله للترمذي وحسنه من حديث الجارود، ولمسلم من طريق أبي غطفان عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسي فليستقيء‏"‏، وأخرجه أحمد من وجه آخر وصححه ابن حبان من طريق أبي صالح عنه بلفظ ‏"‏ لو يعلم الذي يشرب وهو قائم لاستقاء ‏"‏ ولأحمد من وجه آخر عن أبي هريرة ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يشرب قائما فقال‏:‏ قه، قال‏:‏ لمه‏؟‏ قال‏:‏ أيسرك أن يشرب معك الهر‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏
    قال قد شرب معك من هو شر منه، الشيطان ‏"‏ وهو من رواية شعبة عن أبي زياد الطحان مولى الحسن بن علي عنه، وأبو زياد لا يعرف اسمه، وقد وثقه يحيى بن معين‏.‏
    وأخرج مسلم من طريق قتادة عن أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب الرجل قائما، قال قتادة فقلنا لأنس‏:‏ فالأكل‏؟‏ قال ذاك أشر وأخبث ‏"‏ قيل‏:‏ وإنما جعل الأكل أشر لطول زمنه بالنسبة لزمن الشرب‏.‏
    فهذا ما ورد في المنع من ذلك‏.‏
    (ج10/ ص 105)
    ال المازري‏:‏ اختلف الناس في هذا، فذهب الجمهور إلى الجواز، وكرهه قوم، فقال بعض شيوخنا‏:‏ لعل النهي ينصرف لمن أتى أصحابه بماء فبادر لشربه قائما قبلهم استبدادا به وخروجا عن كون ساقي القوم آخرهم شربا‏.‏
    قال‏:‏ وأيضا فإن الأمر في حديث أبي هريرة بالاستقاء لا خلاف بين أهل العلم في أنه ليس على أحد أن يستقيء‏.‏
    قال وقال بعض الشيوخ‏:‏ الأظهر أنه موقوف على أبي هريرة‏.‏
    قال‏:‏ وتضمن حديث أنس الأكل أيضا، ولا خلاف في جواز الأكل قائما‏.‏
    قال‏:‏ والذي يظهر لي أن أحاديث شربه قائما تدل على الجواز، وأحاديث النهي تحمل على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل‏.‏
    أو لأن في الشرب قائما ضررا فأنكره من أجله وفعله هو لأمنه، قال‏:‏ وعلى هذا الثاني يحمل قوله‏:‏ ‏"‏ فمن نسي فليستقيء ‏"‏ على أن ذلك يحرك خلطا يكون القيء دواءه‏.‏
    ويؤيده قول النخعي‏:‏ إنما نهى عن ذلك لداء البطن‏.‏
    انتهى ملخصا‏.‏
    وقال عياض‏:‏ لم يخرج مالك ولا البخاري أحاديث النهي، وأخرجها مسلم من رواية قتادة عن أنس ومن روايته عن أبي عيسى عن أبي سعيد وهو معنعن، وكان شعبة يتقي من حديث قتادة ما لا يصرح فيه بالتحديث، وأبو عيسى غير مشهور، واضطراب قتادة فيه مما يعله مع مخالفة الأحاديث الأخرى والأئمة له‏.‏
    وأما حديث أبي هريرة ففي سنده عمر بن حمزة ولا يحتمل منه مثل هذا لمخالفة غيره له، والصحيح أنه موقوف‏.‏
    انتهى ملخصا‏.‏
    ووقع للنووي ما ملخصه‏:‏ هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالا باطلة، وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعف بعضها، ولا وجه لإشاعة الغلطات، بل يذكر الصواب ويشار إلى التحذير عن الغلط، وليس في الأحاديث إشكال ولا فيها ضعيف، بل الصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه، وشربه قائما لبيان الجواز، وأما من زعم نسخا أو غيره فقد غلط، فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ، وفعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز لا يكون في حقه مكروها أصلا، فإنه كان يفعل الشيء للبيان مرة أو مرات، ويواظب على الأفضل، والأمر بالاستقاءة محمول على الاستحباب، فيستحب لمن شرب قائما أن يستقيء لهذا الحديث الصحيح الصريح، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب‏.‏
    وأما قول عياض‏:‏ لا خلاف بين أهل العلم في أن من شرب قائما ليس عليه أن يتقيأ، وأشار به إلى تضعيف الحديث، فلا يلتفت إلى إشارته، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع من استحبابه، فمن ادعى منع الاستحباب بالإجماع فهو مجازف، وكيف تترك السنة الصحيحة بالتوهمات، والدعاوى والترهات‏؟‏ اهـ وليس في كلام عياض التعرض للاستحباب أصلا، بل ونقل الاتفاق المذكور إنما هو كلام المازري كما مضى، وأما تضعيف عياض للأحاديث فلم يتشاغل النووي بالجواب عنه‏.‏
    (ج10/ ص 105)
    ثبت الشرب قائما عن عمر أخرجه الطبري، وفي ‏"‏ الموطأ ‏"‏ أن عمر وعثمان وعليا كانوا يشربون قياما وكان سعد وعائشة لا يرون بذلك بأسا، وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين‏.‏
    وسلك العلماء في ذلك مسالك‏:‏ أحدها‏:‏ الترجيح وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي، وهذه طريقة أبي بكر الأثرم
    المسلك الثاني‏:‏ دعوى النسخ، وإليها جنح الأثرم وابن شاهين فقررا
    على أن أحاديث النهي - على تقدير ثبوتها - منسوخة بأحاديث الجواز بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومنظم الصحابة والتابعين بالجواز، وقد عكس ذلك ابن حزم فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي متمسكا بأن الجواز على وفق الأصل وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع‏.‏
    فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان، فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال‏.‏
    وسلك آخرون في الجمع حمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه وأحاديث الجواز على بيانه، وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين، وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض، وقد أشار الأثرم إلى ذلك أخيرا فقال‏:‏ إن ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم، وبذلك جزم الطبري وأيده بأنه لو كان جائزا ثم حرمه أو كان حراما ثم جوزه لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بيانا واضحا، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينها بهذا‏.‏
    وقيل إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به، فإن الشرب قاعدا أمكن وأبعد من الشرق وحصول الوجع في الكبد أو الحلق، وكل ذلك قد لا يأمن منه من شرب قائما‏.‏
    (ج10/ ص 109)
    أن السنة تقديم الأيمن ولو كان مفضولا بالنسبة إلى من على اليسار، وقد وقع في حديث ابن عباس في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم تلطف به حيث قال له ‏"‏ الشربة لك، وإن شئت آثرت بها خالدا ‏"‏ كذا في السنن، وفي لفظ لأحمد ‏"‏ وإن شئت آثرت به عمك ‏"‏ وإنما أطلق عليه عمه لكونه أسن منه، ولعل سنه كان قريبا من سن العباس، وإن كان من جهة أخرى من أقرانه لكونه ابن خالته، وكان خالد مع رياسته في الجاهلية وشرفه في قومه قد تأخر إسلامه فلذلك استأذن له، بخلاف أبي بكر فإن رسوخ قدمه في الإسلام وسبقه يقتضي طمأنينته بجميع ما يقع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتأثر لشيء من ذلك، ولهذا لم يستأذن الأعرابي له، ولعله خشي من استئذانه أن يتوهم إرادة صرفه إلى بقية الحاضرين بعد أبي بكر دونه، فربما سبق إلى قلبه من أجل قرب عهده بالإسلام شيء فجرى صلى الله عليه وسلم على عادته في تأليف من هذا سبيله، وليس ببعيد أنه كان من كبراء قومه ولهذا جلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك‏.‏
    وفي الحديث أن سنة الشرب العامة تقديم الأيمن في كل موطن، وأن تقديم الذي على اليمين ليس لمعنى فيه بل لمعنى في جهة اليمين وهو فضلها على جهة اليسار، فيؤخذ منه أن ذلك ليس ترجيحا لمن هو على اليمين بل هو ترجيح لجهته،
    قد يعارض حديث سهل هذا وحديث أنس الذي في الباب قبله وحديث سهل بن أبي خيثمة الآتي في القسامة ‏"‏ كبر كبر ‏"‏ وتقدم في الطهارة حديث ابن عمر في الأمر بمناولة السواك الأكبر، وأخص من ذلك حديث ابن عباس الذي أخرجه أبو يعلى بسند قوي قال‏:‏ ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال ابدءوا بالكبير ‏"‏ ويجمع بأنه محمول على الحالة التي يجلسون فيها متساوين إما بين يدي الكبير أو عن يساره كلهم أو خلفه أو حيث لا يكون فيهم، فتخص هذه الصورة من عموم تقديم الأيمن، أو يخص من عموم هذا الأمر بالبداءة بالكبير ما إذا جلس بعض عن يمين الرئيس وبعض عن يساره، ففي هذه الصورة يقدم الصغير على الكبير والمفضول على الفاضل‏.‏
    قال ابن المنير‏:‏ تفضيل اليمين شرعي وتفضيل اليسار طبعي وإن كان ورد به الشرع لكن الأول أدخل في التعبد، ويؤخذ من الحديث أنه إذا تعارضت فضيلة الفاعل وفضيلة الوظيفة اعتبرت فضيلة الوظيفة كما لو قدمت جنازتان لرجل وامرأة وولي المرأة أفضل من ولي الرجل قدم ولي الرجل ولو كان مفضولا لأن الجنازة هي الوظيفة فتعتبر أفضليتها لا أفضلية المصلي عليها، قال‏:‏ ولعل السر فيه أن الرجولية والميمنة أمر يقطع به كل أحد، بخلاف أفضلية الفاعل فإن الأصل فيه الظن ولو كان مقطوعا به في نفس الأمر لكنه مما يخفى مثله عن بعض‏.‏
    (ج10/ ص 110)
    يؤخذ منه جواز الإيثار بمثل ذلك، وهو مشكل على ما اشتهر من أنه لا إيثار بالقرب، وعبارة إمام الحرمين في هذا‏:‏ لا يجوز التبرع في العبادات ويجوز في غيرها‏.‏
    وقد يقال إن القرب أعم من العبادة، وقد أورد على هذه القاعدة تجويز جذب واحد من الصف الأول ليصلي معه ليخرج الجاذب عن أن يكون مصليا خلف الصف وحده لثبوت الزجر عن ذلك، ففي مساعدة المجذوب للجاذب إيثار بقربة كانت له وهي تحصيل فضيلة الصف الأول ليحصل فضيلة تحصل للجاذب وهي الخروج من الخلاف في بطلان صلاته‏.‏
    ويمكن الجواب بأنه لا إيثار، إذ حقيقة الإيثار إعطاء ما استحقه لغيره، وهذا لم يعط الجاذب شيئا وإنما رجح مصلحته على مصلحته، لأن مساعدة الجاذب على تحصيل مقصود، ليس فيه إعطاؤه ما كان يحصل للمجذوب لو لم يوافقه، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص113)
    (‏أن يشرب من في السقاء‏)‏ زاد أحمد عن إسماعيل بهذا الإسناد والمتن ‏"‏ قال أيوب فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية ‏"‏ وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية عباد بن موسى عن إسماعيل ووهم الحاكم فأخرج الحديث في ‏"‏ المستدرك ‏"‏ بزيادته والزيادة المذكورة ليست على شرط الصحيح لأن راويها لم يسم وليست موصولة، ولكن أخرجها ابن ماجه من رواية سلمة بن وهرام عن عكرمة بنحو المرفوع، وفي آخره ‏"‏ وإن رجلا قام من الليل بعد النهي إلى سقاء فاختنثه فخرجت عليه منه حية ‏"‏ وهذا صريح في أن ذلك وقع بعد النهي، بخلاف ما تقدم من رواية ابن أبي ذئب في أن ذلك كان سبب النهي، ويمكن الجمع بأن يكون ذلك وقع قبل النهي فكان من أسباب النهي، ثم وقع بعد النهي تأكيدا‏.‏
    وقال النووي‏:‏ اتفقوا على أن النهي هنا للتنزيه لا للتحريم، كذا قال، وفي نقل الاتفاق نظر
    نقل ابن التين وغيره عن مالك أنه أجاز الشرب من أفواه القرب وقال‏:‏ لم يبلغني فيه نهي، وبالغ ابن بطال في رد هذا القول، واعتذر عنه ابن المنير باحتمال أنه كان لا يحمل النهي فيه على التحريم، كذا قال مع النقل عن مالك أنه لم يبلغه فيه نهي، فالاعتذار عنه بهذا القول أولى، والحجة قائمة على من بلغه النهي، قال النووي‏:‏ ويؤيد كون هذا النهي للتنزيه أحاديث الرخصة في ذلك‏.‏
    قلت‏:‏ لم أر في شيء من الأحاديث المرفوعة ما يدل على الجواز إلا من فعله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث النهي كلها من قوله‏.‏
    فهي أرجح إذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك، فإن جميع ما ذكره العلماء في ذلك يقتضي أنه مأمون منه صلى الله عليه وسلم، أما أولا فلعصمته ولطيب نكهته، وأما ثانيا فلرفقه في صب الماء وبيان ذلك بسياق ما ورد في علة النهي، فمنها ما تقدم من أنه لا يؤمن دخول شيء من الهوام مع الماء في جوف السقاء فيدخل فم الشارب وهو لا يشعر، وهذا يقتضي أنه لو ملأ السقاء وهو يشاهد الماء يدخل فيه ثم ربطه ربطا محكما ثم لما أراد أن يشرب حله فشربه منه لا يتناوله النهي، ومنها ما أخرجه الحاكم من حديث عائشة بسند قوي بلفظ ‏"‏ نهى أن يشرب من في السقاء لأن ذلك ينتنه ‏"‏ وهذا يقتضي أن يكون النهي خاصا بمن يشرب فيتنفس داخل الإناء أو باشر بفمه باطن السقاء، أما من صب من القربة داخل فمه من غير مماسة فلا، ومنها أن الذي يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء فينصب منه أكثر من حاجته فلا يأمن أن يشرق به أو تبتل ثيابه، قال ابن العربي‏:‏ وواحدة من الثلاثة تكفي في ثبوت الكراهة، وبمجموعها تقوى الكراهة جدا‏.‏
    وقال الشيخ محمد بن أبي جمرة ما ملخصه‏:‏ اختلف في علة النهي فقيل‏:‏ يخشى أن يكون في الوعاء حيوان أو ينصب بقوة فيشرق به أو يقطع العروق الضعيفة التي بإزاء القلب فربما كان سبب الهلاك أو بما يتعلق بفم السقاء من بخار النفس أو بما يخالط الماء من ريق الشارب فيتقذره غيره أو لأن الوعاء يفسد بذلك في العادة فيكون من إضاعة المال، قال‏:‏ والذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور وفيها ما يقتضي الكراهة وفيها ما يقتضي التحريم، والقاعدة في مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم، وقد جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي وحمل أحاديث الرخصة على أصل الإباحة، وأطلق أبو بكر الأثرم صاحب أحمد أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة لأنهم كانوا أولا يفعلون ذلك حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء فنسخ الجواز‏.

    2
    10/ ص 114)
    من الأحاديث الواردة في الجواز ما أخرجه الترمذي وصححه من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة عن جدته كبشة قالت ‏"‏ دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة ‏"‏ وفي الباب عن عبد الله بن أنيس عند أبي داود والترمذي وعن أم سلمة في ‏"‏ الشمائل ‏"‏ وفي مسند أحمد والطبراني والمعاني للطحاوي، قال شيخنا في شرح الترمذي‏:‏ لو فرق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلقة ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسرا ولم يتمكن من التناول بكفه فلا كراهة حينئذ وعلى ذلك تحمل الأحاديث المذكورة، وبين ما يكون لغير عذر فتحمل عليه أحاديث النهي‏.‏
    قلت‏:‏ ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة كانت معلقة والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة، ولا دلالة في أخبار الجواز على الرخصة مطلقا بل على تلك الصورة وحدها، وحملها على حال الضرورة جمعا بين الخبرين أولى من حملها على النسخ والله أعلم‏.‏
    وقد سبق ابن العربي إلى نحو ما أشار إليه شيخنا فقال‏:‏ يحتمل أن يكون شربه صلى الله عليه وسلم في حال ضرورة، إما عند الحرب وإما عند عدم الإناء أو مع وجوده لكن لم يتمكن لشغله من التفريغ من السقاء في الإناء، ثم قال‏:‏ ويحتمل أن يكون شرب من إداوة، والنهي محمول على ما إذا كانت القربة كبيرة لأنها مظنة وجود الهوام، كذا قال، والقربة الصغيرة لا يمتنع وجود شيء من الهوام فيها، والضرر يحصل به ولو كان حقيرا، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 116)
    قال ابن المنير‏:‏ أورد ابن بطال سؤال التعارض بين الحديثين، وأجاب بينهما فأطنب، ولقد أغنى البخاري عن ذلك بمجرد لفظ الترجمة‏:‏ فجعل الإناء في الأول ظرفا للتنفس والنهي عنه لاستقذاره‏.‏
    وقال في الثاني ‏"‏ الشرب بنفسين ‏"‏ فجعل النفس الشرب، أي لا يقتصر على نفس واحد بل يفصل بين الشربين بنفسين أو ثلاثة خارج الإناء‏.‏
    فعرف بذلك انتفاء التعارض‏.‏
    وقال الإسماعيلي‏:‏ المعنى أنه كان يتنفس أي على الشراب لا فيه داخل الإناء، قال‏:‏ وإن لم يحمل على هذا صار الحديثان مختلفين وكان أحدهما منسوخا لا محالة، والأصل عدم النسخ، والجمع مهما أمكن أولى
    قال الأثرم‏:‏ اختلاف الرواية في هذا دال على الجواز وعلى اختيار الثلاث، والمراد بالنهي عن التنفس في الإناء أن لا يجعل نفسه داخل الإناء، وليس المراد أن يتنفس خارجه طلب الراحة‏.‏
    واستدل به لمالك على جواز الشرب بنفس واحد‏.‏
    وأخرج ابن أبي شيبة الجواز عن سعيد بن المسيب وطائفة‏.‏
    وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ إنما نهى عن التنفس داخل الإناء، فأما من لم يتنفس فإن شاء فليشرب بنفس واحد‏.‏
    قلت‏:‏ وهو تفصيل حسن‏.‏
    وقد ورد الأمر بالشرب بنفس واحد من حديث أبي قتادة مرفوعا أخرجه الحاكم، وهو محمول على التفصيل المذكور‏
    وأخرج الترمذي بسند ضعيف عن ابن عباس رفعه ‏"‏ لا تشربوا واحدة كما يشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث‏"‏، فإن كان محفوظا فهو يقوي ما تقدم من التنويع‏.‏
    وأخرج أيضا بسند ضعيف عن ابن عباس أيضا ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا شرب تنفس مرتين ‏"‏ وهذا ليس نصا في الاقتصار على المرتين بل يحتمل أن يراد به التنفس في أثناء الشرب فيكون قد شرب ثلاث مرات، وسكت عن التنفس الأخير لكونه من ضرورة الواقع‏.‏
    وأخرج مسلم وأصحاب السنن من طريق أبي عاصم عن أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثا ويقول‏:‏ هو أروى وأمرأ وأبرأ ‏"‏ لفظ مسلم‏.‏
    قال ابن العربي‏:‏ قال علماؤنا هو من مكارم الأخلاق، ولكن محرم على الرجل أن يناول أخاه ما يتقذره، فإن فعله في خاصة نفسه ثم جاء غيره فناوله إياه فليعلمه، فإن لم يعلمه فهو غش، والغش حرام‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ معنى النهي عن التنفس في الإناء لئلا يتقذر به من بزاق أو رائحة كريهة تتعلق بالماء، وعلى هذا إذا لم يتنفس يجوز الشرب بنفس واحد، وقيل‏:‏ يمنع مطلقا لأنه شرب الشيطان، قال‏:‏ وقول أنس ‏"‏ يتنفس في الشرب ثلاثا ‏"‏ قد جعله بعضهم معارضا للنهي، وحمل على بيان الجواز، ومنهم من أومأ إلى أنه من خصائصه لأنه كان لا يتقذر منه شيء‏.‏
    (ج10/ ص 117)
    أخرج الطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب في ثلاثة أنفاس، إذا أدنى الإناء إلى فيه يسمي الله، فإذا أخره حمد الله، يفعل ذلك ثلاثا ‏"‏ وأصله في ابن ماجه، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند البزار والطبراني‏.‏
    وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس المشار إليه قبل ‏"‏ وسموا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم ‏"‏ وهذا يحتمل أن يكون شاهدا لحديث أبي هريرة المذكور، ويحتمل أن يكون المراد به في الابتداء والانتهاء فقط، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 118)
    ونقل ابن المنذر الإجماع على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة إلا عن معاوية بن قرة أحد التابعين فكأنه لم يبلغه النهي، وعن الشافعي في القديم ونقل عن نصه في حرملة أن النهي فيه للتنزيه لأن علته ما فيه من التشبه بالأعاجم، ونص في الجديد على التحريم، ومن أصحابه من قطع به عنه، وهذا اللائق به لثبوت الوعيد عليه بالنار
    ويؤيد وهم النقل أيضا عن نصه في حرملة أن صاحب ‏"‏ التقريب ‏"‏ نقل في كتاب الزكاة عن نصه في حرملة تحريم اتخاذ الإناء من الذهب أو الفضة، وإذا حرم الاتخاذ فتحريم الاستعمال أولى، والعلة المشار إليها ليست متفقا عليها، بل ذكروا للنهي عدة علل‏:‏ منها ما فيه من كسر قلوب الفقراء، أو من الخيلاء والسرف، ومن تضييق النقدين

    (ج10/ ص 119)
    والمدائن اسم بلفظ جمع مدينة، وهو بلد عظيم على دجلة بينها وبين بغداد سبعة فراسخ كانت مسكن ملوك الفرس، وبها إيوان كسرى المشهور، وكان فتحها على يد سعد بن أبي وقاص في خلافة عمر سنة ست عشرة وقيل‏:‏ قبل ذلك، وكان حذيفة عاملا عليها في خلافة عمر ثم عثمان إلى أن مات بعد قتل عثمان‏.‏
    (ج10/ ص 120)
    ‏(‏الذي يشرب في آنية الفضة‏)‏ في رواية مسلم من طريق عثمان بن مرة عن عبد الله بن عبد الرحمن ‏"‏ من شرب من إناء ذهب أو فضة ‏"‏ وله من رواية علي بن مسهر عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع ‏"‏ إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة ‏"‏ وأشار مسلم إلى تفرد علي بن مسهر بهذه اللفظة، أعني الأكل‏.‏
    (ج10/ ص 121)
    ال النووي‏:‏ اتفقوا على كسر الجيم الثانية من يجرجر، وتعقب بأن الموفق بن حمزة في كلامه على المذهب حكى فتحها، وحكى ابن الفركاح عن والده أنه قال‏:‏ روي يجرجر على البناء للفاعل والمفعول، وكذا جوزه ابن مالك في ‏"‏ شواهد التوضيح ‏"‏ نعم رد ذلك ابن أبي الفتح تلميذه فقال في جزء جمعه في الكلام على هذا المتن‏:‏ لقد كثر بحثي على أن أرى أحدا رواه مبنيا للمفعول فلم أجده عند أحد من حفاظ الحديث، وإنما سمعناه من الفقهاء الذين ليست لهم عناية بالرواية، وسألت أبا الحسين اليونيني فقال‏:‏ ما قرأته على والدي ولا على شيخنا المنذر إلا مبنيا للفاعل‏.‏
    قال‏:‏ ويبعد اتفاق الحفاظ قديما وحديثا على ترك رواية ثابتة‏.‏
    قال‏:‏ وأيضا فإسناده إلى الفاعل هو الأصل وإسناده إلى المفعول فرع فلا يصار إليه بغير حاجة، وأيضا فإن علماء العربية قالوا‏:‏ يحذف الفاعل إما للعلم به أو للجهل به، أو إذا تخوف منه أو عليه، أو لشرفه أو لحقارته، أو لإقامة وزن، وليس هنا شيء من ذلك‏.‏
    (ج10/ ص 122)
    ي هذه الأحاديث تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل مكلف رجلا كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء لأنه ليس من التزين الذي أبيح لها في شيء، قال القرطبي وغيره‏:‏ في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب والتكحل وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقا، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب لأنه لم يقف على الزيادة في الأكل، قال‏:‏ واختلف في علة المنع فقيل‏:‏ إن ذلك يرجع إلى عينهما، ويؤيده قوله هي لهم وإنها لهم، وقيل‏:‏ لكونهما الأثمان وقيم المتلفات، فلو أبيح استعمالها لجاز اتخاذ الآلات منهما فيفضي إلى قلتهما بأيدي الناس فيجحف بهم، ومثله الغزالي بالحكام الذين وظيفتهم التصرف لإظهار العدل بين الناس، فلو منعوا التصرف لأخل ذلك بالعدل، فكذا في اتخاذ الأواني من النقدين حبس لهما عن التصرف الذي ينتفع به الناس‏.‏
    ويرد على هذا جواز الحلي للنساء من النقدين، ويمكن الانفصال عنه‏.‏
    وهذه العلة هي الراجحة عند الشافعية، وبه صرح أبو علي السنجي وأبو محمد الجويني‏.‏
    وقيل‏:‏ علة التحريم السرف والخيلاء، أو كسر قلوب الفقراء‏.‏
    ويرد عليه جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة وعاليها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة، ولم يمنعها إلا من شذ‏.‏
    وقد نقل ابن الصباغ في ‏"‏ الشامل ‏"‏ الإجماع على الجواز، وتبعه الرافعي ومن بعده‏.‏
    لكن في ‏"‏ زوائد العمراني ‏"‏ عن صاحب ‏"‏ الفروع ‏"‏ نقل وجهين‏.‏
    وقيل‏:‏ العلة في المنع التشبه بالأعاجم، وفي ذلك نظر لثبوت الوعيد لفاعله، ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك‏.‏
    واختلف في اتخاذ الأواني دون استعمالها كما تقدم، والأشهر المنع وهو قول الجمهور، ورخصت فيه طائفة، وهو مبني على العلة في منع الاستعمال، ويتفرع على ذلك غرامة أرش ما أفسد منها وجواز الاستئجار عليها‏.

    (ج10/ ص 123)
    قال ابن المنير‏:‏ كأنه أراد بهذه الترجمة دفع توهم من يقع في خياله أن الشرب في قدح النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته تصرف في ملك الغير بغير إذن، فبين أن السلف كانوا يفعلون ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث، وما تركه فهو صدقة‏.‏
    ولا يقال إن الأغنياء كانوا يفعلون ذلك والصدقة لا تحل للغني، لأن الجواب أن الممتنع على الأغنياء من الصدقة هو المفروض منها، وهذا ليس من الصدقة المفروضة‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا الجواب غير مقنع، والذي يظهر أن الصدقة المذكورة من جنس الأوقاف المطلقة، ينتفع بها من يحتاج إليها، وتقر تحت يد من يؤتمن عليها، ولهذا كان عند سهل قدح، وعند عبد الله بن سلام آخر، والجبة عند أسماء بنت أبي بكر وغير ذلك‏.
    (ج10/ ص 124)
    وأخرجه أبو نعيم من طريق علي بن الحسن بن شقيق عن أبي حمزة ثم قال ‏"‏ قال علي بن الحسن‏:‏ وأنا رأيت القدح وشربت منه ‏"‏ وذكر القرطبي في ‏"‏ مختصر البخاري ‏"‏ أنه رأى في بعض النسخ القديمة من صحيح البخاري ‏"‏ قال أبو عبد الله البخاري‏:‏ رأيت هذا القدح بالبصرة وشربت منه، وكان اشتري من ميراث النضر بن أنس بثمانمائة ألف‏"‏‏.
    (ج10/ ص 125)
    متحريم الإناء من النحاس أو الحديد المطلي بالذهب أو الفضة، والصحيح عند الشافعية إن كان يحصل منه بالعرض على النار حرم، وإلا فوجهان أصحهما لا، وفي العكس وجهان كذلك، ولو غلف إناء الذهب أو الفضة بالنحاس مثلا ظاهرا وباطنا فكذلك‏.‏
    وجزم إمام الحرمين أنه لا يحرم كحشو الجبة التي من القطن مثلا بالحرير، واستدل بجواز اتخاذ السلسلة والحلقة أنه يجوز أن يتخذ للإناء رأس منفصل عنه، وهذا ما نقله المتولي والبغوي والخوارزمي‏.‏
    وقال الرافعي‏:‏ فيه نظر‏.‏
    وقال النووي في ‏"‏ شرح المهذب ‏"‏‏:‏ ينبغي أن يجعل كالتضبيب ويجري فيه الخلاف والتفصيل‏.‏
    واختلفوا في ضابط الصغر في ذلك فقيل‏:‏ العرف وهو الأصح، وقيل‏:‏ ما يلمع على بعد كبير ومالا فصغير، وقيل‏:‏ ما استوعب جزءا من الإناء كأسفله أو عروته أو شفته كبير، وما لا فلا‏.‏
    ‏ومتى شك فالأصل الإباحة‏.‏
    والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 126)
    ال ابن بطال‏:‏ يؤخذ منه أنه لا سرف ولا شره في الطعام أو الشراب الذي تظهر فيه البركة بالمعجزة، بل يستحب الاستكثار منه‏.‏
    وقال ابن المنير‏:‏ في ترجمة البخاري إشارة إلى أنه يغتفر في الشرب منه الإكثار دون المعتاد الذي ورد باستحباب جعل الثلث له، ولئلا يظن أن الشرب من غير عطش ممنوع، فإن فعل جابر ما ذكر دال على أن الحاجة إلى البركة أكثر من الحاجة إلى الري، والظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولو كان ممنوعا لنهاه‏.


    انتهى كتاب الاشربة من " فتح الباري "
    اليوم الموافق السبت 14/ 3/ 2020
    رجب /1441 هجري

    " ويليه كتاب " المرضى " من فتح الباري

  2. #202
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    كتاب " المرضى " من فتح الباري
    المجلد العاشر / باب 22/ ج5677
    اليوم الأحد 16/ 3/ 2020 ميلادي
    الموافق 22/ رجب / 1441 هجري

    (ج10/ ص 129)
    وقال ابن المنير‏:‏ الحاصل أن المرض كما جاز أن يكون مكفرا للخطايا فكذلك يكون جزاء لها‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ ذهب أكثر أهل التأويل إلى أن معنى الآية أن المسلم يجازى على خطاياه في الدنيا بالمصائب التي تقع له فيها فتكون كفارة لها‏.‏
    وعن الحسن وعبد الرحمن بن زيد‏:‏ أن الآية المذكورة نزلت في الكفارة خاصة
    ما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من طريق عبيد بن عمير عن عائشة ‏"‏ أن رجلا تلا هذه الآية ‏(‏من يعمل سوءا يجز به‏)‏ فقال‏:‏ إنا لنجزى بكل ما عملناه‏؟‏ هلكنا إذا‏.‏
    فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ نعم يجزى به في الدنيا من مصيبة في جسده مما يؤذيه ‏"‏ وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان أيضا من حديث أبي بكر الصديق أنه قال‏:‏ ‏"‏ يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية ‏(‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءا يجز به‏)‏ ‏؟‏ فقال‏:‏ غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض، ألست تحزن‏؟‏ قال قلت‏:‏ بلى‏.‏
    قال‏:‏ هو ما تجزون به، ولمسلم من طريق محمد بن قيس بن مخرمة عن أبي هريرة ‏"‏ لما نزلت ‏(‏من يعمل سوءا يجز به‏)‏ بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها‏"‏‏.‏
    (ج10/ ص 130)
    وقال الكرماني‏:‏ المصيبة في اللغة ما ينزل بالإنسان مطلقا، وفي العرف ما نزل به من مكروه خاصة،
    شاهده ما أخرجه الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من وجه آخر عن عائشة بلفظ ‏"‏ ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عنه خطيئة، وكتب له حسنة، ورفع له درجة ‏"‏ وسنده جيد‏.‏
    وأما ما أخرجه مسلم أيضا من طريق عمرة عنها ‏"‏ إلا كتب الله له بها حسنة، أو حط بها خطيئة
    " تابع "
    (ج10/ ص 131)
    وقع لهذا الحديث سبب أخرجه أحمد وصححه أبو عوانة والحاكم من طريق عبد الرحمن بن شيبة العبدري ‏"‏ أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وجع، فجعل يتقلب على فراشه ويشتكي، فقالت له عائشة‏:‏ لو صنع هذا بعضنا لوجدت عليه، فقال‏:‏ إن الصالحين يشدد عليهم، وإنه لا يصيب المؤمن نكبة شوكة ‏"‏ الحديث، وفي هذا الحديث تعقب على الشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث قال‏:‏ ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور، وهو خطأ صريح، فإن الثواب والعقاب إنما هو على الكسب، والمصائب ليست منها، بل الأجر على الصبر والرضا‏.‏
    ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر، بمجرد حصول المصيبة، وأما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليهما زيادة على ثواب المصيبة، قال القرافي‏:‏ المصائب كفارات جزما سواء اقترن بها الرضا أم لا، لكن إن اقترن بها الرضا عظم التكفير وإلا قل، كذا قال، والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها، وبالرضا يؤجر على ذلك، فإن لم يكن للمصاب ذنب عوض عن ذلك من الثواب بما يوازيه‏.‏
    وزعم القرافي أنه لا يجوز لأحد أن يقول للمصاب‏:‏ جعل الله هذه المصيبة كفارة لذنبك، لأن الشارع قد جعلها كفارة، فسؤال التكفير طلب لتحصيل الحاصل، وهو إساءة أدب على الشارع‏.‏
    كذا قال‏.‏
    وتعقب بما ورد من جواز الدعاء بما هو واقع كالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة له‏.‏
    وأجيب عنه بأن الكلام فيما لم يرد فيه شيء، وأما ما ورد فهو مشروع، ليثاب من امتثل الأمر فيه على ذلك‏.
    (ج10/ ص 131)
    ‏‏عبد الملك بن عمرو‏)‏ هو أبو عامر العقدي مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وزهير بن محمد هو أبو المنذر التميمي، وقد تكلموا في حفظه، لكن قال البخاري في ‏"‏ التاريخ الصغير ‏"‏‏:‏ ما روى عنه أهل الشام فإنه مناكير، وما روى عنه أهل البصرة فإنه صحيح‏.‏
    قلت‏:‏ وقال أحمد بن حنبل كان زهير بن محمد الذي يروي عنه الشاميون آخر لكثرة المناكير انتهى‏.
    (ج10/ ص 132)
    ‏وقيل في هذه الأشياء الثلاثة وهي الهم والغم والحزن أن الهم ينشأ عن الفكر فيما يتوقع حصوله مما يتأذى به، والغم كرب يحدث للقلب بسبب ما حصل، والحزن يحدث لفقد ما يشق على المرء فقده‏.‏
    وقيل‏:‏ الهم والغم بمعنى واحد‏.‏
    وقال الكرماني‏:‏ الغم يشمل جميع أنواع المكروهات لأنه إما بسبب ما يعرض للبدن أو النفس، والأول‏:‏ إما بحيث يخرج عن المجرى الطبيعي أو لا، والثاني‏:‏ إما أن يلاحظ فيه الغير أو لا، وإما أن يظهر فيه الانقباض أو لا، وإما بالنظر إلى الماضي أو لا‏.‏
    (ج10/ ص 133)
    الارزة :قال أبو حنيفة الدينوري‏:‏ الراء ساكنة، وليس هو من نبات أرض العرب، ولا ينبت في السباخ بل يطول طولا شديدا ويغلظ، قال‏:‏ وأخبرني الخبير أنه ذكر الصنوبر، وأنه لا يحمل شيئا وإنما يستخرج من أعجازه وعروقه الزفت‏.‏
    وقال ابن سيده‏:‏ الأرز العرعر، وقيل‏:‏ شجر بالشام يقال لثمره الصنوبر‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ الأرزة مفتوحة الراء واحدة الأرز وهو شجر الصنوبر فيما يقال‏.‏
    وقال القزاز‏:‏ قاله قوم بالتحريك‏.‏
    وقالوا‏:‏ هو شجر معتدل صلب لا يحركه هبوب الريح، ويقال له الأرزن‏.‏
    (ج10/ ص 134)
    قال المهلب‏:‏ معنى الحديث أن المؤمن حيث جاءه أمر الله انطاع له، فإن وقع له خير فرح به وشكر، وإن وقع له مكروه صبر ورجا فيه الخير والأجر، فإذا اندفع عنه اعتدل شاكرا‏.‏
    والكافر لا يتفقد الله باختياره، بل يحصل له التيسير في الدنيا ليتعسر عليه الحال في المعاد، حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه فيكون موته أشد عذابا عليه وأكثر ألما في خروج نفسه‏.‏
    وقال غيره‏:‏ المعنى أن المؤمن يتلقى الأعراض الواقعة عليه لضعف حظه من الدنيا، فهو كأوائل الزرع شديد الميلان لضعف ساقه، والكافر بخلاف ذلك، وهذا في الغالب من حال الاثنين‏.
    (ج10/ ص 135)
    من يرد الله به خيرا يصب منه‏)‏ كذا للأكثر بكسر الصاد والفاعل الله، قال أبو عبيد الهروي‏:‏ معناه يبتليه بالمصائب ليثيبه عليها‏.‏
    وقال غيره‏:‏ معناه يوجه إليه البلاء فيصيبه‏.‏
    وقال ابن الجوزي‏:‏ أكثر المحدثين يرويه بكسر الصاد، وسمعت ابن الخشاب يفتح الصاد، وهو أحسن وأليق‏.‏
    كذا قال، ولو عكس لكان أولى، والله أعلم‏.‏
    ووجه الطيبي الفتح بأنه أليق بالأدب لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا مرضت فهو يشفين‏)‏ ‏.‏
    (ج10/ ص 135)
    ديث ابن مسعود ‏"‏ ما من مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه ‏"‏ وظاهره تعميم جميع الذنوب، لكن الجمهور خصوا ذلك بالصغائر، للحديث الذي تقدم التنبيه عليه في أوائل الصلاة ‏"‏ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر ‏"‏ فحملوا المطلقات الواردة في التكفير على هذا المقيد، ويحتمل أن يكون معنى الأحاديث التي ظاهرها التعميم أن المذكورات صالحة لتكفير الذنوب، فيكفر الله بها ما شاء من الذنوب، ويكون كثرة التكفير وقلته باعتبار شدة المرض وخفته‏.‏
    ثم المراد بتكفير الذنب ستره أو محو أثره المرتب عليه من استحقاق العقوبة‏.‏
    (ج10/ ص 136)
    استدل به على أن مجرد حصول المرض أو غيره مما ذكر يترتب عليه التكفير المذكور سواء انضم إلى ذلك صبر المصاب أم لا، وأبى ذلك قوم كالقرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ فقال‏:‏ محل ذلك إذا صبر المصاب واحتسب وقال ما أمر الله به في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏الذين إذا أصابتهم مصيبة‏)‏ الآية، فحينئذ يصل إلى ما وعد الله ورسوله به من ذلك‏.‏
    وتعقب بأنه لم يأت على دعواه بدليل، وأن في تعبيره بقوله‏:‏ ‏"‏ بما أمر الله ‏"‏ نظرا إذ لم يقع هنا صيغة أمر‏.‏
    وأجيب عن هذا بأنه وإن لم يقع التصريح بالأمر فسياقه يقتضي الحث عليه والطلب له، ففيه معنى الأمر‏.‏
    وعن الأول بأنه حمل الأحاديث الواردة بالتقييد بالصبر على المطلقة، وهو حمل صحيح، لكن كان يتم له ذلك لو ثبت شيء منها، بل هي إما ضعيفة لا يحتج بها وإما قوية لكنها مقيدة بثواب مخصوص، فاعتبار الصبر فيها إنما هو لحصول ذلك الثواب المخصوص، مثل ما سيأتي فيمن وقع الطاعون ببلد هو فيها فصبر واحتسب فله أجر شهيد، ومثل حديث محمد بن خالد عن أبيه عن جده وكانت له صحبة ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله في جسده أو ولده أو ماله ثم صبر على ذلك حتى يبلغ تلك المنزلة ‏"‏ رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات، إلا أن خالدا لم يرو عنه غير ابنه محمد، وأبوه اختلف في اسمه لكن إبهام الصحابي لا يضر‏.‏
    (ج10/ ص 39)
    أنه أثبت أن المرض إذا اشتد ضاعف الأجر، ثم زاد عليه بعد ذلك أن المضاعفة تنتهي إلى أن تحط السيئات كلها، أو المعنى‏:‏ قال نعم شدة المرض ترفع الدرجات وتحط الخطيئات أيضا حتى لا يبقى منها شيء، ويشير إلى ذلك حديث سعد الذي ذكرته قبل ‏"‏ حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ‏"‏ ومثله حديث أبي هريرة عند أحمد وابن أبي شيبة بلفظ ‏"‏ لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة‏.‏
    قال أبو هريرة‏:‏ ما من وجع يصيبني أحب إلي من الحمى، إنها تدخل في كل مفصل من ابن آدم، والله يعطي كل مفصل قسطه من الأجر ‏"‏ ووجه دلالة حديث الباب على الترجمة من جهة قياس الأنبياء على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإلحاق الأولياء بهم لقربهم منهم وإن كانت درجتهم منحطة عنهم، والسر فيه أن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد، ومن ثم ضوعف حد الحر على العبد، وقيل لأمهات المؤمنين ‏(‏من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين‏)‏ قال ابن الجوزي‏:‏ في الحديث دلالة على أن القوي يحمل ما حمل، والضعيف يرفق به إلا أنه كلما قويت المعرفة بالمبتلى هان عليه البلاء، ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء، وأعلى من ذلك درجة من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه فيسلم ولا يعترض، وأرفع منه من شغلته المحبة عن طلب رفع البلاء، وأنهى المراتب من يتلذذ به لأنه عن اختياره نشأ، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 140)
    ووقع في رواية مسلم ‏"‏ خمس تجب للمسلم على المسلم ‏"‏ فذكرها منها، قال ابن بطال‏:‏ يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية كإطعام الجائع وفك الأسير، ويحتمل أن يكون للندب للحث على التواصل والألفة، وجزم الداودي بالأول فقال‏:‏ هي فرض يحمله بعض الناس عن بعض‏.‏
    وقال الجمهور‏:‏ هي في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض‏.‏
    وعن الطبري‏:‏ تتأكد في حق من ترجى بركته، وتسن فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك، وفي الكافر خلاف كما سيأتي ذكره في باب مفرد‏.‏
    ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب، يعني على الأعيان‏.‏
    (ج10/ ص 136)
    قد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم قال‏:‏ ‏"‏ عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني، أخرجه أبو داود وصححه الحاكم وهو عند البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وسياقه أتم‏.‏
    وأما ما أخرجه البيهقي والطبراني مرفوعا ‏"‏ ثلاثة ليس لهم عيادة‏:‏ العين والدمل والضرس ‏"‏ فصحح البيهقي أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير، ويؤخذ من إطلاقه أيضا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه وهو قول الجمهور، وجزم الغزالي في ‏"‏ الإحياء ‏"‏ بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه عن أنس ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث ‏"‏ وهذا حديث ضعيف جدا تفرد به مسلمة بن علي وهو متروك، وقد سئل عنه أبو حاتم فقال‏:‏ هو حديث باطل، ووجدت له شاهدا من حديث أبي هريرة عند الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ وفيه راو متروك أيضا‏.‏
    ويلتحق بعيادة المريض تعهده وتفقد أحواله والتلطف به، وربما كان ذلك في العادة سببا لوجود نشاطه وانتعاش قوته‏.‏
    (ج10/ ص 137)
    وفي إطلاق الحديث أن العيادة لا تتقيد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها في طرفي النهار، وترجمة البخاري في الأدب المفرد ‏"‏ العيادة في الليل‏"‏، وساق عن خالد بن الربيع قال‏:‏ ‏"‏ لما ثقل حذيفة أتوه في جوف الليل أو عند الصبح فقال‏:‏ أي ساعة هذه‏؟‏ فأخبروه، فقال‏:‏ أعوذ بالله من صباح إلى النار ‏"‏ الحديث، ونقل الأثرم عن أحمد أنه قيل له بعد ارتفاع النهار في الصيف‏:‏ تعود فلانا‏؟‏ قال‏:‏ ليس هذا وقت عيادة‏.‏
    ونقل ابن الصلاح عن الفراوي أن العيادة تستحب في الشتاء ليلا وفي الصيف نهارا، وهو غريب‏.‏
    ومن آدابها أن لا يطيل الجلوس حتى يضجر المريض أو يشق على أهله‏.‏
    فإن اقتضت ذلك ضرورة فلا بأس كما في حديث جابر الذي بعده‏.‏
    وقد ورد في فضل العيادة أحاديث كثيرة جياد، منها عند مسلم والترمذي من حديث ثوبان ‏"‏ إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة ‏"‏ وخرفة بضم المعجمة وسكون الراء بعدها فاء ثم هاء هي الثمرة إذا نضجت، شبه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوزه الذي يجتني الثمر‏.‏
    وقيل‏:‏ المراد بها هنا الطريق، والمعنى أن العائد يمشي في طريق تؤديه إلى الجنة، والتفسير الأول أولى، فقد أخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من هذا الوجه وفيه ‏"‏ قلت لأبي قلابة‏:‏ ما خرفة الجنة‏؟‏ قال‏:‏ جناها ‏"‏ وهو عند مسلم من جملة المرفوع‏.‏
    وأخرج البخاري أيضا من طريق عمر بن الحكم عن جابر رفعه ‏"‏ من عاد مريضا خاض في الرحمة حتى إذا قعد استقر فيها ‏"‏ وأخرجه أحمد والبزار وصححه ابن حبان والحاكم من هذا الوجه وألفاظهم فيه مختلفة، ولأحمد نحوه من حديث كعب بن مالك بسند حسن‏.‏
    (ج10/ ص 141)
    مجرد علم المريض بعائده لا تتوقف مشروعية العيادة عليه، لأن وراء ذلك جبر خاطر أهله، وما يرجى من بركة دعاء العائد ووضع يده على المريض والمسح على جسده والنفث عليه عند التعويذ إلى غير ذلك‏.‏

    (ج10/ ص 142)
    انحباس الريح قد يكون سببا للصرع، وهي علة تمنع الأعضاء الرئيسة عن انفعالها منعا غير تام، وسببه ريح غليظة تنحبس في منافذ الدماغ، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصبا بل يسقط ويقذف بالزبد لغلظ الرطوبة، وقد يكون الصرع من الجن، ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم، إما لاستحسان بعض الصور الإنسية وإما لإيقاع الأذية به، والأول هو الذي يثبته جميع الأطباء ويذكرون علاجه، والثاني يجحده كثير منهم، وبعضهم يثبته ولا يعرف له علاجا إلا بمقاومة الأرواح الخيرة العلوية لتندفع آثار الأرواح الشريرة السفلية وتبطل أفعالها‏.‏
    وممن نص على ذلك أبقراط فقال لما ذكر علاج المصروع‏:‏ هذا إنما ينفع في الذي سببه أخلاط، وأما الذي يكون من الأرواح فلا‏.‏
    (ج10/ ص 143)
    في الحديث فضل من يصرع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة، وفيه دليل على جواز ترك التداوي، وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجع بأمرين‏:‏ أحدهما من جهة العليل وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوي وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 144)
    وابتلاء الله عبده في الدنيا ليس من سخطه عليه بل إما لدفع مكروه أو لكفارة ذنوب أو لرفع منزلة، فإذا تلقى ذلك بالرضا تم له المراد وإلا يصير كما جاء في حديث سلمان ‏"‏ أن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتبا، وإن مرض الفاجر كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عقل ولم أرسل ‏"‏ أخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ موقوفا‏.‏
    (ج10/ ص 145)
    أن الصبر النافع هو ما يكون في أول وقوع البلاء فيفوض ويسلم، وإلا فمتى تضجر وتقلق في أول وهلة ثم يئس فيصبر لا يكون حصل المقصود، وقد مضى حديث أنس في الجنائز ‏"‏ إنما الصبر عند الصدمة الأولى ‏"‏ وقد وقع في حديث العرباض فيما صححه ابن حبان فيه بشرط آخر ولفظه ‏"‏ إذا سلبت من عبدي كريمتيه وهو بهما ضنين لم أرض له ثوابا دون الجنة إذا هو حمدني عليهما ‏"‏ ولم أر هذه الزيادة في غير هذه الطريق، وإذا كان ثواب من وقع له ذلك الجنة فالذي له أعمال صالحة أخرى يزاد في رفع الدرجات‏.‏
    (ج10/ ص 146)
    قوله في البيت الذي أوله ‏"‏ ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد ‏"‏ كذا هو بالتنكير والإبهام، والمراد به وادي مكة‏.‏
    وذكر الجوهري في الصحاح ما يقتضي أن الشعر المذكور ليس لبلال، فإنه قال‏:‏ كان بلال يتمثل به، وأورده بلفظ ‏"‏ هل أبيتن ليلة بمكة حولي ‏"‏ وقوله ‏"‏ شامة وطفيل ‏"‏ هما جبلان عند الجمهور، وصوب الخطابي أنهما عينان، وقوله ‏"‏كيف تجدك ‏"‏‏؟‏ أي تجد نفسك، والمراد به الإحساس، أي كيف تعلم حال نفسك‏.‏
    (ج10/ ص 149)
    قال المهلب‏:‏ فائدة هذا الحديث أنه لا نقص على الإمام في عيادة مريض من رعيته ولو كان أعرابيا جافيا ولا على العالم في عيادة الجاهل ليعلمه ويذكره بما ينفعه، ويأمره بالصبر لئلا يتسخط قدر الله فيسخط عليه، ويسليه عن ألمه بل يغبطه بسقمه، إلى غير ذلك من جبر خاطره وخاطر أهله‏.‏
    وفيه أنه ينبغي للمريض أن يتلقى الموعظة بالقبول، ويحسن جواب من يذكره بذلك‏.‏
    (ج10/ ص 150)
    ‏باب عيادة المشرك‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ إنما تشرع عيادته إذا رجي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فأما إذا لم يطمع في ذلك فلا‏.‏
    انتهى‏.‏
    والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى‏.‏
    قال الماوردي‏:‏ عيادة الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة‏.‏
    (ج10/ ص 150)
    ال ابن بطال‏:‏ في وضع اليد على المريض تأنيس له وتعرف لشدة مرضه ليدعو له بالعافية على حسب ما يبدو له منه، وربما رقاه بيده ومسح على ألمه بما ينتفع به العليل إذا كان العائد صالحا‏.‏
    قلت‏:‏ وقد يكون العائد عارفا بالعلاج فيعرف العلة فيصف له ما يناسبه‏.‏
    (ج10/ ص 150)
    فيما يخال إلي ‏"‏ قال ابن التين‏:‏ صوابه فيما يخيل إلي بالتشديد لأنه من التخيل، قال الله تعالى ‏(‏يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى‏)‏ ‏.‏
    قلت‏:‏ وأقره الزركشي، وهو عجيب‏.‏
    فإن الكلمة صواب، وهو بمعنى يخيل قال في ‏"‏ المحكم ‏"‏‏:‏ خال الشيء يخاله يظنه وتخيله ظنه، وساق الكلام على المادة‏.‏
    (ج10/ ص 152)
    وجاء عن عائشة قالت ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضا يضع يده على المكان الذي يألم ثم يقول‏:‏ بسم الله ‏"‏ أخرجه أبو يعلى بسند حسن‏.‏
    وأخرج الترمذي من حديث أبي أمامة بسند لين رفعه ‏"‏ تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته فيسأله كيف هو ‏"‏ وأخرجه ابن السني ولفظه ‏"‏ فيقول‏:‏ كيف أصبحت أو كيف أمسيت ‏"‏‏؟‏ ‏.‏
    وأخرج ابن ماجة والترمذي من حديث أبي سعيد رفعه ‏"‏ إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يطيب نفس المريض ‏"‏ وفي سنده لين‏.‏
    وقوله نفسوا أي أطمعوه في الحياة ففي ذلك تنفيس لما هو فيه من الكرب وطمأنينة لقلبه، قال النووي هو معنى قوله في حديث ابن عباس للأعرابي لا بأس‏.‏
    أخرج ابن ماجه أيضا بسند حسن لكن فيه انقطاع عن عمر رفعه إذا دخلت على مريض فمره يدعو لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة‏.‏
    (ج10/ ص 154)
    أشار إلى أن مطلق الشكوى لا يمنع ردا على من زعم من الصوفية أن الدعاء بكشف البلاء يقدح في الرضا والتسليم، فنبه على أن الطلب من الله ليس ممنوعا، بل فيه زيادة عبادة، لما ثبت مثل ذلك عن المعصوم وأثنى الله عليه بذلك وأثبت له اسم الصبر مع ذلك، وقد روينا في قصة أيوب في فوائد ميمونة وصححه ابن حبان والحاكم من طريق الزهري عن أنس رفعه ‏"‏ أن أيوب لما طال بلاؤه رفضه القريب والبعيد، غير رجلين من إخوانه، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، فبلغ ذلك أيوب - يعني فجزع من قوله - ودعا ربه فكشف ما به‏"‏‏.
    (ج10/ص 154)
    ‏مراد البخاري أن الذي يجوز من شكوى المريض ما كان على طريق الطلب من الله، أو على غير طريق التسخط للقدر والتضجر، والله أعلم‏.‏
    قال القرطبي‏:‏ اختلف الناس في هذا الباب، والتحقيق أن الألم لا يقدر أحد على رفعه، والنفوس مجبولة على وجدان ذلك فلا يستطاع تغييرها عما جبلت عليه، وإنما كلف العبد أن لا يقع منه في حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه كالمبالغة في التأوه والجزع الزائد كأن من فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصبر، وأما مجرد التشكي فليس مذموما حتى يحصل التسخط للمقدور، وقد اتفقوا على كراهة شكوى العبد ربه، وشكواه إنما هو ذكره للناس على سبيل التضجر، والله أعلم‏.‏
    روى أحمد في ‏"‏ الزهد ‏"‏ عن طاوس أنه قال‏:‏ أنين المريض شكوى، وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية أن أنين المريض وتأوهه مكروه، وتعقبه النووي فقال‏:‏ هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهي مقصود، وهذا لم يثبت فيه ذلك‏.‏
    ثم احتج بحديث عائشة في الباب، ثم قال‏:‏ فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى ا
    لعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين، وتشعر بالتسخط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء‏.‏
    وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس به اتفاقا‏.‏
    (ج10/ ص 155)
    حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَبُو زَكَرِيَّاءَ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ وَا رَأْسَاهْ
    فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرَ لَكِ وَأَدْعُوَ لَكِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَا ثُكْلِيَاهْ
    حيى بن يحيى أبو زكريا‏)‏ هو النيسابوري الإمام المشهور وليس له في البخاري سوى مواضع يسيرة في الزكاة والوكالة والتفسير والأحلام، وأكثر عنه مسلم، ويقال إنه تفرد بهذا الإسناد وإن أحمد كان يتمنى لو أمكنه الخروج إلى نيسابور ليسمع منه هذا الحديث، ولكن أخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من و
    إلى نيسابور ليسمع منه هذا الحديث، ولكن أخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من وجهين آخرين عن سليمان بن بلال‏.‏
    (ج10/ ص 155)
    في الحديث ما طبعت عليه المرأة من الغيرة، وفيه مداعبة الرجل أهله والإفضاء إليهم بما يستره عن غيرهم، وفيه أن ذكر الوجع ليس بشكاية، فكم من ساكت وهو ساخط، وكم من شاك وهو راض، فالمعول في ذلك على عمل القلب لا على نطق اللسان، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 156)
    وجملة آداب العيادة عشرة أشياء، ومنها ما لا يختص بالعيادة‏:‏ أن لا يقابل الباب عند الاستئذان، وأن يدق الباب برفق، وأن لا يبهم نفسه كأن يقول أنا، وأن لا يحضر في وقت يكون غير لائق بالعيادة كوقت شرب المريض الدواء، وأن يخفف الجلوس، وأن يغض البصر، ويقلل السؤال، وأن يظهر الرقة، وأن يخلص الدعاء، وأن يوسع للمريض في الأمل، ويشير عليه بالصبر لما فيه من جزيل الأجر، ويحذره من الجزع لما فيه من الوزر‏.‏
    (ج10/ ص 158)
    لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه‏)‏ الخطاب للصحابة، والمراد هم ومن بعدهم من المسلمين عموما، وقوله ‏"‏من ضر أصابه ‏"‏ حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي، فإن وجد الأخروي بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهي، ويمكن أن يؤخذ ذلك من رواية ابن حبان ‏"‏ لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا ‏"‏ على أن ‏"‏ في ‏"‏ في هذا الحديث سببية، أي بسبب أمر من الدنيا، وقد فعل ذلك جماعة من الصحابة‏:‏ ففي ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن عمر أنه قال ‏"‏ اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط‏"‏، وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن عمر‏.‏
    وأخرج أحمد وغيره من طريق عبس ويقال عابس الغفاري أنه قال ‏"‏ يا طاعون خذني‏.‏
    فقال له عليم الكندي‏:‏ لم تقول هذا‏؟‏ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يتمنين أحدكم الموت‏؟‏ فقال‏:‏ إني سمعته يقول‏:‏ بادروا بالموت ستا، إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم ‏"‏ الحديث‏.‏
    وأخرج أحمد أيضا من حديث عوف بن مالك نحو وأنه ‏"‏ قيل له‏:‏ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما عمر المسلم كان خيرا له ‏"‏ الحديث، وفيه الجواب نحوه، وأصرح منه في ذلك حديث معاذ الذي أخرجه أبو داود وصححه الحاكم في القول في دبر كل صلاة وفيه ‏"‏ وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون‏"‏‏.‏
    (ج10/ ص 160)
    وأن من اتسعت له الدنيا لم تؤثر فيه إما لكثرة إخراجهم المال في وجوه البر، وكان من يحتاج إليه إذ ذاك كثيرا فكانت تقع لهم الموقع، ثم لما اتسع الحال جدا وشمل العدل في زمن الخلفاء الراشدين استغني الناس بحيث صار الغني لا يجد محتاجا يضع بره فيه، ولهذا قال خباب‏:‏ ‏"‏ وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب ‏"‏ أي الإنفاق في البنيان‏.‏
    وأغرب الداودي فقال‏:‏ أراد خباب بهذا القول الموت أي لا يجد للمال الذي أصابه إلا وضعه في القبر، حكاه ابن التين ورده فأصاب‏.‏
    وقال‏:‏ بل هو عبارة عما أصابوا من المال قلت‏:‏ وقد وقع لأحمد عن يزيد بن هارون عن إسماعيل بن أبي خالد في هذا الحديث بعد قوله إلا التراب ‏"‏ وكان يبني حائطا له
    (ج10/ ص 160)
    ولهذه النكتة عقب البخاري حديث أبي هريرة بحديث عائشة ‏"‏ اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى ‏"‏ إشارة إلى أن النهي مختص بالحالة التي قبل نزول الموت، فلله دره ما كان أكثر استحضاره وإيثاره للأخفى على الأجلى شحذا للأذهان‏.‏
    وقد خفي صنيعه هذا على من جعل حديث عائشة في الباب معارضا لأحاديث الباب أو ناسخا لها، وقوي ذلك يقول يوسف عليه السلام ‏(‏توفني مسلما وألحقني بالصالحين‏)‏ قال ابن التين‏:‏ قيل إن النهى منسوخ بقول يوسف فذكره، وبقول سليمان ‏(‏وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين‏)‏ وبحديث عائشة في الباب، وبدعاء عمر بالموت وغيره‏.‏
    قال وليس الأمر كذلك لأن هؤلاء إنما سألوا ما قارب الموت‏.‏
    قلت‏:‏ وقد اختلف في مراد يوسف عليه السلام، فقال قتادة‏:‏ لم يتمني الموت أحد إلا يوسف حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء الله، أخرجه الطبراني بسند صحيح عنه‏.‏
    وقال غيره‏:‏ بل مراده توفني مسلما عند حضور أجلي، كذا أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك بن مزاحم، وكذلك مراد سليمان عليه السلام‏.‏
    وعلى تقدير الحمل على ما قال قتادة فهو ليس من شرعنا، وإنما يؤخذ بشرع من قبلنا ما لم يرد في شرعنا النهي عنه بالاتفاق، وقد استشكل الإذن في ذلك عند نزول الموت لأن نزول الموت لا يتحقق، فكم من انتهى إلى غاية جرت العادة بموت من يصل إليها ثم عاش‏.‏
    والجواب أنه يحتمل أن يكون المراد أن العبد يكون حاله في ذلك الوقت حال من يتمني نزوله به ويرضاه أن لو وقع به، والمعني أن يطمئن قلبه إلى ما يرد عليه من ربه ويرضى به ولا يقلق، ولو لم يتفق أنه يموت في ذلك المرض‏.‏
    (ج10/ ص 161)
    ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد ‏"‏ وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا ‏"‏ وفيه إشارة إلى أن المعنى في النهي عن تمني الموت والدعاء به هو انقطاع العمل بالموت، فإن الحياة يتسبب منها العمل، والعمل يحصل زيادة الثواب، ولو لم يكن إلا استمرار التوحيد فهو أفضل الأعمال‏.‏
    ولا يرد على هذا أنه يجوز أن يقع الارتداد والعياذ بالله تعالى عن الإيمان لأن ذلك نادر، والإيمان بعد أن تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، وعلى تقدير وقوع ذلك - وقد وقع لكن نادرا - فمن سبق له في علم الله خاتمة السوء فلا بد من وقوعها طال عمره أو قصر، فتعجيله بطلب الموت لا خير له فيه‏.‏
    ويؤيده حديث أبي أمامة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد‏:‏ يا سعد إن كنت خلقت للجنة فما طال من عمرك أو حسن من عملك فهو خير لك ‏"‏ أخرجه بسند لين، ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد ومسلم ‏"‏ وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا ‏"‏ واستشكل بأنه قد يعمل السيئات فيزيده عمره شرا، وأجيب بأجوبة‏:‏ أحدها حمل المؤمن على الكامل وفيه بعد، والثاني أن المؤمن بصدد أن يعمل ما يكفر ذنوبه إما من اجتناب الكبائر وإما من فعل حسنات أخر تقاوم سيئاته، وما دام الإيمان باق فالحسنات بصدد التضعيف، والسيئات بصدد التكفير‏.‏
    وأن المحسن يرجو من الله الزيادة بأن يوفقه للزيادة من عمله الصالح، وأن المسيء لا ينبغي له القنوط من رحمة الله ولا قطع رجائه، أشار إلى ذلك شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي‏"‏‏.‏
    ويدل على أن قصر العمر قد يكون خيرا للمؤمن حديث أنس الذي في أول الباب ‏"‏ وتوفني إذا كان الوفاة خيرا لي ‏"‏ وهو لا ينافي حديث أبي هريرة ‏"‏ أن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرا ‏"‏ إذا حمل حديث أبي هريرة على الأغلب ومقابله على النادر
    (ج10/ ص 162)
    قال عياض‏:‏ الوباء عموم الأمراض، وقد أطلق بعضهم على الطاعون أنه وباء لأنه من أفراده، لكن ليس كل وباء طاعونا، وعلى ذلك يحمل قول الداودي لما ذكر الطاعون‏:‏ الصحيح أنه الوباء، وكذا جاء عن الخليل بن أحمد أن الطاعون هو الوباء‏.‏
    وقال ابن الأثير في النهاية‏:‏ الطاعون المرض العام، والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة والأبدان‏.‏
    وقال ابن سيناء‏:‏ الوباء ينشأ عن فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده‏.‏
    قلت‏:‏ ويفارق الطاعون الوباء بخصوص سببه الذي ليس هو في شيء من الأوباء، وهو كونه من طعن الجن
    وقد تواترت الأحاديث بالاستعاذة من الجنون والجذام وسيئ الأسقام ومنكرات الأخلاق والأهواء والأدواء، فمن ينكر التداوي بادعاء يلزمه أن ينكر التداوي بالعقاقير ولم يقل بذلك إلا شذوذ، والأحاديث الصحيحة ترد عليهم، وفي الالتجاء إلى الدعاء مزيد فائدة ليست في التداوي بغيره، لما فيه من الخضوع والتذلل للرب سبحانه، بل منع الدعاء من جنس ترك الأعمال الصالحة اتكالا على ما قدر، فيلزم ترك العمل جملة، ورد البلاء بالدعاء كرد السهم بالترس، وليس من شرط الإيمان بالقدر أن لا يتترس من رمي السهم، والله أعلم‏.

  3. #203
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    كتاب " الطب " من فتح الباري
    باب 19/ج5707
    الموافق 23/ رجب / 1441هجري
    الموافق 17/3/ 2020 ميلادي
    وناسب كتابته " تفشي وباء عظيم في الأمة " " وجائحة في العالم الاسلامي " وهو اشد فتكا من أي مرض في البشرية على إثرها
    افتت اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء على اغلاق المساجد للجماعة والجمعة ما عدا الحرمين زاده الله تشريفا
    والحمد لله على كل حال " 17/ 3/ 2020 ميلادي .



    (ج10/ ص 166)
    والطب نوعان‏:‏ طب جسد وهو المراد هنا، وطب قلب ومعالجته خاصة بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه سبحانه وتعالى‏.‏
    وأما طب الجسد فمنه ما جاء في المنقول عنه صلى الله عليه وسلم ومنه ما جاء عن غيره، وغالبه راجع إلى التجربة‏.‏
    ثم هو نوعان‏:‏ نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر بل فطر الله على معرفته الحيوانات، مثل ما يدفع الجوع والعطش‏.‏
    ونوع يحتاج إلى الفكر والنظر كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال، وهو إما إلى حرارة أو برودة، وكل منهما إما إلى رطوبة، أو يبوسة، أو إلى ما يتركب منهما‏.‏
    وغالب ما يقاوم الواحد منهما بضده، والدفع قد يقع من خارج البدن وقد يقع من داخله وهو أعسرهما‏.‏
    والطريق إلى معرفته بتحقق السبب والعلامة، فالطبيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق ما يضر بالبدن جمعه أو عكسه، وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه، ومدار ذلك على ثلاثة أشياء‏:‏ حفظ الصحة، والاحتماء عن المؤذي، واستفراغ المادة الفاسدة‏.‏
    (ج10/ ص 170)
    قال الخطابي انتظم هذا الحديث على جملة ما يتداوى به الناس، وذلك أن الحجم يستفرغ الدم وهو أعظم الأخلاط، والحجم أنجحها شفاء عند هيجان الدم، وأما العسل فهو مسهل للأخلاط البلغمية، ويدخل في المعجونات ليحفظ على تلك الأدوية قواها ويخرجها من البدن، وأما الكي فإنما يستعمل في الخلط الباغي الذي لا تنحسم مادته إلا به، ولهذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم ثم نهى عنه، وإنما كرهه لما فيه من الألم الشديد والخطر العظيم، ولهذا كانت العرب تقول في أمثالها ‏"‏ آخر الدواء الكي‏"‏، وقد كوى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وغيره، واكتوى غير واحد من الصحابة‏.‏
    قلت‏:‏ ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم الحصر في الثلاثة، فإن الشفاء قد يكون في غيرها، وإنما نبه بها على أصول العلاج، وذلك أن الأمراض الامتلائية تكون دموية وصفراوية وبلغمية وسوداوية، وشفاء الدموية بإخراج الدم، وإنما خص الحجم بالذكر لكثرة استعمال العرب والفهم له، بخلاف الفصد فإنه وإن كان في معنى الحجم لكنه لم يكن معهودا لها غالبا‏.‏
    (ج10/ ص 172)
    يؤخذ من الجمع بين كراهته صلى الله عليه وسلم للكي وبين استعماله له أنه لا يترك مطلقا ولا يستعمل مطلقا، بل يستعمل عند تعينه طريقا إلى الشفاء مع مصاحبة اعتقاد أن الشفاء بإذن الله تعالى، وعلى هذا التفسير يحمل حديث المغيرة رفعه ‏"‏ من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل ‏"‏ أخرجه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم‏.‏
    وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ علم من مجموع كلامه في الكي أن فيه نفعا وأن فيه مضرة، فلما نهى عنه علم أن جانب المضرة فيه أغلب، وقريب منه إخبار الله تعالى أن في الخمر منافع ثم حرمها لأن المضار التي فيها أعظم من المنافع‏.‏
    (ج10/ ص 173)
    وذكر ابن بطال أن بعضهم قال‏:‏ إن قوله تعالى ‏(‏فيه شفاء للناس‏)‏ أي لبعضهم، وحمله على ذلك أن تناول العسل قد يضر ببعض الناس كمن يكون حار المزاج، لكن لا يحتاج إلى ذلك لأنه ليس في حمله على العموم ما يمنع أنه قد يضر الأبدان بطريق العرض‏.‏
    والعسل يذكر ويؤنث، وأسماؤه تزيد على المائة، وفيه من المنافع ما لخصه الموفق البغدادي وغيره فقالوا‏:‏ يجلو الأوساخ التي في العروق والأمعاء، ويدفع الفضلات، ويغسل خمل المعدة، ويسخنها تسخينا معتدلا، ويفتح أفواه العروق ويشد المعدة والكبد والكلى والمثانة والمنافذ، وفيه تحليل للرطوبات أكلا وطلاء وتغذية، وفيه حفظ المعجونات وإذهاب لكيفية الأدوية المستكرهة، وتنقية الكبد والصدر، وإدرار البول والطمث، ونفع للسعال الكائن من البلغم، ونفع لأصحاب البلغم والأمزجة الباردة‏.‏
    وإذا أضيف إليه الخل نقع أصحاب الصفراء‏.‏
    ثم هو غذاء من الأغذية، ودواء من الأدوية، وشراب من الأشربة، وحلوى من الحلاوات، وطلاء من الأطلية، ومفرح من المفرحات‏.‏
    ومن منافعه أنه إذا شرب حارا بدهن الورد نفع من نهش الحيوان، وإذا شرب وحده بماء نفع من عضة الكلب الكلب، وإذا جعل فيه اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر، وكذلك الخيار والقرع والباذنجان والليمون ونحو ذلك من الفواكه، وإذا لطخ به البدن للقمل قتل القمل والصئبان، وطول الشعر وحسنه ونعمه، وإن اكتحل به جلا ظلمة البصر، وإن استن به صقل الأسنان وحفظ صحتها‏.‏
    وهو عجيب في حفظ جثث الموتى فلا يسرع إليها البلى، وهو مع ذلك مأمون الغائلة قليل المضرة، ولم يكن يعول قدماء الأطباء في الأدوية المركبة إلا عليه، ولا ذكر للسكر في أكثر كتبهم أصلا‏.‏
    وقد أخرج أبو نعيم في ‏"‏ الطب النبوي ‏"‏ بسند ضعيف من حديث أبي هريرة رفعه وابن ماجه بسند ضعيف من حديث جابر رفعه ‏"‏ من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم بلاء ‏"‏ والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 179)
    ذكره الأطباء في علاج الزكام العارض منه عطاس كثير وقالوا‏:‏ تقلى الحبة السوداء ثم تدق ناعما ثم تنقع في زيت ثم يقطر منه في الأنف ثلاث قطرات، فلعل غالب بن أبجر كان مزكوما فلذلك وصف له ابن أبي عتيق الصفة المذكورة، وظاهر سياقه أنها موقوفة عليه، ويحتمل أن تكون عنده مرفوعة أيضا، فقد وقع في رواية الأعين عند الإسماعيلي بعد قوله من كل داء ‏"‏ وأقطروا عليها شيئا من الزيت ‏"‏ وفي رواية له أخرى ‏"‏ وربما قال وأقطروا الخ ‏"‏ وادعى الإسماعيلي أن هذه الزيادة مدرجة في الخبر، وقد أوضحت ذلك رواية ابن أبي شيبة؛ ثم وجدتها مرفوعة من حديث بريدة فأخرج المستغفري في ‏"‏ كتاب الطب ‏"‏ من طريق حسام بن مصك عن عبيد الله بن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الحبة السوداء فيها شفاء ‏"‏ الحديث، قال وفي لفظ ‏"‏ قيل‏:‏ وما الحبة السوداء‏؟‏ قال‏:‏ الشونيز قال‏:‏ وكيف أصنع بها‏؟‏ قال‏:‏ تأخذ إحدى وعشرين حبة فتصرها في خرقة ثم تضعها في ماء ليلة، فإذا أصبحت قطرت في المنخر الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتين، فإذا كان من الغد قطرت في المنخر الأيمن اثنتين وفي الأيسر واحدة، فإذا كان اليوم الثالث قطرت في الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتين ‏"‏ ويؤخذ من ذلك أن معنى كون الحبة شفاء من كل داء أنها لا تستعمل في كل داء صرفا بل ربما استعملت مفردة، وربما استعملت مركبة، وربما استعملت مسحوقة وغير مسحوقة، وربما استعملت أكلا وشربا وسعوطا وضمادا وغير ذلك‏.‏
    قد تدخل في بعض الأمراض الحارة اليابسة بالعرض فتوصل قوى الأدوية الرطبة الباردة إليها بسرعة تنفيذها، ويستعمل الحار في بعض الأمراض الحارة لخاصية فيه لا يستنكر كالعنزروت فإنه حار ويستعمل في أدوية الرمد المركبة، مع أن الرمد ورم حار باتفاق الأطباء، وقد قال أهل العلم بالطب‏:‏ إن طبع الحبة السوداء حار يابس، وهي مذهبة للنفخ، نافعة من حمى الربع والبلغم، مفتحة للسدد والريح، مجففة لبلة المعدة، وإذا دقت وعجنت بالعسل وشربت بالماء الحار أذابت الحصاة وأدرت البول والطمث، وفيها جلاء وتقطيع، وإذا دقت وربطت بخرقة من كتان وأديم شمها نفع من الزكام البارد، وإذا نقع منها سبع حبات في لبن امرأة وسعط به صاحب اليرقان أفاده، وإذا شرب منها وزن مثقال بماء أفاد من ضيق النفس، والضماد بها ينفع من الصداع البارد، وإذا طبخت بخل وتمضمض بها نفعت من وجع الأسنان الكائن عن برد، وقد ذكر ابن البيطار وغيره ممن صنف في المفردات في منافعها هذا الذي ذكرته وأكثر منه‏.‏
    (ج10/ ص 180)
    وقال الخطابي‏:‏ قوله ‏"‏ من كل داء ‏"‏ هو من العام الذي يراد به الخاص، لأنه ليس في طبع شيء من النبات ما يجمع جميع الأمور التي تقابل الطبائع في معالجة الأدواء بمقابلها، وإنما المراد أنها شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة‏.‏
    وقال أبو بكر بن العربي‏:‏ العسل عند الأطباء أقرب إلى أن يكون دواء من كل داء من الحبة السوداء، ومع ذلك فإن من الأمراض ما لو شرب صاحبه العسل لتأذى به، فإن كان المراد بقوله في العسل ‏"‏ فيه شفاء للناس ‏"‏ الأكثر الأغلب فحمل الحبة السوداء على ذلك أولى‏.‏
    وقال غيره‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصف الدواء بحسب ما يشاهده من حال المريض، فلعل قوله في الحبة السوداء وافق مرض من مزاجه بارد، فيكون معني قوله ‏"‏ شفاء من كل داء ‏"‏ أي من هذا الجنس الذي
    وقع القول فيه، والتخصيص بالحيثية كثير شائع والله أعلم‏.‏
    وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ تكلم الناس في هذا الحديث وخصوا عمومه وردوه إلى قول أهل الطب والتجربة، ولا خفاء بغلط قائل ذلك، لأنا إذا صدقنا أهل الطب - ومدار علمهم غالبا إنما هو على التجربة التي بناؤها على ظن غالب - فتصديق من لا ينطق عن الهوى أولى بالقبول من كلامهم‏.‏
    (ج10/ ص 180)
    وقال القرطبي‏:‏ قيد بعض مشايخنا الشين بالفتح وحكى عياض عن ابن الأعرابي أنه كسرها فأبدل الواو ياء فقال الشينيز، وتفسير الحبة السوداء بالشونيز لشهوة الشونيز عندهم إذ ذاك، وأما الآن فالأمر بالعكس، والحبة السوداء أشهر عند أهل هذا العصر من الشونيز بكثير، وتفسيرها بالشونيز هو الأكثر الأشهر وهي الكمون الأسود ويقال له أيضا الكمون الهندي‏.‏
    ونقل إبراهيم الحربي في ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏ عن الحسن البصري أنها الخردل، وحكى أبو عبيد الهروي في ‏"‏ الغريبين ‏"‏ أنها ثمرة البطم بضم الموحدة وسكون المهملة، واسم شجرتها الضرو بكسر المعجمة وسكون الراء‏.‏
    وقال الجوهري‏:‏ هو صمغ شجرة تدعى الكمكام تجلب من اليمن، ورائحتها طيبة، وتستعمل في البخور‏.‏
    قلت‏:‏ وليست المراد هنا جزما‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ تفسيرها بالشونيز أولى من وجهين‏:‏ أحدهما أنه قول الأكثر، والثاني كثرة منافعها بخلاف الخردل والبطم‏.
    (ج10/ ص 181)
    ل الأصمعي‏:‏ هي حساء يعمل من دقيق أو نخالة ويجعل فيه عسل قال غيره‏:‏ أو لبن‏.‏
    سميت تلبينة تشبيها لها باللبن في بياضها ورقتها‏.‏
    وقال ابن قتيبة‏:‏ وعلى قول من قال يخلط فيها لبن سميت بذلك لمخالطة اللبن لها‏.‏
    وقال أبو نعيم في الطب‏:‏ هي دقيق بحت‏.‏
    وقال قوم‏:‏ فيه شحم‏.‏
    وقال الداودي‏:‏ يؤخذ العجين غير خمير فيخرج ماؤه فيجعل حسوا فيكون لا يخالطه شيء، فلذلك كثر نفعه‏.‏
    وقال الموفق البغدادي‏:‏ التلبينة الحساء ويكون في قوام اللبن، وهو الدقيق النضيج لا الغليظ النيئ‏.‏
    ي رواية الليث عن عقيل ‏"‏ إن عائشة كانت إذا مات الميت من أهلها ثم اجتمع لذلك النساء ثم تفرقن أمرت ببرمة تلبينة فطبخت ثم قالت‏:‏ كلوا منها‏"‏‏.‏
    وأخرجه النسائي من وجه آخر عن عائشة وزاد ‏"‏ والذي نفس محمد بيده إنها لتغسل بطن أحدكم كما يغسل أحدكم الوسخ عن وجهه بالماء ‏"‏ وله وهو عند أحمد والترمذي من طريق محمد بن السائب بن بركة عن أمه عن عائشة قالت ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله الوعك أمر بالحساء فصنع، ثم أمرهم فحسوا منه ثم قال‏:‏ إنه يرتو فؤاد الحزين ويسرو عن فؤاد السقيم، كما تسرو إحداكن الوسخ عن وجهها بالماء‏"‏‏.‏
    قال الموفق البغدادي‏:‏ إذا شئت معرفة منافع التلبينة فاعرف منافع ماء الشعير ولا سيما إذا كان نخالة، فإنه يجلو وينفذ بسرعة ويغذي غذاء لطيفا، وإذا شرب حارا كان أجلى وأقوى نفوذا وأنمى للحرارة الغريزية‏.‏
    وقال صاحب ‏"‏ الهدى ‏"‏‏:‏ التلبينة أنفع من الحساء لأنها تطبخ مطحونة فتخرج خاصة الشعير بالطحن، وهي أكثر تغذية وأقوى فعلا وأكثر جلاء، وإنما اختار الأطباء النضيج لأنه أرق وألطف فلا يثقل على طبيعة المريض‏.‏
    وينبغي أن يختلف الانتفاع بذلك بحسب اختلاف العادة في البلاد، ولعل اللائق بالمريض ماء الشعير إذا طبخ صحيحا، وبالحزين إذا طبخ مطحونا، لما تقدمت الإشارة من الفرق بينهما في الخاصية والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 183)
    لسعوط وهو أن يستلقي على ظهره ويجعل بين كتفيه ما يرفعهما لينحدر رأسه ويقطر في أنفه ماء أو دهن فيه دواء مفرد أو مركب، ليتمكن بذلك من الوصول إلى دماغه لاستخراج ما فيه من الداء بالعطاس
    وأخرج الترمذي من وجه آخر عن ابن عباس رفعه ‏"‏ أن خير ما تداويتم به السعوط‏"‏‏.
    (ج10/ ص 184)

    قال أبو بكر بن العربي القسط نوعان‏:‏ هندي وهو أسود، وبحري وهو أبيض، والهندي أشدهما حرارة‏.‏
    وأخرج أحمد وأصحاب السنن من حديث جابر مرفوعا ‏"‏ أيما امرأة أصاب ولدها عذرة أو وجع في رأسه فلتأخذ قسطا هنديا فتحكه بماء ثم تسعطه إياه ‏"‏ وفي حديث أنس الآتي بعد بابين ‏"‏ إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري ‏"‏ وهو محمول على أنه وصف لكل ما يلائمه، فحيث وصف الهندي كان لاحتياج في المعالجة إلى دواء شديد الحرارة، وحيث وصف البحري كان دون ذلك في الحرارة، لأن الهندي كما تقدم أشد حرارة من البحري‏.‏
    وقال ابن سينا‏:‏ القسط حار في الثالثة يابس في الثانية‏.‏
    قد ذكر الأطباء من منافع القسط أنه يدر الطمث والبول ويقتل ديدان الأمعاء ويدفع السم وحمى الربع والورد ويسخن المعدة ويحرك شهوة الجماع ويذهب الكلف طلاء، فذكروا أكثر من سبعة، وأجاب بعض الشراح بأن السبعة علمت بالوحي وما زاد عليها بالتجربة، فاقتصر على ما هو بالوحي لتحققه وقيل ذكر ما يحتاج إليه دون غيره لأنه لم يبعث بتفاصيل ذلك قلت‏:‏ ويحتمل أن تكون السبعة أصول صفة التداوي بها؛ لأنها إما طلاء أو شرب أو تكميد أو تنطيل أو تبخير أو سعوط أو لدود؛ فالطلاء يدخل في المراهم ويحلى بالزيت ويلطخ، وكذا التكميد، والشرب يسحق ويجعل في عسل أو ماء أو غيرهما، وكذا التنطيل، والسعوط يسحق في زيت ويقطر في الأنف، وكذا الدهن، والتبخير واضح، وتحت كل واحدة من السبعة منافع لأدواء مختلفة ولا يستغرب ذلك ممن أوتي جوامع الكلم‏.‏
    وأما العذرة فهي بضم المهملة وسكون المعجمة وجع في الحلق يعتري الصبيان غالبا، وقيل هي قرحة تخرج بين الأذن والحلق أو في الخرم الذي بين الأنف والحلق، قيل سميت بذلك لأنها تخرج غالبا عند طلوع العذرة؛ وهي خمسة كواكب تحت الشعري العبور، ويقال لها أيضا العذاري، وطلوعها يقع وسط الحر‏.‏
    وقد استشكل معالجتها بالقسط مع كونه حارا والعذرة إنما تعرض في زمن الحر بالصبيان وأمزجتهم حارة ولا سيما وقطر الحجاز حار، وأجيب بأن مادة العذرة دم يغلب عليه البلغم، وفي القسط تخفيف للرطوبة‏.‏
    وقد يكون نفعه في هذا الدواء بالخاصية، وأيضا فالأدوية الحارة قد تنفع في الأمراض الحارة بالعرض كثيرا، بل وبالذات أيضا‏.‏
    (ج10/ ص 185)
    حديث ابن عباس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم ‏"‏ وهو يقتضي كون ذلك وقع منه نهارا، وعند الأطباء أن أنفع الحجامة ما يقع في الساعة الثانية أو الثالثة، وأن لا يقع عقب استفراغ عن جماع أو حمام أو غيرهما ولا عقب شبع ولا جوع‏.‏
    وقد ورد في تعيين الأيام للحجامة حديث لابن عمر عند ابن ماجه رفعه في أثناء حديث وفيه ‏"‏ فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس، واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء؛ واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء والجمعة والسبت والأحد ‏"‏ أخرجه من طريقين ضعيفين، وله طريق ثالثة ضعيفة أيضا عند الدار قطني في ‏"‏ الأفراد ‏"‏ وأخرجه بسند جيد عن ابن عمر موقوفا، ونقل الخلال عن أحمد أنه كره الحجامة في الأيام المذكورة وأن الحديث لم يثبت، وحكى أن رجلا احتجم يوم الأربعاء فأصابه برص لكونه تهاون بالحديث‏.‏
    وأخرج أبو داود من حديث أبي بكرة أنه كان يكره الحجامة يوم الثلاثاء وقال ‏"‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يوم الثلاثاء يوم الدم، وفيه ساعة لا يرقأ فيها‏"‏‏.‏
    وورد في عدد من الشهر أحاديث‏:‏ منها ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان شفاء من كل داء ‏"‏ وهو من رواية سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن سهيل بن أبي صالح، وسعيد وثقه الأكثر ولينه بعضهم من قبل حفظه‏.‏
    وله شاهد من حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي ورجاله ثقات، لكنه معلول‏.‏
    وشاهد آخر من حديث أنس عند ابن ماجه، وسنده ضعيف‏.‏
    و عند الترمذي من وجه آخر عن أنس لكن من فعله صلى الله عليه وسلم، ولكون هذه الأحاديث لم يصح منها شيء قال حنبل بن إسحاق‏:‏ كان أحمد يحتجم أي وقت هاج به الدم وأي ساعة كانت‏.‏
    وقد اتفق الأطباء على أن الحجامة في النصف الثاني من الشهر ثم في الربع الثالث من أرباعه أنفع من الحجامة في أوله وآخره، قال الموفق البغدادي‏:‏ وذلك أن الأخلاط في أول الشهر تهيج وفي آخره تسكن، فأولى ما يكون الاستفراغ في أثنائه‏.‏
    (ج10/ ص 187)
    قال الموفق البغدادي‏:‏ الحجامة تنقي سطح البدن أكثر من الفصد، والفصد لأعماق البدن، والحجامة للصبيان وفي البلاد الحارة أولى من الفصد وآمن غائلة، وقد تغني عن كثير من الأدوية، ولهذا وردت الأحاديث بذكرها دون الفصد، ولأن العرب غالبا ما كانت تعرف إلا الحجامة‏.‏
    وقال صاحب الهدى‏:‏ التحقيق في أمر الفصد والحجامة أنهما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والمزاج، فالحجامة في الأزمان الحارة والأمكنة الحارة والأبدان الحارة التي دم أصحابها في غاية النضج أنفع، والفصد بالعكس، ولهذا كانت الحجامة أنفع للصبيان ولمن لا يقوى على الفصد‏.‏
    خير ما تداويتم به الحجامة ‏"‏ ومن طريق معتمر عن حميد بلفظ ‏"‏ أفضل‏"‏، قال أهل المعرفة‏:‏ الخطاب بذلك لأهل الحجاز ومن كان في معناهم من أهل البلاد الحارة، لأن دماءهم رقيقة وتميل إلى ظاهر الأبدان لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح البدن، ويؤخذ من هذا أن الخطاب أيضا لغير الشيوخ لقلة الحرارة في أبدانهم‏.
    وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن ابن سيرين قال‏:‏ إذا بلغ الرجل أربعين سنة لم يحتجم‏.‏
    قال الطبري‏.‏
    وذلك أنه يصير من حينئذ في انتقاص من عمره وانحلال من قوى جسده، فلا ينبغي أن يزيده وهيا بإخراج الدم ا ه‏.‏
    وهو محمول على من لم تتعين حاجته إليه، وعلى من لم يعتد به، وقد قال ابن سينا في أرجوزته‏:‏ ومن يكن تعود الفصادة فلا يكن يقطع تلك العادة ثم أشار إلى أمه يقلل ذلك بالتدريج إلى أن ينقطع جملة في عشر الثمانين‏.‏
    (ج10/ ص 189)
    ورد في فضل الحجامة في الرأس حديث ضعيف أخرجه ابن عدي من طريق عمر بن رباح عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رفعه ‏"‏ الحجامة في الرأس تنفع من سبع‏:‏ من الجنون والجذام والبرص والنعاس والصداع ووجع الضرس والعين‏"‏‏.‏
    وعمر متروك رماه الفلاس وغيره بالكذب، ولكن قال الأطباء‏:‏ إن الحجامة في وسط الرأس نافعة جدا، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعلها كما في أول حديثي الباب وآخرهما وإن كان مطلقا فهو مقيد بأولهما، وورد أنه صلى الله عليه وسلم احتجم أيضا في الأخدعين والكاهل أخرجه الترمذي وحسنه وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم‏.‏
    قال أهل العلم بالطب‏:‏ فصد الباسليق ينفع حرارة الكبد والطحال والرئة ومن الشوصة وذات الجنب وسائر الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك، وفصد الأكحل ينفع الامتلاء العارض في جميع البدن إذا كان دمويا ولا سيما إن كان فسد، وفصد القيفال ينفع من علل الرأس والرقبة إذا كثر الدم أو فسد، وفصد الودجين لوجع الطحال والربو ووجه الجنبين، والحجامة على الكاهل تنفع من وجه المنكب والحلق وتنوب عن فصد الباسليق، والحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه كالأذنين والعينين والأسنان والأنف والحلق وتنوب عن فصد القيفال، والحجامة تحت الذقن تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم وتنقي الرأس، والحجامة على ظهر القدم تنوب عن فصد الصافن وهو عرق عند الكعب وتنفع من قروح الفخذين والساقين وانقطاع الطمث والحكة العارضة في الأنثيين، والحجامة على أسفل الصدر نافعة من دماميل الفخذ وجربه وبثوره ومن النقرس والبواسير وداء الفيل وحكة الطهر، ومحل ذلك كله إذا كان عن دم هائج وصادفه وقت الاحتياج إليه، والحجامة على المقعدة تنقع الأمعاء وفساد الحيض‏.‏
    (ج10/ ص190)
    بلحمة جمل :
    قال ابن وضاح‏:‏ هي بقعة معروفة وهي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا، وزعم بعضهم أنه الآلة التي احتجم بها أي احتجم بعظم جمل، والأول المعتمد،
    (ج10/ ص 190)
    ‏وأسباب الصداع كثيرة جدا‏:‏ منها ما تقدم، ومنها ما يكون عن ورم في المعدة أو في عروقها، أو ريح غليظة فيها أو لامتلائها، ومنها ما يكون من الحركة العنيفة كالجماع والقيء والاستفراغ أو السهر أو كثرة الكلام، ومنها ما يحدث عن الأغراض النفسانية كالهم والغم والحزن والجوع والحمى، ومنها ما يحدث عن حادث في الرأس كضربة تصيبه، أو ورم في صفاق الدماغ، أو حمل شيء ثقيل يضغط الرأس، أو تسخينه بلبس شيء خارج عن الاعتدال، أو تبريده بملاقاة الهواء أو الماء في البرد‏.‏
    وأما الشقيقة بخصوصها فهي في شرايين الرأس وحدها، وتختص بالموضع الأضعف من الرأس؛ وعلاجها بشد العصابة وقد أخرج أحمد من حديث بريدة ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان ربما أخذته الشقيقة؛ فيمكث اليوم واليومين لا يخرج
    وتقدم في الوفاة النبوية حديث ابن عباس ‏"‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عصب رأسه‏"‏‏.‏
    (ج10/ ص 192)
    وقال ابن قتيبة‏:‏ الكي نوعان‏:‏ كي الصحيح لئلا يعتل فهذا الذي قيل فيه‏:‏ ‏"‏ لم يتوكل من اكتوى ‏"‏ لأنه يريد أن يدفع القدر والقدر لا يدافع، والثاني كي الجرح إذا نغل أي فسد، والعضو إذا قطع، فهو الذي يشرع التداوي به فإن كان الكي لأمر محتمل فهو خلاف الأولى لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقق‏.‏
    وحاصل الجمع أن الفعل يدل على الجواز، وعدم الفعل لا يدل على المنع بل يدل على أن تركه أرجح من فعله، وكذا الثناء على تاركه‏.‏
    وأما النهي عنه فإما على سبيل الاختيار والتنزيه وإما عما لا يتعين طريقا إلى الشفاء والله أعلم‏.‏
    ولم أر في أثر صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى، إلا أن القرطبي نسب إلى ‏"‏ كتاب أدب النفوس ‏"‏ للطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى، وذكره الحليمي بلفظ ‏"‏ روي أنه اكتوى للجرح الذي أصابه بأحد‏"‏‏.‏
    قلت‏:‏ والثابت في الصحيح كما تقدم في غزوة أحد ‏"‏ أن فاطمة أحرقت حصيرا فحشت به جرحه ‏"‏ وليس هذا الكي المعهود، وجزم ابن التين بأنه اكتوى، وعكسه ابن القيم في الهدى‏.‏
    (ج10/ ص 193)
    ‏لا رقية إلا من عين أو حمة‏)‏ بضم المهملة وتخفيف الميم، قال ثعلب وغيره‏:‏ هي سم العقرب‏.‏
    وقال القزاز‏:‏ قيل‏:‏ هي شوكة العقرب، وكذا قال ابن سيده إنها الإبرة التي تضرب بها العقرب والزنبور‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ الحمة كل هامة ذات سم من حية أو عقرب‏.‏
    وقد أخرج أبو داود من حديث سهل بن حنيف مرفوعا ‏"‏ لا رقية إلا من نفس، أو حمة، أو لدغة ‏"‏ فغاير بينهما، فيحتمل أن يخرج على أن الحمة خاصة بالعقرب، فيكون ذكر اللدغة بعدها من العام بعد الخاص‏.‏
    (ج10/ ص 195)
    لم أر في شيء من طرقه ذكر الإثمد، فكأنه ذكره لكون العرب غالبا إنما تكتحل به، وقد ورد التنصيص عليه في حديث ابن عباس رفعه ‏"‏ اكتحلوا بالإثمد، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر ‏"‏ أخرجه الترمذي وحسنه واللفظ له، وابن ماجه وصححه ابن حبان، وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن ابن عباس في ‏"‏ الشمائل ‏"‏ وفي الباب عن جابر عند الترمذي في ‏"‏ الشمائل ‏"‏ وابن ماجه وابن عدي من ثلاث طرق عن ابن المنكدر عنه بلفظ ‏"‏ عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر ‏"‏ وعن علي عند ابن أبي عاصم والطبراني ولفظه ‏"‏ عليكم بالإثمد فإنه منبتة للشعر، مذهبة للقذى، مصفاة للبصر ‏"‏ وسنده حسن، وعن ابن عمر بنحوه عند الترمذي في ‏"‏ الشمائل ‏"‏ وعن أنس في ‏"‏ غريب مالك ‏"‏ للدار قطني بلفظ ‏"‏ كان يأمرنا بالإثمد ‏"‏ وعن سعيد بن هوذة عند أحمد بلفظ ‏"‏ اكتحلوا بالإثمد فإنه ‏"‏ الحديث، وهو عند أبي داود من حديثه بلفظ ‏"‏ إنه أمر بالإثمد المروح عند النوم ‏"‏ وعن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ خير أكحالكم الإثمد فإنه ‏"‏ الحديث أخرجه البزار وفي سنده مقال، وعن أبي رافع ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد ‏"‏ أخرجه البيهقي وفي سنده مقال، وعن عائشة ‏"‏ كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثمد يكحل به عند منامه في كل عين ثلاثا ‏"‏ أخرجه أبو الشيخ في كتاب ‏"‏ أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بسند ضعيف، والإثمد بكسر الهمزة والميم بينهما ثاء مثلثة ساكنة وحكي فيه ضم الهمزة‏:‏ حجر معروف أسود يضرب إلى الحمرة يكون في بلاد الحجاز وأجوده يؤتى به من أصبهان، واختلف هل هو اسم الحجر الذي يتخذ منه الكحل أو هو نفس الكحل‏؟‏ ذكره ابن سيده وأشار إليه الجوهري، وفي هذه الأحاديث استحباب الاكتحال بالإثمد ووقع الأمر بالاكتحال وترا من حديث أبي هريرة في ‏"‏ سنن أبي داود ‏"‏ ووقع في بعض الأحاديث التي أشرت إليها كبقية الاكتحال، وحاصله ثلاثا في كل عين، فيكون الوتر في كل واحدة على حدة، أو اثنتين في كل عين وواحدة بينهما، أو في اليمين ثلاثا وفي اليسرى ثنتين فيكون الوتر بالنسبة لهما جميعا وأرجحها الأول والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص196)
    فالحاصل من ذلك ستة أشياء‏:‏ العدوى والطيرة والهامة والصفر والغول والنوء، والأربعة الأول قد أفرد البخاري لكل واحد منها ترجمة فنذكر شرحها فيه وأما الغول فقال الجمهور‏:‏ كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات، وهي جنس من الشياطين تتراءى للناس وتتغول لهم تغولا أي تتلون تلونا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم، وقد كثر في كلامهم ‏"‏ غالته الغول ‏"‏ أي أهلكته أو أضلته، فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك‏.‏
    وقيل‏:‏ ليس المراد إبطال وجود الغيلان، وإنما معناه إبطال ما كانت العرب تزعمه من تلون الغول بالصور المختلفة، قالوا‏:‏ والمعني لا يستطيع الغول أن يضل أحدا‏.‏
    ويؤيده حديث ‏"‏ إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان ‏"‏ أي ادفعوا شرها بذكر الله‏.‏
    (ج10/ ص 197)
    وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد الثقفي عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏ كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنا قد بايعناك، فارجع ‏"‏ قال عياض‏:‏ اختلفت الآثار في المجذوم، فجاء ما تقدم عن جابر ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع مجذوم وقال‏:‏ ثقة بالله وتوكلا عليه ‏"‏ قال فذهب عمر وجماعة من السلف إلى الأكل معه ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ‏.‏
    وممن قال بذلك عيسى بن دينار من المالكية، قال‏:‏ والصحيح الذي عليه الأكثر ويتعين المصير إليه أن لا نسخ، بل يجب الجمع بين الحديثين وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط، والأكل معه على بيان الجواز ا
    حكى غيره قولا ثالثا وهو الترجيح، وقد سلكه فريقان‏:‏ أحدهما سلك ترجيح الأخبار الدالة على نفي العدوى وتزييف الأخبار الدالة على عكس ذلك مثل حديث الباب فأعلوه بالشذوذ، وبأن عائشة أنكرت ذلك، فأخرج الطبري عنها ‏"‏ أن امرأة سألتها عنه فقالت‏:‏ ما قال ذلك، ولكنه قال‏:‏ لا عدوى‏.‏
    وقال‏:‏ فمن أعدى الأول‏؟‏ قالت‏:‏ وكان لي مولى به هذا الداء فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي ‏"‏ وبأن أبا هريرة تردد في هذا الحكم كما سيأتي بيانه فيؤخذ الحكم من رواية غيره، وبأن الأخبار الواردة من رواية غيره في نفي العدوى كثيرة شهيرة بخلاف الأخبار المرخصة في ذلك، ومثل حديث ‏"‏ لا تديموا النظر إلى المجذومين ‏"‏ وقد أخرجه ابن ماجه وسنده ضعيف، ومثل حديث عبد الله بن أبي أوفى رفعه ‏"‏ كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمحين ‏"‏ أخرجه أبو نعيم في الطب بسند واه، ومثل ما أخرجه الطبري من طريق معمر عن الزهري ‏"‏ أن عمر قال لمعيقيب‏:‏ اجلس مني قيد رمح ‏"‏ ومن طريق خارجة بن زيد كان عمر يقول نحوه، وهما أثران منقطعان، وأما حديث الشريد الذي أخرجه مسلم فليس صريحا في أن ذلك بسبب الجذام، والجواب عن ذلك أن طريق الترجيح لا يصار إليها إلا مع تعذر الجمع، وهو ممكن، فهو أولى‏.‏
    الفريق الثاني سلكوا في الترجيح عكس هذا المسلك، فردوا حديث لا عدوى بأن أبا هريرة رجع عنه إما لشكه فيه وإما لثبوت عكسه عنده كما سيأتي إيضاحه في ‏"‏ باب لا عدوى ‏"‏ قالوا‏:‏ والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارج وأكثر طوقا فالمصير إليها أولى، قالوا‏:‏ وأما حديث جابر ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال‏:‏ كل ثقة بالله وتوكلا عليه ‏"‏ ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي وبين الاختلاف فيه على راويه ورجح وقفه على عمر، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم أكل معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة، قاله الكلاباذي في ‏"‏ معاني الأخبار‏"‏‏.‏
    والجواب أن طريق الجمع أولى كما تقدم، وأيضا فحديث لا عدوى ثبت من غير طريق أبي هريرة فصح عن عائشة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وجابر وغيرهم، فلا معنى لدعوى كونه معلولا، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 199-200)
    وفي طريق الجمع مسالك أخرى‏:‏ أحدها‏:‏ نفي العدوى جملة وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذوم، لأنه إذا رأى الصحيح البدن السليم من الآفة تعظم مصيبته وتزداد حسرته، ونحوه حديث ‏"‏ لا تديموا النظر إلى المجذومين ‏"‏ فإنه محمول على هذا المعنى‏.‏
    ثانيها‏:‏ حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء ‏"‏ لا عدوى ‏"‏ كان المخاطب بذلك من قوي يقينه وصح توكله بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى، كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وهذا مثل ما تدفع قوة الطبيعة العلة فتبطلها، وعلى هذا يحمل حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة وسائر ما ورد من جنسه، وحيث جاء ‏"‏ فر من المجذوم ‏"‏ كان المخاطب بذلك من ضعف يقينه، ولم يتمكن من تمام التوكل فلا يكون له قوة على دفع اعتقاد العدوى، فأريد بذلك سد باب اعتقاد العدوى عنه بأن لا يباشر ما يكون سببا لإثباتها‏.‏
    وقريب من هذا كراهيته صلى الله عليه وسلم الكي مع إذنه فيه كما تقدم تقريره، وقد فعل هو صلى الله عليه وسلم كلا من الأمرين ليتأسى به كل من الطائفتين‏.‏
    ثالث المسالك‏:‏ قال القاضي أبو بكر الباقلاني‏:‏ إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوى، قال‏:‏ فيكون معني قوله‏:‏ ‏"‏ لا عدوى ‏"‏ أي إلا من الجذام والبرص والجرب مثلا، قال‏:‏ فكأنه قال لا يعدي شيء شيئا إلا ما تقدم تبييني له أن فيه العدوى‏.‏
    وقد حكى ذلك ابن بطال‏.‏
    رابعها‏:‏ أن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمر طبيعي وهو انتقال الداء من جسد لجسد بواسطة الملامسة والمخالطة وشم الرائحة، ولذلك يقع في كثير من الأمراض في العادة انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة، وهذه طريقة ابن قتيبة فقال‏:‏ المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته ومضاجعته، وكذا يقع كثيرا بالمرأة من الرجل وعكسه، وينزع الولد إليه، ولهذا يأمر الأطباء بترك مخالطة المجذوم لا على طريق العدوى بل على طريق التأثر بالرائحة لأنها تسقم من واظب اشتمامها، قال‏:‏ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يورد ممرض على مصح ‏"‏ لأن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حككها وأوى إلى مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وكذا بالنظر نحو ما به‏.‏
    قال‏:‏ وأما قوله‏:‏ ‏"‏ لا عدوى ‏"‏ فله معنى آخر، وهو أن يقع المرض بمكان كالطاعون فيفر منه مخافة أن يصيبه، لأن فيه نوعا من الفرار من قدر الله‏.‏
    المسلك الخامس‏:‏ أن المراد ينفي العدوى أن شيئا لا يعدي بطبعه نفيا لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله هو الذي يمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنو منه ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئا، وإن شاء أبقاها فأثرت، ويحتمل أيضا أن يكون أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم أنه كان به أمر يسير لا يعدي مثله في العادة، إذا ليس الجذمي كلهم سواء، ولا تحصل العدوى من جميعهم بل لا يحصل منه في العادة عدوى أصلا كالذي أصابه شيء من ذلك ووقف فلم يعد بقية جسمه فلا يعدي‏.‏
    وعلى الاحتمال الأول جرى أكثر الشافعية، قال البيهقي بعد أن أورد قول الشافعي ما نصه‏:‏ الجذام والبرص يزعم أهل العلم بالطب والتجارب أنه يعدي الزوج كثيرا، وهو داء مانع للجماع لا تكاد نفس أحد تطيب بمجامعة من هو به ولا نفس امرأة أن يجامعها من هو به، وأما الولد فبين أنه إذا كان من ولده أجذم أو أبرص أنه قلما يسلم، وإن سلم أدرك نسله‏.‏
    قال البيهقي‏:‏ وأما ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ لا عدوى ‏"‏ فهو على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى‏.‏
    وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب سببا لحدوث ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فر من المجذوم فرارك من الأسد ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ لا يورد ممرض على مصح ‏"‏ وقال في الطاعون ‏"‏ من سمع به بأرض فلا يقدم عليه ‏"‏ وكل ذلك بتقدير الله تعالى‏.‏
    وتبعه على ذلك ابن الصلاح في الجمع بين الحديثين ومن بعده وطائفة ممن قبله‏.‏
    المسلك السادس‏:‏ العمل بنفي العدوى أصلا ورأسا، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة لئلا يحدث للمخالط شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوى التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد وتبعه جماعة فقال أبو عبيد‏:‏ ليس في قوله‏:‏ ‏"‏ لا يورد ممرض على مصح ‏"‏ إثبات العدوى، بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير الله تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى فيفتتن ويتشكك في ذلك، فأمر باجتنابه‏.‏
    قال‏:‏ وكان بعض الناس يذهب إلى أن الأمر بالاجتناب إنما هو للمخافة على الصحيح من ذوات العاهة، قال‏:‏ وهذا شر ما حمل عليه الحديث، لأن فيه إثبات العدوى التي نفاها الشارع، ولكن وجه الحديث عندي ما ذكرته‏.‏
    وأطنب ابن خزيمة في هذا في ‏"‏ كتاب التوكل ‏"‏ فإنه أورد حديث ‏"‏ لا عدوى ‏"‏ عن عدة من الصحابة وحديث ‏"‏ لا يورد ممرض على مصح ‏"‏ من حديث أبي هريرة وترجم للأول ‏"‏ التوكل على الله في نفي العدوى ‏"‏ وللثاني ‏"‏ ذكر خبر غلط في معناه بعض العلماء، وأثبت العدوى التي نفاها النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثم ترجم ‏"‏ الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إثبات العدوى بهذا القول ‏"‏ فساق حديث أبي هريرة ‏"‏ لا عدوى، فقال أعرابي‏:‏ فما بال الإبل يخالطها الأجرب فتجرب‏؟‏ قال‏:‏ فمن أعدى الأول ‏"‏ ثم ذكر طرقه عن أبي هريرة، ثم أخرجه من حديث ابن مسعود، ثم ترجم ‏"‏ ذكر خبر روي في الأمر بالفرار من المجذوم قد يخطر لبعض الناس أن فيه إثبات العدوى وليس كذلك ‏"‏ وساق حديث ‏"‏ فر من المجذوم فرارك من الأسد ‏"‏ من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة، وحديث عمرو بن الشريد عن أبيه في أمر المجذوم بالرجوع، وحديث ابن عباس ‏"‏ لا تديموا النظر إلى المجذومين ‏"‏ ثم قال‏:‏ إنما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم كما نهاهم أن يورد الممرض على المصح شفقة عليهم، وخشية أن يصيب بعض من يخالطه المجذوم الجذام، والصحيح من الماشية الجرب فيسبق إلى بعض المسلمين أن ذلك من العدوى فيثبت العدوى التي نفاها صلى الله عليه وسلم فأمرهم بتجنب ذلك شفقة منه ورحمة ليسلموا من التصديق بإثبات العدوى، وبين لهم أنه لا يعدي شيء شيئا‏.‏
    قال‏:‏ ويؤيد هذا أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم ثقة
    بالله وتوكلا عليه، وساق حديث جابر في ذلك ثم قال‏:‏ وأما نهيه عن إدامة النظر إلى المجذوم فيحتمل أن يكون لأن المجذوم يغتم ويكره إدمان الصحيح نظره إليه، لأنه قل من يكون به داء إلا وهو يكره أن يطلع عليه ا ه‏.‏
    ال الطبري‏:‏ الصواب عندنا القول بما صح به الخبر، وأن لا عدوى، وأنه لا يصيب نفسا إلا ما كتب عليها‏.‏
    وأما دنو عليل من صحيح فغير موجب انتقال العلة للصحيح، إلا أنه لا ينبغي لذي صحة الدنو من صاحب العاهة التي يكرهها الناس، لا لتحريم ذلك، بل لخشية أن يظن الصحيح أنه لو نزل به ذلك الداء أنه من جهة دنوه من العليل فيقع فيما أبطله النبي صلى الله عليه وسلم من العدوى‏.‏
    قال‏:‏ وليس في أمره بالفرار من المجذوم معارضة لأكله معه، لأنه كان يأمر بالأمر على سبيل الإرشاد أحيانا وعلى سبيل الإباحة أخرى، وإن كان أكثر الأوامر على الإلزام، إنما كان يفعل ما نهى عنه أحيانا لبيان أن ذلك ليس حراما‏.

    .2ط‏
    (ج10/ ص 200)
    وقد سلك الطحاوي في ‏"‏ معاني الآثار ‏"‏ مسلك ابن خزيمة فيما ذكره فأورد حديث ‏"‏ لا يورد ممرض على مصح ‏"‏ ثم قال‏:‏ معناه أن المصح قد يصيبه ذلك المرض فيقول الذي أورده لو أني ما أوردته عليه لم يصبه من هذا المرض شيء، والواقع أنه لو لم يورده لأصابه لكون الله تعالى قدره، فنهى عن إيراده لهذه العلة التي لا يؤمن غالبا من وقوعها في قلب المرء ثم ساق الأحاديث في ذلك فأطنب، وجمع بينها بنحو ما جمع به ابن خزيمة‏.‏
    ولذلك قال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيراد الممرض على المصح مخافة الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من اعتقاد العدوى، أو مخافة تشويش النفوس وتأثير الأوهام، وهو نحو قوله‏:‏ ‏"‏ فر من المجذوم فرارك من الأسد ‏"‏ وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي، لكنا نجد في أنفسنا نفرة وكراهية لمخالطته، حتى لو أكره إنسان نفسه على القرب منه وعلى مجالسته لتأذت نفسه بذلك، فحينئذ فالأولى للمؤمن أن لا يتعرض إلى ما يحتاج فيه إلى مجاهدة، فيجتنب طرق الأوهام، ويباعد أسباب الآلام، مع أنه يعتقد أنه لا ينحي حذر من قدر، والله أعلم‏.‏
    قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ الأمر بالفرار من الأسد ليس للوجوب، بل للشفقة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى أمته عن كل ما فيه ضرر بأي وجه كان، ويدلهم على كل ما فيه خير‏.‏
    وقد ذكر بعض أهل الطب أن الروائح تحدث في الأبدان خللا فكان هذا وجه الأمر بالمجانبة، وقد أكل هو مع المجذوم، فلو كان الأمر بمجانبته على الوجوب لما فعله‏.‏
    قال‏:‏ ويمكن الجمع بين فعله وقوله بأن القول هو المشروع من أجل ضعف المخاطبين، وفعله حقيقة الإيمان، فمن فعل الأول أصاب السنة وهي أثر الحكمة، ومن فعل الثاني كان أقوى يقينا لأن الأشياء كلها لا تأثير لها إلا بمقتضى إرادة الله تعالى وتقديره، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله‏)‏ فمن كان قوي اليقين فله أن يتابعه صلى الله عليه وسلم في فعله ولا يضره شيء، ومن وجد في نفسه ضعفا فليتبع أمره في الفرار لئلا يدخل بفعله في إلقاء نفسه إلى التهلكة‏.‏
    فالحاصل أن الأمور التي يتوقع منها الضرر وقد أباحت الحكمة الربانية الحذر منها فلا ينبغي للضعفاء أن يقربوها وأما أصحاب الصدق واليقين فهم في ذلك بالخيار‏.‏
    قال‏:‏ وفي الحديث أن الحكم للأكثر لأن الغالب من الناس هو الضعف، فجاء الأمر بالفرار بحسب ذلك‏.‏
    واستدل بالأمر بالفرار من المجذوم لإثبات الخيار للزوجين في فسخ النكاح إذا وجده أحدهما بالآخر، وهو قول جمهور العلماء‏.‏
    واختلف في أمة الأجذم‏:‏ هل يجوز لها أن تمنع نفسها من استمتاعه إذا أرادها‏؟‏ واختلف العلماء في المجذومين إذا كثروا هل يمنعون من المساجد والمجامع‏؟‏ وهل يتخذ لهم مكان منفرد عن الأصحاء‏؟‏ ولم يختلفوا في النادر أنه لا يمنع ولا في شهود الجمعة‏.

    (ج10/ ص 202)
    والكمأة نبات لا ورق لها ولا ساق، توجد في الأرض من غير أن تزرع‏.‏
    قيل‏:‏ سميت بذلك لاستتارها، يقال كمأ الشهادة إذا كتمها‏.‏
    ومادة الكمأة من جوهر أرضي بخاري يحتقن نحو سطح الأرض ببرد الشتاء وينميه مطر الربيع فيتولد ويندفع متجسدا، ولذلك كان بعض العرب يسميها جدري الأرض تشبيها لها بالجدري مادة وصورة، لأن مادته رطوبة دموية تندفع غاليا عند الترعرع وفي ابتداء استيلاء الحرارة ونماء القوة ومشابهتها له في الصورة ظاهر‏.‏
    وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة ‏"‏ أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ الكمأة جدري الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الكمأة من المن ‏"‏ الحديث‏.‏
    وللطبري من طريق ابن المنكدر عن جابر قال‏:‏ ‏"‏ كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتنع قوم من أكلها وقالوا‏:‏ هي جدري الأرض، فبلغه ذلك فقال‏:‏ إن الكمأة ليست من جدري الأرض، ألا إن الكمأة من المن ‏"‏ والعرب تسمي الكمأة أيضا بنات الرعد لأنها تكثر بكثرته ثم تنفطر عنها الأرض‏.‏
    وهي كثيرة بأرض العرب، وتوجد بالشام ومصر، فأجودها ما كانت أرضه رملة قليلة الماء، ومنها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة‏.‏
    وهي باردة رطبة في الثانية رديئة للمعدة بطيئة الهضم، وإدمان أكلها يورث القولنج والسكتة والفالج وعسر البول، والرطب منها أقل ضررا من اليابس، وإذا دفنت في الطين الرطب ثم سلقت بالماء والملح والسعتر وأكلت بالزيت والتوابل الحارة قل ضررها، ومع ذلك ففيها جوهر مائي لطيف بدليل خفتها، فلذلك كان ماؤها شفاء للعين‏.‏
    (ج10/ ص 204)
    قيل في المراد بالمن ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أن المراد أنها من المن الذي أنزل على بني إسرائيل، وهو الطل الذي يسقط على الشجر فيجمع ويؤكل حلوا، ومنه الترنجبين فكأنه شبه به الكمأة بجامع ما بينهما من وجود كل منهما عفوا بغير علاج‏.‏
    والثاني‏:‏ أن المعنى أنها من المن الذي امتن الله به على عباده عفوا بغير علاج، قاله أبو عبيد وجماعة‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ ليس المراد أنها نوع من المن الذي أنزل على بني إسرائيل، فإن الذي أنزل على بني إسرائيل كان كالترنجبين الذي يسقط على الشجر، وإنما المعنى أن الكمأة شيء ينبت من غير تكلف ببذر ولا سقي، فهو من قبيل المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل فيقع على الشجر فيتناولونه‏.‏
    م أشار إلى أنه يحتمل أن يكون الذي أنزل على بني إسرائيل كان أنواعا، منها ما يسقط على الشجر، ومنها ما يخرج من الأرض فتكون الكمأة منه، وهذا هو القول الثالث وبه جزم الموفق عبد اللطيف البغدادي ومن تبعه فقالوا‏:‏ إن المن الذي أنزل على بني إسرائيل ليس هو ما يسقط على الشجر فقط بل كان أنواعا من الله عليهم بها من النبات الذي يوجد عفوا، ومن الطير التي تسقط عليهم بغير اصطياد، ومن الطل الذي يسقط على الشجر‏.‏
    (ج10/ ص 204)
    قال ابن الجوزي‏:‏ في المراد بكونها شفاء للعين قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه ماؤها حقيقة، إلا أن أصحاب هذا القول اتفقوا على أنه لا يستعمل صرفا في العين، لكن اختلفوا كيف يصنع به على رأيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه يخلط في الأدوية التي يكتحل بها حكاه أبو عبيد، قال‏:‏ ويصدق هذا الذي حكاه أبو عبيد أن بعض الأطباء قالوا‏:‏ أكل الكمأة يجلو البصر، ثانيهما‏:‏ أن تؤخذ فتشق وتوضع على الجمر حتى يغلي ماؤها، ثم يؤخذ الميل فيجعل في ذلك الشق وهو فاتر فيكتحل بمائها، لأن النار تلطفه وتذهب فضلاته الرديئة ويبقى النافع منه، ولا يجعل الميل في مائها وهي باردة يابسة فلا ينجع، وقد حكى إبراهيم الحربي عن صالح وعبد الله ابني أحمد بن حنبل أنهما اشتكت أعينهما فأخذا كمأة وعصراها واكتحلا بمائها فهاجت أعينهما ورمدا‏.‏
    قال ابن الجوزي‏:‏ وحكى شيخنا أبو بكر بن عبد الباقي أن بعض الناس عصر ماء كمأة فاكتحل به فذهبت عينه‏.‏
    والقول الثاني أن المراد ماؤها الذي تنبت به، فإنه أول مطر يقع في الأرض فتربى به الأكحال حكاه ابن الجوزي عن أبي بكر بن عبد الباقي أيضا، فتكون الإضافة إضافة الكل لا إضافة جزء‏.‏
    قال ابن القيم‏:‏ وهذا أضعف الوجوه‏.‏
    قلت‏:‏ وفيما ادعاه ابن الجوزي من الاتفاق على أنها لا تستعمل صرفا نظر، فقد حكى عياض عن بعض أهل الطب في التداوي بماء الكمأة تفصيلا، وهو إن كان لتبريد ما يكون بالعين من الحرارة فتستعمل مفردة، وإن كان لغير ذلك فتستعمل مركبة، وبهذا جزم ابن العربي فقال‏:‏ الصحيح أنه ينفع بصورته في حال، وبإضافته في أخرى، وقد جرب ذلك فوجد صحيحا‏.‏
    نعم جزم الخطابي بما قال ابن الجوزي فقال‏:‏ تربى بها التوتياء وغيرها من الأكحال، قال‏:‏ ولا تستعمل صرفا فإن ذلك يؤذي العين‏.‏
    وقال الغافقي في ‏"‏ المفردات ‏"‏‏:‏ ماء الكمأة أصلح الأدوية للعين إذا عجن به الإثمد واكتحل به، فإنه يقوي الجفن، ويزيد الروح الباصر حدة وقوة، ويدفع عنها النوازل‏.‏
    وقال النووي‏:‏ الصواب أن ماءها شفاء للعين مطلقا فيعصر ماؤها ويجعل في العين منه، قال‏:‏ وقد رأيت أنا وغيري في زماننا من كان عمي وذهب بصره حقيقة فكحل عينه بماء الكمأة مجردا فشفي وعاد إليه بصره، وهو الشيخ العدل الأمين الكمال بن عبد الدمشقي صاحب صلاح ورواية في الحديث، وكان استعماله لماء الكمأة اعتقادا في الحديث وتبركا به فنفعه الله به‏.‏
    وقال ابن القيم‏:‏ اعترف فضلاء الأطباء أن ماء الكمأة يجلو العين، منهم المسبحي وابن سينا وغيرهما‏.‏
    والذي يزيل الإشكال عن هذا الاختلاف أن الكمأة وغيرها من المخلوقات خلقت في الأصل سليمة من المضار، ثم عرضت لها الآفات بأمور أخرى من مجاورة أو امتزاج أو غير ذلك من الأسباب التي أرادها الله تعالى، فالكمأة في الأصل نافعة لما اختصت به من وصفها بأنها من الله، وإنما عرضت لها المضار بالمجاورة، واستعمال كل ما وردت به السنة بصدق ينتفع به من يستعمله، ويدفع الله عنه الضرر بنبته، والعكس بالعكس، والله أعلم‏.

    (ج10/ ص 209)
    قال الخطابي وغيره‏:‏ أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ، يقال كذب سمعك أي زل فلم يدرك حقيقة ما قيل له، فمعنى كذب بطنه أي لم يصلح لقبول الشفاء بل زل عنه، وقد اعترض بعض الملاحدة فقال‏:‏ العسل مسهل فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال‏؟‏ والجواب أن ذلك جهل من قائله، بل هو كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه‏)‏ فقد اتفق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والعادة والزمان والغذاء المألوف والتدبير وقوة الطبيعة، وعلى أن الإسهال يحدث من أنواع منها الهيضة التي تنشأ عن تخمة واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى مسهل معين أعينت ما دام بالعليل قوة، فكأن هذا الرجل كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته فوصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء لما في العسل من الجلاء ودفع الفضول التي تصيب المعدة من أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيها، وللمعدة خمل كخمل المنشفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء الواصل إليها، فكان دواؤها باستعمال ما يجلو تلك الأخلاط، ولا شيء في ذلك مثل العسل، لا سيما إن مزج بالماء الحار، وإنما لم يفده في أول مرة لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء، إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية وإن جاوزه أوهى القوة وأحدث ضررا آخر فكأنه شرب منه أولا مقدارا لا يفي بمقاومة الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ بإذن الله تعالى‏.‏
    (ج10/ ص 210)
    ال الخطابي‏:‏ والطب نوعان، طب اليونان وهو قياسي، وطب العرب والهند وهو تجاربي، وكان أكثر ما يصفه النبي صلى الله عليه وسلم لمن يكون عليلا على طريقة طب العرب، ومنه ما يكون مما اطلع عليه بالوحي‏.‏
    وقد قال صاحب ‏"‏ كتاب المائة في الطب ‏"‏ إن العسل تارة يجري سريعا إلى العروق وينفذ معه جل الغذاء ويدر البول فيكون قابضا، وتارة يبقى في المعدة فيهيجها بلذعها حتى يدفع الطعام ويسهل البطن فيكون مسهلا‏.‏
    فإنكار وصفه للمسهل مطلقا قصور من المنكر‏.‏
    وقال غيره‏:‏ طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن البرء لصدوره عن الوحي، وطب غيره أكثره حدس أو تجرية، وقد يتخلف الشفاء عن بعض من يستعمل طب النبوة، وذلك لمانع قام بالمستعمل من ضعف اعتقاد الشفاء به وتلقيه بالقبول، وأظهر الأمثلة في ذلك القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور، ومع ذلك فقد لا يحصل لبعض الناس شفاء صدره لقصوره في الاعتقاد والتلقي بالقبول، بل لا يزيد المنافق إلا رجسا إلى رجسه ومرضا إلى مرضه، فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شقاء القرآن لا يناسب إلا القلوب الطيبة؛ والله أعلم‏.‏
    وقال ابن الجوزي‏:‏ في وصفه صلى الله عليه وسلم العسل لهذا المنسهل أربعة أقوال‏:‏ أحدها أنه حمل الآية على عمومها في الشفاء، وإلى ذلك أشار بقوله‏:‏ ‏"‏ صدق الله ‏"‏ أي في قوله‏:‏ ‏(‏فيه شفاء للناس‏)‏ فلما نبهه على هذه الحكمة تلقاها بالقبول، فشفي بإذن الله‏.‏
    الثاني‏:‏ أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم من التداوي بالعسل في الأمراض كلها‏.‏
    الثالث‏:‏ أن الموصوف له ذلك كانت به هيضة كما تقدم تقريره‏.‏
    الرابع‏:‏ يحتمل أن يكون أمره بطبخ العسل قبل شربه فإنه يعقد البلغم، فلعله شربه أولا بغير طبخ انتهى‏.‏
    والثاني والرابع ضعيفان وفي كلام الخطابي احتمال آخر، وهو أن يكون الشفاء يحصل للمذكور ببركة النبي صلى الله عليه وسلم وبركه وصفه ودعائه؛ فيكون خاصا بذلك الرجل دون غيره، وهو ضعيف أيضا‏.‏
    ويؤيد الأول حديث ابن مسعود ‏"‏ عليكم بالشفاءين‏:‏ العسل والقرآن ‏"‏ أخرجه ابن ماجه والحاكم مرفوعا،
    وأثر علي ‏"‏ إذا اشتكى أحدكم فليستوهب من امرأته من صداقها فليشتر به عسلا، ثم يأخذ ماء السماء فيجمع هنيئا مريئا شفاء مباركا ‏"‏ أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير بسند حسن، قال ابن بطال‏:‏ يؤخذ من قوله‏:‏ ‏"‏ صدق الله وكذب بطن أخيك ‏"‏ أن الألفاظ لا تحمل على ظاهرها، إذ لو كان كذلك لبريء العليل من أول شربة، فلما لم يبرأ إلا بعد التكرار دل على أن الألفاظ تقتصر على معانيها‏.‏
    قلت‏:‏ ولا يخفى تكلف هذا الانتزاع‏.‏
    وقال أيضا‏:‏ فيه أن الذي يجعل الله فيه الشفاء قد يتخلف لتتم المدة التي قدر الله تعالى فيها الداء‏.


    (ج10/ ص211)
    لا صفر‏"‏، قال ابن بطال‏:‏ وهذا القول مروي عن مالك، والصفر أيضا وجع في البطن يأخذ من الجوع ومن اجتماع الماء الذي يكون منه الاستسقاء، ومن الأول حديث ‏"‏ صفرة في سبيل الله خير من حمر النعم ‏"‏ أي جوعة، ويقولون صفر الإناء إذا خلا عن الطعام، ومن الثاني ما سبق في الأشربة في حديث ابن مسعود ‏"‏ أن رجلا أصابه الصفر فنعت له السكر ‏"‏ أي حصل له الاستسقاء فوصف له النبيذ، وحمل الحديث على هذا لا يتجه، بخلاف ما سبق‏.‏
    (ج10/ ص 212)
    قد يطلق على ما يعارض في نواحي الجنب من رياح غليظة تحتقن بين الصفاقات والعضل التي في الصدر والأضلاع فتحدث وجعا، فالأول‏:‏ ذات الجنب الحقيقي الذي تكلم عليه الأطباء، قالوا ويحدث بسببه خمسة أعراض‏:‏ الحمى والسعال والنخس وضيق النفس والنبض المنشاري‏.‏
    ويقال لذات الجنب أيضا وجع الخاصرة وهي من الأمراض المخوفة لأنها تحدث بين القلب والكبد وهي من سيئ الأسقام، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما كان الله ليسلطها علي ‏"‏ والمراد بذات الجنب في حديثي الباب الثاني، لأن القسط وهو العود الهندي كما تقدم بيانه قريبا هو الذي تداوى به الريح الغليظة، قال المسبحي‏:‏ العود حار يابس قابض يحبس البطن ويقوي الأعضاء الباطنة ويطرد الريح ويفتح السدد ويذهب فضل الرطوبة؛ قال‏:‏ ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب الحقيقي أيضا إذا كانت ناشئة عن مادة بلغمية، ولا سيما في وقت انحطاط العلة‏.‏
    (ج10/ ص213)
    وأما رقية الأذن فقال ابن بطال‏:‏ المراد وجع الأذن، أي رخص في رقية الأذن إذا كان بها وجع، وهذا يرد على الحصر الماضي في الحديث المذكور في ‏"‏ باب من اكتوى ‏"‏ حيث قال‏:‏ لا رقية إلا من عين أو حمة، فيجوز أن يكون رخص فيه بعد أن منع منه، ويحتمل أن يكون المعنى لا رقية أنفع من رقية العين والحمة، ولم يرد نفي الرقى عن غيرهما‏.‏
    حكى الكرماني عن ابن بطال أنه ضبطه ‏"‏ الأدر ‏"‏ بضم الهمزة وسكون المهملة بعدها راء‏.‏
    وأنه جمع أدرة وهي نفخة الخصية، قال‏:‏ وهو غريب شاذ انتهى‏.‏
    ولم أر ذلك في كتاب ابن بطال، فليحرر‏.‏
    ووقع عند الإسماعيلي في سياق رواية عباد بن منصور بلفظ ‏"‏ أن يرقوا من الحمة، وأذن برقيه العين والنفس ‏"‏ فعلى هذا فقوله ‏"‏ والأذن ‏"‏ في الرواية المعلقة تصحيف من قوله ‏"‏ أذن ‏"‏ فعل ماض من الإذن، لكن زاد الإسماعيلي في رواية من هذا الوجه ‏"‏ وكان زيد بن ثابت يرقى من الأذن والنفس ‏"‏ فالله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 216)
    وأخرجه النسائي من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك، قال الدار قطني في ‏"‏ الموطئات ‏"‏‏:‏ لم يروه من أصحاب مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ إلا ابن وهب وابن القاسم وتابعهما الشافعي وسعيد بن عفير وسعيد بن داود، قال‏:‏ ولم يأت به معن ولا القعنبي ولا أبو مصعب ولا ابن بكير انتهى‏.‏
    وكذا قال ابن عبد البر في التقصي‏.‏
    وقد أخرجه شيخنا في تقريبه من رواية أبي مصعب عن مالك، وهو ذهول منه، لأنه اعتمد فيه على الملخص للقابسي، والقابسي إنما أخرج الملخص من طريق ابن القاسم عن مالك، وهذا ثاني حديث عثرت عليه في تقريب الأسانيد لشيخنا عفا الله تعالى عنه من هذا الجنس، وقد نبهت عليه نصيحة لله تعالى والله أعلم،
    (ج10/ ص 216)
    مضى في صفة النار من رواية أبي جمرة بالجيم قال‏:‏ ‏"‏ كنت أجالس ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى ‏"‏ وفي رواية أحمد ‏"‏ كنت أدفع للناس عن ابن عباس فاحتبست أياما فقال‏:‏ ما حبسك‏؟‏ قلت الحمى، قال‏:‏ أبردها بماء زمزم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء أو بماء زمزم ‏"‏ شك همام‏.‏
    كذا في راوية البخاري من طريق أبي عامر العقدي عن همام‏.‏
    وقد تعلق به من قال بأن ذكر ماء زمزم ليس قيدا لشك راوية فيه‏.‏
    وممن ذهب إلى ذلك ابن القيم‏.‏
    وتعقب بأنه وقع في رواية أحمد عن عفان عن همام ‏"‏ فأبردوها بماء زمزم ‏"‏ ولم يشك، وكذا أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم من رواية عفان، وإن كان الحاكم وهم في استدراكه‏.‏
    وترجم له ابن حبان بعد إيراده حديث ابن عمر فقال‏:‏ ذكر الخبر المفسر للماء المجمل في الحديث الذي قبله، وهو أن شدة الحمى تبرد بماء زمزم دون غيره من المياه، وساق حديث ابن عباس، وقد تعقب - على تقدير أن لا شك في ذكر ماء زمزم فيه - بأن الخطاب لأهل مكة خاصة لتيسر ماء زمزم عندهم، كما خص الخطاب بأصل الأمر بأهل البلاد الحارة‏.‏
    (ج10/ ص 217)
    قال الخطابي ومن تبعه‏:‏ اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث بأن قال‏:‏ اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك، لأنه يجمع المسام ويحقن البخار ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم فيكون ذلك سببا للتلف، قال الخطابي‏:‏ غلط بعض من ينسب إلى العلم فانغمس في الماء لما أصابته الحمى فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه فأصابته علة صعبة كادت تهلكه، فلما خرج من علته قال قولا سيئا لا يحسن ذكره، وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث، والجواب أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولا من أين حملت الأمر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية فضلا عن اختصاصها بالغسل، وإنما في الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن انغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو المراد، وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع، فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به، وهو كما وقع في أمره العائن بالاغتسال وأطلق، وقد ظهر من الحديث الآخر أنه لم يرد مطلق الاغتسال، وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة، وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى ما صنعته أسماء بنت الصديق، فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئا من الماء بين يديه وثوبه فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، والصحابي ولا سيما مثل أسماء التي هي ممن كان يلازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها، ولعل هذا هو السر في إيراد البخاري لحديثها عقب حديث ابن عمر المذكور، وهذا من بديع ترتيبه‏.‏
    (ج10/ ص 217)
    وقال المازري‏:‏ ولا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل، حتى أن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة ثم يصير داء له في الساعة التي تليها، لعارض يعرض له من غضب يحمي مزاجه مثلا فيتغير علاجه، ومثل ذلك كثير، فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو بغيره في سائر الأحوال، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف وقوة الطباع‏.‏
    (ج10/ ص 218)
    الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق إلى جميع البدن، وهي قسمان‏:‏ عرضية وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك، ومرضية وهي ثلاثة أنواع، وتكون عن مادة، ثم منها ما يسخن جميع البدن، فإن كان مبدأ تعلقها بالروح فهي حمى يوم لأنها تقع غالبا في يوم ونهايتها إلى ثلاثة، وإن كان تعلقها بالأعضاء الأصلية فهي حمى دق وهي أخطرها، وإن كان تعلقها بالأخلاط سميت عفنية وهي بعدد الأخلاط الأربعة، وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الإفراد والتركيب‏.‏
    (ج10/ ص 218)
    قد قال جالينوس في كتاب حيلة البرء لو أن شابا حسن اللحم خصب البدن ليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه وقت القيظ عند منتهى الحمى لا ينتفع بذلك‏.‏
    وقال أبو بكر الرازي‏:‏ إذا كانت القوى قوية والحمى حادة والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق فإن الماء البارد ينفع شربه، فإن كان العليل خصب البدن والزمان حارا وكان معتادا باستعمال الماء البارد اغتسالا فليؤدن له فيه‏.‏
    وقد نزل ابن القيم حديث ثوبان على هذه القيود فقال‏:‏ هذه الصفة تنفع في فصل الصيف في البلاد الحارة في الحمى العرضية أو الغب الخالصة التي لا ورم معها ولا شيء من الأعراض الرديئة، والمراد الفاسدة، فيطفئها بإذن الله، فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس، ووفور القوي في ذلك الوقت لكونه عقب النور والسكون وبرد الهواء، قال‏:‏ والأيام التي أشار إليها هي التي يقع فيها بحرارة الأمراض الحادة غالبا ولا سيما في البلاد الحارة‏.‏
    والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 219)
    وقال أنس‏:‏ ‏"‏ إذا حم أحدكم فليشن عليه من الماء البارد من السحر ثلاث ليال ‏"‏ أخرجه الطحاوي وأبو نعيم في الطب والطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ وصححه الحاكم وسنده قوي، وله شاهد من حديث أم خالد بنت سعيد أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده وأبو نعيم في الطب من طريقه‏.‏
    وقال عبد الرحمن بن المرقع رفعه ‏"‏ الحمى رائد الموت، وهي سجن الله في الأرض فبردوا لها الماء في الشنان، وصبوه عليكم فيما بين الأذانين المغرب والعشاء‏.‏
    قال ففعلوا فذهب عنهم ‏"‏ أخرجه الطبراني‏.‏
    وهذه الأحاديث كلها ترد التأويل الذي نقله الخطابي عن ابن الأنباري أنه قال‏:‏ المراد بقوله فأبردوها الصدقة به، قال ابن القيم‏:‏ أظن الذي حمل قائل هذا أنه أشكل عليه استعمال الماء في الحمى فعدل إلى هذا، وله وجه حسن لأن الجزاء من جنس العمل، فكأنه لما أخمد لهيب العطشان بالماء أخمد الله لهيب الحمى عنه، ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته، وأما المراد به بالأصل فهو استعماله في البدن حقيقة كما تقدم، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 222)
    وقال الخليل‏:‏ الطاعون الوباء‏.‏
    وقال صاحب ‏"‏ النهاية ‏"‏‏:‏ الطاعون المرض العام الذي يفسد له الهواء، وتفسد به الأمزجة والأبدان‏.‏
    وقال أبو بكر بن العربي‏:‏ الطاعون الوجه الغالب الذي يطفئ الروح كالذبحة، سمي بذلك لعموم مصابه وسرعة قتله‏.‏
    وقال أبو الوليد الباجي‏:‏ هو مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات، بخلاف المعتاد من أمراض الناس، ويكون مرضهم واحدا بخلاف بقية الأوقات فتكون الأمراض مختلفة‏.‏
    وقال الداودي‏:‏ الطاعون حبة تخرج من الأرقاع وفي كل طي من الجسد والصحيح أنه الوباء‏.‏
    وقال عياض‏:‏ أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، فسميت طاعونا لشبهها بها في الهلاك، وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا‏.‏
    قال‏:‏ ويدل على ذلك أن وباء الشام الذي وقع في عمواس إنما كان طاعونا، وما ورد في الحديث أن الطاعون وخز الجن‏.‏
    وقال ابن عبد البر‏:‏ الطاعون غدة تخرج في المراق والآباط، وقد تخرج في الأيدي والأصابع وحيث شاء الله‏.‏
    وقال النووي في ‏"‏ الروضة ‏"‏‏:‏ قيل‏:‏ الطاعون انصباب الدم إلى عضو‏.‏
    وقال آخرون‏:‏ هو هيجان الدم وانتفاخه‏.‏
    قال المتولي‏:‏ وهو قريب من الجذام، من أصابه تأكلت أعضاؤه وتساقط لحمه‏.‏
    وقال الغزالي‏:‏ هو انتفاخ جميع البدن من الدم مع الحمى أو انصباب الدم إلى بعض الأطراف، ينتفخ ويحمر؛ وقد يذهب ذلك العضو‏.‏
    وقال النووي أيضا في تهذيبه‏:‏ هو بثر وورم مؤلم جدا، يخرج مع لهب، ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة
    شديد
    وقال جماعة من الأطباء منهم أبو علي بن سينا‏:‏ الطاعون مادة سمية تحدث ورما قتالا يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن؛ وأغلب ما تكون تحت الإبط أو خلف الأذن أو عند الأرنبة‏.
    قال‏:‏ وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد يستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويغير ما يليه ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القيء والغثيان والغشي والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسية، والأسود منه قل من يسلم منه، وأسلمه الأحمر ثم الأصفر‏.‏
    والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس، وأما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده‏.‏
    أن الوباء غير الطاعون‏.‏
    وأن من أطلق على كل وباء طاعونا فبطريق المجاز‏.‏
    قال أهل اللغة‏:‏ الوباء هو المرض العام، يقال أوبأت الأرض فهي موبئة، ووبئت بالفتح فهي وبئة، وبالضم فهي موبوءة‏.‏
    والذي يفترق به الطاعون من الوباء أصل الطاعون الذي لم يتعرض له الأطباء ولا أكثر من تكلم في تعريف الطاعون وهو كونه من طعن الجن، ولا يخالف ذلك ما قال الأطباء من كون الطاعون ينشأ عن هيجان الدم أو انصبابه لأنه يجوز أن يكون ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة فتحدث منها المادة السمية ويهيج الدم بسببها أو ينصب وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما يعرف من الشارع فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم‏.‏
    وقال الكلاباذي في ‏"‏ معاني الأخبار ‏"‏‏:‏ يحتمل أن يكون الطاعون على قسمين‏:‏ قسم محصل من غلبة بعض الأخلاط من دم أو صفراء محترقة أو غير ذلك من غير سبب يكون من الجن، وقسم يكون من وخز الجن كما تقع الجراحات من القروح التي تخرج في البدن من غلبة بعض الأخلاط وإن لم يكن هناك طعن، وتقع الجراحات أيضا من طعن الإنس‏.‏
    انتهى‏.‏
    مما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن وقوعه غالبا في أعدل الفصول وفي أصح البلاد هواء وأطيبها ماء، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، وهذا يذهب أحيانا ويجيء أحيانا على غير قياس ولا تجربة، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان، والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير ولا يصيب من هم بجانبهم مما هم في مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد ولا يتجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضي تغير الأخلاط وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض، فدل على أنه من طعن الحن كما ثبت في الأحاديث الواردة في ذلك‏:‏ منها حديث أبي موسى رفعه ‏"‏ فناء أمتي بالطعن والطاعون‏.‏
    قيل‏:‏ يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون‏؟‏ قال‏:‏ وخز أعدائكم من الجن، وفي كل شهادة ‏"‏ أخرجه أحمد من رواية زياد بن علاقة عن رجل عن أبي موسى‏.‏
    (‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ يقع في الألسنة وهو في ‏"‏ النهاية ‏"‏ لابن الأثير تبعا لغريبي الهروي بلفظ ‏"‏ وخز إخوانكم ‏"‏ ولم أره بلفظ ‏"‏ إخوانكم ‏"‏ بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طرق الحديث المسند لا في الكتب المشهورة ولا الأجزاء المنثورة، وقد عزاه بعضهم لمسند أحمد أو الطبراني أو كتاب الطواعين لابن أبي الدنيا ولا وجود لذلك في واحد منها والله أعلم‏.


    (ج10/ ص 225)
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم ‏"‏ الحديث كذا وقع بالشك، ووقع بالجزم عند ابن خزيمة من طريق عمرو بن دينار عن عامر بن سعد بلفظ ‏"‏ فإنه رجز سلط على طائفة من بني إسرائيل ‏"‏ وأصله عند مسلم، ووقع عند ابن خزيمة بالجزم أيضا من رواية عكرمة بن خالد عن ابن سعد عن سعد لكن قال‏:‏ ‏"‏ رجز أصيب به من كان قبلكم‏"‏‏.‏
    ‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع الرجس بالسن المهملة موضع الرجز بالزاي، والذي بالزاي هو المعروف وهو العذاب، والمشهور في الذي بالسين أنه الخبيث أو النجس أو القذر، وجزم الفارابي والجوهري بأنه يطلق على العذاب أيضا، ومنه قوله تعالى ‏(‏ويجعل الرجس على الذين لا يؤمنون‏)‏ وحكاه الراغب أيضا‏.
    والتخصيص على بني إسرائيل أخص، فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام، فأخرج الطبري من طريق سليمان التيمي أحد صغار التابعين عن سيار‏:‏ أن رجلا كان يقال له بلعام كان مجاب الدعوة، وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام، فأتاه قومه فقالوا‏:‏ ادع الله عليهم، فقال‏:‏ حتى أؤامر ربي، فمنع، فأتوه بهدية فقبلها وسألوه ثانيا فقال حتى أؤامر ربي، فلم يرجع إليه بشيء، فقالوا‏:‏ لو كره لنهاك، فدعا عليهم فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك فقال‏:‏ سأدلكم على ما فيه هلاكهم أرسلوا النساء في عسكرهم ومروهن أن لا يمتنعن من أحد، فعسى أن يزنوا فيهلكوا، فكان فيمن خرج بنت الملك فأرادها رأس بعض الأسباط وأخبرها بمكانه فمكنته من نفسها، فوقع في بني إسرائيل الطاعون، فمات منهم سبعون ألفا في يوم، وجاء رجل من بني هارون ومعه الرمح فطعنهما وأيده الله فانتظمهما جميعا‏.‏
    وهذا مرسل جيد وسيار شامي موثق‏.‏
    قد ذكر الطبري هذه القصة من طريق محمد بن إسحاق عن سالم أبي النضر فذكر نحوه، وسمي المرأة كشتا
    وقال في آخره‏:‏ فحسب من هلك من الطاعون سبعون ألفا، والمقلل يقول عشرون ألفا‏.‏
    وهذه الطريق تعضد الأولى‏.‏
    وقد أشار إليها عياض فقال‏:‏ قوله‏:‏ أرسل على بني إسرائيل قيل‏:‏ مات منهم في ساعة واحدة عشرون ألفا وقيل‏:‏ سبعون ألفا‏.‏
    وذكر ابن إسحاق في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ أن الله أوحى إلى داود أن بني إسرائيل كثر عصيانهم، فخيرهم بين ثلاث‏:‏ إما أن أبتليهم بالقحط، أو العدو شهرين، أو الطاعون ثلاثة أيام‏.‏
    فأخبرهم، فقالوا‏:‏ اختر لنا‏.‏
    فاختار الطاعون‏.‏
    فمات منهم إلى أن زالت الشمس سبعون ألفا وقيل مائة ألف‏.‏
    فتضرع داود إلى الله تعالى، فرفعه‏.‏
    وورد وقوع الطاعون في غير بني إسرائيل، فيحتمل أن يكون هو المراد بقوله‏:‏ ‏"‏ من كان قبلكم ‏"‏ فمن ذلك ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير قال‏:‏ ‏"‏ أمر موسى بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشا، ثم ليخضب كفه في دمه، ثم ليضرب به على بابه‏.‏
    ففعلوا‏.‏
    سألهم القبط عن ذلك فقالوا‏:‏ إن الله سيبعث عليكم عذابا وإنما ننجو منه بهذه العلامة‏.‏
    فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفا، فقال فرعون عند ذلك لموسى‏:‏ ‏(‏ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز‏)‏ الآية، فدعا فكشفه عنهم ‏"‏ وهذا مرسل جيد الإسناد‏.‏
    هذا الطاعون الذي وقع بالشام حينئذ هو الذي يسمى طاعون عمواس بفتح المهملة والميم وحكي تسكينها وآخره مهملة، قيل‏:‏ سمي بذلك لأنه عم وواسى‏.‏
    (ج10/ ص 230)
    جواز رجوع من أراد دخول بلدة فعلم أن بها الطاعون، وأن ذلك ليس من الطيرة، وإنما هي من منع الإلقاء إلى التهلكة، أو سد الذريعة لئلا يعتقد من يدخل إلى الأرض التي وقع بها أن لو دخلها وطعن العدوى المنهي عنها كما سأذكره، وقد زعم قوم أن النهي عن ذلك إنما هو للتنزيه، وأنه يجوز الإقدام عليه لمن قوي توكله وصح يقينه، وتمسكوا بما جاء عن عمر أنه ندم على رجوعه من سرغ كما أخرج ابن أبي شيبة بسند جيد من رواية عروة بن رويم عن القاسم بن محمد عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ جئت عمر حين قدم فوجدته قائلا في خبائه، فانتظرته في ظل الخباء، فسمعته يقول حين تضور‏:‏ اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ ‏"‏ وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده أيضا‏.‏
    وأجاب القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ بأنه لا يصح عن عمر، قال‏:‏ وكيف يندم على فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ويرجع عنه ويستغفر منه‏؟‏ وأجيب بأن سنده قوي والأخبار القوية لا ترد بمثل هذا مع إمكان الجمع فيحتمل أن يكون كما حكاه البغوي في شرح السنة عن قوم أنهم حملوا النهي على التنزيه، وأن القدوم عليه جائز لمن غلب عليه التوكل، والانصراف عنه رخصة‏.‏
    (ج10/ ص 231)
    نقل عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي يقع بها الطاعون عن جماعة من الصحابة، منهم أبو موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين منهم الأسود بن هلال ومسروق، ومنهم من قال‏:‏ النهي فيه للتنزيه فيكره ولا يحرم، وخالفهم جماعة فقالوا‏:‏ يحرم الخروج منها لظاهر النهي الثابت في الأحاديث الماضية، وهذا هو الراجح عند الشافعية وغيرهم، ويؤيده ثبوت الوعيد على ذلك‏:‏ فأخرج أحمد وابن خزيمة من حديث عائشة مرفوعا في أثناء حديث بسند حسن ‏"‏ قلت يا رسول الله فما الطاعون‏؟‏ قال غدة كغدة الإبل، المقيم فيها كالشهيد والفار منها كالفار من الزحف‏"‏‏.‏
    وله شاهد من حديث جابر رفعه ‏"‏ الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف ‏"‏ أخرجه أحمد أيضا وابن خزيمة وسنده صالح للمتابعات‏.‏
    وقال الطحاوي استدل من أجاز الخروج بالنهي الوارد عن الدخول إلى الأرض التي يقع بها، قالوا‏:‏ وإنما نهى عن ذلك خشية أن يعدي من دخل عليه، قال‏:‏ وهو مردود لأنه لو كان النهي لهذا لجاز لأهل الموضع الذي وقع فيه الخروج، وقد ثبت النهي أيضا عن ذلك فعرف أن المعنى الذي لأجله منعوا من القدوم عليه غير معنى العدوى، والذي يظهر - والله أعلم - أن حكمة النهي عن القدوم عليه لئلا يصيب من قدم عليه بتقدير الله فيقول‏:‏ لولا أني قدمت هذه الأرض لما أصابني، ولعله لو أقام في الموضع الذي كان فيه لأصابه‏.‏
    أمر أن لا يقدم عليه حسما للمادة‏.‏
    ونهى من وقع وهو بها أن يخرج من الأرض التي نزل بها لئلا يسلم فيقول مثلا‏:‏ لو أقمت في تلك الأرض لأصابني ما أصاب أهلها، ولعله لو كان أقام بها ما أصابه من ذلك شيء ا هـ‏.‏
    ويؤيده ما أخرجه الهيثم بن كليب والطحاوي والبيهقي بسند حسن عن أبي موسى أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن هذا الطاعون قد وقع، فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل، واحذروا اثنتين‏:‏ أن يقول قائل خرج خارج فسلم، وجلس جالس فأصيب فلو كنت خرجت لسلمت كما سلم فلان، أو لو كنت جلست أصبت كما أصيب فلان ‏"‏ لكن أبو موسى حمل النهي على من قصد الفرار محضا‏.‏
    ولا شك أن الصور ثلاث‏:‏ من خرج لقصد الفرار محضا فهذا يتناوله النهي لا محالة، ومن خرج لحاجة متمحضة لا لقصد الفرار أصلا، ويتصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد كان بها إلى بلد إقامته مثلا ولم يكن الطاعون وقع فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه فهذا لم يقصد الفرار أصلا فلا يدخل في النهي، والثالث من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها وانضم إلى ذلك أنه قصد الراحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون فهذا محل النزاع، ومن جملة هذه الصورة الأخيرة أن تكون الأرض التي وقع بها وخمة والأرض التي يريد التوجه إليها صحيحة فيتوجه بهذا القصد، فهذا جاء النقل فيه عن السلف مختلفا‏:‏ فمن منع نظر إلى صورة الفرار في الجملة، ومن أجاز نظر إلى أنه مستثنى من عموم الخروج فرارا لأنه لم يتمحض للفرار وإنما هو لقصد التداوي، وعلى ذلك يحمل ما وقع في أثر أبي موسى المذكور ‏"‏ أن عمر كتب إلى أبي عبيدة إن لي إليك حاجة فلا تضع كتابي من يدك حتى تقبل إلي‏.‏
    فكتب إليه‏:‏ إني قد عرفت حاجتك، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم‏.
    ما أخرجه أبو داود من حديث فروة بن مسيك بمهملة وكاف مصغر، قال‏.‏
    ‏"‏ قلت يا رسول الله إن عندنا أرضا يقال لها أبين هي أرض ريفنا وميرتنا وهي وبئة، فقال‏:‏ دعها عنك، فإن من القرف التلف ‏"‏ قال ابن قتيبة القرف القرب من الوباء‏.‏
    وقال الخطابي‏.‏
    ليس في هذا إثبات العدوى، وإنما هو من باب التداوي، فإن استصلاح الأهوية من أنفع الأشياء في تصحيح البدن وبالعكس، واحتجوا أيضا بالقياس على الفرار من المجذوم وقد ورد الأمر به كما تقدم، والجواب أن الخروج من البلد التي وقع بها الطاعون قد ثبت النهي عنه، والمجذوم قد ورد الأمر بالفرار منه فكيف يصح القياس‏؟‏ وقد تقدم في ‏"‏ باب الجذام ‏"‏ من بيان الحكمة في ذلك ما يغني عن إعادته‏.‏
    وقد ذكر العلماء في النهي عن الخروج حكما‏:‏ منها أن الطاعون في الغالب يكون عاما في البلد الذي يقع به، فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن بها فلا يفيده الفرار، لأن المفسدة إذا تعينت - حتى لا يقع الانفكاك عنها - كان الفرار عبثا فلا يليق بالعاقل، ومنها أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه - بالمرض المذكور أو بغيره - ضائع المصلحة لفقد من يتعهده حيا وميتا، وأيضا فلو شرع الخروج فخرج الأقوياء لكان في ذلك كسر قلوب الضعفاء، وقد قالوا إن حكمة الوعيد في الفرار من الزحف لما فيه من كسر قلب من لم يفر وإدخال الرعب عليه بخذلانه، وقد جمع الغزالي بين الأمرين فقال‏:‏ الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن، بل من حيث دوام الاستنشاق فيصل إلى القلب والرئة فيؤثر في الباطن ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير في الباطن، فالخارج من البلد الذي يقع به لا يخلص غالبا مما استحكم به‏.‏
    نها ما ذكره بعض الأطباء أن المكان الذي يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة وتألفها وتصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم، فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم يوافقهم، بل ربما إذا استنشقوا هواءها استصحب معه إلى القلب من الأبخرة الرديئة التي حصل تكيف بدنه بها فأفسدته، فمنع من الخروج لهذه النكتة‏.‏
    منها ما تقدم أن الخارج يقول لو أقمت لأصبت، والمقيم يقول لو خرجت لسلمت، فيقع في اللغو المنهي عنه والله أعلم‏.‏
    وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة في قوله‏:‏ ‏"‏ فلا تقدموا عليه ‏"‏‏:‏ فيه منع معارضة متضمن الحكمة بالقدر، وهو من مادة قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏)‏ وفي قوله‏:‏ ‏"‏ فلا تخرجوا فرارا منه ‏"‏ إشارة إلى الوقوف مع المقدور والرضا به، قال‏:‏ وأيضا فالبلاء إذا نزل إنما يقصد به أهل البقعة لا البقعة نفسها، فمن أراد الله إنزال البلاء به فهو واقع به ولا محالة، فأينما توجه يدركه، فأرشده الشارع إلى عدم النصب من غير أن يدفع ذلك المحذور‏.‏
    وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد‏:‏ الذي يترجح عندي في الجمع بينهما أن في الإقدام عليه تعريض النفس للبلاء، ولعلها لا تصبر عليه، وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر أو التوكل فمنع ذلك حذرا من اغترار النفس ودعواها ما لا تثبت عليه عند الاختبار، وأما الفرار فقد يكون داخلا في التوغل في الأسباب بصورة من يحاول النجاة بما قدر عليه، فأمرنا الشارع بترك التكلف في الحالتين، ومن هذه المادة قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا ‏"‏ فأمر بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء، وخوف اغترار النفس، إذ لا يؤمن غدرها عند الوقوع، ثم أمرهم بالصبر عند الوقوع تسليما لأمر الله تعالى‏.‏
    (ج10/ ص 235)
    قد أجاب القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ عن ذلك فقال‏:‏ المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها كطاعون عمواس والجارف، وهذا الذي قاله يقتضي تسليم أنه دخلها في الجملة، وليس كذلك فقد جزم ابن قتيبة في ‏"‏ المعارف ‏"‏ وتبعه جمع جم من آخرهم الشيخ محيي الدين النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏ بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلا ولا مكة أيضا، لكن نقل جماعة أنه دخل مكة في الطاعون العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بخلاف المدينة فلم يذكر أحد قط أنه وقع بها الطاعون أصلا، ولعل القرطبي بني على أن الطاعون أعم من الوباء، أو أنه هو وأنه الذي ينشأ عن فساد الهواء فيقع به الموت الكثير، وقد مضى في الجنائز من صحيح البخاري قول أبي الأسود ‏"‏ قدمت المدينة وهم يموتون بها موتا ذريعا ‏"‏ فهدا وقع بالمدينة وهو وباء بلا شك، ولكن الشأن في تسميته طاعونا، والحق أن المراد بالطاعون في هذا الحديث المنفي دخوله المدينة الذي ينشأ عن طعن الجن فيهيج بذلك الطعن الدم في البدن فيقتل فهذا لم يدخل المدينة قط فلم يتضح جواب القرطبي، وأجاب غيره بأن سبب الترجمة لم ينحصر في الطاعون، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ولكن عافيتك أوسع لي ‏"‏ مكان منع دخول الطاعون المدينة من خصائص المدينة ولوازم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بالصحة‏.‏
    وقال آخر‏:‏ هذا من المعجزات المحمدية، لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة‏.‏
    حديث الذي أخرجه أحمد من رواية أبي عسيب بمهملتين آخره موحدة وزن عظيم رفعه ‏"‏ أتاني جبريل بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام ‏"‏ وهو أن الحكمة قي ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددا ومددا وكانت المدينة وبئة كما سبق من حديث عائشة ثم خير النبي صلى الله عليه وسلم في أمرين يحصل بكل منهما الأجر الجزيل فاختار الحمى حينئذ لقلة الموت بها غالبا، بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار وأذن له في القتال كانت قضية استمرار الحمى أن تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة فعادت المدينة أصح بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمى التي هي حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزا لها عن غيرها لتحقق إجابة دعوته وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره هذه المدة المتطاولة‏.

    (ج10/ ص239)
    ‏فالطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم، ورجس على الكافر ‏"‏ وهو صريح في أن كون الطاعون رحمة إنما هو خاص بالمسلمين، وإذا وقع بالكفار فإنما هو عذاب عليهم يعجل لهم في الدنيا قبل الآخرة، وأما العاصي من هذه الأمة فهل يكون الطاعون له شهادة أو يختص بالمؤمن الكامل‏؟‏ فيه نظر‏.‏
    والمراد بالعاصي من يكون مرتكب الكبيرة ويهجم عليه ذلك وهو مصر، فإنه يحتمل أن يقال لا يكرم بدرجة الشهادة لشؤم ما كان متلبسا به لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات‏)‏ ‏؟‏ وأيضا فقد وقع في حديث ابن عمر ما يدل على أن الطاعون ينشأ عن ظهور الفاحشة، أخرجه ابن ماجه والبيهقي بلفظ ‏"‏ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم
    حديث، وفي إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك وكان من فقهاء الشام، لكنه ضعيف عند أحمد وابن معين وغيرهما، ووثقه أحمد بن صالح المصري وأبو زرعة الدمشقي وقال ابن حبان‏:‏ كان يخطئ كثيرا، وله شاهد عن ابن عباس في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ بلفظ ‏"‏ ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت ‏"‏ الحديث، وفيه انقطاع‏.‏
    وأخرجه الحاكم من وجه آخر موصولا بلفظ ‏"‏ إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله ‏"‏ وللطبراني موصولا من وجه آخر عن ابن عباس نحو سياق مالك وفي سنده مقال، وله من حديث عمرو بن العاص بلفظ ‏"‏ ما من قوم يظهر فيهم الزنا إلا أخذوا بالفناء ‏"‏ الحديث وسنده ضعيف، وفي حديث بريدة عند الحاكم بسند جيد بلفظ ‏"‏ ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت ‏"‏ ولأحمد من حديث عائشة مرفوعا ‏"‏ لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعقاب ‏"‏ وسنده حسن‏.‏
    ففي هذه الأحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة‏؟‏ ويحتمل أن يقال‏:‏ بل تحصل له درجة الشهادة لعموم الأخبار الواردة، ولا سيما في الحديث الذي قبله عن أنس ‏"‏ الطاعون شهادة لكل مسلم ‏"‏ ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترع السيئات مساواة المؤمن الكامل في المنزلة، لأن درجات الشهداء متفاوتة كنظيره من العصاة إذا قتل مجاهدا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا مقبلا غير مدبر، ومن رحمة الله بهذه الأمة المحمدية أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة، ولا سيما وأكثرهم لم يباشر تلك الفاحشة، وإنما عمهم - والله أعلم - لتقاعدهم عن إنكار المنكر‏.‏
    (ج10/ ص 241)
    د أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط‏:‏ أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى‏.‏
    واختلفوا في كونها شرطا، والراجح أنه لا بد من اعتبار الشروط المذكورة، ففي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك قال‏:‏ ‏"‏ كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا‏:‏ يا رسول الله كيف ترى في ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ‏"‏ وله من حديث جابر ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب، قال‏:‏ فعرضوا عليه فقال‏:‏ ما أرى بأسا، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه ‏"‏ وقد تمسك قوم بهذا العموم فأجازوا كل رقية جربت منفعتها ولو لم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف أنه مهما كان من الرقى يؤدي إلى الشرك يمنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك فيمتنع احتياطا، والشرط الآخر لا بد منه‏.‏
    وقال قوم لا تجوز الرقية إلا من العين واللدغة كما تقدم في ‏"‏ باب من اكتوى ‏"‏ من حديث عمران بن حصين ‏"‏ لا رقية إلا من عين أو حمة‏"‏، وأجيب بأن معنى الحصر فيه أنهما أصلا كل ما يحتاج إلى الرقية، فيلتحق بالعين جواز رقية من به خبل أو مس ونحو ذلك لاشتراكها في كونها تنشأ عن أحوال شيطانية من إنسي أو جني، ويلتحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية‏.‏
    وقد وقع عند أبي داود في حديث أنس مثل حديث عمران وزاد ‏"‏ أو دم ‏"‏ وفي مسلم من طريق يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أنس قال‏:‏ ‏"‏ رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقى من العين والحمة والنملة ‏"‏ وفي حديث آخر ‏"‏ والأذن ‏"‏ ولأبي داود من حديث الشفاء بنت عيد الله ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ ألا تعلمين هذه - يعني حفصة - رقية النملة ‏"‏ والنملة قروح تخرج في الجنب وغيره من الجسد، وقيل المراد بالحصر معنى الأفضل، أي لا رقية أنفع كما قيل‏:‏ لا سيف إلا ذو الفقار‏.‏
    وقال قوم‏:‏ المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما، وفيه نظر، وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قرنت فيه التمائم بالرقى، فأخرج أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم من طريق ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عنها عن ابن مسعود رفعه ‏"‏ إن الرقى والتمائم والتولة شرك ‏"‏ وفي الحديث قصة، والتمائم جمع تميمة وهي خرز أو قلادة تعلق في الرأس، كانوا في الجاهلية يعتقدون أن دلك يدفع الآفات، والتولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله، ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه، فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه كما سيأتي قريبا في ‏"‏ باب المرأة ترقى الرجل ‏"‏ من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كان إذا أوى إلى فراشه ينفث بالمعوذات ويمسح بهما وجهه ‏
    (ج10/ 242)
    حديث خولة بنت حكيم مرفوعا ‏"‏ من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يتحول ‏"‏ وعند أبي داود والنسائي بسند صحيح عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن رجل من أسلم ‏"‏ جاء رجل فقال‏:‏ لدغت الليلة فلم أنم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك ‏"‏ والأحاديث في هذا المعنى موجودة، لكن يحتمل أن يقال‏:‏ إن الرقى أخص من التعوذ، وإلا فالخلاف في الرقى مشهور، ولا خلافه في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما وقع وما يتوقع‏.‏
    وقال ابن التين‏:‏ الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله هو الطب الروحاني، إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى، فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم، ويقال‏:‏ إن الحية لعداوتها للإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذا اللديغ إذا رقى بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان، فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئا من الشرك، وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ الرقى ثلاثة أقسام، أحدها ما كان يرقى به في الجاهلية مما لا يعقل معناه فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى الشرك‏.‏
    الثاني‏:‏ ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورا فيستحب‏.‏
    الثالث‏:‏ ما كان بأسماء غير الله من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات كالعرش، قال‏:‏ فهذا ليس من الواجب اجتنابه ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله والتبرك بأسمائه فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقى به فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير الله تعالى‏.‏
    (ج10/ ص 242)
    وقال الربيع‏:‏ سألت الشافعي عن الرقية فقال‏:‏ لا بأس أن يرقى بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله، قلت‏:‏ أيرقى أهل الكتاب المسلمين‏؟‏ قال‏:‏ نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله ا هـ‏.‏
    وفي ‏"‏ الموطأ ‏"‏ أن أبا بكر قال لليهودية التي كانت ترقى عائشة‏:‏ ارقيها بكتاب الله‏.‏
    وروى ابن وهب عن مالك كراهة الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان وقال‏:‏ لم يكن ذلك من أمر الناس القديم‏.‏
    وقال المازري‏:‏ اختلف في استرقاء أهل الكتاب فأجازها قوم وكرهها مالك لئلا يكون مما بدلوه‏.‏
    وأجاب من أجاز بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه، وهو كالطب سواء كان غير الحاذق لا يحسن أن يقول والحاذق يأنف أن يبدل حرصا على استمرار وصفه بالحذق لترويح صناعته‏.‏
    والحق أنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال‏.‏
    وسئل ابن عبد السلام عن الحروف المقطعة فمنع منها ما لا يعرف لئلا يكون فيها كفر‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ في المعوذات جوامع من الدعاء‏.‏
    نعم أكثر المكروهات من السحر والحسد وشر الشيطان ووسوسته وغير ذلك، فلهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بها‏.‏
    قال عياض‏:‏ فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر، وقد يكون على سبيل التفاؤل بزوال ذلك الألم عن المريض كانفصال ذلك عن الراقي انتهى‏.‏
    (ج10/ ص244)
    ويذكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ هكذا ذكره بصيغة التمريض، وهو يعكر على ما تقرر بين أهل الحديث أن الذي يورده البخاري بصيغة التمريض لا يكون على شرطه، مع أنه أخرج حديث ابن عباس في الرقية بفاتحة الكتاب عقب هذا الباب‏.‏
    وأجاب شيخنا في كلامه على علوم الحديث بأنه قد يصنع ذلك إذا ذكر الخبر بالمعنى، ولا شك أن خبر ابن عباس ليس فيه التصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرقبة بفاتحة الكتاب وإنما فيه تقريره على ذلك فنسبة ذلك إليه صريحا تكون نسبة معنوية، وقد علق البخاري بعض هذا الحديث بلفظه فأتى به مجزوما كما تقدم في الإجارة في ‏"‏ باب ما يعطى في الرقية بفاتحة الكتاب ‏"‏ وقال ابن عباس ‏"‏ إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ‏"‏ ثم قال شيخنا‏:‏ لعل لابن عباس حديثا آخر صريحا في الرقية بفاتحة الكتاب ليس على شرطه فلذلك أتى به بصيغة التمريض‏.‏
    قلت‏:‏ ولم يقع لي ذلك بعد التتبع‏.‏
    (ج10/ ص 244)
    قال ابن القيم‏:‏ إذا ثبت أن لبعض الكلام خواص ومنافع فما الظن بكلام رب العالمين ثم بالفاتحة التي لم ينزل في القرآن ولا غيره من الكتب مثلها لتضمنها جميع معاني الكتاب، فقد اشتملت على ذكر أصول أسماء الله ومجامعها وإثبات المعاد وذكر التوحيد والافتقار إلى الرب في طلب الإعانة به والهداية منه، وذكر أفضل الدعاء وهو طلب الهداية إلى الصراط المستقيم المتضمن
    كمال معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه والاستقامة عليه، ولتضمنها ذكر أصناف الخلائق وقسمتهم إلى منعم عليه لمعرفته بالحق والعمل به، ومغضوب عليه لعدوله عن الحق بعد معرفته، وضال لعدم معرفته له، مع ما تضمنته من إثبات القدر والشرع والأسماء والمعاد والتوبة وتزكية النفس وإصلاح القلب والرد على جميع أهل البدع، وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من كل داء، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ 246)
    والعين نظر باستحسان مشوب بحسد من خبيث الطبع يحصل للمنظور منه ضرر، وقد وقع عند أحمد - من وجه آخر - عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ العين حق، ويحضرها الشيطان، وحسد ابن آدم‏"‏‏.‏
    وقد أشكل ذلك على بعض الناس فقال‏:‏ كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل الضرر للمعيون‏؟‏ والجواب أن طبائع الناس تختلف، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون، وقد نقل عن بعض من كان معيانا أنه قال‏:‏ إذا رأيت شيئا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني‏.‏
    ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضع يدها في إناء اللبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد، وكذا تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس من غير أن تمسها يدها، ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء فيرمد، ويتثاءب واحد بحضرته فيتثاءب هو، أشار إلى ذلك ابن بطال‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ في الحديث أن للعين تأثيرا في النفوس، وإبطال قول الطبائعيين أنه لا شيء إلا ما تدرك الحواس الخمس وما عدا ذلك لا حقيقة له‏.‏
    وقال المازري‏:‏ زعم بعض الطبائعيين أن العائن ينبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد، وهو كإصابة السم من نظر الأفاعي‏.‏
    وأن الذي يتمشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص لآخر، وهل ثم جواهر خفية أو لا‏؟‏ هو أمر محتمل لا يقطع بإثباته ولا نفيه، ومن قال ممن ينتمي إلى الإسلام من أصحاب الطبائع بأن جواهر لطيفة غير مرئية تنبعث من العائن فتتصل أخطأ بدعوى القطع، ولكن جائز أن يكون عادة ليست ضرورة ولا طبيعة ا هـ‏.‏
    وهو كلام سديد وقد بالغ ابن العربي في إنكاره قال‏:‏ ذهبت الفلاسفة إلى أن الإصابة بالعين صادرة عن تأثير النفس بقوتها فيه، فأول ما تؤثر في نفسها ثم تؤثر في غيرها‏.‏
    وقيل‏:‏ إنما هو سم في عين العائن يصيب بلفحه عند التحديق إليه كما يصيب لفح سم الأفعى من يتصل به، ثم رد الأول بأنه لو كان كذلك لما تخلفت الإصابة في كل حال، والواقع خلافه‏.‏
    والثاني‏:‏ بأن سم الأفعى جزء منها وكلها قاتل، والعائن ليس يقتل منه شيء في قولهم إلا نظره وهو معني خارج عن ذلك، قال‏:‏ والحق أن الله يخلق عند نظر العائن إليه وإعجابه به إذا شاء ما شاء من ألم أو هلكة، وقد يصرف قبل وقوعه إما بالاستعاذة أو بغيرها، وقد يصرفه بعد وقوعه بالرقبة أو بالاغتسال أو بغير ذلك‏.‏
    كلامه، وفيه بعض ما يتعقب، فإن الذي مثل بالأفعى لم يرد أنها تلامس المصاب حتى يتصل به من سمها، وإنما أراد أن جنسا من الأفاعي اشتهر أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك فكذلك العائن وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث أبي لبابه الماضي في بدء الخلق عند ذكر الأبتر وذي الطفيتين قال‏:‏ فإنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبل، وليس مراد الخطابي بالتأثير المعنى الذي يذهب إليه الفلاسفة، بل ما أجرى الله به العادة من حصول الضرر للمعيون، وقد أخرج البزار بسند حسن عن جابر رفعه ‏"‏ أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالنفس ‏"‏ قال الراوي‏:‏ يعني بالعين، وقد أجرى الله العادة بوجود كثير من القوي والخواص في الأجسام والأرواح كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل فيرى في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك، وكذا الاصفرار عند رؤية من يخافه، وكثير من الناس يسقم بمجرد النظر إليه وتضعف قواه، وكل ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى في الأرواح من التأثيرات ولشدة ارتباطها بالعين نسب الفعل إلى العين، وليست هي المؤثرة وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها‏:‏ فمنها ما يؤثر في البدن بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها الخبيثة‏.‏
    والحاصل أن التأثير بإرادة الله تعالى وخلقه ليس مقصورا على الاتصال الجسماني، بل يكون تارة به وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرد الرؤية وأخرى بتوجه الروح كالذي يحدث من الأدعية والرقى والالتجاء إلى الله، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل، فالذي يخرج من عين العائن سهم معنوي إن صادف البدن لا وقاية له أثر فيه، وإلا لم ينفذ السهم، بل ربما رد على صاحبه كالسهم الحسي سواء‏.‏
    ما أخرجه أبو داود من رواية الأسود عن عائشة أيضا قالت‏:‏ ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين ‏
    (ج10/ ص 249)
    قال إبراهيم الحربي‏:‏ هو سواد في الوجه ومنه سفعة الفرس سواد ناصيته، وعن الأصمعي‏:‏ حمرة يعلوها سواد، وقيل‏:‏ صفرة، وقيل‏:‏ سواد مع لون آخر‏.‏
    وقال ابن قتيبة‏:‏ لون يخالف لون الوجه، وكلها متقاربة، وحاصلها أن بوجهها موضعا على غير لونه الأصلي، وكأن الاختلاف بحسب اللون الأصلي، فإن كان أحمر فالسفعة سواد صرف، وإن كان أبيض فالسفعة صفرة وإن كان أسمر فلسفعة حمرة يعلوها سواد‏.‏
    وذكر صاحب ‏"‏ البارع ‏"‏ في اللغة أن السفع سواد الخدين من المرأة الشاحبة، والشحوب بمعجمة ثم مهملة‏:‏ تغير اللون بهزال أو غيره، ومنه سفعاء الخدين، وتطلق السفعة على العلامة، ومنه بوجهها سفعة غضب‏.‏
    واختلف في المراد بالنظرة فقيل‏:‏ عين من نظر الجن، وقيل من الإنس وبه جزم أبو عبيد الهروي، والأولى أنه أعم من ذلك وأنها أصيبت بالعين فلذلك أذن صلى الله عليه وسلم في الاسترقاء لها، وهو دال على مشروعية الرقية من العين


    (ج10/ ص251)
    قد أخرج البزار من حديث جابر بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنقس ‏"‏ قال الراوي‏:‏ يعني بالعين‏.‏
    وقال النووي‏:‏ في الحديث إثبات القدر وصحة أمر العين وأنها قوية الضرر، وأما الزيادة الثانية وهي أمر العاين بالاغتسال عند طلب المعيون منه ذلك ففيها إشارة إلى أن الاغتسال لذلك كان معلوما بينهم، فأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم، وأدنى ما في ذلك رفع الوهم الحاصل في ذلك، وظاهر الأمر الوجوب‏.‏
    وحكى المازري فيه خلافا وصحح الوجوب وقال‏:‏ متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به فإنه يتعين، وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر وهذا أولى، ولم يبين في حديث ابن عباس صفة الاغتسال، وقد وقعت في حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ‏"‏ أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف - وكان أبيض حسن الجسم والجلد - فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال‏:‏ ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط - أي صرع وزنا ومعنى - سهل‏.‏
    فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هل تتهمون به من أحد‏؟‏ قالوا‏.‏
    عامر بن ربيعة‏.‏
    فدعا عامرا فتغيظ علمه فقال‏:‏ علام يقتل أحدكم أخاه‏؟‏ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت‏.‏
    ثم قال‏:‏ اغتسل له، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم يصب ذلك الماء عليه رجل من خلقه على رأسه وظهره ثم يكفأ القدح؛ ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس ‏"‏ لفظ أحمد من رواية أبي أويس عن الزهري، ولفظ النسائي من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري بهذا السند أنه يصب صبة على وجهه بيده اليمنى، وكذلك سائر أعضائه صبة صبة في القدح‏.‏
    الثاني‏:‏ قال المازري هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ إن توقف فيه متشرع قلنا له‏:‏ قل الله ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة‏.‏
    أو متفلسف فالرد عليه أظهر لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله الخواص‏.‏
    وقال ابن القيم‏:‏ هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها أو فعلها مجربا غير معتقد، وإذا كان في الطبيعة خواص لا يعرف الأطباء عللها بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما تفعل بالخاصية فما الذي تنكر جهلتهم من الخواص الشرعية‏؟‏ هذا مع أن في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة، فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها، وهذا علاج النفس الغضبية توضع اليد على بدن الغضبان فيسكن، فكان أثر تلك العين كشعلة نار وقعت على جسد، ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة‏.‏
    ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة النفوذ فيها، ولا شيء أرق من المغابن، فكان في غسلها إبطال لعملها، ولا سيما أن للأرواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصا‏.‏
    وفيه أيضا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذا، فتنطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء‏.‏
    الثالث‏:‏ هذا الغسل ينفع بعد استحكام النظرة، فأما عند الإصابة وقبل الاستحكام فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه بقوله في قصة مسهل بن حنيف المذكورة كما مضى ‏"‏ ألا بركت عليه ‏"‏ وفي رواية ابن ماجه ‏"‏ فليدع بالبركة ‏"‏ ومثله عند ابن السني من حديث عامر بن ربيعة‏.‏
    وأخرج البزار وابن السني من حديث أنس رفعه ‏"‏ من رأى شيئا فأعجبه فقال‏:‏ ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لم يضره‏"‏‏.‏
    وفي الحديث من الفوائد أيضا أن العائن إذا عرف يقضي عليه بالاغتسال، وأن الاغتسال من النشرة النافعة، وأن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب، ومن الرجل الصالح، وأن الذي يعجبه الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه، وأن الماء المستعمل طاهر، وفيه جواز الاغتسال بالفضاء، وأن الإصابة بالعين قد تقتل‏.‏
    وقد اختلف في جريان القصاص بذلك فقال القرطبي‏:‏ لو أتلف العائن شيئا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة، وهو في ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرا، انتهى‏.‏
    ولم يتعرض الشافعية للقصاص في ذلك، بل منعوه وقالوا‏:‏ إنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا‏.‏
    وقال النووي في ‏"‏ الروضة‏:‏ ولا دية فيه ولا كفارة‏.‏
    لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس في بعض الأحوال مما لا انضباط له، كيف ولم يقع منه فعل أصلا، وإنما غايته حسد وتمن لزوال نعمة‏.‏
    وأيضا فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين ذلك المكروه في زوال الحياة، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين ا هـ‏.‏
    ولا يعكر على ذلك إلا الحكم بقتل الساحر فإنه في معناه، والفرق بينهما فيه عسر‏.‏
    ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم فإنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر رضي الله عنه بمنعه من مخالطة الناس كما تقدم واضحا في بابه، وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة‏.‏
    قال النووي‏:‏ وهذا القول صحيح متعين لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه‏.‏
    (ج10/ ص 256)
    قال البيضاوي‏:‏ قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر، فقد ذكروا أنه ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه في سقائه ليأمن مضرة ذلك‏.‏
    ثم أن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها‏.‏
    وقال التوربشتي‏:‏ كأن المراد بالتربة الإشارة إلى قطرة آدم، والريقة الإشارة إلى النطفة، كأنه تضرع بلسان الحال أنك اخترعت الأصل من التراب ثم أبدعته مته من ماء مهين فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته‏.‏
    وقال النووي‏:‏ قيل المراد بأرضنا أرض المدينة خاصة لبركتها، وبعضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف ريقه، فيكون ذلك مخصوصا‏.‏
    وفيه نظر‏.‏
    (ج10/ ص 261)
    أما الرقية فتمسك بهذا الحديث من كره الرقى والكي من بين سائر الأدوية وزعم أنهما قادحان في التوكل دون غيرهما، وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة‏:‏ أحدها قاله الطبري والمازري وطائفة أنه محمول على من جانب اعتقاد الطبائعيين في أن الأدوية تنفع بطبعها كما كان أهل الجاهلية يعتقدون‏.‏
    وقال غيره‏:‏ الرقى التي يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية وما الذي لا يعقل معناه لاحتمال أن يكون كفرا، بخلاف الرقى بالذكر ونحوه‏.‏
    وتعقبه عياض وغيره بأن الحديث يدل على أن للسبعين ألفا مزية على غيرهم وفضيلة انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة، ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثر بطبعها أو يستعمل رقى الجاهلية ونحوها فليس مسلما فلم يسلم هذا الجواب‏.‏
    ثانيها قال الداودي وطائفة إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية وقوع الداء، وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا، وقد قدمت هذا عن ابن قتيبة وغيره في ‏"‏ باب من اكتوى‏"‏، وهذا اختيار ابن عبد البر، غير أنه معترض بما قدمته من ثبوت الاستعاذة قبل وقوع الداء‏.‏
    ثالثها قال الحليمي‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الأسباب المعدة لدفع العوارض، فهم لا يعرفون الاكتواء ولا الاسترقاء، وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله، والرضا بقضائه، فهم غافلون عن طب الأطباء ورقى الرقاة ولا يحسنون من ذلك شيئا، والله أعلم‏.‏
    رابعها أن المراد بترك الرقى والكي الاعتماد على الله في دفع الداء والرضا بقدره، لا القدح في جواز ذلك لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة وعن السلف الصالح لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب، وإلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه‏.‏
    قال ابن الأثير‏:‏ هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها، وهؤلاء هم خواص الأولياء‏.‏
    ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وأمرا، لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله، لأنه كان كامل التوكل يقينا فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئا، بخلاف غيره ولو كان كثير التوكل، لكن من ترك الأسباب وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاما‏.‏
    (ج10/ ص 265)
    الحاصل أن أفعل التفضيل في ذلك إنما هو بين القدر المشترك بين الشيئين، والقدر المشترك بين الطيرة والفأل تأثير كل منهما فيما هو فيه، والفأل في ذلك أبلغ‏.‏
    قال الخطابي‏:‏ وإنما كان ذلك لأن مصدر الفأل عن نطق وبيان، فكأنه خبر جاء عن غيب، بخلاف غيره فإنه مستند إلى حركة الطائر أو نطقه وليس فيه بيان أصلا، وإنما هو تكلف ممن يتعاطاه‏.‏
    وقد أخرج الطبري عن عكرمة قال‏:‏ كنت عند ابن عباس فمر طائر فصاح، فقال رجل‏:‏ خير خير، فقال ابن عباس‏:‏ ما عند هذا لا خير ولا شر‏.‏
    وقال أيضا الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل من طريق حسن الظن بالله، والطيرة لا تكون إلا في السوء فلذلك كرهت‏.‏
    وقال النووي‏:‏ الفأل يستعمل فيما يسوء وفيما يسر، وأكثره في السرور‏.‏
    والطيرة لا تكون إلا في الشؤم، وقد تستعمل مجازا في السرور ا ه‏.‏
    وكأن ذلك بحسب الواقع، وأما الشرع فخص الطيرة بما يسوء والفأل بما يسر، ومن شرطه أن لا يقصد إليه فيصير من الطيرة‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ جعل الله في فطر الناس محبة الكلمة الطيبة والأنس بها كما جعل فيهم الارتياح بالمنظر الأنيق والماء الصافي وإن كان لا يملكه ولا يشربه‏.‏
    وأخرج الترمذي وصححه من حديث أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع‏:‏ يا نجيح يا راشد ‏"‏ وأخرج أبو داود بسند حسن عن بريدة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا يسأل عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رؤي كراهة ذلك في وجهه ‏"‏ وذكر البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ عن الحليمي ما ملخصه‏:‏ كان التطير في الجاهلية في العرب إزعاج الطير عند إرادة الخروج للحاجة، فذكر نحو ما تقدم ثم قال‏.‏
    وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب وبمرور الظباء فسموا الكل تطيرا، لأن أصله الأول‏.‏
    وقال‏.‏
    وكان التشاؤم في العجم إذا رأى الصبي ذاهبا إلى المعلم تشاءم أو راجعا تيمن، وكذا إذا رأى الجمل موقرا حملا تشاؤم فإن رآه واضعا حمله تيمن، ونحو ذلك، فجاء الشرع برفع ذلك كله‏.‏
    وقال ‏"‏من تكهن أورده عن سفر تطير فليس منا ‏"‏ ونحو ذلك من الأحاديث‏.‏
    ال الحليمي‏:‏ وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال‏.‏
    وقال الطيبي‏:‏ معنى الترخص في الفأل والمنع من الطيرة هو أن الشخص لو رأى شيئا فظنه حسنا محرضا على طلب حاجته فليفعل ذلك‏.‏
    وإن رآه بضد ذلك فلا يقبله بل يمضي لسبيله‏.‏
    (ج10/ ص 267)
    الكاهن لفظ يطلق على العراف، والذي يضرب بالحصى، والمنجم، ويطلق على من يقوم بأمر آخر ويسعى في قضاء حوائجه‏.‏
    وقال في ‏"‏ المحكم ‏"‏‏:‏ الكاهن القاضي بالغيب‏.‏
    وقال في ‏"‏ الجامع ‏"‏‏:‏ العرب تسمي كل من أذن بشيء قبل وقوعه كاهنا‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ الكهنة قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه‏.‏
    وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية خصوصا في العرب
    لانقطاع النبوة فيهم‏.‏
    وهي على أصناف‏:‏ منها ما يتلقونه من الجن، فإن الجن كانوا يصعدون إلى جهة السماء فيركب بعضهم بعضا إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع الكلام فيلقيه إلى الذي يليه، إلى أن يتلقاه من يلقيه في أذن الكاهن فيزيد فيه، فلما جاء الإسلام ونزل القرآن حرست السماء من الشياطين، وأرسلت عليهم الشهب، فبقي من استراقهم ما يتخطفه الأعلى فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب، إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى ‏(‏إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب‏)‏ ‏.‏
    انت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرة جدا كما جاء في أخبار شق وسطيح ونحوهما، وأما في الإسلام فقد ندر ذلك جدا حتى كاد يضمحل ولله الحمد‏.‏
    ثانيها ما يخبر الجني به من يواليه بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الإنسان غالبا، أو يطلع عليه من قرب منه لا من بعد‏.‏
    ثالثها ما يستند إلى ظن وتخمين وحدس، وهذا قد يجعل الله فيه لبعض الناس قوة مع كثرة الكذب فيه‏.‏
    رابعها ما يستند إلى التجربة والعادة، فيستدل على الحادث بما وقع قبل ذلك، ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السحر، وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وكل ذلك مذموم شرعا‏.‏
    وورد في ذم الكهانة ما أخرجه أصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد



    (ج10/ ص 269)
    قال القرطبي‏:‏ هو من تفسير الراوي، وقد ورد مستند ذلك فيما أخرجه مسلم في حديث المغيرة بن شعبة ‏"‏ فقال رجل من عصبة القاتلة يغرم ‏"‏ فذكر نحوه وفيه ‏"‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسجع كسجع الأعراب ‏"‏‏؟‏ والسجع هو تناسب آخر الكلمات لفظا، وأصله الاستواء، وفي الاصطلاح الكلام المقفى والجمع أسجاع وأساجيع، قال ابن بطال‏:‏ فيه ذم الكفار وذم من تشبه بهم في ألفاظهم، وإنما لم يعاقبه لأنه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالصفح عن الجاهلين، وقد تمسك به من كره السجع في الكلام، وليس على إطلاقه، بل المكروه منه ما يقع مع التكلف في معرض مدافعة الحق، وأما ما يقع عفوا بلا تكلف في الأمور المباحة فجائز، وعلى ذلك يحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الدعوات‏.‏
    والحاصل أنه إن جمع الأمرين من التكلف وإبطال الحق كان مذموما، وإن اقتصر على أحدهما كان أخف في الذم، ويخرج من ذلك تقسيمه إلى أربعة أنواع‏:‏ فالمحمود ما جاء عفوا في حق، ودونه ما يقع متكلفا في حق أيضا، والمذموم عكسهما‏.‏
    (ج10/ ص 273)
    قال أبو بكر الرازي في الأحكام له‏:‏ كان أهل بابل قوما صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة ويعتقدون أنها الفعالة لكل ما في العالم، وعملوا أوثانا على أسمائها، ولكل واحد هيكل فيه صنمه يتقرب إليه بما يوافقه بزعمهم من أدعية وبخور، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم عليه السلام وكانت علومهم أحكام النجوم، ومع ذلك فكان السحرة منهم يستعملون سائر وجوه السحر وينسبونها إلى فعل الكواكب لئلا يبحث عنها وينكشف تمويههم انتهى‏.‏
    ثم السحر يطلق ويراد به الآلة التي يسحر بها، ويطلق ويراد به فعل الساحر والآلة تارة تكون معنى من المعاني فقط كالرقى والنفث في العقد، وتارة تكون بالمحسوسات كتصوير الصورة على صورة المسحور‏.‏
    اختلف في السحر فقيل هو تخييل ولا حقيقة له وهذا اختيار أبي جعفر الأستراباذي من الشافعية وأبي بكر الرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري وطائفة، قال النووي‏:‏ والصحيح أن له حقيقة وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة انتهى‏.‏
    كن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا‏؟‏ فمن قال إنه تخييل فقط منع ذلك، ومن قال إن له حقيقة اختلفوا هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعا من الأمراض أو ينتهي إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه‏؟‏ فالذي عليه الجمهور هو الأول، وذهبت طائفة قليلة إلى الثاني‏.‏
    فإن كان بالنظر إلى القدرة الإلهية فمسلم، وإن كان بالنظر إلى الواقع فهو محل الخلاف، فإن كثيرا ممن يدعي ذلك لا يستطيع إقامة البرهان عليه، ونقل الخطابي أن قوما أنكروا السحر مطلقا وكأنه عني القائلين بأنه تخييل فقط وإلا فهي مكابرة‏.‏
    وقال المازري‏:‏ جمهور العلماء على إثبات السحر وأن له حقيقة، ونفى بعضهم حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة وهو مردود لورود النقل بإثبات السحر، ولأن العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو مزج بين قوى على ترتيب مخصوص، ونظير ذلك ما يقع من حذاق الأطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده بالتركيب نافعا، وقيل لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر الله تعالى في قوله‏:‏ ‏(‏يفرقون به بين المرء وزوجه‏)‏ لكون المقام مقام تهويل، فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره‏.‏
    قال المازري‏:‏ والصحيح من جهة العقل أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال‏:‏ والآية ليست نصا في منع الزيادة، ولو قلنا إنها ظاهرة في ذلك‏.‏
    ثم قال‏:‏ والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك بل إنما تقع غالبا اتفاقا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدي‏.‏
    ونقل إمام الحرمين الإجماع على أن السحر لا يظهر إلا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على فاسق‏.‏
    ونقل النووي زيادات الروضة عن المتولي نحو ذلك‏.‏
    وينبغي أن يعتبر بحال من يقع الخارق منه، فإن كان متمسكا بالشريعة متجنبا للموبقات فالذي يظهر على يده من الخوارق كرامة، وإلا فهو سحر، لأنه ينشأ عن أحد أنواعه كإعانة الشياطين‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجوه تركيبها وأوقاته، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت فيعظم عند من لا يعرف ذلك كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون‏:‏ ‏(‏وجاءوا بسحر عظيم‏)‏ مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالا وعصيا‏.‏
    ثم قال‏:‏ والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرا في القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم، وإنما المنكور أن الجماد ينقلب حيوانا أو عكسه بسحر الساحر أو نحو ذلك‏.‏
    (ج10/ 275)
    إن سليمان كان جمع كتب السحر والكهانة فدفنها تحت كرسيه فلم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي، فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين يعرفون الأمر جاءهم شيطان في صورة إنسان فقال لليهود‏:‏ هل أدلكم على كنز لا نظير له‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم قال‏:‏ فاحفروا تحت الكرسي، فحفروا - وهو متنح عنهم - فوجدوا تلك الكتب، فقال لهم‏:‏ إن سليمان كان يضبط الأنس والجن بهذا، ففشا فيهم أن سليمان كان ساحرا، فلما نزل القرآن بذكر سليمان في الأنبياء أنكرت اليهود ذلك وقالوا إنما كان ساحرا، فنزلت هذه الآية‏.‏
    أخرجه الطبري وغيره عن السدي، ومن طريق سعيد بن جبير بسند صحيح نحوه، ومن طريق عمران بن الحارث عن ابن عباس موصولا بمعناه‏.‏
    وأخرج من طريق الربيع بن أنس نحوه ولكن قال‏:‏ إن الشياطين هي التي كتبت كتب السحر ودفنتها تحت كرسيه، ثم لما مات سليمان استخرجته وقالوا‏:‏ هذا العلم الذي كان سليمان يكتمه الناس‏.‏
    (ج10/ ص 276)
    ال النووي‏:‏ عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرا، ومنه لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر‏.‏
    وعن مالك‏:‏ الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب بل يتحتم قتله كالزنديق‏.‏
    قال عياض‏:‏ وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين ا ه‏.‏
    وفي المسألة اختلاف كثير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها‏.‏
    وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين إما لتمييز ما فيه كفر من غيره إما لإزالته عمن وقع فيه، فأما الأول فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعا، كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان لأن كيفية ما يعمله الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل، بخلاف تعاطيه والعمل به‏.‏
    وأما الثاني فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا وإلا جاز للمعنى المذكور، وسيأتي مزيد لذلك في ‏"‏ باب هل يستخرج السحر ‏"‏ قريبا والله أعلم‏.‏
    وهذا فصل الخطاب في هذه المسألة‏.‏
    (ج10/ ص 276)
    وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن عمر في مسند أحمد، وأطنب الطبري في إيراد طرقها بحيث يقضي بمجموعها على أن للقصة أصلا، خلافا لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه، ومحصلها أن الله ركب الشهوة في ملكين من الملائكة اختبارا لهما وأمرهما أن يحكما في الأرض، فنزلا على صورة البشر وحكما بالعدل مدة، ثم افتتنا بامرأة جميلة فعوقبا بسبب ذلك بأن حبسا في بئر ببابل منكسين وابتليا بالنطق بعلم السحر، فصار يقصدهما من يطلب ذلك فلا ينطقان بحضرة أحد حتى يحذراه وينهياه، فإذا أصر تكلما بذلك ليتعلم منهما ذلك وهما قد عرفا ذلك فيتعلم منهما ما قص الله عنهما، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 277)
    قال أبو بكر الرازي في ‏"‏ الأحكام ‏"‏‏:‏ أخبر الله تعالى أن الذي ظنه موسى من أنها تسعى لم يكن سعيا وإنما كان تخييلا، وذلك أن عصيهم كانت مجوفة قد ملئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابا وجعلوا لها آزاجا وملؤوها نارا فلما طرحت على ذلك الموضع وحمي الزئبق حركها لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصي صارت تتحرك بحركته فظن من رآها أنها تسعى، ولم تكن تسعى حقيقة‏.‏
    (ج10/ ص 278)
    وقال السهيلي‏:‏ لم أقف في شيء من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث النبي صلى الله عليه وسلم فيها في السحر حتى ظفرت به في ‏"‏ جامع معمر ‏"‏ عن الزهري أنه لبث ستة أشهر، كذا قال، وقد وجدناه موصولا بإسناد الصحيح فهو المعتمد‏.‏
    (ج10/ ص 279)
    ‏حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله‏)‏ قال المازري‏:‏ أنكر المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعه من الشرائع إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم، وأنه يوحي إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء، قال المازري‏:‏ وهذا كله مردود، لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل‏.‏
    وأما ما يتعلق ببعض الأمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، قال‏:‏ وقد قال بعض الناس إن المراد بالحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن، وهذا كثيرا ما يقع تخيله للإنسان في المنام فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا قد ورد صريحا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ولفظه ‏"‏ حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ‏"‏ وفي رواية الحميدي ‏"‏ أنه يأتي أهله ولا يأتيهم ‏"‏ قال الداودي ‏"‏ يرى ‏"‏ بضم أوله أي يظن‏.‏
    (ج10/ ص 280)
    وقال عياض‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الأخرى ‏"‏ حتى كاد ينكر بصره ‏"‏ أي صار كالذي أنكر بصره بحيث أنه إذا رأى الشيء يخيل أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته‏.‏
    ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به‏.‏
    وقال المهلب‏:‏ صون النبي صلى الله عليه وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، فقد مضى في الصحيح أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه، فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر، بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين‏.‏
    واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث ‏"‏ فأما أنا فقد شفاني الله ‏"‏ وفي الاستدلال بذلك نظر، لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل ‏"‏ فكان يدور ولا يدري ما وجعه ‏"‏ وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد ‏"‏ مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان ‏"‏ الحديث‏.‏
    (ج10/ ص 280)
    قال النووي‏:‏ فيه استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره الالتجاء إلى الله تعالى في دفع ذلك‏.‏
    قلت‏:‏ سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب، ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه فاحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوي ثم إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية في الكمال‏.‏
    قال ابن القيم‏:‏ بنى النبي صلى الله عليه وسلم الأمر أولا على أنه مرض، وأنه عن مادة مالت إلى الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه، فرأى استعمال الحجامة لذلك مناسبا، فلما أوحي إليه أنه سحر عدل إلى العلاج المناسب له وهو استخراجه، قال‏:‏ ويحتمل أن مادة السحر انتهت إلى إحدى قوى الرأس حتى صار يخيل إليه ما ذكر، فإن السحر قد يكون من تأثير الأرواح الخبيثة، وقد يكون من انفعال الطبيعة وهو أشد السحر، واستعمال الحجم لهذا الثاني نافع لأنه إذا هيج الأخلاط وظهر أثره في عضو كان استفراغ المادة الخبيثة نافعا في ذلك‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ إنما قيل للسحر طب لأن أصل الطب الحذق بالشيء والتفطن له، فلما كان كل من علاج المرض والسحر إنما يتأتى عن فطنة وحذق أطلق على كل منهما هذا الاسم‏.‏
    (ج10/ ص 287)
    د أخرج أبو داود في ‏"‏ المراسيل ‏"‏ عن الحسن رفعه ‏"‏ النشرة من عمل الشيطان ‏"‏ ووصله أحمد وأبو داود بسند حسن عن جابر، قال ابن الجوزي‏:‏ النشرة حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر‏.‏
    وقد سئل أحمد عمن يطلق السحر عن المسحور فقال‏:‏ لا بأس به‏.‏
    وهذا هو المعتمد‏.‏
    ويجاب عن الحديث والأثر بأن قوله ‏"‏ النشرة من عمل الشيطان ‏"‏ إشارة إلى أصلها، ويختلف الحكم بالقصد، فمن قصد بها خيرا كان خيرا وإلا فهو شر‏.‏
    ثم الحصر المنقول عن الحسن ليس على ظاهره لأنه قد ينحل بالرقى والأدعية والتعويذ، ولكن يحتمل أن تكون النشرة نوعين‏.‏
    (ج10/ ص 288)
    وذكر ابن بطال أن في كتب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله، وممن صرح بجواز النشرة المزني صاحب الشافعي وأبو جعفر الطبري وغيرهما، ثم وقفت على صفة النشرة في ‏"‏ كتاب الطب النبوي ‏"‏ لجعفر المستغفري قال‏:‏ وجدت في خط نصوح بن واصل على ظهر جزء من ‏"‏ تفسير قتيبة بن أحمد البخاري ‏"‏ قال قال قتادة لسعيد بن المسيب‏:‏ رجل به طب أخذ عن امرأته أيحل له أن ينشر‏؟‏ قال لا بأس، وإنما يريد به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه‏.‏
    قال نصوح‏:‏ فسألني حماد بن شاكر‏:‏ ما الحل وما النشرة‏؟‏ فلم أعرفهما، فقال‏:‏ هو الرجل إذا لم يقدر على مجامعة أهله وأطاق ما سواها فإن المبتلي بذلك يأخذ حزمة قضبان وفأسا ذا قطارين ويضعه في وسط تلك الحزمة ثم يؤجج نارا في تلك الحزمة حتى إذا ما حمي الفأس استخرجه من النار وبال على حره فإنه يبرأ بإذن الله تعالى، وأما النشرة فإنه يجمع أيام الربيع ما قدر عليه من ورد المفارة وورد البساتين ثم يلقيها في إناء نظيف ويجعل فيهما ماء عذبا ثم يغلي ذلك الورد في الماء غليا يسيرا ثم يمهل حتى إذا فتر الماء أفاضه عليه فإنه يبرأ بإذن الله تعالى‏:‏ قال حاشد‏:‏ تعلمت هاتين الفائدتين بالشام‏.‏
    ال ابن بطال‏:‏ ذكر المهلب أن الرواة اختلفوا على هشام في إخراج السحر المذكور، فانتبه سفيان وجعل سؤال عائشة عن النشرة، ونفاه عيسى بن يونس وجعل سؤالها عن الاستخراج، ولم يذكر الجواب، وصرح به أسامة، قال والنظر يقتضي ترجيح رواية سفيان لتقدمه في الضبط، ويؤيده أن النشرة لم يقع في رواية أبي أسامة والزيادة من سفيان مقبولة لأنه أثبتهم، ولا سيما أنه كرر استخراج السحر في روايته مرتين فيبعد من الوهم، وزاد ذكر النشرة وجعل جوابه صلى الله عليه وسلم عنها بلا بدلا عن الاستخراج، قال‏:‏ ويحتمل وجها آخر فذكر ما محصله‏:‏ أن الاستخراج المنفي في رواية أبي أسامة غير الاستخراج المثبت في رواية سفيان، فالمثبت هو استخراج الجف والمنفي استخراج ما حواه، قال‏:‏ وكأن السر في ذلك أن لا يراه الناس فيتعلمه من أراد استعمال السحر‏.‏
    قال ابن القيم من أنفع الأدوية وأقوى ما يوجد من النشرة مقاومة السحر الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية من الذكر والدعاء والقراءة، فالقلب إذا كان ممتلئا من الله معمورا بذكره وله ورد من الذكر والدعاء والتوجه لا يخل به كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له‏.‏
    قال‏:‏ وسلطان تأثير السحر هو في القلوب الضعيفة، ولهذا غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال، لأن الأرواح الخبيثة إنما تنشط على أرواح تلقاها مستعدة لما يناسبها‏.‏
    انتهى ملخصا‏.‏
    (ج10/ ص 290)
    استدل بهذا الحديث على أن الساحر لا يقتل حدا إذا كان له عهد، وأما ما أخرجه الترمذي من حديث جندب رفعه قال ‏"‏ حد الساحر ضربه بالسيف ‏"‏ ففي سنده ضعف، فلو ثبت لخص منه من له عهد، وتقدم في الجزية من رواية بجالة ‏"‏ أن عمر كتب إليهم أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ‏"‏ وزاد عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار في روايته عن بجالة ‏"‏ فقتلنا ثلاث سواحر ‏"‏ أخرج البخاري أصل الحديث دون قصة قتل السواحر، قال ابن بطال‏:‏ لا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك والزهري إلا أن يقتل بسحره فيقتل، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعن مالك إن أدخل بسحره ضررا على مسلم لم يعاهد عليه نقض العهد بذلك فيحل قتله، وإنما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ولأنه خشي إذا قتله أن تثور بذلك فتنة بين المسلمين وبين حلفائه من الأنصار، وهو من نمط ما راعاه من ترك قتل المنافقين، سواء كان لبيد يهوديا أو منافقا على ما مضى من الاختلاف فيه‏.‏
    قال‏:‏ وعند مالك أن حكم الساحر حكم الزنديق فلا تقبل توبته، ويقتل حدا إذا ثبت عليه ذلك، وبه قال أحمد‏.‏
    وقال الشافعي‏:‏ لا يقتل إلا إن اعترف بسحره فيقتل به، فإن اعترف أن سحره قد يقتل وقد لا يقتل وأنه سحره وأنه مات لم يجب عليه القصاص ووجبت الدية في ماله لا على عاقلته، ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة، وادعى أبو بكر الرازي في ‏"‏ الأحكام ‏"‏ أن الشافعي تفرد بقوله إن الساحر يقتل قصاصا إذا اعترف أنه قتله بسحره، والله أعلم‏.‏
    قال النووي‏:‏ إن كان السحر قول أو فعل يقتضي الكفر كفر الساحر وتقبل توبته إذا تاب عندنا، وإذا لم يكن في سحره ما يقتضي الكفر عزر واستتيب‏.‏
    (ج10/ ص 292)
    قال الخطابي‏:‏ البيان اثنان‏:‏ أحدهما‏:‏ ما تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والآخر‏:‏ ما دخلته الصنعة بحيث يروق للسامعين ويستميل قلوبهم، وهو الذي يشبه بالسحر إذا خلب القلب وغلب على النفس حتى يحول الشيء عن حقيقته ويصرفه عن جهته، فيلوح للناظر في معرض غيره‏.‏
    وهذا إذا صرف إلى الحق يمدح، وإذا صرف إلى الباطل يذم‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ أحسن ما يقال في هذا أن هذا الحديث ليس ذما للبيان كله ولا مدحا لقوله من البيان، فأتى بلفظة ‏"‏ من ‏"‏ التي للتبعيض قال‏:‏ وكيف يذم البيان وقد امتن الله به على عباده حيث قال‏:‏ ‏(‏خلق الإنسان علمه البيان‏)‏ انتهى‏.‏
    والذي يظهر أن المراد بالبيان في الآية المعنى الأول الذي نبه عليه الخطابي، لا خصوص ما نحن فيه‏.‏
    قد اتفق العلماء على مدح الإيجاز، والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة، وعلى مدح الإطناب في مقام الخطابة بحسب المقام، وهذا كله من البيان بالمعنى الثاني‏.‏
    نعم الإفراط في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها‏.‏
    والله أعلم
    (ج10/ ص295)
    قال الخطابي‏:‏ كون العجوة تنفع من السم والسحر إنما هو ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة لا لخاصية في التمر‏.‏
    وقال ابن التين‏:‏ يحتمل أن يكون المراد نخلا خاصا بالمدينة لا يعرف الآن‏.‏
    وقال بعض شراح ‏"‏ المصابيح ‏"‏ نحوه وإنه ذلك لخاصية فيه، قال‏:‏ ويحتمل أن يكون ذلك خاصا بزمانه صلى الله عليه وسلم، وهذا يبعده وصف عائشة لذلك بعده صلى الله عليه وسلم‏.‏
    وقال بعض شراح ‏"‏ المشارق ‏"‏ أما تخصيص تمر المدينة بذلك فواضح من ألفاظ المتن، وأما تخصيص زمانه بذلك فبعيد، وأما خصوصية السبع فالظاهر أنه لسر فيها، وإلا فيستحب أن يكون ذلك وترا‏.‏
    وقال المازري‏:‏ هذا مما لا يعقل معناه في طريق علم الطب، ولو صح أن يخرج لمنفعة التمر في السم وجه من جهة الطب لم يقدر على إظهار وجه الاقتصار على هذا العدد الذي هو السبع، ولا على الاقتصار على هذا الجنس الذي هو العجوة، ولعل ذلك كان لأهل زمانه صلى الله عليه وسلم خاصة أو لأكثرهم، إذ لم يثبت استمرار وقوع الشفاء في زماننا غالبا، وإن وحد ذلك في الأكثر حمل على أنه أراد وصف غالب الحال‏.‏
    وقال عياض‏:‏ تخصيصه ذلك بعجوة العالية وبما بين لابتي المدينة يرفع هذا الإشكال ويكون خصوصا لها، كما وجد الشفاء لبعض الأدواء في الأدوية التي تكون في بعض تلك البلاد دون ذلك الجنس في غيره، لتأثير يكون في ذلك من الأرض أو الهواء‏.‏
    قال‏:‏ وأما تخصيص هذا العدد فلجمعه بين الإفراد والإشفاع، لأنه زاد على نصف العشرة، وفيه أشفاع ثلاثة وأوتار أربعة، وهي من نمط غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏سبع سنابل‏)‏ وكما أن السبعين مبالغة في كثرة العشرات والسبعمائة مبالغة في كثرة المئين‏.‏
    وقال النووي‏:‏ في الحديث تخصيص عجوة المدينة بما ذكر، وأما خصوص كون ذلك سبعا فلا يعقل معناه كما في أعداد الصلوات ونصب الزكوات‏.‏
    قال‏:‏ وقد تكلم في ذلك المازري وعياض بكلام باطل فلا يغتر به انتهى‏.‏
    ل القرطبي‏:‏ ظاهر الأحاديث خصوصية عجوة المدينة بدفع السم وإبطال السحر، والمطلق منها محمول على المقيد، وهو من باب الخواص التي لا تدرك بقياس ظني‏.‏
    ومن أئمتنا من تكلف لذلك فقال‏:‏ إن السموم إنما تقتل لإفراط برودتها، فإذا داوم على التصبح بالعجوة تحكمت فيه الحرارة وأعانتها الحرارة الغريزية فقاوم ذلك برودة السم ما لم يستحكم‏.‏
    قال‏:‏ وهذا يلزم منه رفع خصوصية عجوة المدينة بل خصوصية العجوة بل خصوصية التمر، فإن من الأدوية الحارة ما هو أولى بذلك من التمر، والأولى أن ذلك خاص بعجوة المدينة‏.‏
    ثم هل هو خاص بزمان نطقه أو في كل زمان‏؟‏ هذا محتمل، ويرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة‏.‏
    فمن جرب ذلك فصح معه عرف أنه مستمر، وإلا فهو مخصوص بذلك الزمان‏.‏
    قال وأما خصوصية هذا العدد فقد جاء في مواطن كثيرة من الطب كحديث ‏"‏ صبوا علي من سبع قرب ‏"‏ وقوله للمفؤود الذي وجهه للحارث بن كلدة أن يلده بسبع تمرات، وجاء تعويذه سبع مرات، إلى غير ذلك‏.‏
    وأما في غير الطب فكثير، فما جاء من هذا العدد في معرض التداوي فذلك لخاصية لا يعلمها إلا الله أو من أطلعه على ذلك، وما جاء منه في غير معرض التداوي فإن العرب تضع هذا العدد موضع الكثرة وإن لم ترد عددا بعينه‏.‏
    وقال ابن القيم‏:‏ عجوة المدينة من أنفع تمر الحجاز، وهو صنف كريم ملزز متين الجسم والقوة، وهو من ألين التمر وألذه‏.‏
    قال‏:‏ والتمر في الأصل من أكثر الثمار تغذية لما فيه من الجوهر الحار الرطب، وأكله على الريق يقتل الديدان لما فيه من القوة الترياقية، فإذا أديم أكله على الريق جفف مادة الدود وأضعفه أو قتله انتهى‏.



  4. #204
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الجمعة
    الموافق 26/ رجب / 1441 هجري
    الموافق 20/ مارس / 2020 ميلادي
    " وفي هذه الساعة المباركة من يوم الجمعة أسال الله العظيم رب العرش العظيم ان يرفع عنا البلاء ويرحم العباد والضعفاء
    بسبب تفشي وباء في المشرق والمغرب على اثره صلينا الظهر بدل الجمعة " في المنازل حرصا على السلامة العامة وطاعة لولي الامر لما فيه مصلحة البلاد والعباد "

    ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض، فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها فرارًا منه))، وقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فقال: كان عذابًا يبعثه الله على من كان قبلكم، فجعله الله رحمة للمؤمنين، ما من عبد يكون في بلد فيكون فيه، فيمكث لا يخرج، صابرًا محتسبًا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له - إلا كان له أجر شهيد....
    "
    (ج10/ ص 309-311)
    أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها ‏"‏ الحديث، فعرف أن التي أهدت الشاة المذكورة امرأة، وقدمت في المغازي أنها زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم أخرجه ابن إسحاق بغير إسناد‏.‏
    وأورده ابن سعد من طرق عن ابن عباس بسند ضعيف، ووقع في مرسل الزهري أنها أكثرت السم في الكتف والذراع لأنه بلغها أن ذلك كان أحب أعضاء الشاة إليه، وفيه ‏"‏ فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف فنهش منها ‏"‏ وفيه‏:‏ ‏"‏ فلما ازدرد لقمته قال‏.‏
    إن الشاة تخبرني ‏"‏ يعني أنها مسمومة وبينت هناك الاختلاف هل قتلها النبي صلى الله عليه وسلم أو تركها‏.‏
    ووقع في حديث أنس المشار إليه ‏"‏ فقيل‏:‏ ألا تقتلها‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏
    ...
    قال الخطابي‏:‏ خبث الدواء يقع بوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ من جهة نجاسته كالخمر ولحم الحيوان الذي لا يؤكل، وقد يكون من جهة استقذاره فتكون كراهته لإدخال المشقة على النفس، وإن كان كثير من الأدوية تكره النفس تناوله، لكن بعضها في ذلك أيسر من بعض‏.‏
    ...........
    ويؤخذ من هذه الزيادة أن الزهري كان يتوقف في صحة هذا الحديث لكونه لم يعرف له أصلا بالحجاز كما هي طريقة كثير من علماء الحجاز‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ استدل الزهري على منع مرارة السبع بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، ويلزمه مثل ذلك في ألبان الأتن، وغفل رحمه الله عن الزيادة التي أفادتها رواية أبي ضمرة‏.‏
    وقد اختلف في ألبان الأتن، فالجمهور على التحريم، وعند المالكية قول في حلها من القول بحل أكل لحمها، وقد تقدم بسطه في الأطعمة‏.‏
    (ج10/ ص 307)
    قال أبو هلال العسكري‏:‏ الذباب واحد والجمع ذبان كغربان، والعامة تقول ذباب للجمع وللواحد ذبابة بوزن قرادة، وهو خطأ، وكذا قال أبو حاتم السجستاني إنه خطأ‏.‏
    وقال الجوهري‏:‏ الذباب واحدة ذبابة ولا تقل ذبانة، ونقل في ‏"‏ المحكم ‏"‏ عن أبي عبيدة عن خلف الأحمر تجويز ما زعم العسكري أنه خطأ، وحكى سيبويه في الجمع ذب‏.‏
    وقرأته بخط البحتري مضبوطا بضم أوله والتشديد‏.‏
    (ج10/ ص 308)
    قيل سمي ذبابا لكثرة حركته واضطرابه، وقد أخرج أبو يعلى عن ابن عمر مرفوعا ‏"‏ عمر الذباب أربعون ليلة، والذباب كله في النار إلا النحل ‏"‏ وسنده لا بأس به، وأخرجه ابن عدي دون أوله من وجه آخر ضعيف، قال الجاحظ‏:‏ كونه في النار ليس تعذيبا له، بل ليعذب أهل النار به‏.‏
    قال الجوهري‏:‏ يقال إنه ليس شيء من الطيور يلغ إلا الذباب‏.‏
    وقال أفلاطون‏:‏ الذباب أحرص الأشياء، حتى إنه يلقي نفسه في كل شيء ولو كان فيه هلاكه‏.‏
    ويتولد من العفونة‏.‏
    ولا جفن للذبابة لصغر حدقتها، والجفن يصقل الحدقة، فالذبابة تصقل بيديها فلا تزال تمسح عينيها‏.‏
    ومن عجيب أمره أن رجيعه يقع على الثوب الأسود أبيض وبالعكس‏.‏
    وأكثر ما يظهر في أماكن العفونة، ومبدأ خلقه منها ثم من التوالد‏.‏
    وهو من أكثر الطيور سفادا، ربما بقي عامة اليوم على الأنثى‏.‏
    ويحكى أن بعض الخلفاء سأل الشافعي‏:‏ لأي علة خلق الذباب‏؟‏ فقال‏:‏ مذلة للملوك‏.‏
    وكانت ألحت عليه ذبابة، فقال الشافعي‏:‏ سألني ولم يكن عندي جواب فاستنبطته من الهيئة الحاصلة‏.‏
    وقال أبو محمد المالقي‏:‏ ذباب الناس يتولد من الزبل‏.‏
    وإن أخذ الذباب الكبير فقطعت رأسها وحك بجسدها الشعرة التي في الجفن حكا شديدا أبرأته وكذا داء الثعلب‏.‏
    وإن مسح لسعة الزنبور بالذباب سكن الوجع‏.‏
    ن الماء القليل لا ينجس بوقوع ما لا نفس له سائلة فيه ووجه الاستدلال - كما رواه البيهقي عن الشافعي - أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بغمس ما ينجس الماء إذا مات فيه لأن ذلك إفساد‏.‏
    وقال بعض من خالف في ذلك‏:‏ لا يلزم من غمس الذباب موته فقد يغمسه برفق فلا يموت، والحي لا ينجس ما يقع فيه كما صرح البغوي باستنباطه من هذا الحديث‏.‏
    وقال أبو الطيب الطبري‏:‏ لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث بيان النجاسة والطهارة، وإنما قصد بيان التداوي من ضرر الذباب، وكذا لم يقصد بالنهي عن الصلاة في معاطن الإبل والإذن في مراح الغنم طهارة ولا نجاسة وإنما أشار إلى أن الخشوع لا يوجد مع الإبل دون الغنم‏.‏
    قلت‏:‏ وهو كلام صحيح، إلا أنه لا يمنع أن يستنبط منه حكم آخر، فإن الأمر بغمسه يتناول صورا منها أن يغمسه محترزا عن موته كما هو المدعى هنا، وأن لا يحترز بل يغمسه سواء مات أو لم يمت‏.‏
    ويتناول ما لو كان الطعام حارا فإن الغالب أنه في هذه الصورة يموت بخلاف الطعام البارد، فلما لم يقع التقييد حمل على العموم، لكن فيه نظر لأنه مطلق يصدق بصورة فإذا قام الدليل على صورة معينة حمل عليها‏.‏
    واستشكل ابن دقيق العيد إلحاق غير الذباب به في الحكم المذكور بطريق أخر فقال‏:‏ ورد النص في الذباب فعدوه إلى كل ما لا نفس له سائلة، وفيه نظر، لجواز أن تكون العلة في الذباب قاصرة وهي عموم البلوى، وهذه مستنبطة‏.‏
    أو التعليل بأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وهذه منصوصة، وهذان المعنيان لا يوجدان في غيره فيبعد كون العلة مجرد كونه لا دم له سائل، بل الذي يظهر أنه جزء علة لا علة كاملة انتهى‏.‏
    (ج10/ ص 310)
    د رجح جماعة من المتأخرين أن ما يعم وقوعه في الماء كالذباب والبعوض لا ينجس الماء، وما لا يعم كالعقارب ينجس، وهو قوي‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ تكلم على هذا الحديث من لا خلاق له فقال‏:‏ كيف يجتمع الشفاء والداء في جناحي الذباب، وكيف يعلم ذلك من نفسه حتى يقدم جناح الشفاء، وما ألجأه إلى ذلك‏؟‏ قال‏:‏ وهذا سؤال جاهل أو متجاهل، فإن كثيرا من الحيوان قد جمع الصفات المتضادة‏.‏
    وقد ألف الله بينها وقهرها على الاجتماع وجعل منها قوى الحيوان، وإن الذي ألهم النحلة اتخاذ البيت العجيب الصنعة للتعسيل فيه، وألهم النملة أن تدخر قوتها أوان حاجتها، وأن تكسر الحبة نصفين لئلا تستنبت، لقادر على إلهام الذبابة أن تقدم جناحا وتؤخر آخر‏.‏
    وقال ابن الجوزي‏:‏ ما نقل عن هذا القائل ليس بعجيب، فإن النحلة تعسل من أعلاها وتلقي السم من أسفلها، والحية القاتل سمها تدخل لحومها في الترياق الذي يعالج به السم، والذبابة تسحق مع الإثمد لجلاء البصر‏.‏
    وذكر بعض حذاق الأطباء أن في الذباب قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه، وهي بمنزلة السلاح له، فإذا سقط الذباب فيما يؤذيه تلقاه بسلاحه، فأمر الشارع أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله تعالى في الجناح الآخر من الشفاء فتتقابل المادتان فيزول الضرر بإذن الله تعالى‏.‏
    واستدل بقوله‏:‏ ‏"‏ ثم لينزعه ‏"‏ على أنها تنجس بالموت كما هو أصح القولين للشافعي، والقول الأخر كقول أبي حنيفة، أنها لا تنجس، والله أعلم‏.‏
    كتاب اللباس
    (ج10/ ص 311)
    قال الراغب‏:‏ الخيلاء التكبر ينشأ عن فضيلة يتراءاها الإنسان من نفسه، والتخيل تصوير خيال الشيء في النفس، ووجه الحصر في الإسراف والمخيلة أن الممنوع من تناوله أكلا ولبسا وغيرهما إما لمعنى فيه وهو مجاوزة الحد وهو الإسراف‏.‏
    وإما للتعبد كالحرير إن لم تثبت علة النهي عنه وهو الراجح، ومجاوزة الحد تتناول مخالفة ما ورد به الشرع فيدخل الحرام، وقد يستلزم الإسراف الكـبر وهو المخيلة قال الموفق عبد اللطيف البغدادي‏:‏ هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة، فإن السرف في كل شيء يضر بالحسد ويضر بالمعيشة فيؤدي إلى الإتلاف ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس‏.‏
    (ج10/ ص 317)
    خرج الطبراني من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ رآني النبي صلى الله عليه وسلم أسبلت إزاري فقال‏:‏ يا ابن عمر، كل شيء يمس الأرض من الثياب في النار ‏"‏ وأخرج الطبراني بسند حسن عن ابن مسعود أنه ‏"‏ رأى أعرابيا يصلي قد أسبل فقال‏:‏ المسبل في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام ‏"‏ ومثل هذا لا يقال بالرأي، فعلى هذا لا مانع من حمل الحديث على ظاهره، ويكون من وادي ‏(‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم‏)‏ ، أو يكون في الوعيد لما وقعت به المعصية إشارة إلى أن الذي يتعاطى المعصية أحق بذلك‏.‏
    زرة المؤمن إلى أنصاف الساقين، وليس عليه حرج فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من ذلك ففي النار ‏"‏ وهذا الإطلاق محمول على ما ورد من قيد الخيلاء، فهو الذي ورد فيه الوعيد بالاتفاق،
    ويستثنى من إسبال الإزار مطلقا ما أسبله لضرورة كمن يكون بكعبيه جرح مثلا يؤذيه الذباب مثلا إن لم يستره بإزاره حيث لا يجد غيره، نبه على ذلك شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ واستدل على ذلك بإذنه صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف في لبس القميص الحرير من أجل الحكة‏.‏
    والجامع بينهما جواز تعاطي ما نهي عنه من أجل الضرورة، كما يجوز كشف العورة للتداوي، ويستثنى أيضا من الوعيد في ذلك النساء
    (ج10/ ص 319)
    قد فهمت ذلك أم سلمة رضي الله عنها فأخرج النسائي والترمذي وصححه من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر متصلا بحديثه المذكور في الباب الأول ‏"‏ فقالت أم سلمة‏:‏ فكيف تصنع النساء بذيولهن‏؟‏ فقال‏:‏ يرخين شبرا، فقالت‏:‏ إذا تنكشف أقدامهن؛ قال‏:‏ فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه ‏"‏ لفظ الترمذي‏.‏
    وقد عزا بعضهم هذه الزيادة لمسلم فوهم، فإنها ليست عنده، وكأن مسلما أعرض عن هذه الزيادة للاختلاف فيها على نافع، فقد أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من طريق عبيد الله بن عمر عن سليمان بن يسار عن أم سلمة، وأخرجه أبو داود من طريق أبي بكر بن نافع والنسائي من طريق أيوب بن موسى ومحمد بن إسحاق ثلاثتهم عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن أم سلمة، وأخرجه النسائي من رواية يحيى بن أبي كثير عن نافع عن أم سلمة نفسها وفيه اختلافات أخرى، ومع ذلك فله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه أبو داود من رواية أبي الصديق عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين شبرا، ثم استزدنه فزادهن شبرا، فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعا ‏"‏ وأفادت هذه الرواية قدر الذراع المأذون فيه وأنه شبران بشبر اليد المعتدلة، ويستفاد من هذا الفهم التعقب على من قال‏:‏ إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء، قال النووي‏:‏ ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء، ووجه التعقب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جر ذيولهن معنى، بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقا سواء كان عن مخيلة أم لا، فسألت عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهن إلى الإسبال من أجل ستر العورة، لأن جميع قدمها عورة، فبين لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء، ومراده منع الإسبال لتقريره صلى الله عليه وسلم أم سلمة على فهمها‏.‏
    (ج10/ ص 320)
    والحاصل أن للرجال حالين‏:‏ حال استحباب، وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق وحال جواز وهو إلى الكعبين‏.‏
    وكذلك للنساء حالان حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر وحال جواز بقدر ذراع‏.‏
    ويؤيد هذا التفصيل في حق النساء ما أخرجه الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من طريق معتمر عن حميد عن أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة من عقبها شبرا وقال‏:‏ هذا ذيل المرأة ‏"‏ وأخرجه أبو يعلى بلفظ ‏"‏ شبر من ذيلها شبرا أو شبرين وقال لا تزدن على هذا ‏"‏ ولم يسم فاطمة‏.‏
    قال الطبراني‏:‏ تفرد به معتمر عن حميد‏.‏
    قلت‏:‏ و ‏"‏ أو ‏"‏ شك من الراوي، والذي جزم بالشبر هو المعتمد، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أم سلمة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة شبرا ‏"‏ ويستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب، وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه، والذي يجتمع من الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه مستحضرا لها شاكرا عليها غير محتقر لمن ليس له مثله لا يضره ما لبس من المباحات، ولو كان في غاية النفاسة‏.‏
    ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل‏:‏ إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال‏.‏
    إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس‏"‏‏.‏
    (ج10/ ص320)
    جمع الطبري بينه وبين حديث ابن مسعود بأن حديث علي محمول على من أحب ذلك ليتعظم به على صاحبه، لا من أحب ذلك ابتهاجا بنعمة الله عليه، فقد أخرج الترمذي وحسنه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه ‏"‏ إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ‏"‏ وله شاهد عند أبي يعلى من حديث أبي سعيد‏.‏
    وأخرج النسائي وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك الجشمي عن أبيه ‏"‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ورآه رث الثياب‏:‏ إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك ‏"‏ أي بأن يلبس ثيابا تليق بحاله من النفاسة والنظافة ليعرفه المحتاجون للطلب منه، مع مراعاة القصد وترك الإسراف جمعا بين الأدلة‏.‏
    (ج10/ 321)
    قد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة وأبو يعلى وأصله عند أحمد ومسلم ‏"‏ أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة يتبختر فيها فقال‏:‏ يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئا‏؟‏ فقال‏:‏ والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه ما حدثتكم بشيء، سمعت ‏"‏ فذكر الحديث وقال في آخره ‏"‏ فوالله ما أدري لعله كان من قومك ‏"‏ وذكر السهيلي في ‏"‏ مبهمات القرآن ‏"‏ في سورة والصافات عن الطبري أن اسم الرجل المذكور الهيزن وأنه من أعراب فارس‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا أخرجه الطبري في التاريخ من طريق ابن جريج عن شعيب الجياني وجزم الكلاباذي في ‏"‏ معاني الأخبار ‏"‏ بأنه قارون، وكذا ذكر الجوهري في ‏"‏ الصحاح ‏"‏ وكأن المستند في ذلك ما أخرجه الحارث بن أبي أسامة من حديث أبي هريرة وابن عباس بسند ضعيف جدا قالا ‏"‏ خطبنا رسول الله
    صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر الحديث الطويل وفيه ‏"‏ ومن لبس ثوبا فاختال فيه خسف به من شفير جهنم فيتجلجل فيها ‏"‏ لأن قارون لبس حلة فاختال فيها فخسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة‏.‏
    روى الطبري في التاريخ من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال‏:‏ ‏"‏ ذكر لنا أنه يخسف بقارون كل يوم قامة، وأنه يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة‏"
    قال القرطبي‏:‏ إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال مع نسيان نعمة الله، فإن احتقر غيره مع ذلك فهو الكبر المذموم‏.‏
    ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد ‏"‏ حتى يوم القيامة ‏"‏ والتجلجل بجيمين التحرك، وقيل‏:‏ الجلجلة الحركة مع صوت‏.‏
    وقال ابن دريد‏:‏ كل شيء خلطت بعضه ببعض فقد جلجلته‏.‏
    وقال ابن فارس‏:‏ التجلجل أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع من شق إلى شق، فالمعنى يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها مضطربا متدافعا‏.‏
    وحكى عياض أنه روي ‏"‏ يتجلل ‏"‏ بجيم واحدة ولام ثقيلة وهو بمعنى يتغطى، أي تغطيه الأرض‏.‏
    وحكى عن بعض الروايات أيضا ‏"‏ يتخلخل ‏"‏ بخاءين معجمتين واستبعدها إلا أن يكون من قولهم خلخلت العظم إذا أخذت ما عليه من اللحم، وجاء في غير الصحيحين ‏"‏ يتخلخل ‏"‏ بحاءين مهملتين‏.‏
    قلت‏:‏ والكل تصحيف إلا الأول، ومقتضى هذا الحديث أن الأرض لا تأكل جسد هذا الرجل فيمكن أن يلغز به فيقال‏:‏ كافر لا يبلى جسده بعد الموت‏.‏
    (ج10/ ص 323)
    ان محارب قد ولي قضاء الكوفة، قال عبد الله بن إدريس الأودي عن أبيه ‏"‏ رأيت الحكم وحمادا في مجلس قضائه ‏"‏ وقال سماك بن حرب ‏"‏ كان أهل الجاهلية إذا كان في الرجل ست خصال سودوه‏:‏ الحلم والعقل والسخاء والشجاعة والبيان والتواضع، ولا يكملن في الإسلام إلا بالعفاف، وقد اجتمعن في هذا الرجل ‏"‏ يعني محارب بن دثار‏.‏
    وقال الداودي‏:‏ لعل ركوبه الفرس كان ليغيظ به الكفار ويرهب به العدو‏.‏
    وتعقبه ابن التين بأن ركوب الخيل جائز فلا معنى للاعتذار عنه‏.‏
    قلت‏:‏ لكن المشي أقرب إلى التواضع، ويحتمل أن منزله كان بعيدا عن منزل حكمه‏.‏
    (ج10/ ص 323)
    ل شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ ما مس الأرض منها خيلاء لا شك في تحريمه‏.‏
    قال‏:‏ ولو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد لم يكن بعيدا، ولكن حدث للناس اصطلاح بتطويلها، وصار لكل نوع من الناس شعار يعرفون به، ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شك في تحريمه، وما كان على طريق العادة فلا تحريم فيه ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع‏.‏
    ونقل عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة‏.‏
    (ج10/ ص 324)
    وفي هذه الأحاديث أن إسبال الإزار للخيلاء كبيرة، وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه أيضا، لكن استدل بالتقييد في هذه الأحاديث بالخيلاء على أن الإطلاق في الزجر الوارد في ذم الإسبال محمول على المقيد هنا، فلا يحرم الجر والإسبال إذا سلم من الخيلاء‏.‏
    قال ابن عبد البر‏:‏ مفهومه أن الجر لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد، إلا أن جر القميص وغيره من الثياب مذموم على كل حال‏.‏
    وقال النووي‏:‏ الإسبال تحت الكعبين للخيلاء، فإن كان لغيرها فهو مكروه، وهكذا نص الشافعي على الفرق بين الجر للخيلاء ولغير الخيلاء، قال‏:‏ والمستحب أن يكون الإزار إلى نصف الساق، والجائز بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين، وما نزل عن الكعبين ممنوع منع تحريم إن كان للخيلاء وإلا فمنع تنزيه، لأن الأحاديث الواردة في الزجر عن الإسبال مطلقة فيجب تقييدها بالإسبال للخيلاء انتهى‏.‏
    والنص الذي أشار إليه ذكره البويطي في مختصره عن الشافعي قال‏:‏ لا يجوز السدل في الصلاة ولا في غيرها للخيلاء، ولغيرها خفيف لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ا هـ، وقوله‏:‏ ‏"‏ خفيف ‏"‏ ليس صريحا في نفي التحريم بل هو محمول على أن ذلك بالنسبة للجر خيلاء، فأما لغير الخيلاء فيختلف الحال، فإن كان الثوب على قدر لابسه لكنه يسدله فهذا لا يظهر فيه تحريم، ولا سيما إن كان عن غير قصد كالذي وقع لأبي بكر، وإن كان الثوب زائدا على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف فينتهي إلى التحريم، وقد يتجه المنع فيه من جهة التشبه بالنساء وهو أمكن فيه من الأول، وقد صحح الحاكم من حديث أبي هريرة ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبس لبسة المرأة ‏"‏ وقد يتجه المنع فيه من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق النجاسة به، وإلى ذلك يشير الحديث الذي أخرجه الترمذي في ‏"‏ الشمائل ‏"‏ والنسائي من طريق أشعث بن أبي الشعثاء - واسم أبيه سليم - المحاربي عن عمته واسمها رهم بضم الراء وسكون الهاء وهي بنت الأسود بن حنظلة عن عمها واسمه عبيد بن خالد قال‏:‏ ‏"‏ كنت أمشي وعلي برد أجره، فقال لي رجل‏:‏ ارفع ثوبك فإنه أنقى وأبقى، فنظرت فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت‏:‏ إنما هي بردة ملحاء، فقال‏:‏ أما لك في أسوة‏؟‏ قال‏:‏ فنظرت فإذا إزاره إلى أنصاف ساقيه ‏"‏ وسنده قبلها جيد
    (ج10/ ص 328)
    قال ابن العربي‏:‏ لم أر للقميص ذكرا صحيحا إلا في الآية المذكورة وقصة ابن أبي ولم أر لهما ثالثا فيما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال هذا في كتابه ‏"‏ سراج المريدين ‏"‏ وكأنه صنفه قبل ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ فلم يستحضر حديث أم سلمة ولا حديث أبي هريرة ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لبس قميصا بدا بميامنه ‏"‏ ولا حديث أسماء بنت يزيد ‏"‏ كانت يد كم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ ‏"‏ ولا حديث معاوية بن قرة بن إياس المزني ‏"‏ حدثني أبي قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من مزينة فبايعناه وإن قميصه لمطلق، فبايعته، ثم أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم ‏"‏ ولا حديث أبي سعيد ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه قميصا أو عمامة أو رداء ثم يقول‏:‏ اللهم لك الحمد ‏"‏ وكلها في السنن، وأكثرها في الترمذي، وفي الصحيحين حديث عائشة ‏"‏ كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة ‏"‏ وحديث أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف في قميص الحرير لحكة كانت به ‏"‏ وحديث ابن عمر رفعه ‏"‏ لا يلبس المحرم القميص ولا العمائم ‏"‏ الحديث وغير ذلك‏.‏
    (ج10/ ص 331)
    قال ابن بطال‏:‏ كره مالك لبس الصوف لمن يجد غيره لما فيه من الشهرة بالزهد لأن إخفاء العمل أولى، قال ولم ينحصر التواضع في لبسه بل في القطن وغيره ما هو بدون ثمنه‏.‏
    (ج10/ ص 333)
    قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ اسم التقوى يعم جميع المؤمنين، لكن الناس فيه على درجات، قال الله ‏(‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات‏)‏ الآية، فكل من دخل في الإسلام فقد اتقى، أي وقى نفسه من الخلود في النار، وهذا مقام العموم، وأما مقام الخصوص فهو مقام الإحسان كما قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أن تعبد الله كأنك تراه ‏"‏ انتهى‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ المراد بالمتقين المؤمنون، لأنهم الذين خافوا الله تعالى واتقوه بإيمانهم وطاعتهم له‏.‏
    وقال غيره‏:‏ لعل هذا من باب التهييج للمكلف على الأخذ بذلك، لأن من سمع أن من فعل ذلك كان غير متق فهم منه أنه لا يفعله إلا المستخف فيأنف من فعل ذلك لئلا يوصف بأنه غير متق، واستدل به على تحريم الحرير على الرجال دون النساء لأن اللفظ لا يتناولهن على الراجح، ودخولهن بطريق التغليب مجاز يمنع منه ورود الأدلة الصريحة على إباحته لهن
    قد قال الجمهور بجواز إلباسهم ذلك في نحو العيد، وأما في غيره فكذلك في الأصح عند الشافعية، وعكسه عند الحنابلة، وفي وجه ثالث يمنع بعد التمييز‏.‏
    وفي الحديث أن لا كراهة في لبس الثياب الضيقة والمفرجة لمن اعتادها أو احتاج إليها،
    (ج10/ ص 335)
    قد كره بعض السلف لبس البرنس لأنه كان من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال‏:‏ لا بأس به‏.‏
    قيـل‏:‏ فإنه من لبوس النصارى‏.‏
    قال‏:‏ كان يلبس هاهنا‏.‏
    وقال عبد الله بن أبي بكر‏:‏ ما كان أحد من القراء إلا له برنس‏.‏
    وأخرج الطبراني من حديث أبي قرصافة قال‏:‏ ‏"‏ كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم برنسا فقال‏:‏ البسه ‏"‏ وفي سنده من لا يعرف‏.‏
    ولعل من كرهه أخذ بعموم حديث علي رفعه ‏"‏ إياكم ولبوس الرهبان، فإنه من تزيا بهم أو تشبه فليس مني ‏"‏ أخرجه الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ بسند لا بأس به‏.‏
    (ج10/ ص 336)
    ال ابن القيم في ‏"‏ الهدى ‏"‏‏:‏ اشترى صلى الله عليه وسلم السراويل، والظاهر أنه إنما اشتراه ليلبسه ثم قال‏:‏ وروي في حديث أنه لبس السراويل، وكانوا يلبسونه في زمانه وبإذنه‏.‏
    قلت‏:‏ وتؤخذ أدلة ذلك كله مما ذكرته‏.‏
    ووقع في الإحياء للغزالي أن الثمن ثلاثة دراهم والذي تقدم أنه أربعة دراهم أولى‏.‏
    (ج10/ 337)
    حديث عمرو بن حريث أنه قال‏:‏ ‏"‏ كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه ‏"‏ أخرجه مسلم، وعن أبي المليح بن أسامة عن أبيه رفعه ‏"‏ اعتموا تزدادوا حلما ‏"‏ أخرجه الطبراني والترمذي في ‏"‏ العلل المفرد ‏"‏ وضعفه البخاري؛ وقد صححه الحاكم فلم يصب، وله شاهد عند البزار عن ابن عباس ضعيف أيضا، وعن ركانة رفعه ‏"‏ فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم ‏"‏ أخرجه أبو داود والترمذي، وعن ابن عمر ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه ‏"‏ أخرجه الترمذي، وفيه أن ابن عمر كان يفعله والقاسم وسالم، وأما مالك فقال‏:‏ إنه لم ير أحدا يفعله إلا عامر بن عبد الله بن الزبير‏.‏
    والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 338)
    ونازع ابن القيم في ‏"‏ كتاب الهدى ‏"‏ من استدل بحديث التقنع على مشروعية لبس الطيلسان بأن التقنع غير التطيلس، وجزم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يلبس الطيلسان ولا أحد من أصحابه‏.‏
    ثم على تقدير أن يؤخذ من التقنع بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتقنع إلا لحاجة ويرد عليه حديث أنس ‏"‏ كان صلى الله عليه وسلم يكثر القناع ‏"‏ وقد ثبت أنه قال‏:‏ ‏"‏ من تشبه بقوم فهو منهم ‏"‏ كما تقدم معلقا في كتاب الجهاد من حديث ابن عمر ووصله أبو داود، وعند الترمذي من حديث أنس ‏"‏ ليس منا من تشبه بغيرنا ‏"‏ وقد ثبت عند مسلم من حديث النواس بن سمعان في قصة الدجال ‏"‏ يتبعه اليهود وعليهم الطيالسة ‏"‏ وفي حديث أنس أنه رأى قوما عليهم الطيالسة فقال‏:‏ ‏"‏ كأنهم يهود خيبر ‏"‏ وعورض بما أخرجه ابن سعد بسند مرسل ‏"‏ و
    ‏"‏ وصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم الطيلسان فقال‏:‏ هذا ثوب لا يؤدي شكره ‏"‏ أخرجه وإنما يصلح الاستدلال بقصة اليهود في الوقت الذي تكون الطيالسة من شعارهم، وقد ارتفع ذلك في هذه الأزمنة فصار داخلا في عموم المباح، وقد ذكره ابن عبد السلام في أمثلة البدعة المباحة، وقد يصير من شعائر قوم فيصير تركه من الإخلال بالمروءة كما نبه عليه الفقهاء أن الشيء قد يكون لقوم وتركه بالعكس، ومثل ابن الرفعة ذلك بالسوقي والفقيه في الطيلسان‏.‏
    (ج10/ ص 340)
    ‏قال أبلي وأخلقي
    ‏خلقي ‏"‏ بالمعجمة والقاف أمر بالإخلاق وهما بمعنى، والعرب تطلق ذلك وتريد الدعاء بطول البقاء للمخاطب بذلك، أي أنها تطول حياتها حتى يبلى الثوب ويخلق، قال الخليل‏:‏ أبل وأخلق معناه عش وخرق ثيابك وارقعها، وأخلقت الثوب أخرجت باليه ولفقته‏.‏
    السنا بلسان الحبشة الحسن‏"‏‏.‏
    ووقع في رواية خالد بن سعيد الماضية في الجهاد ‏"‏ فقال سنه سنه ‏"‏ وهي بالحبشية حسن، وقد تقدم ضبطها وشرحها
    (ج10/ ص 348)
    قال ابن بطال‏:‏ الثياب الخضر من لباس الجنة، وكفى بذلك شرفا لها‏.‏
    قلت وأخرج أبو داود من حديث أبي رمثة بكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة أنه ‏"‏ رأى على النبي صلى الله عليه وسلم بردين أخضرين‏"‏‏.‏
    قد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث سمرة رفعه ‏"‏ عليكم بالثياب البيض فالبسوها فإنها أطيب وأطهر، وكفنوا فيها موتاكم ‏"‏ وأخرج أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وصححه الترمذي وابن حبان من حديث ابن عباس بمعناه وفيه‏:‏ ‏"‏ فإنها من خير ثيابكم‏"‏‏.‏
    (ج10/ ص 351)
    قال ابن بطال‏:‏ اختلف في الحرير فقال قوم‏:‏ يحرم لبسه في كل الأحوال حتى على النساء، نقل ذلك عن علي وابن عمر وحذيفة وأبي موسى وابن الزبير، ومن التابعين عن الحسن وابن سيرين‏.‏
    وقال قوم يجوز لبسه مطلقا وحملوا الأحاديث الواردة في النهي عن لبسه على من لبسه خيلاء أو على التنزيه‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا الثاني ساقط لثبوت الوعيد على لبسه‏.‏
    وأما قول عياض‏:‏ حمل بعضهم النهي العام في ذلك على الكراهة لا على التحريم، فقد تعقبه ابن دقيق العيد فقال‏:‏ قد قال القاضي عياض ‏(‏إن الإجماع انعقد بعد ابن الزبير ومن وافقه على تحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء، ذكر ذلك في الكلام على قول ابن الزبير في الطريق التي أخرجها مسلم ‏"‏ ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر ‏"‏ فذكر الحديث الآتي في الباب، قال‏:‏ فإثبات قول بالكراهة دون التحريم إما أن ينقض ما نقله من الإجماع وإما أن يثبت أن الحكم العام قبل التحريم على الرجال كان هو الكراهة ثم انعقد الإجماع على التحريم على الرجال والإباحة للنساء، ومقتضاه نسخ الكراهة السابقة، وهو بعيد جدا‏.‏
    وأما ما أخرج عبد الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس قال‏:‏ ‏"‏ لقي عمر عبد الرحمن بن عوف فنهاه عن لبس الحرير فقال‏:‏ لو أطعتنا للبسته معنا، وهو يضحك ‏"‏ فهو محمول على أن عبد الرحمن فهم من إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له في لبس الحرير نسخ التحريم ولم ير تقييد الإباحة بالحاجة كما سيأتي، واختلف في علة تحريم الحرير عل رأيين مشهورين‏:‏ أحدهما الفخر والخيلاء، والثاني‏:‏ لكونه ثوب رفاهية فيليق بزي النساء دون شهامة الرجال‏.‏
    ويحتمل علة ثالثة وهي التشبه بالمشركين‏.‏
    قال ابن دقيق العيد‏:‏ وهذا قد يرجع إلى الأول لأنه من سمة المشركين، وقد يكون المعنيان معتبرين إلا أن المعنى الثاني لا يقتضي التحريم لأن الشافعي قال في ‏"‏ الأم ‏"‏‏:‏ ولا أكره لباس اللؤلؤ إلا للأدب فإنه زي النساء‏.‏
    واستشكل بثبوت اللعن للمتشبهين من الرجال بالنساء فإنه يقتضي منع ما كان مخصوصا بالنساء في جنسه وهيئته‏.‏
    وذكر بعضهم علة أخرى وهي السرف والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 355)
    قال محمد صلى الله عليه وسلم‏)‏ هذا من مرسل ابن الزبير، ومراسيل الصحابة محتج بها عند جمهور من لا يحتج بالمراسيل، لأنهم إما أن يكون عند الواحد منهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي آخر، واحتمال كونها عن تابعي لوجود رواية بعض الصحابة عن بعض التابعين نادر، لكن تبين من الروايتين اللتين بعد هذه أن ابن الزبير إنما حمله عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة عمر، ومع ذلك فلم أقف في شيء من الطرق المتفقة عن عمر أنه رواه بلفظ ‏"‏ لن ‏"‏ بل الحديث عنه في جميع الطرق بلفظ ‏"‏ لم ‏"‏ والله أعلم‏.‏
    وابن الزبير قد حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، منها حديثه ‏"‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح الصلاة فرفع يديه ‏"‏ أخرجه أحمد‏.‏
    ومنها حديثه ‏"‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو هكذا وعقد ابن الزبير ‏"‏ أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي‏.‏
    ومنها حديثه أنه ‏"‏ سمع النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن نبيذ الجر ‏"‏ أخرجه أحمد أيضا‏.‏
    (ج10/ ص 357)
    وعمران هو السدوسي كان أحد الخوارج من العقدية بل هو رئيسهم وشاعرهم، وهو الذي مدح ابن ملجم قاتل علي بالأبيات المشهورة، وأبوه حطان بكسر المهملة بعدها طاء مهملة ثقيلة، وإنما أخرج له البخاري على قاعدته في تخريج أحاديث المبتدع إذا كان صامد اللهجة متدينا؛ وقد قيل إن عمران تاب من بدعته وهو بعيد، وقيل‏:‏ إن يحيى بن أبي كثير حمله عنه قبل أن يبتدع، فإنه كان تزوج امرأة من أقاربه تعتقد رأي الخوارج لينقلها عن معتقدها فنقلته هي إلى معتقدها، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع وهو متابعة، وآخر في ‏"‏ باب نقض الصور‏"‏‏.‏
    (ج10/ ص 359)
    يه حجة لمن أجاز لبس العلم من الحرير إذا كان في الثوب، وخصه بالقدر المذكور وهو أربع أصابع، وهذا هو الأصح عند الشافعية، وفيه حجة على من أجاز العلم في الثوب مطلقا ولو زاد على أربعة أصابع، وهو منقول عن بعض المالكية، وفيه حجة على من منع العلم في الثوب مطلقا، وهـو ثابت عن الحسن وابن سيرين وغيرهما، لكن يحتمل أن يكونوا منعوه ورعا وإلا فالحديث حجة عليهم فلعلهم لم يبلغهم، قال النووي وقد نقل مثل ذلك عن مالك وهو مذهب مردود، وكذا مذهب من أجاز بغير تقدير والله أعلم‏.‏
    واستدل به على جواز لبس الثوب المطرز بالحرير، وهو ما جعل عليه طراز حرير مركب، وكذلك المطرف وهو ما سجفت أطرافه بسجف من حرير بالتقدير المذكور، وقد يكون التطريز في نفس الثوب بعد النسج،
    (ج10/ ص 360)
    ال ابن بطال‏:‏ النهي عن لبس الحرير ليس من أجل نجاسة عينه بل من أجل أنه ليس من لباس المتقين، وعينه مع ذلك طاهرة فيجوز مسه وبيعه والانتفاع بثمنه
    ذا الوجه صححه الرافعي وصحح النووي الجواز واستدل به على منع افتراش الرجل الحرير مع امرأته في فراشها، ووجهه المجيز لذلك من المالكية بأن المرأة فراش الرجل فكما جاز له أن يفترشها وعليها الحلي من الذهب والحرير كذلك يجوز له أن يجلس وينام معها على فراشها المباح لها‏.‏
    ‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ الذي يمنع من الجلوس عليه هو ما منع من لبسه وهو ما صنع من حرير صرف أو كان الحرير فيه
    وحكى ابن الأثير في ‏"‏ النهاية ‏"‏ أن القس الذي نسب إليه هو الصقيع سمي بذلك لبياضه، وهو والذي قبله كلام من لم يعرف القس القرية‏.‏
    10/ ص 362)
    ذهب الجمهور إلى جواز لبس ما خالطه الحرير إذا كان غير الحرير الأغلب، وعمدتهم في ذلك ما تقدم في تفسير الحلة السيراء وما انضاف إلى ذلك من الرخصة في العلم في الثوب إذا كان من حرير كما تقدم تقريره في حديث عمر، قال ابن دقيق العيد‏:‏ وهو قياس في معنى الأصل، لكن لا يلزم من جواز ذلك جواز كل مختلط، وإنما يجوز منه ما كان مجموع الحرير فيه قدر أربع أصابع لو كانت منفردة بالنسبة لجميع الثوب فيكون المنع من لبس الحرير شاملا للخالص والمختلط، وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى وهو أربع أصابع إذا كانت منفردة، ويلتحق بها في المعنى ما إذا كانت مختلطة، قال‏:‏ وقد توسع الشافعية في ذلك، ولهم طريقان‏:‏ أحدهما‏:‏ وهو الراجح اعتبار الوزن، فإن كان الحرير أقل وزنا لم يحرم أو أكثر حرم، وإن استويا فوجهان اختلف الترجيح فيهما عندهم‏.‏
    الطريق الثاني‏:‏ الاعتبار بالقلة والكثرة بالظهور، وهذا اختيار القفال ومن تبعه، وعند المالكية في المختلط أقوال ثالثها الكراهة، ومنهم من فرق بين الخز وبين المختلط بقطن ونحوه فأجاز الخز ومنع الآخر، وهذا مبني على تفسير الخز، وقد تقدم في بعض تفاسير القسي أنه الخز؛ فمن قال إنه رديء الحرير فهو الذي يتنزل عليه القول المذكور؛ ومن قال إنه ما كان من وبر فخلط بحرير لم يتجه التفصيل المذكور، واحتج أيضا من أجاز لبس المختلط بحديث ابن عباس ‏"‏ إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير فأما العلم من الحرير وسدى الثوب فلا بأس به ‏"‏ أخرجه الطبراني بسند حسن هكذا، وأصله عند أبي داود، وأخرجه الحاكم بسند صحيح بلفظ ‏"‏ إنما نهى عن المصمت إذا كان حريرا ‏"‏ وللطبراني من طريق ثالث ‏"‏ نهى عن مصمت الحرير فأما ما كان سداه من قطن أو كتان فلا بأس به ‏"‏ واستدل ابن العربي للجواز أيضا بأن النهي عن الحرير حقيقة في الخالص، والإذن في القطن ونحوه صريح، فإذا خلطا بحيث لا يسمى حريرا بحيث لا يتناوله الاسم ولا تشمله علة التحريم خرج عن الممنوع فجاز، وقد ثبت لبس الخز عن جماعة من الصحابة وغيرهم، قال أبو داود‏:‏ لبسه عشرون نفسا من الصحابة وأكثر، وأورده ابن أبي شيبة عن جمع منهم وعن طائفة من التابعين بأسانيد جياد، وأعلى ما ورد في ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عبد الله بن سعد الدشتكي عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏ رأيت رجلا على بغلة وعليه عمامة خز سوداء وهو يقول‏:‏ كسانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
    (ج10/ ص364)
    وقع في ‏"‏ الوسيط للغزالي ‏"‏ أن الذي رخص له في لبس الحرير حمزة بن عبد المطلب، وغلطوه‏.‏
    وفي وجه للشافعية أن الرخصة خاصة بالزبير وعبد الرحمن
    (ج10/ ص 365)
    وأخرج أحمد والطحاوي وصححه من حديث مسلمة بن مخلد أنه قال لعقبة بن عامر‏:‏ قم فحدث بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏ سمعته يقول‏:‏ الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم ‏"‏ قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ إن قلنا إن تخصيص النهي للرجال لحكمة فالذي يظهر أنه سبحانه وتعالى علم قلة صبرهن عن التزين فلطف بهن في إباحته، ولأن تزيينهن غالبا إنما هو للأزواج، وقد ورد أن ‏"‏ حسن التبعل من الإيمان ‏"‏ قال، ويستنبط من هذا أن الفحل لا يصلح له أن يبالغ في استعمال الملذوذات لكون ذلك من صفات الإناث‏.‏
    (ج10/ ص369)
    قال أبو محمد بن قتيبة‏:‏ المراد بالفواطم فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت أسد بن هاشم والدة علي ولا أعرف الثالثة‏.‏
    وذكر أبو منصور الأزهري أنها فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب‏.‏
    وقد أخرج الطحاوي وابن أبي الدنيا في ‏"‏ كتاب الهدايا ‏"‏ وعبد الغني بن سعيد في ‏"‏ المبهمات ‏"‏ وابن عبد البر كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد عن أبي فاختة عن هبيرة بن يريم - بتحتانية أوله ثم راء وزن عظيم - عن علي في نحو هذه القصة قال‏:‏ ‏"‏ فشققت منها أربعة أخمرة ‏"‏ فذكر الثلاث المذكورات، قال‏:‏ ونسي يزيد الرابعة‏.‏
    وفي رواية الطحاوي ‏"‏ خمارا لفاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي، وخمارا لفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وخمارا لفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وخمارا لفاطمة أخرى قد نسيتها ‏"‏ فقال عياض لعلها فاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب وهي بنت شيبة بن ربيعة، وقيل‏:‏ بنت عتبة بن ربيعة، وقيل‏:‏ بنت الوليد بن عتبة‏.‏
    وامرأة عقيل هذه هي التي لما تخاصمت مع عقيل بعث عثمان معاوية وابن عباس حكمين بينهما ذكره مالك في ‏"‏ المدونة ‏"‏ وغيره، واستدل بهذا الحديث على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الحلة إلى علي فبنى علي على ظاهر الإرسال فانتفع بها في أشهر ما صنعت له وهو اللبس، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يبح له لبسها وإنما بعث بها إليه ليكسوها غيره ممن تباح له، وهذا كله إن كانت القصة وقعت بعد النهي عن لبس الرجال الحرير، وسيأتي مزيد لهذا في الحديث الذي بعده‏.‏
    (ج10/ ص369)
    عطارد هذا هو ابن حاجب بن زرارة بن عدس بمهملات الدارمي يكنى أبا عكرشة بشين معجمة، كان من جملة وفد بني تميم أصحاب الحجرات، وقد أسلم وحسن إسلامه واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه، وكان أبوه من رؤساء بني تميم في الجاهلية، وقصته مع كسرى في رهنه قوسه عوضا عن جمع كثير من العرب عند كسرى مشهورة حتى ضرب المثل بقوس حاجب‏.‏
    (ج10/ ص 370)
    وقال ابن بطال فيه ترك النبي صلى الله عليه وسلم لباس الحرير وهذا في الدنيا‏.‏
    وإرادة تأخير الطيبات إلى الآخرة التي لا انقضاء لها، إذ تعجيل الطيبات في الدنيا ليس من الحزم، فزهد في الدنيا للآخرة، وأمر بذلك، ونهى عن كل سرف وحرمه‏.‏
    وتعقبه ابن المنير بأن تركه صلى الله عليه وسلم لبس الحرير إنما هو لاجتناب المعصية، وأما الزهد فإنما هو في خالص الحلال وما لا عقوبة فيه، فالتقلل منه وتركه مع الإمكان هو الذي تتفاضل فيه درجات الزهاد‏.‏
    قلت‏:‏ ولعل مراد ابن بطال بيان سبب التحريم فيستقيم ما قاله‏.‏
    (ج10/ ص 373)
    قال ابن بطال قرن النبي صلى الله عليه وسلم نزول الخزائن بالفتنة إشارة إلى أنها تسبب عنها، وإلى أن القصد في الأمر خير من الإكثار وأسلم
    كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة‏)‏
    نه صلى الله عليه وسلم حذر من لباس الرقيق من الثياب الواصفة لأجسامهن لئلا يعرين في الآخرة، وفيما حكاه الزهري عن هند ما يؤيد ذلك قال‏:‏ وفيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلبس الثياب الشفافة لأنه إذا حذر من لبسها من ظهور العورة كان أولى بصفة الكمال من غيره ا هـ، وهو مبني على أحد الأقوال في تفسير المراد بقوله‏:‏ ‏"‏ كاسية عارية
    (ج10/ ص 374)
    لم يثبت عنده حديث ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عمر ثوبا فقال‏:‏ البس جديدا، وعش حميدا، ومت شهيدا ‏"‏ أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان، وأعله النسائي‏.‏
    وجاء أيضا فيما يدعو به من لبس الثوب الجديد أحاديث‏:‏ منها ما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي سعيد ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه عمامة أو قميصا أو رداء ثم يقول‏:‏ اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له أعوذ بك من شره وشر ما صنع له ‏"‏ وأخرج الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث عمر رفعه ‏"‏ من لبس جديدا فقال‏:‏ الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي - ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به - كان في حفظ الله وفي كنف الله حيا وميتا ‏"‏ وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث معاذ بن أنس رفعه ‏"‏ من لبس ثوبا فقال‏:‏ الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه‏"
    ‏"‏
    (ج10/ ص 375)
    واختلف في النهي عن التزعفر هل هو لرائحته لكونه من طيب النساء ولهذا جاء الزجر عن الخلوق‏؟‏ أو للونه فيلتحق به كل صفرة‏؟‏ وقد نقل البيهقي عن الشافعي أنه قال‏:‏ أنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر، وآمره إذا تزعفر أن يغسله‏.‏
    قال‏:‏ وأرخص في المعصفر لأنني لم أجد أحدا يحكي عنه إلا ما قال علي ‏"‏ نهاني ولا أقول أنهاكم ‏"‏ قال البيهقي‏:‏ قد ورد ذلك عن غير علي، وساق حديث عبد الله بن عمرو قال‏:‏ ‏"‏ رأى علي النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين فقال‏:‏ إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما ‏"‏ أخرجه مسلما، وفي لفظ له ‏"‏ فقلت أغسلهما‏؟‏ قال لا بل أحرقهما ‏"‏ قال البيهقي فلو بلغ ذلك الشافعي لقال به اتباعا للسنة كعادته‏.‏
    وقد كره المعصفر جماعة من السلف ورخص فيه جماعة، وممن قال بكراهته من أصحابنا الحليمي، واتباع السنة هو الأولى ا هـ‏.‏
    وقال النووي في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏‏:‏ أتقن البيهقي المسألة والله أعلم، ورخص مالك في المعصفر والمزعفر في البيوت وكرهه في المحافل
    ل ابن بطال‏:‏ أجاز مالك وجماعة لباس الثوب المزعفر للحلال وقالوا‏:‏ إنما وقع النهي عنه للمحرم خاصة، وحمله الشافعي والكوفيون على المحرم وغير المحرم، وحديث ابن عمر الآتي في ‏"‏ باب النعال السبتية ‏"‏ يدل على الجواز، فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بالصفرة‏.‏
    وأخرج الحاكم من حديث عبد الله بن جعفر قال‏:‏ ‏"‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران ‏"‏ وفي سنده عبد الله بن مصعب الزبيري وفيه ضعف‏.‏
    وأخرج الطبراني من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبغ إزاره ورداءه بزعفران، وفيه راو مجهول، ومن المستغرب قول ابن العربي‏.‏
    لم يرد في الثوب الأصفر حديث، وقد ورد فيه عدة أحاديث كما ترى، قال المهلب‏:‏ الصفرة أبهج الألوان إلى النفس، وقد أشار إلى ذلك ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏صفراء فاقع لونها تسر الناظرين‏)‏ ‏.‏
    (ج10/ ص 377)
    وقد تلخص لنا من أقوال السلف في لبس الثوب الأحمر سبعة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ الجواز مطلقا جاء عن علي وطلحة وعبد الله ابن جعفر والبراء وغير واحد من الصحابة، وعن سعيد بن المسيب والنخعي والشعبي وأبي قلابة وأبي وائل وطائفة من التابعين‏.‏
    القول الثاني‏:‏ المنع مطلقا لما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو وما نقله البيهقي وأخرج ابن ماجه من حديث ابن عمر ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المفدم ‏"‏ وهو بالفاء وتشديد الدال وهو المشبع بالعصفر فسره في الحديث، وعن عمر أنه كان إذا رأى على الرجل ثوبا معصفرا جذبه وقال‏:‏ ‏"‏ دعوا هذا للنساء ‏"‏ أخرجه الطبري‏.‏
    أخرج ابن أبي شيبة من مرسل الحسن ‏"‏ الحمرة من زينة الشيطان والشيطان يحب الحمرة ‏
    أن الشيطان يحب الحمرة، وإياكم والحمرة، وكل ثوب ذي شهرة ‏"‏ وأخرجه ابن منده وأدخل في رواية له بين الحسن ورافع رجلا، فالحديث ضعيف وبالغ الجوزقاني فقال إنه باطل، وقد وقفت على كتاب الجوزقاني المذكور وترجمه ‏"‏ بالأباطيل ‏"‏ وهو بخط ابن الجوزي، وقد تبعه على ما ذكر في أكثر كتابه في ‏"‏ الموضوعات ‏"‏ لكنه لم يوافقه على هذا الحديث فإنه ما ذكره في الموضوعات فأصاب، وعن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ ‏"‏ مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل وعليه ثوبان أحمران فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والبزار وقال‏:‏ لا نعلمه إلا بهذا الإسناد، وفيه أبو يحيى القتات مختلف فيه، وعن رافع بن خديج قال‏:‏ ‏"‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى على رواحلنا أكسية فيها خطوط عهن حمر فقال‏:‏ ألا أرى هذه الحمرة قد غلبتكم
    لقول الثالث‏:‏ يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة دون ما كان صبغه خفيفا، جاء ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد، وكأن الحجة فيه حديث ابن عمر
    ل الرابع‏:‏ يكره لبس الأحمر مطلقا لقصد الزينة والشهرة، ويجوز في البيوت والمهنة، جاء ذلك عن ابن عباس، وقد تقدم قول مالك في باب التزعفر‏.‏
    القول الخامس‏:‏ يجوز لبس ما كان صبغ غزله ثم نسج، ويمنع ما صبغ بعد النسج، جنح إلى ذلك الخطابي واحتج بأن الحلة الواردة في الأخبار الواردة في لبسه صلى الله عليه وسلم الحلة الحمراء إحدى حلل اليمن، وكذلك البرد الأحمر
    وقال الطبري بعد أن ذكر غالب هذه الأقوال‏:‏ الذي أراه جواز لبس الثياب المصبغة بكل لون، إلا أني لا أحب لبس ما كان مشبعا بالحمرة ولا لبس الأحمر مطلقا ظاهرا فوق الثياب لكونه ليس من لباس أهل المروءة في زماننا فإن مراعاة زي الزمان من المروءة ما لم يكن إثما، وفي مخالفة الزي ضرب من الشهرة، وهذا يمكن أن يلخص منه قول ثامن‏.‏
    والتحقيق في هذا المقام أن النهي عن لبس الأحمر إن كان من أجل أنه لبس الكفار فالقول فيه كالقول في الميثرة الحمراء كما سيأتي، وإن كان من أجل أنه زي النساء فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء فيكون النهي عنه لا لذاته، وإن كان من أجل الشهرة أو خرم المروءة فيمنع حيث يقع ذلك، وإلا فيقوى ما ذهب إليه مالك من التفرقة بين المحافل والبيوت‏.‏
    (ج10/ ص 380)
    (‏باب النعال‏)‏ جمع نعل وهي مؤنثة، قال ابن الأثير‏:‏ هي التي تسمى الآن تاسومة‏.‏
    وقال ابن العربي‏.‏
    النعل لباس الأنبياء، وإنما اتخذ الناس غيرها لما في أرضهم من الطين، وقد يطلق النعل على كل ما يقي القدم‏.‏
    قال صاحب المحكم‏.‏
    النعل والنعلة ما وقيت به القدم‏.‏
    قد وافق الأصمعي الخليل وقالوا‏:‏ قيل لها سبتية لأنها تسبتت بالدباغ أي لانت، قال أبو عبيد‏.‏
    كانوا في الجاهلية لا يلبس النعال المدبوغة إلا أهل السعة، واستشهد لذلك بشعر‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ السبتية التي دبغت بالقرظ وهي التي سبت ما عليها من شعر أي حلق، قال وقد يتمسك بهذا من يدعي أن الشعر ينجس بالموت، وأنه لا يؤثر فيه الدباغ، ولا دلالة فيه لذلك، واستدل بحديث ابن عمر في لباس النبي صلى الله عليه وسلم النعال السبتية ومحبته لذلك على جواز لبسها على كل حال‏.‏
    وقال أحمد‏:‏ يكره لبسها في المقابر لحديث بشير بن الخصاصية قال‏:‏ ‏"‏ بينما أنا أمشي في المقابر علي نعلان إذا رجل ينادي من خلفي‏:‏ يا صاحب السبتيتين إذا كنت في هذا الموضع فاخلع نعليك ‏"‏ أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم واحتج به على ما ذكر، وتعقبه الطحاوي بأنه يجوز أن يكون الأمر بخلعهما لأذى فيهما، وقد ثبت في الحديث أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا عنه مدبرين، وهو دال على جواز لبس النعال في المقابر، قال وثبت حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه، قال‏:‏ فإذا جاز دخول المسجد بالنعل فالمقبرة أولى‏.‏
    قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون النهي لإكرام الميت كما ورد النهي عن الجلوس على القبر، وليس ذكر السبتيتين للتخصيص بل اتفق ذلك والنهي إنما هو للمشي على القبور بالنعال‏.‏
    وفي هذه الأحاديث استحباب لبس النعل، وقد أخرج مسلم من حديث جابر رفعه ‏"‏ استكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكبا ما انتعل‏"‏‏.‏
    أي أنه شبيه بالراكب في خفة المشقة وقلة التعب وسلامة الرجل من أذى الطريق، قاله النووي وقال القرطبي‏:‏ هذا كلام بليغ ولفظ فصيح بحيث لا ينسج على منواله ولا يؤتى بمثاله، وهو إرشاد إلى المصلحة وتنبيه على ما يخفف المشقة، فإن الحافي المديم للمشي يلقى من الآلام والمشقة بالعثار وغيره ما يقطعه عن المشي ويمنعه من الوصول إلى مقصوده كالراكب فلذلك شبه به‏.‏
    (ج10/ ص 383)
    ال ابن العربي‏:‏ البداءة باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصالحة لفضل اليمين حسا في القوة وشرعا في الندب إلى تقديمها‏.‏
    وقال النووي‏:‏ يستحب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم أو الزينة، والبداءة باليسار في ضد ذلك كالدخول إلى الخلاء ونزع النعل والخف والخروج من المسجد والاستنجاء وغيره من جميع المستقذرات، وقد مر كثير من هذا في كتاب الطهارة في شرح حديث عائشة‏:‏ كان يعجبه التيمن‏.‏
    وقال الحليمي وجه الابتداء بالشمال عند الخلع أن اللبس كرامة لأنه وقاية للبدن، فلما كانت اليمنى أكرم من اليسرى بدئ بها في اللبس وأخرت في الخلع لتكون الكرامة لها أدوم وحظها منها أكثر، قال ابن عبد البر‏:‏ من بدأ بالانتعال في اليسرى أساء لمخالفة السنة، ولكن لا يحرم عليه لبس نعله‏.‏
    وقال غيره‏:‏ ينبغي له أن ينزع النعل من اليسرى ثم يبدأ باليمنى، ويمكن أن يكون مراد ابن عبد البر ما إذا لبسهما معا فبدأ باليسرى فإنه لا يشرع له أن ينزعهما ثم يلبسهما على الترتيب المأمور به إذ قد فات محله‏.‏
    ونقل عياض وغيره الإجماع على أن الأمر فيه للاستحباب، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 383)
    قال الخطابي‏:‏ الحكمة في النهي أن النعل شرعت لوقاية الرجل عما يكون في الأرض من شوك أو نحوه، فإذا انفردت إحدى الرجلين احتاج الماشي أن يتوقى لإحدى رجليه ما لا يتوقى للأخرى فيخرج بذلك عن سجية مشيه، ولا يأمن مع ذلك من العثار‏.‏
    وقيل‏:‏ لأنه لم يعدل بين جوارحه، وربما نسب فاعل ذلك إلى اختلال الرأي أو ضعفه‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ قيل العلة فيها أنها مشية الشيطان، وقيل‏:‏ لأنها خارجة عن الاعتدال‏.‏
    وقال البيهقي‏:‏ الكراهة فيه للشهرة فتمتد الأبصار لمن ترى ذلك منه‏.‏
    وقد ورد النهي عن الشهرة في اللباس‏.‏
    فكل شيء صير صاحبه شهرة فحقه أن يجتنب‏.‏
    وأما ما أخرج مسلم من طريق أبي رزين عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في نعل واحدة حتى يصلحها ‏"‏ وله من حديث جابر ‏"‏ حتى يصلح نعله ‏"‏ وله ولأحمد من طريق همام عن أبي هريرة ‏"‏ إذا انقطع شسع أحدكم أو شراكه فلا يمش في إحداهما بنعل والأخرى حافية، ليحفهما جميعا أو لينعلهما جميعا ‏"‏ فهذا لا مفهوم له حتى يدل على الإذن في غير هذه الصورة، وإنما هو تصوير خرج مخرج الغالب، ويمكن أن يكون من مفهوم الموافقة وهو التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه إذا منع مع الاحتياج فمع عدم الاحتياج أولى‏.‏
    وفي هذا التقرير استدراك على من أجاز ذلك حين ا
    الضرورة، وليس كذلك، وإنما المراد أن هذه الصورة قد يظن أنها أخف لكونها للضرورة المذكورة لكن لعلة موجودة فيها أيضا، وهو دال على ضعف ما أخرجه الترمذي عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ ربما انقطع شسع نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى في النعل الواحدة حتى يصلحها ‏"‏ وقد رجح البخاري وغير واحد وقفه على عائشة‏.‏
    وأخرج الترمذي بسند صحيح ‏"‏ عن عائشة أنها كانت تقول لأخيفن أبا هريرة فيمشي في نعل واحدة ‏"‏ وكذا أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا، وكأنها لم يبلغها النهي وقولها‏:‏ ‏"‏ لأخيفن ‏"‏ معناه لأفعلن فعلا يخالفه‏.‏
    وقد اختلف في ضبطه فروي ‏"‏ لأخالفن ‏"‏ وهو أوضح في المراد، وروي ‏"‏ لأحنثن ‏"‏ من الحنث بال
    فأخرج مسلم من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول ‏"‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا يمش في نعل واحدة ‏"‏ الحديث، ومن طريق مالك عن أبي الزبير عن جابر ‏"‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل الرجل بشماله أو يمشي في نعل واحدة ‏"‏ ومن طريق أبي خيثمة عن أبي الزبير عن جابر رفعه ‏"‏ إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في نعل واحدة حتى يصلح شسعه، ولا يمش في خف واحد ‏"‏ قال ابن عبد البر‏:‏ لم يأخذ أهل العلم برأي عائشة في ذلك، وقد ورد عن علي وابن عمر أيضا أنهما فعلا ذلك، وهو إما أن يكون بلغهما النهي فحملاه على التنزيه أو كان زمن فعلهما يسيرا بحيث يؤمن معه المحذور أو لم يبلغهما النهي، أشار إلى ذلك ابن عبد البر‏.‏
    وقال عياض‏:‏ روي عن بعض السلف في المشي في نعل واحدة أو خف واحد أثر لم يصح، أو له تأويل في المشي اليسير بقدر ما يصلح الأخرى، والتقييد بقوله‏:‏ ‏"‏ لا يمش ‏"‏ قد يتمسك به من أجاز الوقوف بنعل واحدة إذا عرض للنعل ما يحتاج إلى إصلاحها، وقد اختلف في ذلك فنقل عياض عن مالك أنه قال‏:‏ يخلع الأخرى ويقف إذا كان في أرض حارة أو نحوها مما يضر فيه المشي حتى يصلحها أو يمشي حافيا إن لم يكن ذلك‏.‏
    قال ابن عبد البر‏:‏ هذا هو الصحيح في الفتوى، وفي الأثر وعليه العلماء، ولم يتعرض لصورة الجلوس‏.‏
    والذي يظهر جوازها بناء على أن العلة في النهي ما تقدم ذكره، إلا ما ذكر من إرادة العدل بين الجوارح فإنه يتناول هذه الصورة أيضا‏.‏
    (ج10/ ص389)
    قال ابن دقيق العيد‏:‏ إخبار الصحابي عن الأمر والنهي على ثلاث مراتب‏:‏ الأولى أن يأتي بالصيغة كقوله‏:‏ افعلوا أو لا تفعلوا، الثانية قوله أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ونهانا عن كذا وهو كالمرتبة الأولى في العمل به أمرا ونهيا، وإنما نزل عنها لاحتمال أن يكون ظن ما ليس بأمر أمرا، إلا أن هذا الاحتمال مرجوح للعلم بعدالته ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة‏.‏
    المرتبة الثالثة أمرنا ونهينا على البناء للمجهول وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها لاحتمال أن يكون الآمر غير النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا تقرر هذا فالنهي عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء‏.‏
    قلت‏:‏ وقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث عائشة ‏"‏ أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حلية فيها خاتم من ذهب، فأخذوه وإنه لمعرض عنه، ثم دعا أمامة بنت ابنته فقال‏:‏ تحلي به ‏"‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ وظاهر النهي التحريم، وهو قول الأئمة واستقر الأمر عليه، قال عياض‏:‏ وما نقل عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم من تختمه بالذهب فشذوذ، والأشبه أنه لم تبلغه السنة فيه فالناس بعده مجمعون على خلافه، وكذا ما روي فيه عن خباب وقد قال له ابن مسعود ‏"‏ أما آن لهذا الخاتم أن يلقى‏؟‏ فقال‏:‏ إنك لن تراه علي بعد اليوم ‏"‏ فكأنه ما كان بلغه النهي فلما بلغه رجع‏.‏
    قال‏:‏ وقد ذهب بعضهم إلى أن لبسه للرجال مكروه كراهة تنزيه لا تحريم كما قال ذلك في الحرير، قال ابن دقيق العيد‏:‏ هذا يقتضي إثبات الخلاف في التحريم، وهو يناقض القول بالإجماع على التحريم، ولا بد من اعتبار وصف كونه خاتما‏.‏
    قلت‏:‏ التوفيق بين الكلامين ممكن بأن يكون القائل بكراهة التنزيه انقرض واستقر الإجماع بعده على التحريم، وقد جاء عن جماعة من الصحابة لبس خاتم الذهب، من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن أبي إسماعيل أنه رأى ذلك على سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وصهيب وذكر ستة أو سبعة‏.‏
    وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن حذيفة وعن جابر بن سمرة وعن عبيد الله بن يزيد الخطمي نحوه، ومن طريق حمزة بن أبي أسيد ‏"‏ نزعنا من يدي أسيد خاتما من ذهب ‏"‏ وأغرب ما ورد من ذلك ما جاء عن البراء الذي روى النهي، فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السفر قال ‏"‏ رأيت على البراء خاتما من ذهب ‏"‏ وعن شعبة عن أبي إسحاق نحوه أخرجه البغوي في ‏"‏ الجعديات ‏"‏ وأخرج أحمد من طريق محمد بن مالك قال‏:‏ ‏"‏ رأيت على البراء خاتما من ذهب فقال‏:‏ قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما فألبسنيه فقال‏:‏ البس ما كساك الله ورسوله ‏"‏ قال الحازمي‏:‏ إسناده ليس بذاك، ولو صح فهو منسوخ‏.‏
    واستدل به على تحريم الذهب على الرجال قليله وكثيره للنهي عن التختم وهو قليل، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التحريم يتناول ما هو في قدر الخاتم وما فوقه كالدملج والمعضد وغيرهما، فأما ما هو دونه فلا دلالة من الحديث عليه، وتناول النهي جميع الأحوال فلا يجوز لبس خاتم الذهب لمن فاجأه الحرب لأنه لا تعلق له بالحرب، بخلاف ما تقدم في الحرير من الرخصة في لبسه بسبب الحرب، وبخلاف ما على السيف أو الترس أو المنطقة من حلية الذهب فإنه لو فجأه الحرب جاز له الضرب بذلك السيف فإذا انقضت الحرب فلينتقض لأنه كله من متعلقات الحرب بخلاف الخاتم‏.‏
    (ج10/ ص 391)
    قال ابن عمر فلبس الخاتم - بعد النبي صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، حتى وقع من عثمان في بئر أريس‏)‏
    باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر ‏"‏ من حديث أنس نحوه وقال فيه ‏"‏ فلما كان عثمان جلس على بئر أريس ‏"‏ وزاد ابن سعد الأنصاري بسند المصنف ‏"‏ ثم كان في يد عثمان ست سنين ‏"‏ ثم اتفقا‏.‏
    ووقع في حديث ابن عمر عند أبي داود والنسائي من طريق المغيرة بن زياد عن نافع من الزيادة في آخره عن ابن عمر ‏"‏ فاتخذ عثمان خاتما ونقش فيه محمد رسول الله فكان يختم به أو يتختم به ‏"‏ وله شاهد من مرسل علي بن الحسين عند ابن سعد في الطبقات‏.‏
    وقد نقل عياض نحوا من قول ابن بطال قائلا‏:‏ قال بعضهم يمكن الجمع بأنه لما عزم على تحريم خاتم الذهب اتخذ خاتم فضة فلما لبسه أراه الناس في ذلك اليوم ليعلموا إباحته ثم طرح خاتم الذهب وأعلمهم تحريمه فطرح الناس خواتيمهم من الذهب، فيكون قوله ‏"‏ فطرح خاتمه وطرحوا خواتيمهم ‏"‏ أي التي من الذهب‏.‏
    وإن قلنا أن لا وهم فيها وجمعنا بما تقدم فمدة لبس خاتم الذهب ثلاثة أيام كما في حديث ابن عمر هذا، ومدة لبس خاتم الورق الأول كانت يوما واحدا كما في حديث أنس ثم لما رمى الناس الخواتيم التي نقشوها على نقشه، ثم عاد فلبس خاتم الفضة واستمر إلى أن مات‏.

    (ج10/ ص 397)
    ال التيفاشي في ‏"‏ كتاب الأحجار ‏"‏ خاتم الفولاذ مطردة للشيطان إذا لوي عليه فضة، فهذا يؤيد المغايرة في الحكم‏.
    (ج10/ ص 399)
    ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي من طريق أبي بردة بن أبي موسى عن علي قال ‏"‏ نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ألبس خاتمي في هذه وفي هذه ‏"‏ يعني السبابة والوسطى
    (ج10/ ص 400)
    قال الخطابي‏:‏ لم يكن لباس الخاتم من عادة العرب، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الملوك اتخذ الخاتم واتخذه من ذهب، ثم رجع عنه لا فيه من الزينة ولما يخشى من الفتنة، وجعل فصه مما يلي باطن كفه ليكون أبعد من التزين‏.‏
    قال شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ دعواه أن العرب لا تعرف الخاتم عجيبة فإنه عربي وكانت العرب تستعمله انتهى، ويحتاج إلى ثبوت لبسه عن العرب وإلا فكونه عربيا واستعمالهم له في ختم الكتب لا يرد على عبارة الخطابي، وقد قال الطحاوي بعد أن أخرج الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي ريحانة قال ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الخاتم إلا لذي سلطان ‏"‏ ذهب قوم إلى كراهة لبس الخاتم إلا لذي سلطان، وخالفهم آخرون فأباحوه، رمى حجتهم حديث أنس المتقدم ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ألقى خاتمه ألقى الناس خواتيمهم ‏"‏ فإنه يدل على أنه كان يلبس الخاتم في العهد النبوي من ليس ذا سلطان، فإن قيل هو منسوخ قلنا الذي نسخ منه لبس خاتم الذهب، قلت أو لبس خاتم المنقوش عليه نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقريره‏.‏
    ثم أورد عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يلبسون الخواتم ممن ليس له سلطان انتهى
    الذي يظهر أن لبسه لغير ذي سلطان خلاف الأولى، لأنه ضرب من التزين، واللائق بالرجال خلافه، وتكون الأدلة الدالة على الجواز هي الصارفة للنهي عن التحريم، ويؤيده أن في بعض طرقه نهي عن الزينة والخاتم الحديث، ويمكن أن يكون المراد بالسلطان من له سلطان على شيء ما يحتاج إلى الختم عليه لا السلطان الأكبر، خاصة والمراد بالخاتم ما يختم به فيكون لبسه عبثا‏.‏
    وأما من لبس الخاتم الذي لا يختم به وكان من الفضة للزينة فلا يدخل في النهي، وعلى ذلك يحمل حال من لبسه ويؤيده ما ورد من صفة نقش خواتم بعض من كان يلبس الخواتم مما يدل على أنها لم تكن بصفة ما يختم به، وقد سئل مالك عن حديث أبي ريحانة فضعفه وقال‏:‏ سأل صدقة بن يسار سعيد بن المسيب فقال‏:‏ البس الخاتم، وأخبر الناس أني قد أفتيتك والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 400)
    جزم أبو الفتح اليعمري أن اتخاذ الخاتم كان في السنة السابعة، وجزم غيره بأنه كان في السادسة ويجمع بأنه كان في أواخر السادسة وأوائل السابعة لأنه إنما اتخذه عند إرادته مكاتبة الملوك كما تقدم، وكان إرساله إلى الملوك في مدة الهدنة، وكان في ذي القعدة سنة ست، ورجع إلى المدينة في ذي الحجة، ووجه الرسل في المحرم من السابعة وكان اتخاذه الخاتم قبل إرساله الرسل إلى الملوك‏.‏
    قال الداودي‏:‏ لم يجزم به جويرية، وتواطؤ الروايات على خلافه يدل على أنه لم يحفظه، وعمل الناس على لبس الخاتم في اليسار يدل على أنه المحفوظ‏.‏
    عن نافع عن ابن عمر في قصة اتخاذ الخاتم من ذهب وفيه ‏"‏ وجعله في يده اليمنى ‏"‏ وأخرجه الترمذي وابن سعد من طريق موسى بن عقبة عن نافع بلفظ ‏"‏ صنع النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب فتختم به في يمينه، ثم جلس على المنبر فقال‏:‏ إني كنت اتخذت هذا الخاتم في يميني‏.‏
    ثم نبذه ‏"‏ الحديث وهذا صريح من لفظه صلى الله عليه وسلم رافع للبس‏.‏
    بن عمر ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يساره ‏"‏ فقد قال أبو داود بعده‏:‏ ورواه ابن إسحاق وأسامة بن زيد عن نافع ‏"‏ في يمينه ‏"‏ انتهى‏.‏
    ورواية ابن إسحاق قد أخرجها أبو الشيخ في ‏"‏ كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من طريقه، وكذا رواية أسامة‏.‏
    وأخرجها محمد بن سعد أيضا‏.‏
    فظهر أن رواية اليسار في حديث نافع شاذة، ومن رواها أيضا أقل عددا وألين ممن روى اليمين، وقد أخرج الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ بسند حسن عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه ‏"‏ وأخرج أبو الشيخ في ‏"‏ كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من رواية خالد بن أبي بكر عن سالم عن ابن عمر نحوه، فرجحت رواية اليمين في حديث ابن عمر أيضا‏.‏
    وقد ورد التختم في اليمين أيضا في أحاديث أخرى‏:‏ منها عند مسلم من حديث أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتما من فضة في يمينه فصه حبشي ‏"‏ وأخرج أبو داود أيضا من طريق ابن إسحاق قال ‏"‏ رأيت على الصلت بن عبد الله خاتما في خنصره اليمين، فسألته فقال‏:‏ رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا وجعل فصه على ظهرها، ولا إخال ابن عباس إلا ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وأورده الترمذي من هذا الوجه مختصرا ‏"‏ رأيت ابن عباس يتختم في يمينه ولا إخاله إلا قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه ‏"‏ وللطبراني من وجه آخر عن ابن عباس ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه ‏"‏ وفي سنده لين‏.‏
    وأخرج الترمذي أيضا من طريق حماد بن سلمة ‏"‏ رأيت ابن أبي رافع يتختم في يمينه وقال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه ‏"‏ ثم نقل عن البخاري أنه أصح شيء روي في هذا الباب‏.‏
    وقال البيهقي في الأدب‏:‏ يجمع بين هذه الأحاديث بأن الذي لبسه في يمينه هو خاتم الذهب كما صرح به في حديث ابن عمر‏.‏
    والذي لبسه في يساره هو خاتم الفضة، وأما رواية الزهري عن أنس التي فيها التصريح بأنه كان فضة ولبسه في يمينه فكأنها خطأ، فقد تقدم أن الزهري وقع له وهم في الخاتم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه وقع في روايته أنه الذي كان من فضة، وأن الذي في رواية غيره أنه الذي كان من ذهب، فعلى هذا فالذي كان لبسه في يمينه هو الذهب ا هـ ملخصا‏.‏
    وجمع غيره بأنه لبس الخاتم أولا في يمينه ثم حوله إلى يساره، واستدل له بما أخرجه أبو الشيخ وابن عدي من رواية عبد الله بن عطاء عن نافع عن ابن عمر ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم تختم في يمينه، ثم أنه حوله في يساره ‏"‏ فلو صح هذا لكان قاطعا للنزاع، ولكن سنده ضعيف‏.‏
    قد جمع البغوي في ‏"‏ شرح السنة ‏"‏ بذلك وأنه تختم أولا في يمينه ثم تختم في يساره وكان ذلك آخر الأمرين‏.‏
    وقال ابن أبي حاتم‏:‏ سألت أبا زرعة عن اختلاف الأحاديث في ذلك فقال‏.‏
    لا يثبت هذا ولا هذا، ولكن في يمينه أكثر، وقد تقدم قول البخاري أن حديث عبد الله بن جعفر أصح شيء ورد فيه وصرح فيه بالتختم في اليمين، وفي المسألة عند الشافعية اختلاف والأصح اليمين‏.‏
    ويظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد، فإن كان اللبس للتزين به فاليمين أفضل، وإن كان للتختم به فاليسار أولى لأنه كالمودع فيها، ويحصل يناوله منها باليمين وكذا وضعه فيها، ويترجح التختم قي اليمين مطلقا لأن اليسار آلة الاستنجاء فيصان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النجاسة، ويترجح التختم في اليسار بما أشرت إليه من التناول‏.‏
    وجنحت طائفة إلى استواء الأمرين وجمعوا بذلك بين مختلف الأحاديث، وإلى ذلك أشار أبو داود حيث ترجم ‏"‏ باب التختم في اليمين واليسار ‏"‏ ثم أورد الأحاديث مع اختلافها في ذلك بغير ترجيح، ونقل النووي وغيره الإجماع على الجواز ثم قال‏:‏ ولا كراهة فيه - يعني عند الشافعية - وإنما الاختلاف في الأفضل‏.‏
    (ج10/ ص 403)
    ي ‏"‏ المصنف ‏"‏ عن ابن عمر أنه نقش على خاتمه عبد الله بن عمر، وكذا أخرج عن سالم عن عبد الله بن عمر أنه نقش اسمه على خاتمه، وكذا القاسم بن محمد، قال ابن بطال‏:‏ وكان مالك يقول‏:‏ من شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم في خواتمهم‏.‏
    وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة وأبي عبيدة أنه كان نقش خاتم كل واحد منهما ‏"‏ الحمد لله ‏"‏ وعن علي ‏"‏ الله الملك ‏"‏ وعن إبراهيم النخعي ‏"‏ بالله ‏"‏ وعن مسروق ‏"‏ بسم الله ‏"‏ وعن أبي جعفر الباقر ‏"‏ العزة لله ‏"‏ وعن الحسن والحسين لا بأس بنقش ذكر الله على الخاتم، قال النووي‏:‏ وهو قول الجمهور، ونقل عن ابن سيرين وبعض أهل العلم كراهته انتهى‏.‏
    وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن سيرين أنه لم يكن يرى بأسا أن يكتب الرجل في خاتمه ‏"‏ حسبي الله ‏"‏ ونحوها، فهذا يدل على أن الكراهة عنه لم تثبت، ويمكن الجمع بأن الكراهة حيث يخاف عليه حمله للجنب والحائض والاستنجاء بالكف التي هو فيها، والجواز حيث حصل الأمن من ذلك، فلا تكون الكراهة لذلك بل من جهة ما يعرض لذلك، والله أعلم‏.‏
    عن أنس قال ‏"‏ كان فص خاتم النبي صلى الله عليه وسلم حبشيا مكتوبا عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله ‏"‏ وعرعرة ضعفه ابن المديني، وزيادته هذه شاذة، وظاهره أيضا أنه كان على هذا الترتيب، لكن لم تكن كتابته على السياق العادي فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به يقتضي أن تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الختم مستويا‏.‏
    وأما قول بعض الشيوخ أن كتابته كانت من أسفل إلى فوق يعني أن الجلالة في أعلى الأسطر الثلاثة ومحمد في أسفلها فلم أر التصريح بذلك في شيء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلي يخالف ظاهرها ذلك، فإنه قال فيها ‏"‏ محمد سطر والسطر الثاني رسول والسطر الثالث الله ‏"‏ ولك أن تقرأ محمد بالتنوين وعدمه والله بالرفع وبالجر‏.‏
    (ج10/ ص 405)
    قال ابن بطال‏:‏ يؤخذ من الحديث أن يسير المال إذا ضاع يجب البحث في طلبه والاجتهاد في تفتيشه، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك لما ضاع عقد عائشة وحبس الجيش على طلبه حتى وجد، كذا قال، وفيه نظر، فأما عقد عائشة فقد ظهر أثر ذلك بالفائدة العظيمة التي نشأت عنه وهي رخصة التيمم فكيف يقاس عليه غيره‏؟‏ وأما فعل عثمان فلا ينهض الاحتجاج به أصلا لما ذكر، لأن الذي يظهر أنه إنما بالغ في التفتيش عليه لكونه أثر النبي صلى الله عليه وسلم قد لبسه واستعمله وختم به، ومثل ذلك يساوي في العادة قدرا عظيما من المال، وإلا لو كان غير خاتم النبي صلى الله عليه وسلم لاكتفي بطلبه بدون ذلك، وبالضرورة يعلم أن قدر المؤنة التي حصلت في الأيام الثلاثة تزيد على قيمة الخاتم لكن اقتضت صفته عظيم قدره فلا يقاس عليه كل ما ضاع من يسير المال، قال‏:‏ وفيه أن من فعل الصالحين العبث بخواتيمهم وما يكون بأيديهم وليس ذلك بعائب لهم، قلت‏:‏ وإنما كان كذلك لأن من مثلهم إنما ينشأ عن فكر، وفكرتهم إنما هي في الخير‏.‏
    قال الكرماني‏:‏ معني قوله ‏"‏ يعبث به ‏"‏ يحركه أو يخرجه من إصبعه ثم يدخله فيها وذلك صورة العبث، وإنما يفعل الشخص ذلك عند تفكره في الأمور‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ وفيه أن من طلب شيئا ولم ينجح فيه بعد ثلاثة أيام أن له أن يتركه، ولا يكون بعد الثلاث مضيعا، وأن الثلاث حد يقع بها العذر في تعذر المطلوبات‏.‏
    وفيه استعمال آثار الصالحين ولباس ملابسهم على جهة التبرك والتيمن بها
    (ج10/ ص408)
    ال ابن القيم‏:‏ كره الجمهور ثقب أذن الصبي ورخص بعضهم في الأنثى‏.‏
    قلت‏:‏ وجاء الجواز في الأنثى عن أحمد للزينة، والكراهة للصبي‏.‏
    قال الغزالي في ‏"‏ الإحياء ‏"‏ يحرم ثقب أذن المرأة ويحرم الاستئجار عليه إلا إن ثبت فيه شيء من جهة الشرع‏.‏
    قلت‏:‏ جاء عن ابن عباس فيما أخرجه الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏‏:‏ سبعة في الصبي من السنة فذكر السابع منها وثقب أذنه، وهو يستدرك على قول بعض الشارحين‏:‏ لا مستند لأصحابنا في قولهم إنه سنة‏.‏
    (ج10/ ص 410)
    ما إطلاق من أطلق كالنووي وأن المخنث الخلقي لا يتجه عليه اللوم فمحمول على ما إذا لم يقدر على ترك التثني والتكسر في المشي والكلام بعد تعاطيه المعالجة لترك ذلك، وإلا متى كان ترك ذلك ممكنا ولو بالتدريج فتركه بغير عذر لحقه اللوم، واستدل لذلك الطبري بكونه صلى الله عليه وسلم لم يمنع المخنث من الدخول على النساء حتى سمع منه التدقيق في وصف المرأة كما في ثالث أحاديث الباب الذي يليه، فمنعه حينئذ فدل على أن لا ذم على ما كان من أصل الخلقة‏.‏
    وقال ابن التين‏:‏ المراد باللعن في هذا الحديث من تشبه من الرجال بالنساء في الزي ومن تشبه من النساء بالرجال كذلك، فأما من انتهى في التشبه بالنساء من الرجال إلى أن يؤتى في دبره وبالرجال من النساء إلى أن تتعاطى السحق بغيرها من النساء فإن لهذين الصنفين من الذم والعقوبة أشد ممن لم يصل إلى ذلك، قال‏:‏ وإنما أمر بإخراج من تعاطى ذلك من البيوت كما في الباب الذي يليه لئلا يفضي الأمر بالتشبه إلى تعاطي ذلك الأمر المنكر‏.‏
    وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به ما ملخصه‏:‏ ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء، لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها، لا التشبه في أمور الخير‏.‏
    وقال أيضا‏:‏ اللعن الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم على ضربين‏:‏ أحدهما يراد به الزجر عن الشيء الذي وقع اللعن بسببه وهو مخوف، فإن اللعن من علامات الكبائر، والآخر يقع في حال الحرج، وذلك غير مخوف، بل هو رحمة في حق من لعنه، بشرط أن لا يكون الذي لعنه مستحقا لذلك كما ثبت من حديث ابن عباس عند مسلم، قال‏:‏ والحكمة في لعن من تشبه إخراجه الشيء عن الصفة التي وضعها عليه أحكم الحكماء، وقد أشار إلى ذلك في لعن الواصلات بقوله ‏"‏ المغيرات خلق الله‏"‏‏.‏


    (ج10/ ص411)
    وأخرج عمر فلانا ‏"‏ وأنجشة هو العبد الأسود الذي كان يحدو بالنساء، وسيأتي خبره في ذلك في كتاب الأدب، وقد تقدم ذكر أسامي من كان في العهد النبوي من المخنثين، ولم أقف في شيء من الروايات على تسمية الذي أخرجه عمر، إلى أن ظفرت بكتاب لأبي الحسن المدايني سماه ‏"‏ كتاب المغربين ‏"‏ بمعجمة وراء مفتوحة ثقيلة، فوجدت فيه عدة قصص لمن غربهم عمر عن المدينة
    (ج10/ ص 412)
    ال الخطابي‏.‏
    هي المواضع التي تتسخ ويجتمع فيها الوسخ ولا سيما ممن لا يكون طري البدن‏.‏
    وقال الغزالي‏:‏ كانت العرب لا تغسل اليد عقب الطعام فيجتمع في تلك العضون وسخ، فأمر بغسلها‏.‏
    قال النووي‏:‏ وهي سنة مستقلة ليست مختصة بالوضوء، يعني أنها يحتاج إلى غسلها في الوضوء والغسل والتنظيف، وقد ألحق بها إزالة ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فإن في بقائه إضرارا بالسمع، وقد أخرجه ابن عدي من حديث أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعاهد البراجم عند الوضوء لأن الوسخ إليها سريع ‏"‏ وللترمذي الحكيم من حديث عبد الله بن بشر رفعه ‏"‏ قصوا أظفاركم، وادفنوا قلاماتكم، ونقوا براجمكم ‏"‏ وفي سنده راو مجهول‏.‏
    ولأحمد من حديث ابن عباس ‏"‏ أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ولم لا يبطئ عني وأنتم لا تستنون - أي لا تستاكون - ولا تقصون شواربكم ولا تنقون رواجبكم ‏"‏ والرواجب جمع راجبة بجيم وموحدة قال أبو عبيد‏:‏ البراجم والرواجب مفاصل الأصابع كلها‏.‏
    قال الخطابي‏:‏ انتضاح الماء الاستنجاء به، وأصله من النضح وهو الماء القليل، فعلى هذا هو والاستنجاء خصلة واحدة، وعلى الأول فهو غيره، ويشهد له ما أخرجه أصحاب السنن من رواية الحكم بن سفيان الثقفي أو سفيان بن الحكم عن أبيه أنه ‏"‏ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، توضأ ثم أخذ حفنة من ماء فانتضح بها ‏"‏ وأخرج البيهقي من طريق سعيد بن جبير‏:‏ أن رجلا أتى ابن عباس فقال إني أجد بللا إذا قمت أصلي، فقال له ابن عباس‏:‏ انضح بماء، فإذا وجدت من ذلك شيئا فقل هو منه‏.‏
    وأما الخصال الواردة في المعنى لكن لما يرد التصريح فيها بلفظ الفطرة فكثيرة، منها ما أخرجه الترمذي من حديث أبي أيوب رفعه ‏"‏ أربع من سنن المرسلين‏:‏ الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح ‏"‏ واختلف في ضبط الحياء فقيل بفتح المهملة والتحتانية الخفيفة، وقد ثبت في الصحيحين أن ‏"‏ الحياء من الإيمان
    ويتعلق بهذه الخصال مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبع، منها تحسين الهيئة، وتنظيف البدن جملة وتفصيلا، والاحتياط للطهارتين، والإحسان إلى المخالط والمقارن بكف ما يتأذى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وعباد الأوثان، وامتثال أمر الشارع، والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وصوركم فأحسن صوركم‏)‏ لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنه قيل قد حسنت صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها، أو حافظوا على ما يستمر به حسنها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة وعلى التآلف المطلوب، لأن الإنسان إذا بدأ في الهيئة الجميلة كان أدعى لانبساط النفس إليه، فيقيل قوله، ويحمد رأيه، والعكس بالعكس‏.‏
    وأما شرح الفطرة فقال الخطابي‏:‏ ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد بالفطرة هنا السنة، وكذا قاله غيره، قالوا والمعنى أنها من سنن الأنبياء‏.‏
    وقالت طائفة‏:‏ المعنى بالفطرة الدين وبه جزم أبو نعيم في المستخرج‏.‏
    وقال النووي في ‏"‏ شرح المهذب ‏"‏ جزم الماوردي والشيخ أبو إسحاق بأن المراد بالفطرة في هذا الحديث الدين، واستشكل ابن الصلاح ما ذكره الخطابي وقال‏.‏
    معنى الفطرة بعيد من معنى السنة
    (ج10/ ص 414)
    ال النووي‏:‏ ويسمى ختان الرجل إعذارا بذال معجمة، وختان المرأة خفضا بخاء وضاد معجمتين‏.‏
    وقال أبو شامة‏:‏ كلام أهل اللغة يقتضي تسمية الكل إعذارا والخفض يختص بالأنثى‏.
    د استحب العلماء من الشافعية فيمن ولد مختونا أن يمر بالموسى على موضع الختان من غير قطع قال أبو شامة‏:‏ وغالب من يولد كذلك لا يكون ختانه تاما بل يظهر طرف الحشفة فإن كان كذلك وجب تكميله‏.‏
    وأفاد الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في ‏"‏ المدخل ‏"‏ أنه اختلف في النساء هل يخفضن عموما أو يفرق بين نساء المشرق فيخفضن ونساء المغرب فلا يخفضن لعدم الفضلة المشروع قطعها منهن، بخلاف نساء المشرق، قال‏:‏ فمن قال إن من ولد مختونا استحب إمرار الموسى عل الموضع امتثالا للأمر قال في حق المرأة كذلك ومن لا فلا‏.‏
    وقد ذهب إلى وجوب الختان دون باقي الخصال الخمس المذكورة في الباب الشافعي وجمهور أصحابه‏.‏
    وقال به من القدماء عطاء حتى قال‏:‏ لو أسلم الكبير لم يتم إسلامه حتى يختن‏.‏
    وعن أحمد وبعض المالكية‏:‏ يجب‏.‏
    وعن أبي حنيفة واجب وليس بفرض‏.‏
    وعنه سنة يأثم بتركه‏.‏
    وفي وجه للشافعية لا يجب في حق النساء وهو الذي أورده صاحب ‏"‏ المغني ‏"‏ عن أحمد‏.‏
    وذهب أكثر العلماء وبعض الشافعية إلى أنه ليس بواجب، ومن حجتهم حديث شداد بن أوس رفعه ‏"‏ الختان سنة للرجال مكرمة للنساء ‏"‏ وهذا لا حجة فيه لما تقرر أن لفظ السنة إذا ورد في الحديث لا يراد به التي تقابل الواجب، لكن لما وقعت التفرقة بين الرجال والنساء في ذلك دل على أن المراد افتراق الحكم‏.‏
    قال أبو شامة‏:‏ هو موضع بالقرب من القرية التي فيها قبره، وقيل بقرب حلب؛ وجزم غير واحد أن الآلة بالتخفيف، وصرح ابن السكيت بأنه لا يشدد وأثبت بعضهم الوجهين في كل منهما
    ووقع عند أبي الشيخ من طريق أخرى أن إبراهيم لما اختتن كان ابن مائة وعشرين سنة وأنه عاش بعد ذلك إلى أن أكمل مائتي سنة، والأول أشهر، وهو أنه اختتن وهو ابن ثمانين وعاش بعدها أربعين
    واختلف في الوقت الذي يشرع فيه الختان، قال الماوردي‏:‏ له وقتان وقت وجوب ووقت استحباب، فوقت الوجوب البلوغ ووقت الاستحباب قبله، والاختيار في اليوم السابع من بعد الولادة، وقيل من يوم الولادة، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر ففي السنة السابعة، فإن بلغ وكان نضوا نحيفا يعلم من حاله أنه إذا اختتن تلف سقط الوجوب‏.‏
    ويستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب إلا لعذر، وذكر القاضي حسين أنه لا يجوز أن يختتن الصبي حتى يصير ابن عشر سنين لأنه حينئذ يوم ضربه على ترك الصلاة، وألم الختان فوق ألم الضرب فيكون أولى بالتأخير، وزيفه النووي في ‏"‏ شرح المهذب ‏"‏ وقال إمام الحرمين‏:‏ لا يجب قبل البلوغ لأن الصبي ليس من أهل العبادة المتعلقة بالبدن فكيف مع الألم، قال‏:‏ ولا يرد وجوب العدة على الصبية لأنه لا يتعلق به تعب بل هو مضي زمان محض‏.‏
    وقال أبو الفرج السرخسي‏:‏ في ختان الصبي وهو صغير مصلحة من جهة أن الجلد بعد التمييز يغلظ ويخشن فمن ثم جوز الأئمة الختان قبل ذلك، ونقل ابن المنذر عن الحسن ومالك كراهة الختان يوم السابع لأنه فعل اليهود‏.‏
    وقال مالك‏:‏ يحسن إذا أثغر أي ألقى ثغره وهو مقدم أسنانه، وذلك يكون في السبع سنين وما حولها
    (ج10/ ص 415)
    د قال صاحب ‏"‏ الإقليد ‏"‏ قضية الأخذ في ذلك بالتيامن أن يبدأ بخنصر اليمنى إلى أن ينتهي إلى خنصر اليسرى في اليدين والرجلين معا، وكأنه لحظ أن القص يقع من باطن الكفين أيضا، وذكر الدمياطي أنه تلقى عن بعض المشايخ أن من قص أظفاره مخالفا لم يصبه رمد وأنه جرب ذلك مدة طويلة‏.‏
    وقد نص أحمد على استحباب قصها مخالفا، وبين ذلك أبو عبد الله بن بطة من أصحابهم فقال‏:‏ يبدأ بخنصره اليمنى ثم الوسطى ثم الإبهام ثم البنصر ثم السبابة، ويبدأ بإبهام اليسرى على العكس من اليمنى، وقد أنكر ابن دقيق العيد الهيئة التي ذكرها الغزالي ومن تبعه وقال‏:‏ كل ذلك لا أصل له وإحداث استحباب لا دليل عليه، وهو قبيح عندي بالعالم، ولو تخيل متخيل أن البداءة بمسبحة اليمنى من أجل شرفها فبقية الهيئة لا يتخيل فيه ذلك‏.‏
    نعم البداءة بيمنى اليدين ويمنى الرجلين له أصل وهو كان يعجبه التيامن ا ه‏.‏
    ولم يثبت أيضا في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث، وقد أخرجه جعفر المستغفري بسند مجهول، ورويناه في ‏"‏ مسلسلات التيمي ‏"‏ من طريقه، وأقرب ما وقفت عليه في ذلك ما أخرجه البيهقي من مرسل أبي جعفر الباقر قال ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة ‏"‏ وله شاهد موصول عن أبي هريرة، لكن سنده ضعيف أخرجه البيهقي أيضا في ‏"‏ الشعب‏"‏، وسئل أحمد عنه فقال‏:‏ يسن في يوم الجمعة قبل الزوال، وعنه يوم الخميس، وعنه يتخير، وهذا هو المعتمد أنه يستحب كيف ما احتاج إليه؛ وأما ما أخرج مسلم من حديث أنس ‏"‏ وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا يترك أكثر من أربعين يوما ‏"‏ كذا وقت فيه على البناء للمجهول، وأخرجه أصحاب السنن بلفظ ‏"‏ وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وأشار العقيلي إلى أن جعفر بن سليمان الضبعي تفرد به، وفي حفظه شيء، وصرح ابن عبد البر بذلك فقال‏:‏ لم يروه غيره،
    وليس بحجة وتعقب بأن أبا داود والترمذي أخرجاه من رواية صدقة بن موسى عن ثابت، وصدقة بن موسى وإن كان فيه مقال لكن تبين أن جعفرا لم ينفرد به وقد أخرج ابن ماجه نحوه من طريق علي بن جدعان عن أنس، وفي علي أيضا ضعف‏.‏
    وأخرجه ابن عدي من وجه ثالث من جهة عبد الله بن عمران شيخ مصري عن ثابت عن أنس، لكن أتى فيه بألفاظ مستغربة قال‏:‏ أن يحلق الرجل عانته كل أربعين يوما، وأن ينتف إبطه كلما طلع، ولا يدع شاربيه يطولان‏:‏ وأن يقلم أظفاره من الجمعة إلى الجمعة‏.‏
    وعبد الله والراوي عنه مجهولان‏.‏
    قال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ ذكر الأربعين تحديد لأكثر المدة، ولا يمنع تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، والضابط في ذلك الاحتياج‏.‏
    وكذا قال النووي‏:‏ المختار أن ذلك كله يضبط بالحاجة‏.‏
    وقال في ‏"‏ شرح المهذب ‏"‏ ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة في هذا وفي جميع الخصال المذكورة‏.‏
    قلت‏:‏ لكن لا يمنع من التفقد يوم الجمعة، فإن المبالغة في التنظف فيه مشروع والله أعلم‏.‏
    في ‏"‏ سؤالات مهنا ‏"‏ عن أحمد قلت له‏:‏ يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه‏؟‏ قال‏:‏ يدفنه‏.‏
    قلت‏:‏ بلغك فيه شيء‏؟‏ قال‏:‏ كان ابن عمر يدفنه ‏"‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن الشعر والأظفار وقال‏:‏ لا يتلعب به سحرة بني آدم‏.‏
    قلت وهذا الحديث أخرجه البيهقي من حديث وائل بن حجر نحوه‏.‏
    وقد استحب أصحابنا دفنها لكونها أجزاء من الآدمي والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 427)
    وقال ابن القاسم عن مالك‏:‏ إحفاء الشارب عندي مثلة، والمراد بالحديث المبالغة في أخذ الشارب حتى يبدو حرف الشفتين وقال أشهب‏.‏
    سألت مالكا عمن يحفي شاربه فقال‏:‏ أرى أن يوجع ضربا‏.‏
    وقال لمن يحلق شاربه‏:‏ هذه بدعة ظهرت في الناس ا ه‏.‏
    وأغرب ابن العربي فنقل عن الشافعي أنه يستحب حلق الشارب، وليس ذلك معروفا عند أصحابه، قال الطحاوي‏:‏ الحلق هو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ا ه‏.‏
    وقال الأثرم‏:‏ كان أحمد يحفي شاربه إحفاء شديدا، ونص على أنه أولى من القص‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ وقص الشارب أن يأخذ ما طال على الشفة بحيث لا يؤذي الأكل ولا يجتمع فيه الوسخ‏.‏
    قال‏:‏ والجز والإحفاء هو القص المذكور، وليس بالاستئصال عند مالك‏.‏
    قال‏:‏ وذهب الكوفيون إلى أنه الاستئصال، وبعض العلماء إلى التخيير في ذلك‏.‏
    قلت‏:‏ هو الطبري، فإنه حكى قول مالك وقول الكوفيين ونقل عن أهل اللغة أن الإحفاء الاستئصال ثم قال‏:‏ دلت السنة على الأمرين، ولا تعارض، فإن القص يدل على أخذ البعض والإحفاء يدل على أخذ الكل وكلاهما ثابت فيتخير فيما شاء‏.‏
    وقال ابن عبد البر‏:‏ الإحفاء محتمل لأخذ الكل، والقص مفسر للمراد، والمفسر مقدم على المجمل ا ه‏.‏
    ويرجح قول الطبري ثبوت الأمرين معا في الأحاديث المرفوعة، فأما الاقتصار على القص ففي حديث المغيرة بن شعبة ‏"‏ ضفت النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاربي وفي فقصه على سواك ‏"‏ أخرجه أبو داود‏.‏
    ال النووي‏:‏ يستحب أن يبدأ في قص الشارب باليمين‏.‏
    الثانية يتخير بين أن يقص ذلك بنفسه أو يولي ذلك غيره لحصول المقصود من غير هتك مروءة بخلاف الإبط، ولا ارتكاب حرمة بخلاف العانة‏.‏
    قلت‏:‏ محل ذلك حيث لا ضرورة، وأما من لا يحسن الحلق فقد يباح له إن لم تكن له زوجة تحسن الحلق أن يستعين بغيره بقدر الحاجة، لكن محل هذا إذا لم يجد ما يتنور به فإنه يغني عن الحلق ويحصل به المقصود وكذا من لا يقوى على النتف ولا يتمكن من الحلق إذا استعان بغيره في الحلق لم تهتك المروءة من أجل الضرورة كما تقدم عن الشافعي
    ال النووي‏:‏ يتأدى أصل السنة بأخذ الشارب بالمقص وبغيره‏.‏
    وتوقف ابن دقيق العيد في قرضه بالسن ثم قال‏:‏ من نظر إلى اللفظ منع ومن نظر إلى المعنى أجاز‏.‏
    الرابعة قال ابن دقيق العيد‏:‏ لا أعلم أحدا قال بوجوب قص الشارب من حيث هو هو، واحترز بذلك من وجوبه بعارض حيث يتعين كما تقدمت الإشارة إليه من كلام ابن العربي، وكأنه لم يقف على كلام ابن حزم في ذلك فإنه قد صرح بالوجوب في ذلك وفي إعفاء اللحية‏.

    44
    (ج10/ ص 429)
    أخرجه مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن نافع بلفظ ‏"‏ كان ابن عمر إذا حلق رأسه في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه
    قال الكرماني‏:‏ لعل ابن عمر أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك فحلق رأسه كله وقصر من لحيته ليدخل في عموم قوله تعالى ‏(‏محلقين رءوسكم ومقصرين‏)‏ وخص ذلك من عموم قوله ‏"‏ وفروا اللحى
    قال الطبري‏:‏ ذهب قوم إلى ظاهر الحديث فكرهوا تناول شيء من اللحية من طولها ومن عرضها‏.‏
    وقال قوم إذا زاد على القبضة يؤخذ الزائد، ثم ساق بسنده إلى ابن عمر أنه فعل ذلك، وإلى عمر أنه فعل ذلك برجل، ومن طريق أبي هريرة أنه فعله‏.‏
    وأخرج أبو داود من حديث جابر بسند حسن قال‏.‏
    حكى الطبري اختلافا فيما يؤخذ من اللحية هل له حد أم لا‏؟‏ فأسند عن جماعة الاقتصار على أخذ الذي يزيد منها على قدر الكف، وعن الحسن البصري أنه يؤخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش، وعن عطاء نحوه قال‏:‏ وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها وتخفيفها، قال‏:‏ وكره آخرون التعرض لها إلا في حج أو عمرة وأسنده عن جماعة، واختار قول عطاء‏.‏
    وقال‏:‏ إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به، واستدل بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها ‏"‏ وهذا أخرجه الترمذي ونقل عن البخاري أنه قال في رواية عمر بن هارون‏.‏
    لا أعلم له حديثا منكرا إلا هذا ا ه وقد ضعف عمر بن هارون مطلقا جماعة‏.‏
    وقال عياض‏:‏ يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها، وأما الأخذ من طولها وعرضها إذا عظمت فحسن، بل تكره الشهرة في تعظيمها كما يكره في تقصيرها، كذا قال، وتعقبه النووي بأنه خلاف ظاهر الخبر في الأمر بتوفيرها؛ قال‏:‏ والمختار تركها على حالها وأن لا يتعرض لها بتقصير ولا غيره، وكأن مراده بذلك في غير النسك لأن الشافعي نص على استحبابه فيه، وذكر النووي عن الغزالي - وهو في ذلك تابع لأبي طالب المكي في ‏"‏ القوت ‏"‏ - قال‏:‏ يكره في اللحية عشر خصال‏:‏ خضبها بالسواد لغير الجهاد، وبغير السواد إيهاما للصلاح لا لقصد الاتباع، وتبييضها استعجالا للشيخوخة لقصد التعاظم على الأقران، ونتفها إبقاء للمرودة وكذا تحذيفها ونتف الشيب‏.‏
    ورجح النووي تحريمه لثبوت الزجر عنه كما سيأتي قريبا، وتصفيفها طاقة طاقة تصنعا ومخيلة، وكذا ترجيلها والتعرض لها طولا وعرضا على ما فيه من اختلاف، وتركها شعثة إيهاما للزهد، والنظر إليها إعجابا، وزاد النووي‏:‏ وعقدها، لحديث رويفع رفعه ‏"‏ من عقد لحيته فإن محمدا منه بريء ‏"‏ الحديث أخرجه أبي داود، قال الخطابي‏:‏ قيل المراد عقدها في الحرب وهو من زي الأعاجم، وقيل المراد معالجة الشعر لينعقد، وذلك من فعل أهل التأنيث‏.‏
    نكر ابن التين ظاهر ما نقل عن ابن عمر فقال‏:‏ ليس المراد أنه كان يقتصر على قدر القبضة من لحيته، بل كان يمسك عليها فيزيل ما شذ منها، فيمسك من أسفل ذقنه بأصابعه الأربعة ملتصقة فيأخذ ما سفل عن ذلك ليتساوى طول لحيته‏.‏
    قال أبو شامة‏:‏ وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس أنهم كانوا يقصونها‏.‏
    وقال النووي‏:‏ يستثنى من الأمر بإعفاء اللحى ما لو نبتت للمرأة لحية فإنه يستحب لها حلقها، وكذا لو نبت لها شارب أو عنفقة
    (ج10/ ص 435)
    ما أخرجه هو عن ابن شهاب قال ‏"‏ كنا نخضب بالسواد إذ كان الوجه جديدا، فلا نغص الوجه والأسنان تركناه ‏"‏ وقد أخرج الطبراني وابن أبي عاصم من حديث أبي الدرداء رفعه ‏"‏ من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة ‏"‏ وسنده لين، ومنهم من فرق في ذلك بين الرجل والمرأة فأجازه لها دون الرجل، واختاره الحليمي، وأما خضب اليدين والرجلين فلا يجوز للرجال إلا في التداوي‏.‏
    ولأصحاب السنن وصححه الترمذي من حديث أبي ذر رفعه ‏"‏ إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم ‏
    لكتم نبات باليمن يخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة، وصبغ الحناء أحمر فالصبغ بهما معا يخرج بين السواد والحمرة‏.‏
    واستنبط ابن أبي عاصم من قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏جنبوه السواد ‏"‏ أن الخضاب بالسواد كان من عادتهم، وذكر ابن الكلبي أن أول من اختضب بالسواد من العرب عبد المطلب، وأما مطلقا ففرعون، وقد اختلف في الخضب وتركه فخضب أبو بكر وعمر وغيرهما كما تقدم، وترك الخضاب علي وأبي بن كعب وسلمة بن الأكوع وأنس وجماعة، وجمع الطبري بأن من صبغ منهم كان اللائق به كمن يستشنع شيبه، ومن ترك كان اللائق به كمن لا يستشنع شيبه، وعلى ذلك حمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الذي أخرجه مسلم في قصة أبي قحافة حيث قال صلى الله عليه وسلم لما رأى رأسه كأنها الثغامة بياضا ‏"‏ غيروا هذا وجنبوه السواد
    فمن كان في مثل حال أبي قحافة استحب له الخضاب لأنه لا يحصل به الغرور لأحد، ومن كان بخلافه فلا يستحب في حقه، ولكن الخضاب مطلقا أولى لأنه فيه امتثال الأمر في مخالفة أهل الكتاب، وفيه صيانة الشعر عن تعلق الغبار وغيره به، إلا إن كان من عادة أهل البلد ترك الصبغ وأن الذي ينفرد بدونهم بذلك يصير في مقام الشهرة فالترك في حقه أولى‏.‏
    نقل الطبري بعد أن أورد حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه بلفظ ‏"‏ من شاب شيبة فهي له نور إلى أن ينتفها أو يخضبها ‏"‏ وحديث ابن مسعود ‏"‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره خصالا ‏"‏ فذكر منها تغيير الشيب، إذ بعضهم ذهب إلى أن هذه الكراهة تستحب بحديث الباب‏.‏
    ثم ذكر الجمع وقال‏.‏
    دعوى النسخ لا دليل عليها‏.‏
    قلت‏.‏
    وجنح إلى النسخ الطحاوي وتمسك بالحديث الآتي قريبا أنه ‏"‏ كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم صار يخالفهم ويحث على مخالفتهم
    (ج10/ ص 444)
    ‏كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه
    كان إذا شك في أمر لم يؤمر فيه بشيء صنع ما يصنع أهل الكتاب‏"‏‏.‏
    وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم‏)‏
    (‏وكان المشركون يفرقون‏)
    ن أهل الأوثان أبعد عن الإيمان من أهل الكتاب، ولأن أهل الكتاب يتمسكون بشريعة في الجملة فكان يحب موافقتهم ليتألفهم ولو أدت موافقتهم إلى مخالفة أهل الأوثان، فلما أسلم أهل الأوثان الذين معه والذين حوله واستمر أهل الكتاب على كفرهم تمحضت المخالفة لأهل الكتاب‏.‏
    وكان الفرق آخر الأمرين، ومما يشبه الفرق والسدل صبغ الشعر وتركه كما تقدم، ومنها صوم عاشوراء، ثم أمر بنوع مخالفة لهم فيه بصوم يوم قبله أو بعده، ومنها استقبال القبلة، ومخالفتهم في مخالطة الحائض حتى قال ‏"‏ اصنعوا كل شيء إلا الجماع ‏"‏ فقالوا‏.‏
    ما يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه،
    ومنها ما يظهر إلى النهي عن صوم يوم السبت، وقد جاء ذلك من طرق متعددة في النسائي وغيره، وصرح أبو داود بأنه منسوخ وناسخه حديث أم سلمة ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت والأحد يتحرى ذلك ويقول إنهما يوما عبد الكفار وأنا أحب أن أخالفهم ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان أكثر صيامه السبت والأحد ‏"‏ أخرجه أحمد والنسائي، وأشار بقوله ‏"‏ يوما عيد ‏"‏ إلى أن يوم السبت عيد عند اليهود والأحد عيد عند النصارى وأيام العيد لا تصام فخالفهم بصيامها، ويستفاد من هذا أن الذي قاله بعض الشافعية من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيدا بل الأولى في المحافظة على ذلك يوم الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه، وأما السبت والأحد فالأول أن يصاما معا وفرادى امتثالا لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب، قال عياض‏:‏ سدل الشعر إرساله، يقال سدل شعره وأسدله إذا أرسله ولم يضم جوانبه، وكذا الثوب، والفرق تفريق الشعر بعضه من بعض وكشفه عن الجبين، قال والفرق سنة لأنه الذي استقر عليه الحال‏.‏
    قلت‏:‏ وقد جزم الحازمي بأن السدل نسخ بالفرق، واستدل برواية معمر التي أشرت إليها قبل وهو ظاهر‏.‏
    وقال النووي‏:‏ الصحيح جواز السدل والفرق‏.‏
    (ج10/ ص 447)
    أخرجه أبو داود والنسائي وفي سياقه ما يدل على مستند من رفع القزع ولفظه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيا قد حلق بعض رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك فقال‏:‏ احلقوا كله أو ذروا كله ‏"‏ قال النووي‏:‏ الأصح أن القزع ما فسره به نافع وهو حلق بعض رأس الصبي مطلقا، ومنهم من قال‏:‏ هو حلق مواضع متفرقة منه، والصحيح الأول لأنه تفسير الراوي وهو غير مخالف للظاهر فوجب العمل به‏.‏
    قلت‏:‏ إلا أن تخصيصه بالصبي ليس قيدا، قال النووي‏:‏ أجمعوا على كراهيته إذا كان في مواضع متفرقة إلا للمداواة أو نحوها وهي كراهة تنزيه ولا فرق بين الرجل والمرأة، وكرهه مالك في الجارية والغلام وقيل في رواية لهم لا بأس به في القصة والقفا للغلام والجارية، قال‏:‏ ومذهبنا كراهته مطلقا‏.‏
    قلت‏:‏ حجته ظاهرة لأنه تفسير الراوي، واختلف في علة النهي فقيل‏:‏ لكونه يشوه الخلقة، وقيل لأنه زي الشيطان، وقيل لأنه زي اليهود، وقد جاء هذا في رواية لأبي داود‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ يؤخذ منه أن طيب الرجال لا يجعل في الوجه بخلاف طيب النساء، لأنهن يطيبن وجوههن ويتزين بذلك بخلاف الرجال، فإن تطييب الرجل في وجهه لا يشرع لمنعه من التشبه بالنساء

    لبس55
    (ج10/ ص 450)
    وقال الله تعالى‏:‏ ‏(‏خذوا زينتكم عند كل مسجد‏)‏ وأما حديث النهي عن الترجل إلا غبا يعني الحديث الذي أشرت إليه قريبا فالمراد به ترك المبالغة في الترفه وقد روى أبو أمامة بن ثعلبة رفعه ‏"‏ البذاذة من الإيمان ‏"‏ ا ه‏.‏
    وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود، والبذاذة بموحدة ومعجمتين رثاثة الهيئة، والمراد بها هنا ترك الترفه والتنطع في اللباس والتواضع فيه مع القدرة لا بسبب جحد نعمة الله تعالى‏.‏
    وأخرج النسائي من طريق عبد الله بن بريدة ‏"‏ أن رجلا من الصحابة يقال له عبيد قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن كثير من الإرفاه ‏"‏ قال ابن بريدة الإرفاه الترجل‏.‏
    قلت‏:‏ الإرفاه بكسر الهمزة وبفاء وآخره هاء التنعم والراحة، ومنه الرفه بفتحتين وقيده في الحديث بالكثير إشارة إلى أن الوسط المعتدل منه لا يذم، وبذلك يجمع بين الأخبار‏.‏
    وقد أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ من كان له شعر فليكرمه ‏"‏ وله شاهد من حديث عائشة في ‏"‏ الغيلانيات ‏"‏ وسنده حسن أيضا‏.‏
    (ج10/ ص 453)
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يقول‏:‏ ‏"‏ إن الصوم لي وأنا أجزي به ‏"‏ وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الصيام مع الإشارة إلى ما بينت هنا، وذكرت أقوال العلماء في معنى إضافته سبحانه وتعالى الصيام إليه بقوله‏:‏ ‏"‏ فإنه في ‏"‏ ونقلت عن أبي الخير الطالقاني أنه أجاب عنه بأجوبة كثيرة نحو الخمسين، وأنني لم أقف عليه، وقد يسر الله تعالى الوقوف على كلامه، وتتبعت ما ذكره متأملا فلم أجد فيه زيادة على الأجوبة العشرة التي حررتها هناك إلا إشارات صوفية وأشياء تكررت معنى وإن تغايرت لفظا وغالبها يمكن ردها إلى ما ذكرته، فمن ذلك قوله لأنه عبادة خالية عن السعي، وإنما هي ترك محض‏.‏
    وقوله‏:‏ يقول هو لي فلا يشغلك ما هو لك عما هو في‏.‏
    وقوله‏:‏ من شغله ما لي عني أعرضت عنه وإلا كنت له عوضا عن الكل‏.‏
    وقوله لا يقطعك ما لي عني‏.‏
    وقوله‏:‏ لا يشغلك الملك عن المالك‏.‏
    (ج10/ ص 459)
    حرم على المرأة الزيادة في شعر رأسها يحرم عليها حلق شعر رأسها بغير ضرورة، وقد أخرج الطبري من طريق أم عثمان بنت سفيان عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها ‏"‏ وهو عند أبي داود من هذا الوجه بلفظ ‏"‏ ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير ‏"‏ والله أعلم‏.‏
    ذا الحديث حجة للجمهور في منع وصل الشعر بشيء آخر سواء كان شعرا أم لا، ويؤيده حديث جابر ‏"‏ زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئا ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏
    وذهب الليث ونقله أبو عبيدة عن كثير من الفقهاء أن الممتنع من ذلك وصل الشعر بالشعر، وأما إذا وصلت شعرها بغير الشعر من خرقة وغيرها فلا يدخل في النهي‏.‏
    يستثنى من ذلك ما يحصل به الضرر والأذية كمن يكون لها سن زائدة أو طويلة تعيقها في الأكل أو إصبع زائدة تؤذيها أو تؤلمها فيجوز ذلك، والرجل في هذا الأخير كالمرأة‏.‏
    وقال النووي‏:‏ يستثنى من النماص ما إذا نبت للمرأة لحية أو شارب أو عنفقة فلا يحرم عليها إزالتها بل يستحب‏.‏
    قلت‏:‏ وإطلاقه مقيد بإذن الزوج وعلمه، وإلا فمتى خلا عن ذلك منع للتدليس‏.‏
    وقال بعض الحنابلة‏:‏ إن كان النمص أشهر شعارا للفواجر امتنع وإلا فيكون تنزيها‏.‏
    وفي رواية يجوز بإذن الزوج إلا إن وقع به تدليس فيحرم، قالوا ويجوز الحف والتحمير والنقش والتطريف إذا كان بإذن الزوج لأنه من الزينة‏.‏
    وقد أخرج الطبري من طريق أبي إسحاق عن امرأته أنها دخلت على عائشة وكانت شابة يعجبها الجمال فقالت‏:‏ المرأة تحف‏.‏
    جبينها لزوجها فقالت‏:‏ أميطي عنك الأذى ما استطعت‏.‏
    وقال النووي‏:‏ يجوز التزين بما ذكر، إلا الحف فإنه من جملة النماص‏.‏
    (ج10/ ص 468)
    لا تدخل الملائكة‏)‏ ظاهره العموم، وقيل‏:‏ يستثنى من ذلك الحفظة فإنهم لا يفارقون الشخص في كل حالة، وبذلك جزم ابن وضاح والخطابي وآخرون، لكن قال القرطبي‏:‏ كذا قال بعض علمائنا، والظاهر العموم، والمخصص يعني الدال على كون الحفظة لا يمتنعون من الدخول ليس نصا‏.‏
    قلت‏:‏ ويؤيده أنه ليس من الجائز أن يطلعهم الله تعالى على عمل العبد ويسمعهم قوله وهم بباب الدار التي هو فيها مثلا، ويقابل القول بالتعميم القول بتخصيص الملائكة بملائكة الوحي، وهو قول من ادعى أن ذلك كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم كما سأذكره وهو شاذ‏.‏
    (ج10/ ص 471)
    أجاب القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ بأن الناس الذين أضيف إليهم ‏"‏ أشد ‏"‏ لا يراد بهم كل الناس بل بعضهم وهم من يشارك في المعنى المتوعد عليه بالعذاب، ففرعون أشد الناس الذين ادعوا الإلهية عذابا، ومن يقتدي به في ضلالة كفره أشد عذابا ممن يقتدي به في ضلالة فسقه، ومن صور صورة ذات روح للعبادة أشد عذابا ممن يصورها لا للعبادة‏.‏
    واستشكل ظاهر الحديث أيضا بإبليس وبابن آدم الذي سن القتل، وأجيب بأنه في إبليس واضح، ويجاب بأن المراد بالناس من ينسب إلى آدم، وأما في ابن آدم فأجيب بأن الثابت في حقه أن عليه مثل أوزار من يقتل ظلما، ولا يمتنع أن يشاركه في مثل تعذيبه من ابتدأ الزنا مثلا فإن عليه مثل أوزار من يزني بعده لأنه أول من سن ذلك، ولعل عدد الزناة أكثر من القاتلين‏.‏
    قال النووي قال العلماء‏:‏ تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره فصنعه حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، فأما تصوير ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام‏.‏
    قلت‏:‏ ويؤيد التعميم فيما له ظل وفيما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا صورة إلا لطخها أي طمسها ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد ‏"‏ وقال الخطابي‏:‏ إنما عظمت عقوبة المصور لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض النفوس إليها تميل‏.‏
    (ج10/ ص476)
    ستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ الصور إذا كانت لا ظل لها، وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس أو يمتهن بالاستعمال كالمخاد والوسائد، قال النووي‏:‏ وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي، ولا فرق في ذلك بين ما له ظل وما لا ظل له، فإن كان معلقا على حائط أو ملبوسا أو عمامة أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام‏.‏
    قلت‏:‏ وفيما نقله مؤاخذات‏:‏ منها أن ابن العربي من المالكية نقل أن الصورة إذا كان لها ظل حرم بالإجماع سواء كانت مما يمتهن أم لا، وهذا الإجماع محله في غير لعب البنات كما سأذكره في ‏"‏ باب من صور صورة ‏"‏ وحكى القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ في الصور التي لا تتخذ للإبقاء كالفخار قولين أظهرهما المنع‏.‏
    قلت‏:‏ وهل يلتحق ما يصنع من الحلوى بالفخار، أو بلعب البنات‏؟‏ محل تأمل‏.‏
    وصحح ابن العربي أن الصورة التي لا ظل لها إذا بقيت على هيئتها حرمت سواء كانت مما يمتهن أم لا، وإن قطع رأسها أو فرقت هيئتها جاز، وهذا المذهب منقول عن الزهري وقواه النووي، وقد يشهد له حديث النمرقة
    منها أن إمام الحرمين نقل وجها أن الذي يرخص فيه مما لا ظل له ما كان على ستر أو وسادة، وأما ما على الجدار والسقف فيمنع، والمعنى فيه أنه بذلك يصير مرتفعا فيخرج عن هيئة الامتهان بخلاف الثوب فإنه بصدد أن يمتهن، وتساعده عبارة ‏"‏ مختصر المزني ‏"‏ صورة ذات روح إن كانت منصوبة‏.‏
    ونقل الرافعي عن الجمهور أن الصورة إذا قطع رأسها ارتفع المانع‏.‏
    وقال المتولي في ‏"‏ التتمة ‏"‏ لا فرق‏.‏
    ومنها أن مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب ولو كان معلقا على ما في خبر أبي طلحة، لكن إن ستر به الجدار منع عندهم، قال النووي‏:‏ وذهب بعض السلف إلى أن الممنوع ما كان له ظل وأما ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه مطلقا، وهو مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم كانت الصورة فيه بلا ظل بغير شك، ومع ذلك فأمر بنزعه‏.‏
    قلت‏:‏ المذهب المذكور نقله ابن أبي شيبة عن القاسم بن محمد بسند صحيح ولفظه عن ابن عون ‏"‏ قال دخلت على القاسم وهو بأعلى مكة في بيته، فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس والعنقاء ‏"‏ ففي إطلاق كونه مذهبا باطلا نظر، إذ يحتمل أنه تمسك في ذلك بعموم قوله‏:‏ ‏"‏ إلا رقما في ثوب ‏"‏ فإنه أعم من أن يكون معلقا أو مفروشا، وكأنه جعل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة تعليق الستر المذكور مركبا من كونه مصورا ومن كونه ساترا للجدار، ويؤيده ما ورد في بعض طرقه عند مسلم‏.‏
    قال النووي‏:‏ يجمع بين الأحاديث بأن المراد باستثناء الرقم في الثوب ما كانت الصورة فيه من غير ذوات الأرواح كصورة الشجر ونحوها ا هـ‏.‏
    ويحتمل أن يكون ذلك قبل النهي كما يدل عليه حديث أبي هريرة الذي أخرجه أصحاب السنن
    قال ابن العربي‏:‏ حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقما فأربعة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ يجوز مطلقا على ظاهر قوله في حديث الباب إلا رقما في ثوب، الثاني‏:‏ المنع مطلقا حتى الرقم، الثالث‏:‏ إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم وإن قطعت الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز، قال وهذا هو الأصح، الرابع‏:‏ إن كان مما يمتهن جاز وإن كان معلقا لم يجز‏.‏
    (ج10/ ص 487)
    وأخرج الطبري عن علي قال‏:‏ ‏"‏ إذا رأيتم ثلاثة على دابة فارجموهم حتى ينزل أحدهم ‏"‏ وعكسه ما أخرجه الطبري أيضا بسند جيد عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏"‏ كان يوم بدر ثلاثة على بعير ‏"‏ وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة أيضا من طريق الشعبي عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ ما أبالي أن أكون عاشر عشرة على دابة إذا أطاقت حمل ذلك ‏"‏ وبهذا يجمع بين مختلف الحديث في ذلك، فحمل ما ورد في الزجر عن ذلك على ما إذا كانت الدابة غير مطيقة كالحمار مثلا، وعكسه على عكسه كالناقة والبغلة، قال النووي‏:‏ مذهبنا ومذاهب العلماء كافة جواز ركوب ثلاثة على الدابة إذا كانت مطيقة‏.‏
    وحكى القاضي عياض منعه عن بعضهم مطلقا، وهو فاسد‏.‏
    قلت‏:‏ لم يصرح أحد بالجواز مع العجز، ولا بالمنع مع الطاقة، بل المنقول من المطلق في المنع والجواز محمول على المقيد‏.‏

    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    انتهيت من كتاب اللباس "
    ويليه كتاب الآداب " من فتح الباري للحافظ ابن حجر
    وأسال الله أن يرفع البلاء والوباء عن عباده الفقراء الضعفاء
    21/ مارس / 2020 ميلادي

  5. #205
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم السادس من الحجر المنزلي
    وذلك لتفشي الوباء في البلاد على العباد
    واحترازا للحد من انتشاره , والسمع والطاعة لولاة الأمر
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أما العذاب المدفوع فهو يَعُمُّ العذابَ السماويَّ، ويعمُّ ما يكون من العباد، وذلك أن الجميع قد سمَّاه الله عذاباً)
    قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلم عندما خَسَفَت الشمس: (فإذا رأيتُم ذلك فادعُوا الله، وكبِّرُوا، وصلُّوا، وتصدَّقُوا) رواه البخاري، قال الطيبيُّ: (أُمِروا باستدفاعِ البلاء بالذِّكر والدعاء والصلاة والصدقة
    قال ابن حجر: (وفي الحديث أنَّ المفزعَ في الأمور المُهمَّة إلى الله، يكون بالتوجُّه إليه في الصلاة)
    أسال الله العظيم رب العرش العظيم باسماءه الحسنى ان يرفع عنا البأس إنه سميع قريب مجيب الدعاء

    اليوم : السبت
    الموافق 27/ رجب / 1441 هجري
    الموافق 21/ 3/ 2020 ميلادي

    ‏.‏
    كتاب الأدب
    (ج10/ ص 491)
    ووقع في أول ‏"‏ الأدب المفرد للبخاري ‏"‏ باب ما جاء في قول الله تعالى ‏(‏ووصينا الإنسان بوالديه حسنا‏)‏ وكتاب الأدب المفرد يشتمل على أحاديث زائدة على ما في الصحيح وفيه قليل من الآثار الموقوفة، وهو كثير الفائدة‏.‏
    والأدب استعمال ما يحمد قولا وفعلا، وعبر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل‏:‏ الوقوف مع المستحسنات، وقيل‏:‏ هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك‏.‏
    قيل‏:‏ إنه مأخوذ من المأدبة وهي الدعوة إلى الطعام، سمي بذلك لأنه يدعى إليه‏.‏
    (ج10/ 492)
    وقال ابن بطال‏:‏ ذكر أهل التفسير أن هذه الآية التي في لقمان نزلت في سند بن أبي وقاص، كذا قال إنها التي في لقمان وليس كذلك، وقد أخرج مسلم من طريق مصعب بن سعد عن أبيه قال حلفت أم سعد لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه‏.‏
    قالت‏:‏ زعمت أن الله أوصاك بوالديك، فأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، فنزلت ‏(‏ووصينا الإنسان بوالديه حسنا‏.‏
    وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا‏)‏ كذا وقع عنده، وفيه انتقال من آية إلى آية، فإن في آية العنكبوت ‏(‏وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما - إلى - مرجعكم‏)‏ والمذكور عنده بعد قوله‏:‏ ‏(‏وإن جاهداك على الخ‏)‏ إنما هو في لقمان‏.‏
    واسم أم سعد بن أبي وقاص حمنة - بفتح المهملة وسكون الميم بعدها نون - بنت سفيان بن أمية، وهي ابنة عم أبي سفيان بن حرب بن أمية، ولم أر في شيء من الأخبار أنها أسلمت‏.‏
    واقتضت الآية الوصية بالوالدين والأمر بطاعتهما ولو كانا كافرين، إلا إذا أمرا بالشرك فتجب معصيتهما في ذلك، ففيها بيان ما أجمل في غيرها، وكذا في حديث الباب، من الأمر ببرهما‏.‏
    قال القرطبي‏:‏ المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة‏.‏
    وقال عياض‏:‏ وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك والصواب الأول‏.‏
    قلت‏:‏ إلى الثاني ذهب بعض الشافعية، لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحا في ذلك فقد ذكره ابن بطال قال‏:‏ سئل مالك طلبني أبي فمنعتني أمي، قال‏:‏ أطع أباك ولا تعص أمك قال ابن بطال‏:‏ هذا يدل على أنه يرى برهما سواء، كذا قال وليست الدلالة على ذلك بواضحة، قال‏:‏ وسئل الليث يعني عن المسألة بعينها فقال‏:‏ أطع أمك فإن لها ثلثي البر، وهذا يشير إلى الطريق التي لم يتكرر ذكر الأم فيه إلا مرتين‏.‏
    (ج10/ ص 493)
    قال عياض‏:‏ تردد بعض العلماء في الجد والأخ، والأكثر على تقديم الجد‏.‏
    قلت‏:‏ وبه جزم الشافعية، قالوا‏:‏ يقدم الجد ثم الأخ، ثم يقدم من أدلى بأبوين على من أدلى بواحد، ثم تقدم القرابة من ذوي الرحم، ويقدم منهم المحارم على من ليس بمحرم، ثم سائر العصبات، ثم المصاهرة ثم الولاء، ثم الجار‏.‏
    حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ‏"‏ أن امرأة قالت‏:‏ يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال‏:‏ أنت أحق به ما لم تنكحي ‏"‏ كذا أخرجه الحاكم وأبو داود‏.‏
    فتوصلت لاختصاصها به وباختصاصه بها في الأمور الثلاثة‏.‏
    (ج10/ ص 499)
    دفن البنات بالحياة، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك كراهة فيهن، ويقال إن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي، وكان بعض أعدائه أغار عليه فأسر بنته فاتخذها لنفسه ثم حصل بينهم صلح فخير ابنته فاختارت زوجها‏.‏
    فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعه العرب في ذلك، وكان من العرب فريق ثان يقتلون أولادهم مطلقا، إما نفاسة منه على ما ينقصه من ماله، وإما من عدم ما ينفقه عليه، وقد ذكر الله أمرهم في القرآن في عدة آيات، وكان صعصعة بن ناجية التميمي أيضا وهو جد الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة أول من فدى الموءودة، وذلك أنه كان يعمد إلى من يريد أن يفعل ذلك فيفدي الولد منه بمال يتفقان عليه، وإلى ذلك أشار الفرزدق بقوله‏:‏ وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأد وهذا محمول على الفريق الثاني، وقد بقي كل من قيس وصعصعة إلى أن أدركا الإسلام ولهما صحبة، وإنما خص البنات بالذكر لأنه كان الغالب من فعلهم، لأن الذكور مظنة القدرة على الاكتساب‏.‏
    وكانوا في صفة الوأد على طريقين‏:‏ أحدهما أن يأمر امرأته إذا قرب وضعها أن تطلق بجانب حفيرة، فإذا وضعت ذكرا أبقته وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحفيرة، وهذا أليق بالفريق الأول‏.‏
    ومنهم من كان إذا صارت البنت سداسية قال لأمها‏:‏ طيبيها وزينيها لأزور بها أقاربها، ثم يبعد بها في الصحراء حتى يأتي البئر فيقول لها انظري فيها ويدفعها من خلفها ويطمها، وهذا اللائق بالفريق الثاني، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 500)
    وثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر جدا، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع والقول بالظن، إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ وأما ما تقدم في اللعان فكره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، وكذا في التفسير في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏)‏ فذلك خاص بزمان نزول الوحي، ويشير إليه حديث ‏"‏ أعظم الناس جرما عند الله من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ‏"‏ وثبت أيضا ذم السؤال للمال ومدح من لا يحلف فيه كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏لا يسألون الناس إلحافا‏)‏ وتقدم في الزكاة حديث ‏"‏ لا تزال المسألة بالعبد حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم ‏"‏ وفي صحيح مسلم ‏"‏ إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة‏:‏ لذي فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو جائحة ‏"‏ وفي السنن قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس‏:‏ ‏"‏ إذا سألت فاسأل الله ‏"‏ وفي سنن أبي داود ‏"‏ إن كنت لا بد سائلا فاسأل الصالحين ‏"‏ وقد اختلف العلماء في ذلك، والمعروف عند الشافعية أنه جائز لأنه طلب مباح فأشبه العارية، وحملوا الأحاديث الواردة على من سأل من الزكاة الواجبة ممن ليس من أهلها، لكن قال النووي في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏‏:‏ اتفق العلماء على النهي عن السؤال من غير ضرورة‏.‏
    قال‏:‏ واختلف أصحابنا في سؤال القادر على الكسب على وجهين أصحهما التحريم لظاهر الأحاديث‏.‏
    والثاني‏:‏ يجوز مع الكراهة بشروط ثلاثة‏:‏ أن لا يلح ولا يذل نفسه زيادة على ذل نفس السؤال، ولا يؤذي المسئول‏.‏
    فإن فقد شرط من ذلك حرم‏.‏
    وقال الفكهاني‏:‏ يتعجب ممن قال بكراهة السؤال مطلقا مع وجود السؤال في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ثم السلف الصالح من غير نكير، فالشارع لا يقر على مكروه‏.‏
    قلت‏:‏ لعل من كره مطلقا أراد أنه خلاف الأولى، ولا يلزم من وقوعه أن تتغير صفته ولا من تقريره أيضا، وينبغي حمل حال أولئك على السداد؛ وأن السائل منهم غالبا ما كان يسأل إلا عند الحاجة الشديدة‏.‏
    في قوله‏:‏ ‏"‏ من غير نكير ‏"‏ نظر ففي الأحاديث الكثيرة الواردة في ذم السؤال كفاية في إنكار ذلك‏.‏
    جميع ما تقدم فيما سأل لنفسه، وأما إذا سأل لغيره فالذي يظهر أيضا أنه يختلف باختلاف الأحوال‏.‏
    (ج10/ ص 502)
    والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعا فلا شك في منعه، والثاني‏:‏ إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعا فلا شك في كونه مطلوبا بالشرط المذكور، والثالث‏:‏ إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذ النفس، فهذا ينقسم إلى قسمين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف‏.‏
    والثاني‏:‏ ما لا يليق به عرفا، وهو ينقسم أيضا إلى قسمين‏:‏ أحدهما‏:‏ ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة، فهذا ليس بإسراف، والثاني‏:‏ ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف قال‏:‏ لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له‏.‏
    قال ابن دقيق العيد‏:‏ وظاهر القرآن يمنع ما قال ا هـ‏.‏
    وقد صرح بالمنع القاضي حسين فقال في كتاب قسم الصدقات‏:‏ هو حرام، وتبعه الغزالي، وجزم به الرافعي في الكلام على المغارم، وصحح في باب الحجر من الشرح وفي المحرر أنه ليس بتبذير، وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموما لذاته، لكنه يفضي غالبا إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس، وما أدى إلى المحذور فهو محذور‏.‏
    جواز التصدق بجميع المال وأن ذلك يجوز لمن عرف من نفسه الصبر على المضايقة، وجزم الباجي من المالكية بمنع استيعاب جميع المال بالصدقة قال‏:‏ ويكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا، ولا بأس به إذا وقع نادرا لحادث يحدث كضيف أو عيد أو وليمة‏.‏
    ومما لا خلاف في كراهته مجاوزة الحد في الإنفاق على البناء زيادة على قدر الحاجة، ولا سيما إن أضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة ومنه احتمال الغبن الفاحش في البياعات بغير سبب‏.‏
    وأما إضاعة المال في المعصية فلا يختص بارتكاب الفواحش، بل يدخل فيها سوء القيام على الرقيق والبهائم حتى يهلكوا، ودفع مال من لم يؤنس منه الرشد إليه، وقسمه ما لا ينتفع بجزئه كالجوهرة النفيسة‏.‏
    وقال السبكي الكبير في ‏"‏ الحلبيات ‏"‏‏:‏ الضابط في إضاعة ا
    المال أن لا يكون لغرض ديني ولا دنيوي، فإن انتفيا حرم قطعا، وإن وجد أحدهما وجودا له بال وكان الإنفاق لائقا بالحال ولا معصية فيه جاز قطعا‏.‏
    وبين الرتبتين وسائط كثيرة لا تدخل تحت ضابط‏.‏
    فعلى المفتي أن يرى فيما تيسر منها رأيه، وأما ما لا يتيسر فقد تعرض له؛ فالإنفاق في المعصية حرام كله، ولا نظر إلى ما يحصل في مطلوبه من قضاء شهوة ولذة حسنة‏.‏
    وأما إنفاقه في الملاذ المباحة فهو موضع الاختلاف، فطاهر قوله تعالى‏:‏ ‏(‏والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما‏)‏ أن الزائد الذي لا يليق بحال المنفق إسراف‏.‏
    ثم قال‏:‏ ومن بذل مالا كثيرا في غرض يسير تافه عده العقلاء مضيعا، بخلاف عكسه، والله أعلم‏.‏
    قال الطيبي‏:‏ هذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق، وهو تتبع جميع الأخلاق الحميدة والخلال الجميلة‏.‏
    (ج10/ 503)
    وقد اختلف السلف فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر، ومنها صغائر، وشذت طائفة منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني فقال‏:‏ ليس في الذنوب صغيرة بل كل ما نهى الله عنه كبيرة، ونقل ذلك عن ابن عباس، وحكاه القاضي عياض عن المحققين، واحتجوا بأن كل مخالفة لله فهي بالنسبة إلى جلاله كبيرة ا هـ‏.‏
    ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية فقال‏:‏ انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامة الفقهاء، وخالفهم من الأشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه فقالوا‏:‏ المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال القبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا وكلها كبائر، قالوا‏:‏ ولا ذنب عندنا يغفر واجبا باجتناب ذنب آخر بل كل ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة غير الكفر، لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏)‏ ‏.‏
    وأجابوا عن الآية التي احتج أهل القول الأول بها وهي قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه‏)‏ أن المراد الشرك‏.‏
    وقد قال الفراء‏:‏ من قرأ ‏"‏ كبائر ‏"‏ فالمراد بها كبير، وكبير الإثم هو الشرك، وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏كذبت قوم نوح المرسلين‏)‏ ولم يرسل إليهم غير نوح، قالوا‏:‏ وجواز العقاب على الصغيرة كجوازه على الكبيرة ا هـ‏.‏
    قال النووي‏:‏ قد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة إلى القول الأول‏.‏
    وقال الغزالي في ‏"‏ البسيط ‏"‏ إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه‏.‏
    قلت‏:‏ قد حقق إمام الحرمين المنقول عن الأشاعرة واختاره وبين أنه لا يخالف ما قاله الجمهور‏.‏
    فقال في ‏"‏ الإرشاد ‏"‏‏:‏ المرضي عندنا أن كل ذنب يعصى الله به كبيرة، فرب شيء يعد صغيرة بالإضافة إلى الأقران ولو كان في حق الملك لكان كبيرة، والرب أعظم من عصي، فكل ذنب بالإضافة إلى مخالفته عظيم، ولكن الذنوب وإن عظمت فهي متفاوتة في رتبها‏.‏
    وظن بعض الناس أن الخلاف لفظي فقال‏:‏ التحقيق أن للكبيرة اعتبارين‏:‏ فبالنسبة إلى مقايسة بعضها لبعض فهي تختلف قطعا، وبالنسبة إلى الآمر الناهي فكلها كبائر ا هـ‏.‏
    والتحقيق أن الخلاف معنوي، وإنما جرى إليه الأخذ بظاهر الآية، والحديث الدال على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر كما تقدم، والله أعلم‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله عز وجل عنه كبيرة لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله‏:‏ ‏(‏الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم‏)‏ فجعل في المنهيات صغائر وكبائر، وفرق بينهما في الحكم إذ جعل تكفير السيئات في الآية مشروطا باجتناب الكبائر، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش، فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن‏؟‏
    وقال الطيبي‏:‏ الصغيرة والكبيرة أمران نسبيان، فلا بد من أمر يضافان إليه وهو أحد ثلاثة أشياء‏:‏ الطاعة أو المعصية أو الثواب‏.‏
    فأما الطاعة فكل ما تكفره الصلاة مثلا هو من الصغائر، وكل ما يكفره الإسلام أو الهجرة فهو من الكبائر‏.‏
    وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدا أو عقابا أزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة وأما الثواب ففاعل المعصية إذا كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة، فقد وقعت المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية ا هـ‏.‏
    (ج10/ ص504)
    قال النووي‏:‏ واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافا كثيرا منتشرا، فروي عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، قال‏:‏ وجاء نحو هذا عن الحسن البصري‏.‏
    وقال آخرون‏:‏ هي ما أوعد الله عليه بنار في الآخرة أو أوجب فيه حدا في الدنيا‏.‏
    قلت‏:‏ وممن نص على هذا الأخير الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى، ومن الشافعية الماوردي ولفظه‏:‏ الكبيرة ما وجبت فيه الحدود، أو توجه إليها الوعيد‏.‏
    وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخرى، منها قول إمام الحرمين‏:‏ كل جريمة تؤذن بقلة اكثراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة‏.‏
    وقول الحليمي‏:‏ كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه‏.‏
    وقال الرافعي‏:‏ هي ما أوجب الحد‏.‏
    وقيل‏:‏ ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة‏.‏
    هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر
    وقال ابن‏:‏ عبد السلام في ‏"‏ القواعد ‏"‏‏:‏ لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من الاعتراض، والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعارا دون الكبائر المنصوص عليها‏.‏
    قلت‏:‏ وهو ضابط جيد‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ الراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب أو علق عليه حد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة، وكلام ابن الصلاح يوافق ما نقل أولا عن ابن عباس، وزاد إيجاب الحد، وعلى هذا يكثر عدد الكبائر‏.‏
    وقد ذهب آخرون إلى أن الذنوب التي لم ينص على كونها كبيرة مع كونها كبيرة لا ضابط لها، فقال الواحدي‏:‏ ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في إخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة، كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 505)
    قال ابن دقيق العيد‏:‏ اهتمامه صلى الله عليه وسلم بشهادة الزور يحتمل أن يكون لأنها أسهل وقوعا على الناس، والتهاون بها أكثر، ومفسدتها أيسر وقوعا، لأن الشرك ينبو عنه المسلم، والعقوق ينبو عنه الطبع، وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة فحسن الاهتمام بها، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها‏.‏
    قال‏:‏ وأما عطف الشهادة على القول فينبغي أن يكون تأكيدا للشهادة لأنا لو حملناه على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة وليس كذلك، وإذا كان بعض الكذب منصوصا على عظمه كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا‏)‏ ‏.‏
    (ج10/ ص 510)
    قال ابن التين‏:‏ ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏)‏ والجمع بينهما من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن هذه الزيادة كناية عن البركة في النمر بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غيره ذلك‏.‏
    ومثل هذا ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر‏.‏
    وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية فيبقى بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يمت‏.‏
    ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده، والصدقة الجارية عليه، والخلف الصالح‏.‏
    ثانيهما‏:‏ أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما الأول الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك مثلا‏:‏ إن عمر فلان مائة مثلا إن وصل رحمه، وستون إن قطعها‏.‏
    وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب‏)‏ فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البتة‏.‏
    ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق‏.‏
    ال الطيبي‏:‏ الوجه الأول أظهر، وإليه يشير كلام صاحب ‏"‏ الفائق ‏"‏ قال‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى أن الله يبقى أثر واصل الرحم في الدنيا طويلا فلا يضمحل سريعا كما يضمحل أثر قاطع الرحم‏.‏
    ولما أنشد أبو تمام قوله في بعض المراثي‏:‏ توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السفر السفر قال له أبو دلف‏:‏ لم يمت من قيل فيه هذا الشعر‏.‏
    وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله‏.‏
    وقال غيره في أعم من ذلك وفي وجود البركة في رزقه وعلمه ونحو ذلك‏.‏
    (ج10/ ص 515)
    وقال الإسماعيلي‏:‏ معنى الحديث أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن فلها به علقة، وليس معناه أنها من ذات الله‏.‏
    تعالى الله عن ذلك‏.‏
    قال القرطبي‏:‏ الرحم التي توصل عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين وتجب مواصلتها بالتوادد والتناصح والعدل والإنصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة‏.‏
    وأما الرحم الخاصة فتزيد للنفقة على القريب وتفقد أحوالهم والتغافل عن زلاتهم‏.‏
    وتتفاوت مراتب استحقاقهم في ذلك كما في الحديث الأول من كتاب الأدب ‏"‏ الأقرب فالأقرب ‏"‏ وقال ابن أبي جمرة‏:‏ تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء‏.‏
    والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارا أو فجارا فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد في وعظهم، ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى‏.‏
    وفي الأحاديث الثلاثة تعظيم أمر الرحم، وأن صلتها مندوب مرغب فيه وأن قطعها من الكبائر لورود الوعيد الشديد فيه‏.‏
    واستدل به على أن الأسماء توقيفية، وعلى رجحان القول الصائر إلى أن المراد بقوله‏:‏ ‏(‏وعلم آدم الأسماء كلها‏)‏ أسماء جميع الأشياء سواء كانت من الذوات أو من الصفات، والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 516)
    ال عبد الحق في كتاب ‏"‏ الجمع بين الصحيحين ‏"‏‏:‏ إن الصواب في ضبط هذه الكلمة بالرفع، أي وقع في كتاب محمد بن جعفر موضع أبيض يعني بغير كتابة، وفهم منه بعضهم أنه الاسم المكني عنه في الرواية فقرأه بالجر على أنه في كتاب محمد بن جعفر إن آل أبي بياض، وهو فهم سيء ممن فهمه لأنه لا يعرف في العرب قبيلة يقال لها آل أبي بياض، فضلا عن قريش، وسياق الحديث مشعر بأنهم من قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم وهي قريش، بل فيه إشعار بأنهم أخص من ذلك لقوله‏:‏ ‏"‏ إن لهم رحما ‏"‏ وأبعد من حمله على بني بياضة وهم بطن من الأنصار لما فيه من التغيير أو الترخيم على رأي، ولا يناسب السياق أيضا‏.‏
    وقال ابن التين‏:‏ حذفت التسمية لئلا يتأذى بذلك المسلمون من أبنائهم‏.‏
    وقال النووي‏:‏ هذه الكناية من بعض الرواة، خشي أن يصرح بالاسم فيترتب عليه مفسدة إما في حق نفسه، وإما في حق غيره، وإما معا‏.‏
    قال عياض‏:‏ إن المكنى عنه هنا هو الحكم بن أبي العاص‏.‏
    وقال ابن دقيق العيد‏:‏ كذا وقع مبهما في السياق، وحمله بعضهم على بني أمية ولا يستقيم مع قوله آل أبي، فلو كان آل بني لأمكن، ولا يصح تقدير آل أبي العاص لأنهم أخص من بني أمية والعام لا يفسر بالخاص‏.‏
    قال أبو بكر بن العربي في ‏"‏ سراج المريدين ‏"‏‏:‏ كان في أصل حديث عمرو بن العاص ‏"‏ أن آل أبي طالب ‏"‏ فغير ‏"‏ آل أبي فلان ‏"‏ كذا جزم به، وتعقبه بعض الناس وبالغ في التشنيع ونسبه إلى التحامل على آل أبي طالب، ولم يصب هذا المنكر فإن هذه الرواية التي أشار إليها ابن العربي موجودة في ‏"‏ مستخرج أبي نعيم ‏"‏ من طريق الفضل بن الموفق عن عنبسة بن عبد الواحد بسند البخاري عن بيان بن بشر عن قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص رفعه ‏"‏ إن لبني أبي طالب رحما أبلها ببلاها ‏"‏ وقد أخرجه الإسماعيلي من هذا الوجه أيضا لكن أبهم لفظ طالب، وكأن الحامل لمن أبهم هذا الموضع ظنهم أن ذلك يقتضي نقصا في آل أبي طالب؛ وليس كما توهموه كما سأوضحه إن شاء الله تعالى‏.‏
    قد استشكل بعض الناس صحة هذا الحديث لما نسب إلى بعض رواته من النصب وهو الانحراف عن علي وآل بيته، قلت‏:‏ أما قيس بن أبي حازم فقال يعقوب بن شيبة تكلم أصحابنا في قيس فمنهم من رفع قدره وعظمه وجعل الحديث عنه من أصح الأسانيد حتى قال ابن معين‏:‏ هو أوثق من الزهري ومنهم من حمل عليه وقال‏:‏ له أحاديث مناكير، وأجاب من أطراه بأنها غرائب وإفراده لا يقدح فيه‏.‏
    ومنهم من حمل عليه في مذهبه وقال‏:‏ كان يحمل على علي ولذلك تجنب الرواية عنه كثير من قدماء الكوفيين، وأجاب من أطراه بأنه كان يقدم عثمان على علي‏.‏
    قلت‏:‏ والمعتمد عليه أنه ثقة ثبت مقبول الرواية، وهو من كبار التابعين، سمع من أبي بكر الصديق فمن دونه، وقد روي عنه حديث الباب إسماعيل بن أبي خالد وبيان بن بشر وهما كوفيان ولم ينسبا إلى، النصب، لكن الراوي عن بيان وهو عنبسة بن عبد الواحد أموي قد نسب إلى شيء من النصب، وأما عمرو بن العاص وإن كان بينه وبين علي ما كان فحاشاه أن يتهم، وللحديث محل صحيح لا يستلزم نقصا في مؤمني آل أبي طالب، وهو أن المراد بالنفي المجموع كما تقدم، ويحتمل أن يكون المراد بآل أبي طالب أبو طالب نفسه وهو إطلاق سائغ كقوله في أبي موسى‏:‏ ‏"‏ إنه أوتي مزمارا من مزامير آل داود ‏"‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ آل أبي أوفى ‏"‏ وخصه بالذكر مبالغة في الانتفاء ممن لم يسلم لكونه عمه وشقيق أبيه وكان القيم بأمره ونصره وحمايته، ومع ذلك فلما لم يتابعه على دينه انتفى من موالاته‏.‏
    (ج10/ ص 518)
    وقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وصالح المؤمنين‏)‏ على أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ الأنبياء أخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن قتادة وأخرجه الطبري، وذكره ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري، وأخرجه النقاش عن العلاء بن زياد‏.‏
    الثاني‏:‏ الصحابة أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، ونحوه في تفسير الكلبي قال‏:‏ هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأشباههم ممن ليس بمنافق‏.

    ‏.‏
    الثالث‏:‏ خيار المؤمنين أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك‏.‏
    الرابع‏:‏ أبو بكر وعمر وعثمان أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري‏.‏
    الخامس‏:‏ أبو بكر وعمر أخرجه الطبري وابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا وسنده ضعيف، وأخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن الضحاك أيضا، وكذا هو في تفسير عبد الغني بن سعيد الثقفي أحد الضعفاء بسنده عن ابن عباس موقوفا،
    السادس‏:‏ أبو بكر خاصة ذكره القرطبي عن المسيب بن شريك‏.‏
    السابع‏:‏ عمر خاصة أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير، وأخرجه الطبري بسند ضعيف عن مجاهد، وأخرجه ابن مردويه بسند واه جدا عن ابن عباس‏.‏
    الثامن‏:‏ علي أخرجه ابن أبي حاتم بسند منقطع عن علي نفسه مرفوعا
    (ج10/ ص 526)
    أن من فعل معروفا لم يكن واجبا عليه أو زاد على قدر الواجب عليه عد محسنا، والذي يقتصر على الواجب وإن كان يوصف بكونه محسنا لكن المراد من الوصف المذكور قدر زائد، وشرط الإحسان أن يوافق الشرع لا ما خالفه، والظاهر أن الثواب المذكور إنما يحصل لفاعله إذا استمر إلى أن يحصل استغناؤهن عنه بزوج أو غيره كما أشير إليه في بعض ألفاظ الحديث، والإحسان إلى كل أحد بحسب حاله، وقد جاء أن الثواب المذكور يحصل لمن أحسن لواحدة فقط ففي حديث ابن عباس المتقدم ‏"‏ فقال رجل من الأعراب‏:‏ أو اثنتين‏؟‏ فقال‏:‏ أو اثنتين ‏"‏ وفي حديث عوف بن مالك عند الطبراني ‏"‏ فقالت امرأة ‏"‏ وفي حديث جابر ‏"‏ وقيل ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة ‏"‏ قلنا ‏"‏ وهذا يدل على تعدد السائلين، وزاد في حديث جابر ‏"‏ فرأى بعض القوم أن لو قال وواحدة لقال وواحدة ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة قلنا‏:‏ وثنتين‏؟‏ قال‏:‏ وثنتين‏.‏
    قلنا‏:‏ وواحدة‏؟‏ قال‏:‏ وواحدة ‏"‏ وشاهده حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ من كانت له ابنة فأدبها وأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأوسع عليها من نعمة الله التي أوسع عليه ‏"‏ أخرجه الطبراني بسند واه‏.‏
    (ج10/ ص 527)
    قال ابن بطال‏:‏ وفيه جواز سؤال المحتاج، وسخاء عائشة لكونها لم تجد إلا تمرة فآثرت بها، وأن القليل لا يمتنع التصدق به لحقارته، بل ينبغي للمتصدق أن يتصدق بما تيسر له قل أو كثر‏.‏
    وفيه جواز ذكر المعروف إن لم يكن على وجه الفخر ولا المنة‏.‏
    وقال النووي تبعا لابن بطال‏:‏ إنما سماه ابتلاء لأن الناس يكرهون البنات، فجاء الشرع بزجرهم عن ذلك، ورغب في إبقائهن وترك قتلهن بما ذكر من الثواب الموعود به من أحسن إليهن وجاهد نفسه في الصبر عليهن‏.‏
    وقال شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏‏:‏ يحتمل أن يكون معنى الابتلاء هنا الاختبار، أي من اختبر بشيء من البنات لينظر ما يفعل أيحسن إليهن أو يسيء، ولهذا قيده في حديث أبي سعيد بالتقوى، فإن من لا يتقي الله لا يأمن أن يتضجر بمن وكله الله إليه، أو يقصر عما أمر بفعله، أولا يقصد بفعله امتثال أمر الله وتحصيل ثوابه والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 532)
    وقال القرطبي‏:‏ مقتضى هذا الحديث أن الله علم إن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مائة نوع، فأنعم عليهم في هذه الدنيا بنوع واحد انتظمت به مصالحهم وحصلت به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي فبلغت مائة وكلها للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وكان بالمؤمنين رحيما‏)‏ فإن رحيما من أبنية المبالغة التي لا شيء فوقها، ويفهم من هذا أن الكفار لا يبقى لهم حظ من الرحمة لا من جنس رحمات الدنيا ولا من غيرها إذا كمل كل ما كان في علم الله من الرحمات للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فسأكتبها للذين يتقون‏)‏ الآية‏.‏
    وقال الكرماني‏:‏ الرحمة هنا عبارة عن القدرة المتعلقة بإيصال الخير، والقدرة في نفسها غير متناهية، والتعليق غير متناه، لكن حصره في مائة على سبيل التمثيل تسهيلا للفهم وتقليلا لما عند الخلق وتكثيرا لما عند الله سبحانه وتعالى، وأما مناسبة هذا العدد الخاص فحكى القرطبي عن بعض الشراح أن هذا العدد الخاص أطلق لإرادة التكثير والمبالغة فيه، وتعقبه بأنه لم تجر عادة العرب بذلك في المائة وإنما جرى في السبعين، كذا قال‏.‏
    قال ابن أبي جمرة‏:‏ ثبت أن نار الآخرة تفضل نار الدنيا بتسع وستين جزءا فإذا قوبل كل جزء برحمة زادت الرحمات ثلاثين جزءا، فيؤخذ منه أن الرحمة في الآخرة أكثر من النقمة فيها‏.‏
    ويؤيده قوله‏:‏ ‏"‏ غلبت رحمتي غضبي‏"‏‏.‏
    (ج10/ ص 535)
    باب حسن العهد من الإيمان‏)‏ قال أبو عبيد‏:‏ العهد هنا رعاية الحرمة‏.‏
    وقال عياض‏:‏ هو الاحتفاظ بالشيء والملازمة له‏.‏
    وقال الراغب‏:‏ حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال‏.‏
    وعهد الله تارة يكون بما ركزه في العقل وتارة بما جاءت به الرسل، وتارة بما يلتزمه المكلف ابتداء كالنذر، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ومنهم من عاهد الله‏)‏ وأما لفظ ‏"‏ العهد ‏"‏ فيطلق بالاشتراك بإزاء معان أخرى، منها الزمان والمكان واليمين والذمة والصحة والميثاق والإيمان والنصيحة والوصية والمطر ويقال له العهاد أيضا‏.‏
    ( ج10/ ص 536)
    كافل اليتيم
    قال ابن بطال‏:‏ حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك‏.‏
    قال شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يشبه في دخول الجنة أو شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي أو منزلة النبي لكون النبي شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلا لهم ومعلما ومرشدا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه، ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه، فظهرت مناسبة ذلك ا هـ ملخص
    (ج10/ ص 540)
    قال ابن أبي جمرة‏:‏ شبه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالجسد وأهله بالأعضاء، لأن الإيمان أصل وفروعه التكاليف، فإذا أخل المرء بشيء من التكاليف شأن ذلك الإخلال الأصل، وكذلك الجسد أصل كالشجرة وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضو من الأعضاء اشتكت الأعضاء كلها كالشجرة إذا ضرب غصن من أغصانها اهتزت الأغصان كلها بالتحرك والاضطراب‏.


    ادب 22
    (ج10/ ص 541)
    ‏ي رواية لمسلم ‏"‏ من لا يرحم الناس لا يرحمه الله ‏"‏ وهو عند الطبراني بلفظ ‏"‏ من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء ‏"‏ وله من حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء ‏"‏ ورواته ثقات، وهو في حديث عبد الله بن عمر، وعند أبي داود والترمذي‏:‏ والحاكم بلفظ ‏"‏ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ‏"‏ وهذا الحديث قد اشتهر بالمسلسل بالأولية، وفي حديث الأشعث بن قيس عند الطبراني في الأوسط ‏"‏ من لم يرحم المسلمين لم يرحمه الله ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق فيدخل المؤمن والكافر والبهائم المملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والسقي والتخفيف في الحمل وترك التعدي بالضرب‏.‏
    وقال ابن أبي جمرة‏:‏ يحتمل أن يكون المعنى من لا يرحم غيره بأي نوع من الإحسان لا يحصل له الثواب كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏هل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏)‏ ، ويحتمل أن يكون المراد من لا يكون فيه رحمة الإيمان في الدنيا لا يرحم في الآخرة، أو من لا يرحم نفسه بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه لا يرحمه الله لأنه ليس له عنده عهد، فتكون الرحمة الأولى بمعنى الأعمال والثانية بمعنى الجزاء
    (ج10/ 542)
    حديث مرفوع أخرجه الطبراني من حديث جابر رفعه ‏"‏ الجيران ثلاثة‏:‏ جار له حق وهو المشرك له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق مسلم له رحم له حق الجوار والإسلام والرحم ‏"‏ قال القرطبي‏:‏ الجار يطلق ويراد به الداخل في الجوار، ويطلق ويراد به المجاور في الدار وهو الأغلب،
    قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة كالهدية، والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك‏.‏
    وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية‏.‏
    وقد نفى صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يأمن جاره بوائقه كما في الحديث الذي يليه، وهي مبالغة تنبئ عن تعظيم حق الجار وأن إضراره من الكبائر‏.‏
    قال‏:‏ ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح‏.‏
    والذي يشمل الجميع إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه ويبين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويعظ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضا ويستر عليه زلله عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فبه وإلا فيهجره قاصدا تأديبه على ذلك مع إعلامه بالسبب ليكف، وسيأتي القول في حد الجار في ‏"‏ باب حق الجوار ‏"‏ قريبا انتهى ملخصا‏.‏
    (ج10/ ص 543)
    وقال ابن أبي جمرة‏:‏ يستفاد من الحديث أن من أكثر من شيء من أعمال البر يرجى له الانتقال إلى ما هو أعلى منه، وأن الظن إذا كان في طريق الخير جاز ولو لم يقع المظنون، بخلافه ما إذا كان في طريق الشر‏.‏
    وفيه جواز الطمع في الفضل إذا توالت النعم‏.‏
    وفيه جواز التحدث بما يقع في النفس من أمور الخير‏.‏
    والله أعلم‏.‏
    (ج10/ ص546)
    أن الراوي إذا حدث في بلده كان أتقن لما يحدثه به في حال سفره، ولكن عارض ذلك أن سعيدا المقبري مشهور بالرواية عن أبي هريرة فمن قال عنه‏:‏ ‏"‏ عن أبي هريرة ‏"‏ سلك الجادة، فكانت مع من قال عنه‏:‏ ‏"‏ عن أبي شريح ‏"‏ زيادة علم ليست عند الآخرين، وأيضا فقد وجد معنى الحديث من رواية الليث عن سعيد المقبري عن أبي شريح
    (ج10/ ص 546)
    قال ابن بطال‏:‏ في هذا الحديث تأكيد حق الجار لقسمه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتكريره اليمين ثلاث مرات، وفيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل ومراده الإيمان الكامل، ولا شك أن العاصي غير كامل الإيمان‏.‏
    وقال النووي عن نفي الإيمان في مثل هذا جوابان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه في حق المستحل، والثاني‏:‏ أن معناه ليس مؤمنا كاملا ا هـ‏.‏
    ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يجازي مجازاة المؤمن بدخول الجنة من أول وهلة مثلا، أو أن هذا خرج مخرج الزجر والتغليظ، وظاهره غير مراد، والله أعلم‏.‏
    وقال ابن أبي جمرة‏:‏ إذا أكد حق الجار مع الحائل بين الشخص وبينه وأمر بحفظه وإيصال الخير إليه وكف أسباب الضرر عنه فينبغي له أن يراعي حق الحافظين اللذين ليس بينه وبينهما جدار ولا حائل فلا يؤذيهما بإيقاع المخالفات في مرور الساعات، فقد جاء أنهما يسران بوقوع الحسنات ويحزنان بوقوع السيئات، فينبغي مراعاة جانبهما وحفظ خواطرهما بالتكثير من عمل الطاعات والمواظبة على اجتناب المعصية، فهما أولى برعاية الحق من كثير من الجيران ا هـ ملخصا‏.
    (ج10/ ص 548)
    ‏في عدة أحاديث أخرجها الطبراني من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأبو الشيخ في ‏"‏ كتاب التوبيخ ‏"‏ من حديث معاذ بن جبل ‏"‏ قالوا يا رسول الله ما حق الجار على الجار‏؟‏ قال‏:‏ إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابه خير هنيته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ‏"‏ وألفاظهم متقاربة، والسياق أكثره لعمرو بن شعيب‏.‏
    وفي حديث بهز بن حكيم ‏"‏ وإن أعوز سترته ‏"‏ وأسانيدهم واهية لكن اختلاف مخارجها يشعر بأن الحديث أصلا‏.‏
    ثم الأمر بالإكرام يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون فرض عين وقد يكون فرض كفاية وقد يكون مستحبا، ويجمع الجميع أنه من مكارم الأخلاق‏.‏
    (ج10/ ص 548)
    وفي معنى الأمر بالصمت عدة أحاديث‏:‏ منها حديث أبي موسى وعبد الله بن عمرو بن العاص ‏"‏ المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ‏"‏ وقد تقدما في كتاب الإيمان، وللطبراني عن ابن مسعود ‏"‏ قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل ‏"‏ فذكر فيها ‏"‏ أن يسلم المسلمون من لسانك ‏"‏ ولأحمد وصححه ابن حبان من حديث البراء رفعه في ذكر أنواع من البر ‏"‏ قال فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير ‏"‏ وللترمذي من حديث ابن عمر ‏"‏ من صمت نجا ‏"‏ وله من حديثه ‏"‏ كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسي القلب ‏"‏ وله من حديث سفيان الثقفي ‏"‏ قلت يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي‏؟‏ قال‏:‏ هذا‏.‏
    وأشار إلى لسانه ‏"‏ وللطبراني مثله من حديث الحارث بن هشام وفي حديث معاذ عند أحمد والترمذي والنسائي ‏"‏ أخبرني بعمل يدخلني الجنة ‏"‏ فذكر الوصية بطولها وفي آخرها ‏"‏ ألا أخبرك بملاك ذلك كله‏؟‏ كف عليك هذا‏.‏
    وأشار إلى لسانه ‏"‏ الحديث‏.‏
    وللترمذي من حديث عقبة بن عامر ‏"‏ قلت يا رسول الله ما النجاة‏؟‏ قال‏:‏ أمسك عليك لسانك‏"‏‏.‏
    (ج10/ ص 549)
    ‏ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه‏)‏ زاد في حديث أبي شريح ‏"‏ جائزته‏.‏
    قال‏:‏ وما جائزته يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام
    اختلف في حد الجوار‏:‏ فجاء عن علي رضي الله عنه ‏"‏ من سمع النداء فهو جار ‏"‏ وقيل‏:‏ ‏"‏ من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار ‏"‏ وعن عائشة ‏"‏ حد الجوار أربعون دارا من كل جانب ‏"‏ وعن الأوزاعي مثله‏.‏
    وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ مثله عن الحسن، وللطبراني بسند ضعيف عن كعب بن مالك مرفوعا ‏"‏ ألا إن أربعين دارا جار ‏"‏ وأخرج ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب ‏"‏ أربعون دارا عن يمينه وعن يساره ومن خلفه ومن بين يديه ‏"‏ وهذا يحتمل كالأولى، ويحتمل أن يريد التوزيع فيكون من كل جانب عشرة‏.‏
    (ج10/ ص 550)
    وقال الراغب‏:‏ المعروف اسم كل فعل يعرف حسنه بالشرع والعقل معا، ويطلق على الاقتصاد لثبوت النهي عن السرف وقال ابن أبي جمرة‏:‏ يطلق اسم المعروف على ما عرف بأدلة الشرع أنه من أعمال البر سواء جرت به العادة أم لا، قال‏:‏ والمراد بالصدقة الثواب، فإن قارنته النية أجر صاحبه جزما، وإلا ففيه احتمال‏.‏
    ل ابن بطال‏:‏ وأصل الصدقة ما يخرجه المرء من ماله متطوعا به، وقد يطلق على الواجب لتحري صاحبه الصدق بفعله، ويقال لكل ما يحابي به المرء من حقه صدقة لأنه تصدق بذلك على نفسه‏.‏
    ال ابن بطال‏:‏ فيه حجة لمن جعل الترك عملا وكسبا للعبد خلافا لمن قال من المتكلمين إن الترك ليس بعمل، ونقل عن المهلب أنه مثل الحديث الآخر ‏"‏ من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة‏"‏‏.‏
    استدل بظاهر الحديث الكعبي لقوله‏:‏ ليس في الشرع شيء يباح، بل إما أجر وإما وزر، فمن اشتغل بشيء عن المعصية فهو مأجور عليه‏.‏
    قال ابن التين‏:‏ والجماعة على خلافه، وقد ألزموه أن يجعل الزاني مأجورا لأنه يشتغل به عن غيره من المعصية‏.‏
    قلت‏:‏ ولا يرد عليه لأنه إنما أراد الاشتغال بغير المعصية‏.‏
    نعم يمكن أن يرد عليه ما لو اشتغل بعمل صغيرة عن كبيرة كالقبلة والمعانقة عن الزنا، وقد لا يرد عليه أيضا لأن الذي يظهر أنه يريد الاشتغال بشيء مما لم يرد النص بتحريمه‏.

    ادب33
    (ج10/ ص 553)
    ل عياض‏:‏ ولا يستثنى من الوجوه التي تستحب الشفاعة فيها إلا الحدود، وإلا فما لأحد فيه تجوز الشفاعة فيه ولا سيما ممن وقعت منه الهفوة أو كان من أهل الستر والعفاف، قال‏:‏ وأما المصرون على فسادهم المشتهرون في باطلهم فلا يشفع فيهم ليزجروا عن ذلك‏.‏
    الشفاعة الحسنة، وضابطها ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه كما دلت عليه الآية، وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن مجاهد قال‏:‏ هي في شفاعة الناس بعضهم لبعض، وحاصله أن من شفع لأحد في الخير كان له نصيب من الأجر ومن شفع له بالباطل كان له نصيب من الوزر، وقيل‏:‏ الشفاعة الحسنة الدعاء للمؤمن والسيئة الدعاء عليه‏.‏
    (ج10/ ص 558)
    قال الخطابي جمع هذا الحديث علما وأدبا، وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة، ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله، وفي مداراته ليسلموا من شره وغائلته‏.‏
    قلت‏:‏ وظاهر كلامه أن يكون هذا من جملة الخصائص، وليس كذلك، بل كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره فيقع في محذور ما فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدا نصيحته، وإنما الذي يمكن أن يختص به النبي صلى الله عليه وسلم أن يكشف له عن حال من يغتر بشخص من غير أن يطلعه المغتر على حاله فيذم الشخص بحضرته ليتجنبه المغتر ليكون نصيحة، بخلاف غير النبي صلى الله عليه وسلم فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نصحه‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى‏.‏
    ثم قال تبعا لعياض‏:‏ والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقرير الإشكال بحمد الله تعالى‏.‏
    (ج10/ 561)
    أما الحسن فقال الراغب‏:‏ هو عبارة عن كل مرغوب فيه إما من جهة العقل وإما من جهة العرض وإما من جهة الحسن، وأكثر ما يقال في عرف العامة فيما يدرك بالبصر، وأكثر ما جاء في الشرع فيما يدرك بالبصيرة، انتهى ملخصا‏.‏
    وأما الخلق فهو بضم الخاء واللام ويجوز سكونها، قال الراغب‏:‏ الخلق والخلق يعني بالفتح وبالضم في الأصل بمعنى واحد كالشرب والشرب، لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدركـة بالبصيرة انتهى‏.‏
    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي ‏"‏ أخرجه أحمد وصححه ابن حبان‏.‏
    وفي حـديث علي الطويل في دعاء الافتتاح عند مسلم ‏"‏ واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ‏"‏ وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل العفو والحلم والجود والصبر وتحمل الأذى والرحمة والشفقة وقضاء الحوائج والتوادد ولين الجانب ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك، وأما السخاء فهو بمعنى الجود، وهو بذل ما يقتنى بغير عوض، وعطفه على حسن الخلق من عطف الخاص على العام، وإنما أفرد للتنويه به‏.‏
    وأما البخل فهو منع ما يطلب مما يقتنى، وشره ما كان طالبه مستحقا ولا سيما إن كان من غير مال المسئول‏.‏
    (ج10/ ص 562)
    حديث أنس قال‏:‏ ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس ‏"‏ أي أحسنهم خلقا وخلقا ‏"‏ وأجود الناس ‏"‏ أي أكثرهم بذلا لما يقدر عليه ‏"‏ وأشجع الناس ‏"‏ أي أكثرهم إقداما مع عدم الفرار،
    في كل إنسان ثلاث قوى‏:‏ أحدها‏:‏ الغضبية وكمالها الشجاعة، ثانيها‏:‏ الشهوانية وكمالها الجود، ثالثها‏:‏ العقلية وكمالها النطق بالحكمة‏.‏
    (ج10/ ص 564)
    أخرج الترمذي وابن حبان وصححاه وهو عند البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من حديث أبي هريرة ‏"‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال‏:‏ تقوى الله وحسن الخلق ‏"‏ وللبزار بسند حسن من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ‏"‏ والأحاديث في ذلك كثيرة‏.‏
    وحكى ابن بطال تبعا للطبري خلافا‏:‏ هل حسن الخلق غريزة، أو مكتسب‏؟‏ وتمسك من قال بأنه غريزة بحـديث ابن مسعود ‏"‏ إن الله قسم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم ‏"‏ الحديث وهو عند البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطا في كتاب القدر‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ الخلق جبلة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محمودا وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا، وكذا إن كان ضعيفا فيرتاض صاحبه حني يقوى‏.‏
    قلت‏:‏ وقد وقع في حديث الأشج العصري عند أحمد والنسائي والبخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وصححه ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن فيك لخصلتين يحبهما الله‏:‏ الحلم، والأناة‏.‏
    قال‏:‏ يا رسول الله، قديما كانا في أو حديثا‏؟‏ قال‏:‏ قديما‏.‏
    قال‏:‏ الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما ‏"‏ فترديده السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي، وما هو مكتسب‏.‏
    (ج10/ ص 565)
    وقوله في هذا الحديث‏:‏ ‏"‏ والله ما قال لي أف قط ‏"‏ قال الراغب‏:‏ أصل الأف كل مستقذر من وسخ كقلامة الظفر وما يجري مجراها، ويقال ذلك لكل مستخف به، ويقال أيضا عند تكره الشيء وعند التضجر من الشيء، واستعملوا منها الفعل كأففت بفلان، وفي أف عدة لغات‏:‏ الحركات الثلاث بغير تنوين وبالتنوين، ووقع في رواية مسلم هنا ‏"‏ أفا ‏"‏ بالنصب والتنوين وهي موافقة لبعض القراءات الشاذة كما سيأتي، وهذا كله مع ضم الهمزة والتشديد، وعلى ذلك اقتصر بعض الشراح، وذكر أبو الحسن الرماني فيها لغات كثيرة فبلغها تسعا وثلاثين ونقلها ابن عطية وزاد واحدة أكملها أربعين، وقد سردها أبو حيان في ‏"‏ البحر ‏"‏ واعتمد على ضبط القلم‏.‏
    ولخص ضبطها صاحبه الشهاب السمين ولخصته منه، وهي الستة المقدمة، وبالتخفيف كذلك ستة أخرى، وبالسكون مشددا ومخففا، وبزيادة هاء ساكنة في آخره مشددا ومخففا، وأفي بالإمالة وبين بين وبلا إمالة الثلاثة بلا تنوين، وأفو بضم ثم سكون وأفي بكسر ثم سكون‏.‏
    فذلك ثنتان وعشرون، وهذا كله مع ضم الهمزة ويجوز كسرها وفتحها
    (ج10/ ص 567)
    ال ابن بطال‏:‏ من أخلاق الأنبياء التواضـع، والبعد عن التنعم، وامتهان النفس ليستن بهم ولئلا يخلدوا إلى الرفاهية المذمومة، وقد أشير إلى ذمها بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا‏)‏ ‏.‏
    لبزار من طريق أبي وكيع الجراح بن مليح عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ ما من عبد إلا وله صيت في السماء، فإن كان حسنا وضع في الأرض وإن كان سيئا وضع في الأرض ‏"‏ والصيت بكسر الصاد المهملة وسكون التحتانية بعدها مثناة أصله الصوت كالريح من الروح، والمراد به الذكر الجميل، وربما قيل لضده لكن بقيد‏.‏
    (ج10/ ص 572)
    وقال القرطبي‏:‏ حيث جاء الكفر في لسان الشرع فهو جحد المعلوم من دين الإسلام بالضرورة الشرعية، وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم وترك شكر المنعم والقيام بحقه كما تقدم تقريره في كتاب الإيمان في ‏"‏ باب كفر دون كفر ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد ‏"‏ يكفرن الإحسان ويكفرن العشير ‏"‏ قال وقوله باء بها أحدهما أي رجع بإثمها ولازم ذلك، وأصل البوء اللزوم، ومنه‏:‏ ‏"‏ أبوء بنعمتك ‏"‏ أي ألزمها نفسي وأقر بها قال‏:‏ والهاء في قوله‏:‏ ‏"‏ بها ‏"‏ راجع إلى التكفيرة الواحدة التي هي أقل ما يدل عليها لفظ كافر، ويحتمل أن يعود إلى الكلمة‏.‏
    والحاصل أن المقول له إن كان كافرا كفرا شرعيا فقد صدق القائل وذهب بها المقول له، وإن لم يكن رجعت للقائل معرة ذلك القول وإثمه، كذا اقتصر على هذا التأويل في رجع، وهو من أعدل الأجوبة، وقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء بسند جيد رفعه ‏"‏ إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلا وإلا رجعت إلى قائلها ‏"‏ وله شاهد عند أحمد من حديث ابن مسعود بسند حسن وآخر عند أبي داود والترمذي عن ابن عباس ورواته ثقات، ولكنه أعل بالإرسال‏.‏
    (ج10/ ص 575)
    أن اللقب إن كان مما يعجب الملقب ولا إطراء فيه مما يدخل في نهي الشرع فهو جائز أو مستحب، وإن كان مما لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلا إن تعين طريقا إلى التعريف به حيث يشتهر به ولا يتميز عن غيره إلا بذكره، ومن ثم أكثر الرواة من ذكر الأعمش والأعرج ونحوهما وعارم وغندر وغيرهم، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لما سلم في ركعتين من صلاة الظهر فقال ‏"‏ أكما يقول ذو اليدين ‏"‏ ووإلى ما ذهب إليه البخاري من التفصيل في ذلك ذهب الجمهور، وشذ قوم فشددوا حتى نقل عن الحسن البصري أنه كان يقول‏:‏ أخاف أن يكون قولنا حميدا الطويل غيبة، وكأن البخاري لمح بذلك حيث ذكر قصة ذي اليدين وفيها ‏"‏ وفي القوم رجل في يديه طول ‏"‏ قال ابن المنير أشار البخاري إلى أن ذكر مثل هذا إن كان للبيان والتمييز فهو جائز وإن كان للتنقيص لم يجز، قال‏:‏ وجاء في بعض الحديث عن عائشة في المرأة التي دخلت عليها فأشارت فأشارت بيدها أنها قصيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اغتبتيها ‏"‏ وذلك أنها لم تفعل هذا بيانا إنما قصدت الإخبار عن صفتها فكان كالاغتياب انتهى‏.

    ادب33
    (ج10/ ص 577)
    جزم بأن النميمة من الكبائر، وقد اختلف في حد الغيبة وفي حكمها، فأما حدها فقال الراغب‏:‏ هي أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك‏.‏
    وقال الغزالي‏:‏ حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه‏.‏
    وقال ابن الأثير في النهاية‏:‏ الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه‏.‏
    وقال النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏ تبعا للغزالي‏:‏ ذكر المرء بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز‏.‏
    قال النووي‏:‏ وممن يستعمل التعريض في ذلك كثير من الفقهاء في التصانيف وغيرها كقولهم قال بعض من يدعي العلم أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو نحو ذلك مما يفهم السامع المراد به، ومنه قولهم عند ذكره‏:‏ الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة‏.‏
    وتمسك من قال‏:‏ إنها لا يشترط فيها غيبة الشخص بالحديث المشهور الذي أخرجه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ أتدرون ما الغيبة‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏
    قال‏:‏ ذكرك أخاك بما يكرهه‏.‏
    قال‏:‏ أفرأيت إن كان في أخي ما أقول‏؟‏ قال‏:‏ إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ‏"‏
    ابن التين‏:‏ الغيبة ذكر المرء بما يكرهه بظهر الغيب‏.‏
    وكـذا قيده الزمخشري وأبو نصر القشيري في التفسير وابن خميس في جزء له مفرد في الغيبة والمنذري وغير واحد من العلماء من آخرهم الكرماني قال‏:‏ الغيبة أن تتكلم خلف الإنسان بما يكرهه لو سمعه وكان صدقا‏.‏
    قال‏:‏ وحكم الكناية والإشارة مع النية كذلك‏.‏
    وكلام من أطلق منهم محمول على المقيد في ذلك‏.‏
    وذكر في ‏"‏ الروضة ‏"‏ تبعا للرافعي أنها من الصغائر، وتعقبه جماعة‏.‏
    ونقل أبو عبد الله القرطبي في تفسيره الإجماع على أنها من الكبائر لأن حد الكبيرة صادق عليها لأنها مما ثبت الوعيد الشديد فيه‏.‏
    وقال الأذرعي لم أر من صرح بأنها من الصغائر إلا صاحب العدة والغزالي‏.‏
    وصرح بعضهم بأنها من الكبائر‏.‏
    وإذا لم يثبت الإجماع فلا أقل من التفصيل، فمن اغتاب وليا لله أو عالما ليس كمن اغتاب مجهول الحالة مثلا‏.‏
    وقد قالوا‏:‏ ضابطها ذكر الشخص بما يكره، وهذا يختلف باختلاف ما يقال فيه، وقد يشتد تأذيه بذلك وأذى المسلم محرم‏.‏
    وذكر النووي من الأحاديث الدالة على تحريم الغيبة حديث أنس رفعه ‏"‏ لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم‏.‏
    قلت‏:‏ من هؤلاء يا جبريل‏؟‏ قال‏:‏ هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ‏"‏ أخرجه أبو داود وله شاهد عن ابن عباس عند أحمد وحديث سعيد بن زيد رفعه ‏"‏ إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق ‏"‏ أخرجه أبو داود، وله شاهد عند البزار وابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة، وعند أبي يعلى من حديث عائشة، ومن حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب له يوم القيامة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيا، فيأكله ويكلح ويصيح ‏"‏ سنده حسن‏.‏
    (ج10/ ص 580)
    : حديث صاحب القبرين "
    أبدى بعضهم للجمع بين هاتين الخصلتين مناسبة، وهي أن البرزخ مقدمة الآخرة، وأول ما يقضي فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاة ومن حقوق العباد الدماء، ومفتاح الصلاة التطهر من الحدث والخبث ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة بنشر الفتن التي يسفك بسببها الدماء‏.‏
    (ج10/ ص 581)
    قال الغزالي ما ملخصه‏:‏ ينبغي لمن حملت إليه نميمة أن لا يصدق من نم له ولا يظن بمن نم عنه ما نقل عنه ولا يبحث عن تحقيق ما ذكر له وأن ينهاه ويقبح له فعله وأن يبغضه إن لم ينزجر وأن لا يرضى لنفسه ما نهي النمام عنه فينم هو على النمام فيصير نماما، قال النووي‏:‏ وهذا كله إذا لم يكن في النقل مصلحة شرعية وإلا فهي مستحبة أو واجبة، كمن اطلع من شخص أنه يريد أن يؤذي شخصا ظلما فحذره منه، وكذا من أخبر الإمام أو من له ولاية بسيرة نائبه مثلا فلا منع من ذلك‏.‏
    وقال الغزالي ما ملخصه‏:‏ النميمة في الأصل نقل القول إلى المقول فيه، ولا اختصاص لها بذلك بل ضابطها كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو غيرهما، وسواء كان المنقول قولا أم فعلا، وسواء كان عيبا أم لا، حتى لو رأى شخصا يخفي ما له فأفشى كان نميمة‏.‏
    واختلف في الغيبة والنميمة هل هما متغايرتان أو متحدتان، والراجح التغاير، وأن بينهما عموما وخصوصا وجهيا، وذلك لأن النميمة نقل حال الشخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه سواء كان بعلمه أم بغير علمه، والغيبة ذكره في غيبته بما لا يرضيه، فامتازت النميمة بقصد الإفساد، ولا يشترط ذلك في الغيبة، وامتازت الغيبة بكونها في غيبة المقول فيه، واشتركتا فيما عدا ذلك‏.‏
    (ج10/ ص 582)
    قال ابن التين‏:‏ ظاهر الحديث أن من اغتاب في صومه فهو مفطر، وإليه ذهب بعض السلف، وذهب الجمهور إلى خلافه، لكن معنى الحديث أن الغيبة من الكبائر وأن إثمها لا يفي له بأجر صومه فكأنه في حكم المفطر‏.‏
    (ج10/ ص 585)
    قال ابن بطال‏:‏ حاصل النهي أن من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك المنزلة، فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالا على ما وصف به، ولذلك تأول العلماء في الحديث الآخر ‏"‏ احثوا في وجوه المداحين التراب ‏"‏ أن المراد من يمدح الناس في وجوههم بالباطل‏.‏
    وقال عمر‏:‏ المدح هو الذبح‏.‏
    قال‏:‏ وأما من مدح بما فيه فلا يدخل في النهي، فقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في‏:‏ وجه مادحه ترابا‏.‏
    انتهى ملخصا‏.‏
    (ج10/ ص 587)
    وقد ضبط العلماء المبالغة الجائزة من المبالغة الممنوعة بأن الجائزة يصحبها شرط أو تقريب، والممنوعة بخلافها، ويستثنى من ذلك ما جاء عن المعصوم فإنه لا يحتاج إلى قيد كالألفاظ التي وصف النبي صلى الله عليه وسلم بها بعض الصحابة مثل قوله لابن عمرو ‏"‏ نعم العبد عبد الله ‏"‏ وغير ذلك وقال الغزالي في ‏"‏ الإحياء ‏"‏ آفة المدح في المادح أنه قد يكذب وقد يرائي الممدوح بمدحه ولا سيما إن كان فاسقا أو ظالما، فقد جاء في حديث أنس رفعه ‏"‏ إذا مدح الفاسق غضب الرب ‏"‏ أخرجه أبو يعلى وابن أبي الدنيا في الصمت، وفي سنده ضعف، وقد يقول ما لا يتحققه مما لا سبيل له إلى الاطلاع عليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فليقل أحسب ‏"‏ وذلك كقوله إنه ورع ومتق وزاهد، بخلاف ما لو قال‏:‏ رأيته يصلي أو يحج أو يزكي فإنه يمكنه الاطلاع على ذلك، ولكن تبقى الآفة على الممدوح، فإنه لا يأمن أن يحدث فيه المدح كبرا أو إعجابا أو يكله على ما شهره به المادح فيفتر عن العمل، لأن الذي يستمر في العمل غالبا هو الذي يعد نفسه مقصرا، فإن سلم المدح من هذه الأمور لم يكن به بأس، وربما كان مستحبا، قال ابن عيينة‏:‏ من عرف نفسه لم يضره المدح‏.‏
    وقال بعض السلف‏:‏ إذا مدح الرجل في وجهه فليقل‏:‏ اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيرا مما يظنون، أخرجه البيهقي في ‏"‏ الشعب‏"‏‏.

    44
    (ج10/ ص 589)
    ن بطال‏:‏ وجه الجمع بين الآيات المذكورة وترجمة الباب مع الحديث أن الله لما نهى عن البغي، وأعلم أن ضرر البغي إنما هو راجع إلى الباغي، وضمن النصر لمن بغي عليه كان حق من بغي عليه أن يشكر الله على إحسانه إليه بأن يعفو عمن بغى عليه، وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقب الذي كاده بالسحر مع قدرته على ذلك‏.‏
    وقال ابن التين‏:‏ يستفاد من الآية الأولى أن دلالة الاقتران ضعيفة، لجمعه تعالى بين العدل والإحسان في أمر واحد، والعدل واجب والإحسان مندوب‏.‏
    قلت‏:‏ وهو مبني على تفسير العدل والإحسان، وقد اختلف السلف في المراد بهما في الآية فقيل‏:‏ العدل لا إله إلا الله، والإحسان الفرائض‏.‏
    وقبل‏:‏ العدل لا إله إلا الله، والإحسان الإخلاص‏.‏
    وقيل‏:‏ العدل خلع الأنداد، والإحسان أن تعبد الله كأنـك تراه‏.‏
    وهو بمعنى الذي قبله‏.‏
    وقيل‏:‏ العدل الفرائض، والإحسان النافلة وقيل‏:‏ العدل العبادة، والإحسان الخشوع فيها‏.‏
    وقيل العدل الإنصاف، والإحسان التفضل‏.‏
    وقيل‏:‏ العدل امتثال المأمورات، والإحسان اجتناب المنهيات‏.‏
    وقيل، العدل بذل الحق، والإحسان ترك الظلم‏.‏
    وقيل‏:‏ العدل استواء السر والعلانية، والإحسان فضل العلانية‏.‏
    وقيل‏:‏ العدل البذل، والإحسان العفو‏.‏
    وقيل‏:‏ العدل في الأفعال، والإحسان في الأقوال‏.‏
    وقيل غير ذلك‏.‏
    وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ العدل بن العبد وربه بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، وبين العبد وبين نفسه بمزيد الطاعات وتوقي الشبهات الشهوات، وبين العبد وبين غيره بالإنصاف‏.‏
    انتهى ملخصا‏.‏
    وقال الراغب‏:‏ العدل ضربان مطلق يقتضي العقل حسنه ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا ولا يوصف بالاعتداء بوجه، نحو أن تحسن لمن أحسن إليك وتكف الأذى عمن كف أذاه عنك‏.‏
    (ج10/ ص 592)
    وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية رفعه ‏"‏ ثلاث لا يسلم منها أحد‏:‏ الطيرة والظن والحسد‏.‏
    قيـل‏:‏ فما المخرج منها يا رسول الله‏؟‏ قالا‏:‏ إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ ‏"‏ وعن الحسن البصري قال‏:‏ ما من آدمي إلا وفيه الحسد‏.‏
    فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء‏.‏
    (ج10/ ص 600)
    التكبر يأتي على وجهين‏:‏ أحدهما أن تكون الأفعال الحسنة زائدة على محاسن الغير ومن ثم وصف سبحانه وتعالى بالمتكبر، والثاني أن يكون متكلفا لذلك متشبعا بما ليس فيه، وهو وصف عامة الناس نحو قوله ‏(‏كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار‏)‏ والمستكبر مثله‏.‏
    وقال الغزالي‏:‏ الكبر على قسمين‏:‏ فإن ظهر على الجوارح يقال تكبر، وإلا قيل‏:‏ في نفسه كبر‏.‏
    والأصل هو الذي في النفس وهو الاسترواح إلى رؤية النفس، والكبر يستدعي متكبرا عليه يرى نفسه فوقه ومتكبرا به، وبه ينفصل الكبر عن العجب، فمن لم يخلق إلا وحده يتصور أن يكون معجبا لا متكبرا‏.‏
    وقد ورد في ذم الكبر ومدح التواضع أحاديث، من أصحها ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقيل‏:‏ إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال‏:‏ الكبر بطر الحق وغمط الناس ‏"‏ والغمط بفتح المعجمة وسكون الميم بعدها مهملة هو الازدراء والاحتقار، وقد أخرجه الحاكم بلفظ ‏"‏ الكبر من بطر الحق وازدري الناس ‏"‏ والسائـل المذكور يحتمل أن يكون ثابت بن قيس فقد روى الطبراني بسند حسن عنه أنه سأل عن ذلك، وكذا أخرج من حديث سواد بن عمرو أنه سأل عن ذلك‏.‏
    وأخرج عبد بن حميد من حديث ابن عباس رفعه ‏"‏ الكبر السفه عن الحق، وغمص الناس‏.‏
    فقال‏:‏ يا نبي الله وما هو‏؟‏ قال‏:‏ السفه أن يكون لك على رجل مال فينكره فيأمره رحل بتقوى الله فيأبى، والغمص أن يجيء شامخا بأنفه، وإذا رأى ضعفاء الناس وفقراءهم لم يسلم عليهم ولم يجلس إليهم محقرة لهم ‏"‏ وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من مات وهو بريء من الكبر والغلول والدين دخل الجنة ‏"‏ وأخرج أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد رفعه ‏"‏ من تواضع لله درجة رفعه الله درجة حتى يجعله الله في أعلى عليين، ومن تكبر على الله درجة وضعه الله درجة حتى يجعله في أسفل سافلين ‏"‏ وأخرج الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ عن ابن عمر رفعه ‏"‏ إياكم والكبر، فإن الكبر يكون في الرجل وإن عليه العباءة ‏"‏ ورواته ثقات، وحكى ابن بطال عن الطبري أن المراد بالكبر في هذه الأحاديث الكفر، بدليل قوله في الأحاديث ‏"‏ على الله ‏"‏ ثم قال‏:‏ ولا ينكر أن يكون من الكبر ما هو استكبار على غير الله تعالى ولكنه غير خارج عن معنى ما قلناه، لأن معتقد الكبر على ربه يكون لخلق الله أشد استحقارا انتهى‏.‏
    وقد أخرج مسلم من حديث عياض بن حماد بكسر المهملة وتخفيف الميم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ‏"‏ الحديث، والأمر بالتواضع نهي عن الكبر فإنه ضده، وهو أعم من الكفر وغيره واختلف في تأويل ذلك في حق المسلم فقيل‏:‏ لا يدخل الجنة مع أول الداخلين، وقيل لا يدخلها بدون مجازاة، وقيل جزاؤه أن لا يدخلها ولكن قد يعفى عنه، وقيل ورد مورد الزجر والتغليظ، وظاهره غير مراد


    55
    (ج10/ ص 603)
    قال النووي قال العلماء تحرم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنص وتباح في الثلاث بالمفهوم، وإنما عفي عنه في ذلك لأن الآدمي مجبول على الغضب، فسومح بذلك القدر ليرجع ويزول ذلك العارض‏.‏
    وقال أبو العباس القرطبي‏:‏ المعتبر ثلاث ليال، حتى لو بدأ بالهجرة في أثناء النهار ألغي البعض وتعتبر ذلك ليلة اليوم، وينقضي العفو بانقضاء الليلة الثالثة‏.‏
    قلت‏:‏ وفي الجزم باعتبار الليالي دون الأيام جمود
    (ج10/ ص 608)
    دعى المحب الطبري أن الهجران المنهي عنه ترك السلام إذا التقيا، ولم يقع ذلك من عائشة في حق ابن الزبير، ولا يخفى ما فيه، فإنها حلفت أن لا تكلمه والحالف يحرص على أن لا يحنث، وترك السلام داخل في ترك الكلام، وقد ندمت على سلامها عليه فدل على أنها اعتقدت أنها حنثت، ‏.‏
    ويؤيده ما كانت تعتقه في نذرها ذلك‏.‏
    (ج10/ ص 609)
    ال أكثر العلماء‏:‏ تزول الهجرة بمجرد السلام ورده‏.‏
    وقال أحمد‏:‏ لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أولا‏.‏
    وقال أيضا‏:‏ ترك الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام‏.‏
    وكذا قال ابن القاسم وقال عياض‏:‏ إذا اعتزل كلامه لم تقبل شهادته عليه عندنا ولو سلم عليه، يعني وهذا يؤيد قول ابن القاسم‏.‏
    قلت‏:‏ ويمكن الفرق بأن الشهادة يتوقى فيها، وترك المكالمة يشعر بأن في باطنه عليه شيئا فلا تقبل شهادته عليه، وأما زوال الهجرة بالسلام عليه بعد تركه ذلك في الثلاث فليس بممتنع، واستدل للجمهور بما رواه الطبراني من طريق زيد بن وهب عن ابن مسعود في أثناء حديث موقوف وفيه ‏"‏ ورجوعه أن يأتي فيسلم عليه ‏"‏ واستدل بقوله ‏"‏ أخاه ‏"‏ على أن الحكم يختص بالمؤمنين‏.‏
    وقال النووي‏:‏ لا حجة في قوله ‏"‏ لا يحل لمسلم ‏"‏ لمن يقول الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، لأن التقييد بالمسلم لكونه الذي يقبل خطاب الشرع وينتفع به‏.‏
    وأما التقييد بالأخوة فدال على أن للمسلم أن يهجر الكافر من غير تقييد‏.‏
    واستدل بهذه الأحاديث على أن من أعرض عن أخيه المسلم وامتنع من مكالمته والسلام عليه أثم بذلك، لأن نفي الحل يستلزم التحريم، ومرتكب الحرام آثم‏.‏
    قال ابن عبد البر‏:‏ أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث إلا لمن خاف من مكالمته ما يفسد عليه دينه أو يدخل منه على نفسه أو دنياه مضرة، فإن كان كذلك جاز، ورب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية‏.‏
    وقد استشكل على هذا ما صدر من عائشة في حق ابن الزبير قال ابن التين‏:‏ إنما ينعقد النذر إذا كان في طاعة كلله علي أن أعتق أو أن أصلي، وأما إذا كان قي حرام أو مكروه أو مباح فلا نذر، وترك الكلام يفضي إلى التهاجر وهو حرام أو مكروه‏.‏
    (ج10/ 610)
    أجاب الطبري بأن المحرم إنما هو ترك السلام فقط، وإن الذي صدر من عائشة ليس فيه أنها امتنعت من السلام على ابن الزبير ولا من رد السلام عليه لما بدأها بالسلام، وأطال في تقرير ذلك وجعله نظير من كانا في بلدين لا يجتمعان ولا يكلم أحدهما الآخر وليسا مع ذلك متهاجرين، قال‏:‏ وكانت عائشة لا تأذن لأحد من الرجال عليها إلا بإذن، ومن دخل كان بينه وبينها حجاب إلا إن كان ذا محرم منها، ومع ذلك لا يدخل عليها حجابها إلا بإذنها، فكانت في تلك المدة منعت ابن الزبير من الدخول عليها، كذا قال، ولا يخفى ضعف المأخذ الذي سلكه من أوجه لا فائدة للإطالة بها، والصواب ما أجاب به غيره أن عائشة رأت ابن الزبير ارتكب بما قال أمرا عظيما وهو قوله لأحجرن عليها، فإن فيه تنقيصا لقدرها ونسبة لها إلى ارتكاب ما لا يجوز من التبذير الموجب لمنعها من التصرف فيما رزقها الله تعالى، مع ما انضاف إلى ذلك من كونها أم المؤمنين وخالته أخت أمه ولم يكن أحد عندها في منزلته كما تقدم التصريح به في أوائل مناقب قريش، فكأنها رأت أن في ذلك الذي وقع منه نوع عقوق، والشخص يستعظم ممن يلوذ به مالا يستعظمه من الغريب، فرأت أن مجازاته على ذلك بترك مكالمته، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه عقوبة لهم لتخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر، ولم يمنع من كلام من تخلف عنها من المنافقين مؤاخذة للثلاثة لعظيم منزلتهم وازدراء بالمنافقين لحقارتهم، فعلى هذا يحـمل ما صدر من عائشة‏.‏
    وقد ذكر الخطابي أن هجر الوالد ولده والزوج زوجته ونحو ذلك لا يتضيق بالثلاث، واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم هجر نساءه شهرا، وكذلك ما صدر من كثير من السلف في استجازتهم ترك مكالمة بعضهم بعضا مع علمهم بالنهي عن المهاجرة‏.‏
    (ج10/ 611)
    وقال الطبري‏:‏ قصة كعب بن مالك أصل هو هجران أهل المعاصي، وقد استشكل كون هجران الفاسق أو المبتدع مشروعا ولا يشرع هجران الكافر وهو أشد جرما منهما لكونهما من أهل التوحيد في الجملة، وأجاب ابن بطال بأن لله أحكاما فيها مصالح للعباد وهو أعلم بشأنها وعليهم التسليم لأمره فيها، فجنح إلى أنه تعبد لا يعقل معناه‏.‏
    وأجاب غيره بأن الهجران على مرتبتين‏:‏ الهجران بالقلب، والهجران باللسان‏.‏
    فهجران الكافر بالقلب وبترك التودد والتعاون والتناصر، لا سيما إذا كان حربيا وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف العاصي المسلم فإنه ينزجر بذلك غالبا، ويشترك كل من الكافر والعاصي في مشروعية مكالمته بالدعاء إلى الطاعة، والأمر المعروف والنهي عن المنكر، وإنما المشروع ترك المكالمة بالموادة ونحوها‏.‏
    قال عياض‏:‏ إنما اغتفرت مغاضبة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم مع ما في ذلك من الحرج - لأن الغضب على النبي صلى الله عليه وسلم معصية كبيرة - لأن الحامل لها على ذلك الغيرة التي جبلت عليها النساء، وهي لا تنشأ إلا عن فرط المحبة، فلما كان الغضب لا يستلزم البغض اغتفر، لأن البغض هو الذي يفضي إلى الكفر أو المعصية، وقد دل قولها ‏"‏ لا أهجر إلا اسمك ‏"‏ على أن قلبها مملوء بمحبته صلى الله عليه وسلم‏.‏
    (ج10/ ص 612)
    وكأن البخاري رمز بالترجمة إلى توهين الحديث المشهور ‏"‏ زر غبا تزدد حبا ‏"‏ وقد ورد من طرق كثرها غرائب لا يخلو واحد منها من مقال، وقد جمع طرقه أبو نعيم وغيره، وجاء من حديث علي وأبي ذر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وأبي برزة وعبد الله بن عمر وأنس وجابر وحبيب بن مسلمة ومعاوية بن حيدة، وقد جمعتها في جزء مفرد، وأقوى طرقه ما أخرجه الحاكم في ‏"‏ تاريخ نيسابور ‏"‏ والخطيب في ‏"‏ تاريخ بغداد ‏"‏ والحافظ أبو محمد بن السقاء في فوائده من طريق أبي عقيل يحيى بن حبيب بن إسماعيل بن عبد الله بن أبي ثابت عن جعفر بن عون عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأبو عقيل كوفي مشهور بكنيته، قاله ابن أبي حاتم‏:‏ سمع منه أبي وهو صدوق، وذكر ابن حبان في الثقات وقال‏:‏ ربما أخطأ وأغرب‏.‏
    قلت‏:‏ واختلف عليه في رفعه ووقفه، وقد رفعه أيضا يعقوب بن شيبة عن جعفر بن عون رويناه في ‏"‏ فوائد أبي محمد بن السقاء ‏"‏ أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن جده يعقوب، واختلف فيه على جعفر بن عون فرواه عبد بن حميد في تفسيره عنه عن أبي حبان الكلبي عن عطاء عن عبيد بن عمير موقوفا في قصة له مع عائشة، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال ‏"‏ دخلت أنا وعبيد على عائشة فقالت‏:‏ يا عبيد بن عمير ما يمنعك أن تزورنا‏؟‏ قال‏:‏ قول الأول زر غبا تزدد حبا‏.‏
    وقد أنشدونا لأبي محمد بن هارون القرطبي راوي الموطأ‏:‏ أقل زيارة الإخوان تزدد عندهم قربا‏.‏
    فإن المصطفى قد قال زر غبا تزد حبا
    قال ابن بطال‏:‏ الصديق الملاطف لا يزيده كثرة الزيارة إلا محبة، بخلاف غيره‏.‏
    وذكر أبو عبيد في الأمثال بأنه من أمثال العرب،
    (ج10/ ص616)
    قال النووي‏:‏ المنفي حلف التوارث وما يمنع منه الشرع، وأما التحالف على طاعة الله ونصر المظلوم والمؤاخاة في الله تعالى فهو أمر مرغب فيه‏.‏
    ال أهل اللغة‏:‏ التبسم مبادئ الضحك، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك وهي الثنايا والأنياب وما يليها وتسمى النواجذ‏.‏
    (ج10/ 623)
    قال كعب بن مالك‏:‏ ما أنعم الله علي من نعمة بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي أن لا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا‏.‏
    وقال الغزالي‏:‏ الكذب من قبائح الذنوب، وليس حراما لعينه بل لما فيه من الضرر، ولذلك يؤذن فيه حيث يتعين طريقا إلى المصلحة‏.‏
    وتعقب بأنه يلزم أن يكون الكذب -إذا لم ينشأ عنه ضرر - مباحا، وليس كذلك، ويمكن الجواب بأنه يمنع من ذلك حسما للمادة فلا يباح منه إلا ما يترتب عليه مصلحة، فقد أخرج البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ بسند صحيح عن أبي بكر الصديق قال ‏"‏ الكذب بجانب الإيمان ‏"‏ وأخرجه عنه مرفوعا وقال‏:‏ الصحيح موقوف‏.

    وقال الغزالي‏:‏ الكذب من قبائح الذنوب، وليس حراما لعينه بل لما فيه من الضرر، ولذلك يؤذن فيه حيث يتعين طريقا إلى المصلحة‏.‏
    وتعقب بأنه يلزم أن يكون الكذب -إذا لم ينشأ عنه ضرر - مباحا، وليس كذلك، ويمكن الجواب بأنه يمنع من ذلك حسما للمادة فلا يباح منه إلا ما يترتب عليه مصلحة، فقد أخرج البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ بسند صحيح عن أبي بكر الصديق قال ‏"‏ الكذب بجانب الإيمان ‏"‏ وأخرجه عنه مرفوعا وقال‏:‏ الصحيح موقوف‏.‏
    خرج البزار من حديث سعد بن أبي وقاص رفعه قال ‏"‏ يطبع المؤمن على كل شيء، إلا الخيانة والكذب ‏"‏ وسنده قوي، وذكر الدار قطني في ‏"‏ العلل ‏"‏ أن الأشبه أنه موقوف، وشاهد المرفوع من مرسل صفوان بن سليم في الموطأ قال ابن التين‏:‏ ظاهره يعارض حديث ابن مسعود، والجمع بينهما حمل حديث صفوان على المؤمن الكامل‏.
    البر :‏
    وهو اسم جامع للخيرات كلها، ويطلق على العمل الخالص الدائم‏.‏
    حتى يكتب عند الله صديقا ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ المراد أنه يتكرر منه الصدق حتى يستحق اسم المبالغة في الصدق‏.‏
    (ج10/ ص 625)
    قال النووي‏:‏ وأعلم أن الموجود في نسخ البخاري ومسلم في بلادنا وغيرها أنه ليس في متن الحديث إلا ما ذكرناه قاله القاضي عياض، وكذا نقله الحميدي، ونقل أبو مسعود عن كتاب مسلم في حديث ابن مثنى وابن بشار زيادة وهي ‏"‏ إن شر الروايا روايا الكذب، لأن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا يعد الرجل صبيه ثم يخلفه ‏"‏ فذكر أبو مسعود أن مسلما روى هذه الزيادة في كتابه، وذكرها أيضا أبو بكر البرقاني في هذا الحديث، قال الحميدي‏:‏ وليست عندنا في كتاب مسلم، والروايا جمع رواية بالتشديد وهو ما يتروى فيه الإنسان قبل قوله أو فعله، وقيل هو جمع رواية أي للكذب والهاء للمبالغة‏.‏
    قلت‏:‏ لم أر شيئا من هذا في ‏"‏ الأطراف لأبي مسعود ‏"‏ ولا في ‏"‏ الجمع بين الصحيحين للحميدي ‏"‏ فلعلهما ذكراه في غير هذين الكتابين‏.‏
    (ج10/ ص 626)
    من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رفعه ‏"‏ الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة ‏"‏ وفي الطريق الأخرى ‏"‏ جزء من سبعين جزءا من النبوة ‏"‏ وأخرجه أبو داود وأحمد باللفظ الأول وسنده حسن، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ ‏"‏ خمسة وأربعين ‏"‏ وسنده ضعيف، وستأتي الإشارة إلى طريق الجمع بين هذه الروايات في التعبير في شرح حديث الرؤيات الصالحة، قال التوربشتي‏:‏ الاقتصاد على ضربين‏:‏ أحدهما ما كان متوسطا بين محمود ومذموم كالتوسط بين الجور والعدل، وهذا المراد
    ‏ومنهم مقتصد‏)‏ ، وهذا محمود ومذموم بالنسبة، والثاني متوسط بين طرفي الإفراط والتفريط كالجود فإنه متوسط بين الإسراف والبخل، وكالشجاعة فإنها متوسطة بين التهور والجبن، وهذا هو المراد في الحديث‏.‏
    (ج10/ ص 627)
    وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من طريق زيد بن وهب ‏"‏ سمعت ابن مسعود قال‏:‏ اعلموا أن حسن الهدي في أخر الزمان خير من بعض العمل ‏"‏ وسنده صحيح، ومثله لا يقال من قبل الرأي، فكأن ابن مسعود لأجل هذا كان يحرص على حسن الهدي، وقد استشكل الداودي الشارح بقول حذيفة في ابن مسعود قول مالك ‏"‏ كان عمر أشبه الناس بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشبه الناس بعمر ابنه عبد الله، وبعبد الله ابنه سالم ‏"‏ قال الداودي‏:‏ وقول حذيفة يقدم على قول مالك، ويمكن الجمع باختلاف متعلق الشبه بحمل شبه ابن مسعود بالسمت وما ذكر معه، وقول مالك بالقوة في الدين ونحوها، ويحتمل أن تكون مقالة حذيفة وقعت بعد موت عمر، يؤيد قول مالك ما أخرج البخاري في ‏"‏ كتاب رفع اليدين ‏"‏ عن جابر قال ‏"‏ لم يكن أحد منهم ألزم لطريق النبي صلى الله عليه وسلم من عمر ‏"‏ وفي السنن ومستدرك‏.‏
    الحاكم عن عائشة قالت ‏"‏ ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة عليها السلام ‏"‏ قلت‏:‏ ويجمع بالحمل في هذا على النساء‏.‏
    (ج10/ ص 628)
    قال بعض أهل العلم‏:‏ الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله الأنفس على التألم بما يفعل بها ويقال فيها؛ ولهذا شق على النبي صلى الله عليه وسلم نسبتهم له إلى الجور في القسمة، لكنه حلم عن القائل فصبر لما علم من جزيل ثواب الصابرين وأن الله تعالى يأجره بغير حساب، والصابر أعظم أجرا من المنفق لأن حسنته مضاعفة إلى سبعمائة، والحسنة في الأصل بعشر أمثالها إلا من شاء أن يزيده، وقد تقدم في أوائل الإيمان حديث ابن مسعود ‏"‏ الصبر نصف الإيمان ‏"‏ وقد ورد في الصبر على الأذى حديث ليس على شرط البخاري، وهو ما أخرجه ابن ماجه يسند حسن عن ابن عمر رفعه ‏"‏ المؤمن الذي يخالط الناس يصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ‏"‏ وأخرجه الترمذي من حديث صحابي لم يسم‏.



    66
    (ج10/ ص 630)
    قوله‏:‏ ‏(‏فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية‏)‏ جمع بين القوة العلمية والقوة العملية
    (ج10/ ص634)
    ال ابن بطال‏:‏ كنت أسأل المهلب كثيرا عن هذا الحديث لصعوبته فيجيبني بأجوبة مختلفة والمعنى واحد قال‏:‏ قوله ‏"‏ فهو كما قال ‏"‏ يعني فهو كاذب لا كافر، إلا أنه لما تعمد الكذب الذي حلف عليه والتزم الملة التي حلف بها قال عليه السلام ‏"‏ فهو كما قال ‏"‏ من التزام تلك الملة إن صح قصده بكذبه إلى التزامها في تلك الحالة، لا في وقت ثان إذا كان على سبيل الخديعة للمحلوف له‏.‏
    قلت‏:‏ وحاصله أنه لا يصير بذلك كافرا وإنما يكون كالكافر في حال حلفه بذلك خاصة، وسيأتي أن غيره حمل الحديث على الزجر والتغليظ، وأن ظاهره غير مراد، وفيه غير ذلك من التأويلات‏.‏
    (ج10/ 639)
    قال ابن التين‏:‏ جمع صلى الله عليه وسلم في قوله ‏"‏ لا تغضب ‏"‏ خير الدنيا والآخرة لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدين‏.‏
    وقال البيضاوي‏:‏ لعله لما رأى أن جميع المفاسد التي تعرض للإنسان إنما هي من شهوته ومن غضبه، وكانت شهوة السائل مكسورة فلما سأل عما يحترز به عن القبائح نهاه عن الغضب الذي هو أعظم ضررا من غيره، وأنه إذا ملك نفسه عند حصوله كان قد قهر أقوى أعدائه انتهى‏.‏
    ويحتمل أن يكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، لأن أعدى عدو للشخص شيطانه ونفسه، والغضب إنما ينشأ عنهما، فمن جاهدهما حتى يغلبهما مع ما في ذلك من شدة المعالجة كان لقهر نفسه عن الشهوة أيضا أقوى‏.‏
    وقال ابن حبان بعد أن أخرجه‏:‏ أراد لا تعمل بعد الغضب شيئا مما نهيت عنه، لا أنه نهاه عن شيء جبل عليه ولا حيلة له في دفعه‏.‏
    وقال بعض العلماء‏:‏ خلق الله الغضب من النار وجعله غريزة في الإنسان، فمهما قصد أو نوزع في غرض ما اشتعلت نار الغضب وثارت حتى يحمر الوجه والعينان من الدم، لأن البشرة تحكي لون ما وراءها، وهذا إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه، وإن كان ممن فوقه تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب فيصفر اللون حزنا، وإن كان على النظير تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويترتب على الغضب تغير الظاهر والباطن كتغير اللون والرعدة في الأطراف وخروج الأفعال عن غير ترتيب واستحالة الخلقة حتى لو رأى الغضبان نفسه في حال غضبه لكان غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته، هذا كله في الظاهر، وأما الباطن فقبحه أشد من الظاهر، لأنه يولد الحقد في القلب والحسد وإضمار السوء على اختلاف أنواعه، بل أولى شيء يقبح منه باطنه، وتغير ظاهره ثمرة تغير باطنه، وهذا كله أثره في الجسد، وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش الذي يستحي منه العاقل ويندم قائله عند سكون الغضب ويظهر أثر الغضب أيضا في الفعل بالضرب أو القتل، وإن فات ذلك بهرب المغضوب عليه رجع إلى نفسه فيمزق ثوبه ويلطم خده، وربما سقط صريعا، وربما أغمي عليه، وربما كسر الآنية وضرب من ليس له في ذلك جريمة‏.‏
    ومن تأمل هذه المفاسد عرف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللطيفة من قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا تغضب ‏"‏ من الحكمة واستجلاب المصلحة في درء المفسدة مما يتعذر إحصاؤه والوقوف على نهايته، وهذا كله في الغضب الدنيوي لا الغضب الديني كما تقدم تقريره في الباب الذي قبله، ويعين على ترك الغضب استحضار ما جاء في كظم الغيظ من الفضل، وما جاء في عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد، وأن يستعيذ من الشيطان كما تقدم في حديث سليمان بن صرد، وأن يتوضأ
    وقال الطوفي‏:‏ أقوى الأشياء في دفع الغضب استحضار التوحيد الحقيقي، وهو أن لا فاعل إلا الله، وكل فاعل غيره فهو آلة له، فمن توجه إليه بمكروه من جهة غيره فاستحضر أن الله لو شاء لم يمكن ذلك الغير منه اندفع غضبه، لأنه لو غضب والحالة هذه كان غضبه على ربه جل وعلا وهو خلاف العبودية‏.


    77
    (ج10/ ص 640)
    ‏قال عياض وغيره‏:‏ إنما جعل الحياء من الإيمان وإن كان غريزة لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم، وأما كونه خيرا كله ولا يأتي إلا بخير فأشكل حمله على العموم، لأنه قد يصد صاحبه عن مواجهة من يرتكب المنكرات ويحمله على الإخلال ببعض الحقوق‏.‏
    والجواب أن المراد بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون شرعيا، والحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياء شرعيا بل هو عجز ومهانة، وإنما يطلق عليه حياء لمشابهته للحياء الشرعي، وهو خلق يبعث على ترك القبيح‏.‏
    قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون أشير إلى من كان الحياء من خلقه أن الخير يكون فيه أغلب فيضمحل ما لعله يقع منه مما يذكر في جنب ما يحصل له بالحياء من الخير، أو لكونه إذا صار عادة وتخلق به صاحبه يكون سببا لجلب الخير إليه فيكون منه الخير بالذات والسبب‏.‏
    قال أبو العباس القرطبي‏:‏ الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلف به دون الغريزي، غير أن من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب، وقد ينطبع بالمكتسب حتى يصير غريزيا، قال‏:‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع له النوعان فكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان في الحياء المكتسب في الذروة العليا صلى الله عليه وسلم انتهى‏.‏


    88
    (ج10/ ص 647)
    ‏وقد أخرج الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة قال قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا، قال‏:‏ ‏"‏ إني لا أقول إلا حقا ‏"‏ وأخرج من حديث ابن عباس رفعه ‏"‏ لا تمار أخاك وتمازحه ‏"‏ الحديث، والجمع بينهما أن المنهي عنه ما فيه إفراط أو مداومة عليه لما فيه من الشغل عن ذكر الله والتفكر في مهمات الدين ويؤول كثيرا إلى قسوة القلب والإيذاء والحقد وسقوط المهابة والوقار، والذي يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة مثل تطيب نفس المخاطب ومؤانسته فهو مستحب، قال الغزالي‏:‏ من الغلط أن يتخذ المزاح حرفة، ويتمسك بأنه صلى الله عليه وسلم مزح فهو كمن يدور مع الريح حيث دار، وينظر رقصهم، ويتمسك بأنه صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة أن تنظر إليهم‏.‏
    ورد فيه صريحا لجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ مداراة الناس صدقة ‏"‏ أخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط، وفي سنده يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفوه‏.‏
    وقال ابن عدي‏:‏ أرجو أنه لا بأس به، وأخرجه ابن أبي عاصم في ‏"‏ آداب الحكماء ‏"‏ بسند أحسن منه، وحديث أبي هريرة ‏"‏ رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس ‏"‏ أخرجه البزار بسند ضعيف‏.‏
    لمداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أقوى أسباب الألفة‏.‏
    وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط، لأن المدارة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنه معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك‏.‏
    (ج10/ ص 650)
    هذا الأثر وصله أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏ قال معاوية‏:‏ لا حلم إلا بالتجارب ‏"‏ وأخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من طريق علي بن مسهر عن هشام عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏ كنت جالسا عند معاوية فحدث نفسه ثم انتبه فقال‏:‏ لا حليم إلا ذو تجربة‏.‏
    قالها ثلاثا ‏"‏ وأخرج من حديث أبي سعيد مرفوعا ‏"‏ لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة ‏"‏ وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان، قال ابن الأثير‏:‏ معناه‏:‏ لا يحصل الحلم حتى يرتكب الأمور ويعثر فيها فيعتبر بها ويستبين مواضع الخطأ ويجتنبها‏.‏
    وقال غيره‏:‏ المعني لا يكون حليما كاملا إلا من وقع في زلة وحصل منه خطأ فحينئذ يخجل، فينبغي لمن كان كذلك أن يستر من رآه على عيب فبعفو عنه، وكذلك من جرب الأمور علم نفعها وضررها فلا يفعل شيئا إلا عن حكمة‏.‏
    قال الطيبي ويمكن أن يكون تخصيص الحليم بذي التجربة للإشارة إلى أن غير الحكيم بخلافه، وأن الحليم الذي ليس له تجربة قد يعثر في مواضع لا ينبغي له فيها الحلم بخلاف الحليم المجرب، وبهذا تظهر مناسبة أثر معاوية لحديث الباب، والله تعالى أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 652)
    ‏من جحر‏)‏ زاد في رواية الكشميهني والسرخسي ‏"‏ واحد ‏"‏ ووقع في بعض النسخ من ‏"‏ جحر حية ‏"‏ وهي زيادة شاذة‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ وفيه أدب شريف أدب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته ونبههم كيف يحذرون مما يخافون سوء عاقبته، وفي معناه حديث ‏"‏ المؤمن كيس حذر ‏"‏ أخرجه صاحب ‏"‏ مسند الفردوس ‏"‏ من حديث أنس بسند ضعيف قال‏:‏ وهذا الكلام مما لم يسبق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأول ما قاله لأبي عزة الجمحي وكان شاعرا فأسر ببدر فشكى عائلة وفقرا فمن عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأطلقه بغير فداء، فظفر به بأحد فقال من علي وذكر فقره وعياله فقال‏:‏ لا تمسح عارضيك بمكة تقول سخرت بمحمد مرتين، وأمر به فقتل‏.‏
    وأخرج قصته ابن إسحاق في المغازي بغير إسناد‏.‏
    وقال ابن هشام في ‏"‏ تهذيب السيرة ‏"‏ بلغني عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حينئذ ‏"‏ لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ‏"‏ وصنيع أبي عبيد في كتاب الأمثال مشكل على قول ابن بطال أن النبي - أول من قال ذلك ولذلك قال ابن التين‏:‏ إنه مثل قديم‏.‏
    وقال التوربشتي‏:‏ هذا السبب يضعف الوجه الثاني يعني الرواية بكسر الغين على النهي‏.‏


    (ج10/ ص 647)
    ‏وقد أخرج الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة قال قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا، قال‏:‏ ‏"‏ إني لا أقول إلا حقا ‏"‏ وأخرج من حديث ابن عباس رفعه ‏"‏ لا تمار أخاك وتمازحه ‏"‏ الحديث، والجمع بينهما أن المنهي عنه ما فيه إفراط أو مداومة عليه لما فيه من الشغل عن ذكر الله والتفكر في مهمات الدين ويؤول كثيرا إلى قسوة القلب والإيذاء والحقد وسقوط المهابة والوقار، والذي يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة مثل تطيب نفس المخاطب ومؤانسته فهو مستحب، قال الغزالي‏:‏ من الغلط أن يتخذ المزاح حرفة، ويتمسك بأنه صلى الله عليه وسلم مزح فهو كمن يدور مع الريح حيث دار، وينظر رقصهم، ويتمسك بأنه صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة أن تنظر إليهم‏.‏
    ورد فيه صريحا لجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ مداراة الناس صدقة ‏"‏ أخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط، وفي سنده يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفوه‏.‏
    وقال ابن عدي‏:‏ أرجو أنه لا بأس به، وأخرجه ابن أبي عاصم في ‏"‏ آداب الحكماء ‏"‏ بسند أحسن منه، وحديث أبي هريرة ‏"‏ رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس ‏"‏ أخرجه البزار بسند ضعيف‏.‏
    لمداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أقوى أسباب الألفة‏.‏
    وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط، لأن المدارة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنه معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك‏.‏
    (ج10/ ص 650)
    هذا الأثر وصله أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏ قال معاوية‏:‏ لا حلم إلا بالتجارب ‏"‏ وأخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من طريق علي بن مسهر عن هشام عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏ كنت جالسا عند معاوية فحدث نفسه ثم انتبه فقال‏:‏ لا حليم إلا ذو تجربة‏.‏
    قالها ثلاثا ‏"‏ وأخرج من حديث أبي سعيد مرفوعا ‏"‏ لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة ‏"‏ وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان، قال ابن الأثير‏:‏ معناه‏:‏ لا يحصل الحلم حتى يرتكب الأمور ويعثر فيها فيعتبر بها ويستبين مواضع الخطأ ويجتنبها‏.‏
    وقال غيره‏:‏ المعني لا يكون حليما كاملا إلا من وقع في زلة وحصل منه خطأ فحينئذ يخجل، فينبغي لمن كان كذلك أن يستر من رآه على عيب فبعفو عنه، وكذلك من جرب الأمور علم نفعها وضررها فلا يفعل شيئا إلا عن حكمة‏.‏
    قال الطيبي ويمكن أن يكون تخصيص الحليم بذي التجربة للإشارة إلى أن غير الحكيم بخلافه، وأن الحليم الذي ليس له تجربة قد يعثر في مواضع لا ينبغي له فيها الحلم بخلاف الحليم المجرب، وبهذا تظهر مناسبة أثر معاوية لحديث الباب، والله تعالى أعلم‏.‏
    (ج10/ ص 652)
    ‏من جحر‏)‏ زاد في رواية الكشميهني والسرخسي ‏"‏ واحد ‏"‏ ووقع في بعض النسخ من ‏"‏ جحر حية ‏"‏ وهي زيادة شاذة‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ وفيه أدب شريف أدب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته ونبههم كيف يحذرون مما يخافون سوء عاقبته، وفي معناه حديث ‏"‏ المؤمن كيس حذر ‏"‏ أخرجه صاحب ‏"‏ مسند الفردوس ‏"‏ من حديث أنس بسند ضعيف قال‏:‏ وهذا الكلام مما لم يسبق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأول ما قاله لأبي عزة الجمحي وكان شاعرا فأسر ببدر فشكى عائلة وفقرا فمن عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأطلقه بغير فداء، فظفر به بأحد فقال من علي وذكر فقره وعياله فقال‏:‏ لا تمسح عارضيك بمكة تقول سخرت بمحمد مرتين، وأمر به فقتل‏.‏
    وأخرج قصته ابن إسحاق في المغازي بغير إسناد‏.‏
    وقال ابن هشام في ‏"‏ تهذيب السيرة ‏"‏ بلغني عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حينئذ ‏"‏ لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ‏"‏ وصنيع أبي عبيد في كتاب الأمثال مشكل على قول ابن بطال أن النبي - أول من قال ذلك ولذلك قال ابن التين‏:‏ إنه مثل قديم‏.‏
    وقال التوربشتي‏:‏ هذا السبب يضعف الوجه الثاني يعني الرواية بكسر الغين على النهي‏.‏
    (ج10/ ص655)
    ‏والضيافة ثلاثة أيام فيما بعد ذلك فهو صدقة‏)‏ قال ابن بطال سئل عنه مالك فقال‏:‏ يكرمه ويتحفه يوما وليلة وثلاثة أيام ضيافة‏.‏
    قلت‏:‏ واختلفوا هل الثلاث غير الأول أو يعد منها‏؟‏ فقال أبو عبيد يتكلف له في اليوم الأول بالبر والإلطاف، وفي الثاني والثالث‏:‏ يقدم له ما حضره ولا يزيده على عادته، ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلة وتسمى الجيزة، وهي قدر ما يجوز به المسافر من منهل إلى منهل، ومنه الحديث الآخر ‏"‏ أجيزوا الوقد بنحو ما كنت أجيزهم ‏"‏ وقال الخطابي‏:‏ معناه أنه إذا نزل به الضيف أن يتحفه ويزيده في البر على ما بحضرته يوما وليلة، ولا اليومين الأخيرين يقدم له ما يحضره، فإذا مضى الثلاث فقد قضى حقه فما زاد عليه مما يقدمه له يكون صدقة‏.‏
    وقد وقع في رواية عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن أبي شريح عند أحمد ومسلم بلفظ ‏"‏ الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة ‏"‏ وهذا يدل على المغايرة، ويؤيده ما قال أبو عبيد‏.‏
    (ج10/ ص 660)
    إن أول من حدا الإبل عبد لمضر بن نزار بن معد بن عدنان كان في إبل لمضر فقصر، فضربه مضر على يده فأوجعه فقال‏:‏ يا يداه يا يداه، وكان حسن الصوت فأسرعت الإبل لما سمعته في السير، فكان ذلك مبدأ الحداء‏.‏
    ونقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحداء، وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلافه فيه، ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة، ويلتحق بالحداء هنا الحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد، ونظيره ما يحرض أهل الجهاد على القتال، ومنه غناء المرأة لتسكين الولد في المهد‏.

    99
    (ج10/ ص 661)
    قال المفسرون في هذه الآية‏:‏ المراد بالشعراء شعراء المشركين، يتبعهم غواة الناس ومردة الشياطين وعصاة الجن ويروون شعرهم لأن الغاوي لا يتبع إلا عاويا مثله، وسمى الثعلبي منهم عبد الله بن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب ومسافع وعمرو بن أبي أمية بن أبي الصلت، وقيل‏:‏ نزلت في شاعرين تهاجيا فكان مع كل واحد منهما جماعة وهم الغواة السفهاء‏.‏
    وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وأبو داود من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏والشعراء يتبعهم الغاوون - إلى قوله - ما لا يفعلون‏)‏ قال فنسخ من ذلك واستثنى فقال‏:‏ ‏(‏إلا الذين آمنوا‏)‏ إلى آخر السورة‏.‏
    وأخرج ابن أبي شيبة - من طريق مرسلة - قال‏:‏ لما نزلت ‏(‏والشعراء يتبعهم الغاوون‏)‏ جاء عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وهم يبكون فقالوا‏:‏ يا رسول الله أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء‏.‏
    وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على جوازه إذا كان كذلك، واستدل بأحاديث الباب وغيرها وقال‏:‏ ما أنشد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو استنشده ولم ينكره‏.‏
    قلت‏:‏ وقد جمع ابن سيد الناس شيخ شيوخنا مجلدا في أسماء من نقل عنه من الصحابة شيء من شعر متعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقد ذكر في الباب خمسة أحاديث دالة على الجواز، وبعضها مفصل لما يكره مما لا يكره، وترجم في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ ما يكره من الشعر وأورد فيه حديث عائشة مرفوعا ‏"‏ إن أعظم الناس فرية الشاعر يهجو القبيلة بأسرها ‏"‏ وسنده حسن، وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ ‏"‏ أعظم الناس فرية رجل هاجي رجلا فهجا القبيلة بأسرها ‏"‏ وصححه ابن حبان‏.‏
    وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ عن عائشة أنها كانت تقول‏:‏ الشعر منه حسن ومنه قبيح، خذ الحسن ودع القبيح ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارا منها القصيدة فيها أربعون بيتا، وسنده حسن‏.‏
    وأخرج أبو يعلي أوله من حديثها من وجه آخر مرفوعا، وأخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ أيضا من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا بلفظ ‏"‏ الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام ‏"‏ وسنده ضعيف‏.‏
    وأخرجه الطبراني في الأوسط وقال‏:‏ لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد‏.‏
    وقد اشتهر هذا الكلام عن الشافعي‏.‏
    واقتصر ابن بطال على نسبته إليه فقصر، وعاب القرطبي المفسر على جماعة من الشافعية الاقتصار على نسبة ذلك للشافعي وقد شاركهم في ذلك ابن بطال وهو مالكي‏.‏
    أخرج الطبري من طريق ابن جريج قال‏:‏ سألت عطاء عن الحداء والشعر والغناء فقال‏:‏ لا بأس به ما لم يكن فحشا‏.‏
    وأخرج أبو داود من رواية صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن من البيان سحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيا‏.‏
    فقال صعصعة بن صوحان‏:‏ صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أما قوله‏:‏ ‏"‏ إن من البيان سحرا ‏"‏ فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق‏.‏
    وأما قوله‏:‏ ‏"‏ وإن من العلم جهلا ‏"‏ فيكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم فيجهل ذلك‏.‏
    وأما قوله‏:‏ ‏"‏ إن من الشعر حكما ‏"‏ فهي هذه المواعظ والأمثال التي يتعظ بها الناس‏.‏
    ل ابن بطال‏:‏ ما كان في الشعر والرجز ذكر الله تعالى وتعظيم له ووحدانيته وإيثار طاعته والاستسلام له فهو حسن مرغب فيه، وهو المراد في الحديث بأنه حكمة، وما كان كذبا وفحشا فهو مذموم‏.‏
    قال الطبري‏:‏ في هذا الحديث رد على من كره الشعر مطلقا واحتج بقول ابن مسعود ‏"‏ الشعر مزامير الشيطان ‏"‏ وعن مسروق أنه تمثل بأول بيت شعر ثم سكت، فقيل له فقال‏:‏ أخاف أن أجد في صحيفتي شعرا، وعن أبي أمامة رفعه ‏"‏ أن إبليس لما أهبط إلى الأرض قال‏:‏ رب اجعل لي قرآنا، قال قرآنك الشعر ‏"‏ ثم أجاب عن ذلك بأنها أخبار واهية، ‏.‏
    وهو كذلك، فحديث أبي أمامة فيه علي بن يزيد الهاني وهو ضعيف، وعلى تقدير قوتها فهو محمول على الإفراط فيه والإكثار منه كما سيأتي تقريره بعد باب، ويدل على الجواز سائر أحاديث الباب‏.‏
    وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ عن عمر بن الشريد عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏ استنشدني النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته حتى أنشدته مائة قافية‏"‏‏.

  6. #206
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم السابع /
    الموافق 28/ رجب / 1441 هجري
    الموافق 23/ مارس / 2020 ميلادي
    " ولا زلنا بارحين في البيوت بسبب الوباء المتفشي في الأمة التي أثرها منع الناس من الخروج "
    أسال الله أن يعفو عنا ويغفر ذنوبنا "
    في هذا اليوم انتهيت من تلخيص المجلد العاشر من كتاب " الأدب ل" فتح الباري " للحافظ ابن حجر رحمه الله
    ويليه كتاب " الاستئذان " المجلد الحادي عشر "
    أسال الله التوفيق والسداد



    .....
    (ج10/ ص666)
    وقد اختلف في جواز تمثل النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الشعر وإنشاده حاكيا عن غيره فالصحيح جوازه‏.‏
    وقد أخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ والترمذي وصححه والنسائي من رواية المقدام بن شريح عن أبيه ‏"‏ قلت لعائشة‏:‏ أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر‏؟‏ قالت‏:‏ كان يتمثل من شعر ابن رواحة‏:‏ ويأتيك بالأخبار من لم تزود ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة نحوه من حديث ابن عباس وأخرج أيضا من مرسل أبي جعفر الخطمي قال‏:‏ ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني المسجد وعبد الله بن رواحة يقول‏.‏
    أفلح من يعالج المساجدا‏.‏
    فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ابن رواحة‏:‏ يتلو القرآن قائما وقاعدا‏.‏
    فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وأما ما أخرجه الخطيب في التاريخ عن عائشة‏:‏ تفاءل بما تهوى تكن فلقلما يقال لشيء كان إلا تحققا قال‏:‏ وإنما لم يعربه لئلا يكون شعرا، فهو شيء لا يصح‏.‏
    وقال الماوردي‏:‏ اختلف فيه، فأباحه قوم مطلقا، ومنعه قوم مطلقا، وكرهه مالك والشافعي في أصح القولين، ونقل عن أبي حنيفة المنع، وكذا أكثر الحنابلة‏.‏
    ونقل ابن طاهر في ‏"‏ كتاب السماع ‏"‏ الجواز عن كثير من الصحابة، لكن لم يثبت من ذلك شيء إلا في النصب المشار إليه أولا‏.‏
    قال ابن عبد البر‏:‏ الغناء الممنوع ما فيه تمطيط وإفساد لوزن الشعر طلبا للطرب وخروجا من مذاهب العرب‏.‏
    وإنما وردت الرخصة في الضرب الأول دون ألحان العجم‏.‏
    وقال الماوردي‏:‏ هو الذي لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه من غير نكير إلا في حالتين‏:‏ أن يكثر منه جدا وأن يصحبه ما يمنعه منه‏.‏
    واحتج من أباحه بأن فيه ترويحا للنفس، فإن فعله ليقوى على الطاعة فهو مطيع أو على المعصية فهو عاص، وإلا فهو مثل التنزه في البستان والتفرج على المارة‏.‏
    وأطنب الغزالي في الاستدلال، ومحصله أن الحداء بالرجز والشعر لم يزل يفعل في الحضرة النبوية، وربما التمس ذلك، وليس هو إلا أشعار توزن بأصوات طيبة وألحان موزونة، وكذلك الغناء أشعار موزونة تؤدى بأصوات مستلذة وألحان موزونة‏.‏
    قال الخطابي‏:‏ كان أنجشة أسود وكان في سوقه عنف، فأمره أن يرفق بالمطايا‏.‏
    وقيل‏:‏ كان حسن الصوت بالحداء فكره أن تسمع النساء الحداء فإن حسن الصوت يحرك من النفوس، فشبه ضعف عزائمهن وسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في سرعة الكسر إليها‏.‏
    وجزم ابن بطال بالأول فقال‏:‏ القوارير كناية عن النساء اللاتي كن على الإبل التي تساق حينئذ، فأمر الحادي بالرفق في الحداء لأنه يحنث الإبل حتى تسرع فإذا أسرعت لم يؤمن على النساء السقوط، وإذا مشت رويدا أمن على النساء السقوط، قال‏:‏ وهذا من الاستعارة البديعة، لأن القوارير أسرع شيء تكسيرا، فأفادت الكناية من الحض على الرفق بالنساء في السير ما لم تفده الحقيقة لو قال أرفق بالنساء‏.‏
    وقال الطيبي‏:‏ هي استعارة لأن المشبه به غير مذكور، والقرينة حالية لا مقالية، ولفظ الكسر ترشيح لها‏.‏
    وجزم أبو عبيد الهروي بالثاني وقال‏:‏ شبه النساء بالقوارير لضعف عزائمهن، والقوارير يسرع إليها الكسر، فخشي من سماعهن النشيد الذي يحدو به أن يقع بقلوبهن منه، فأمره بالكف، فشبه عزائمهن بسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في إسراع الكسر إليها‏.‏
    ورجح عياض هذا الثاني فقال هذا أشبه بمساق الكلام، وهو الذي يدل عليه كلام أبي قلابة، وإلا فلو عبر عن السقوط بالكسر لم يعبه أحد‏.‏
    وجوز القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ الأمرين فقال‏:‏ شبههن بالقوارير لسرعة تأثرهن وعدم تجلدهن، فخاف عليهن من حث السير بسرعة السقوط أو التألم من كثرة الحركة والاضطراب الناشئ عن السرعة، أو خاف عليهن الفتنة من سماع النشيد‏.‏
    قلت‏:‏ والراجح عند البخاري الثاني، ولذلك أدخل هذا الحديث في ‏"‏ باب المعاريض
    قال ابن بطال‏:‏ فيه أن الشعر إذا اشتمل على ذكر الله والأعمال الصالحة كان حسنا ولم يدخل فيما ورد فيه الذم من الشعر‏.‏
    قال الكرماني‏:‏ في البيت الأول إشارة إلى علمه، وفي الثالث إلى عمله، وفي الثاني إلى تكميله غيره صلى الله عليه وسلم فهو كامل مكمل‏.‏
    (ج10/ ص 676)
    حديث أبي قلابة قال ‏"‏ قيل لأبي مسعود‏:‏ ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا‏؟‏ قال‏:‏ بئس مطيه الرجل ‏"‏ أخرجه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعا‏.‏
    وكأن البخاري أشار إلى ضعف هذا الحديث بإخراجه حديث أم هانئ وفيه قولها ‏"‏ زعم ابن أمي ‏"‏ فإن أم هانئ أطلقت ذلك في حق علي ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في زعم أنها تقال في الأمر الذي لا يوقف على حقيقته‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ معنى حديث أبي مسعود أن من أكثر من الحديث بما لا يتحقق صحته لم يؤمن عليه الكذب‏.‏
    وقال غيره‏:‏ كثر استعمال الزعم بمعنى القول، وقد وقع في حديث ضمام بن ثعلبة الماضي في كتاب العلم ‏"‏ زعم رسولك ‏"‏ وقد أكثر سيبويه في كتابه من قوله في أشياء يرتضيها ‏"‏ زعم الخليل‏"‏‏.‏
    (ج10/ ص 679)
    وقال الداودي ويل وويح وويس كلمات تقولها العرب عند الذم، قال‏:‏ وويح مأخوذ من الحزن وويس من الأسى وهو الحزن‏.‏
    وتعقبه ابن التين بأن أهل اللغة إنما قالوا ويل كلمة تقال عند الحزن، وأما قول ابن عرفة‏:‏ الويل الحزن فكأنه أخذه من أن الدعاء بالويل إنما يكون عند الحزن‏.‏
    والأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله هنا فيها ما اختلف الرواة في لفظه هل هي ويل أو ويح، وفيها ما تردد الراوي فقال ويل أو ويح، وفيها ما جزم فيه بأحدهما، ومجموعها يدل على أن كلا منهما كلمة توجع يعرف هل المراد الذم أو غيره من السياق، فإن في بعضها الجزم بويل وليس حمله على العذاب بظاهر‏.‏
    (ج10/ ص686)
    ‏المرء مع من أحب‏)‏ قد جمع أبو نعيم طرق هذا الحديث في جزء سماه ‏"‏ كتاب المحبين مع المحبوبين ‏"‏ وبلغ الصحابة فيه نحو العشرين‏.‏
    وفي رواية أكثرهم بهذا اللفظ، وفي بعضها بلفظ أنس
    (ج10/ 694)
    خيبة الدهر :
    وقال الداودي‏:‏ هو دعاء على الدهر بالخيبة وهو كقولهم قحط الله نوءها يدعون على الأرض بالقحط، وهي كلمة هذا أصلها ثم صارت تقال لكل مذموم
    وقال المحققون‏:‏ من نسب شيئا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكنه يكره له ذلك لشبهه بأهل الكفر في الإطلاق، وهو نحو التفصيل الماضي في قولهم‏:‏ مطرنا بكذا‏.‏
    وقال عياض‏:‏ زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط فإن الدهر مدة زمان الدنيا، وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا أو فعله لما قبل الموت، وقد تمسك الجهلة من الدهرية والمعطلة بظاهر هذا الحديث واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم، لأن الدهر عندهم حركات الفلك وأمد العالم ولا شيء عندهم ولا صانع سواه، وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث ‏"‏ أنا الدهر أقلب ليله ونهاره ‏"‏ فكيف يقلب الشيء نفسه‏؟‏ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ لا يخفى أن من سب الصنعة فقد سب صانعها، فمن سب نفس الليل والنهار أقدم على أمر عظيم بغير معنى، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس، وهو الذي يعطيه سياق الحديث حيث نفى عنهما التأثير، فكأنه قال‏:‏ لا ذنب لهما في ذلك، وأما الحوادث فمنها ما يجري بوساطة العاقل المكلف فهذا يضاف شرعا ولغة إلى الذي جرى على يديه، ويضاف إلى الله تعالى لكونه بتقديره، فأفعال العباد من أكسابهم، ولهذا ترتبت عليها الأحكام، وهي في الابتداء خلق الله‏.‏
    (ج10/ ص 697)
    باب قول الرجل جعلني الله فداك‏)‏ أي هل يباح أو يكره‏؟‏ وقد استوعب الأخبار الدالة على الجواز أبو بكر بن أبي عاصم في أول كتابه ‏"‏ آداب الحكماء ‏"‏ وجزم بجواز ذلك فقال‏:‏ للمرء أن يقول ذلك لسلطانه ولكبيره ولذوي العلم ولمن أحب من إخوانه غير محظور عليه ذلك، بل يثاب عليه إذا قصد توقيره واستعطافه، ولو كان ذلك محظورا لنهي النبي صلى الله عليه وسلم قائل ذلك ولأعلمه أن ذلك غير جائز أن يقال لأحد غيره‏.‏
    (ج10/ 699)
    قال القرطبي‏:‏ يلتحق بهذين الاسمين ما كان مثلهما كعبد الرحيم وعبد الملك وعبد الصمد، وإنما كانت أحب إلى الله لأنها تضمنت ما هو وصف واجب لله وما هو وصف للإنسان وواجب له وهو العبودية‏.‏
    ثم أضيف العبد إلى الرب إضافة حقيقية فصدقت أفراد هذه الأسماء وشرفت بهذا التركيب فحصلت لها هذه الفضيلة‏.‏
    وقال غيره‏:‏ الحكمة في الاقتصار على الاسمين أنه لم يقع في القرآن إضافة عبد إلى اسم من أسماء الله تعالى غيرهما، قال الله تعالى ‏(‏وأنه لما قام عبد الله يدعوه‏)‏ وقال في آية أخرى ‏(‏وعباد الرحمن‏)‏ ويؤيده قوله تعالى ‏(‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏)‏ وقد أخرج الطبراني من حديث أبي زهير الثقفي رفعه ‏"‏ إذا سميتم فعبدوا ‏"‏ ومن حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به ‏"‏ وفي إسناد كل منهما ضعف‏.‏
    (ج10/ ص 701)
    ل النووي‏:‏ اختلف في التكني بأبي القاسم على ثلاثة مذاهب‏:‏ الأول المنع مطلقا سواء كان اسمه محمدا أم لا، ثبت ذلك عن الشافعي‏.‏
    والثاني الجواز مطلقا، ويختص النهي بحياته صلى الله عليه وسلم‏.‏
    والثالث لا يجوز لمن اسمه محمد ويجوز لغيره‏.‏
    قال الرافعي‏:‏ يشبه أن يكون هذا هو الأصح، لأن الناس لم يزالوا يفعلونه في جميع الأعصار من غير إنكار‏.‏
    قال النووي‏:‏ هذا مخالف لظاهر الحديث، وأما إطباق الناس عليه ففيه تقوية للمذهب الثاني، وكأن مستندهم ما وقع في حديث أنس المشار إليه قبل ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان في السوق، فسمع رجلا يقول‏:‏ يا أبا القاسم، فالتفت إليه فقال‏:‏ لم أعنك، فقال‏:‏ سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي ‏"‏ قال ففهموا من النهي الاختصاص بحياته للسبب المذكور، وقد زال بعده صلى الله عليه وسلم‏.‏
    انتهى ملخصا‏.‏
    حكى الطبري مذهبا رابعا وهو المنع من التسمية بمحمد مطلقا، وكذا التكني بأبي القاسم مطلقا، ثم ساق من طريق سالم بن أبي الجعد ‏"‏ كتب عمر‏:‏ لا تسموا أحدا باسم نبي ‏"‏ واحتج لصاحب هذا القول بما أخرجه من طريق الحكم بن عطية عن ثابت عن أنس رفعه ‏"‏ يسمونهم محمدا ثم يلعنونهم ‏"‏ وهو حديث أخرجه البزار وأبو يعلي أيضا وسنده لين، قال عياض‏:‏ والأشبه أن عمر إنما فعل ذلك إعظاما لاسم النبي صلى الله عليه وسلم لئلا ينتهك‏.‏
    وقد كان سمع رجلا يقول لمحمد بن زيد بن الخطاب‏:‏ يا محمد فعل الله بك وفعل، فدعاه وقال‏:‏ لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسب بك فغير اسمه‏.‏
    ‏:‏ ووصله البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وأبو يعلى ولفظه ‏"‏ لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي ‏"‏ والترمذي من طريق الليث عنه ولفظه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته وقال‏:‏ أنا أبو القاسم، الله يعطي وأنا أقسم ‏"‏ قال أبو داود‏:‏ واختلف على عبد الرحمن بن أبي عمرة وعلى أبي زرعة بن عمرو وموسى بن يسار عن أبي هريرة على الوجهين قلت‏:‏ وحديث ابن أبي عمرة أخرجه أحمد وابن أبي شيبة من طريقه عن عمه رفعه ‏"‏ لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي ‏"‏ وأخرج الطبراني من حديث محمد بن فضالة قال ‏"‏ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن أسبوعين، فأتي بي إليه فمسح على رأسي وقال‏:‏ سموه باسمي ولا تكنوه بكنيتي ‏"‏ ورواية أبي زرعة عند أبي يعلى بلفظ ‏"‏ من تسمى باسمي فلا يكتني بكنيتي
    قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة بعد أن أشار إلى ترجيح المذهب الثالث من حيث الجواز‏:‏ لكن الأولى الأخذ بالمذهب الأول فإنه أبرأ للذمة وأعظم للحرمة، والله أعلم
    (ج10/ ص 704)
    قال ابن بطال‏:‏ فيه أن الأمر بتحسين الأسماء وبتغيير الاسم إلى أحسن منه ليس على الوجوب، وسيأتي مزيد لهذا في الباب الذي يليه‏.‏
    وقال ابن التين‏:‏ معنى قول ابن المسيب ‏"‏ فما زالت فينا الحزونة ‏"‏ يريد اتساع التسهيل صلى الله عليه وسلم فيما يريدونه‏.‏
    وقال الداودي‏:‏ يريد الصعوبة في أخلاقهم، إلا أن سعيدا أفضى به ذلك إلى الغضب في الله‏.‏
    وقال غيره‏:‏ يشير إلى الشدة التي بقيت في أخلاقهم‏.‏
    فقد ذكر أهل النسب أن في ولده سوء خلق معروف فيهم لا يكاد يعدم منهم‏.‏
    ‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قال الكرماني هنا‏:‏ قالوا لم يرو عن المسيب بن حزن - وهو وأبوه صحابيان - إلا ابنه سعيد بن المسيب، وهذا خلاف المشهور من شرط البخاري أنه لم يرو عن واحد ليس له إلا راو واحد‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا المشهور راجع إلى غرابته، وذلك أنه لم يذعه إلا الحاكم ومن تلقى كلامه، وأما المحققون فلم يلتزموا ذلك، وحجتهم أن ذلك لم ينقل عن البخاري صريحا، وقد وجد عمله على خلافه في عدة مواضع‏:‏ منها ‏"‏ هذا فلان يعتد به ‏"‏ وقد قررت ذلك في ‏"‏ النكت على علوم الحديث ‏"‏ وعلى تقدير تسليم الشرط المذكور، فالجواب عن هذا الموضع أن الشرط المذكور إنما هو في غير الصحابة، وأما الصحابة فكلهم عدول فلا يقال في واحد منهم بعد أن ثبتت صحبته مجهول، وإن وقع ذلك في كلام بعضهم فهو مرجوح، ويحتاج من ادعى الشرط في بقية المواضع إلى الأجوبة‏.‏
    (ج10/ ص 706)
    فأخرج مسلم وأبو داود والمصنف في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ كان اسم جويرية بنت الحارث برة، فحول النبي صلى الله عليه وسلم اسمها فسماها جويرية، كره أن يقول خرج من عند برة‏"‏‏.‏
    (ج10/ ص 707)
    قاعدة الشافعي أن المرسل إذا جاء موصولا من وجه آخر تبين صحة مخرج المرسل، وقاعدة البخاري أن الاختلاف في الوصل والإرسال لا يقدح المرسل في الموصول إذا كان الواصل أحفظ من المرسل، كالذي هنا فإن الزهري أحفظ من عبد الحميد، قال الطبري لا تنبغي التسمية باسم قبيح المعنى، ولا باسم يقتضي التزكية له، ولا باسم معناه السب‏.‏
    (ج10/ ص 708)
    وقد ورد الأمر بتحسين الأسماء، وذلك فيما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان من حديث أبي الدرداء رفعه ‏"‏ إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم ‏"‏ ورجاله ثقات، إلا أن في سنده انقطاعا بين عبد الله بن أبي زكريا راويه عن أبي الدرداء ‏[‏وأبي الدرداء‏]‏ فإنه لم يدركه، قال أبو داود‏:‏ وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم العاص وعتلة
    عتلة هو عتبة بن عبد السلمي، وشيطان هو عبد الله، وغراب هو مسلم أبو رايطة، وحباب هو عبد الله بن عبد الله بن أبي، وشهاب هو هشام بن عامر الأنصاري، وحرب هو الحسن بن علي سماه علي أولا حربا، وأسانيدها مبينة في كتابي في الصحابة‏.‏
    (ج10/ 710)
    وروى أحمد وابن منده من طريق السدي ‏"‏ سألت أنسا كم بلغ إبراهيم‏؟‏ قال كان قد ملأ المهد، ولو بقي لكان نبيا، ولكن لم يكن ليبقى، لأن نبيكم آخر الأنبياء ‏"‏ ولفظ أحمد ‏"‏ لو عاش إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم لكان صديقا نبيا ‏"‏ ولم يذكر القصة فهذه عدة أحاديث صحيحة عن هؤلاء الصحابة أنهم أطلقوا ذلك، فلا أدري ما الذي حمل النووي في ترجمة إبراهيم المذكور من كتاب تهذيب الأسماء واللغات على استنكار ذلك ومبالغته حيث قال‏:‏ هو باطل، وجسارة في الكلام على المغيبات، ومجازفة وهجوم على عظيم من الزلل‏.‏
    (ج10/ ص 711)
    رد في كراهية هذا الاسم حديث أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمي الرجل عبده أو ولده حربا أو مرة أو وليدا ‏"‏ الحديث وسنده ضعيف جدا، وورد فيه أيضا حديث آخر مرسل أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه والبيهقي في ‏"‏ الدلائل ‏"
    ن سعيد بن المسيب قال ‏"‏ ولد لأخي أم سلمة ولد فسماه الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ سميتموه بأسماء فراعنتكم، ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد هو أشر على هذه الأمة من فرعون لقومه ‏"‏ قال الوليد بن مسلم في روايته قال الأوزاعي‏:‏ فكانوا يرونه الوليد بن عبد الملك‏.‏
    ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد لفتنة الناس به حين خرجوا عليه فقتلوه وانفتحت الفتن على الأمة بسبب ذلك وكثر فيهم القتل‏.‏
    من شواهد الحديث ما أخرجه الطبراني أيضا من حديث معاذ بن جبل قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر حديثا فيه قال ‏"‏ الوليد اسم فرعون هادم شرائع الإسلام، يبوء بدمه رجل من أهل بيته ‏"‏ وأسكن سنده ضعيف جدا‏.
    (ج10/ ص 715)
    قال العلماء‏:‏ كانوا يكنون الصبي تفاؤلا بأنه سيعيش حتى يولد له، وللأمن من التلقيب، لأن الغالب أن من يذكر شخصا فيعظمه أن لا يذكره باسمه الخاص به فإذا كانت له كنية أمن من تلقيبه، ولهذا قال قائلهم‏:‏ بادروا أبناءكم بالكنى قبل أن تغلب عليها الألقاب‏.‏
    وقالوا‏:‏ الكنية للعرب كاللقب للعجم، ومن ثم كره للشخص أن يكني نفسه إلا إن قصد التعريف‏.‏
    (ج10/ ص 717)
    في هذا الحديث عدة فوائد جمعها أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاص الفقيه الشافعي صاحب التصانيف في جزء مفرد، بعد أن أخرجه من وجهين عن شعبة عن أبي التياح، ومن وجهين عن حميد عن أنس، ومن طريق محمد بن سيرين، وقد جمعت في هذا الموضع طرقه وتتبعت ما في رواية كل منهم من فائدة زائدة‏.‏
    وذكر ابن القاص في أول كتابه أن بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فائدة فيها، ومثل ذلك بحديث أبي عمير هذا قال‏:‏ وما درى أن في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستين وجها‏.‏
    ثم ساقها مبسوطة، فلخصتها مستوفيا مقاصده، ثم أتبعته بما تيسر من الزوائد عليه فقال‏:‏ فيه استحباب التأني في المشي، وزيارة الإخوان، وجواز زيارة الرجل للمرأة الأجنبية إذا لم تكن شابة وأمنت الفتنة، وتخصيص الإمام بعض الرعية بالزيارة، ومخالطة بعض الرعية دون بعض، ومشي الحاكم وحده، وأن كثرة الزيارة لا تنقص المودة، وأن قوله ‏"‏ زر غبا تزدد حبا ‏"‏ مخصوص بمن يزور لطمع، وأن النهي عن كثرة مخالطة الناس مخصوص بمن يخشى الفتنة أو الضرر‏.‏
    فيه جواز تكنية من لم يولد له، وجواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه، وقص جناح الطير إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد منهما وأيهما كان الواقع التحق به الآخر في الحكم‏.‏
    وفيه جواز إدخال الصيد من الحل إلى الحرم وإمساكه بعد إدخاله، خلافا لمن منع من إمساكه وقاسه على من صاد ثم أحرم فإنه يجب عليه الإرسال‏.‏
    وفيه جواز تصغير الاسم ولو كان لحيوان، وجواز مواجهة الصغير بالخطاب خلافا لمن قال‏:‏ الحكيم لا يواجه بالخطاب إلا من يعقل ويفهم، قال‏:‏ والصواب الجواز حيث لا يكون هناك طلب جواب، ومن ثم لم يخاطبه في السؤال عن حاله بل سأل غيره‏.‏
    قد سبق إلى التنبيه على فوائد قصة أبي عمير بخصوصها من القدماء أبو حاتم الرازي أحد أئمة الحديث وشيوخ أصحاب السنن، ثم تلاه الترمذي في ‏"‏ الشمائل ‏"‏ ثم تلاه الخطابي، وجميع ما ذكروه يقرب من عشرة فوائد فقط، وقد ساق شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ ما ذكره ابن القاص بتمامه ثم قال‏:‏ ومن هذه الأوجه ما هو واضح، ومنها الخفي، ومنها المتعسف‏.‏
    قال‏:‏ والفوائد التي ذكرها آخرا وأكمل بها الستين هي من فائدة جمع طرق الحديث لا من خصوص هذا الحديث‏.‏
    وقد بقي من فوائد هذا الحديث أن بعض المالكية والخطابي من الشافعية استدلوا به على أن صيد المدينة لا يحرم، وتعقب باحتمال ما قاله ابن القاص أنه صيد في الحل ثم أدخل الحرم فلذلك أبيح إمساكه، وبهذا أجاب مالك في ‏"‏ المدونة ‏"‏ ونقله ابن المنذر عن أحمد والكوفيين، ولا يلزم منه أن حرم المدينة لا يحرم صيده‏.‏
    من الفوائد التي لم يذكرها ابن القاص ولا غيره في قصة أبي عمير أن عند أحمد في آخر رواية عمارة بن زاذان عن ثابت عن أنس ‏"‏ فمرض الصبي فهلك ‏"‏ فذكر الحديث في قصة موته وما وقع لأم سليم من كتمان ذلك عن أبي طلحة حتى نام معها، ثم أخبرته لما أصبح فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فدعا لهم فحملت ثم وضعت غلاما، فأحضره أنس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله
    وقد جزم الدمياطي في ‏"‏ أنساب الخزرج ‏"‏ بأن أبا عمير مات صغيرا وقال ابن الأثير في ترجمته في الصحابة‏:‏ لعله الغلام الذي جرى لأم سليم وأبي طلحة في أمره ما جرى، وكأنه لم يستحضر رواية عمارة بن زاذان المصرحة بذلك فذكره احتمالا، ولم أر عند من ذكر أبا عمير في الصحابة له غير قصة النغير، ولا ذكروا له اسما، بل جزم بعض الشراح بأن اسمه كنيته، فعلى هذا يكون ذلك من فوائد هذا الحديث، وهو جعل الاسم المصدر بأب أو أم اسما علما من غير أن يكون له اسم غيره، لكن قد يؤخذ من قول أنس في رواية ربعي بن عبد الله ‏"‏ يكنى أبا عمير ‏"‏ أن له اسما غير كنيته‏.‏
    ومن النوادر التي تتعلق بقصة أبي عمير ما أخرجه الحاكم في ‏"‏ علوم الحديث ‏"‏ عن أبي حاتم الرازي أنه قال‏:‏ حفظ الله أخانا صالح بن محمد - يعني الحافظ الملقب جزرة - فإنه لا يزال يبسطنا غائبا وحاضرا، كتب إلي أنه لما مات الذهلي - يعني بنيسابور - أجلسوا شيخا لهم يقال له محمش فأملى عليهم حديث أنس هذا فقال‏:‏ يا أبا عمير ما فعل البعير‏؟‏ قاله بفتح عين عمير بوزن عظيم وقال بموحدة مفتوحة بدل النون وأهمل العين بوزن الأول فصحف الاسمين معا‏.‏
    قلت‏:‏ ومحمش هذا لقب وهو بفتح الميم الأولى وكسر الثانية بينهما حاء مهملة ساكنة وآخره معجمة، واسمه محمد بن يزيد بن عبد الله النيسابوري السلمي ذكره ابن حبان في الثقات وقال‏:‏ روى عن يزيد بن هارون وغيره وكانت فيه دعابة
    (ج10/ ص 720)
    جواز تكنية الشخص بأكثر من كنية، والتلقيب بلفظ الكنية وبما يشتق من حال الشخص، وأن اللقب إذا صدر من الكبير في حق الصغير تلقاه بالقبول ولو لم يكن لفظه لفظ مدح، وأن من حمل ذلك على التنقيص لا يلتفت إليه، وهو كما كان أهل الشام ينتقصون ابن الزبير بزعمهم حيث يقولون له‏:‏ ابن ذات النطاقين، فيقول ‏"‏ تلك شكاة ظاهر عنك عارها ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ وفيه أن أهل الفضل قد يقع بين الكبير منهم وبين زوجته ما طبع عليه البشر من الغضب، وقد يدعوه ذلك إلى الخروج من بيته ولا يعاب عليه‏.‏
    قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون سبب خروج علي خشية أن يبدو منه في حالة الغضب ما لا يليق بجناب فاطمة رضي الله عنهما فحسم مادة الكلام بذلك إلى أن تسكن فورة الغضب من كل منهما‏.‏
    وفيه كرم خلق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه توجه نحو علي ليترضاه، ومسح التراب عن ظهره ليبسطه، وداعبه بالكنية المذكورة المأخوذة من حالته، ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عنده، فيؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار وترك معاتبتهم إبقاء لمودتهم، لأن العتاب إنما يخشى ممن يخشى منه الحقد لا ممن هو منزه عن ذلك‏
    قد ذكر ابن إسحاق عقب القصة المذكورة قال ‏"‏ حدثني بعض أهل العلم أن عليا كان إذا غضب على فاطمة في شيء لم يكلمها، بل كان يأخذ ترابا فيضعه على رأسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ذلك عرف فيقول‏:‏ مالك يا أبا تراب‏؟‏ ‏"‏ فهذا سبب آخر يقوي التعدد، والمعتمد في ذلك كله حديث سهل في الباب والله أعلم‏.‏
    ونقل ابن التين عن الداودي قال‏:‏ ورد في بعض الأحاديث ‏"‏ أبغض الأسماء إلى الله خالد ومالك ‏"‏ قال‏:‏ وما أراه محفوظا لأن في الصحابة من تسمى بهما، قال‏:‏ وفي القرآن تسمية خازن النار مالكا قال‏:‏ والعباد وإن كانوا يموتون فإن الأرواح لا تفنى، انتهى كلامه‏.‏
    فأما الحديث الذي أشار إليه فما وقفت عليه بعد البحث، ثم رأيت في ترجمة إبراهيم بن الفضل المدني أحد الضعفاء من مناكيره عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ أحب الأسماء إلى الله ما سمي به، وأصدقها الحارث وهمام، وأكذب الأسماء خالد ومالك، وأبغضها إلى الله ما سمي لغيره ‏"‏ فلم يضبط الداودي لفظ المتن، أو هو متن آخر اطلع عليه‏.‏
    وأما استدلاله على ضعفه بما ذكر من تسمية بعض الصحابة وبعض الملائكة فليس بواضح، لاحتمال اختصاص المنع بمن لا يملك شيئا‏.‏
    هل يلتحق به من تسمى قاضي القضاة أو حاكم الحكام‏؟‏ اختلف العلماء في ذلك فقال الزمخشري في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏أحكم الحاكمين‏)‏ ‏:‏ أي أعدل الحكام وأعلمهم، إذ لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل، قال‏:‏ ورب غريق في الجهل والجور من مقلدي زماننا قد لقب أقضى القضاة ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر، وتعقبه ابن المنير بحديث ‏"‏ أقضاكم علي ‏
    ومن النوادر أن القاضي عز الدين ابن جماعة قال إنه رأى أباه في المنام فسأله عن حاله فقال‏:‏ ما كان علي أضر من هذا الاسم، فأمر الموقعين أن لا يكتبوا له في السجلات قاضي القضاة بل قاضي المسلمين، وفهم من قول أبيه أنه أشار إلى هذه التسمية مع احتمال أنه أشار إلى الوظيفة، بل هو الذي يترجح عندي، فإن التسمية بقاضي القضاة وجدت في العصر القديم من عهد أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وقد منع الماوردي من جواز تلقيب الملك الذي كان في عصره بملك الملوك مع أن الماوردي كان يقال له أقضى القضاة، وكأن وجه التفرقة بينهما الوقوف مع الخبر وظهور إرادة العهد الزماني في القضاة‏.‏
    وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ يلتحق بملك الأملاك قاضي القضاة وإن كان اشتهر في بلاد الشرق من قديم الزمان إطلاق ذلك على كبير القضاة، وقد سلم أهل المغرب من ذلك فاسم كبير القضاة عندهم قاضي الجماعة، قال‏:‏ وفي الحديث مشروعية الأدب في كل شيء، لأن الزجر عن ملك الأملاك والوعيد عليه يقتضي المنع منه مطلقا، سواء أراد من تسمى بذلك أنه ملك على ملوك الأرض أم على بعضها، سواء كان محقا في ذلك أم مبطلا، مع أنه لا يخفى الفرق بين من قصد ذلك وكان فيه صادقا ومن قصده وكان فيه كاذبا‏.‏
    وإذا ذكر قيصر وأنه لقب لكل من ملك الروم فقد شاركه في ذلك جماعة من الملوك ككسرى لملك الفرس، وخاقان لملك الترك، والنجاشي لملك الحبشة، وتبع لملك اليمن، وبطليوس لملك اليونان، والقطنون لملك اليهود وهذا في القديم ثم صار يقال له رأس الجالوت، ونمرود لملك الصابئة، ودهمي لملك الهند، وقور لملك السند، ويعبور لملك الصين، وذو يزن وغيره من الأذواء لملك حمير، وهياج لملك الزنج، وزنبيل لملك الخزر، وشاه أرمن لملك أخلاط، وكابل لملك النوبة، والأفشين لملك فرغانة وأسروسنة، وفرعون لملك مصر، والعزيز لمن ضم إليها الإسكندرية، وجالوت لملك العمالقة ثم البربر، والنعمان لملك الغرب من قبل الفرس، نقل أكثر هذا الفصل من السيرة لمغلطاي وفي بعضه نظر‏.‏
    (ج10/ ص 730)
    قال ابن التين‏:‏ غرض البخاري الرد على من كره أن يرفع بصره إلى السماء كما أخرجه الطبري عن إبراهيم التيمي وعن عطاء السلمي أنه مكث أربعين سنة لا ينظر إلى السماء تخشعا‏.‏
    نعم صح النهي عن رفع البصر إلى السماء في حالة الصلاة كما تقدم في الصلاة عن أنس رفعه ‏"‏ ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال‏:‏ لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم ‏"‏ ولمسلم عن جابر بن سمرة نحوه، ولابن ماجه عن ابن عمر نحوه وقال‏:‏ ‏"‏ أن تلتمع ‏"‏ وصححه ابن حبان‏.‏
    وحاصل طريق الجمع بين الحديثين أن النهي خاص بحالة الصلاة، وقد تكلم أهل التفسير في تخصيص الإبل بالذكر دون غيرها من الدواب بأشياء امتازت به، وذكر بعضهم أنه اسم السحاب، فإن ثبت فمناسبتها للسماء والأرض ظاهرة، فكأنه ذكر شيئين من الأفق العلوي وشيئين من الأفق السفلي في كل منهما ما يعتبر به من وفقه الله تعالى إلى الحق‏.‏
    (ج10/ ص 733)
    وقد وردت عدة أحاديث صحيحة في قول ‏"‏ سبحان الله ‏"‏ عند التعجب كحديث أبي هريرة ‏"‏ لقيني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جنب ‏"‏ وفيه فقال ‏"‏ سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس ‏"‏ متفق عليه‏.‏
    وحديث عائشة ‏"‏ أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض ‏"‏ وفيه ‏"‏ قال تطهري بها، قالت‏.‏
    كيف‏؟‏ قال‏:‏ سبحان الله ‏"‏ الحديث متفق عليه‏.‏
    وعند مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة المرأة التي نذرت أن تنحر ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فقال سبحان الله بئسما جزيتها ‏"‏ وكلاهما من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين أيضا من قول جماعة من الصحابة كحديث عبد الله بن سلام لما قيل له إنك من أهل الجنة قال‏:‏ سبحان الله‏.‏
    ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم‏.‏
    (ج10/ ص 735)
    (‏باب الحمد للعاطس‏)‏ أي مشروعيته‏.‏
    وظاهر الحديث يقتضي وجوبه لثبوت الأمر الصريح به، ولكن نقل النووي الاتفاق على استحبابه، وأما لفظه فنقل ابن بطال وغيره عن طائفة أنه لا يزيد على الحمد لله كما في حديث أبي هريرة الآتي بعد بابين، وعن طائفة يقول الحمد لله على كل حال‏.‏
    قال وقد جاء النهي عن ابن عمر وقال فيه‏:‏ هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه البزار والطبراني، وأصله عند الترمذي وعند الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري رفعه ‏"‏ إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال ‏"‏ ومثله عند أبي داود من حديث أبي هريرة
    لا أصل لما اعتاده كثير من الناس من استكمال قراءة الفاتحة بعد قوله الحمد لله رب العالمين، وكذا العدول من الحمد إلى أشهد أن لا إله إلا الله أو تقديمها على الحمد فمكروه، وقد أخرج المصنف في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ بسند صحيح عن مجاهد ‏"‏ أن ابن عمر سمع ابنه عطس فقال أب، فقال‏:‏ وما أب‏؟‏ إن الشيطان جعلها بين العطسة والحمد ‏"‏ وأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ اش بدل أب‏.‏
    ونقل ابن بطال عن الطبراني أن العاطس يتخير بين أن يقول الحمد لله أو يزيد رب العالمين أو على كل حال، والذي يتحرر من الأدلة أن كل ذلك مجزئ، لكن ما كان أكثر ثناء أفضل بشرط أن يكون مأثورا‏.‏
    وقال النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏ اتفق العلماء على أنه يستحب للعاطس أن يقول عقب عطاسه الحمد لله، ولو قال الحمد لله رب العالمين لكان أحسن، فلو قال الحمد لله على كل حال كان أفضل، كذا قال، والأخبار التي ذكرتها تقتضي التخيير ثم الأولوية كما تقدم والله أعلم‏.‏
    لا أصل لما اعتاده كثير من الناس من استكمال قراءة الفاتحة بعد قوله الحمد لله رب العالمين، وكذا العدول من الحمد إلى أشهد أن لا إله إلا الله أو تقديمها على الحمد فمكروه، وقد أخرج المصنف في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ بسند صحيح عن مجاهد ‏"‏ أن ابن عمر سمع ابنه عطس فقال أب، فقال‏:‏ وما أب‏؟‏ إن الشيطان جعلها بين العطسة والحمد ‏"‏ وأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ اش بدل أب‏.‏
    ونقل ابن بطال عن الطبراني أن العاطس يتخير بين أن يقول الحمد لله أو يزيد رب العالمين أو على كل حال، والذي يتحرر من الأدلة أن كل ذلك مجزئ، لكن ما كان أكثر ثناء أفضل بشرط أن يكون مأثورا‏.‏
    وقال النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏ اتفق العلماء على أنه يستحب للعاطس أن يقول عقب عطاسه الحمد لله، ولو قال الحمد لله رب العالمين لكان أحسن، فلو قال الحمد لله على كل حال كان أفضل، كذا قال، والأخبار التي ذكرتها تقتضي التخيير ثم الأولوية كما تقدم والله أعلم‏.‏
    ال الحليمي‏:‏ الحكمة في مشروعية الحمد للعاطس أن العطاس يدفع الأذى من الدماغ الذي فيه قوة الفكر، ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحس وبسلامته تسلم الأعضاء، فيظهر بهذا أنها نعمة جليلة فناسب أن تقابل بالحمد لله لما فيه من الإقرار بالله بالخلق والقدرة وإضافة الخلق إليه لا إلى الطبائع ا هـ‏.‏
    وهذا بعض ما ادعى ابن العربي أنه انفرد به فيحتمل أنه لم يطلع عليه، وفي الحديث أن التشميت إنما يشرع لمن حمد الله، قال ابن العربي‏:‏ وهو مجمع عليه، وسيأتي تقريره في الباب الذي بعده، وفيه جواز السؤال عن علة الحكم وبيانها للسائل ولا سيما إذ كان له في ذلك منفعة، وفيه أن العاطس إذا لم يحمد الله لا يلقن الحمد ليحمد فيشمت، كذا استدل به بعضهم وفيه نظر،
    من آداب العاطس أن يخفض بالعطس صوته ويرفعه بالحمد، وأن يغطي وجهه لئلا يبدو من فيه أو أنفه ما يؤذي جليسه، ولا يلوي عنقه يمينا ولا شمالا لئلا يتضرر بذلك‏.‏
    قال ابن العربي‏:‏ الحكمة في خفض الصوت بالعطاس أن في رفعه إزعاجا للأعضاء، وفي تغطية الوجه أنه لو بدر منه شيء آذى جليسه، ولو لوى عنقه صيانة لجليسه لم يأمن من الالتواء، وقد شاهدنا من وقع له ذلك‏.‏
    وقد أخرج أبو داود والترمذي بسند جيد عن أبي هريرة قال ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده على فيه وخفض صوته ‏"‏ وله شاهد من حديث ابن عمر بنحوه عند الطبراني، قال ابن دقيق العيد‏:‏ ومن فوائد التشميت تحصيل المودة والتأليف بين المسلمين، وتأديب العاطس بكسر النفس عن الكبر، والحمل على التواضع، لما في ذكر الرحمة من الإشعار بالذنب الذي لا يعرى عنه أكثر المكلفين‏.‏
    (ج10/ 739)
    وقال ابن أبي جمرة‏:‏ قال جماعة من علمائنا إنه فرض عين، وقواه ابن القيم في حواشي السنن فقال‏:‏ جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ ‏"‏ الحق ‏"‏ الدال عليه، وبلفظ ‏"‏ على ‏"‏ الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابي ‏"‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء‏.‏
    وذهب آخرون إلى أنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجحه أبو الوليد بن رشيد وأبو بكر بن العربي وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة وذهب عبد الوهاب وجماعة من المالكية إلى أنه مستحب، ويجزئ الواحد عن الجماعة وهو قول الشافعية، والراجح من حيث الدليل القول الثاني، والأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس وإن ورد في عموم المكلفين ففرض الكفاية يخاطب به الجميع على الأصح ويسقط بفعل البعض، وأما من قال إنه فرض على مبهم فإنه ينافي كونه فرض عين‏.‏
    الكافر فقد أخرج أبو داود وصححه الحاكم من حديث أبي موسى الأشعري قال ‏"‏ كانت اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول يرحمكم الله فكان يقول يهديكم الله ويصلح بالكم ‏"‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ إذا نظرنا إلى قول من قال من أهل اللغة إن التشميت الدعاء بالخير دخل الكفار في عموم الأمر بالتشميت، وإذا نظرنا إلى من خص التشميت بالرحمة لم يدخلوا قال‏:‏ ولعل من خص التشميت بالدعاء بالرحمة بناه على الغالب لأنه تقييد لوضع اللفظ في اللغة‏.‏
    الثالث المزكوم إذا تكرر منه العطاس فزاد على الثلاث فإن ظاهر الأمر بالتشميت يشمل من عطس واحدة أو أكثر لكن أخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من طريق محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال ‏"‏ يشمته واحدة وثنتين وثلاثا، وما كان بعد ذلك فهو زكام ‏"‏ هكذا أخرجه موقوفا من رواية سفيان بن عيينة عنه، وأخرجه أبو داود من طريق يحيى القطان عن ابن عجلان كذلك ولفظه ‏"‏ شمت أخاك ‏"‏ وأخرجه من رواية الليث عن ابن عجلان وقال فيه ‏"‏ لا أعلمه إلا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قال أبو داود‏:‏ ورفعه موسى بن قيس عن ابن عجلان أيضا‏.‏
    ل النووي‏:‏ وأما الذي رويناه في سنن أبي داود والترمذي عن عبيد بن رفاعة الصحابي قال ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يشمت العاطس ثلاثا فإن زاد فإن شئت فشمته وإن شئت فلا ‏"‏ فهو حديث ضعيف قال فيه الترمذي‏:‏ هذا الحديث غريب، وإسناده مجهول‏.‏
    قلت‏:‏ إطلاقه عليه الضعف ليس بجيد، إذا لا يلزم من الغرابة الضعف، وأما وصف الترمذي إسناده بكونه مجهولا فلم يرد جميع رجال الإسناد فإن معظمهم موثقون، وإنما وقع في روايته تغيير اسم بعض رواته وإبهام اثنين منهم، وذلك أن أبا داود والترمذي أخرجاه معا من طريق عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن، ثم اختلفا‏
    م حكى النووي عن ابن العربي أن العلماء اختلفوا هل يقول لمن تتابع عطاسه أنت مزكوم في الثانية أو الثالثة أو الرابعة‏؟‏ على أقوال، والصحيح في الثالثة قال‏:‏ ومعناه إنك لست ممن يشمت بعدها لأن الذي بك مرض وليس من العطاس المحمود الناشئ عن خفة البدن
    الرابع ممن يخص من عموم العاطسين من يكره التشميت، قال ابن دقيق العيد‏:‏ ذهب بعض أهل العلم إلى أن من عرف من حاله أنه يكره التشميت أنه لا يشمت إجلالا للتشميت أن يؤهل له من يكرهه فإن قيل‏:‏ كيف يترك السنة لذلك‏؟‏ قلنا‏:‏ هي سنة لمن أحبها، فأما من كرهها ورغب عنها فلا‏.‏
    قال‏:‏ ويطرد ذلك في السلام والعيادة‏.‏
    قال ابن دقيق العيد‏:‏ والذي عندي أنه لا يمتنع من ذلك إلا من خاف منه ضررا، فأما غيره فيشمت امتثالا للأمر ومناقضة للمتكبر في مراده وكسرا لسورته في ذلك، وهو أولى من إجلال التشميت‏.‏
    الخامس قال ابن دقيق العيد يستثنى أيضا من عطس والإمام يخطب، فإنه يتعارض الأمر بتشميت من سمع العاطس والأمر بالإنصات لمن سمع الخطيب، والراجح الإنصات لإمكان تدارك التشميت بعد فراغ الخطيب ولا سيما إن قيل بتحريم الكلام والإمام يخطب، وعلى هذا فهل يتعين تأخير التشميت حتى يفرغ الخطيب أو يشرع له التشميت بالإشارة‏؟‏ فلو كان العاطس الخطيب فحمد واستمر في خطبته فالحكم كذلك وإن حمد فوقف قليلا ليشمت فلا يمتنع أن يشرع تشميته‏.‏
    السادس ممن يمكن أن يستثنى من كان عند عطاسه في حالة يمتنع عليه فيها ذكر الله، كما إذا كان على الخلاء أو في الجماعة فيؤخر ثم يحمد الله فيشمت، فلو خالف فحمد في تلك الحالة هل يستحق التشميت وفيه نظر ؟



    ز
    ‏(ج10/ ص 743)
    وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ عن مكحول الأزدي ‏"‏ كنت إلى جنب ابن عمر فعطس رجل من ناحية المسجد فقال ابن عمر يرحمك الله إن كنت حمدت الله ‏"‏ واستدل به على أن التشميت إنما يشرع لمن سمع العاطس وسمع حمده، فلو سمع من يشمت غيره ولم يسمع هو عطاسه ولا حمده هل يشرع له تشميته‏؟
    نعم يفرق بين أن يكون في قراءة الفاتحة أو غيرها من أجل اشتراط الموالاة في قراءتها، وجزم ابن العربي من المالكية بأن العاطس في الصلاة يحمد في نفسه، ونقل عن سحنون أنه لا يحمد حتى يفرغ وتعقبه بأنه غلو‏.
    ‏وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ بسند صحيح عن أبي جمرة بالجيم ‏"‏ سمعت ابن عباس إذا شمت يقول‏:‏ عافانا الله وإياكم من النار، يرحمكم الله ‏"‏ وفي الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه ‏"‏ كان إذا عطس فقيل له‏:‏ يرحمك الله، قال‏:‏ يرحمنا الله وإياكم ويغفر الله لنا ولكم ‏"‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ ظاهر الحديث أن السنة لا تتأدى إلا بالمخاطبة، وأما ما اعتاده كثير من الناس من قولهم للرئيس يرحم الله سيدنا فخلاف السنة، وبلغني عن بعض الفضلاء أنه شمت رئيسا فقال له يرحمك الله يا سيدنا فجمع الأمرين وهو حسن‏.‏
    أن حديث أبي هريرة في جواب التشميت وحديث أبي موسى في التشميت نفسه، وأما ما أخرجه البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ عن ابن عمر قال‏:‏ اجتمع اليهود والمسلمون فعطس النبي صلى الله عليه وسلم فشمته الفريقان جميعا فقال للمسلمين‏:‏ يغفر الله لكم ويرحمنا وإياكم‏.‏
    وقال لليهود‏:‏ يهديكم الله ويصلح بالكم‏.‏
    فقال‏:‏ تفرد به عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد عن أبيه عن نافع، وعبد الله ضعيف‏.‏
    (ج10/ ص 746)
    وقال الحليمي‏:‏ أنواع البلاء والآفات كلها مؤاخذات، وإنما المؤاخذة عن ذنب، فإذا حصل الذنب مغفورا وأدركت العبد الرحمة لم تقع المؤاخذة، فإذا قيل للعاطس‏:‏ يرحمك الله، فمعناه جعل الله لك ذلك لتدوم لك السلامة‏.‏
    وفيه إشارة إلى تنبيه العاطس على طلب الرحمة والتوبة من الذنب، ومن ثم شرع له الجواب بقوله ‏"‏ غفر الله لنا ولكم‏"‏‏.‏
    قوله‏:‏ ‏(‏بالكم شأنكم‏)‏ قال أبو عبيدة في معنى قوله تعالى ‏(‏سيهديهم ويصلح بالهم‏)‏ أي شأنهم‏.‏
    (ج10/ ص 747)
    وقد أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث سالم بن عبيد الأشجعي قال‏:‏ ‏"‏ عطس رجل فقال السلام عليكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عليك وعلى أمك‏.‏
    وقال‏:‏ إذا عطس أحدكم فليحمد الله ‏"‏ واستدل به على أنه يشرع التشميت لمن حمد إذا عرف السامع أنه حمد الله وإن لم يسمعه، كما لو سمع العطسة ولم يسمع الحمد بل سمع من شمت ذلك العاطس فإنه يشرع له التشميت لعموم الأمر به لمن عطس فحمد‏.‏
    وقال النووي‏:‏ المختار أنه يشمته من سمعه دون غيره، وحكى ابن العربي اختلافا فيه ورجح أنه يشمته‏.‏
    قلت‏:‏ وكذا نقله ابن بطال وغيره عن مالك، واستثنى ابن دقيق العيد من علم أن الذين عند العاطس جهلة لا يفرقون بين تشميت من حمد وبين من لم يحمد، والتشميت متوقف على من علم أنه حمد فيمتنع تشميت هذا ولو شمته من عنده لأنه لا يعلم هل حمد أو لا، فإن عطس وحمد ولم يشمته أحد فسمعه من بعد عنه استحب له أن يشمته حين يسمعه‏.‏
    وقد أخرج ابن عبد البر بسند جيد عن أبي داود صاحب السنن إن كان في سفينة فسمع عاطسا على الشط حمد فاكترى قاربا بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمته ثم رجع، فسئل عن ذلك فقال‏:‏ لعله يكون مجاب الدعوة، فلما رقدوا سمعوا قائلا يقول‏:‏ يا أهل السفينة إن أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم‏.‏
    قال النووي‏:‏ ويستحب لمن حضر من عطس فلم يحمد أن يذكره بالحمد ليحمد فيشمته، وقد ثبت ذلك عن إبراهيم النخعي، وهو من باب النصيحة والأمر بالمعروف‏.‏
    وزعم ابن العربي أنه جهل من فاعله، قال‏:‏ وأخطأ فيما زعم بل الصواب استحبابه‏.‏
    وحكى ابن بطال عن بعض أهل العلم - وحكى غيره أنه الأوزاعي - أن رجلا عطس عنده فلم يحمد فقال له‏:‏ كيف يقول من عطس‏؟‏ قال‏:‏ الحمد لله، قال‏:‏ يرحمك الله‏.‏
    (ج10/ ص 748)
    وقال ابن العربي‏:‏ قد بينا أن كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان لأنه واسطته، وأن كل فعل حسن نسبه الشرع إلى الملك لأنه واسطته، قال‏:‏ والتثاؤب من الامتلاء وينشأ عنه التكاسل وذلك بواسطة الشيطان، والعطاس من تقليل الغذاء وينشأ عنه النشاط وذلك بواسطة الملك‏.‏
    وقال النووي‏:‏ أضيف التثاؤب إلى الشيطان لأنه يدعو إلى الشهوات إذ يكون عن ثقل البدن واسترخائه وامتلائه، والمراد التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك وهو التوسع في المأكل‏.‏
    قال ابن العربي‏:‏ ينبغي كظم التثاؤب في كل حالة، وإنما خص الصلاة لأنها أولى الأحوال بدفعه لما فيه من الخروج عن اعتدال الهيئة واعوجاج الخلقة‏.



    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    انتهيت من تلخيص " المجلد العاشر " من فتح الباري ويليه " المجلد الحادي عشر

  7. #207
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    المجلد الحادي عشر من كتاب " فتح الباري " للحافظ ابن حجر رحمه الله
    كتاب الاستئذان " /باب 21 / ج6255
    اليوم الثامن / العزل المنزلي / لزوم البيت سمعا وطاعة لولي الأمر . ولما فيه مصلحة البلاد والعباد .
    الموافق 29/ رجب / 1441 هجري
    الموافق 24/ مارس / 2020 ميلادي
    أسال الله العظيم رب العرش العظيم ان يرفع البأس عن عباده الضعفاء .


    كتاب الاستئذان
    (ج11/ ص 6)
    واختلف إلى ماذا يعود الضمير‏؟‏ فقيل‏:‏ إلى آدم أي خلقه على صورته التي استمر عليها إلى أن أهبط وإلى أن مات، دفعا لتوهم من يظن أنه لما كان في الجنة كان على صفة أخرى، أو ابتدأ خلقه كما وجد لم ينتقل في النشأة كما ينتقل ولده من حالة إلى حالة‏.‏
    وقيل للرد على الدهرية أنه لم يكن إنسان إلا من نطفة ولا تكون نطفة إنسان إلا من إنسان ولا أول لذلك، فبين أنه خلق من أول الأمر على هذه الصورة‏.‏
    وقيل للرد على الطبائعيين الزاعمين أن الإنسان قد يكون من فعل الطبع وتأثيره، وقيل للرد على القدرية الزاعمين أن الإنسان يخلق فعل نفسه، وقيل إن لهذا الحديث سببا حذف من هذه الرواية وأن أوله قصة الذي ضرب عبده فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال له إن الله خلق آدم على صورته
    (ج11/ ص 7)
    نقل ابن عبد البر الإجماع على أن الابتداء بالسلام سنة، ولكن في كلام المازري ما يقتضي إثبات خلاف في ذلك، كذا زعم بعض من أدركناه وقد راجعت كلام المازري وليس فيه ذلك فإنه قال‏:‏ ابتداء السلام سنة ورده واجب‏.‏
    هذا هو المشهور عند أصحابنا، وهو من عبادات الكفاية، فأشار بقوله المشهور إلى الخلاف في وجوب الرد هل هو فرض عين أو كفاية‏؟‏ وقد صرح بعد ذلك بخلاف أبي يوسف
    قله عنه عياض قال‏:‏ لا خلاف أن ابتداء السلام سنة أو فرض على الكفاية فإن سلم واحد من الجماعة أجزأ عنهم، قال عياض‏:‏ معنى قوله فرض على الكفاية مع نقل الإجماع على أنه سنة أن إقامة السنن وإحياءها فرض على الكفاية‏.‏
    وقد أخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وابن ماجه وصححه ابن خزيمة من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن عائشة مرفوعا ‏"‏ ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين ‏"‏ وهو يدل على أنه شرع لهذه الأمة دونهم‏.‏
    وفي حديث أبي ذر الطويل في قصة إسلامه قال ‏"‏ وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ فكنت أول من حياه بتحية الإسلام فقال‏:‏ وعليك ورحمة الله ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏
    وأخرج الطبراني والبيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من حديث أبي أمامة رفعه ‏"‏ جعل الله السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا ‏"‏ وعند أبي داود من حديث عمران بن حصين ‏"‏ كنا نقول في الجاهلية‏:‏ أنعم بك عينا، وأنعم صباحا ‏"‏ فلما جاء الإسلام نهينا عن ذلك ورجاله ثقات، لكنه منقطع‏.‏
    وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال ‏"‏ كانوا في الجاهلية يقولون‏:‏ حييت مساء، حييت صباحا، فغير الله ذلك بالسلام‏"‏‏.‏
    قال عياض‏:‏ ويكره أن يقول في الابتداء‏:‏ عليك السلام‏.‏
    قال النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏‏:‏ إذا قال المبتدئ وعليكم السلام لا يكون سلاما ولا يستحق جوابا، لأن هذه الصيغة لا تصلح للابتداء قاله المتولي، فلو قاله بغير واو فهو سلام، قطع بذلك الواحدي، وهو ظاهر‏.‏
    قال النووي‏:‏ ويحتمل أن لا يجزئ كما قيل به في التحلل من الصلاة، ويحتمل أن لا يعد سلاما ولا يستحق جوابا لما رويناه في سنن أبي داود والترمذي وصححه وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن أبي جري بالجيم والراء مصغر الهجيمي بالجيم مصغرا قال ‏"‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ عليك السلام يا رسول الله، قال‏:‏ لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى
    ال ويحتمل أن يكون ورد لبيان الأكمل، وقد قال الغزالي في ‏"‏ الإحياء ‏"‏‏:‏ يكره للمبتدئ أن يقول عليكم السلام، قال النووي‏:‏ والمختار لا يكره، ويجب الجواب لأنه سلام‏.‏
    قلت‏:‏ وكذا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أتى البقيع ‏"‏ السلام على أهل الديار من المؤمنين ‏"‏ الحديث‏.‏
    قال الخطابي‏:‏ فيه أن السلام على الأموات والأحياء سواء، بخلاف ما كانت عليه الجاهلية من قولهم‏:‏ ‏"‏ عليك سلام الله قيس بن عاصم‏"‏‏.‏
    قلت‏:‏ ليس هذا من شعر أهل الجاهلية، فإن قيس بن عاصم صحابي مشهور عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والمرثية المذكورة لمسلم معروف قالها لما مات قيس،
    ومثله ما أخرج ابن سعد وغيره أن الجن رثوا عمر بن الخطاب بأبيات منها‏:‏ عليك السلام من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق وقال ابن العربي في السلام على أهل البقيع‏:‏ لا يعارض النهي في حديث أبي جري لاحتمال أن يكون الله أحياهم لنبيه صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم سلام الأحياء، كذا قال، ويرده حديث عائشة المذكور قال‏:‏ ويحتمل أن يكون النهي مخصوصا بمن يرى أنها تحية الموتى وبمن يتطير بها من الأحياء فإنها كانت عادة أهل الجاهلية وجاء الإسلام بخلاف ذلك، قال عياض وتبعه ابن القيم في ‏"‏ الهدى ‏"‏ فنقح كلامه فقال‏:‏ كان من هدى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول في الابتداء السلام عليكم، ويكره أن يقول عليكم السلام، فذكر حديث أبي جري وصححه ثم قال‏:‏ أشكل هذا على طائفة وظنوه معارضا لحديث عائشة وأبي هريرة وليس كذلك، وإنما معنى قوله ‏"‏ عليك السلام تحية الموتى ‏"‏ إخبار عن الواقع لا عن الشرع، أي أن الشعراء ونحوهم يحيون الموتى به واستشهد بالبيت المتقدم وفيه ما فيه، قال‏:‏ فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحيى بتحية الأموات‏.‏
    وقال عياض أيضا‏:‏ كانت عادة العرب في تحية الموتى تأخير الاسم، كقولهم عليه لعنة الله وغضبه عند الذم
    (ج11/ ص 8)
    اد المبتدئ ‏"‏ ورحمة الله ‏"‏ استحب أن يزاد ‏"‏ وبركاته ‏"‏ فلو زاد ‏"‏ وبركاته ‏"‏ فهل تشرع الزيادة في الرد‏؟‏ وكذا لو زاد المبتدئ على ‏"‏ وبركاته ‏"‏ هل يشرع له ذلك‏؟‏ أخرج مالك في الموطأ عن ابن عباس قال ‏"‏ انتهى السلام إلى البركة ‏"‏ وأخرج البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من طريق عبد الله بن بابه قال ‏"‏ جاء رجل إلى ابن عمر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال‏:‏ حسبك إلى وبركاته ‏"‏ انتهى إلى ‏"‏ وبركاته ‏"‏ ومن طريق زهرة بن معبد قال ‏"‏ قال عمر‏:‏ انتهى السلام إلى وبركاته ‏"‏ ورجاله ثقات‏.‏
    وجاء عن ابن عمر الجواز، فأخرج مالك أيضا في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عنه أنه زاد في الجواب ‏"‏ والغاديات والرائحات ‏"‏ وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من طريق عمرو بن شعيب عن سالم مولى ابن عمر قال ‏"‏ كان ابن عمر يزيد إذا رد السلام، فأتيته مرة فقلت‏:‏ السلام عليكم، فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله‏.‏
    ونقل ابن دقيق العيد عن أبي الوليد بن رشد أنه يؤخذ من قوله تعالى ‏(‏فحيوا بأحسن منها‏)‏ الجواز في الزيادة على البركة إذا انتهى إليها المبتدئ‏.‏
    وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي بسند قوي عن عمران بن حصين قال ‏"‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ السلام عليكم، فرد عليه وقال‏:‏ عشر‏.‏
    ثم جاء آخر، فقال السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه وقال‏:‏ عشرون‏.‏
    ثم جاء آخر فزاد وبركاته، فرد وقال‏:‏ ثلاثون ‏"‏ وأخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من حديث أبي هريرة وصححه ابن حبان وقال ‏"‏ ثلاثون حسنة ‏"‏ وكذا فيما قبلها، صرح بالمعدود‏.‏
    وعند أبي نعيم في ‏"‏ عمل يوم وليلة ‏"‏ من حديث على أنه هو الذي وقع له مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك‏.‏
    وأخرج الطبراني من حديث سهل بن حنيف بسند ضعيف رفعه ‏"‏ من قال السلام عليكم كتب له عشر حسنات، ومن زاد ورحمة الله كتب له عشرون حسنة، ومن زاد وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة‏"‏‏.‏
    (ج11/ ص 13)
    حكى الطحاوي أن الاستئناس في لغة اليمن الاستئذان وجاء عن ابن عباس إنكار ذلك، فأخرج سعيد بن منصور والطبري والبيهقي في الشعب بسند صحيح أن ابن عباس ‏"‏ كان يقرأ حتى تستأذنوا ‏"‏ ويقول‏:‏ أخطأ الكاتب‏.‏
    وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب، ومن طريق مغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال‏:‏ في مصحف ابن مسعود ‏"‏ حتى تستأذنوا ‏"‏ وأخرج سعيد ابن منصور من طريق مغيرة عن إبراهيم في مصحف عبد الله ‏"‏ حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا ‏"‏ وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في ‏"‏ أحكام القرآن ‏"‏ عن ابن عباس واستشكله، وكذا طعن في صحته جماعة ممن بعده، وأجيب بأن ابن عباس بناها على قراءته التي تلقاها عن أبي بن كعب، وأما اتفاق الناس على قراءتها بالسين فلموافقة خط المصحف الذي وقع الاتفاق على عدم الخروج عما يوافقه، وكان قراءة أبي من الأحرف التي تركت للقراءة بها كما تقدم تقريره في فضائل القرآن‏.‏
    وقال البيهقي‏:‏ يحتمل أن يكون ذلك كان في القراءة الأولى ثم نسخت تلاوته، يعني ولم يطلع ابن عباس على ذلك
    (ج11/ ص 17)
    وأخرج البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ عن ابن عباس موقوفا ‏"‏ السلام اسم الله وهو تحية أهل الجنة ‏"‏ وشاهده حديث المهاجر بن قنفذ أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه حتى توضأ وقال ‏"‏ إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر ‏"‏ أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره، ويحتمل أن يكون أراد ما في رد السلام من ذكر اسم الله صريحا في قوله ‏"‏ ورحمة الله‏"‏‏.‏
    وقد اختلف في معنى السلام‏:‏ فنقل عياض أن معناه اسم الله أي كلاءة الله عليك وحفظه، كما يقال الله معك ومصاحبك‏.‏
    وقيل‏:‏ معناه إن الله مطلع عليك فيما تفعل‏.‏
    وقيل‏:‏ معناه إن اسم الله يذكر على الأعمال توقعا لاجتماع معاني الخيرات فيها وانتفاء عوارض الفساد عنها‏
    قال ابن دقيق العيد في ‏"‏ شرح الإلمام ‏"‏‏:‏ السلام يطلق بإزاء معان، منها السلامة، ومنها التحية، ومنها أنه اسم من أسماء الله‏.‏
    واتفقوا على أن من سلم لم يجزئ في جوابه إلا السلام، ولا يجزئ في جوابه صبحت بالخير أو بالسعادة ونحو ذلك‏.‏
    (ج11/ ص18)
    وحينئذ يستحق الجواب، ولا يكفي الرد بالإشارة، بل ورد الزجر عنه، وذلك فيما أخرجه الترمذي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه ‏"‏ لا تشبهوا باليهود والنصارى، فإن تسليم الإشارة بالإصبع، وتسليم النصارى بالأكف ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ غريب‏.‏
    قلت‏:‏ وفي سنده ضعف، لكن أخرج النسائي بسند جيد عن جابر رفعه ‏"‏ لا تسلموا تسليم اليهود، فإن تسليمهم بالرءوس والأكف والإشارة ‏"‏ قال النووي‏:‏ لا يرد على هذا حديث أسماء بنت يزيد ‏"‏ مر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم ‏"‏ فإنه محمول على أنه جمع بين اللفظ والإشارة، وقد أخرجه أبو داود من حديثها بلفظ ‏"‏ فسلم علينا ‏"‏ انتهى‏.‏
    والنهي عن السلام بالإشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حسا وشرعا، وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام كالمصلي والبعيد والأخرس، وكذا السلام على الأصم، ولو أتى بالسلام بغير اللفظ العربي هل يستحق الجواب‏؟‏ فيه ثلاثة أقوال للعلماء، ثالثها يجب لمن يحسن بالعربية‏.‏
    وقال ابن دقيق العيد‏:‏ الذي يظهر أن التحية بغير لفظ السلام من باب ترك المستحب وليس بمكروه إلا إن قصد به العدول عن السلام إلى ما هو أظهر في التعظيم من أجل أكابر أهل الدنيا، ويجب الرد على الفور، فلو أخر ثم استدرك فرد لم يعد جوابا قاله القاضي حسين وجماعة، وكأن محله إذا لم يكن عذر‏.‏
    ويجب رد جواب السلام في الكتاب ومع الرسول، ولو سلم الصبي على بالغ وجب عليه الرد، ولو سلم على جماعة فيهم صبي فأجاب أجزأ عنهم في وجه‏.‏
    (ج11/ ص 19)
    ال الماوردي‏:‏ لو دخل شخص مجلسا فإن كان الجمع قليلا يعمهم سلام واحد فسلم كفاه، فإن زاد فخصص بعضهم فلا بأس، ويكفي أن يرد منهم واحد، فإن زاد فلا بأس، وإن كانوا كثيرا بحيث لا ينتشر فيهم فيبتدئ أول دخوله إذا شاهدهم، وتتأدى سنة السلام في حق جميع من يسمعه، ويجب على من سمعه الرد على الكفاية‏.‏
    وإذا جلس سقط عنه سنة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين، وهل يستحب أن يسلم على من جلس عندهم ممن لم يسمعه‏؟‏ وجهان‏:‏ أحدهما إن عاد فلا بأس، وإلا فقد سقطت عنه سنة السلام لأنهم جمع واحد، وعلى هذا يسقط فرض الرد بفعل بعضهم، والثاني أن سنة السلام باقية في حق من لم يبلغهم سلامه المتقدم فلا يسقط فرض الرد من الأوائل عن الأواخر‏.‏
    (ج11/ ص 20)
    قال ابن بطال عن المهلب‏:‏ تسليم الصغير لأجل حق الكبير لأنه أمر بتوقيره والتواضع له، وتسليم القليل لأجل حق الكثير لأن حقهم أعظم، وتسليم المار لشبهه بالداخل على أهل المنزل، وتسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ حاصل ما في هذا الحديث أن المفضول بنوع ما يبدأ الفاضل‏.‏
    وقال المازري‏:‏ أما أمر الراكب فلأن له مزية على الماشي فعوض الماشي بأن يبدأه الراكب بالسلام احتياطا على الراكب من الزهو أن لو حاز الفضيلتين، وأما الماشي فلما يتوقع القاعد منه من الشر ولا سيما إذا كان راكبا، فإذا ابتدأه بالسلام أمن منه ذلك وأنس إليه، أو لأن في التصرف في الحاجات امتهانا فصار للقاعد مزية فأمر بالابتداء، أو لأن القاعد يشق عليه مراعاة المارين مع كثرتهم فسقطت البداءة عنه للمشقة، بخلاف المار فلا مشقة عليه، وأما القليل فلفضيلة الجماعة أو لأن الجماعة لو ابتدءوا لخيف على الواحد الزهو فاحتيط له، ولم يقع تسليم الصغير على الكبير في صحيح مسلم وكأنه لمراعاة السن فإنه معتبر في أمور كثيرة في الشرع، فلو تعارض الصغر المعنوي والحسي كأن يكون الأصغر أعلم مثلا فيه نظر، ولم أر فيه نقلا‏.‏
    ونقل ابن دقيق العيد عن ابن رشد أن محل الأمر في تسليم الصغير على الكبير إذا التقيا فإن كان أحدهما راكبا والآخر ماشيا بدأ الراكب، وإن كانا راكبين أو ماشيين بدأ الصغير‏.‏
    وقال المازري وغيره‏:‏ هذه المناسبات لا يعترض عليها بجزئيات تخالفها لأنها لم تنصب نصب العلل الواجبة الاعتبار حتى لا يجوز أن يعدل عنها، حتى لو ابتدأ الماشي فسلم على الراكب لم يمتنع لأنه ممتثل للأمر بإظهار السلام وإفشائه، غير أن مراعاة ما ثبت في الحديث أولى وهو خبر بمعنى الأمر على سبيل الاستحباب، ولا يلزم من ترك المستحب الكراهة، بل يكون خلاف الأولى، فلو ترك المأمور بالابتداء فبدأه الآخر كان المأمور تاركا للمستحب والآخر فاعلا للسنة، إلا إن بادر فيكون تاركا للمستحب أيضا‏.‏
    وقال المتولي‏:‏ لو خالف الراكب أو الماشي ما دل عليه الخبر كره، قال‏:‏ والوارد يبدأ بكل حال‏.‏
    ال النووي‏:‏ وأما السلام حال الخطبة في الجمعة فيكره للأمر بالإنصات، فلو سلم لم يجب الرد عند من قال الإنصات واجب، ويجب عند من قال إنه سنة، وعلى الوجهين لا ينبغي أن يرد أكثر من واحد، وأما المشتغل بقراءة القرآن فقال الواحدي الأولى ترك السلام عليه فإن سلم عليه كفاه الرد بالإشارة، وإن رد لفظا استأنف الاستعاذة وقرأ‏.‏
    قال النووي‏:‏ وفيه نظر، والظاهر أنه يشرع السلام عليه ويجب عليه الرد، ثم قال‏:‏ وأما من كان مشتغلا بالدعاء مستغرقا فيه مستجمع القلب فيحتمل أن يقال هو كالقارئ، والأظهر عندي أنه يكره السلام عليه لأنه يتنكد به ويشق عليه أكثر من مشقة الأكل‏.‏
    وأما الملبي في الإحرام فيكره أن يسلم عليه لأن قطعه التلبية مكروه، ويجب عليه الرد مع ذلك لفظا أن لو سلم عليه، قال‏:‏ ولو تبرع واحد من هؤلاء برد السلام إن كان مشتغلا بالبول ونحوه فيكره ‏"‏ وإن كان آكلا ونحوه فيستحب في الموضع الذي لا يجب، وإن كان مصليا لم يجز أن يقول بلفظ المخاطبة كعليك السلام أو عليك فقط، فلو فعل بطلت إن علم التحريم لا إن جهل في الأصح، فلو أتى بضمير الغيبة لم تبطل، ويستحب أن يرد بالإشارة، وإن رد بعد فراغ الصلاة لفظا فهو أحب، وإن كان مؤذنا أو ملبيا لم يكره له الرد لفظا لأنه قدر يسير لا يبطل الموالاة‏.‏
    وقد تعقب والدي رحمه الله في نكته على الأذكار ما قاله الشيخ في القارئ لكونه يأتي في حقه نظير ما أبداه هو في الداعي، لأن القارئ قد يستغرق فكره في تدبر معاني ما يقرؤه، ثم اعتذر عنه بأن الداعي يكون مهتما بطلب حاجته فيغلب عليه التوجه طبعا، والقارئ إنما يطلب منه التوجه شرعا فالوساوس مسلطة عليه ولو فرض أنه يوفق للحاجة العلية فهو على ندور انتهى‏.‏
    (ج11/ ص 21)
    وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وابن أبي شيبة بسند حسن عن ابن عمر ‏"‏ فيستحب إذا لم يكن أحد في البيت أن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏
    وأخرج الطبري عن ابن عباس ومن طريق كل من علقمة وعطاء ومجاهد نحوه، ويدخل فيه من مر على من ظن أنه إذا سلم عليه لا يرد عليه فإنه يشرع له السلام ولا يتركه لهذا الظن لأنه قد يخطئ، قال النووي‏:‏ وأما قول من لا تحقيق عنده أن ذلك يكون سببا لتأثيم الآخر فهو غباوة، لأن المأمورات الشرعية لا تترك بمثل هذا، ولو أعملنا هذا لبطل إنكار كثير من المنكرات‏.‏
    قال‏:‏ وينبغي لمن وقع له ذلك أن يقول له بعبارة لطيفة رد السلام واجب، فينبغي أن ترد ليسقط عنك الفرض، وينبغي إذا تمادى على الترك أن يحلله من ذلك لأنه حق آدمي، ورجح ابن دقيق العيد في ‏"‏ شرح الإلمام ‏"‏ المقالة التي زيفها النووي بأن مفسدة توريط المسلم في المعصية أشد من ترك مصلحة السلام عليه، ولا سيما وامتثال الإفشاء قد حصل مع غيره‏.‏
    (ج11/ ص 30)
    ال عياض‏:‏ خص أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بستر الوجه والكفين، واختلف في ندبه في حق غيرهن، قالوا‏:‏ فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا غيرها، قال‏:‏ ولا يجوز إبراز أشخاصهن وإن كن مستترات إلا فيما دعت الضرورة إليه من الخروج إلى البراز، وقد كن إذا حدثن جلسن للناس من وراء الحجاب وإذا خرجن لحاجة حجبن وسترن انتهى‏.‏
    وفي دعوى وجوب حجب أشخاصهن مطلقا إلا في حاجة البراز نظر، فقد كن يسافرن للحج وغيره ومن ضرورة ذلك الطواف والسعي وفيه بروز أشخاصهن، بل وفي حالة الركوب والنزول لا بد من ذلك، وكذا في خروجهن إلى المسجد النبوي وغيره‏.‏
    (ج11/ ص 31)
    ورد التصريح بذلك فيما أخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وأبو داود والترمذي وحسنه من حديث ثوبان رفعه ‏"‏ لا يحل لامرئ مسلم أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن فإن فعل فقد دخل ‏"‏ أي صار في حكم الداخل، وللأولين من حديث أبي هريرة بسند حسن رفعه ‏"‏ إذا دخل البصر فلا إذن ‏"‏ وأخرج البخاري أيضا عن عمر من قوله ‏"‏ من ملأ عينه من قاع بيت قبل أن يؤذن له فقد فسق‏"‏‏.‏
    له من حديث عبد الله بن بسر ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، وذلك أن الدور لم يكن عليها ستور‏"‏
    وقد أخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ عن نافع ‏"‏ كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلا بإذن
    (ج11/ ص 31)
    واختلف فيمن سلم ثلاثا فظن أنه لم يسمع، فعن مالك له أن يزيد حتى يتحقق، وذهب الجمهور وبعض المالكية إلى أنه لا يزيد اتباعا لظاهر الخبر‏.‏
    وقال المازري‏:‏ اختلفوا فيما إذا ظن أنه لم يسمع هل يزيد على الثلاث‏؟‏ فقيل‏:‏ لا، وقيل‏:‏ نعم‏.‏
    وقيل‏:‏ إذا كان الاستئذان بلفظ السلام لم يزد وإن كان بغير لفظ السلام زاد‏.‏
    (ج11/ ص 33)
    وتعلق بقصة عمر من زعم أنه كان لا يقبل خبر الواحد، ولا حجة فيه لأنه قبل خبر أبي سعيد المطابق لحديث أبي موسى ولا يخرج بذلك عن كونه خبر واحد، واستدل به من ادعى أن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضم إليه غيره كما في الشهادة، قال ابن بطال‏:‏ وهو خطأ من قائله وجهل بمذهب عمر، فقد جاء في بعض طرقه أن عمر قال لأبي موسى ‏"‏ أما إني لم أتهمك ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قلت‏:‏ وهذه الزيادة في الموطأ عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم أن أبا موسى‏.‏‏.‏‏.‏ ذكر القصة وفي آخره ‏"‏ فقال عمر لأبي موسى‏:‏ أما إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم
    (ج11/ ص 36)
    واستدل بالخبر المرفوع على أنه لا تجوز الزيادة في الاستئذان على الثلاث، قال ابن عبد البر‏:‏ فذهب أكثر أهل العلم إلى ذلك وقال بعضهم‏:‏ إذا لم يسمع فلا بأس أن يزيد‏.‏
    وروى سحنون عن ابن وهب عن مالك‏:‏ لا أحب أن يزيد على الثلاث إلا من علم أنه لم يسمع‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا هو الأصح عند الشافعية‏.‏
    قال ابن عبد البر‏:‏ وقيل تجوز الزيادة مطلقا بناء على أن الأمر بالرجوع بعد الثلاث للإباحة والتخفيف عن المستأذن، فمن استأذن أكثر فلا حرج عليه قال‏:‏ الاستئذان أن يقول السلام عليكم أأدخل‏؟‏ كذا قال، ولا يتعين هذا اللفظ‏.‏
    وحكى ابن العربي إن كان بلفظ الاستئذان لا يعيد وإن كان بلفظ آخر أعاد، قال‏:‏ والأصح لا يعيد، وقد تقدم ما حكاه المازري في ذلك‏.‏
    وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ عن أبي العالية قال‏:‏ أتيت أبا سعيد فسلمت فلم يؤذن لي ثم سلمت فلم يؤذن لي فتنحيت ناحية فخرج علي غلام فقال‏:‏ ادخل، فدخلت فقال لي أبو سعيد‏:‏ أما إنك لو زدت - يعني على الثلاث - لم يؤذن لك‏.‏
    واختلف في حكمة الثلاث فروى ابن أبي شيبة من قول علي بن أبي طالب‏:‏ الأولى إعلام، والثانية مؤامرة، والثالثة عزمة إما أن يؤذن له وإما أن يرد‏.‏
    ومن وجه آخر صحيح عن ابن عباس‏:‏ لم يعمل بها أكثر الناس، وإني لآمر جاريتي أن تستأذن علي‏.‏
    وفي الحديث أيضا أن لصاحب المنزل إذا سمع الاستئذان أن لا يأذن سواء سلم مرة أم مرتين أم ثلاثا إذا كان في شغل له ديني أو دنيوي يتعذر بترك الإذن معه للمستأذن‏.‏
    وفيه أن العالم المتبحر قد يخفى عليه من العلم ما يعلمه من هو دونه ولا يقدح ذلك في وصفه بالعلم والتبحر فيه‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ وإذا جاز ذلك على عمر فما ظنك بمن هو دونه‏.‏
    (ج11/ ص 40)
    اعتمد المنذري على كلام أبي داود فقال‏:‏ أخرجه البخاري تعليقا لأجل الانقطاع، كذا قال، ولو كان عنده منقطعا لعلقه بصيغة التمريض كما هو الأغلب من صنيعه، وهو غالبا يجزم إذا صح السند إلى من علق عنه كما قال في الزكاة ‏"‏ وقال طاوس قال معاذ ‏"‏ فذكر أثرا وطاوس لم يدرك معاذا‏.‏
    وكذا إذا كان فوق من علق عنه من ليس على شرطه كما قال في الطهارة ‏"‏ وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ‏"‏ وحيث وقع فيما طواه من ليس على شرطه مرضه كما قال في النكاح ‏"‏ ويذكر عن معاوية بن حيدة‏"‏، فذكر حديثا، ومعاوية هو جد بهز بن حكيم، وقد أوضحت ذلك في المقدمة‏.‏
    (ج11/ ص 41)
    قال ابن بطال‏:‏ في السلام على الصبيان تدريبهم على آداب الشريعة‏.‏
    وفيه طرح الأكابر رداء الكبر وسلوك التواضع ولين الجانب‏.‏
    قال أبو سعيد المتولي في ‏"‏ التتمة ‏"‏ من سلم على صبي لم يجب عليه الرد لأن الصبي ليس من أهل الفرض، وينبغي لوليه أن يأمره بالرد ليتمرن على ذلك، ولو سلم على جمع فيهم صبي فرد الصبي دونهم لم يسقط عنهم الفرض، وكذا قال شيخه القاضي حسين، ورده المستظهري‏.‏
    وقال النووي‏:‏ الأصح لا يجزئ، ولو ابتدأ الصبي بالسلام وجب على البالغ الرد على الصحيح‏.‏
    قلت‏:‏ ويستثنى من السلام على الصبي ما لو كان وضيئا وخشي من السلام عليه الافتتان فلا يشرع ولا سيما إن كان مراهقا منفردا‏.‏
    (ج11/ ص 42)
    ا أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير‏:‏ بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء والنساء على الرجال‏.‏
    وهو مقطوع أو معضل‏.‏
    والمراد بجوازه أن يكون عند أمن الفتنة‏.‏
    وذكر في الباب حديثين يؤخذ الجواز منهما‏.‏
    وورد فيه حديث ليس على شرطه، وهو حديث أسماء بنت يزيد ‏"‏ مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا ‏"‏ حسنه الترمذي وليس على شرط البخاري فاكتفى بما هو على شرطه‏.‏
    وله شاهد من حديث جابر عند أحمد‏.‏
    وقال الحليمي‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم للعصمة مأمونا من الفتنة، فمن وثق من نفسه بالسلامة فليسلم وإلا فالصمت أسلم‏.‏
    وأخرج أبو نعيم في ‏"‏ عمل يوم وليلة ‏"‏ من حديث واثلة مرفوعا ‏"‏ يسلم الرجال على النساء ولا تسلم النساء على الرجال ‏"‏ وسنده واه ومن حديث عمرو بن حريث مثله موقوفا عليه وسنده جيد، وثبت في مسلم حديث أم هانئ ‏"‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل فسلمت عليه‏"‏‏.‏
    وقال ابن بطال عن المهلب‏:‏ سلام الرجال على النساء والنساء على الرجال جائز إذا أمنت الفتنة، وفرق المالكية بين الشابة والعجوز سدا للذريعة، ومنع منه ربيعة مطلقا‏.‏
    وقال الكوفيون‏:‏ لا يشرع للنساء ابتداء السلام على الرجال لأنهن منعن من الأذان والإقامة والجهر بالقراءة، قالوا ويستثنى المحرم فيجوز لها السلام على محرمها‏.‏
    قال المهلب‏:‏ وحجة مالك حديث سهل في الباب، فإن الرجال الذين كانوا يزورونها وتطعمهم لم يكونوا من محارمها انتهى‏.‏
    وقال المتولي‏:‏ إن كان للرجل زوجة أو محرم أو أمة فكالرجل مع الرجل، وإن كانت أجنبية نظر‏:‏ إن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لم يشرع السلام لا ابتداء ولا جوابا، فلو ابتدأ أحدهما كره للآخر الرد، وإن كانت عجوزا لا يفتتن بها جاز‏.‏
    وحاصل الفرق بين هذا وبين المالكية التفصيل في الشابة بين الجمال وعدمه، فإن الجمال مظنة الافتتان، بخلاف مطلق الشابة‏.‏
    فلو اجتمع في المجلس رجال ونساء جاز السلام من الجانبين عند أمن الفتنة‏.‏
    (ج11/ ص 45)
    فأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من طريق معاوية بن قرة قال‏:‏ قال لي أبي قرة بن إياس المزني الصحابي‏:‏ إذا مر بك الرجل فقال السلام عليكم، فلا تقل وعليك السلام فتخصه وحده، فإنه ليس وحده‏.‏
    وسنده صحيح‏.‏
    ومن فروع هذه المسألة لو وقع الابتداء بصيغة الجمع فإنه لا يكفي الرد بصيغة الإفراد، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم فلا يكون امتثل الرد بالمثل فضلا عن الأحسن، نبه عليه ابن دقيق العيد‏.‏
    وأما الثالث فقال النووي‏:‏ اتفق أصحابنا أن المجيب لو قال ‏"‏ عليك ‏"‏ بغير واو لم يجزئ، وإن قال بالواو فوجهان‏.‏
    وأما الرابع فأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ بسند صحيح عن ابن عباس أنه كان إذا سلم عليه يقول ‏"‏ وعليك ورحمة الله ‏"‏ وقد ورد مثل ذلك في أحاديث مرفوع
    (ج11/ ص 48)
    قال النووي‏:‏ السنة إذا مر بمجلس فيه مسلم وكافر أن يسلم بلفظ التعميم ويقصد به المسلم‏.‏
    قال ابن العربي‏:‏ ومثله إذا مر بمجلس يجمع أهل السنة والبدعة، وبمجلس فيه عدول وظلمة، وبمجلس فيه محب ومبغض‏.‏
    واستدل النووي على ذلك بحديث الباب، وهو مفرع على منع ابتداء الكافر بالسلام، وقد ورد النهي عنه صريحا فيما أخرجه مسلم والبخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من طريق سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، واضطروهم إلى أضيق الطريق ‏"‏ وللبخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ والنسائي من حديث أبي بصرة وهو بفتح الموحدة وسكون المهملة الغفاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ إني راكب غدا إلى اليهود؛ فلا تبدءوهم بالسلام‏"‏‏.‏
    وقالت طائفة يجوز ابتداؤهم بالسلام، فأخرج الطبري من طريق ابن عيينة قال‏:‏ يجوز ابتداء الكافر بالسلام لقوله تعالى ‏(‏لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين‏)‏ وقول إبراهيم لأبيه ‏(‏سلام عليك‏)‏ ‏.‏
    وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عون ابن عبد الله عن محمد بن كعب أنه سأل عمر بن عبد العزيز عن ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال‏:‏ نرد عليهم ولا نبدؤهم‏.‏
    قال عون فقلت له‏:‏ فكيف تقول أنت‏؟‏ قال‏:‏ ما أرى بأسا أن نبدأهم‏.‏
    قلت لم‏؟‏ قال لقوله تعالى ‏(‏فاصفح عنهم وقل سلام‏)‏ وقال البيهقي بعد أن ساق حديث أبي أمامة أنه كان يسلم على كل من لقيه، فسئل عن ذلك فقال‏:‏ إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا‏.‏
    هذا رأي أبي أمامة، وحديث أبي هريرة في النهي عن ابتدائهم أولى‏.‏
    أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال ‏"‏ السلام على أهل الكتاب إذا دخل عليهم بيوتهم ‏"‏ السلام على من اتبع الهدى ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين مثله‏.‏
    ومن طريق أبي مالك‏:‏ إذا سلمت على المشركين فقل ‏"‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فيحسبون أنك سلمت عليهم وقد صرفت السلام عنهم ‏"‏ قال القرطبي في قوله ‏"‏ وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه ‏"‏ معناه لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراما لهم واحتراما، وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى، وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم لأن ذلك أذى لهم وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب‏.‏
    وقال المهلب‏:‏ ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع، وخالف في ذلك جماعة

    22
    (ج11/ ص 52)
    ذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز أن يقال في الرد عليهم ‏"‏ عليكم السلام ‏"‏ كما يرد على المسلم، واحتج بعضهم بقوله تعالى ‏(‏فاصفح عنهم وقل سلام‏)‏ وحكاه الماوردي وجها عن بعض الشافعية لكن لا يقول ورحمة الله، وقيل يجوز مطلقا، وعن ابن عباس وعلقمة يجوز ذلك عند الضرورة، وعن الأوزاعي‏:‏ إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد تركوا‏.‏
    وعن طائفة من العلماء‏:‏ لا يرد عليهم السلام أصلا‏.‏
    وعن بعضهم التفرقة بين أهل الذمة وأهل الحرب‏.‏
    والراجح من هذه الأقوال كلها ما دل عليه الحديث ولكنه مختص بأهل الكتاب‏.‏
    وقد أخرج أحمد بسند جيد عن حميد بن زادويه وهو غير حميد الطويل في الأصح عن أنس ‏"‏ أمرنا أن لا نزيد على أهل الكتاب على‏:‏ وعليكم ‏"‏ ونقل ابن بطال عن الخطابي نحو ما قال ابن حبيب فقال، رواية من روى عليكم بغير واو أحسن من الرواية بالواو لأن معناه رددت ما قلتموه عليكم، وبالواو يصير المعنى علي وعليكم لأن الواو حرف التشريك انتهى‏
    (ج11/ ص 58)
    قال ابن بطال‏:‏ فيه جواز كتابة بسم الله الرحمن الرحيم إلى أهل الكتاب، وتقديم اسم الكاتب على المكتوب إليه‏.‏
    قال‏:‏ وفيه حجة لمن أجاز مكاتبة أهل الكتاب بالسلام عند الحاجة، قلت‏:‏ في جواز السلام على الإطلاق نظر، والذي يدل عليه الحديث السلام المقيد مثل ما في الخبر‏:‏ السلام على من اتبع الهدى، أو السلام على من تمسك بالحق أو نحو ذلك‏.‏
    (ج11/ ص 59)
    ‏أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل أخذ خشبة‏)
    قال ابن التين‏:‏ قيل في قصة صاحب الخشبة إثبات كرامات الأولياء، وجمهور الأشعرية على إثباتها، وأنكرها الإمام أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية والشيخان أبو محمد بن أبي زيد وأبو الحسن القابسي من المالكية‏.‏
    قلت‏:‏ أما الشيرازي فلا يحفظ عنه ذلك‏.‏
    وإنما نقل ذلك عن أبي إسحاق الإسفرايني، وأما الآخران فإنما أنكرا ما وقع معجزة مستقلة لنبي من الأنبياء كإيجاد ولد عن غير والد والإسراء إلى السماوات السبع بالجسد في اليقظة، وقد صرح إمام الصوفية أبو القاسم القشيري في رسالته بذلك،
    (ج11/ ص 60)
    ومحصل المنقول عن مالك إنكار القيام ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس ولو كان في شغل نفسه، فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها فتتلقاه وتنزع ثيابه وتقف حتى يجلس فقال‏:‏ أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس فلا فإن هذا فعل الجبابرة وقد أنكره عمر بن عبد العزيز‏.‏
    وقال الخطابي في حديث الباب ‏"‏ جواز إطلاق السيد ‏"‏ على الخير الفاضل، وفيه أن قيام المرءوس للرئيس الفاضل والإمام العادل والمتعلم للعالم مستحب، وإنما يكره لمن كان بغير هذه الصفات‏.‏
    ومعنى حديث ‏"‏ من أحب أن يقام له ‏"‏ أي بأن يلزمهم بالقيام له صفوفا على طريق الكبر والنخوة، ورجح المنذري ما تقدم من الجمع عن ابن قتيبة والبخاري وأن القيام المنهي عنه أن يقام عليه وهو جالس، وقد رد ابن القيم في ‏"‏ حاشية السنن ‏"‏ على هذا القول بأن سياق حديث معاوية يدل على خلاف ذلك، وإنما يدل على أنه كره القيام له لما خرج تعظيما، ولأن هذا لا يقال له القيام للرجل وإنما هو القيام على رأس الرجل أو عند الرجل، قال‏:‏ والقيام ينقسم إلى ثلاث مراتب‏:‏ قيام على رأس الرجل وهو فعل الجبابرة، وقيام إليه عند قدومه ولا بأس به، وقيام له عند رؤيته وهو المتنازع فيه‏.‏
    قلت‏:‏ وورد في خصوص القيام على رأس الكبير الجالس ما أخرجه الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ عن أنس قال ‏"‏ إنما هلك من كان قبلكم بأنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهم قعود ‏"‏ ثم حكى المنذري قول الطبري، وأنه قصر النهي على من سره القيام له لما في ذلك من محبة التعاظم ورؤية منزلة نفسه،
    وقد وقع في مسند عائشة عند أحمد من طريق علقمة بن وقاص عنها في قصة غزوة بني قريظة وقصة سعد بن معاذ ومجيئه مطولا وفيه ‏"‏ قال أبو سعيد فلما طلع قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قوموا إلى سيدكم، فأنزلوه ‏"‏ وسنده حسن، وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه، وقد احتج به النووي في كتاب القيام ونقل عن البخاري ومسلم وأبي داود أنهم احتجوا به، ولفظ مسلم‏:‏ لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثا أصح من هذا، وقد اعترض عليه الشيخ أبو عبد الله بن الحاج فقال ما ملخصه‏:‏ لو كان القيام المأمور به لسعد هو المتنازع فيه لما خص به الأنصار، فإن الأصل في أفعال القرب التعميم، ولو كان القيام لسعد على سبيل البر والإكرام لكان هو صلى الله عليه وسلم أول من فعله وأمر به من حضر من أكابر الصحابة، فلما لم يأمر به ولا فعله ولا فعلوه دل ذلك على أن الأمر بالقيام لغير ما وقع فيه النزاع، وإنما هو لينزلوه عن دابته لما كان فيه من المرض كما جاء في بعض الروايات، ولأن عادة العرب أن القبيلة تخدم كبيرها فلذلك خص الأنصار بذلك دون المهاجرين
    م نقل عن أبي الوليد بن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه‏:‏ الأول محظور وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرا وتعاظما على القائمين إليه، والثاني مكروه وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين، لكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة‏.‏
    والثالث جائز، وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ويؤمن معه التشبه بالجبابرة‏.‏
    والرابع مندوب وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها أو مصيبة فيعزيه بسببها‏.‏
    وقال التوربشتي في ‏"‏ شرح المصابيح ‏"‏ معنى قوله ‏"‏ قوموا إلى سيدكم ‏"‏ أي إلى إعانته وإنزاله من دابته، ولو كان المراد التعظيم لقال‏:‏ قوموا لسيدكم‏.‏
    وتعقبه الطيبي بأنه لا يلزم من كونه ليس للتعظيم أن لا يكون للإكرام، وما اعتل به من الفرق بين إلى واللام ضعيف لأن إلى في هذا المقام أفخم من اللام كأنه قيل قوموا وامشوا إليه تلقيا وإكراما، وهذا مأخوذ من ترتب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلية، فإن قوله سيدكم علة للقيام له، وذلك لكونه شريفا علي القدر‏.‏
    وقال البيهقي‏:‏ القيام على وجه البر والإكرام جائز كقيام الأنصار لسعد وطلحة لكعب، ولا ينبغي لمن يقام له أن يعتقد استحقاقه لذلك حتى إن ترك القيام له حنق عليه أو عاتبه أو شكاه قال أبو عبد الله وضابط ذلك أن كل أمر ندب الشرع المكلف بالمشي إليه فتأخر حتى قدم المأمور لأجله فالقيام إليه يكون عوضا عن المشي الذي فات، واحتج النووي أيضا بقيام طلحة لكعب بن مالك‏.‏
    م ذكر النووي حديث معاوية وحديث أبي أمامة المتقدمين، وقدم قبل ذلك ما أخرجه الترمذي عن أنس قال ‏"‏ لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك ‏"‏ قال الترمذي حسن صحيح غريب، وترجم له ‏"‏ باب كراهية قيام الرجل للرجل ‏"‏ وترجم لحديث معاوية ‏"‏ باب كراهية القيام للناس ‏"‏ قال النووي‏:‏ وحديث أنس أقرب ما يحتج به، والجواب عنه من وجهين‏:‏ أحدهما أنه خاف عليهم الفتنة إذا أفرطوا في تعظيمه فكره قيامهم له لهذا المعنى كما قال ‏"‏ لا تطروني ‏"‏ ولم يكره قيام بعضهم لبعض، فإنه قد قام لبعضهم وقاموا لغيره بحضرته فلم ينكر عليهم بل أقره وأمر به‏.‏
    ثانيهما أنه كان بينه وبين أصحابه من الأنس وكمال الود والصفاء ما لا يحتمل زيادة بالإكرام بالقيام، فلم يكن في القيام مقصود، وإن فرض للإنسان صاحب بهذه الحالة لم يحتج إلى القيام‏.‏
    ي الجملة متى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة أو يترتب عليه مفسدة امتنع، وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام‏.‏
    ونقل ابن كثير في تفسيره عن بعض المحققين التفصيل فيه فقال‏:‏ المجذور أن يتخذ ديدنا كعادة الأعاجم كما دل عليه حديث أنس، وأما إن كان لقادم من سفر أو لحاكم في محل ولايته فلا بأس به‏.‏
    يلتحق بذلك ما تقدم في أجوبة ابن الحاج كالتهنئة لمن حدثت له نعمة أو لإعانة العاجز أو لتوسيع المجلس أو غير ذلك والله أعلم‏.‏
    وقد قال الغزالي‏:‏ القيام على سبيل الإعظام مكروه وعلى سبيل الإكرام لا يكره‏.‏
    وهذا تفصيل حسن‏.‏
    (ج11/ ص 66)
    قال ابن بطال‏:‏ المصافحة حسنة عند عامة العلماء، وقد استحبها مالك بعد كراهته‏.‏
    وقال النووي‏:‏ المصافحة سنة مجمع عليها عند التلاقي‏.‏
    وقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن البراء رفعه ‏"‏ ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا ‏"‏ وزاد فيه ابن السني ‏"‏ وتكاشرا بود ونصيحة ‏"‏ وفي رواية لأبي داود، وحمدا الله واستغفراه، وأخرجه أبو بكر الروياني في مسنده من وجه آخر عن البراء ‏"‏ لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصافحني، فقلت‏:‏ يا رسول الله كنت أحسب أن هذا من زي العجم، فقال‏:‏ نحن أحق بالمصافحة ‏"
    في مرسل عطاء الخراساني في الموطأ ‏"‏ تصافحوا يذهب الغل ‏"‏ ولم نقف علنه موصولا، واقتصر ابن عبد البر على شواهده من حديث البراء وغيره، قال النووي‏:‏ وأما تخصيص المصافحة بما بعد صلاتي الصبح والعصر فقد مثل ابن عبد السلام في ‏"‏ القواعد ‏"‏ البدعة المباحة منها‏.‏
    قال النووي‏:‏ وأصل المصافحة سنة، وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال لا يخرج ذلك عن أصل السنة‏.‏
    قلت‏:‏ للنظر فيه مجال، فإن أصل صلاة النافلة سنة مرغب فيها، ومع ذلك فقد كره المحققون تخصيص وقت بها دون وقت، ومنهم من أطلق تحريم مثل ذلك كصلاة الرغائب التي لا أصل لها، ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية والأمرد الحسن‏.‏
    قال ابن عبد البر‏:‏ روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة، وذهب إلى هذا سحنون وجماعة، وقد جاء عن مالك جواز المصافحة، وهو الذي يدل عليه صنيعه في الموطأ، وعلى جوازه جماعة العلماء سلفا وحلفا، والله أعلم‏.‏
    وقد أخرج الترمذي من حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ من تمام التحية الأخذ باليد ‏"‏ وفي سنده ضعف، وحكى الترمذي عن البخاري أنه رجح أنه موقوف على عبد الرحمن بن يزيد النخعي أحد التابعين‏.‏
    وأخرج ابن المبارك في ‏"‏ كتاب البر والصلة ‏"‏ من حديث أنس ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقي الرجل لا ينزع يده حتى يكون هو الذي ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون هو الذي يصرفه‏"‏‏.‏
    (ج11/ ص69)
    وقد جمع الحافظ أبو بكر بن المقري جزءا في تقبيل اليد سمعناه، أورد فيه أحاديث كثيرة وآثارا، فمن جيدها حديث الزارع العبدي وكان في وقد عبد القيس قال ‏"‏ فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله ‏"‏ أخرجه أبو داود، ومن حديث مزيدة العصري مثله، ومن حديث أسامة بن شريك قال ‏"‏ قمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده ‏"‏ وسنده قوي ومن حديث جابر ‏"‏ أن عمر قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبل يده ‏"‏ ومن حديث بريدة في قصة الأعرابي والشجرة فقال ‏"‏ يا رسول الله ائذن لي أن أقبل رأسك ورجليك فأذن له ‏"‏ وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من رواية عبد الرحمن بن رزين قال ‏"‏ أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفا له ضخمة كأنها كف بعير فقمنا إليها فقبلناها ‏"‏ وعن ثابت أنه قبل يد أنس‏.‏
    وأخرج أيضا أن عليا قبل يد العباس ورجله، وأخرجه ابن المقري؛ وأخرج من طريق أبي مالك الأشجعي قال‏:‏ قلت لابن أبي أوفى ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فناولنيها فقبلتها‏.‏
    قال النووي‏:‏ تقبيل يد الرجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحو ذلك من الأمور الدينية لا يكره بل يستحب، فإن كان لغناه أو شوكته أو جاهه عند أهل الدنيا فمكروه شديد الكراهة وقال أبو سعيد المتولي‏:‏ لا يجوز‏.

    ....
    33‏
    (ج11/ ص 72)
    وأخرج الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من حديث أنس ‏"‏ كانوا إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا ‏"‏ وله في الكبير ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقي أصحابه لم يصافحهم حتى يسلم عليهم ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ اختلف الناس في المعانقة، فكرهها مالك، وأجازها ابن عيينة‏.‏
    ثم ساق سفيان الحديث عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال ‏"‏ لما قدم جعفر من الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الحديث‏.‏
    قال الذهبي في ‏"‏ الميزان ‏"‏‏:‏ هذه الحكاية باطلة، وإسنادها مظلم‏.‏
    قلت‏:‏ والمحفوظ عن ابن عيينة بغير هذا الإسناد، فأخرج سفيان بن عيينة في جامعه عن الأجلح عن الشعبي ‏"‏ أن جعفرا لما قدم تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل جعفرا بين عيينة ‏"‏ وأخرج البغوي في ‏"‏ معجم الصحابة ‏"‏ من حديث عائشة ‏"‏ لما قدم جعفر استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل ما بين عينيه ‏"‏ وسنده موصول لكن في سنده محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير وهو ضعيف‏.‏
    وأخرج الترمذي عن عائشة قالت ‏"‏ قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فقرع الباب، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه فاعتنقه وقبله ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏
    (ج11/ ص73)
    وحكى ابن التين عن الداودي أن أول ما استعمل الناس ‏"‏ كيف أصبحت ‏"‏ في زمن طاعون عمواس، وتعقبه بأن العرب كانت تقوله قبل الإسلام‏.‏
    وبأن المسلمين قالوه في هذا الحديث‏.‏
    قلت‏:‏ والجواب حمل الأولية على ما وقع في الإسلام، لأن الإسلام جاء بمشروعية السلام للمتلاقيين، ثم حدث السؤال عن الحال، وقل من صار يجمع بينهما، والسنة البداءة بالسلام، وكأن السبب فيه ما وقع من الطاعون فكانت الداعية متوفرة على سؤال الشخص من صديقه عن حاله فيه ثم كثر ذلك حتى اكتفوا به عن السلام، ويمكن الفرق بين سؤال الشخص عمن عنده ممن عرف أنه متوجع وبين سؤال من حاله يحتمل الحدوث‏
    (ج11/ ص 77)
    وقد سئل مالك عن حديث أبي هريرة فقال‏:‏ ما سمعت به، وإنه لحسن إذا كانت أوبته قريبة، وإن بعد فلا أرى ذلك له ولكنه من محاسن الأخلاق‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ هذا الحديث يدل على صحة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه، وما احتج به من حمله على الأدب لكونه ليس ملكا له لا قبل ولا بعد ليس بحجة، لأنا نسلم أنه غير ملك له لكن يختص به إلى أن يفرغ غرضه، فصار كأنه ملك منفعته فلا يزاحمه غيره عليه، قال النووي‏:‏ قال أصحابنا هذا في حق من جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلا ثم فارقه ليعود إليه كإرادة الوضوء مثلا أو لشغل يسير ثم يعود لا يبطل اختصاصه به، وله أن يقيم من خالفه وقعد فيه، وعلى القاعد أن يطيعه‏.‏
    ختلف هل يجب عليه‏؟‏ على وجهين أصحهما الوجوب، وقيل يستحب وهو مذهب مالك، قال أصحابنا‏:‏ وإنما يكون أحق به في تلك الصلاة دون غيرها، قال‏:‏ ولا فرق بين أن يقوم منه ويترك له فيه سجادة ونحوها أم لا والله أعلم‏.‏
    وقال عياض‏:‏ اختلف العلماء فيمن اعتاد بموضع من المسجد للتدريس والفتوى، فحكى عن مالك أنه أحق به إذا عرف به قال‏:‏ والذي عليه الجمهور أن هذا استحسان وليس بحق واجب، ولعله مراد مالك‏.‏
    وكذا قالوا في مقاعد الباعة من الأفنية والطرق التي هي غير متملكة، قالوا‏:‏ من اعتاد بالجلوس في شيء منها فهو أحق به حتى يتم غرضه‏.‏
    قال‏:‏ وحكاه الماوردي عن مالك قطعا للتنازع‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ الذي عليه الجمهور أنه ليس بواجب‏.‏
    وقال النووي‏:‏ استثنى، أصحابنا من عموم قول ‏"‏ لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ‏"‏ من ألف من المسجد موضعا يفتي فيه أو يقرئ فيه قرآنا أو علما فله أن يقيم من سبقه إلى القعود فيه‏.‏
    قال النووي‏:‏ وأما ما نسب إلى ابن عمر فهو ورع منه، وليس قعوده فيه حراما إذا كان ذلك برضا الذي قام ولكنه تورع منه لاحتمال أن يكون الذي قام لأجله استحيى منه فقام عن غير طيب قلبه فسد الباب ليسلم من هذا أو رأى أن الإيثار بالقرب مكروه أو خلاف الأولى، فكان يمتنع لأجل ذلك لئلا يرتكب ذلك أحد بسببه‏.‏
    (ج11/ ص 78)
    والذي فسر به البخاري الاحتباء أخذه من كلام أبي عبيدة فإنه قال‏:‏ القرفصاء جلسة المحتبى، ويدير ذراعيه ويديه على ساقيه‏.‏
    وقال عياض‏:‏ قيل هي الاحتباء، وقيل جلسة الرجل المستوفز، وقيل جلسة الرجل على أليتيه‏.‏
    وقيل القرفصاء الاعتماد على عقبيه ومس أليتيه بالأرض، والذي يتحرر من هذا كله أن الاحتباء قد يكون بصورة القرفصاء، لا أن كل احتباء قرفصاء والله أعلم‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ لا يجوز للمحتبى أن يصنع بيديه شيئا ويتحرك لصلاة أو غيرها لأن عورته تبدو إلا إذ كان عليه ثوب يستر عورته فيجوز، وهذا بناء على أن الاحتباء قد يكون باليدين فقط وهو المعتمد، وفرق الداودي فيما حكاه عنه ابن التين بين الاحتباء والقرفصاء فقال‏:‏ الاحتباء أن يقيم رجليه ويفرج بين ركبيته ويدير عليه ثوبا ويعقده، فإن كان عليه قميص أو غيره فلا ينهى عنه، وإن لم يكن عليه شيء فهو القرفصاء‏.‏
    كذا قال والمعتمد ما تقدم‏.‏
    (ج11/ ص 83)
    وفي رواية أبي عوانة ‏"‏ ألم يكن فيكم الذي أجير من الشيطان ‏"‏ وقد تقدم بيان المراد بذلك في المناقب، ويحتمل أن يكون أشير بذلك إلى ما جاء عن عمار أن كان ثابتا، فإن الطبراني أخرج من طريق الحسن البصري قال‏:‏ كان عمار يقول قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن والإنس، أرسلني إلى بئر بدر فلقيت الشيطان في صورة إنسي فصارعني فصرعته الحديث‏.‏
    وفي سنده الحكم بن عطية مختلف فيه، والحسن لم يسمع من عمار‏.‏
    (ج11/ ص 90)
    نقل أيضا من طريق خالد بن معدان قال ‏"‏ أول من غزا البحر معاوية في زمن عثمان وكان استأذن عمر فلم يأذن له، فلم يزل بعثمان حتى أذن له وقال‏:‏ لا تنتخب أحدا، بل من اختار الغزو فيه طائعا فأعنه ففعل ‏"‏ وقال خليفة بن خياط في تاريخه في حوادث سنة ثمان وعشرين‏:‏ وفيها غزا معاوية البحر ومعه امرأته فأخته بنت قرظة ومع عبادة بن الصامت امرأته أم حرام، وأرخها في سنة ثمان وعشرين غير واحد، وبه جزم ابن أبي حاتم، وأرخها يعقوب بن سفيان في المحرم سنة سبع وعشرين قال‏:‏ كانت فيه غزاة قبرس الأولى‏.‏
    وأخرج الطبري من طريق الواقدي أن معاوية غزا الروم في خلافة عثمان فصالح أهل قبرس، وسمي امرأته كبرة بفتح الكاف وسكون الموحدة وقيل فأخته بنت قرظة وهما أختان كان معاوية تزوجهما واحدة بعد أخرى، ومن طريق ابن وهب عن ابن لهيعة أن معاوية غزا بامرأته إلى قبرس في خلافة عثمان فصالحهم‏.‏
    (ج11/ ص 91)
    أخرج ابن أبي عاصم في كتاب الجهاد عن هشام بن عمار عن يحيى بن حمزة بالسند الماضي لقصة أم حرام في ‏"‏ باب ما قيل في قتال الروم ‏"‏ وفيه ‏"‏ وعبادة نازل بساحل حمص ‏"‏ قال هشام بن عمار رأيت قبرها بساحل حمص، وجزم جماعة بأن قبرها بجزيرة قبرس، فقال ابن حبان بعد أن أخرج الحديث من طريق الليث بن سعد بسنده ‏"‏ قبر أم حرام بجزيرة في بحر الروم يقال لها قبرس بين بلاد المسلمين وبينها ثلاثة أيام ‏"‏ وجزم ابن عبد البر بأنها حين خرجت من البحر إلى جزيرة قبرس قربت إليها دابتها فصرعتها‏.‏
    وأخرج الطبري من طريق الواقدي أن معاوية صالحهم بعد فتحها على سبعة آلاف دينار في كل سنة، فلما أرادوا الخروج منها قربت لأم حرام دابة لتركبها فسقطت فماتت فقبرها هناك يستسقون به ويقولون قبر المرأة الصالحة، فعلى هذا فلعل مراد هشام بن عمار بقوله ‏"‏ رأيت قبرها بالساحل ‏"‏ أي ساحل جزيرة قبرس، فكأنه توجه إلى قبرس لما غزاها الرشيد في خلافته‏.‏
    (ج11/ ص 93)
    ال أبو بكر بن العربي‏:‏ ثم منع منه عمر بن عبد العزيز ثم أذن فيه من بعده واستقر الأمر عليه، ونقل عن عمر أنه إنما منع ركوبه لغير الحج والعمرة ونحو ذلك، ونقل ابن عبد البر أنه يحرم ركوبه عند ارتجاجه اتفاقا، وكره مالك ركوب النساء مطلقا البحر لما يخشى من اطلاعهن على عورات الرجال فيه إذ يتعسر الاحتراز من ذلك، وخص أصحابه ذلك بالسفن الصغار وأما الكبار التي يمكنهن فيهن الاستتار بأماكن تخصهن فلا حرج فيه‏.‏
    وفي الحديث جواز تمني الشهادة وأن من يموت غازيا يلحق بمن يقتل في الغزو، كذا قال ابن عبد البر وهو ظاهر القصة، لكن لا يلزم من الاستواء في أصل الفضل الاستواء في الدرجات، وقد ذكرت في ‏"‏ باب الشهداء ‏"‏ من كتاب الجهاد كثيرا ممن يطلق عليه شهيد وإن لم يقتل‏.‏
    (ج11/ ص 94)
    وقد أشكل هذا على جماعة فقال ابن عبد البر‏:‏ أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أختها أم سليم فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة فلذلك كان ينام عندها وتنال منه ما يجوز للمحرم أن يناله من محارمه، ثم ساق بسنده إلى يحيى بن إبراهيم بن مزين قال‏:‏ إنما استجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفلي أم حرام رأسه لأنها كانت منه ذات محرم من قبل خالاته، لأن أم عبد المطلب جده كانت من بني النجار‏.‏
    ومن طريق يونس بن عبد الأعلى قال‏:‏ قال لنا ابن وهب أم حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة فلذلك كان يقيل عندها وينام في حجرها وتفلي رأسه‏.‏
    قال ابن عبد البر وأيهما كان فهي محرم له‏.‏
    وجزم أبو القاسم بن الجوهري والداودي والمهلب فيما حكاه ابن بطال عنه بما قال ابن وهب قال‏:‏ وقال غيره إنما كانت خالة لأبيه أو جده عبد المطلب‏.‏
    وقال ابن الجوزي سمعت بعض الحفاظ يقول‏:‏ كانت أم سليم أخت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة‏.‏
    وحكى ابن العربي ما قال ابن وهب ثم قال‏:‏ وقال غيره بل كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوما يملك أربه عن زوجته فكيف عن غيرها مما هو المنزه عنه، وهو المبرأ عن كل فعل قبيح وقول رفث، فيكون ذلك من خصائصه‏.‏
    (ج11/ ص96)
    وقال ابن التين يستفاد من قول عائشة ‏"‏ عزمت عليك بمالي عليك من الحق ‏"‏ جواز العزم بغير الله، قال‏:‏ وفي المدونة عن مالك إذا قال أعزم عليك بالله فلم يفعل لم يحنث، وهو كقوله أسألك بالله، وإن قال أعزم بالله أن تفعل فلم يفعل حنث، لأن هذا يمين انتهى‏.‏
    والذي عند الشافعية أن ذلك في الصورتين يرجع إلى قصد الحالف، فإن قصد يمين نفسه فيمين، وإن قصد بمين المخاطب أو الشفاعة أو أطلق فلا‏.‏
    (ج11/ ص 99)
    قال ابن بطال‏:‏ الذي عليه أهل العلم أن السر لا يباح به إذا كان على صاحبه منه مضرة، وأكثرهم يقول‏:‏ إنه إذا مات لا يلزم من كتمانه ما كان يلزم في حياته إلا أن يكون عليه فيه غضاضة قلت‏:‏ الذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت إلى ما يباح، وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك وإلى ما يكره مطلقا وقد يحرم وهو الذي أشار إليه ابن بطال، وقد يجب كأن يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه كان يعذر بترك القيام به فيرجى بعده إذا ذكر لمن يقوم به عنه أن يفعل ذلك‏.‏
    ومن الأحاديث الواردة في حفظ السر حديث أنس ‏"‏ احفظ سري تكن مؤمنا ‏"‏ أخرجه أبو يعلى والخرائطي، وفيه على ابن زيد وهو صدوق كثير الأوهام، وقد أخرج أصله الترمذي وحسنه؛ ولكن لم يسق هذا المتن بل ذكر بعض الحديث ثم قال‏:‏ وفي الحديث طول‏.‏
    وحديث ‏"‏ إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، فلا يحل لأحد أن يفشي على صاحبه ما يكره ‏"‏ أخرجه عبد الرزاق من مرسل أبي بكر بن حزم‏.‏
    وأخرج القضاعي في ‏"‏ مسند الشهاب ‏"‏ من حديث علي مرفوعا ‏"‏ المجالس بالأمانة ‏"‏ وسنده ضعيف‏.‏
    ولأبي داود من حديث جابر مثله وزاد ‏"‏ إلا ثلاثة مجالس‏:‏ ما سفك فيه دم حرام، أو فرج حرم أو اقتطع فيه مال بغير حق ‏"‏ وحديث جابر رفعه ‏"‏ إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة ‏"‏ أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي، وله شاهد من حديث أنس عند أبي يعلى‏.‏
    (ج11/ ص 103)
    وأما حديث أبي موسى فقوله ‏"‏ احترق بيت بالمدينة على أهله ‏"‏ لم أقف على تسميتهم، قال ابن دقيق العيد‏:‏ يؤخذ من حديث أبي موسى سبب الأمر في حديث جابر بإطفاء المصابيح، وهو فن حسن غريب، ولو تتبع لحصل منه فوائد‏.‏
    قلت‏:‏ قد أفرده أبو حفص العكبري من شيوخ أبي يعلى بن الفراء بالتصنيف وهو في المائة الخامسة، ووقفت على مختصر منه، وكأن الشيخ ما وقف عليه فلذلك تمنى أن لو تتبع، وقوله ‏"‏إن هذه النار إنما هي عدو لكم ‏"‏ هكذا أورده بصيغة الحصر مبالغة في تأكيد ذلك، قال ابن العربي‏:‏ معنى كون النار عدوا لنا أنها تنافي أبداننا وأموالنا منافاة العدو، وإن كانت لنا بها منفعة، لكن لا يحصل لنا منها إلا بواسطة، فأطلق أنها عدو لنا لوجود معنى العداوة فيها والله أعلم
    ال القرطبي‏:‏ في هذه الأحاديث أن الواحد إذا بات ببيت ليس فيه غيره وفيه نار فعليه أن يطفئها قبل نومه أو يفعل بها ما يؤمن معه الاحتراق، وكذا إن كان في البيت جماعة فإنه يتعين على بعضهم وأحقهم بذلك آخرهم نوما، فمن فرط في ذلك كان للسنة مخالفا ولأدائها تاركا‏.‏
    ثم أخرج الحديث الذي أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال ‏"‏ جاءت فأرة فجرت الفتيلة فألقتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدا عليها فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا نمتم فأطفئوا سراجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فيحرقكم ‏"‏ وفي هذا الحديث بيان سبب الأمر أيضا وبيان الحامل للفويسقة - وهي الفأرة - على جر الفتيلة وهو الشيطان، فيستعين وهو عدو الإنسان عليه بعدو آخر وهي النار، أعاذنا الله بكرمه من كيد الأعداء إنه رءوف رحيم‏.‏
    وقال ابن دقيق العيد‏:‏ إذا كانت العلة في إطفاء السراج الحذر من جر الفويسقة الفتيلة فمقتضاه أن السراج إذا كان على هيئة لا تصل إليها الفأرة لا يمنع إيقاده، كما لو كان على منارة من نحاس أملس لا يمكن الفأرة الصعود إليه، أو يكون مكانه بعيدا عن موضع يمكنها أن تثب منه إلى السراج
    وقال ابن دقيق العيد أيضا‏:‏ هذه الأوامر لم يحملها الأكثر على الوجوب، ويلزم أهل الظاهر حملها عليه، قال‏:‏ وهذا لا يختص بالظاهري بل الحمل على الظاهر إلا لمعارض ظاهر يقول به أهل القياس، وإن كان أهل الظاهر أولى بالالتزام به لكونهم لا يلتفتون إلى المفهومات والمناسبات، وهذه الأوامر تتنوع بحسب مقاصدها‏:‏ فمنها ما يحمل على الندب وهو التسمية على كل حال، ومنها ما يحمل على الندب والإرشاد معا كإغلاق الأبواب من أجل التعليل بأن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، لأن الاحتراز من مخالطة الشيطان مندوب إليه وإن كان تحته مصالح دنيوية كالحراسة، وكذا إيكاء السقاء وتخمير الإناء‏.‏
    والله أعلم‏.‏
    (ج11/ ص 105)
    ال ابن دقيق العيد‏:‏ في الأمر بإغلاق الأبواب من المصالح الدينية والدنيوية حراسة الأنفس والأموال من أهل العبث والفساد ولا سيما الشياطين، وأما قوله ‏"‏ فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا ‏"‏ فإشارة إلى أن الأمر بالإغلاق لمصلحة إبعاد الشيطان عن الاختلاط بالإنسان، وخصه بالتعليل تنبيها على ما يخفى مما لا يطلع عليه إلا من جانب النبوة، قال‏:‏ واللام في الشيطان للجنس إذ ليس المراد فردا بعينه
    (ج11/ ص 106)
    ول من اختتن وهو ابن عشرين ومائة، واختتن بالقدوم، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، ورويناه في ‏"‏ فوائد ابن السماك ‏"‏ من طريق أبي أويس عن أبي الزناد بهذا السند مرفوعا، وأبو أويس فيه لين، وأكثر الروايات على ما وقع في حديث الباب أنه عليه السلام اختتن وهو ابن ثمانين سنة، وقد حاول الكمال بن طلحة في جزء له في الختان الجمع بين الروايتين فقال‏:‏ نقل في الحديث الصحيح أنه اختتن لثمانين‏.‏
    وفي رواية أخرى صحيحة أنه اختتن لمائة وعشرين، والجمع بينهما أن إبراهيم عاش مائتي سنة منها ثمانين سنة غير مختون ومنها مائة وعشرين وهو مختون، فمعنى الحديث الأول اختتن لثمانين مضت من عمره، والثاني لمائة وعشرين بقيت من عمره‏.‏
    وتعقبه الكمال بن العديم في جزء سماه ‏"‏ الملحة في الرد على ابن طلحة ‏"‏ بأن في كلامه وهما من أوجه‏:‏ أحدها تصحيحه لرواية مائة وعشرين وليست بصحيحة، ثم أوردها من رواية الوليد عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعة وتعقبه بتدليس الوليد، ثم أورده من ‏"‏ فوائد ابن المقري ‏"‏ من رواية جعفر بن عون عن يحيى بن سعيد به موقوفا، ومن رواية علي بن مسهر وعكرمة بن إبراهيم كلاهما عن يحيى بن سعيد كذلك‏.‏
    ها قول هشام بن الكلبي عن أبيه قال‏:‏ دعا إبراهيم الناس إلى الحج ثم رجع إلى الشام فمات به وهو ابن مائتي سنة‏.‏
    وذكر أبو حذيفة البخاري أحد الضعفاء في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ بسند له ضعيف أن إبراهيم عاش مائة وخمسا وسبعين سنة‏.‏
    وأخرج ابن أبي الدنيا من مرسل عبيد بن عمير في وفاة إبراهيم وقصته مع ملك الموت ودخوله عليه في صورة شيخ فأضافه، فجعل يضع اللقمة في فيه فتتناثر ولا تثبت في فيه، فقال له‏:‏ كم أتى عليك‏؟‏ قال‏:‏ مائة وإحدى وستون سنة‏.‏
    فقال إبراهيم في نفسه وهو يومئذ ابن ستين ومائة‏:‏ ما بقي أن أصير هكذا إلا سنة واحدة فكره الحياة، فقبض ملك الموت حينئذ روحه برضاه‏.‏
    فهذه ثلاثة أقوال مختلفة يتعسر الجمع بينها، لكن أرجحها الرواية الثالثة‏.‏
    وخطر لي بعد أنه يجوز الجمع بأن يكون المراد بقوله ‏"‏ وهو ابن ثمانين ‏"‏ أنه من وقت فارق قومه وهاجر من العراق إلى الشام، وأن الرواية الأخرى ‏"‏ وهو ابن مائة وعشرين ‏"‏ أي من مولده، أو أن بعض الرواة رأى مائة وعشرين فظنها إلا عشرين أو بالعكس، والله أعلم‏.‏
    قال المهلب‏:‏ ليس اختتان إبراهيم عليه السلام بعد ثمانين مما يوجب علينا مثل فعله، إذ عامة من يموت من الناس لا يبلغ الثمانين، وإنما اختتن وقت أوحى الله إليه بذلك وأمره به، قال‏:‏ والنظر يقتضي أنه لا ينبغي الاختتان إلا قرب وقت الحاجة إليه لاستعمال العضو في الجماع، كما وقع لابن عباس حيث قال ‏"‏ كانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك ‏"‏ ثم قال‏:‏ والاختتان في الصغر لتسهيل الأمر على الصغير لضعف عضوه وقلة فهمه‏.
    (ج11/ ص 108)
    ‏لأكثر على أن القدوم الذي اختتن به إبراهيم هو الآلة، يقال بالتشديد والتخفيف والأفصح التخفيف، ووقع في روايتي البخاري بالوجهين، وجزم النضر بن شميل أنه اختتن بالآلة المذكورة، فقيل له‏:‏ يقولون قدوم قرية بالشام، فلم يعرفه وثبت على الأول‏.‏
    وفي صحاح الجوهري‏:‏ القدوم الآلة والموضع بالتخفيف معا‏.‏
    وأنكر ابن السكيت التشديد مطلقا‏.‏
    ووقع في متفق البلدان للحازمي‏:‏ قدوم قرية كانت عند حلب وكانت مجلس إبراهيم‏.
    خرج أبو العباس السراج في تاريخه عن عبيد الله بن سعيد عن يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ اختتن إبراهيم بالقدوم ‏"‏ فقلت ليحيى‏:‏ ما القدوم‏؟‏ قال الفأس‏.
    (ج11/ ص 109)
    وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة رفعه ‏"‏ لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ وفيهن أنزل الله ‏(‏ومن الناس من يشتري لهو الحديث‏)‏ الآية، وسنده ضعيف‏.‏
    وأخرج الطبراني عن ابن مسعود موقوفا أنه فسر اللهو في هذه الآية بالغناء، وفي سنده ضعف أيضا‏.
    قال مسلم في صحيحه‏.‏
    بعد أن أخرج هذا الحديث‏:‏ هذا الحرف ‏"‏ تعال أقامرك ‏"‏ لا يرويه أحد إلا الزهري، وللزهري نحو تسعين حرفا لا يشاركه فيها غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد‏.‏
    قلت‏:‏ وإنما قيد التفرد بقوله ‏"‏ تعال أقامرك ‏"‏ لأن لبقية الحديث شاهدا من حديث سعد بن أبي وقاص يستفاد منه سبب حديث أبي هريرة أخرجه النسائي بسند قوي قال ‏"‏ كنا حديثي عهد الجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وانفث عن شمالك وتعوذ بالله ثم لا تعد ‏"‏ فيمكن أن يكون المراد بقوله في حديث أبي هريرة ‏"‏ فليقل لا إله إلا الله ‏"‏ إلى آخر الذكر المذكور إلى قوله ‏"‏ قدير ‏"‏ ويحتمل الاكتفاء بلا إله إلا الله لأنها كلمة التوحيد، والزيادة المذكورة في حديث سعد تأكيد‏.‏
    (ج11/ ص 111)
    في رواية الكشميهني ‏"‏ رعاء ‏"‏ بكسر الراء وبالهمز مع المد، وقد تقدم هذا الحديث موصولا مطولا مع شرحه في كتاب الإيمان، وأشار بإيراد هذه القطعة إلى ذم التطاول في البنيان، وفي الاستدلال بذلك نظر، وقد ورد في ذم تطويل البناء صريحا ما أخرج ابن أبي الدنيا من رواية عمارة ابن عامر ‏"‏ إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع نودي يا فاسق إلى أين‏؟‏ ‏"‏ وفي سنده ضعف مع كونه موقوفا‏.‏
    وفي ذم البناء مطلقا حديث خباب رفعه قال ‏"‏ يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب ‏"‏ أو قال ‏"‏ البناء ‏"‏ أخرجه الترمذي وصححه وأخرج له شاهدا عن أنس بلفظ ‏"‏ إلا البناء فلا خير فيه ‏"‏ وللطبراني من حديث جابر رفعه ‏"‏ إذا أراد الله بعبد شرا خضر له في اللبن والطين حتى يبني ‏"‏ ومعنى ‏"‏ خضر ‏"‏ بمعجمتين حسن، وزنا ومعنى‏.‏
    وله شاهد في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من حديث أبي بشر الأنصاري بلفظ ‏"‏ إذا أراد الله بعبد سوءا أنفق ماله في البنيان ‏"‏ وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال ‏"‏ مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطا فقال‏:‏ الأمر أعجل من ذلك ‏"‏ وصححه الترمذي وابن حبان، وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن وما يقي البرد والحر، وقد أخرج أبو داود أيضا من حديث أنس رفعه ‏"‏ أما أن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا، إلا ما لا ‏"‏ أي إلا ما لا بد منه، ورواته موثقون إلا الراوي عن أنس وهو أبو طلحة الأسدي فليس بمعروف، وله شاهد عن واثلة عند الطبراني‏.‏
    ال الداودي‏:‏ ليس الغرس كالبناء، لأن من غرس ونيته طلب الكفاف أو لفضل ما ينال منه ففي ذلك الفضل لا الإثم‏.‏
    قلت‏:‏ لم يتقدم للإثم في الخبر ذكر حتى يعترض به، وكلامه يوهم أن في البناء كله الإثم، وليس كذلك بل فيه التفصيل، وليس كل ما زاد منه على الحاجة يستلزم الإثم، ولا شك أن في الغرس من الأجر من أجل ما يؤكل منه ما ليس في البناء، وإن كان في بعض البناء ما يحصل به الأجر مثل الذي يحصل به النفع لغير الباني فإنه يحصل للباني به الثواب، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏
    11/ ص 112)
    قال ابن بطال‏:‏ يؤخذ من جواب سفيان أن العالم إذا جاء عنه قولان مختلفان أنه ينبغي لسامعهما أن يتأولهما على وجه ينفي عنهما التناقض تنزيها له عن الكذب انتهى‏.‏
    ولعل سفيان فهم من قول بعض أهل ابن عمر الإنكار على ما رواه له عن عمرو بن دينار عن ابن عمر، فبادر سفيان إلى الانتصار لشيخه ولنفسه وسلك الأدب مع الذي خاطبه بالجمع الذي ذكره، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏
    انتهى كتاب "الاستئذان "
    ويليه كتاب " الدعوات "
    المجلد الحادي عشر من فتح الباري "

  8. #208
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم التاسع / ا
    المجلد الحادي عشر من كتاب " فتح الباري " للحافظ ابن حجر رحمه الله
    الموافق 2/ شعبان / 1441 هجري
    الموافق 26/ مارس / 2020 ميلادي
    كتاب " الدعوات /باب 21/ ج6339


    كتاب " الدعوات "
    (ج11/ ص 113)
    وقال الشيخ أبو القاسم القشيري في ‏"‏ شرح الأسماء الحسنى ‏"‏ ما ملخصه‏:‏ جاء الدعاء في القرآن على وجوه‏:‏ منها العبادة ‏(‏ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك‏)‏ ومنها الاستغاثة ‏(‏وادعوا شهداءكم‏)‏ ، ومنها السؤال ‏(‏ادعوني أستجب لكم‏)‏ ، ومنها القول ‏(‏دعواهم فيها سبحانك اللهم‏)‏ والنداء ‏(‏يوم يدعوكم‏)‏ ، والثناء ‏(‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏)‏ ‏.‏
    وقالت طائفة‏:‏ الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن الآية بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء العبادة لقوله ‏(‏إن الذين يستكبرون عن عبادتي‏)‏ واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ الدعاء هو العبادة ‏"‏ ثم قرأ ‏(‏وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي‏)‏ الآية أخرجه الأربعة وصححه الترمذي والحاكم‏.‏
    وشذت طائفة فقالوا‏:‏ المراد بالدعاء في الآية ترك الذنوب، وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادة فهو كالحديث الآخر ‏"‏ الحج عرفه ‏"‏ أي معظم الحج وركنه الأكبر، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أنس رفعه ‏"‏ الدعاء مخ العبادة ‏"‏ وقد تواردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالترغيب في الدعاء والحث عليه كحديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ ليس شيء أكرم على الله من الدعاء ‏"‏ أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم وحديثه رفعه ‏"‏ من لم يسأل الله يغضب عليه ‏"‏ أخرجه أحمد والبخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ والترمذي وابن ماجه والبزار والحاكم كلهم من رواية أبي صالح الخوزي بضم الخاء المعجمة وسكون الواو ثم زاي عنه، وهذا الخوزي مختلف فيه ضعفه ابن معين وقواه أبو زرعة، وظن الحافظ ابن كثير أنه أبو صالح السمان فجزم بأن أحمد تفرد بتخريجه، وليس كما قال فقد جزم شيخه المزي في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ بما قلته‏.‏
    يؤيده حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل ‏"‏ أخرجه الترمذي، وله من حديث ابن عمر رفعه ‏"‏ إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء ‏"‏ وفي سنده لين، وقد صححه مع ذلك الحاكم‏.‏
    وأخرج الطبراني في الدعاء بسند رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية عن عائشة مرفوعا ‏"‏ إن الله يحب الملحين في الدعاء ‏"‏ وقال الشيخ تقي الدين السبكي‏:‏ الأولى حمل الدعاء في الآية على ظاهره، وأما قوله بعد ذلك ‏(‏عن عبادتي‏)‏ فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارا ومن فعل ذلك كفر، وأما من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة في الحث عليه‏.‏
    وحكى القشيري في ‏"‏ الرسالة ‏"‏ الخلاف في المسألة فقال‏:‏ اختلف أي الأمرين أولى‏:‏ الدعاء أو السكوت والرضا‏؟‏ فقيل‏:‏ الدعاء، وهو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة، لما فيه من إظهار الخضوع والافتقار‏.‏
    وقيل السكوت والرضا أولى لما في التسليم من الفضل‏.‏
    قلت‏:‏ وشبهتهم أن الداعي لا يعرف ما قدر له فدعاؤه إن كان على وفق المقدور فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاندة‏.‏
    قال القشيري‏:‏ ويصح أن يقال ما كان لله أو للمسلمين فيه نصيب فالدعاء أفضل، وما كان للنفس فيه حظ فالسكوت أفضل، وعبر ابن بطال عن هذا القول لما حكاه بقوله‏:‏ يستحب أن يدعو لغيره ويترك لنفسه، وعمدة من أول الدعاء في الآية بالعبادة أو غيرها قوله تعالى ‏(‏فيكشف ما تدعون إليه إن شاء‏)‏ وإن كثيرا من الناس يدعو فلا يستجاب له، فلو كانت على ظاهرها لم يتخلف‏.‏
    والجواب عن ذلك أن كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة‏:‏ فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه‏.‏
    وقد ورد في ذلك حديث صحيح أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبادة ابن الصامت رفعه ‏"‏ ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها ‏"‏ ولأحمد من حديث أبي هريرة ‏"‏ إما أن يعجلها له، وإما أن يدخرها له ‏"‏ وله في حديث أبي سعيد رفعه ‏"‏ ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث‏:‏ إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها ‏"‏ وصححه
    الحاكم
    (ج11/ ص 115)
    وقيل معنى قوله ‏"‏ لكل نبي دعوة ‏"‏ أي أفضل دعواته، ولهم دعوات أخرى، وقيل لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب، وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح ‏(‏لا تذر على الأرض‏)‏ وقول زكريا ‏(‏فهب لي من لدنك وليا يرثني‏)‏ وقول سليمان ‏(‏وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي‏)‏ حكاه ابن التين‏.‏
    وقال بعض شراح ‏"‏ المصابيح ‏"‏ ما لفظه‏:‏ اعلم أن جميع دعوات الأنبياء مستجابة، والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم، والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة‏.‏
    وتعقبه الطيبي بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء من العرب ودعا على أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ودعا على مضر، قال‏:‏ والأولى أن يقال إن الله جعل لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا، وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه ‏(‏ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم‏)‏ فبقي تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة، وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا‏.‏
    وأما جزمه أولا بأن جميع أدعيتهم مستجابة ففيه غفلة عن الحديث الصحيح ‏"‏ سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة ‏"‏ الحديث ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ في هذا الحديث بيان فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها أيضا دعاء عليهم بالهلاك كما وقع لغيره ممن تقدم‏.‏
    وقال ابن الجوزي‏:‏ هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي، ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين‏.‏
    وقال النووي‏:‏ فيه كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم، فجعل دعوته في أهم أوقات حاجتهم‏.‏
    (ج11/ ص 119)
    وقع في فضل الاستغفار ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث يسار وغيره مرفوعا ‏"‏ من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان فر من الزحف ‏"‏ قال أبو نعيم الأصبهاني‏:‏ هذا يدل على أن بعض الكبائر تغفر ببعض العمل الصالح، وضابطه الذنوب التي لا توجب على مرتكبها حكما في نفس ولا مال، ووجه الدلالة منه أنه مثل بالفرار من الزحف وهو من الكبائر، فدل على أن ما كان مثله أو دونه يغفر إذا كان مثل الفرار من الزحف، فإنه لا يوجب على مرتكبه حكما في نفس ولا مال‏.‏
    (ج11/ ص 120
    وكأن المصنف لمح بذكر هذه الآية إلى أثر الحسن البصري‏:‏ إن رجلا شكى إليه الجدب فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر جفاف بستانه فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر عدم الولد فقال استغفر الله، ثم تلا عليهم هذه الآية‏.‏
    وفي الآية حث على الاستغفار وإشارة إلى وقوع المغفرة لمن استغفر وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله‏:‏ لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفيك ما علمتني الطلبا
    وورد في فضل الاستغفار والحث عليه آيات كثيرة، وأحاديث كثيرة منها حديث أبي سعيد رفعه ‏"‏ قال إبليس‏:‏ يا رب لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم‏.‏
    فقال الله تعالى‏:‏ وعزتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ‏"‏ أخرجه أحمد، وحديث أبي بكر الصديق رفعه ‏"‏ ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة ‏"‏ أخرجه أبو داود والترمذي وذكر السبعين للمبالغة، وإلا ففي حديث أبي هريرة الآتي في التوحيد مرفوعا ‏"‏ أن عبدا أذنب ذنبا فقال رب إني أذنبت ذنبا فاغفر لي فغفر له ‏"‏ الحديث وفي آخره ‏"‏ علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، اعمل ما شئت فقد غفرت لك‏"‏‏.‏
    (ج11/ ص 120)
    ال ابن أبي جمرة‏:‏ جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أنه يسمى سيد الاستغفار، ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجدها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو، وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة، فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى‏.‏
    وهذا القدر الذي يكني عنه بالحقيقة‏.‏
    فلو اتفق أن العبد خالف حتى يجري عليه ما قدر عليه وقامت الحجة عليه ببيان المخالفة لم يبق إلا أحد أمرين‏:‏ إما العقوبة بمقتضى العدل أو العفو بمقتضى الفضل، انتهى ملخصا‏.‏
    وأخرج النسائي أيضا من طريق عطاء عن أبي هريرة ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناس فقال‏:‏ يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة ‏"‏ وله في حديث الأغر المزني رفعه مثله، وهو عنده وعند مسلم بلفظ ‏"‏ إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة ‏"‏ قال عياض‏:‏ المراد بالغين فترات عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه، فإذا فتر عنه لأمر ما عد ذلك ذنبا فاستغفر عنه‏.‏
    وقيل هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس، وقيل هو السكينة التي تغشى قلبه والاستغفار لإظهار العبودية لله والشكر لما أولاه، وقيل هي حالة خشية وإعظام والاستغفار شكرها، ومن ثم قال المحاسبي‏:‏ خوف المتقربين خوف إجلال وإعظام‏.‏
    وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي‏:‏ لا يعتقد أن الغين في حالة نقص، بل هو كمال أو تتمة كمال‏.‏
    (ج11/ ص 122)
    وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية‏.‏
    وأجيب بعدة أجوبة‏:‏ منها ما تقدم في تفسير الغين، ومنها قول ابن الجوزي‏:‏ هفوات الطباع البشرية لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر فلم يعصموا من الصغائر‏.‏
    كذا قال، وهو مفرع على خلاف المختار، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضا‏.‏
    ومنها قول ابن بطال‏:‏ الأنبياء أشد الناس اجتهادا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة، فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير انتهى‏.‏
    ومحصل جوابه أن الاستغفار من التقصير في أداء الحق الذي يجب لله تعالى، ويحتمل أن يكون لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة، أو لمخاطبة الناس والنظر في مصالحهم، ومحاربة عدوهم تارة ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه ومشاهدته ومراقبته، فيرى ذلك ذنبا بالنسبة إلى المقام العلى وهو الحضور في حظيرة القدس‏.‏
    ومنها أن استغفاره تشريع لأمته، أو من ذنوب الأمة فهو كالشفاعة لهم‏.‏
    وقال الغزالي في ‏"‏ الإحياء ‏"‏ كان صلى الله عليه وسلم دائم الترقي، فإذا ارتقى إلى حال رأى ما قبلها دونها فاستغفر من الحالة السابقة، وهذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقا بحسب تعدد الأحوال، وظاهر ألفاظ الحديث يخالف ذلك‏.‏
    وقال الشيخ السهروردي‏:‏ لما كان روح النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل في الترقي إلى مقامات القرب يستتبع القلب، والقلب يستتبع النفس، ولا ريب أن حركة الروح والقلب أسرع من نهضة النفس فكانت خطأ النفس تقصر عن مداهما في العروج، فاقتضت الحكمة إبطاء حركة القلب لئلا تنقطع علاقة النفس عنه فيبقى العباد محرومين، فكان صلى الله عليه وسلم يفزع إلى الاستغفار لقصور النفس عن شأو ترقي القلب، والله أعلم‏.‏
    ( ج11/ ص 123)
    ما ألطف قول ابن الجوزي، إذ سئل أأسبح أو أستغفر‏؟‏ فقال‏:‏ الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور‏.‏
    والاستغفار استفعال من الغفران وأصله الغفر وهو إلباس الشيء ما يصونه عما يدنسه، وتدنيس كل شيء يحسبه والغفران من الله للعبد أن يصونه عن العذاب، والتوبة ترك الذنب على أحد الأوجه‏.‏
    وفي الشرع ترك الذنب لقبحه، والندم على فعله، والعزم على عدم العود، ورد المظلمة إن كانت أو طلب البراءة من صاحبها، وهي أبلغ ضروب الاعتذار، لأن المعتذر إما أن يقول لا أفعل فلا يقع الموقع عند من اعتذر له لقيام احتمال أنه فعل، لا سيما إن ثبت ذلك عنده عنه، أو يقول فعلت لأجل كذا ويذكر شيئا يقيم عذره وهو فوق الأول، أو يقول فعلت ولكن أسأت وقد أقلعت وهذا أعلاه انتهى من كلام الراغب ملخصا‏.‏
    حكى غيره عن عبد الله بن المبارك في شروط التوبة زيادة فقال‏:‏ الندم، والعزم على عدم العود؛ ورد المظلمة، وأداء ما ضيع من الفرائض، وأن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيذيبه بالهم والحزن حتى ينشأ له لحم طيب، وأن يذيق نفسه ألم الطاعة كما أذاقها لذة المعصية‏.‏
    قلت‏:‏ وبعض هذه الأشياء مكملات‏.‏
    وقد تمسك من فسر التوبة بالندم بما أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهما من حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ الندم توبة ‏"‏ ولا حجة فيه لأن المعنى الحض عليه وأنه الركن الأعظم في التوبة لا أنه التوبة نفسها، وما يؤيد اشتراط كونها لله تعالى وجود الندم على الفعل ولا يستلزم الإقلاع عن أصل تلك المعصية، كمن قتل ولده مثلا وندم لكونه ولده، وكمن بذل مالا في معصية ثم ندم على نقص ذلك المال مما عنده‏.‏
    (ج11/ ص 125)
    وحكى القرطبي المفسر أنه اجتمع له من أقوال العلماء في تفسير التوبة النصوح ثلاثة وعشرون قولا‏:‏ الأول قول عمر ‏"‏ أن يذنب الذنب ثم لا يرجع ‏"‏ وفي لفظ ثم ‏"‏ لا يعود فيه ‏"‏ أخرجه الطبري بسند صحيح عن ابن مسعود مثله، وأخرجه أحمد مرفوعا‏.‏
    وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زر بن حبيش عن أبي بن كعب أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ أن يندم إذا أذنب فيستغفر ثم لا يعود إليه ‏"‏ وسنده ضعيف جدا‏.‏
    الثاني‏:‏ أن يبغض الذنب ويستغفر منه كلما ذكره، أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري‏.‏
    الثالث قول قتادة المذكور قبل‏.‏
    الرابع أن يخلص فيها‏.‏
    الخامس أن يصير من عدم قبولها على وجل‏.‏
    السادس أن لا يحتاج معها إلى توبة أخرى‏.‏
    السابع أن يشتمل على خوف ورجاء ويدمن الطاعة‏.‏
    الثامن مثله وزاد‏:‏ وأن يهاجر من أعانه عليه‏.‏
    التاسع أن يكون ذنبه بين عينيه‏.‏
    العاشر أن يكون وجها بلا قفا كما كان في المعصية قفا بلا وجه‏.‏
    ثم سرد بقية الأقوال من كلام الصوفية بعبارات مختلفة ومعان مجتمعة ترجع إلى ما تقدم، وجميع ذلك من المكملات لا من شرائط الصحة، والله أعلم‏.‏
    (ج11/ ص 130)
    قال بعضهم‏:‏ من سره أن لا يرى ما يسوؤه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا قال‏:‏ وفيه أن فرح البشر وغمهم إنما هو على ما جرى به أثر الحكمة من العوائد، يؤخذ من ذلك أن حزن المذكور إنما كان على ذهاب راحلته لخوف الموت من أجل فقد زاده، وفرحه بها إنما كان من أجل وجدانه ما فقد مما تنسب الحياة إليه في العادة، وفيه بركة الاستسلام لأمر الله، لأن المذكور لما أيس من وجدان راحلته استسلم للموت فمن الله عليه برد ضالته‏.‏
    وفيه ضرب المثل بما يصل إلى الأفهام من الأمور المحسوسة، والإرشاد إلى الحض على محاسبة النفس، واعتبار العلامات الدالة على بقاء نعمة الإيمان‏.‏
    (ج11/ ص 133)
    وخص الأيمن لفوائد‏:‏ منها أنه أسرع إلى الانتباه، ومنها أن القلب متعلق إلى جهة اليمين فلا يثقل بالنوم، ومنها قال ابن الجوزي‏:‏ هذه الهيئة نص الأطباء على أنها أصلح للبدن، قالوا يبدأ بالاضطجاع على الجانب الأيمن ساعة ثم ينقلب إلى الأيسر لأن الأول سبب لانحدار الطعام، والنوم على اليسار يهضم لاشتمال الكبد على المعدة‏.‏
    ‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ هكذا وقع في رواية سعد بن عبيدة وأبي إسحاق عن البراء، ووقع في رواية العلاء بن المسيب عن أبيه عن البراء من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه كما سيأتي قريبا ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن ‏"‏ ثم قال‏:‏ الحديث فيستفاد مشروعية هذا الذكر من قوله صلى الله عليه وسلم ومن فعله، ووقع عند النسائي من رواية حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة عن البراء وزاد في أوله ‏"‏ ثم قال‏:‏ بسم الله اللهم أسلمت نفسي إليك ‏"‏ ووقع عند الخرائطي في ‏"‏ مكارم الأخلاق ‏"‏ من وجه آخر عن البراء بلفظ ‏"‏ كان إذا أوى إلى فراشه قال‏:‏ اللهم أنت ربي ومليكي وإلهي لا إله إلا أنت، إليك وجهت وجهي ‏"‏ الحديث‏.‏
    (ج11/ ص137)
    قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ النفس التي تفارق الإنسان عند النوم هي التي للتمييز، والتي تفارقه عند الموت هي التي للحياة وهي التي يزول معها التنفس، وسمي النوم موتا لأنه يزول معه العقل والحركة تمثيلا وتشبيها قاله في النهاية، ويحتمل أن يكون المراد بالموت هنا السكون كما قالوا ماتت الريح أي سكنت، فيحتمل أن يكون أطلق الموت على النائم بمعنى إرادة سكون حركته لقوله تعالى ‏(‏وهو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه‏)‏ قاله الطيبي‏:‏ قال‏:‏ وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل والسؤال والهرم والمعصية والجهل‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ ‏"‏ النوم والموت يجمعهما انقطاع تعلق الروح بالبدن ‏"‏ وذلك قد يكون ظاهرا وهو النوم ولذا قيل النوم أخو الموت، وباطنا وهو الموت، فإطلاق الموت على النوم يكون مجازا لاشتراكهما في انقطاع تعلق الروح بالبدن‏.‏
    وقال الطيبي‏:‏ الحكمة في إطلاق الموت على النوم أن انتفاع الإنسان بالحياة إنما هو لتحري رضا الله عنه وقصد طاعته واجتناب سخطه وعقابه، فمن نام زال عنه هذا الانتفاع فكان كالميت فحمد الله تعالى على هذه النعمة وزوال ذلك المانع، قال‏:‏ وهذا التأويل موافق للحديث الآخر الذي فيه ‏"‏ وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين
    (ج11/ ص 147)
    صفين الحرب التي كانت بين علي ومعاوية بصفين، وهي بلد معروف بين العراق والشام، وأقام الفريقان بها عدة أشهر، وكانت بينهم وقعات كثيرة، لكن لم يقاتلوا في الليل إلا مرة واحدة وهي ليلة الهرير بوزن عظيم، سميت بذلك لكثرة ما كان الفرسان يهرون فيها، وقتل بين الفريقين تلك الليلة عدة آلاف، وأصبحوا وقد أشرف علي وأصحابه على النصر فرفع معاوية وأصحابه المصاحف، فكان ما كان من الاتفاق على التحكيم وانصراف كل منهم إلى بلاده‏.‏
    (ج11/ ص 148)
    وقال عياض‏:‏ جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أذكار عند النوم مختلفة بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات، وفي كل فضل، قال ابن بطال‏:‏ وفي هذا الحديث حجة لمن فضل الفقر على الغنى لقوله ‏"‏ ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم ‏"‏ فعلمهما الذكر، فلو كان الغني أفضل من الفقر لأعطاهما الخادم وعلمهما الذكر فلما منعهما الخادم وقصرهما على الذكر علم أنه إنما اختار لهما الأفضل عند الله‏.‏
    (ج11/ ص 149)
    وأخرج الطبري في تهذيبه من طريق أبي مريم ‏"‏ سمعت عليا يقول‏:‏ إن فاطمة كانت تدق الدرمك بين حجرين حتى مجلت يداها ‏"‏ فذكر الحديث، وفيه ‏"‏ فأتانا وقد دخلنا فراشنا فلما استأذن علينا تخششنا لنلبس علينا ثيابنا، فلما سمع ذلك قال‏:‏ كما أنتما في لحافكما‏"‏‏.‏
    ودفع بعضهم الاستدلال المذكور لعصمته صلى الله عليه وسلم فلا يلحق به غيره ممن ليس بمعصوم‏.
    (ج11/ ص150)
    أن من واظب على هذا الذكر عند النوم لم يصبه إعياء لأن فاطمة شكت التعب من العمل فأحالها صلى الله عليه وسلم على ذلك، كذا أفاده ابن تيمية، وفيه نظر ولا يتعين رفع التعب بل يحتمل أن يكون من واظب عليه لا يتضرر بكثرة العمل ولا يشق عليه ولو حصل له التعب، والله أعلم‏.‏
    (ج11/ ص 151)
    وقد ورد في القراءة عند النوم عدة أحاديث صحيحة‏:‏ منها حديث أبي هريرة في قراءة آية الكرسي وقد تقدم في الوكالة وغيرها، وحديث ابن مسعود الآيتان من آخر سورة البقرة وقد تقدم في فضائل القرآن، وحديث فروة بن نوفل عن أبيه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنوفل اقرأ قل يا أيها الكافرون في كل ليلة وتم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك ‏"‏ أخرجه أصحاب السنن الثلاثة وابن حبان والحاكم، وحديث العرباض بن سارية ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ المسبحات قبل أن يرقد ويقول فيهن آية خير من ألف آية ‏"‏ أخرجه الثلاثة، وحديث جابر رفعه ‏"‏ كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل وتبارك ‏"‏ أخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وحديث شداد بن أوس رفعه ‏"‏ ما من امرئ مسلم يأخذ مضجعه فيقرأ سورة من كتاب الله إلا بعث الله ملكا يحفظه من كل شيء يؤذيه حتى يهب ‏"‏ أخرجه أحمد والترمذي، وورد في التعوذ أيضا عدة أحاديث‏:‏ منها حديث أبي صالح عن رجل من أسلم رفعه ‏"‏ لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق لم يضرك شيء ‏"‏ وفيه قصة‏.‏
    ومنهم من قال عن أبي صالح عن أبي هريرة أخرجه أبو داود وصححه الحاكم‏.‏
    وحديث أبي هريرة ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذ أحدنا مضجعه أن يقول‏:‏ اللهم رب السماوات ورب الأرض ‏"‏ الحديث، وفي لفظ ‏"‏ اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفشي ومن شر الشيطان الرجيم وشركه ‏"‏ أخرجه أبو داود والترمذي، وحديث على رفعه ‏"‏ كان يقول عند مضجعه‏:‏ اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته ‏"‏ أ
    أخرجه أبو داود والنسائي، قال ابن بطال‏:‏ في حديث عائشة رد على من منع استعمال العوذ والرقي إلا بعد وقوع المرض انتهى،
    (ج11/ ص 152)
    قال ابن بطال‏:‏ في هذا الحديث أدب عظيم، وقد ذكر حكمته في الخبر وهو خشية أن يأوي إلى فراشه بعض الهوام الضارة فتؤذيه‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ يؤخذ من هذا الحديث أنه ينبغي لمن أراد المنام أن يمسح فراشه لاحتمال أن يكون فيه شيء يخفى من رطوبة أو غيرها‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ هذا من الحذر ومن النظر في أسباب دفع سوء القدر أو هو من الحديث الآخر ‏"‏ اعقلها وتوكل‏"‏‏.‏
    قلت‏:‏ ومما ورد ما يقال عند النوم حديث أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال‏:‏ الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوى ‏"‏ أخرجه مسلم والثلاثة، ولأبي داود من حديث ابن عمر نحوه وزاد ‏"‏ والذي من على فأفضل، والذي أعطاني فأجزل ‏"‏ ولأبي داود والنسائي من حديث علي ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند مضجعه‏:‏ اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامة من شر ما أنت أخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم، اللهم لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك
    (ج11/ ص 155)
    قال ابن بطال‏:‏ هو وقت شريف، خصه الله بالتنزيل فيه، فيتفضل على عباده بإجابة دعائهم، وإعطاء سؤلهم، وغفران ذنوبهم، وهو وقت غفلة وخلوة واستغراق في النوم واستلذاذ له، ومفارقة اللذة والدعة صعب، لا سيما أهل الرفاهية وفي زمن البرد‏.‏
    وكذا أهل التعب ولا سيما في قصر الليل، فمن آثر القيام لمناجاة ربه والتضرع إليه مع ذلك دل على خلوص نيته وصحة رغبته فيما عند ربه، فلذلك نبه الله عباده على الدعاء في هذا الوقت الذي تخلو فيه النفس من خواطر الدنيا وعلقها، ليستشعر العبد الجد والإخلاص لربه‏.‏
    (ج11/ ص 158)
    قال الطبري‏:‏ في حديث أبي بكر دلالة على رد قول من زعم أنه لا يستحق اسم الإيمان إلا من لا خطيئة له ولا ذنب، لأن الصديق من أكبر أهل الإيمان‏.‏
    وقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت‏"‏‏.‏
    وقال الكرماني‏:‏ هذا الدعاء من الجوامع، لأن فيه الاعتراف بغاية التقصير وطلب غاية الإنعام، فالمغفرة ستر الذنوب ومحوها، والرحمة إيصال الخيرات، ففي الأول طلب الزحزحة عن النار وفي الثاني طلب إدخال الجنة وهذا هو الفوز العظيم‏.‏
    وقال ابن أبي حمزة ما ملخصه‏:‏ في الحديث مشروعية الدعاء في الصلاة، وفضل الدعاء المذكور على غيره، وطلب التعليم من الأعلى وإن كان الطالب يعرف ذلك النوع، وخص الدعاء بالصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ‏"‏ وفيه أن المرء ينظر في عبادته إلى الأرفع فيتسبب في تحصيله‏.‏
    وفي تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر هذا الدعاء إشارة إلى إيثار أمر الآخرة على أمر الدنيا، ولعله فهم ذلك من حال أبي بكر وإيثاره أمر الآخرة قال‏:‏ وفي قوله ‏"‏ ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت ‏"‏ أي ليس لي حيلة في دفعه فهي حالة افتقار، فأشبه حال المضطر الموعود بالإجابة، وفيه هضم النفس والاعتراف بالتقصير،
    (ج11/ ص 160)
    ‏باب الدعاء بعد الصلاة‏)‏ أي المكتوبة، وفي هذه الترجمة رد على من زعم أن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع، متمسكا بالحديث الذي أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن الحارث عن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا سلم لا يثبت إلا قدر ما يقول‏:‏ اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام‏"‏‏.‏
    والجواب أن المراد بالنفي المذكور نفي استمراره جالسا على هيئته قبل السلام إلا بقدر أن يقول ما ذكر، فقد ثبت أنه ‏"‏ كان إذا صلى أقبل على أصحابه ‏"‏ فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يقبل بوجهه على أصحابه‏.‏
    (ج11/ ص 162)
    قال ابن القيم في ‏"‏ الهدي النبوي ‏"‏‏:‏ وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة سواء الإمام والمنفرد والمأموم فلم يكن ذلك من هدى النبي صلى الله عليه وسلم أصلا، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، وخص بعضهم ذلك بصلاتي الفجر والعصر، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء بعده ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا من السنة بعدهما، قال‏:‏ وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها، قال، وهذا اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربه مناجيه، فإذا سلم منها انقطعت المناجاة وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه وهو مقبل عليه ثم يسأل إذا انصرف عنه‏؟‏ ثم قال‏:‏ لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يستحب لمن أتى بها أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يفرغ منها ويدعو بما شاء، ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية وهي الذكر لا لكونه دبر المكتوبة‏.‏
    قلت‏:‏ وما ادعاه من النفي مطلقا مردود، فقد ثبت عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ‏"‏ يا معاذ إني والله لأحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول‏:‏ اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ‏"‏ أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم، وحديث أبي بكرة في قول ‏"‏ اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر، كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهن دبر كل صلاة ‏"‏ أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم، وحديث سعد الآتي في ‏"‏ باب التعوذ من البخل ‏"‏ قريبا، فإن في بعض طرقه المطلوب‏.‏
    وحديث زيد بن أرقم ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في دبر كل صلاة‏:‏ اللهم ربنا ورب كل شيء ‏"‏ الحديث أخرجه أبو داود والنسائي، وحديث صهيب رفعه ‏"‏ كان يقول إذا انصرف من الصلاة‏:‏ اللهم أصلح لي ديني ‏"‏ الحديث أخرجه النسائي وصححه ابن حبان وغير ذلك‏.‏
    فإن قيل‏:‏ المراد بدبر كل صلاة قرب آخرها وهو التشهد، قلنا قد ورد الأمر بالذكر دبر كل صلاة، والمراد به بعد السلام إجماعا، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه‏.‏
    وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة ‏"‏ قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع‏؟‏ قال‏:‏ جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات ‏"‏ وقال حسن‏.‏
    وأخرج الطبري من رواية جعفر بن محمد الصادق قال ‏"‏ الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة كفضل المكتوبة على النافلة ‏"‏ وفهم كثير ممن لقيناه من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقا، وليس كذلك فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلي القبلة وإيراده بعد السلام، وأما إذا انتقل بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ‏.‏
    (ج11/ ص 162)
    ال ابن بطال‏:‏ في هذه الأحاديث الحض على الذكر في أدبار الصلوات ‏"‏ وأن ذلك يوازي إنفاق المال في طاعة الله لقوله ‏"‏ تدركون به من سبقكم ‏"‏ وسئل الأوزاعي هل الذكر بعد الصلاة أفضل أم تلاوة القرآن‏؟‏ فقال‏:‏ ليس شيء يعدل القرآن، ولكن كان هدى السلف الذكر‏.‏
    وفيها أن الذكر المذكور يلي الصلاة المكتوبة ولا يؤخر إلى أن يصلي الراتبة لما تقدم، والله أعلم‏.‏
    (ج11/ ص 161)
    أخرج ابن أبي شيبة والطبري من طريق سعيد بن يسار قال‏:‏ ذكرت رجلا عند ابن عمر فترحمت عليه فلهز في صدري وقال لي‏:‏ ابدأ بنفسك‏.‏
    وعن إبراهيم النخعي‏:‏ كان يقال إذا دعوت فابدأ بنفسك، فإنك لا تدري في أي دعاء يستجاب لك‏.‏
    وأحاديث الباب ترد على ذلك، ويؤيدها ما أخرجه مسلم وأبو داود من طريق طلحة بن عبد الله ابن كريز عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رفعه ‏"‏ ما من مسلم يدعو لأخيه ظهر الغيب إلا قال، الملك‏:‏ ولك مثل ذلك ‏"‏ وأخرج الطبري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رفعه ‏"‏ خمس دعوات مستجابات ‏"‏ وذكر فيها ‏"‏ ودعوة الأخ لأخيه ‏"‏ وأخرجه أيضا، هكذا استدل بهما ابن بطال، وفيه نظر لأن الدعاء لظهر الغيب ودعاء الأخ لأخيه أعم من أن يكون الداعي خصه أو ذكر نفسه معه، وأعم من أن يكون بدأ به أو بدأ بنفسه وأما ما أخرجه الترمذي من حديث أبي بن كعب رفعه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه ‏"‏ وهو عند مسلم في أول قصة موسى والخضر ولفظه ‏"‏ وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه ‏"‏ ويؤيد هذا القيد أنه صلى الله عليه وسلم دعا لغير نبي فلم يبدأ بنفسه كقوله في قصة هاجر الماضية في المناقب ‏"‏ يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عينا معينا ‏"‏ وقد تقدم حديث أبي هريرة ‏"‏ اللهم أيده بروح القدس ‏"‏ يريد حسان بن ثابت وحديث ابن عباس ‏"‏ اللهم فقهه في الدين ‏"‏ وغير ذلك من الأمثلة، مع أن الذي جاء في حديث أبي لم يطرد فقد ثبت أنه دعا لبعض الأنبياء فلم يبدأ بنفسه كما مر في المناقب من حديث أبي هريرة ‏"‏ يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد
    (ج11/ ص 164)
    أما ابن عبد البر فأورده مورد الاستقراء فقال ‏"‏ كانوا عرفوا أنه ما استرحم لإنسان قط في غزاة تخصه إلا استشهد، فلذا قال عمر لولا أمتعتنا بعامر ‏"
    (ج11/ ص 164)
    قال الجمهور‏:‏ يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينسى شيئا من القرآن بعد التبليغ لكنه لا يقر عليه، وكذا يجوز أن ينسى ما لا يتعلق بالإبلاغ، ويدل عليه قوله تعالى ‏(‏سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله‏)‏ ‏.‏
    (ج11/ ص 166)
    قال الغزالي‏:‏ المكروه من السجع هو المتكلف لأنه لا يلائم الضراعة والذلة، وإلا ففي الأدعية المأثورة كلمات متوازية لكنها غير متكلفة، قال الأزهري‏:‏ وإنما كرهه صلى الله عليه وسلم لمشاكلته كلام الكهنة كما في قصة المرأة من هذيل‏.‏
    وقال أبو زيد وغيره‏:‏ أصل السجع القصد المستوى، سواء كان في الكلام أم غيره‏.

    (ج11/ ص 168)
    ولمسلم من طريق عطاء بن ميناء عن أبي هريرة ‏"‏ ليعزم في الدعاء ‏"‏ وله من رواية العلاء ‏"‏ ليعزم وليعظم الرغبة ‏"‏ ومعنى قوله ليعظم الرغبة أي يبالغ في ذلك بتكرار الدعاء والإلحاح فيه، ويحتمل أن يراد به الأمر بطلب الشيء العظيم الكثير، ويؤيده ما في آخر هذه الرواية ‏"‏ فإن الله لا يتعاظمه شيء‏"‏‏.
    ال ابن بطال‏:‏ في الحديث أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة، ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما‏.‏
    وقد قال ابن عيينة‏:‏ لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم في نفسه - يعني من التقصير - فإن الله قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال ‏(‏رب أنظرني إلى يوم يبعثون‏)‏ وقال الداودي‏:‏ معنى قوله ‏"‏ ليعزم المسألة ‏"‏ أن يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمستثنى، ولكن دعاء البائس الفقير‏.‏
    وقد وقع في رواية عطاء بن ميناء ‏"‏ فإن الله صانع ما شاء ‏"‏ وفي رواية العلاء ‏"‏ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه ‏"‏ قال ابن عبد البر‏:‏ لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له لأنه لا يفعل إلا ما شاءه، وظاهره أنه حمل النهي على التحريم، وهو الظاهر، وحمل النووي النهي في ذلك على كراهة التنزيه وهو أولى، ويؤيده ما سيأتي في حديث الاستخارة‏.‏
    وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أنه يلازم الطلب ولا ييأس من الإجابة لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة،
    لأحاديث الدالة على أن دعوة المؤمن لا ترد، وأنها إما أن تعجل له الإجابة، وإما أن تدفع عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له في الآخرة خير مما سأل‏.‏
    فأشار الداودي إلى ذلك، وإلى ذلك أشار ابن الجوزي بقوله‏:‏ أعلم أن دعاء المؤمن لا يرد، غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة أو يعوض بما هو أولى له عاجلا أو آجلا، فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه فإنه متعبد بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض‏.‏
    ومن جملة آداب الدعاء تحرى الأوقات الفاضلة كالسجود، وعند الأذان، ومنها تقديم الوضوء والصلاة، واستقبال القبلة، ورفع اليدين، وتقديم التوبة، والاعتراف بالذنب، والإخلاص، وافتتاحه بالحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسؤال بالأسماء الحسنى
    وقال الكرماني ما ملخصه‏:‏ الذي يتصور في الإجابة وعدمها أربع صور‏:‏ الأولى عدم العجلة وعدم القول المذكور، الثانية وجودهما، الثالثة والرابعة عدم أحدهما ووجود الآخر، فدل الخير على أن الإجابة تختص بالصورة الأولى دون ثلاث، قال‏:‏ ودل الحديث على أن مطلق قوله تعالى ‏(‏أجيب دعوة الداع إذا دعان‏)‏ مقيد بما دل عليه الحديث‏.
    (ج11/ ص 171)
    وفي الحديث الأول رد من قال لا يرفع كذا إلا في الاستسقاء، بل فيه وفي الذي بعده رد على من قال لا يرفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء أصلا، وتمسك بحديث أنس ‏"‏ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء ‏"‏ وهو صحيح، لكن جمع بينه وبين أحاديث الباب وما في معناها بأن المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع وقد أشرت إلى ذلك في أبواب الاستسقاء، وحاصله أن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلا وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت في كل منهما ‏"‏ حتى يرى بياض إبطيه ‏"‏ بل يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره، وإما أن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء، قال المنذري‏:‏ وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح‏.‏
    قلت‏:‏ ولا سيما مع كثرة الأحاديث الواردة في ذلك، فإن فيه أحاديث كثيرة أفردها المنذري في جزء سرد منها النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏ وفي ‏"‏ شرح المهذب ‏"‏ حملة‏.‏
    وعقد لها البخاري أيضا في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ بابا ذكر فيه حديث أبي هريرة ‏"‏ قدم الطفيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن دوسا عصت فادع الله عليها، فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال‏:‏ اللهم اهد دوسا ‏"‏ وهو في الصحيحين دون قوله ‏"‏ ورفع يديه ‏"‏ وحديث جابر ‏"‏ أن الطفيل بن عمرو هاجر ‏"‏ فذكر قصة الرجل الذي هاجر معه وفيه ‏"‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم وليديه فاغفر ورفع يديه ‏"‏ وسنده صحيح، وأخرجه مسلم‏.‏
    وحديث عائشة أنها ‏"‏ رأت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو رافعا يديه يقول‏:‏ اللهم إنما أنا بشر ‏"‏ الحديث وهو صحيح الإسناد‏.‏
    ومن الأحاديث الصحيحة في ذلك ما أخرجه المصنف في ‏"‏ جزء رفع اليدين ‏"‏‏:‏ ‏"‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ‏"‏ ولمسلم من حديث عبد الرحمن بن سمرة في قصة الكسوف ‏"‏ فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رافع يديه يدعو ‏"‏ وعنده في حديث عائشة في الكسوف أيضا ‏"‏ ثم رفع يديه يدعو ‏"‏ وفي حديثها عنده في دعائه لأهل البقيع ‏"‏ فرفع يديه ثلاث مرات ‏"‏ الحديث‏.‏
    ومن حديث أبي هريرة الطويل في فتح مكة ‏"‏ فرفع يديه وجعل يدعو ‏"‏ وفي الصحيحين من حديث أبي حميد في قصة ابن اللتبية ‏"‏ ثم رفع يديه حتى رأيت عفرة إبطيه يقول‏:‏ اللهم هل بلغت ‏"‏ ومن حديث عبد الله بن عمرو ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قول إبراهيم وعيسى فرفع يديه وقال‏:‏ اللهم أمتي ‏"‏ وفي حديث عمر ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل، فأنزل الله عليه يوما، ثم سرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه ودعا ‏"‏
    الأحاديث في ذلك كثيرة‏:‏ وأما ما أخرجه مسلم من حديث عمارة بن رويبة براء وموحدة مصغر أنه ‏"‏ رأى بشر بن مروان يرفع يديه، فأنكر ذلك وقال‏:‏ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يزيد على هذا يشير بالسبابة ‏"‏ فقد حكى الطبري عن بعض السلف أنه أخذ بظاهره وقال‏:‏ السنة أن الداعي يشير بإصبع واحدة، ورده بأنه إنما ورد في الخطيب حال الخطبة، وهو ظاهر في سياق الحديث فلا معنى للتمسك به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار بمشروعيتها، وقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وغيرهما من حديث سلمان رفعه ‏"‏ إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا ‏"‏ بكسر المهملة وسكون الفاء أي خالية وسنده جيد، قال الطبري‏:‏ وكره رفع اليدين في الدعاء ابن عمر وجبير بن مطعم، ورأى شريح رجلا يرفع يديه داعيا فقال‏:‏ من تتناول بهما لا أم لك‏؟‏ وساق الطبري ذلك بأسانيده عنهم‏.‏
    وذكر ابن التين عن عبد الله بن عمر بن غانم أنه نقل عن مالك أن رفع اليدين في الدعاء ليس من أمر الفقهاء، قال‏:‏ وقال في ‏"‏ المدونة ‏"‏ ويختص الرفع بالاستسقاء ويجعل بطونهما إلى الأرض‏.‏
    وأما ما نقله الطبري عن ابن عمر فإنما أنكر رفعهما إلى حذو المنكبين وقال‏:‏ ليجعلهما حذو صدره، كذلك أسنده الطبري عنه أيضا‏.‏
    وعن ابن عباس أن هذه صفة الدعاء‏.

    (ج11/ ص174)
    فأخرج في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من وجه آخر عن أنس قال ‏"‏ قالت أم سليم - وهي أم أنس - خويدمك ألا تدعو له‏؟‏ فقال‏:‏ اللهم أكثر ماله وولده وأطل حياته واغفر له ‏"‏ فأما كثرة ولد أنس وماله فوقع عند مسلم في آخر هذا الحديث من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس ‏"‏ قال أنس‏:‏ فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم‏"‏، وتقدم في حديث ‏"‏ الطاعون شهادة لكل مسلم ‏"‏ في كتاب الطب قول أنس ‏"‏ أخبرتني ابنتي أمينة أنه دفن من صلبي إلى يوم مقدم الحجاج البصرة مائة وعشرون ‏"‏ وقال النووي في ترجمته‏:‏ كان أكثر الصحابة أولادا‏.‏
    وقد قال ابن قتيبة في ‏"‏ المعارف ‏"‏‏:‏ كان بالبصرة ثلاثة ما ماتوا حتى رأى كل واحد منهم من ولده مائة ذكر لصلبه‏:‏ أبو بكرة وأنس وخليفة بن بدر، وزاد غيره رابعا وهو المهلب بن أبي صفرة‏.‏
    وأخرج الترمذي عن أبي العالية في ذكر أنس‏:‏ وكان له بستان يأتي في كل سنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك، ورجاله ثقات‏.‏
    وأما طول عمر أنس فقد ثبت في الصحيح أنه كان في الهجرة ابن تسع سنين وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين فيما قيل وقيل سنة ثلاث وله مائة وثلاث سنين قاله خليفة وهو المعتمد، وأكثر ما قيل في سنه أنه بلغ مائة وسبع سنين، وأقل ما قيل فيه تسعا وتسعين سنة‏.‏
    (ج11/ ص 174)
    عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
    في حديث على عند النسائي وصححه الحاكم ‏"‏ لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات وأمرني إن نزل بي كرب أو شدة أن أقولها‏"‏‏.‏
    ال العلماء‏:‏ الحليم الذي يؤخر العقوبة مع القدرة، والعظيم الذي لا شيء يعظم عليه، والكريم المعطى فضلا،
    وقال الطيبي‏:‏ صدر هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب، لأنه مقتضى التربية، وفيه التهليل المشتمل على التوحيد، وهو أصل التنزيهات الجلالية، والعظمة التي تدل على تمام القدرة، والحلم الذي يدل على العلم، إذ الجاهل لا يتصور منه حلم ولا كرم، وهما أصل الأوصاف الإكرامية‏.‏
    (ج11/ 176)
    حديث سعد بن أبي وقاص رفعه ‏"‏ دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت‏:‏ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله تعالى له ‏"‏ أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم، وفي لفظ للحام ‏"‏ فقال رجل‏:‏ أكانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة‏؟‏ فقال رسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا تسمع إلى قول الله تعالى ‏(‏وكذلك ننجي المؤمنين‏)‏ ‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ حدثني أبو بكر الرازي قال كنت بأصبهان عند أبي نعيم أكتب الحديث، وهناك شيخ يقال له أبو بكر بن علي عليه مدار الفتيا فسعى به عند السلطان فسجن، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفتيه بالتسبيح لا يفتر، فقال لي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قل لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب الذي في صحيح البخاري حتى يفرج الله عنه‏.‏
    ل فأصبحت فأخبرته فدعا به فلم يكن إلا قليلا حتى أخرج انتهى‏.‏
    (ج11/ ص 177)
    ومما ورد من دعوات الكرب ما أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي عن أسماء بنت عميس قالت ‏"‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب‏؟‏ الله الله ربي لا أشرك به شيئا ‏"‏ وأخرجه الطبري من طريق أبي الجوزاء عن ابن عباس مثله‏.‏
    ولأبي داود وصححه ابن حبان عن أبي بكرة رفعه ‏"‏ دعوات المكروب‏:‏ اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت‏"‏‏.‏
    (ج11/ ص 178)
    وقال ابن بطال وغيره‏:‏ جهد البلاء كل ما أصاب المرء من شدة مشقة وما لا طاقة له بحمله ولا يقدر على دفعه‏.‏
    وقيل المراد بجهد البلاء قلة المال وكثرة العيال كذا جاء عن ابن عمر‏.‏
    والحق أن ذلك فرد من أفراد جهد البلاء‏.‏
    وقيل هو ما يختار الموت عليه، قال‏:‏ ودرك الشقاء يكون في أمور الدنيا وفي أمور الآخرة، وكذلك سوء القضاء عام في النفس والمال والأهل والولد والخاتمة والمعاد، قال‏:‏ والمراد بالقضاء هنا المقضي، لأن حكم الله كله حسن لا سوء فيه‏.‏
    وقال غيره‏:‏ القضاء الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل، قال ابن بطال‏:‏ وشماتة الأعداء ما ينكأ القلب ويبلغ من النفس أشد مبلغ، وإنما تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تعليما لأمته، فإن الله تعالى كان آمنه من جميع ذلك، وبذلك جزم عياض‏.‏
    قلت‏:‏ ولا يتعين ذلك، بل يحتمل أن يكون استعاذ بربه من وقوع ذلك بأمته، ويؤيده رواية مسدد المذكورة بصيغة الأمر كما قدمته‏.‏
    وقال النووي‏:‏ شماتة الأعداء فرحهم ببلية تنزل بالمعادي، قال‏:‏ وفي الحديث دلالة لاستحباب الاستعاذة من الأشياء المذكورة، وأجمع على ذلك العلماء في جميع الأعصار والأمصار، وشذت طائفة من الزهاد‏.‏
    وفي الحديث أن الكلام المسجوع لا يكره إذا صدر عن غير قصد إليه ولا تكلف، قاله ابن الجوزي، قال‏:‏ وفيه مشروعية الاستعاذة، ولا يعارض ذلك كون ما سبق في القدر لا يرد لاحتمال أن يكون مما قضى، فقد يقضي على المرء مثلا بالبلاء ويقضي أنه إن دعا كشف، فالقضاء محتمل للدافع والمدفوع، وفائدة الاستعاذة والدعاء إظهار العبد فاقته لربه وتضرعه إليه،

    ،
    (ج11/ ص 183)
    حكمها فحاصل ما وقفت عليه من كلام العلماء فيه عشرة مذاهب‏:‏ أولها قول ابن جرير الطبري إنها من المستحبات وادعى الإجماع على ذلك‏.‏
    ثانيها مقابله وهو نقل ابن القصار وغيره الإجماع على أنها تجب في الجملة بغير حصر لكن أقل ما يحصل به الإجزاء مرة‏.‏
    ثالثها تجب في العمر في صلاة أو في غيرها وهي مثل كلمة التوحيد قاله أبو بكر الرازي من الحنفية وابن حزم وغيرهما‏.‏
    وقال القرطبي المفسر‏:‏ لا خلاف في وجوبها في العمر مرة وأنها واجبة في كل حين وجوب السنن المؤكدة، وسبقه ابن عطية‏.‏
    رابعها تجب في القعود آخر الصلاة بين قول التشهد وسلام التحلل قاله الشافعي ومن تبعه‏.‏
    خامسها تجب في التشهد وهو قول الشعبي وإسحاق بن راهويه‏.‏
    سادسها تجب في الصلاة من غير تعيين من نقل ذلك عن أبي جعفر الباقر‏.‏
    سابعها يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد قاله أبو بكر بن بكير من المالكية‏:‏ ثامنها كلما ذكر قاله الطحاوي وجماعة من الحنفية والحليمي وجماعة من الشافعية‏.‏
    وقال ابن العربي من المالكية إنه الأحوط، وكذا قال الزمخشري‏.‏
    تاسعها في كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره مرارا حكاه الزمخشري‏.‏
    عاشرها في كل دعاء حكاه أيضا‏.‏
    وأما محلها فيؤخذ مما أوردته من بيان الآراء في حكمها
    (ج11/185)
    وحكى ابن عبد البر فيه احتمالا، وهو أن المراد به السلام الذي يتحلل به من الصلاة وقال‏:‏ إن الأول أظهر، وكذا ذكر عياض وغيره، ورد بعضهم الاحتمال المذكور بأن سلام التحلل لا يتقيد به اتفاقا، كذا قيل، وفي نقل الاتفاق نظر، فقد جزم جماعة من المالكية بأنه يستحب للمصلي أن يقول عند سلام التحلل، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام عليكم، ذكره عياض وقبله ابن أبي زيد وغيره‏.‏
    (ج11/ ص 187)
    نقل عياض عن بكر القشيري قال‏:‏ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الله تشريف وزيادة تكرمة وعلى من دون النبي رحمة، وبهذا التقرير يظهر الفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين سائر المؤمنين حيث قال الله تعالى ‏(‏إن الله وملائكته يصلون على النبي‏)‏ وقال قبل ذلك في السورة المذكورة ‏(‏هو الذي يصلي عليكم وملائكته‏)‏ ومن المعلوم أن القدر الذي يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أرفع مما يليق بغيره، والإجماع منعقد على أن في هذه الآية من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والتنويه به ما ليس في غيرها‏.‏
    (ج11/ ص 187)
    وقع في حديث أبي مسعود عند أبي داود والنسائي ‏"‏ على محمد النبي الأمي ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد في الباب ‏"‏ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم ‏"‏ ولم يذكر آل محمد ولا آل إبراهيم، وهذا إن لم يحمل على ما قلته أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر والأظهر فساد ما بحثه الطيبي‏.‏
    وفي حديث أبي حميد في الباب بعده ‏"‏ على محمد وأزواجه وذريته ‏"‏ ولم يذكر الآل في الصحيح، ووقعت في رواية ابن ماجه وعند أبي داود من حديث أبي هريرة ‏"‏ اللهم صلى على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته ‏"‏ وأخرجه النسائي من الوجه الذي أخرجه منه أبو داود ولكن وقع في السند اختلاف بين موسى بن إسماعيل شيخ أبو داود فيه وبين عمرو بن عاصم شيخ شيخ النسائي فيه فروياه معا عن حبان بن يسار وهو بكسر المهملة وتشديد الموحدة وأبوه بمثناة ومهملة خفيفة فوقع في رواية موسى عنه عن عبيد الله بن طلحة عن محمد بن علي عن نعيم المجمر عن أبي هريرة‏.‏
    قال النووي في ‏"‏ شرح المهذب ‏"‏‏:‏ ينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة فيقول ‏"‏ اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك ‏"‏ مثله وزاد في آخره ‏"‏ في العالمين ‏"‏ وقال في ‏"‏ الأذكار ‏"‏ مثله وزاد عبدك ورسولك بعد قوله محمد في محل ولم يزدها في بارك‏.‏
    وقال في ‏"‏ التحقيق ‏"‏ و ‏"‏ الفتاوى ‏"‏ مثله إلا أنه أسقط النبي الأمي في وبارك، وفاته أشياء لعلها توازي قدر ما زاده أو تزيد عليه، منها قوله ‏"‏ أمهات المؤمنين ‏"‏ بعد قوله أزواجه ومنها ‏"‏ وأهل بيته ‏"‏ بعد قوله وذريته، وقد وردت حديث ابن مسعود عند الدار قطني، ومنها ‏"‏ ورسولك ‏"‏ في وبارك، ومنها ‏"‏ في العالمين ‏"‏ في الأول، ومنها ‏"‏ إنك حميد مجيد ‏"‏ قبل وبارك، ومنها ‏"‏ اللهم ‏"‏ قبل وبارك فإنهما ثبتا معا في رواية للنسائي، ومنه
    الناس اختلفوا في معنى الآل اختلافا كثيرا ومن جملته أنهم أمته فلا يبقى للتكرار فائدة، واختلفوا أيضا في جواز الصلاة على غير الأنبياء فلا نرى أن نشرك في هذه الخصوصية مع محمد وآله أحدا‏.‏
    وتعقبه شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ بأن زائدة من الإثبات فانفراده لو انفرد لا يضر مع كونه لم ينفرد، فقد أخرجها إسماعيل القاضي كتاب فضل الصلاة من طريقين عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ويزيد استشهد به مسلم، وعند البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من حديث جابر نحو حديث الباب وفي آخره ‏"‏ وعلينا معهم ‏"‏ وأما الإيراد الأول فإنه يختص بمن يرى أن معنى الآل كل الأمة، ومع ذلك فلا يمتنع أن يعطف الخاص على العام ولا سيما في الدعاء، وأما الإيراد الثاني فلا نعلم من منع ذلك تبعا، وإنما الخلاف في الصلاة على غير الأنبياء استقلالا، وقد شرع الدعاء للآحاد بما دعاه به النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه في حديث ‏"‏ اللهم إني أسالك من خير ما سألك منه محمد ‏"‏ وهو حديث صحيح أخرجه مسلم انتهى ملخصا‏.‏
    (ج11/ ص 188)
    وقال ابن القيم أيضا‏:‏ قد نص الشافعي على أن الاختلاف في ألفاظ التشهد ونحوه كالاختلاف في القراءات، ولم يقل أحد من الأئمة باستحباب التلاوة بجميع الألفاظ المختلفة في الحرف الواحد من القرآن وإن كان بعضهم أجاز ذلك عند التعليم للتمرين انتهى‏.‏
    والذي يظهر أن اللفظ إن كان بمعنى اللفظ الآخر سواء كما في أزواجه وأمهات المؤمنين فالأولى الاقتصار في كل مرة على أحدهما وإن كان اللفظ يستقل بزيادة معنى ليس في اللفظ الآخر البتة، فالأولى الإتيان به، ويحتمل على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر كما تقدم، وإن كان يزيد على الآخر في المعنى شيئا ما فلا بأس بالإتيان به احتياطا‏.‏
    وقالت طائفة منهم الطبري‏:‏ إن ذلك الاختلاف المباح، فأي لفظ ذكره المرء أجزأ، والأفضل أن يستعمل أكمله وأبلغه‏.‏
    واستدل على ذلك باختلاف النقل عن الصحابة فذكر ما نقل عن علي، وهو حديث موقوف طويل أخرجه سعيد بن منصور والطبري والطبراني وابن فارس وأوله ‏"‏ اللهم داحي المدحوات ‏"‏ إلى أن قال ‏"‏ اجعل شرائف صلواتك وتوامي بركاتك ورأفة تحيتك على محمد عبدك ورسولك ‏"‏ الحديث‏.‏
    وادعى ابن القيم أن أكثر الأحاديث بل كلها مصرحة بذكر محمد وآل محمد وبذكر آل إبراهيم فقط أو بذكر إبراهيم فقط قال‏:‏ ولم يجيء في حديث صحيح بلفظ إبراهيم وآل إبراهيم معا إنما أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن السباق عن رجل من بني الحارث عن ابن مسعود، ويحيى مجهول وشيخه مبهم فهو سند ضعيف، وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر قوي لكنه موقوف على ابن مسعود، وأخرجه النسائي والدار قطني من حديث طلحة‏.‏
    قلت‏:‏ وغفل عما وقع في صحيح البخاري كما تقدم في أحاديث الأنبياء في ترجمة إبراهيم عليه السلام من طريق عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بلفظ ‏"‏ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ‏"‏ وكذا في قوله ‏"‏ كما باركت ‏"‏ وكذا وقع في حديث أبي مسعود البدري من رواية محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن محمد ابن عبد الله بن زيد عنه أخرجه الطبري، بل أخرجه الطبري أيضا في رواية الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه من طريق عمرو بن قيس عن الحكم بن عتيبة فذكره بلفظ ‏"‏ على محمد وآل محمد إنك حميد مجيد ‏"‏ وبلفظ ‏"‏ على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ‏"‏ وأخرجه أيضا من طريق الأجلح عن الحكم مثله سواء‏.‏
    (ج11/ ص 189)
    (‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ هذا كله فيما يقال مضموما إلى السلام أو الصلاة، وقد وافق ابن العربي الصيدلاني من الشافعية على المنع‏.‏
    وقال أبو القاسم الأنصاري شارح ‏"‏ الإرشاد ‏"‏ يجوز ذلك مضافا إلى الصلاة ولا يجوز مفردا، ونقل عياض عن الجمهور الجواز مطلقا‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ إنه الصحيح لورود الأحاديث به، وخالفه غيره‏:‏ ففي ‏"‏ الذخيرة ‏"‏ من كتب الحنفية عن محمد يكره ذلك لإيهامه النقص لأن الرحمة غالبا إنما تكون عن فعل ما يلام عليه، وجزم ابن عبد البر بمنعه فقال‏:‏ لا يجوز لأحد إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول رحمه الله لأنه قال من صلى علي، ولم يقل من ترحم علي ولا من دعا لي، وإن كان معنى الصلاة الرحمة، ولكنه خص هذا اللفظ تعظيما له فلا يعدل عنه إلى غيره، ويؤيده قوله تعالى ‏(‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا‏)‏ انتهى‏.‏
    وهو بحث حسن لكن في التعليل الأول نظر، والمعتمد الثاني، والله أعلم‏.‏
    (ج11/ ص 190)
    وقيل المراد بالآل جميع الأمة أمة الإجابة‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ مال إلى ذلك مالك واختاره الأزهري وحكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الشافعية ورجحه النووي في شرح مسلم، وقيده القاضي حسين والراغب بالأتقياء منهم، وعليه يحمل كلام من أطلق، ويؤيده قوله تعالى ‏(‏إن أولياؤه إلا المتقون‏)‏ وقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إن أوليائي منكم المتقون ‏"‏ وفي ‏"‏ نوادر أبي العيناء ‏"‏ إنه غض من بعض الهاشميين فقال له أتغض مني وأنت تصلي علي في كل صلاة في قولك اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، فقال‏:‏ إني أريد الطيبين الطاهرين ولست منهم‏.‏
    ويمكن أن يحمل كلام من أطلق على أن المراد بالصلاة الرحمة المطلقة فلا تحتاج إلى تقييد، وقد استدل لهم بحديث أنس رفعه ‏"‏ آل محمد كل تقي ‏"‏ أخرجه الطبراني ولكن سنده واه جدا‏.‏
    وأخرج البيهقي عن جابر نحوه من قوله بسند ضعيف‏.‏
    (ج11/ ص 194)
    وقال النووي بعد أن ذكر بعض هذه الأجوبة‏:‏ أحسنها ما نسب إلى الشافعي والتشبيه لأصل الصلاة بأصل الصلاة أو للمجموع بالمجموع‏.‏
    وقال ابن القيم بعد أن زيف أكثر الأجوبة إلا تشبيه المجموع بالمجموع‏:‏ وأحسن منه أن يقال هو صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، وقد ثبت ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى ‏(‏إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين‏)‏ قال‏:‏ محمد من آل إبراهيم فكأنه أمرنا أن نصلي على محمد وعلى آل محمد خصوصا بقدر ما صلينا عليه مع إبراهيم وآل إبراهيم عموما فيحصل لآله ما يليق بهم ويبقى الباقي كله له، وذلك القدر أزيد مما لغيره من آل إبراهيم قطعا، ويظهر حينئذ فائدة التشبيه، وأن المطلوب له بهذا اللفظ أفضل من المطلوب بغيره من الألفاظ‏.‏
    ووجدت في مصنف لشيخنا مجد الدين الشيرازي اللغوي جوابا آخر نقله عن بعض أهل الكشف حاصله أن التشبيه لغير اللفظ المشبه به لا لعينه، وذلك أن المراد بقولنا ‏"‏ اللهم صل على محمد ‏"‏ اجعل من أتباعه من يبلغ النهاية في أمر الدين كالعلماء بشرعه بتقريرهم أمر الشريعة ‏"‏ كما صليت على إبراهيم ‏"‏ بأن جعلت في أتباعه أنبياء يقررون الشريعة، والمراد بقوله ‏"‏ وعلى آل محمد ‏"‏ اجعل من أتباعه ناسا محدثين بالفتح يخبرون بالمغيبات كما صليت على إبراهيم بأن جعلت فيهم أنبياء يخبرون بالمغيبات، والمطلوب حصول صفات الأنبياء لآل محمد وهم أتباعه في الدين كما كانت حاصلة بسؤال إبراهيم، وهذا محصل ما ذكره، وهو جيد إن سلم أن المراد بالصلاة هنا ما ادعاه، والله أعلم‏.‏
    (ج11/ ص196)
    طريق محمد بن إسحاق عن محمد ابن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد عنه بلفظ ‏"‏ فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ‏"‏ وقد أشرت إلى شيء من ذلك في تفسير سورة الأحزاب‏.‏
    وقال الدار قطني‏:‏ إسناده حسن متصل‏.‏
    وقال البيهقي‏:‏ إسناده حسن صحيح‏.‏
    وتعقبه ابن التركماني بأنه قال في ‏"‏ باب تحريم قتل ماله روح ‏"‏ بعد ذكر حديث فيه ابن إسحاق‏:‏ الحفاظ يتوقون ما ينفرد به‏.‏
    قلت‏:‏ وهو اعتراض متجه لأن هذه الزيادة تفرد بها ابن إسحاق، لكن ما ينفرد به وإن لم يبلغ درجة الصحيح فهو في درجة الحسن إذا صرح بالتحديث وهو هنا كذلك، وإنما يصحح له من لا يفرق بين الصحيح والحسن ويجعل كل ما يصلح للحجة صحيحا وهذه طريقة ابن حبان ومن ذكر معه، وقد احتج بهذه الزيادة جماعة من الشافعية كابن خزيمة والبيهقي لإيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد بعد التشهد وقبل السلام، وتعقب بأنه لا دلالة فيه على ذلك، بل إنما يفيد إيجاب الإتيان بهذه الألفاظ على من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، وعلى تقدير أن يدل على إيجاب أصل الصلاة فلا يدل على هذا المحل المخصوص، ولكن قرب البيهقي ذلك بما تقدم أن الآية لما نزلت وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد علمهم كيفية السلام عليه في التشهد والتشهد داخل الصلاة فسألوا عن كيفية الصلاة فعلمهم، فدل على أن المراد بذلك إيقاع الصلاة عليه في التشهد بعد الفراغ من التشهد الذي تقدم تعليمه لهم، وأما احتمال أن يكون ذلك خارج الصلاة فهو بعيد كما قال عياض وغيره‏.‏
    وقال ابن دقيق العيد‏:‏ ليس فيه تنصيص على أن الأمر به مخصوص بالصلاة، وقد كثر الاستدلال به على وجوب الصلاة، وقرر بعضهم الاستدلال بأن الصلاة عليه واجبة بالإجماع وليست الصلاة عليه خارج الصلاة واجبة بالإجماع فتعين أن تجب في الصلاة، قال‏:‏ وهذا ضعيف، لأن قوله لا تجب في غير الصلاة بالإجماع إن أراد به عينا فهو صحيح لكن لا يفيد المطلوب لأنه يفيد أن تجب في أحد الموضعين لا بعينه، وزعم القرافي في ‏"‏ الذخيرة ‏"‏ أن الشافعي هو المستدل بذلك، ورده بنحو ما رد به ابن دقيق العيد، ولم يصب في نسبة ذلك للشافعي، والذي قاله الشافعي في ‏"‏ الأم ‏"‏‏:‏ فرض الله الصلاة على رسوله بقوله ‏(‏إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما‏)‏ فلم يكن فرض الصلاة عليه في موضع أولى منه في الصلاة،
    ليس في الحديث ما يدل على تعين ذلك في التشهد خصوصا بينه وبين السلام من الصلاة، وقد أطنب قوم في نسبة الشافعي في ذلك إلى الشذوذ، منهم أبو جعفر الطبري وأبو جعفر الطحاوي وأبو بكر بن المنذر والخطابي، وأورد عياض في ‏"‏ الشفاء ‏"‏ مقالاتهم وعاب عليه ذلك غير واحد لأن موضوع كتابه يقتضي تصويب ما ذهب إليه الشافعي لأنه من جملة تعظيم المصطفى، وقد استحسن هو القول بطهارة فضلاته مع أن الأكثر على خلافه لكنه استجاده لما فيه من الزيادة في تعظيمه، وانتصر جماعة للشافعي فذكروا أدلة نقلية ونظرية، ودفعوا دعوى الشذوذ فنقلوا القول بالوجوب عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأصح ما ورد في ذلك عن الصحابة والتابعين ما أخرجه الحاكم بسند قوي عن ابن مسعود قال ‏"‏ يتشهد الرجل ثم يصلي على النبي ثم يدعو لنفسه ‏"‏ وهذا أقوى شيء يحتج به للشافعي، فإن ابن مسعود ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد في الصلاة وأنه قال ‏"‏ ثم ليتخير من الدعاء ما شاء ‏"‏ فلما ثبت عن ابن مسعود الأمر بالصلاة عليه قبل الدعاء دل على أنه اطلع على زيادة ذلك بين التشهد والدعاء، واندفعت حجة من تمسك بحديث ابن مسعود في دفع ما ذهب إليه الشافعي مثل ما ذكر عياض قال‏:‏ وهذا تشهد ابن مسعود الذي علمه له النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه ذكر الصلاة عليه، وكذا قول الخطابي أن في آخر حديث ابن مسعود ‏"‏ إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك ‏"‏ لكن رد عليه بأن هذه الزيادة مدرجة، وعلى تقدير ثبوتها فتحمل على أن مشروعية الصلاة عليه وردت بعد تعليم التشهد، ويتقوى ذلك بما أخرجه الترمذي عن عمر موقوفا ‏"‏ الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مال ابن العربي‏:‏ ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي فيكون له حكم الرفع انتهى‏.‏


    (ج11/ ص 198)
    أما فقهاء الأمصار فلم يتفقوا على مخالفة الشافعي في ذلك بل جاء عن أحمد روايتان، وعن إسحاق الجزم به في العمد فقال‏:‏ إذا تركها يعيد والخلاف أيضا عند المالكية ذكرها ابن الحاجب في سنن الصلاة ثم قال‏:‏ على الصحيح، فقال شارحه ابن عبد السلام‏:‏ يريد أن في وجوبها قولين، وهو ظاهر كلام ابن المواز منهم‏.‏
    وأما الحنفية فألزم بعض شيوخنا من قال بوجوب الصلاة عليه كما ذكر كالطحاوي ونقله السروجي في ‏"‏ شرح الهداية ‏"‏ عن أصحاب ‏"‏ المحيط ‏"‏ و ‏"‏ العقد ‏"‏ و ‏"‏ التحفة ‏"‏ و ‏"‏ المغيث ‏"‏ من كتبهم أن يقولوا بوجوبها في التشهد لتقدم ذكره في آخر التشهد، لكن لهم أن يلتزموا ذلك لكن لا يجعلونه شرطا في صحة الصلاة‏.‏
    وروى الطحاوي أن حرملة انفرد عن الشافعي بإيجاب ذلك بعد التشهد وقبل سلام التحلل قال‏:‏ لكن أصحابه قبلوا ذلك وانتصروا له وناظروا عليه انتهى‏.‏
    واستدل له ابن خزيمة ومن تبعه بما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وكذا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، من حديث فضالة بن عبيد قال ‏"‏ سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يص
    م يصل على النبي فقال‏:‏ عجل هذا، ثم دعاه فقال‏:‏ إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء ‏"‏ وهذا مما يدل على أن قول ابن مسعود المذكور قريبا مرفوع فإنه بلفظه، وقد طعن ابن عبد البر في الاستدلال بحديث فضالة للوجوب فقال‏:‏ لو كان كذلك لأمر المصلي بالإعادة كما أمر المسيء صلاته، وكذا أشار إليه ابن حزم‏.‏
    وأجيب باحتمال أن يكون الوجوب وقع عند فراغه‏.‏
    ويكفي التمسك بالأمر في دعوى الوجوب‏.‏
    وقال جماعة منهم الجرجاني من الحنفية‏:‏ لو كانت فرضا للزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأنه علمهم التشهد وقال ‏"‏ فيتخير من الدعاء ما شاء ‏"‏ ولم يذكر الصلاة عليه‏.‏
    وأجيب باحتمال أن لا تكون فرضت حينئذ‏.‏
    وقال شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏‏:‏ قد ورد هذا في الصحيح بلفظ ‏"‏ ثم ليتخير ‏"‏ و ‏"‏ ثم ‏"‏ للتراخي فدل على أنه كان هناك شيء بين التشهد والدعاء‏.‏
    واستدل بعضهم بما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع‏"‏‏.‏
    الحديث وعلى هذا عول ابن جزم في إيجاب هذه الاستعاذة في التشهد وفي كون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مستحبة عقب التشهد لا واجبة، وفيه ما فيه، والله أعلم‏.‏
    قد انتصر ابن القيم للشافعي فقال‏:‏ أجمعوا على مشروعية الصلاة عليه في التشهد، وإنما اختلفوا في الوجوب والاستحباب، وفي تمسك من لم يوجبه بعمل السلف الصالح نظر لأن عملهم كان بوفاقه، إلا إن كان يريد بالعمل الاعتقاد فيحتاج إلى نقل صريح عنهم بأن ذلك ليس بواجب وأني يوجد ذلك‏؟‏ قال‏:‏ وأما قول عياض أن الناس شنعوا على الشافعي فلا معنى له، فأي شناعة في ذلك لأنه لم يخالف نصا ولا إجماعا ولا قياسا ولا مصلحة راجحة‏؟‏ بل القول بذلك من محاسن مذهبه‏.‏
    نقله للإجماع فقد تقدم رده، وأما دعواه أن الشافعي اختار تشهد ابن مسعود فيدل على عدم معرفة باختيارات الشافعي فإنه إنما اختار تشهد ابن عباس وأما ما احتج به جماعة من الشافعية من الأحاديث المرفوعة الصريحة في ذلك فإنها ضعيفة كحديث سهل بن سعد وعائشة وأبي مسعود وبريدة وغيرهم، وقد استوعبها البيهقي في ‏"‏ الخلافيات ‏"‏ ولا بأس بذكرها للتقوية لا أنها تنهض بالحجة‏.‏
    قلت‏:‏ ولم أر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب إلا ما نقل عن إبراهيم النخعي، ومع ذلك فلفظ المنقول عنه كما تقدم يشعر بأن غيره كان قائلا بالوجوب فإنه عبر بالأجزاء‏.‏
    (ج11/ ص 200)
    وذكر شيخنا مجد الدين الشيرازي في جزء له في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض العلماء أنه قال‏:‏ أفضل الكيفيات أن يقول‏:‏ اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وأزواجه وذريته وسلم عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك‏.‏
    وعن آخر نحوه لكن قال‏:‏ عدد الشفع والوتر وعدد كلماتك التامة‏.‏
    ولم يسم قائلها‏.‏
    والذي يرشد إليه الدليل أن البر يحصل بما في حديث أبي هريرة لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا فليقل اللهم صلي على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم ‏"‏ الحديث والله أعلم‏.‏
    (ج11/ ص 201)
    واستدل به على فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جهة ورود الأمر بها واعتناء الصحابة بالسؤال عن كيفيتها، وقد ورد في التصريح بفضلها أحاديث قوية لم يخرج البخاري منها شيئا، منها ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا ‏"‏ وله شاهد عن أنس عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان، وعن أبي بردة بن نيار وأبي طلحة كلاهما عند النسائي ورواتهما ثقات، ولفظ أبي بردة ‏"‏ من صلى علي من أمتي صلاة مخلصا من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات ورفعه بها عشر درجات وكتب له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ‏"‏ ولفظ أبي طلحة عنده نحوه وصححه ابن حبان، ومنها حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم على صلاة ‏"‏ وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وله شاهد عند البيهقي عن أبي أمامة بلفظ ‏"‏ صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة ‏"‏ ولا بأس بسنده، وورد الأمر بإكثار الصلاة عليه يوم الجمعة من حديث أوس بن أوس وهو عند أحمد وأبي داود وصححه ابن حبان والحاكم، ومنها حديث ‏"‏ البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي ‏"‏ أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وإسماعيل القاضي وأطنب في تخريج طرقه وبيان الاختلاف فيه من حديث على ومن حديث ابنه الحسين ولا يقصر عن درجة الحسن، ومنها حديث ‏"‏ من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة ‏"‏ أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس والبيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من حديث أبي هريرة وابن أبي حاتم من حديث جابر والطبراني من حديث حسين بن علي، وهذه الطرق يشد بعضها بعضا وحديث ‏"‏ رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ‏"‏ أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ ‏"‏ من ذكرت عنده ولم يصل على فمات فدخل النار فأبعده الله ‏"‏ وله شاهد عنده، وصححه الحاكم، وله شاهد من حديث أبي ذر في الطبراني وآخر عن أنس عند ابن أبي شيبة وآخر مرسل عن الحسن عند سعيد بن منصور، وأخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة ومن حديث مالك بن الحويرث ومن حديث عبد الله بن عباس عند الطبراني ومن حديث عبد الله بن جعفر عند الفريابي وعند الحاكم من حديث كعب بن عجرة بلفظ ‏"‏ بعد من ذكرت عنده فلم يصل علي ‏"‏ وعند الطبراني من حديث جابر رفعه ‏"‏ شقي عبد ذكرت عنده فلم يصل علي ‏"‏ وعند عبد الرزاق من مرسل قتادة ‏"‏ من الجفاء أن أذكر عند رجل فلا يصلي علي ‏"‏ ومنها حديث أبي بن كعب ‏"‏ أن رجلا قال يا رسول الله إني أكثر الصلاة فما أجعل لك من صلاتي‏؟‏ قال‏:‏ ما شئت‏.‏
    قال الثلث‏؟‏ قال ما شئت، وإن زدت فهو خير ‏"‏ إلى أن قال ‏"‏ أجعل لك كل صلاتي‏؟‏ قال‏:‏ إذا تكفى همك ‏"‏ الحديث أخرجه أحمد وغيره بسند حسن، فهذا الجيد من الأحاديث الواردة في ذلك، وفي الباب أحاديث كثيرة ضعيفة وواهية، وأما ما وضعه القصاص في ذلك فلا يحصى كثرة وفي الأحاديث القوية غنية عن ذلك‏.‏
    قال الحليمي‏:‏ المقصود بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التقرب إلى الله بامتثال أمره وقضاء حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا‏.‏
    وتبعه ابن عبد السلام فقال‏:‏ ليست صلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله أمرنا بمكافأة من أحسن إلينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا الله لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا إلى الصلاة عليه‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذي يصلي عليه لدلالة ذلك على نصوع العقيدة وخلوص النية وإظهار المحبة والمداومة على الطاعة والاحترام للواسطة الكريمة صلى الله عليه وسلم، وقد تمسك الأحاديث المذكورة من أوجب الصلاة عليه كلما ذكر، لأن الدعاء بالرغم والإبعاد والشقاء والوصف بالبخل والجفاء يقتضي الوعيد والوعيد على الترك من علامات الوجوب، ومن حيث المعنى أن فائدة الأمر بالصلاة عليه مكافأته على إحسانه وإحسانه مستمر فيتأكد إذا ذكر وتمسكوا أيضا بقوله ‏(‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا‏)‏ فلو كان إذا ذكر لا يصلي عليه لكان كآحاد الناس‏.‏
    (ج11/ ص 202)
    ومن المواطن التي اختلف في وجوب الصلاة عليه فيها التشهد الأول وخطبة الجمعة وغيرها من الخطب وصلاة الجنازة، ومما يتأكد ووردت فيه أخبار خاصة أكثرها بأسانيد جيدة عقب إجابة المؤذن وأول الدعاء وأوسطه وآخره وفي أوله آكد وفي آخر القنوت وفي أثناء تكبيرات العيد وعند دخول المسجد والخروج منه وعند الاجتماع والتفرق وعند السفر والقدوم وعند القيام لصلاة الليل وعند ختم القرآن وعند الهم والكرب وعند التوبة من الذنب وعند قراءة الحديث تبليغ العلم والذكر وعند نسيان الشيء، وورد ذلك أيضا في أحاديث ضعيفة وعند استلام الحجر وعند طنين الأذن وعند التلبية وعقب الوضوء وعند الذبح والعطاس، وورد المنع منها عندهما أيضا، وورد الأمر بالإكثار منها يوم الجمعة في حديث صحيح كما تقدم‏.‏
    (ج11/ 203)
    وقال سفيان يكره أن يصلي إلا على نبي، ووجدت بخط بعض شيوخي مذهب مالك لا يجوز أن يصلي إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك، وإنما قال أكره الصلاة على غير الأنبياء وما ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به‏.‏
    وخالفه يحيى بن يحيى فقال‏:‏ لا بأس به، واحتج بأن الصلاة دعاء بالرحمة فلا يمنع إلا بنص أو إجماع، قال عياض‏:‏ والذي أميل إليه قول مالك وسفيان وهو قول المحققين من المتكلمين والفقهاء قالوا‏:‏ يذكر غير الأنبياء بالرضا والغفران والصلاة على غير الأنبياء يعني استقلالا لم تكن من الأمر المعروف وإنما أحدثت في دولة بني هاشم، وأما الملائكة فلا أعرف فيه حديثا نصا، وإنما يؤخذ ذلك من الذي قبله إن ثبت، لأن الله تعالى سماهم رسلا، وأما المؤمنون فاختلف فيه فقيل‏:‏ لا تجوز إلا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وحكي عن مالك كما تقدم‏.‏
    وقالت طائفة لا تجوز مطلقا استقلالا وتجوز تبعا فيما ورد به النص أو ألحق به لقوله تعالى ‏(‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا‏)‏ ولأنه لما علمهم السلام قال ‏"‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ‏"‏ ولما علمهم الصلاة قصر ذلك عليه وعلى أهل بيته، وهذا القول اختاره القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ وأبو المعالي من الحنابلة، وقد تقدم تقريره في تفسير سورة الأحزاب، هو اختيار ابن تيمية من المتأخرين‏.‏
    وقالت طائفة‏:‏ تجوز تبعا مطلقا ولا تجوز استقلالا، وهذا قول أبي حنيفة وجماعة‏.‏
    وقالت طائفة تكره استقلالا لا تبعا وهي رواية عن أحمد‏.‏
    وقال النووي‏:‏ هو خلاف الأولى وقالت طائفة‏:‏ تجوز مطلقا، وهو مقتضى صنيع البخاري فإنه صدر بالآية وهي قوله ‏(‏وصل عليهم‏)‏ ثم علق الحديث الدال على الجواز مطلقا وعقبه بالحديث الدال على الجواز تبعا، فأما الأول وهو حديث عبد الله بن أبي أوفى فتقدم شرحه في كتاب الزكاة، ووقع مثله عن قيس بن سعد بن عبادة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه وهو يقول‏:‏ اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة ‏"‏ أخرجه أبو داود والنسائي وسنده جيد، وفي حديث جابر ‏"‏ إن امرأته قالت للنبي صلى الله عليه وسلم صل علي وعلى زوجي ففعل ‏"‏ أخرجه أحمد مطولا ومختصرا وصححه ابن حبان، وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد ونص عليه أحمد في رواية أبي داود وبه قال إسحاق وأبو ثور وداود والطبري، واحتجوا بقوله تعالى ‏(‏هو الذي يصلي عليكم وملائكته‏)‏ وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ إن الملائكة تقول لروح المؤمن صلى الله عليك وعلى جسدك ‏"‏ وأجاب المانعون عن ذلك كله بأن ذلك صدر من الله ورسوله ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا وليس ذلك لأحد غيرهما‏.
    وقال البيهقي‏:‏ يحمل قول ابن عباس بالمنع إذا كان على وجه التعظيم لا ما إذا كان على وجه الدعاء بالرحمة والبركة‏.‏
    وقال ابن القيم‏:‏ المختار أن يصلي على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وآله وذريته وأهل الطاعة على سبيل الإجمال، وتكره في غير الأنبياء الشخص مفرد بحيث يصير شعارا ولا سيما إذا ترك في حق مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة، فلو اتفق وقوع ذلك مفردا في بعض الأحايين من غير أن يتخذ شعارا لم يكن به بأس، ولهذا لم يرد في حق غير من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقول ذلك لهم وهم من أدى زكاته إلا نادرا كما في قصة زوجة جابر وآل سعد بن عبادة‏.‏
    (ج11/ ص 208)
    وقال بعض السلف ما دخل هم الدين قلبا إلا أذهب من العقل ما لا يعود إليه‏.‏
    قال الكرماني‏:‏ هذا الدعاء من جوامع الكلم، لأن أنواع الرذائل ثلاثة‏:‏ نفسانية وبدنية وخارجية، فالأولى بحسب القوى التي للإنسان وهي ثلاثة‏:‏ العقلية والغضبية والشهوانية، فالهم والحزن يتعلق بالعقلية، والجبن بالغضبية، والبخل بالشهوانية‏.‏
    والعجز والكسل بالبدنية‏.‏
    والثاني يكون عند سلامة الأعضاء وتمام الآلات والقوى، والأول عند نقصان عضو ونحوه، والضلع والغلبة بالخارجية فالأول مالي والثاني جاهي، والدعاء مشتمل على جميع ذلك‏.‏
    (ج11/ ص 211)
    ال الغزالي‏:‏ فتنة الغنى الحرص على جمع المال وحبه حتى يكسبه من غير حله وبمنعه من واجبات إنفاقه وحقوقه، وفتنة الفقر يراد به الفقر المدقع الذي لا يصحبه خير ولا ورع حتى يتورط صاحبه بسببه فيما لا يليق بأهل الدين والمروءة، ولا يبالي بسبب فاقته على أي حرام وثب، ولا في أي حالة تورط‏.‏
    وقيل المراد به فقر النفس الذي لا يرده ملك الدنيا بحذافيرها، وليس فيه ما يدل على تفضيل الفقر على الغنى ولا عكسه‏.
    (ج11/ ص 212)
    وقال الكرماني‏:‏ وله توجيه آخر وهو أنه جعل الخطايا بمنزلة النار لكونها تؤدي إليها فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل تأكيدا في إطفائها، وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيا عن الماء إلى أبرد منه وهو الثلج ثم إلى أبرد منه وهو البرد بدليل أنه قد يجمد ويصير جليدا، بخلاف الثلج فإنه يذوب‏.‏
    (ج11/ ص 215)
    باب ما يذكر في الطاعون ‏"‏ من كتاب الطب، وأنه أعم من الطاعون، وأن حقيقته مرض عام ينشأ عن فساد الهواء وفد يسمى طاعونا بطريق المجاز، وأوضحت هناك الرد على من زعم أن الطاعون والوباء مترادفان بما ثبت هناك أن الطاعون لا يدخل المدينة وأن الوباء وقع بالمدينة كما في قصة العرنيين، وكما في حديث أبي الأسود أنه كان عند عمر فوقع بالمدينة بالناس موت ذريع وغير ذلك‏.‏
    (ج11/ ص 220)
    قال ابن أبي جمرة ترتيب الوارد على القلب على مراتب الهمة ثم اللمة ثم الخطرة ثم النية ثم الإرادة ثم العزيمة، فالثلاثة الأولى لا يؤاخذ بها بخلاف الثلاثة الأخرى، فقوله ‏"‏ إذا هم ‏"‏ يشير إلى أول ما يرد على القلب يستخير فيظهر له ببركة الصلاة والدعاء ما هو الخير، بخلاف ما إذا تمكن الأمر عنده وقويت فيه عزيمته وإرادته فإنه يصير إليه له ميل وحب فيخشى أن يخفى عنه وجه الأرشدية لغلبة ميله إليه‏.‏
    قال‏:‏ ويحتمل أن يكون المراد بالهم العزيمة لأن الخاطر لا يثبت فلا يستمر إلا على ما يقصد التصميم على فعله وإلا لو استخار في كل خاطر لاستخار فيما لا يعبأ به فتضيع عليه أوقاته‏.‏
    ووقع في حديث ابن مسعود ‏"‏ إذا أراد أحدكم أمرا فليقل‏"‏‏.‏
    وقال النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏‏:‏ لو دعا بدعاء الاستخارة عقب راتبة صلاة الظهر مثلا أو غيرها من النوافل الراتبة والمطلقة سواء اقتصر على ركعتين أو أكثر أجزأ‏.‏
    كذا أطلق وفيه نظر‏.‏
    ويظهر أن يقال‏:‏ إن نوى تلك الصلاة بعينها وصلاة الاستخارة معا أجزأ، بخلاف ما إذا لم ينو، ويفارق صلاة تحية المسجد لأن المراد بها شغل البقية بالدعاء والمراد بصلاة الاستخارة أن يقع الدعاء عقبها أو فيها، ويبعد الأجزاء لمن عرض له الطلب بعد فراغ الصلاة لأن ظاهر الخبر أن تقع الصلاة والدعاء بعد وجود إرادة الأمر‏.‏
    وأفاد النووي أنه يقرأ في الركعتين الكافرون والإخلاص، قال شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏‏:‏ لم أقف على دليل ذلك، ولعله ألحقهما بركعتي الفجر والركعتين بعد المغرب، قال‏:‏ ولهما مناسبة بالحال لما فيهما من الإخلاص والتوحيد والمستخير محتاج لذلك‏.‏
    قال شيخنا‏:‏ ومن المناسب أن يقرأ فيهما مثل قوله ‏(‏وربك يخلق ما يشاء ويختار‏)‏ وقوله ‏(‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة‏)‏ ‏.‏
    (ج11/ ص 223
    ي الحديث شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وتعليمهم جميع ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ووقع في بعض طرقه عند الطبراني في حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء إذا أراد أن يصنع أمرا‏.‏
    وفيه أن العبد لا يكون قادرا إلا مع الفعل لا قبله، والله هو خالق العلم بالشيء للعبد وهمه به واقتداره عليه، فإنه يجب على العبد رد الأمور كلها إلى الله والتبري من الحول والقوة إليه وأن يسأل ربه في أموره كلها‏.‏
    واستدل به على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده لأنه لو كان كذلك لاكتفى بقوله ‏"‏ إن كنت تعلم أنه خير لي ‏"‏ عن قوله ‏"‏ وإن كنت تعلم أنه شر لي إلخ ‏"‏ لأنه إذا لم يكن خيرا فهو شر، وفيه نظر لاحتمال وجود الواسطة‏.‏
    واختلف فيما ذا يفعل المستخير بعد الاستخارة، فقال ابن عبد السلام‏:‏ يفعل ما اتفق، ويستدل له بقوله في بعض طرق حديث ابن مسعود وفي آخره، ثم يعزم، وأول الحديث ‏"‏ إذا أراد أحدكم أمرا فليقل ‏"‏ وقال النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏‏:‏ يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح به صدره‏.‏
    ويستدل له بحديث أنس عند ابن السني ‏"‏ إذا هممت بأمر فاستخر ربك سبعا ثم انظر إلى الذي يسبق في قلبك فإن الخير فيه ‏"‏ وهذا لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن سنده واه جدا، والمعتمد أنه لا يفعل ما ينشرح به صدره مما كان له فيه هوى قوي قبل الاستخارة، وإلى ذلك الإشارة بقوله في آخر حديث أبي سعيد ‏"‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله‏"‏‏.‏
    (ج11/ ص 229)
    قال عياض إنما كان يكثر الدعاء بهذه الآية لجمعها معاني الدعاء كله من أمر الدنيا والآخرة، قال‏:‏ والحسنة عندهم هاهنا النعمة، فسأل نعيم الدنيا والآخرة والوقاية من العذاب، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بذلك ودوامه‏.‏
    قلت قد اختلفت عبارات السلف في تفسير الحسنة، فعن الحسن قال‏:‏ هي العلم والعبادة في الدنيا أخرجه أبي حاتم بسند صحيح، وعنه بسند ضعيف‏:‏ الرزق الطيب والعلم النافع، وفي الآخرة الجنة‏.‏
    وتفسير الحسنة في الآخرة بالجنة نقله ابن أبي حاتم أيضا عن السدي ومجاهد وإسماعيل بن أبي خالد ومقاتل بن حيان، وعن ابن الزبير يعملون في دنياهم لدنياهم وآخرتهم، وعن قتادة هي العافية في الدنيا والآخرة، وعن محمد بن كعب القرظي الزوجة الصالحة من الحسنات ونحوه عن يزيد بن أبي مالك‏.‏
    وأخرج ابن المنذر من طريق سفيان الثوري قال‏:‏ الحسنة في الدنيا الرزق الطيب والعلم وفي الآخرة الجنة‏.‏
    ومن طريق سالم بن عبد الله بن عمر قال‏:‏ الحسنة في الدنيا المنى، ومن طريق السدي، قال المال‏.‏
    ونقل الثعلبي عن السدي ومقاتل‏:‏ حسنة الدنيا الرزق الحلال الواسع والعمل الصالح، وحسنة الآخرة المغفرة والثواب‏.‏
    وعن عطية‏:‏ حسنة الدنيا العلم والعمل به وحسنة الآخرة تيسير الحساب ودخول الجنة‏.‏
    وبسنده عن عوف قال‏:‏ من آتاه الله الإسلام والقرآن والأهل والمال والولد فقد آتاه في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة‏.‏
    ونقل الثعلبي عن سلف الصوفية أقوالا أخرى متغايرة اللفظ متوافقة المعنى حاصلها السلامة في الدنيا وفي الآخرة‏.‏
    واقتصر الكشاف على ما نقله الثعلبي عن علي أنها في الدنيا المرأة الصالحة وفي الآخرة الحوراء، وعذاب النار المرأة السوء‏.‏
    وقال الشيخ عماد الدين ابن كثير‏:‏ الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة وولد بار ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح ومركب هنئ وثناء جميل إلى غير ذلك مما شملته عباراتهم فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا، وأما الحسنة في الآخرة فأعلاها دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة، وأما الوقاية من عذاب النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم وترك الشبهات‏.‏
    قلت‏:‏ أو العفو محضا، ومراده بقوله وتوابعه ما يلتحق به في الذكر لا ما يتبعه حقيقة‏


    (ج11/ ص 237)
    قال المحاسبي‏:‏ الملائكة والأنبياء أشد لله خوفا ممن دونهم، وخوفهم خوف إجلال وإعظام، واستغفارهم من التقصير لا من الذنب المحقق‏.‏
    وقال عياض‏:‏ يحتمل أن يكون قوله ‏"‏ اغفر لي خطيئتي ‏"‏ وقوله ‏"‏ اغفر لي ما قدمت وما أخرت ‏"‏ على سبيل التواضع والاستكانة والخضوع والشكر لربه، لما علم أنه قد غفر له‏.‏
    وقيل هو محمول على ما صدر من غفلة أو سهو‏.‏
    وقيل على ما مضى قبل النبوة‏.‏
    وقال قوم وقوع الصغيرة جائز منهم فيكون الاستغفار من ذلك‏.‏
    وقيل هو مثل ما قال بعضهم في آية الفتح ‏(‏ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك‏)‏ أي من ذنب أبيك آدم ‏(‏وما تأخر‏)‏ أي من ذنوب أمتك‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ وقوع الخطيئة من الأنبياء جائز لأنهم مكلفون فيخافون وقوع ذلك ويتعوذون منه‏.‏
    وقيل قاله على سبيل التواضع والخضوع لحق الربوبية ليقتدي به في ذلك‏.‏
    (ج11/ ص 239)
    ما أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة من طريق سعيد بن الحارث عن أبي سلمة قال ‏"‏ قلت يا أبا سعيد إن أبا هريرة حدثنا عن الساعة التي في الجمعة فقال‏:‏ سألت عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني كنت أعلمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر‏"‏‏.‏
    وفي هذا الحديث إشارة إلى أن كل رواية جاء فيها تعيين وقت الساعة المذكورة مرفوعا وهم، والله أعلم‏.‏
    (ج11/ ص 246)
    واختلاف هذه الروايات في عدد الرقاب مع اتحاد المخرج يقتضي الترجيح بينها، فالأكثر على ذكر أربعة، ويجمع بينه وبين حديث أبي هريرة بذكر عشرة لقولها مائة فيكون مقابل كل عشر مرات رقبة من قبل المضاعفة، فيكون لكل مرة بالمضاعفة رقبة، وهي مع ذلك لمطلق الرقاب، ومع وصف كون الرقبة من بني إسماعيل يكون مقابل العشرة من غيرهم أربعة منهم لأنهم أشرف من غيرهم من العرب فضلا عن العجم، وأما ذكر رقبة بالإفراد في حديث أبي أيوب فشاذ، والمحفوظ أربعة كما بينته، وجمع القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ بين الاختلاف على اختلاف أحوال الذاكرين فقال‏:‏ إنما يحصل الثواب الجسيم لمن قام بحق هذه الكلمات فاستحضر معانيها بقلبه وتأملها بفهمه، ثم لما كان الذاكرون في إدراكاتهم وفهومهم مختلفين كان ثوابهم بحسب ذلك؛ وعلى هذا ينزل اختلاف مقادير الثواب في الأحاديث، فإن في بعضها ثوابا معينا ونجد ذلك الذكر بعينه في رواية أخرى أكثر أو أقل كما اتفق في حديث أبى هريرة وأبي أيوب‏.‏
    قلت‏:‏ إذا تعددت مخارج الحديث فلا بأس بهذا الجمع، وإذا اتحدت فلا، وقد يتعين الجمع الذي قدمته، ويحتمل فيما إذا تعددت أيضا أن يختلف المقدار بالزمان كالتقييد بما بعد صلاة الصبح مثلا وعدم التقييد إن لم يحمل المطلق في ذلك على المقيد، ويستفاد منه جواز استرقاق العرب خلافا لمن منع ذلك، قال عياض‏:‏ ذكر هذا العدد من المائة دليل على أنها غاية للثواب المذكور، وأما قوله ‏"‏ إلا أحد عمل أكثر من ذلك ‏"‏ فيحتمل أن تراد الزيادة على هذا العدد فيكون لقائله من الفضل بحسابه لئلا يظن أنها من الحدود التي نهى عن اعتدائها وأنه لا فضل في الزيادة عليها كما في ركعات السنن
    (ج11/ ص 247)
    كمل ما ورد من ألفاظ هذا الذكر في حديث ابن عمر عن عمر رفعه ‏"‏ من قال حين يدخل السوق لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ‏"‏ الحديث أخرجه الترمذي وغيره، وهذا لفظ جعفر في الذكر وفي سنده لين، وقد ورد جميعه في حديث الباب على ما أوضحته مفرقا إلا قوله ‏"‏ وهو حي لا يموت‏"‏
    (ج11/ ص248)
    وقد جمع القرطبي بما حاصله‏:‏ إن هذه الأذكار إذا أطلق على بعضها أنه أفضل الكلام أو أحبه إلى الله فالمراد إذا انضمت إلى أخواتها، بدليل حديث سمرة عند مسلم ‏"‏ أحب الكلام إلى الله أربع لا يضرك بأيهن بدأت‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ‏"‏ ويحتمل أن يكتفي في ذلك بالمعنى فيكون من اقتصر على بعضها كفى، لأن حاصلها التعظيم والتنزيه، ومن نزهه فقد عظمه ومن عظمه فقد نزهه، انتهى‏.‏
    وقال النووي‏:‏ هذا الإطلاق في الأفضلية محمول على كلام الآدمي، وإلا فالقرآن أفضل الذكر‏.‏
    وقال البيضاوي‏:‏ الظاهر أن المراد من الكلام كلام البشر، فإن للثلاث الأول وإن وجدت في القرآن لكن الرابعة لم توجد فيه، ولا يفضل ما ليس فيه على ما هو فيه‏.‏
    قلت ويحتمل أن يجمع بأن تكون ‏"‏ من ‏"‏ مضمرة في قوله ‏"‏ أفضل الذكر لا إله إلا الله ‏"‏ وفي قوله ‏"‏ أحب الكلام ‏"‏ بناء على أن لفظ أفضل وأحب متساويان في المعنى، لكن يظهر مع ذلك تفضيل لا إله إلا الله لأنها ذكرت بالتنصيص عليها بالأفضلية الصريحة وذكرت مع أخواتها بالأحبية فحصل لها التفضيل تنصيصا وانضماما والله أعلم‏.‏
    وذكر ابن بطال عن بعض العلماء أن الفضل الوارد في حديث الباب وما شابهه إنما هو لأهل الفضل في الدين والطهارة من الجرائم العظام، وليس من أصر على شهواته وانتهك دين الله وحرماته بلا حق بالأفاضل المطهرين في ذلك‏.‏
    (ج11/ ص 250)
    ال الفخر الرازي‏:‏ المراد بذكر اللسان الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد، والذكر بالقلب التفكر في أدلة الذات والصفات وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي حتى يطلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات الله‏.‏
    والذكر بالجوارح هو أن تصير مستغرقة في الطاعات، ومن ثم سمى الله الصلاة ذكرا فقال ‏(‏فاسعوا إلى ذكر الله‏)‏ ونقل عن بعض العارفين قال‏:‏ الذكر على سبعة أنحاء‏:‏ فذكر العينين بالبكاء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء، وذكر القلب بالخوف والرجاء، وذكر الروح بالتسليم والرضاء‏.‏
    وورد في فضل الذكر أحاديث أخرى منها ما أخرجه المصنف في أواخر كتاب التوحيد عن أبي هريرة ‏"‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ‏"‏
    ( ج11/ ص 257-267)
    * لله تسعة وتسعون اسماً *
    وقد أطلق ابن عطية في تفسيره أنه تواتر عن أبي هريرة فقال‏:‏ في سرد الأسماء نظر، فإن بعضها ليس في القرآن ولا في الحديث الصحيح، ولم يتواتر الحديث من أصله وإن خرج في الصحيح، ولكنه تواتر عن أبي هريرة، كذا قال ولم يتواتر عن أبي هريرة أيضا بل غاية أمره أن يكون مشهورا، ولم يقع في شيء من طرقه سرد الأسماء إلا في رواية الوليد بن مسلم عند الترمذي‏.‏
    وفي رواية زهير بن محمد عن موسى بن عقبة عند ابن ماجه، وهذان الطريقان يرجعان إلى رواية الأعرج، وفيهما اختلاف شديد في سرد الأسماء والزيادة والنقص
    *اختلف العلماء في سرد الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج في الخبر من بعض الرواة، فمشى كثير منهم على الأول واستدلوا به على جواز تسمية الله تعالى بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم، لأن كثيرا من هذه الأسماء كذلك‏.‏
    وذهب آخرون إلى أن التعيين مدرج لخلو أكثر الروايات عنه‏.
    *وقد قال الغزالي في ‏"‏ شرح الأسماء ‏"‏ له‏:‏ لا أعرف أحدا من العلماء عني بطلب أسماء وجمعها سوى رجل من حفاظ المغرب يقال له علي بن حزم فإنه قال‏:‏ صح عندي قريب من ثمانين اسما يشتمل عليها كتاب الله والصحاح من الأخبار، فلتطلب البقية من الأخبار الصحيحة‏.‏
    قال الغزالي‏:‏ وأظنه لم يبلغه الحديث يعني الذي أخرجه الترمذي أو بلغه فاستضعف إسناده، قلت‏:‏ الثاني هو مراده، فإنه ذكر نحو ذلك في ‏"‏ المحلى ‏"‏ ثم قال‏:‏ والأحاديث الواردة في سرد الأسماء ضعيفة لا يصح شيء منها أصلا، وجميع ما تتبعته من القرآن ثمانية وستون اسما‏.‏
    فإنه اقتصر على ما ورد فيه بصورة الاسم لا ما يؤخذ من الاشتقاق كالباقي من قوله تعالى ‏(‏ويبقى وجه ربك‏)‏ ولا ما ورد مضافا كالبديع من قوله تعالى ‏(‏بديع السموات والأرض‏)‏ وسأبين الأسماء التي اقتصر عليها قريبا‏.‏
    وقد استضعف الحديث أيضا جماعة فقال الداودي‏:‏ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عين الأسماء المذكورة‏.‏
    وقال ابن العربي يحتمل أن تكون الأسماء تكملة الحديث المرفوع، ويحتمل أن تكون من جمع بعض الرواة وهو الأظهر عندي‏.‏
    وقال أبو الحسن القابسي‏:‏ أسماء الله وصفاته لا تعلم إلا بالتوقيف من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولا يدخل فيها القياس ولم يقع في الكتاب ذكر عدد معين، وثبت في السنة أنها تسعة وتسعون، فأخرج بعض الناس من الكتاب تسعة وتسعين اسما، والله أعلم بما أخرج من ذلك، لأن بعضها ليست أسماء يعني صريحة‏.‏
    ‏وأما الرواية التي سردت فيها الأسماء فيدل على ضعفها عدم تناسبها في السياق ولا في التوقيف ولا في الاشتقاق، لأنه إن كان المراد الأسماء فقط فغالبها صفات، وإن كان المراد الصفات فالصفات غير متناهية‏.‏
    وأجاب الفخر الرازي عن الأول بجواز أن يكون المراد من عدم تفسيرها أن يستمروا على المواظبة بالدعاء بجميع ما ورد من الأسماء رجاء أن يقعوا على تلك الأسماء المخصوصة، كما أبهمت ساعة الجمعة وليلة القدر والصلاة الوسطى‏.‏
    وعن الثاني بأن سردها إنما وقع بحسب التتبع والاستقراء على الراجح فلم يحصل الاعتناء بالتناسب، وبأن المراد من أحصى هذه الأسماء دخل الجنة بحسب ما وقع الاختلاف في تفسير المراد بالإحصاء فلم يكن القصد حصر الأسماء انتهى‏.‏
    إذا تقرر رجحان أن سرد الأسماء ليس مرفوعا فقد اعتنى جماعة بتتبعها من القرآن من غير تقييد بعدد، فروينا في ‏"‏ كتاب المائتين ‏"‏ لأبي عثمان الصابوني بسنده إلى محمد بن يحيى الذهلي أنه استخرج الأسماء من القرآن، وكذا أخرج أبو نعيم عن الطبراني عن أحمد بن عمرو الخلال عن ابن أبي عمرو ‏"‏ حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين سألت أبا جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء الحسنى فقال‏:‏ هي في القرآن‏.‏
    وروينا في ‏"‏ فوائد تمام ‏"‏ من طريق أبي الطاهر بن السرح عن حبان بن نافع عن سفيان بن عيينة الحديث، يعني حديث ‏"‏ إن لله تسعة وتسعين اسما ‏"‏ قال فوعدنا سفيان أن يخرجها لنا من القرآن فأبطأ، فأتينا أبا زيد فأخرجها لنا فعرضناها على سفيان فنظر فيها أربع مرات وقال‏:‏ نعم هي هذه، وهذا سياق ما ذكره جعفر‏.‏
    (ج11/ ص264)
    وقد اختلف في هذا العدد هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذه العدة أو أنها أكثر من ذلك ولكن اختصت هذه بأن من أحصاها دخل الجنة‏؟‏ فذهب الجمهور إلى الثاني، ونقل النووي اتفاق العلماء عليه فقال‏:‏ ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى، وليس معناه أنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد وصححه ابن حبان ‏"‏ أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ‏"‏ وعند مالك عن كعب الأحبار في دعاء ‏"‏ وأسألك بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم ‏"‏ وأورد الطبري عن قتادة نحوه، ومن حديث عائشة أنها دعت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك‏.‏
    (ج11/ ص 265)
    وقال الخطابي‏:‏ في هذا الحديث إثبات هذه الأسماء المخصوصة بهذا العدد وليس فيه منع ما عداها من الزيادة، وإنما للتخصيص لكونها أكثر الأسماء وأبينها معاني، وخبر المبتدأ في الحديث هو قوله ‏"‏ من أحصاها ‏"‏ لا قوله ‏"‏ لله ‏"‏ وهو كقولك لزيد ألف درهم أعدها للصدقة أو لعمرو مائة ثوب من زاره ألبسه إياها‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ نحو ذلك ونقل ابن بطال عن القاضي أبي بكر بن الطيب قال ليس في الحديث دليل على أنه ليس لله من الأسماء إلا هذه العدة وإنما معنى الحديث أن من أحصاها دخل الجنة، ويدل على عدم الحصر أن أكثرها صفات وصفات الله لا تتناهى‏.‏
    وقيل إن المراد الدعاء بهذه الأسماء لأن الحديث مبني على قوله ‏(‏ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها‏)‏ فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تسعة وتسعون فيدعي بها ولا يدعي بغيرها حكاه ابن بطال عن المهلب، وفيه نظر لأنه ثبت في أخبار صحيحة الدعاء بكثير من الأسماء التي لم ترد في القرآن كما في حديث ابن عباس في قيام الليل ‏"‏ أنت المقدم وأنت المؤخر ‏"‏ وغير ذلك‏.‏
    وقال الفخر الرازي‏:‏ لما كانت الأسماء من الصفات وهي إما ثبوتية حقيقية كالحي أو إضافية كالعظيم وإما سلبية كالقدوس وإما من حقيقية وإضافية كالقدير أو من سلبية إضافية كالأول والآخر وإما من حقيقة وإضافية سلبية كالملك، والسلوب غير متناهية لأنه عالم بلا نهاية قادر على ما لا نهاية له فلا يمتنع أن يكون له من ذلك اسم فيلزم أن لا نهاية لأسمائه‏.‏
    وحكى القاضي أبو بكر ابن العربي عن بعضهم أن لله ألف اسم، قال ابن العربي وهذا قليل فيها، ونقل الفخر الرازي عن بعضهم أن لله أربعة آلاف اسم استأثر بعلم ألف منها وأعلم الملائكة بالبقية والأنبياء بألفين منها وسائر الناس بألف، وهذه دعوى تحتاج إلى دليل‏.‏
    واستدل بعضهم لهذا القول بأنه ثبت في نفس حديث الباب أنه وتر يحب الوتر، والرواية التي سردت فيها الأسماء لم يعد فيها الوتر فدل على أن له اسما آخر غير التسعة والتسعين‏.‏
    وتعقبه من ذهب إلى الحصر في التسعة والتسعين كابن حزم بأن الخبر الوارد لم يثبت رفعه وإنما هو مدرج كما تقدمت الإشارة إليه، واستدل أيضا على عدم الحصر بأنه مفهوم عدد وهو ضعيف، وابن حزم ممن ذهب إلى الحصر في العدد المذكور، وهو لا يقول بالمفهوم أصلا ولكنه احتج بالتأكيد في قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏مائة إلا واحدا ‏"‏ قال لأنه لو جاز أن يكون له اسم زائد على العدد المذكور لزم أن يكون له مائة اسم فيبطل قوله مائة إلا واحدا، وهذا الذي قاله ليس بحجة على ما تقدم، لأن الحصر المذكور عندهم باعتبار الوعد الحاصل لمن أحصاها، فمن ادعى على أن الوعد وقع لمن أحصى زائدا على ذلك أخطأ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون هناك اسم زائد، واحتج بقوله تعالى ‏(‏ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه‏)‏ وقد قال أهل التفسير‏:‏ من الإلحاد في أسمائه تسميته بما لم يرد في الكتاب أو السنة الصحيحة
    (ج11/ ص 266)
    أما الحكمة في القصر على العدد المخصوص فذكر الفخر الرازي عن الأكثر أنه تعبد لا يعقل معناه كما قيل في عدد الصلوات وغيرها، ونقل عن أبي خلف محمد بن عبد الملك الطبري السلمي قال‏:‏ إنما خص هذا العدد إشارة إلى أن الأسماء لا تؤخذ قياسا‏.‏
    وقيل الحكمة فيه أن معاني الأسماء ولو كانت كثيرة جدا موجودة في التسعة والتسعين المذكورة، وقيل الحكمة فيه أن العدد زوج وفرد، والفرد أفضل من الزوج، ومنتهى الأفراد من غير تكرار تسعة وتسعون لأن مائة وواحدا يتكرر فيه الواحد‏.‏
    وإنما كان الفرد أفضل من الزوج لأن الوتر أفضل من الشفع لأن الوتر من صفة الخالق والشفع من صفة المخلوق، والشفع يحتاج للوتر من غير عكس‏.‏
    وقيل الكمال في العدد حاصل في المائة لأن الأعداد ثلاثة أجناس‏:‏ آحاد وعشرات ومئات، والألف مبتدأ لآحاد أخر، فأسماء الله مائة استأثر الله منها بواحد وهو الاسم الأعظم فلم يطلع عليه أحد فكأنه قيل مائة لكن واحد منها عند الله وقال غيره‏:‏ ليس الاسم الذي يكمل المائة مخفيا بل هو الجلالة، وممن جزم بذلك السهيلي فقال‏:‏ الأسماء الحسنى مائة على عدد درجات الجنة والذي يكمل المائة، الله، ويؤيده قوله تعالى ‏(‏ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها‏)‏ فالتسعة والتسعون لله فهي زائدة عليه وبه تكمل المائة‏.‏
    (ج11/ ص 268)
    ال القرطبي‏:‏ فأسماء الله وإن تعددت فلا تعدد في ذاته ولا تركيب، لا محسوسا كالجسميات ولا عقليا كالمحدودات، وإنما تعددت الأسماء بحسب الاعتبارات الزائدة على الذات، ثم هي من جهة دلالتها على أربعة ضرب‏:‏ الأول ما يدل على الذات مجردة كالجلالة فإنه يدل عليه دلالة مطلقة غير مقيدة وبه يعرف جميع أسمائه فيقال الرحمن مثلا من أسماء الله ولا يقال الله من أسماء الرحمن، ولهذا كان الأصح أنه اسم علم غير مشتق وليس بصفة‏.‏
    الثاني ما يدل على الصفات الثابتة للذات كالعليم والقدير والسميع والبصير‏.‏
    الثالث ما يدل على إضافة أمر ما إليه كالخالق والرازق‏.‏
    الرابع ما يدل على سلب شيء عنه كالعلي والقدوس‏.‏
    وهذه الأقسام الأربعة منحصرة في النفي والإثبات‏.‏
    واختلف في الأسماء الحسنى هل هي توقيفية بمعنى أنه لا يجوز لأحد أن يشتق من الأفعال الثابتة لله أسماء، إلا إذا ورد نص إما في الكتاب أو السنة، فقال الفخر‏:‏ المشهور عن أصحابنا أبها توقيفية‏.‏
    وقالت المعتزلة والكرامية‏:‏ إذا دل العقل على أن معنى اللفظ ثابت في حق الله جاز إطلاقه على الله‏.‏
    وقال القاضي أبو بكر والغزالي‏:‏ الأسماء توقيفية دون الصفات، قال‏:‏ وهذا هو المختار‏.‏
    واحتج الغزالي بالاتفاق على أنه لا يجوز لنا أن نسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم لم يسمه به أبوه ولا سمى به نفسه وكذا كل كبير من الخلق، قال‏:‏ فإذا امتنع ذلك في حق المخلوقين فامتناعه في حق الله أولى‏.‏
    واتفقوا على أنه لا يجوز أن يطلق عليه اسم ولا صفة توهم نقصا ولو ورد ذلك نصا، فلا يقال ماهد ولا زارع ولا فالق ولا نحو ذلك وإن ثبت في قوله ‏(‏فنعم الماهدون، أم نحن الزارعون، فالق الحب والنوى‏)‏ ونحوها، ولا يقال له ماكر ولا بناء وإن ورد ‏(‏ومكر الله، والسماء بنيناها‏)‏ وقال أبو القاسم القشيري‏:‏ الأسماء تؤخذ توقيفا من الكتاب والسنة والإجماع، فكل اسم ورد فيها وجب إطلاقه في وصفه، وما لم يرد لا يجوز ولو صح معناه‏.‏
    وقال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ لا يجوز لأحد أن يدعو الله بما لم يصف به نفسه، والضابط أن كل ما أذن الشرع أن يدعي به سواء كان مشتقا أو غير مشتق فهو من أسمائه، وكل ما جاز أن ينسب إليه سواء كان مما يدخله التأويل أو لا فهو من صفاته ويطلق عليه اسما أيضا‏.‏
    قال الحليمي‏:‏ الأسماء الحسنى تنقسم إلى العقائد الخمس‏:‏ الأولى إثبات الباري ردا على المعطلين وهي الحي والباقي والوارث وما في معناها‏.‏
    والثانية توحيده ردا على المشركين وهي الكافي والعلي والقادر ونحوها، والثالثة تنزيهه ردا على المشبهة وهي القدوس والمجيد والمحيط وغيرها‏.‏
    والرابعة اعتقاد أن كل موجود من اختراعه ردا على القول بالعلة والمعلول وهي الخالق والبارئ والمصور والقوي وما يلحق بها‏.‏
    والخامسة أنه مدبر لما اخترع ومصرفه على ما شاء وهو القيوم والعليم والحكيم وشبهها‏.‏
    وقال أبو العباس بن معد‏:‏ من الأسماء ما يدل على الذات عينا وهو الله، وعلى الذات مع سلب كالقدوس والسلام، ومع إضافة كالعلي العظيم، ومع سلب وإضافة كالملك والعزيز ومنها ما يرجع إلى صفة كالعليم والقدير، ومع إضافة كالحليم والخبير، أو إلى القدرة مع إضافة كالقهار، وإلى الإرادة مع فعل وإضافة كالرحمن الرحيم‏.‏
    وما يرجع إلى صفة فعل كالخالق والبارئ، ومع دلالة على الفعل كالكريم واللطيف‏.‏
    قال‏:‏ فالأسماء كلها لا تخرج عن هذه العشرة، وليس فيها شيء مترادف إذ لكل اسم خصوصية ما وإن اتفق بعضها مع بعض في أصل المعنى انتهى كلامه‏.‏
    ثم وقفت عليه منتزعا من كلام الفخر الرازي في شرح الأسماء الحسنى‏.‏
    وقال الفخر أيضا‏:‏ الألفاظ الدالة على الصفات ثلاثة‏:‏ ثابتة في حق الله قطعا، وممتنعة قطعا، وثابتة لكن مقرونة بكيفية، فالقسم الأول منه ما يجوز ذكره مفردا ومضافا وهو كثير جدا كالقادر والقاهر، ومنه ما يجوز مفردا ولا يجوز مضافا إلا بشرط كالخالق فيجوز خالق ويجوز خالق كل شيء مثلا ولا يجوز خالق القردة، ومنه عكسه يجوز مضافا ولا يجوز مفردا كالمنشئ يجوز منشئ الخلق ولا يجوز منشئ فقط‏.‏
    والقسم الثاني إن ورد السمع بشيء منه أطلق وحمل على ما يليق به‏.‏
    (ج11/ ص 269)
    عبارة أبي جعفر الطبري‏:‏ اختلفت الآثار في تعيين الاسم الأعظم، والذي عندي أن الأقوال كلها صحيحة إذ لم يرد في خبر منها أنه الاسم الأعظم ولا شيء أعظم منه، فكأنه يقول كل اسم من أسمائه تعالى يجوز وصفه بكونه أعظم فيرجع إلى معنى عظيم كما تقدم‏.‏
    وقال ابن حبان الأعظمية الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي بذلك كما أطلق ذلك في القرآن والمراد به‏.‏
    مزيد ثواب القارئ وقيل المراد بالاسم الأعظم كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به مستغرقا بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله تعالى فإن من تأتى له ذلك استجيب له‏.‏
    ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق وعن الجنيد وعن غيرهما‏.‏
    (ج11/ ص 270)
    وقال آخرون‏:‏ استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، وأثبته آخرون معينا واضطربوا في ذلك وجملة ما وقفت عليه من ذلك أربعة عشر قولا‏:‏ الأول الاسم الأعظم ‏"‏ هو ‏"‏ نقله الفخر الرازي عن بعض أهل الكشف، واحتج له بأن من أراد أن يعبر عن كلام معظم حضرته لم يقل له‏:‏ أنت قلت كذا، وإنما يقول هو يقول تأدبا معه‏.‏
    الثاني ‏"‏ الله ‏"‏ لأنه اسم لم يطلق على غيره، ولأنه الأصل في الأسماء الحسنى ومن ثم أضيفت إليه‏.‏
    الثالث ‏"‏ الله الرحمن الرحيم ‏"‏ ولعل مستنده ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة أنها ‏"‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها الاسم الأعظم فلم يفعل، فصلت ودعت‏:‏ اللهم إني أدعوك الله وأدعوك الرحمن وأدعوك الرحيم وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم ‏"‏ الحديث وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها ‏"‏ إنه لفي الأسماء التي دعوت بها‏"‏‏.‏
    قلت‏:‏ وسنده ضعيف وفي الاستدلال به نظر لا يخفى‏.‏
    الرابع ‏"‏ الرحمن الرحيم الحي القيوم ‏"‏ لما أخرج الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين ‏(‏وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم‏)‏ وفاتحة سورة آل عمران ‏(‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏)‏ أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي وحسنه الترمذي وفي نسخة صحيحة‏:‏ وفيه نظر لأنه من رواية شهر بن حوشب‏.‏
    الخامس ‏"‏ الحي القيوم ‏"‏ أخرج ابن ماجه من حديث أبي أمامة ‏"‏ الاسم الأعظم في ثلاث سور‏:‏ البقرة وآل عمران وطه ‏"‏ قال القاسم الراوي عن أبي أمامة‏:‏ التمسته منها فعرفت أنه الحي القيوم، وقواه الفخر الرازي واحتج بأنهما يدلان من صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتهما‏.‏
    السادس ‏"‏ الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام الحي القيوم ‏"‏ ورد ذلك مجموعا في حديث أنس عند أحمد والحاكم وأصله عند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان‏.‏
    السابع ‏"‏ بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام ‏"‏ أخرجه أبو يعلى من طريق السدي ابن يحيى عن رجل من طيئ وأثنى عليه قال ‏"‏ كنت أسأل الله أن يريني الاسم الأعظم فأريته مكتوبا في الكواكب في السماء‏"‏‏.‏
    (ج11/ ص 271)
    قال ابن الجوزي‏:‏ لما ثبت في بعض طرق الحديث ‏"‏ من حفظها ‏"‏ بدل ‏"‏ أحصاها ‏"‏ اخترنا أن المراد العد أي من عدها ليستوفيها حفظا‏.‏
    قلت‏:‏ وفيه نظر، لأنه لا يلزم من مجيئه بلفظ حفظها تعين السرد عن ظهر قلب، بل يحتمل الحفظ المعنوي‏.‏
    وقيل المراد بالحفظ حفظ القرآن لكونه مستوفيا لها، فمن تلاه ودعا بما فيه من الأسماء حصل المقصود‏.‏
    قال النووي‏:‏ وهذا ضعيف، وقيل المراد من تتبعها من القرآن‏.‏
    وقال ابن عطية‏:‏ معنى أحصاها عدها وحفظها، ويتضمن ذلك الإيمان بها والتعظيم لها والرغبة فيها والاعتبار بمعانيها‏.‏
    وقال الأصيلي‏:‏ ليس المراد بالإحصاء عدها فقط لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العمل بها‏.‏
    وقال أبو نعيم الأصبهاني‏:‏ الإحصاء المذكور في الحديث ليس هو التعداد، وإنما هو العمل والتعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها‏.‏
    وقال أبو عمر الطلمنكي من تمام المعرفة بأسماء الله تعالى وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المعرفة بالأسماء والصفات وما تتضمن من الفوائد وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالم لمعاني الأسماء ولا مستفيدا بذكرها ما تدل عليه من المعاني‏.‏
    وقال أبو العباس بن معد‏:‏ يحتمل الإحصاء معنيين أحدهما أن المراد تتبعها من الكتاب والسنة حتى يحصل عليها، والثاني أن المراد أن يحفظها بعد أن يجدها محصاة‏.‏
    قال‏:‏ وللإحصاء معان أخرى، منها الإحصاء الفقهي وهو العلم بمعانيها من اللغة وتنزيهها على الوجوه التي تحملها الشريعة ومنها الإحصاء النظري وهو أن يعلم معنى كل اسم بالنظر في الصيغة ويستدل عليه بأثره الساري في الوجود فلا تمر على موجود إلا ويظهر لك فيه معنى من معاني الأسماء وتعرف خواص بعضها وموقع القيد ومقتضى اسم، قال‏:‏ وهذا أرفع مراتب الإحصاء، قال‏:‏ وتمام ذلك أن يتوجه إلى الله تعالى من العمل الظاهر والباطن بما يقتضيه كل اسم، من الأسماء فيعبد الله بما يستحقه من الصفات المقدسة التي وجبت لذاته، قال فمن حصلت له جميع مراتب الإحصاء حصل على الغاية، ومن منح منحي من مناحيها فثوابه بقدر ما نال والله أعلم‏.‏
    وقع في تفسير ابن مردويه وعند أبي نعيم من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة بدل قوله من أحصاها دخل الجنة ‏"‏ من دعا بها دخل الجنة ‏"‏ وفي سنده حصين بن مخارق وهو ضعيف، وزاد خليد بن دعلج في روايته التي تقدمت الإشارة إليها ‏"‏ وكلها في القرآن ‏"‏ وكذا وقع من قول سعيد بن عبد العزيز، وكذا وقع في حديث ابن عباس وابن عمر معا بلفظ ‏"‏ من أحصاها دخل الجنة وهي في القرآن ‏"
    (ج11/ ص 271)
    ‏قال عياض معناه أن الوتر في العدد فضلا على الشفع في أسمائه لكونه دالا على الوحدانية في صفاته، وتعقب بأنه لو كان المراد به الدلالة على الوحدانية لما تعددت الأسماء، بل المراد أن الله يحب الوتر من كل شيء وأن تعدد ما فيه الوتر، وقيل هو منصرف إلى من يعبد الله بالوحدانية والتفرد على سبيل الإخلاص، وقيل لأنه أمر بالوتر في كثير من الأعمال والطاعات كما في الصلوات الخمس ووتر الليل وإعداد الطهارة وتكفين الميت وفي كثير من المخلوقات كالسماوات والأرض انتهى ملخصا‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ الظاهر أن الوتر هنا للجنس، إذ لا معهود جرى ذكره حتى يحمل عليه فيكون معناه أنه وتر يحب كل وتر شرعه، ومعنى محبته له أنه أمر به وأثاب عليه، ويصلح ذلك العموم ما خلقه وترا من مخلوقاته أو معنى محبته له أنه خصصه بذلك لحكمة يعلمها، ويحتمل أن يريد بذلك وترا بعينه وإن لم يجر له ذكر‏.‏
    (ج11/ ص 273)
    قال الخطابي‏:‏ المراد أنه كان يراعي الأوقات في تعليمهم ووعظهم ولا يفعله كل يوم خشية الملل، والتخول التعهد، وقيل إن بعضهم رواه بالحاء المهملة وفسره بأن المراد يتفقد أحوالهم التي يحصل لهم فيها النشاط للموعظة فيعظهم فيها ولا يكثر عليهم لئلا يملوا، حكى ذلك الطيبي ثم قال‏:‏ ولكن الرواية في الصحاح بالخاء المعجمة‏.

  9. #209
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم الحادي عشر من الحجر المنزلي نسأل الله السلامة والعافية
    " رأيت فيما يرى النائم في هذا اليوم إمامتي بالناس في المسجد لصلاة المغرب
    والمساجد قد فتحت أبوابها وازدحام شديد لصلاة الجماعة لعل في ذلك انفراج هم بإذن الله ورفع كربة
    واندفاع بأس وعودة الأمور الى طبيعتها نسأل الله العظيم أن يرفع البلاء عن العباد "
    وكانت القراءة من سورة البقرة " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ...... الى نهاية الصفحة "
    ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة "
    " ورؤيا المؤمن حق "
    وقد تكون خبرا عن أمورا غيبية أو واقع ملموس او شيء سيقع ويكون خيرا للبلاد والعباد "
    الموافق 4 / شعبان / 1441 هجري
    الموافق 28/ مارس / 2020 ميلادي


    كتاب الرقاق
    (ج11/ ص 275)
    في رواية كريمة عن الكشميهني ‏"‏ ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش، الآخرة ‏"‏ قال مغلطاي‏:‏ عبر جماعة من العلماء في كتبهم بالرقائق‏.‏
    قلت‏:‏ منهم ابن المبارك والنسائي في ‏"‏ الكبرى ‏"‏ وروايته كذلك في نسخة معتمدة من رواية النسفي عن البخاري والمعنى واحد والرقاق والرقائق جمع رقيقة وسميت هذه الأحاديث بذلك لأن في كل منها ما يحدث في القلب رقة‏.‏
    قال أهل اللغة‏:‏ الرقة الرحمة وضد الغلظ، ويقال للكثير الحياء رق وجهه استحياء‏.‏
    وقال الراغب‏:‏ متى كانت الرقة في جسم فضدها الصفاقة كثوب رقيق وثوب صفيق، ومتى كانت في نفس فضدها القسوة كرقيق القلب وقاسي القلب‏.‏
    وقال الجوهري‏:‏ وترقيق الكلام تحسينه‏.‏
    (ج11/ ص 277)
    وقال ابن الجوزي‏:‏ قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل‏:‏ يسر الفتى طول السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفعل يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا رام القيام ويحمل وقال الطيبي‏:‏ ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للمكلف مثلا بالتاجر الذي له رأس مال، فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ويلزم الصدق والحذق لئلا يغبن، فالصحة والفراغ رأس المال، وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النفس وعدو الدين، ليربح خيري الدنيا والآخرة وقريب منه قول الله تعالى ‏(‏هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم‏)‏ الآيات‏.‏
    وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان لئلا يضيع رأس ماله مع الربح‏.‏
    وقال القاضي وأبو بكر بن العربي‏:‏ اختلف في أول نعمة الله على العبد فقيل الإيمان، وقيل الحياة، وقيل الصحة، والأول أولى فإنه نعمة مطلقة، وأما الحياة والصحة فإنهما نعمة دنيوية، ولا تكون نعمة حقيقة إلا إذا صاحبت الإيمان وحينئذ يغبن فيها كثير من الناس أي يذهب ربحهم أو ينقص، فمن استرسل مع نفسه الأمارة بالسوء الخالدة إلى الراحة فترك المحافظة على الحدود والمواظبة على الطاعة فقد غبن، وكذلك إذا كان فارغا فإن المشغول قد يكون له معذرة بخلاف الفارغ فإنه يرتفع عنه المعذرة وتقوم عليه الحجة‏.‏
    قال ابن المنير مناسبة إيراد حديث أنس وسهل مع حديث ابن عباس الذي تضمنته الترجمة أن الناس قد غبن كثير منهم في الصحة والفراغ لإيثارهم لعيش الدنيا على عيش الآخرة، فأراد الإشارة إلى أن العيش الذي اشتغلوا به ليس بشيء بل العيش الذي شغلوا عنه هو المطلوب، ومن فاته فهو المغبون‏.‏
    (ج11/ ص 279)
    قال ابن عطية‏:‏ المراد بالحياة الدنيا في هذه الآية ما يختص بدار الدنيا من تصرف، وأما ما كان فيها من الطاعة وما لا بد منه مما يقيم الأود ويعين على الطاعة فليس مرادا هنا، والزينة ما يتزين به مما هو خارج عن ذات الشيء مما يحسن به الشيء، والتفاخر يقع بالنسب غالبا كعادة العرب، والتكاثر ذكر متعلقه في الآية، وصورة هذا المثال أن المرء يولد فينشأ فيقوى فيكسب المال والولد ويرأس، ثم يأخذ بعد ذلك في الانحطاط فيشيب ويضعف ويسقم وتصيبه النوائب من مرض ونقص في مال وعز، ثم يموت فيضمحل أمره ويصير ماله لغيره وتغير رسومه، فحاله كحال أرض أصابها مطر فنبت عليها العشب نباتا معجبا أنيقا ثم هاج أي يبس وأصفر ثم تحطم وتفرق إلى أن اضمحل،
    (ج11/ ص 280)
    لما أورد الغزالي حديث المستورد في الإحياء عقبه بأن قال ما ملخصه‏:‏ أعلم أن مثل أهل الدنيا في غفلتهم كمثل قوم ركبوا سفينة فانتهوا إلى جزيرة معشبة فخرجوا لقضاء الحاجة فحذرهم الملاح من التأخر فيها وأمرهم أن يقيموا بقدر حاجتهم وحذرهم أن يقلع بالسفينة ويتركهم، فبادر فرجع سريعا فصادف أحسن الأمكنة وأوسعها فاستقر فيه، وانقسم الباقون فرقا الأولى استغرقت في النظر إلى أزهارها المونقة وأنهارها المطردة وثمارها الطيبة وجواهرها ومعادنها، ثم استيقظ فبادر إلى السفينة فلقي مكانا دون الأول فنجا في الجملة، الثانية كالأولى لكنهما أكبت على تلك الجواهر والثمار والأزهار ولم تسمح نفسه لتركها فحمل منها ما قدر عليه فتشاغل بجمعه وحمله فوصل إلى السفينة فوجد مكانا أضيق من الأول ولم تسمح نفسه برمي ما استصحبه فصار مثقلا به، ثم لم يلبث أن ذبلت الأزهار ويبست الثمار وهاجت الرياح فلم يجد بدا من إلقاء ما استصحبه حتى نجا بحشاشة نفسه، الثالثة تولجت في الغياض غفلت عن وصية الملاح ثم سمعوا نداءه بالرحيل فمرت فوجدت السفينة سارت فبقيت بما استصحبت في البر حتى هلكت، والرابعة اشتدت بها الغفلة عن سماع النداء وسارت السفينة فتقسموا فرقا منهم من افترسته السباع ومنهم من تاه على وجهه حتى هلك ومنهم من مات جوعا ومنهم من نهشته الحيات، قال‏:‏ فهذا مثل أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة وغفلتهم عن عاقبة أمرهم‏.‏
    ثم ختم بأن قال‏:‏ وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن يغتر بالأحجار من الذهب والفضة والهشيم من الأزهار والثمار وهو لا يصحبه شيء من ذلك بعد الموت‏.‏
    والله المستعان‏.‏
    (ج11/ ص282)
    وقال النووي‏:‏ معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنا ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه‏.‏
    وقال غيره‏:‏ عابر السبيل هو المار على الطريق طالبا وطنه، فالمرء في الدنيا كعبد أرسله سيده في حاجة إلى غير بلده، فشأنه أن يبادر بفعل ما أرسل فيه ثم يعود إلى وطنه ولا يتعلق بشيء غير ما هو فيه وقال غيره‏:‏ المراد أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا منزلة الغريب فلا يعلق قلبه بشيء، من بلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، ويجعل إقامته في الدنيا ليقضي حاجته وجهازه للرجوع إلى وطنه، وهذا شأن الغريب‏.‏
    أو يكون كالمسافر لا يستقر في مكان بعينه بل هو دائم السير إلى بلد الإقامة‏.‏
    حديث ابن عباس أيضا مرفوعا أخرجه الحاكم ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه‏:‏ اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك ‏"‏ وأخرجه ابن المبارك في الزهد بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون، قال بعض العلماء‏:‏ كلام ابن عمر منتزع من الحديث المرفوع، وهو متضمن لنهاية قصر الأمل، وأن العاقل ينبغي له إذا أمسى لا ينتظر الصباح وإذا أصبح لا ينتظر المساء، بل يظن أن أجله مدركه قبل ذلك‏.‏
    (ج11/ ص 284)
    من كلام علي أخذ بعض الحكماء قوله ‏"‏ الدنيا مدبرة والآخرة مقبلة فعجب لمن يقبل على المدبرة ويدبر على المقبلة ‏"‏ وورد في ذم الاسترسال مع الأمل حديث أنس رفعه ‏"‏ أربعة من الشقاء‏:‏ جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا ‏"‏ أخرجه البزار‏:‏ وعن عبد الله بن عمرو رفعه ‏"‏ صلاح أول هذه الأمة بالزهادة واليقين، وهلاك آخرها بالبخل والأمل ‏"‏ أخرجه الطبراني وابن أبي الدنيا، وقيل إن قصر الأمل حقيقة الزهد، وليس كذلك بل هو سبب، لأن من قصر أمله زهد، ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب، لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة كما قال تعالى ‏(‏فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم‏)‏ وقيل‏:‏ من قصر أمله قل همه وتنور قلبه، لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة، وقل همه، ورضي بالقليل‏.‏
    وقال ابن الجوزي‏:‏ الأمل مذموم للناس إلا للعلماء، فلولا أملهم لما صنفوا ولا ألفوا‏.‏
    وقال غيره‏:‏ الأمل مطبوع في جميع بني آدم كما سيأتي في الحديث الذي في الباب بعده ‏"‏ لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين حب الدنيا وطول الأمل ‏"‏ وفي الأمل سر لطيف لأنه لولا الأمل ما تهنى أحد بعيش ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، وإنما المذموم منه الاسترسال فيه وعدم الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته‏.‏
    له في أثر علي ‏"‏ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل ‏"‏ جعل اليوم نفس العمل والمحاسبة مبالغة وهو كقولهم نهاره صائم، والتقدير في الموضعين ولا حساب فيه ولا عمل فيه، وقوله ‏"‏ولا حساب
    (ج11/ ص 287)
    وجاءكم النذير‏)‏ كذا للأكثر، وسقط قوله ‏"‏ لقوله تعالى ‏"‏ وفي رواية النسفي ‏"‏ يعني الشيب ‏"‏ وثبت قوله يعني الشيب في رواية أبي ذر وحده، وقد اختلف أهل التفسير فيه فالأكثر على أن المراد به الشيب لأنه يأتي في سن الكهولة فما بعدها، وهو علامة لمفارقة سن الصبي الذي هو مظنة اللهو‏.‏
    وقال علي‏:‏ المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفوا أيضا في المراد بالتعمير في الآية على أقوال‏:‏ أحدها أنه أربعون سنة، نقله الطبري عن مسروق وغيره، وكأنه أخذه من قوله ‏"‏ بلغ أشده وبلغ أربعين سنة‏"‏‏.‏
    والثاني ست وأربعون سنة أخرجه ابن مردويه من طريق مجاهد عن ابن عباس وتلا الآية، ورواته رجال الصحيح، إلا ابن خثيم فهو صدوق وفيه ضعف‏.‏
    والثالث سبعون سنة أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء عن ابن عباس ‏(‏أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير‏)‏ فقال نزلت تعييرا لأبناء السبعين، وفي إسناده يحيى بن ميمون وهو ضعيف الرابع ستون، وتمسك قائله بحديث الباب وورد في بعض طرقه التصريح بالمراد، فأخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من طريق سعيد بن سليمان عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم ستون سنة‏:‏ أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ‏"‏ وأخرجه ابن مردويه من طريق حماد بن زيد عن أبي حازم عن سهل بن سعد مثله‏.‏
    الخامس التردد بين الستين والسبعين أخرجه ابن مردويه من طريق أبي معشر عن سعيد عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ من عمر ستين أو سبعين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر ‏"‏ وأخرجه أيضا من طريق معتمر بن سليمان عن معمر عن رجل من غفار يقال له محمد عن سعيد عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ من بلغ الستين والسبعين ‏"‏ ومحمد الغفاري هو ابن معن الذي أخرجه البخاري من طريقه اختلف عليه في لفظه، كما اختلف على سعيد المقبري في لفظه، وأصح الأقوال في ذلك ما ثبت في حديث الباب ويدخله في هذا حديث ‏"‏ معترك المنايا ما بين ستين وسبعين ‏"‏ أخرجه أبو يعلى من طريق إبراهيم بن الفضل عن سعيد عن أبي هريرة، وإبراهيم ضعيف‏.‏
    (ج11/ ص 295)
    ابن بطال‏:‏ فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها، فلا يطمئن إلى زخرفها ولا ينافس غيره فيها، ويستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى لأن فتنة الدنيا مقرونة بالغنى والغنى مظنة الوقوع في الفتنة التي قد تجر إلى هلاك النفس غالبا والفقير آمن من ذلك‏.‏
    (ج11/ ص 296)
    ووقع في مرسل سعيد المقبري عند سعيد بن منصور ‏"‏ أو خير هو‏؟‏ ثلاث مرات ‏"‏ وهو استفهام إنكار، أي أن المال ليس خيرا حقيقيا وإن سمي خيرا لأن الخير الحقيقي هو ما يعرض له من الإنفاق في الحق، كما أن الشر الحقيقي فيه ما يعرض له من الإمساك عن الحق والإخراج في الباطل، وما ذكر في الحديث بعد ذلك من قوله ‏"‏ إن هذا المال خضرة حلوة ‏"‏ كضرب المثل بهذه الجملة‏.‏
    وقال الغزالي‏:‏ مثل المال مثل الحية التي فيها ترياق نافع وسم ناقع، فإن أصابها العارف الذي يحترز عن شرها ويعرف استخراج ترياقها كان نعمة، وإن أصابها الغبي فقد لقي البلاء المهلك‏.‏
    وقد عد ابن دريد هذا الحديث وهو قوله ‏"‏ إن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم ‏"‏ من الكلام المفرد الوجيز الذي لم يسبق صلى الله عليه وسلم إلى معناه، وكل من وقع شيء منه في كلامه فإنما أخذه منه‏.‏
    (ج11/ ص 303)
    قال الطيبي‏:‏ قيل خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها كالأسير الذي لا يجد خلاصا، ولم يقل مالك الدينار ولا جامع الدينار لأن المذموم من الملك والجمع الزيادة على قدر الحاجة‏.‏
    (ج11/ 309)
    علم المزي على هذا السند في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ علامة التعليق، وكذا رقم لحماد بن سلمة في التهذيب علامة التعليق ولم ينبه على هذا الموضع، وهو مصير منه إلى استواء قال فلان وقال لنا فلان، وليس بجيد لأن قوله قال لنا ظاهر في الوصل وإن كان بعضهم قال إنها للإجازة أو للمناولة أو للمذاكرة فكل ذلك في حكم الموصول، وإن كان التصريح بالتحديث أشد اتصالا، والذي ظهر لي بالاستقراء من صنيع البخاري أنه لا يأتي بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن ليس على شرطه في أصل موضوع كتابه، كأن يكون ظاهره الوقف، أو في السند من ليس على شرطه في الاحتجاج، فمن أمثلة الأول قوله في كتاب النكاح في ‏"‏ باب ما يحل من النساء وما يحرم ‏"‏‏:‏ ‏"‏ قال لنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد هو القطان ‏"‏ فذكر عن ابن عباس قال ‏"‏ حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع ‏"‏ الحديث، فهذا من كلام ابن عباس فهو موقوف، وإن كان يمكن أن يتلمح له ما يلحقه بالمرفوع‏.‏
    (ج11/ ص 310)
    ما رده ما أخرجه الترمذي من طريق زر بن حبيش ‏"‏ عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ عليه ‏(‏لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب‏)‏ قال وقرأ فيها‏:‏ إن الدين عند الله الحنيفية السمحة ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ وقرأ عليه‏:‏ لو أن لابن آدم واديا من مال ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ ويتوب الله على من تاب ‏"‏ وسنده جيد، والجمع بينه وبين حديث أنس عن أبي المذكور آنفا أنه يحتمل أن يكون أبي لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏لم يكن‏)‏ وكان هذا الكلام في آخر ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم احتمل عنده أن يكون بقية السورة واحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتهيأ له أن يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك حتى نزلت ‏(‏ألهاكم التكاثر‏)‏ فلم ينتف الاحتمال‏.‏
    (ج11/ ص 319)
    وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش عن أحمد ‏"‏ ما أحب أن لي أحدا ذاك ذهبا ‏"‏ وفي رواية أبي شهاب عن الأعمش في الاستئذان ‏"‏ فلما أبصر أحدا قال‏:‏ ما أحب أنه تحول لي ذهبا يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث ‏"‏ قال ابن مالك تضمن هذا الحديث استعمال حول بمعنى صير وأعمالها عملها، وهو استعمال صحيح خفي على أكثر النحاة، وقد جاءت هذه الرواية مبينة لما لم يسم فاعله فرفعت أول المفعولين وهو ضمير عائد على أحد ونصب ثانيهما وهو قوله ‏"‏ ذهبا ‏"‏ فصارت ببنائها لما لم يسم فاعله جارية مجرى صار في رفع المبتدأ ونصب الخبر‏.‏
    انتهى كلامه‏.‏
    (ج11/ ص 321)
    وقليل ما هم‏)‏ ما زائدة مؤكدة للقلة، ويحتمل أن تكون موصوفة، ولفظ قليل هو الخبر وهم هو المبتدأ والتقدير وهم قليل، وقدم الخبر للمبالغة في الاختصاص‏.‏
    (ج11/ ص 323)
    لحبطي بفتح المهملة والموحدة ثم الطاء المهملة نسبة إلى الحبطات من بني تميم، وهو بصري صدوق ضعفه ابن عبد البر تبعا لأبي الفتح الأزدي والأزدي غير مرضى فلا يتبع في ذلك، وأبوه يكنى أبا سعيد، روى عنه ابن وهب وهو من أقرانه، ووثقه ابن المديني‏.‏
    (ج11/ 325)
    والاختلاف في هذا الحكم‏:‏ مذهب أهل السنة بأجمعهم أن أهل الذنوب في المشيئة، وأن من مات موقنا بالشهادتين يدخل الجنة، فإن كان دينا أو سليما من المعاصي دخل الجنة برحمة الله وحرم على النار، وإن كان من المخلطين بتضييع الأوامر أو بعضها وارتكاب النواهي أو بعضها ومات عن غير توبة فهو في خطر المشيئة، وهو بصدد أن يمضي عليه الوعيد إلا أن يشاء الله أن يعفو عنه، فإن شاء أن يعذبه فمصيره إلى الجنة بالشفاعة، انتهى‏.‏
    وعلى هذا فتقييد اللفظ الأول تقديره وإن زنى وإن سرق دخل الجنة، لكنه قبل ذلك إن مات مصرا على المعصية في مشيئة الله، وتقدير الثاني حرمه الله على النار إلا أن يشاء الله أو حرمه على نار الخلود والله أعلم‏.‏
    قال الطيبي‏:‏ قال بعض المحققين قد يتخذ من أمثال هذه الأحاديث المبطلة ذريعة إلى طرح التكاليف وإبطال العمل ظنا أن ترك الشرك كاف، وهذا يستلزم طي بساط الشريعة وإبطال الحدود، وأن الترغيب في الطاعة والتحذير عن المعصية لا تأثير له بل يقتضي الانخلاع عن الدين والانحلال عن قيد الشريعة والخروج عن الضبط والولوج في الخبط وترك الناس سدى مهملين وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد أن يفضي إلى خراب الأخرى، مع أن قوله في بعض طرق الحديث ‏"‏ أن يعبدوه ‏"‏ يتضمن جميع أنواع التكاليف الشرعية وقوله ‏"‏ ولا يشركوا به شيئا ‏"‏ يشمل مسمى الشرك الجلي والخفي، فلا راحة للتمسك به في ترك العمل لأن الأحاديث إذا ثبتت وجب ضم بعضها إلى بعض فإنها في حكم الحديث الواحد، فيحمل مطلقها على مقيدها ليحصل العمل بجميع ما في مضمونها وبالله التوفيق‏.‏
    (ج11/ ص 329)
    ي رواية الأعرج عن أبي هريرة عند أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما ‏"‏ إنما الغنى في النفس ‏"‏ وأصله في مسلم، ولابن حبان من حديث أبي ذر ‏"‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏
    قال‏:‏ وترى قلة المال هو الفقر‏؟‏ قلت‏:‏ نعم يا رسول الله‏.‏
    قال‏:‏ إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب ‏"‏ قال ابن بطال معنى الحديث ليس حقيقة الغنى كثرة المال لأن كثيرا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي فهو يجتهد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب، فكأنه غني‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ معنى الحديث إن الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غنى النفس، وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفت عن المطامع فعزت وعظمت وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه فإنه يورطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال لدناءة همته وبخله، ويكثر من يذمه من الناس ويصغر قدره عندهم فيكون أحقر من كل حقير وأذل من كل ذليل‏.‏
    والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعا بما رزقه الله، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة ولا يلح في الطلب ولا يحلف في السؤال، بل يرضى بما قسم الله له، فكأنه واجد أبدا، والمتصف بفقر النفس على الضد منه لكونه لا يقنع بما أعطى بل هو أبدا في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه، ثم إذا فاته المطلوب حزن وأسف، فكأنه فقير من المال لأنه لم يستغن بما أعطى، فكأنه ليس بغنى، ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعال والتسليم لأمره علما بأن الذي عند الله خير وأبقى، فهو معرض عن الحرض والطلب، وما أحسن قول القائل‏:‏ غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا وقال الطيبي‏:‏ يمكن أن يراد بغنى النفس حصول الكمالات العلمية والعملية، وإلى ذلك أشار القائل‏:‏ ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر أي ينبغي أن ينفق أوقاته في الغنى الحقيقي وهو تحصيل الكمالات، لا في جمع المال فإنه لا يزداد بذلك إلا فقرا انتهى‏.‏
    وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب بأن يفتقر إلى ربه في جميع أموره فيتحقق أنه المعطي المانع فيرضى بقضائه ويشكره على نعمائه ويفزع إليه في كشف ضرائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غيره وبه تعالى، والغنى الوارد في قوله ‏(‏ووجدك عائلا فأغنى‏)‏ يتنزل على غنى النفس، فإن الآية مكية ولا يخفى ما كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال‏.‏
    (ج11/ ص 331)
    والفقر الذي وقع فيه النزاع عدم المال والتقلل منه، وأما الفقر في قوله تعالى ‏(‏يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد‏)‏ فالمراد به احتياج المخلوق إلى الخالق، فالفقر للمخلوقين أمر ذاتي لا ينفكون عنه، والله هو الغني ليس بمحتاج لأحد‏.‏
    ويطلق الفقر أيضا على شيء اصطلح عليه الصوفية وتفاوتت فيه عباراتهم وحاصله كما قال أبو إسماعيل الأنصاري نفض اليد من الدنيا ضبطا وطلبا، مدحا وذما‏.‏
    وقالوا‏:‏ إن المراد بذلك أن لا يكون ذلك في قلبه سواء حصل في يده أم لا، وهذا يرجع إلى ما تضمنه الحديث الماضي في الباب قبله أن الغنى غنى النفس على ما تقدم تحقيقه، والمراد بالفقر هنا الفقر من المال‏.‏
    وقد تكلم ابن بطال هنا على مسألة التفضيل بين الغنى والفقر فقال‏:‏ طال نزاع الناس في ذلك، فمنهم من فضل الفقر واحتج بأحاديث الباب وغيرها من الصحيح والواهي، واحتج من فضل الغنى بما تقدم قبل هذا بباب في قوله ‏"‏ إن المكثرين هم الأقلون إلا من قال بالمال هكذا ‏"‏ وحديث سعد الماضي في الوصايا ‏"‏ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة ‏"‏ وحديث كعب ابن مالك حيث استشار في الخروج من ماله كله فقال ‏"‏ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ‏"‏ وحديث ‏"‏ ذهب أهل الدثور بالأجور ‏"‏ وفي آخره ‏"‏ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ‏"‏ وحديث عمرو بن العاص ‏"‏ نعم المال الصالح للرجل الصالح ‏"‏ أخرجه مسلم وغير ذلك قال‏:‏ وأحسن ما رأيت في هذا قول أحمد بن نصر الداودي‏:‏ الفقر والغنى محنتان من الله يختبر بهما عباده في الشكر والصبر كما قال تعالى ‏(‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا‏)‏ وقال تعالى ‏(‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة‏)‏ ، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كان يستعيذ من شر فتنة الفقر ومن شر فتنة الغنى ‏"‏ ثم ذكر كلاما طويلا حاصله أن الفقير والغنى متقابلان لما يعرض لكل منهما في فقره وغناه من العوارض فيمدح أو يذم والفضل كله في الكفاف لقوله تعالى ‏(‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ‏"‏ وسيأتي قريبا، وعليه يحمل قوله ‏"‏ أسالك غناي وغنى هؤلاء‏"‏‏.‏
    وأما الحديث الذي أخرجه الترمذي ‏"‏ اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا ‏"‏ الحديث فهو ضعيف وعلى تقدير ثبوته فالمراد به أن لا يجاوز به الكفاف‏.‏
    انتهى ملخصا‏.‏
    وممن جنح إلى تفضيل الكفاف القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ فقال‏:‏ جمع الله سبحانه وتعالى لنبيه الحالات الثلاث‏:‏ الفقر والغنى والكفاف، فكان الأول أول حالاته فقام بواجب ذلك من مجاهدة النفس، ثم فتحت عليه الفتوح فصار بذلك في حد الأغنياء فقام بواجب ذلك من بذله لمستحقه والمواساة به والإيثار مع اقتصاره منه على ما يسد ضرورة عياله، وهي صورة الكفاف التي مات عليها‏.‏
    ويؤيده ما تقدم من الترغيب في غنى النفس، وما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ وارض بما قسم لك تكن أغنى الناس ‏"‏ وأصح ما ورد في ذلك ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو رفعه ‏"‏ قد أفلح من هدى إلى الإسلام، ورزق الكفاف وقنع ‏"‏ وله شاهد عن فضالة بن عبيد نحوه عند الترمذي وابن حبان وصححاه قال النووي‏:‏ فيه فضيلة هذه الأوصاف، والكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقصان‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ هو ما يكف عن الحاجات ويدفع للضرورات ولا يلحق بأهل الترفهات، ومعنى الحديث أن من اتصف بتلك الصفات حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدنيا والآخرة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ‏"‏ أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة، ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا‏.‏
    وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال، وقد قال ‏"‏ خير الأمور أوساطها ‏"‏ انتهى‏.‏
    ويؤيده ما أخرجه ابن المبارك في ‏"‏ الزهد ‏"‏ بسند صحيح عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قليل العمل قليل الذنوب أفضل، أو رجل كثير العمل كثير الذنوب‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ لا أعدل بالسلامة شيئا ‏"‏ فمن حصل له ما يكفيه واقتنع به أمن من آفات الغنى وآفات الفقر، وقد ورد حديث لو صح لكان نصا في المسألة وهو ما أخرجه ابن ماجه من طريق نفيع - وهو ضعيف - عن أنس رفعه ‏"‏ ما من غني ولا فقير إلا ود يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتا ‏"‏ قلت‏:‏ وهذا كله صحيح، لكن لا يدفع أصل السؤال عن أيهما أفضل‏:‏ الغنى أو الفقر‏؟‏ لأن النزاع إنما ورد في حق من اتصف بأحد الوصفين أيهما في حقه أفضل‏؟‏ ولهذا قال الداودي في آخر كلامه المذكور أولا‏:‏ إن السؤال أيهما أفضل لا يستقيم، لاحتمال أن يكون لأحدهما من العمل الصالح ما ليس للآخر، فيكون أفضل، وإنما يقع السؤال عنهما إذا استويا بحيث يكون لكل منهما من العمل ما يقاوم به عمل الآخر، قال‏:‏ فعلم أيهما أفضل عند الله انتهى‏.‏
    وكذا قال ابن تيمية، لكن قال‏:‏ إذا استويا في التقوى فهما في الفضل سواء‏.‏
    وقد تقدم كلام ابن دقيق العيد في الكلام على حديث أهل الدثور قبيل كتاب الجمعة، ومحصل كلامه أن الحديث يدل على تفضيل الغنى على الفقر لما تضمنه من زيادة الثواب بالقرب المالية‏.‏
    إلا إن فسر الأفضل بمعنى الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس فالذي حصل للنفس من التطهير للأخلاق والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقر أشرف فيترجح الفقر، ولهذا المعنى ذهب جمهور الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر، لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها، وذلك مع الفقر أكثر منه في الغنى انتهى‏.‏
    وقال ابن الجوزي‏:‏ صورة الاختلاف في فقير ليس بحريص وغني ليس بممسك إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني البخيل، وأن الغني المنفق أفضل من الفقير الحريص، قال‏:‏ وكل ما يراد لغيره ولا يراد لعينه ينبغي أن يضاف إلى مقصوده فبه يظهر فضله‏.‏
    فالمال ليس محذورا لعينه بل لكونه قد يعوق عن الله وكذا العكس، فكم من غني لم يشغله غناه عن الله، وكم من فقير شغله فقره عن الله‏.‏
    قال بعض المتأخرين فيما وجد بخط أبي عبد الله بن مرزوق‏:‏ كلام الناس في أصل المسألة مختلف، فمنهم من فضل الفقر ومنهم من فضل الغنى ومنهم من فضل الكفاف وكل ذلك خارج عن محل الخلاف وهو أي الحالين أفضل عند الله للعبد حتى يتكسب ذلك ويتخلق به‏؟‏ هل التقلل من المال أفضل ليتفرغ قلبه من الشواغل وينال لذة المناجاة ولا ينهمك في الاكتساب ليستريح من طول الحساب، أو التشاغل باكتساب المال أفضل ليستكثر به من التقرب بالبر والصلة والصدقة لما في ذلك من النفع المتعدي‏؟‏ قال‏:‏ وإذا كان الأمر كذلك فالأفضل ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور أصحابه من التقلل في الدنيا والبعد عن زهراتها، ويبقى النظر فيمن حصل له شيء من الدنيا بغير تكسب منه كالميراث وسهم الغنيمة هل الأفضل أن يبادر إلى إخراجه في وجوه البر حتى لا يبقى منه شيء، أو يتشاغل بتثميره ليستكثر من نفعه المتعدي‏؟‏ قال‏:‏ وهو على القسمين الأولين‏.‏
    قلت‏:‏ ومقتضى ذلك أن يبذل إلى أن يبقى في حال الكفاف ولا يضره ما يتجدد من ذلك إذا سلك هذه الطريقة‏.‏
    لأدلة الواردة في فضل كل من الطائفتين كثيرة‏:‏ فمن الشق الأول بعض أحاديث الباب وغيرها، ومن الشق الثاني حديث سعد بن أبي وقاص رفعه ‏"‏ إن الله يحب الغني التقي الخفي ‏"‏ أخرجه مسلم، وهو دال لما قلته سواء حملنا الغني فيه على المال أو على غنى النفس، فإنه على الأول ظاهر وعلى الثاني يتناول القسمين فيحصل المطلوب‏.‏
    والمراد بالتقي وهو بالمثناة من يترك المعاصي امتثالا للمأمور به واجتنابا للمنهي عنه، والخفي ذكر للتتميم إشارة إلى ترك الرياء والله أعلم‏.‏
    ومن المواضع التي وقع فيها التردد من لا شيء له فالأولى في حقه أن يتكسب للصون عن ذل السؤال، أو يترك وينتظر ما يفتح عليه بغير مسألة، فصح عن أحمد مع ما اشتهر من زهده وورعه أنه قال لمن سأله عن ذلك‏:‏ الزم السوق‏.‏
    وقال لآخر‏:‏ استغن عن الناس، فلم أر مثل الغنى عنهم‏.‏
    وقال‏:‏ ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله وأن يعودوا أنفسهم التكسب، ومن قال بترك التكسب فهو أحمق يريد تعطيل الدنيا‏.‏
    نقله عنه أبو بكر المروزي‏.‏
    وقال‏:‏ أجرة التعليم والتعلم أحب إلي من الجلوس لانتظار ما في أيدي الناس‏.‏
    وقال أيضا‏:‏ من جلس ولم يحترف دعته نفسه إلى ما في أيدي الناس‏.‏
    وأسند عن عمر ‏"‏ كسب فيه بعض الشيء خير من الحاجة إلى الناس ‏"‏ وأسند عن سعيد بن المسيب أنه قال عند موته وترك مالا ‏"‏ اللهم إنك تعلم أني لم أجمعه إلا لأصون به ديني ‏"‏ وعن سفيان الثوري وأبي سليمان الداراني ونحوهما من السلف نحوه، بل نقله البربهاري عن الصحابة والتابعين وأنه لا يحفظ عن أحد منهم أنه ترك تعاطي الرزق مقتصرا على ما يفتح عليه‏.‏
    واحتج من فضل الغنى بآية الأمر في قوله تعال ‏(‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل‏)‏ الآية قال‏:‏ وذلك لا يتم إلا بالمال‏.‏
    وأجاب من فضل الفقر بأنه لا مانع أن يكون الغنى في جانب أفضل من الفقر في حالة مخصوصة، ولا يستلزم أن يكون أفضل مطلقا
    (ج11/ ص 333)
    ال ابن بطال‏:‏ ليس في حديث خباب تفضيل الفقير على الغني، وإنما فيه أن هجرتهم لم تكن لدنيا يصيبونها ولا نعمة يتعجلونها وإنما كانت لله خالصة ليثيبهم عليها في الآخرة فمن مات منهم قبل فتح البلاد توفر له ثوابه، ومن بقي حتى نال من طيبات الدنيا خشي أن يكون عجل لهم أجر طاعتهم، وكانوا على نعيم الآخرة أحرص‏.‏
    (ج11/ ص 333)
    قال ابن بطال‏:‏ ليس قوله ‏"‏ اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ‏"‏ يوجب فضل الفقير على الغني، وإنما معناه أن الفقراء في الدنيا أكثر من الأغنياء فأخبر عن ذلك كما تقول أكثر أهل الدنيا الفقراء إخبارا عن الحال، وليس الفقر أدخلهم الجنة وإنما دخلوا بصلاحهم مع الفقر، فإن الفقير إذ لم يكن صالحا لا يفضل‏.‏
    ظاهر الحديث التحريض على ترك التوسع من الدنيا
    ال ابن بطال‏:‏ تركه عليه الصلاة والسلام الأكل على الخوان وأكل المرقق إنما هو لدفع طيبات الدنيا اختيارا لطيبات الحياة الدائمة، والمال إنما يرغب فيه ليستعان به على الآخرة فلم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المال من هذا الوجه‏.‏
    وحاصله أن الخبر لا يدل على تفضيل الفقر على الغنى بل يدل على فضل القناعة والكفاف وعدم التبسط في ملاذ الدنيا، ويؤيده حديث ابن عمر ‏"‏ لا يصيب عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته، وإن كان عند الله كريما ‏"‏ أخرجه ابن أبي الدنيا قال المنذري وسنده جيد والله أعلم‏.‏
    ....
    (ج11/ ص 334)
    ال القرطبي‏:‏ سبب رفع النماء من ذلك عند العصر والكيل - والله أعلم - الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نعم الله ومواهب كراماته كثرة بركاته، والغفلة عن الشكر عليها والثقة بالذي وهبها والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة‏.‏
    ويستفاد منه أن من رزق شيئا أو أكرم بكرامة أو لطف به في أمر ما فالمتعين عليه موالاة الشكر ورؤية المنة لله تعالى، ولا يحدث في تلك الحالة تغييرا والله أعلم‏.
    ( ج11/ ص 346)
    اعتنى بجمع أسماء أهل الصفة أبو سعيد بن الأعرابي وتبعه أبو عبد الرحمن السلمي فزاد أسماء، وجمع بينهما أبو نعيم في أوائل ‏"‏ الحلية ‏"‏ فسرد جميع ذلك‏.‏
    ووقع في حديث أبي هريرة الماضي في علامات النبوة أنهم كانوا سبعين، وليس المراد حصرهم في هذا العدد وإنما هي عدة من كان موجودا حين القصة المذكورة، وإلا فمجموعهم أضعاف ذلك كما بينا من اختلاف أحوالهم‏.
    وذكرت هناك أن أبا عبد الرحمن السلمي وأبا سعيد بن الأعرابي والحاكم اعتنوا بجمع أسمائهم فذكر كل منهم من لم يذكر الآخر، وجمع الجميع أبو نعيم في ‏"‏ الحلية ‏"‏ وعدتهم تقرب من المائة لكن الكثير من ذلك لا يثبت، وقد بين كثيرا من ذلك أبو نعيم، وقد قال أبو نعيم‏:‏ كان عدد أهل الصفة يختلف بحسب اختلاف الحال فربما اجتمعوا فكثروا وربما تفرقوا إما لغزو أو سفر أو استفتاء فقلوا‏.‏
    ووقع في عوارف السهروردي أنهم كانوا أربعمائة‏.
    (ج11/ ص 351)
    قال ابن الجوزي‏:‏ إن قيل كيف ساغ لسعد أن يمدح نفسه ومن شأن المؤمن ترك ذلك لثبوت النهي عنه، فالجواب أن ذلك ساغ له لما عيره الجهال بأنه لا يحسن الصلاة، فاضطر إلى ذكر فضله، والمدحة إذا خلت عن البغي والاستطالة وكان مقصود قائلها إظهار الحق وشكر نعمة الله لم يكره، كما لو قال القائل‏:‏ إني لحافظ لكتاب الله عالم بتفسيره وبالفقه في الدين، قاصدا إظهار الشكر أو تعريف ما عنده ليستفاد ولو لم يقل ذلك لم يعلم حاله، ولهذا قال يوسف عليه السلام ‏(‏إني حفيظ عليم‏)‏ وقال علي‏:‏ سلوني عن كتاب الله‏.‏
    وقال ابن مسعود‏:‏ لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني لأتيته، وساق في ذلك أخبارا وآثارا عن الصحابة والتابعين تؤيد ذلك‏
    (ج11/ ص 354)
    من هذا ما أخرجه الترمذي من حديث الزبير قال لما نزلت ‏(‏ثم لتسألن يومئذ عن النعيم‏)‏ قلت‏:‏ وأي نعيم نسأل عنه‏؟‏ وإنما هو الأسودان التمر والماء، قال‏:‏ إنه سيكون‏.‏
    قال الصغاني‏:‏ الأسودان يطلق على التمر والماء، والسواد للتمر دون الماء فنعتا بنعت واحد تغليبا، وإذا اقترن الشيئان سميا باسم أشهرهما‏.‏
    وعن أبي زيد‏:‏ الماء يسمى الأسود واستشهد لذلك بشعر‏.‏
    قلت‏:‏ وفيه نظر، وقد تقع الخفة أو الشرف موضع الشهرة كالعمرين لأبي بكر وعمر والقمرين للشمس والقمر‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ معنى الحديث أنه طلب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعا، والله أعلم‏.‏.


    (ج11/ ص 358)
    قال ابن الجوزي‏:‏ يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة‏:‏ الأول أن التوفيق للعمل من رحمة الله، ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة‏.‏
    الثاني أن منافع العبد لسيده فعمله مستحق لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله‏.‏
    الثالث جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال‏.‏
    الرابع أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير والثواب لا ينفد فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل لا بمقابلة الأعمال‏.‏
    وقال الكرماني الباء في قوله ‏(‏بما كنتم تعملون‏)‏ ليس للسببية بل للإلصاق أو المصاحبة، أي أورثتموها ملابسة أو مصاحبة، أو للمقابلة نحو أعطيت الشاة بالدرهم، وبهذا الأخير جزم الشيخ جمال الدين بن هشام في ‏"‏ المغني ‏"‏ فسبق إليه فقال‏:‏ ترد الباء للمقابلة وهي الداخلة على الأعواض كاشتريته بألف، ومنه ‏(‏ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏)‏ وإنما لم تقدر هنا للسببية كما قالت المعتزلة وكما قال الجميع في ‏"‏ لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ‏"‏ لأن المعطي بعوض قد يعطى مجانا بخلاف المسبب فلا يوجد بدون السبب، قال‏:‏ وعلى ذلك ينتفي التعارض بين الآية والحديث‏.‏
    قلت‏:‏ سبقه إلى ذلك ابن القيم فقال في كتاب ‏"‏ مفتاح دار السعادة ‏"‏‏:‏ الباء المقتضية للدخول غير الباء الماضية، فالأولى السببية الدالة على أن الأعمال سبب الدخول المقتضية له كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، والثانية بالمعاوضة نحو اشتريت منه بكذا فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة لأن العمل بمجرده ولو تناهي لا يوجب بمجرده دخول الجنة ولا أن يكون عوضا لها، لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فتبقى سائر نعمه مقتضية لشكرها وهو لم يوفها حق شكرها، فلو عذبه في هذه الحالة لعذبة وهو غير ظالم، وإذا رحمه في هذه الحالة كانت رحمته خيرا من عمله كما في حديث أبي بن كعب الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه في ذكر القدر ففيه ‏"‏ لو أن الله عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم ‏"‏ الحديث، قال وهذا فصل الخطاب مع الجبرية الذين أنكروا أن تكون الأعمال سببا في دخول الجنة من كل وجه، والقدرية الذين زعموا أن الجنة عوض العمل وأنها ثمنه وأن دخولها بمحض الأعمال، والحديث يبطل دعوى الطائفتين والله أعلم‏.‏
    قلت‏:‏ وجوز الكرماني أيضا أن يكون المراد أن الدخول ليس بالعمل، والإدخال المستفاد من الإرث بالعمل، وهذا إن مشى في الجواب عن قوله تعالى ‏(‏أورثتموها بما كنتم تعملون‏)‏ لم يمش في قوله تعالى ‏(‏ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏)‏ ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جواب آخر وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولا‏.‏
    ثم رأيت النووي جزم بأن ظاهر الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث أن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل وهو من رحمة الله تعالى‏.‏
    ورد الكرماني الأخير بأنه خلاف صريح الحديث‏.‏
    وقال المازري‏:‏ ذهب أهل السنة إلى أن إثابة الله تعالى من أطاعه بفضل منه، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه، ولا يثبت واحد منهما إلا بالسمع، وله سبحانه وتعالى أن يعذب الطائع وينعم العاصي، ولكنه أخبر أنه لا يفعل ذلك وخيره صدق لا خلف فيه‏.‏
    وهذا الحديث يقوي مقالتهم ويرد على المعتزلة حيث أثبتوا بعقولهم أعواض الأعمال، ولهم في ذلك خبط كثير وتفصيل طويل‏.‏
    الرافعي في أماليه فقال‏:‏ لما كان أجر النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعة أعظم وعمله في العبادة أقوم قيل له ‏"‏ ولا أنت ‏"‏ أي لا ينجيك عملك مع عظم قدره، فقال ‏"‏ لا إلا برحمة الله ‏"‏ وقد ورد جواب هذا السؤال بعينه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم من حديث جابر بلفظ ‏"‏ لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار، ولا أنا إلا برحمة من الله تعالى‏"‏‏.‏
    (ج11/ ص 359)
    قال الرافعي‏:‏ في الحديث أن العامل لا ينبغي أن يتكل على عمله في طلب النجاة ونيل الدرجات لأنه إنما عمل بتوفيق الله، وإنما ترك المعصية بعصمة الله، فكل ذلك بفضله ورحمته‏.‏
    وله شاهد في الزهد لابن المبارك من حديث عبد الله بن عمرو موقوف ‏"‏ إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ‏"‏ والمنبت بنون ثم موحدة ثم مثناة ثقيلة أي الذي عطب مركوبه من شدة السير، مأخوذ من البت وهو القطع أي صار منقطعا لم يصل إلى مقصوده وفقد مركوبه‏.‏
    الذي كان يوصله لو رفق به‏.‏
    (ج11/ ص 360)
    ال الإسماعيلي بعد أن أخرجه من طريق محمد بن الحسين المخزومي عن سليمان ابن بلال عن عبد العزيز بن المطلب عن موسى بن عقبة‏:‏ لم أر في كتاب البخاري ‏"‏ عن عبد العزيز بن المطلب ‏"‏ 0 بين سليمان وموسى‏.‏
    قلت‏:‏ وهو المحفوظ، والذي زاده غير معتمد لأنه متفق على ضعفه وهو المعروف بابن زبالة بفتح الزاي وتخفيف الموحدة المدني، وهذا من الأمثلة لما تعقبته على ابن الصلاح في جزمه بأن الزيادات التي تقع في المستخرجات تحكم بصحتها لأنها خارجة مخرج الصحيح، ووجه التعقب أن الذين استخرجوا لم يصرحوا بالتزام ذلك، سلمنا أنهم التزموا ذلك لكن لم يفوا به، وهذا من أمثلة ذلك فإن ابن زبالة ليس من شرط الصحيح‏.‏
    (ج11/ ص 361)
    قال المحب الطبري‏:‏ الكلف بالشيء التولع به فاستعير للعمل للالتزام والملابسة، وألفه ألف وصل، والحكمة في ذلك أن المديم للعمل يلازم الخدمة فيكثر التردد إلى باب الطاعة كل وقت ليجازي بالبر لكثرة تردده، فليس هو كمن لازم الخدمة مثلا ثم انقطع‏.‏
    وأيضا فالعامل إذا ترك العمل صار كالمعرض بعد الوصل فيتعرض للذم والجفاء، ومن ثم ورد الوعيد في حق من حفظ القرآن ثم نسيه، والمراد بالعمل هنا الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات‏.‏
    (ج11/ ص 364)
    أن من وقع منه تقصير فليحسن ظنه بالله ويرجو أن يمحو عنه ذنبه، وكذا من وقع منه طاعة يرجو قبولها، وأما من انهمك على المعصية راجيا عدم المؤاخذة بغير ندم ولا إقلاع فهذا في غرور، وما أحسن قول أبي عثمان الجيزي‏:‏ من علامة السعادة أن تطيع، وتخاف أن لا تقبل‏.‏
    ومن علامة الشقاء أن تعصى، وترجو أن تنجو‏.‏
    (ج11/ ص 365)
    والمقصود من الحديث أن المكلف ينبغي له أن يكون بين الخوف والرجاء حتى لا يكون مفرطا في الرجاء بحيث يصير من المرجئة القائلين لا يضر مع الإيمان شيء، ولا في الخوف بحيث لا يكون من الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد صاحب الكبيرة إذا مات عن غير توبة في النار، بل يكون وسطا بينهما كما قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏يرجون رحمته ويخافون عذابه‏)‏ ومن تتبع دين الإسلام وجد قواعده أصولا وفروعا كلها في جانب الوسط، والله أعلم‏.‏
    ( ج11/ ص 366)
    الصبر أنه حبس النفس عن المكروه وعقد اللسان عن الشكوى والمكابدة في تحمله وانتظار الفرج، وقد أثنى الله على الصابرين في عدة آيات، حديث ‏"‏ الصبر نصف الإيمان ‏"‏ معلقا‏.
    ال الراغب‏:‏ الصبر الإمساك في ضيق، صبرت الشيء حبسته، فالصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع‏.‏
    وتختلف معانيه بتعلقاته‏:‏ فإن كان عن مصيبة سمي صبرا فقط، وإن كان في لقاء عدو سمي شجاعة، وإن كان عن كلام سمي كتمانا، وإن كان عن تعاطي ما نهى عنه سمي عفة‏.‏
    قلت‏:‏ وهو المقصود هنا‏.‏
    وقد وصله أحمد في ‏"‏ كتاب الزهد ‏"‏ بسند صحيح عن مجاهد قال قال عمر ‏"‏ وجدنا خير عيشنا الصبر ‏"‏ وأخرجه أبو نعيم في ‏"‏ الحلية ‏"‏ من طريق أحمد كذلك
    والصبر إن عدى بعن كان في المعاصي، وإن عدى بعلى كان في الطاعات،
    ال بعض الأئمة‏:‏ الصبر يستلزم الشكر لا يتم إلا به، وبالعكس فمتى ذهب أحدهما ذهب الآخر، فمن كان في نعمة ففرضه الشكر والصبر، أما الشكر فواضح وأما الصبر فعن المعصية، ومن كان في بلية ففرضه الصبر والشكر، أما الصبر فواضح وأما الشكر فالقيام بحق الله عليه في تلك البلية، فإن لله على العبد عبودية في البلاء كما له عليه عبودية في النعماء‏.‏
    ثم الصبر على ثلاثة أقسام‏:‏ صبر عن المعصية فلا يرتكبها، وصبر على الطاعة حتى يؤديها، وصبر على البلية فلا يشكو ربه فيها‏.‏
    والمرء لا بد له من واحدة من هذه الثلاث، فالصبر لازم له أبدا لا خروج له عنه، والصبر سبب في حصول كل كمال، وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الأول ‏"‏ إن الصبر خير ما أعطيه العبد ‏"‏ وقال بعضهم‏:‏ الصبر تارة يكون لله، وتارة يكون بالله‏.‏
    (ج11/ ص 371)
    قد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي فقال‏:‏ هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي ‏"‏ وقال ‏"‏ لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ‏"‏ فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق قال‏:‏ وكان الصحابة يتجرون ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم‏.‏
    انتهى‏.‏
    (ج11/ ص 370)
    والربيع المذكور من كبار التابعين، صحب ابن مسعود، وكان يقول له‏:‏ لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك‏.‏
    أورد ذلك أحمد في ‏"‏ الزهد ‏"‏ بسند جيد، وحديثه مخرج في الصحيحين وغيرهما،
    (ج11/ 374)
    قال ابن بطال جاء عن الحسن أنهما يكتبان كل شيء، وعن عكرمة يكتبان الخير والشر فقط، ويقوى الأول تفسير أبي صالح في قوله تعالى ‏(‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏)‏ قال‏:‏ تكتب الملائكة كل ما يتلفظ به الإنسان ثم يثبت الله من ذلك ما له وما عليه ويمحو ما عدا ذلك‏.‏
    قلت‏:‏ هذا لو ثبت كان نصا في ذلك، ولكنه من رواية الكلبي وهو ضعيف جدا، والرقيب هو الحافظ والعتيد هو الحاضر وورد في فضل الصمت عدة أحاديث منها حديث سفيان بن عبد الله الثقفي ‏"‏ قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي‏؟‏ قال‏:‏ هذا، وأخذ بلسانه ‏"‏ أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح، وتقدم في الإيمان حديث ‏"‏ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ‏"‏ ولأحمد وصححه ابن حبان من حديث البراء ‏"‏ وكف لسانك إلا من خير ‏"‏ وعن عقبة بن عامر ‏"‏ قلت يا رسول الله ما النجاة‏؟‏ قال‏:‏ أمسك عليك لسانك ‏"‏ الحديث أخرجه الترمذي وحسنه، وفي حديث معاذ مرفوعا ‏"‏ ألا أخبرك بملاك الأمر كله، كف هذا، وأشار إلى لسانه‏.‏
    قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به‏؟‏ قال‏:‏ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ‏"‏ أخرجه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه كلهم من طريق أبي وائل عن معاذ مطولا، وأخرجه أحمد أيضا من وجه آخر عن معاذ، وزاد الطبراني في رواية مختصرة ‏"‏ ثم إنك لن تزال سالما ما سكت، فإذا تكلمت كتب عليك أو لك ‏"‏ وفي حديث أبي ذر مرفوعا ‏"‏ عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان ‏"‏ أخرجه أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم وصححاه، وعن ابن عمر رفعه ‏"‏ من صمت نجا ‏"‏ أخرجه الترمذي ورواته ثقات، وعن أبي هريرة رفعه ‏"‏ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ‏"‏ أخرجه الترمذي وحسنه‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ دل الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه، فمن وقى شرهما وقى أعظم الشر‏.‏
    (ج11/ ص 377)
    قال ابن عبد البر‏:‏ الكلمة التي يهوى صاحبها بسببها في النار هي التي يقولها عند السلطان الجائر، وزاد ابن بطال‏:‏ بالبغي أو بالسعي على المسلم فتكون سببا لهلاكه وإن لم يرد القائل ذلك لكنها ربما أدت إلى ذلك فيكتب على القائل إثمها، والكلمة التي ترفع بها الدرجات ويكتب بها الرضوان هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة أو يفرج بها عنه كربة أو ينصر بها مظلوما‏.‏
    وقال غيره في الأولى‏:‏ هي الكلمة عند ذي السلطان يرضيه بها فيما يسخط الله، قال ابن التين‏:‏ هذا هو الغالب، وربما كانت عند غير ذي السلطان ممن يأتي منه ذلك‏.‏
    ونقل عن ابن وهب أن المراد بها التلفظ بالسوء والفحش ما لم يرد بذلك الجحد لأمر الله في الدين‏.‏
    وقال القاضي عياض‏:‏ يحتمل أن تكون تلك الكلمة من الخنى والرفث، وأن تكون في التعريض بالمسلم بكبيرة أو بمجون، أو استخفاف بحق النبوة والشريعة وإن لم يعتقد ذلك‏.‏
    وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام‏:‏ هي الكلمة التي لا يعرف القائل حسنها من قبحها، قال‏:‏ فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا الذي يجري على قاعدة مقدمة الواجب‏.‏
    وقال النووي‏:‏ في هذا الحديث حث على حفظ اللسان، فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق، فإن ظهرت فيه مصلحة تكلم وإلا أمسك‏.

    (ج11/ ص 384)
    ‏وإني أنا النذير العريان‏)‏ قال ابن بطال النذير العريان رجل من خثعم حمل عليه رجل يوم ذي الخلصة فقطع يده ويد امرأته فانصرف إلى قومه فحذرهم فضرب به المثل في تحقيق الخبر‏.‏
    قلت‏:‏ وسبق إلى ذلك يعقوب ابن السكيت وغيره، وسمي الذي حمل عليه عوف بن عامر اليشكري، وأن المرأة كانت من بني كنانة‏.‏
    وتعقب باستبعاد تنزيل هذه القصة على لفظ الحديث، لأنه ليس فيها أنه كان عريانا‏.‏
    وزعم ابن الكلبي أن النذير العريان امرأة من بني عامر بن كعب لما قتل المنذر بن ماء السماء أولاد أبي داود وكان جار المنذر خشيت على قومها فركبت جملا ولحقت بهم وقالت‏:‏ أنا النذير العريان‏.‏
    ويقال أول من قاله أبرهة الحبشي لما أصابته الرمية بتهامة ورجع إلى اليمن، وقد سقط لحمه وذكر أبو بشر الآمدي أن زنبرا بزاي ونون ساكنة ثم موحدة ابن عمرو الخثعمي كان ناكحا في آل زبيد، فأرادوا أن يغروا قومه وخشوا أن ينذر بهم فحرسه أربعة نفر، فصادف منهم غرة فقذف ثيابه وعدا وكان من أشد الناس عدوا فأنذر قومه‏.‏
    وقال غيره‏:‏ الأصل فيه أن رجلا لقي جيشا فسلبوه وأسروه فانفلت إلى قومه فقال‏:‏ إني رأيت الجيش فسلبوني، فرأوه عريانا فتحققوا صدقه، لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا بصدقه لهذه القرائن، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولما جاء به مثلا بذلك لما أبداه من الخوارق والمعجزات الدالة على القطع بصدقه تقريبا لأفهام المخاطيين بما يألفونه ويعرفونه‏.‏
    (ج11/ ص 385)
    (‏الفراش‏)‏ جزم المازري بأنها الجنادب، وتعقبه عياض فقال الجندب هو الصرار، قلت والحق أن الفراش اسم لنوع من الطير مستقل له أجنحة أكبر من جثته، وأنواعه مختلفة في الكبر والصغر وكذا أجنحته وعطف الدواب على الفراش يشعر بأنها غير الجنادب والجراد، وأغرب ابن قتيبة فقال‏:‏ الفراش ما تهافت في النار من البعوض، ومقتضاه أن بعض البعوض هو الذي يقع في النار ويسمى حينئذ الفراش‏.‏
    وقال الخليل الفراش كالبعوض وإنما شبهه به لكونه يلقى نفسه في النار لا أنه يشارك البعوض في القرص‏.‏
    (ج11/ ص 390)
    في كتاب الأدب بلفظ ‏"‏ أصدق كلمة ‏"‏
    وذكرت هناك أن في رواية شريك عند مسلم بلفظ ‏"‏ أشعر كلمة تكلمت بها العرب ‏"‏ وبحث السهيلي في ذلك، وذكرت أيضا ما أورده ابن إسحاق في السيرة فيما جرى لعثمان بن مظعون مع لبيد بن ربيعة ناظم هذا البيت حيث قال له لما أنشد المصراع الأول‏:‏ صدقت، ولما أنشد المصراع الثاني‏:‏ كذبت، ثم قال له‏:‏ نعيم الجنة لا يزول‏.‏
    وقال ابن بطال هنا‏:‏ قوله ‏"‏ ما خلا الله باطل ‏"‏ لفظ عام أريد به الخصوص، والمراد أن كل ما قرب من الله فليس بباطل‏.‏
    وأما أمور الدنيا التي لا تئول إلى طاعة الله فهي الباطل انتهى‏.‏
    ولعل الأول أولى‏.‏
    (ج11/ ص392)
    قال ابن بطال‏:‏ هذا الحديث جامع لمعاني الخير لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهدا فيها إلا وجد من هو فوقه، فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله فيكون أبدا في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخس حالا منه‏.‏
    فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضل عليه بذلك من غير أمر أوجبه، فيلزم نفسه الشكر، فيعظم اغتباطه بذلك في معاده‏.‏
    وقال غيره‏:‏ في هذا الحديث دواء الداء لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن أن يؤثر ذلك فيه حسدا، ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ليكون ذلك داعيا إلى الشكر‏.‏
    وقد وقع في نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه قال ‏"‏ خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا‏:‏ من نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به‏"‏‏.‏
    وأما من نظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته فإنه لا يكتب شاكرا ولا صابرا‏.‏
    (ج11/ ص 398-400)
    وقال السبكي الكبير‏:‏ الهاجس لا يؤاخذ به إجماعا، والخاطر وهو جريان ذلك الهاجس وحديث النفس لا يؤاخذ بهما للحديث المشار إليه، والهم وهو قصد فعل المعصية مع التردد لا يؤاخذ به الحديث الباب، والعزم - وهو قوة ذلك القصد أو الجزم به ورفع التردد - قال المحققون يؤاخذ به‏.‏
    وذهب كثير من العلماء إلى المؤاخذة بالعزم المصمم، وسأل ابن المبارك سفيان الثوري‏:‏ أيؤاخذ العبد بما يهم به‏؟‏ قال‏:‏ إذا جزم بذلك‏.‏
    واستدل كثير منهم بقوله تعالى ‏{‏ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم‏}‏ وحملوا حديث أبي هريرة الصحيح المرفوع ‏"‏ إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم ‏"‏ على الخطرات
    أن السيئة لا تضاعف كما تضاعف الحسنة، وهو على وفق قوله تعالى ‏{‏فلا يجزي إلا مثلها‏}‏ قال ابن عبد السلام في أماليه‏:‏ فائدة التأكيد دفع توهم من يظن الله إذا عمل السيئة كتبت عليه سيئة العمل وأضيفت إليها سيئة الهم، وليس كذلك إنما يكتب عليه سيئة واحدة‏.‏
    وقد استثنى بعض العلماء وقوع المعصية في الحرم المكي‏.‏
    قال إسحاق بن منصور‏:‏ قلت لأحمد هل ورد في شيء من الحديث أن السيئة تكتب بأكثر من واحدة‏؟‏ قال‏:‏ لا، ما سمعت إلا بمكة لتعظيم البلد‏.‏
    والجمهور على التعميم في الأزمنة والأمكنة لكن قد يتفاوت بالعظم، ولا يرد على ذلك قوله تعالى ‏{‏من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين‏}‏ لأن ذلك ورد تعظيما لحق النبي صلى الله عليه وسلم لأن وقوع ذلك من نسائه يقتضي أمرا زائدا على الفاحشة وهو أذى النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد مسلم بعد قوله ‏"‏ أو يمحوها ‏"‏‏:‏ ‏"‏ ولا يهلك على الله إلا هالك ‏"‏ أي من أصر على التجري على السيئة عزما وقولا وفعلا وأعرض عن الحسنات هما وقولا وفعلا، قال ابن بطال‏:‏ في هذا الحديث بيان فضل الله العظيم على هذه الأمة لأنه لولا ذلك كاد لا يدخل أحد الجنة، لأن عمل العباد للسيئات أكثر من عملهم الحسنات؛ ويؤيد ما دل عليه حديث الباب من الإثابة على الهم بالحسنة وعدم المؤاخذة على الهم بالسيئة قوله تعالى ‏{‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏}‏ إذ ذكر في السوء الافتعال الذي يدل على المعالجة والتكلف فيه بخلاف الحسنة، وفيه ما يترتب للعبد على هجران لذته وترك شهوته من أجل ربه رغبة في ثوابه ورهبة من عقابه، واستدل به على أن الحفظة لا تكتب المباح للتقييد بالحسنات والسيئات
    وقد روى الطبري عن حفص بن حميد قال‏:‏ قلت لابن المبارك رأيت رجلا قتل رجلا ظلما فقلت في نفسي أنا أفضل من هذا، فقال‏:‏ أمنك على نفسك أشد من ذنبه‏.‏
    قال الطبري‏:‏ لأنه لا يدري ما يؤول إليه الأمر لعل القاتل يتوب فتقبل توبته، ولعل الذي أنكر عليه يختم له بخاتمة السوء‏.‏
    (ج11/ ص 402)
    وقال ابن المبارك في ‏"‏ كتاب الرقائق ‏"‏ عن شعبة عن خبيب ابن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم قال قال عمر ‏"‏ خذوا حظكم من العزلة ‏"‏ وما أحسن قول الجنيد نفع الله ببركته ‏"‏ مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطة ‏"‏ وقال الخطابي‏:‏ لو لم يكن في العزلة إلا السلامة من الغيبة ومن رؤية المنكر الذي لا يقدر على إزالته لكان ذلك خيرا كثيرا‏.‏
    وفي معنى الترجمة ما أخرجه الحاكم من حديث أبي ذر مرفوعا بلفظ ‏"‏ الوحدة خير من جليس السوء ‏"‏ وسنده حسن، لكن المحفوظ أنه موقوف عن أبي ذر أو عن أبي الدرداء‏.


    (ج11/ ص 402)
    وذكر الخطابي في ‏"‏ كتاب العزلة ‏"‏ أن العزلة والاختلاط يختلف باختلاف متعلقاتهما فتحمل الأدلة الواردة في الحض على الاجتماع على ما يتعلق بطاعة الأئمة وأمور الدين وعكسها في عكسه، وأما الاجتماع والافتراق بالأبدان فمن عرف الاكتفاء بنفسه في حق معاشه ومحافظة دينه فالأولى له الانكفاف عن مخالطة الناس بشرط أن يحافظ على الجماعة والسلام والرد وحقوق المسلمين من العيادة وشهود الجنازة ونحو ذلك، والمطلوب إنما هو ترك فضول الصحبة لما في ذلك من شغل البال وتضييع الوقت عن المهمات، ويجعل الاجتماع بمنزلة الاحتياج إلى الغداء والعشاء فيقتصر منه على ما لا بد له منه فهو أروح للبدن والقلب والله أعلم‏.‏
    وقال القشيري في ‏"‏ الرسالة ‏"‏‏:‏ طريق من آثر العزلة أن يعتقد سلامة الناس من شره لا العكس‏.‏
    فإن الأول ينتجه استصغاره نفسه وهي صفة المتواضع، والثاني شهوده مزية له على غيره وهذه صفة المتكبر‏.‏
    (ج11/ ص 405)
    قال ابن بطال‏:‏ معنى ‏"‏ أسند الأمر إلى غير أهله ‏"‏ أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله تعالى إياها‏.‏
    (ج11/ ص 409)
    قال ابن عبد السلام‏:‏ يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يظهره ليقتدى به أو لينتفع به ككتابة العلم، ومنه حديث سهل الماضي في الجمعة ‏"‏ لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ‏"‏ قال الطبري كان ابن عمر وابن مسعود وجماعة من السلف يتهجدون في مساجدهم ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم ليقتدى بهم، قال‏:‏ فمن كان إماما يستن بعمله عالما بما لله عليه قاهرا لشيطانه استوى ما ظهر من عمله وما خفي لصحة قصده، ومن كان بخلاف ذلك فالإخفاء في حقه أفضل، وعلى ذلك جرى عمل السلف‏.‏
    فمن الأول حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال ‏"‏ سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ ويرفع صوته بالذكر فقال إنه أواب قال فإذا هو المقداد بن الأسود ‏"‏ أخرجه الطبري‏.‏
    ومن الثاني حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال ‏"‏ قام رجل يصلي فجهر بالقراءة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تسمعني وأسمع ربك ‏"‏ أخرجه أحمد وابن أبي خيثمة وسنده حسن‏.‏
    (ج11/ ص 410)
    قال القشيري‏:‏ أصل مجاهدة النفس فطمها عن المألوفات وحملها على غير هواها‏.‏
    وللنفس صفتان‏:‏ انهماك في الشهوات، وامتناع عن الطاعات، فالمجاهدة تقع بحسب ذلك‏.‏
    قال بعض الأئمة‏:‏ جهاد النفس داخل في جهاد العدو، فإن الأعداء ثلاثة‏:‏ رأسهم الشيطان، ثم النفس لأنها تدعو إلى اللذات المفضية بصاحبها إلى الوقوع في الحرام الذي يسخط الرب، والشيطان هو المعين لها على ذلك ويزينه لها‏.‏
    فمن خالف هوى نفسه قمع شيطانه، فمجاهدته نفسه حملها على اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، وإذا قوى العبد على ذلك سهل عليه جهاد أعداء الدين، فالأول الجهاد الباطن والثاني الجهاد الظاهر‏.‏
    وجهاد النفس أربع مراتب‏:‏ حملها على تعلم أمور الدين، ثم حملها على العمل بذلك، ثم حملها على تعليم من لا يعلم، ثم الدعاء إلى توحيد الله وقتال من خالف دينه وجحد نعمه‏.‏
    وأقوى المعين على جهاد النفس جهاد الشيطان بدفع ما يلقى إليه من الشبهة والشك، ثم تحسين ما نهى عنه من المحرمات، ثم ما يفضي الإكثار منه إلى الوقوع في الشبهات، وتمام ذلك من المجاهدة أن يكون متيقظا لنفسه في جميع أحواله، فإنه متى غفل عن ذلك استهواه شيطانه ونفسه إلى الوقوع في المنهيات وبالله التوفيق‏.‏
    (ج11/ ص 411)
    وقال ابن رجب في شرحه لأوائل البخاري‏:‏ قال العلماء يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهادا في العمل وخشية لله عز وجل، فأما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمن أن يقصر اتكالا على ظاهر هذا الخبر، وقد عارضه ما تواتر من نصوص الكتاب والسنة أن بعض عصاة الموحدين يدخلون النار، فعلى هذا فيحب الجمع بين الأمرين، وقد سلكوا في ذلك مسالك‏:‏ أحدها قول الزهري إن هذه الرخصة كانت قبل نزول الفرائض والحدود
    أشار وهب بن منبه بقوله المتقدم في كتاب الجنائز في شرح ‏"‏ أن لا إله إلا الله مفتاح الجنة ‏"‏‏:‏ ليس من مفتاح إلا وله أسنان، وقيل المراد ترك دخول نار الشرك، وقيل ترك تعذيب جميع بدن الموحدين لأن النار لا تحرق مواضع السجود، وقيل ليس ذلك لكل من وحد وعبد بل يختص بمن أخلص، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناها، ولا يتصور حصول التحقيق مع الإصرار على المعصية لامتلاء القلب بمحبة الله تعالى وخشيته فتنبعث الجوارح إلى الطاعة وتنكف عن المعصية‏.‏
    انتهى ملخصا‏.‏
    (ج11/ ص 414)
    عند النسائي بلفظ ‏"‏ حق على الله أن لا يرفع شيء نفسه في الدنيا إلا وضعه ‏"‏ فإن فيه إشارة إلى الحث على عدم الترفع، والحث على التواضع، والإعلام بأن أمور الدنيا ناقصة غير كاملة‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ فيه هوان الدنيا على الله، والتنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة، وأن كل شيء هان على الله فهو في محل الضعة فحق على كل ذي عقل أن يزهد فيه ويقل منافسته في طلبه‏.‏
    وقال الطبري‏:‏ في التواضع مصلحة الدين والدنيا، فإن الناس لو استعملوه في الدنيا لزالت بينهم الشحناء ولاستراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة، قلت‏:‏ وفيه أيضا حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه، لكونه رضي أن أعرابيا يسابقه، وفيه جواز المسابقة‏.‏
    (ج11/ ص 415)
    وأخرج ابن عدي عشرة أحاديث من حديثه استنكرها‏:‏ هذا الحديث من طريق محمد بن مخلد عن محمد بن عثمان بن كرامة شيخ البخاري فيه وقال‏:‏ هذا حديث غريب جدا لولا هيبة الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن مخلد، فإن هذا المتن لم يرو إلا بهذا الإسناد ولا خرجه من عدا البخاري ولا أظنه في مسند أحمد‏.‏
    قلت‏:‏ ليس هو في مسند أحمد جزما، وإطلاق أنه لم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد مردود، ومع ذلك فشريك شيخ شيخ خالد فيه مقال أيضا، وهو راوي حديث المعراج الذي زاد فيه ونقص وقدم وأخر وتفرد فيه بأشياء لم يتابع عليها كما يأتي القول فيه مستوعبا في مكانه، ولكن للحديث طرق أخرى يدل مجموعها على أن له أصلا، منها عن عائشة أخرجه أحمد في ‏"‏ الزهد ‏"‏ وابن أبي الدنيا وأبو نعيم في ‏"‏ الحلية ‏"‏ والبيهقي في ‏"‏ الزهد ‏"‏ من طريق عبد الواحد بن ميمون عن عروة عنها، وذكر ابن حبان وابن عدي أنه تفرد به، وقد قال البخاري إنه منكر الحديث، لكن أخرجه الطبراني من طريق يعقوب بن مجاهد عن عروة وقال‏:‏ لم يروه عن عروة إلا يعقوب وعبد الواحد‏.‏
    ومنها عن أبي أمامة أخرجه الطبراني والبيهقي في ‏"‏ الزهد ‏"‏ بسند ضعيف‏.‏
    (ج11/ ص 417)
    وقال ابن هبيرة‏:‏ يؤخذ من قوله ‏"‏ ما تقرب إلخ ‏"‏ أن النافلة لا تقدم على الفريضة، لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفريضة، فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة، ومن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقرب انتهى‏.‏
    فإن من جملة ما شرعت له النوافل جبر الفرائض كما صح في الحديث الذي أخرجه مسلم ‏"‏ انظروا هل لعبدي من تطوع فتكمل به فريضته ‏"‏ الحديث بمعناه فتبين أن المراد من التقرب بالنوافل أن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخل بها كما قال بعض الأكابر‏:‏ من شغله الفرض عن النفل فهو معذور ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور‏.‏
    (ج11/ ص 418)
    وقال الطوفي‏:‏ اتفق العلماء ممن يعتد بقوله أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها ولهذا وقع في رواية ‏"‏ فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ‏"‏ قال‏:‏ والاتحادية زعموا أنه على حقيقته وأن الحق عين العبد، واحتجوا بمجيء جبريل في صورة دحية، قالوا فهو روحاني خلع صورته وظهر بمظهر البشر، قالوا فالله أقدر على أن يظهر في صورة الوجود الكلي أو بعضه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ هذه أمثال والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، وتيسير المحبة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن مواقعه ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله‏.‏
    وإلى هذا نحا الداودي، ومثله الكلاباذي، وعبر بقوله أحفظه فلا يتصرف إلا في محابي، لأنه إذا أحبه كره له أن يتصرف فيما يكرهه منه‏.‏
    سابعها قال الخطابي أيضا‏:‏ وقد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح في الطلب، وذلك أن مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة‏.‏
    وقال بعضهم‏:‏ وهو متنزع مما تقدم لا يتحرك له جارحة إلا في الله ولله، فهي كلها تعمل بالحق للحق‏.‏
    وأسند البيهقي في ‏"‏ الزهد ‏"‏ عن أبي عثمان الجيزي أحد أئمة الطريق قال‏:‏ معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الأسماع وعينه في النظر ويده في اللمس ورجله في المشي‏.‏
    وحمله بعض متأخري الصوفية على ما يذكرونه من مقام الفناء والمحو، وأنه الغاية التي لا شيء وراءها، وهو أن يكون قائما بإقامة الله له محبا بمحبته له ناظرا بنظره له من غير أن تبقى معه بقية تناط باسم أو تقف على رسم أو تتعلق بأمر أو توصف بوصف، ومعنى هذا الكلام أنه يشهد إقامة الله له حتى، قام ومحبته له حتى أحبه ونظره إلى عبده حتى أقبل ناظرا إليه بقلبه‏.‏
    وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات أنه يصير في معنى الحق، تعالى الله عن ذلك، وأنه يفني عن نفسه جملة حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفا في شهوده وإن لم تعدم في الخارج، وعلى الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين بالوحدة المطلقة لقوله في بقية الحديث ‏"‏ ولئن سألني، ولئن استعاذني ‏"‏ فإنه كالصريح في الرد عليهم‏.‏
    جاء في حديث أنس المرفوع ‏"‏ وجعلت قوة عيني في الصلاة ‏"‏ أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح، ومن كانت قوة عينه في شيء فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه لأن فيه نعيمه وبه تطيب حياته، وإنما يحصل ذلك للعابد بالمصابرة على النصب، فإن السالك غرض الأفات والفتور‏.‏
    وفي حديث حذيفة من الزيادة ‏"‏ ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة ‏"‏ وقد تمسك بهذا الحديث بعض الجهلة من أهل التجلي والرياضة فقالوا‏:‏ القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت خواطره معصومة من الخطأ‏.‏
    وتعقب ذلك أهل التحقيق من أهل الطريق فقالوا‏:‏ لا يلتفت إلى شيء من ذلك إلا إذا وافق الكتاب والسنة، والعصمة إنما هي للأنبياء ومن عداهم فقد يخطئ، فقد كان عمر رضي الله عنه رأس الملهمين ومع ذلك فكان ربما رأى الرأي فيخبره بعض الصحابة بخلافه فيرجع إليه ويترك رأيه‏.‏
    فمن ظن أنه يكتفي بما يقع في خاطره عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فقد ارتكب أعظم الخطأ، وأما من بالغ متهم فقال‏:‏ حدثني قلبي عن ربي فإنه أشد خطأ فإنه لا يأمن أن يكون قلبه إنما حدثه عن الشيطان، والله المستعان‏.‏
    قال الطوفي‏:‏ هذا الحديث أصل في السلوك إلى الله والوصول إلى معرفته ومحبته وطريقه، إذ المفترضات الباطنة وهي الإيمان والظاهرة وهي الإسلام والمركب منهما وهو الإحسان فيهما كما تضمنه حديث جبريل، والإحسان يتضمن مقامات السالكين من الزهد والإخلاص والمراقبة وغيرها، وفي الحديث أيضا أن من أتي بما وجب عليه وتقرب بالنوافل لم يرد دعاؤه لوجود هذا الوعد الصادق المؤكد بالقسم، وقد تقدم الجواب عما يتخلف من ذلك، وفيه أن العبد ولو بلغ أعلى الدرجات حتى يكون محبوبا لله لا ينقطع عن الطلب من الله لما فيه من الخضوع له وإظهار العبودية
    (ج11/ 420)
    في آخره ‏"‏ ولا بد له منه ‏"‏ ووقعت هذه الزيادة أيضا في حديث وهب، وأسند البيهقي في ‏"‏ الزهد ‏"‏ عن الجنيد سيد الطائفة قال‏:‏ الكراهة هنا لما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته وكربه، وليس المعنى أني أكره له الموت لأن الموت يورده إلى رحمة الله ومغفرته انتهى‏.‏
    وعبر بعضهم عن هذا بأن الموت حتم مقضي، وهو مفارقة الروح للجسد، ولا تحصل غالبا إلا بألم عظيم جدا كما جاء عن عمرو بن العاص أنه سئل وهو يموت فقال‏:‏ ‏"‏ كأني أتنفس من خرم إبرة، وكأن غصن شوك يجر به من قامتي إلى هامتي ‏"‏ وعن كعب أن عمر سأله عن الموت فوصفه بنحو هذا، فلما كان الموت بهذا الوصف، والله يكره أذى المؤمن، أطلق على ذلك الكراهة‏.‏
    ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة إلى طول الحياة لأنها تؤدي إلى أرذل العمر، وتنكس الخلق والرد إلى أسفل سافلين‏.‏
    وجوز الكرماني أن يكون المراد أكره مكرهه الموت فلا أسرع بقبض روحه فأكون كالمتردد‏.‏
    قال الشيخ أبو الفضل بن عطاء‏:‏ في هذا الحديث عظم قدر الولي، لكونه خرج عن تدبيره إلى تدبير ربه، وعن انتصاره لنفسه إلى انتصار الله له، وعن حوله وقوته بصدق توكله‏.‏
    قال‏:‏ ويؤخذ منه أن لا يحكم لإنسان آذى وليا ثم لم يعاجل بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده بأنه سلم من انتقام الله، فقد تكون مصيبته في غير ذلك مما هو أشد عليه كالمصيبة في الدين مثلا‏.‏
    فيه دلالة على جواز اطلاع الولي على المغيبات بإطلاع الله تعالى له، ولا يمنع من ذلك ظاهر قوله تعالى ‏{‏عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول‏}‏ فإنه لا يمنع دخول بعض أتباعه معه بالتبعية لصدق قولنا ما دخل على الملك اليوم إلا الوزير، ومن المعلوم أنه دخل معه بعض خدمه‏.‏
    قلت الوصف المستثنى للرسول هنا إن كان فيما يتعلق بخصوص كونه رسولا فلا مشاركة لأحد من أتباعه فيه إلا منه، وإلا فيحتمل ما قال، والعلم عند الله تعالى‏.‏
    (ج11/ 421)
    أشكل وجه دخول هذا الحديث في باب التواضع حتى قال الداودي‏:‏ ليس هذا الحديث من التواضع في شيء‏.‏
    وقال بعضهم‏:‏ المناسب إدخاله في الباب الذي قبله وهو مجاهدة المرء نفسه في طاعة الله تعالى، وبذلك ترجم البيهقي في ‏"‏ الزهد ‏"‏ فقال‏:‏ فصل في الاجتهاد في الطاعة وملازمة العبودية‏.‏
    والجواب عن البخاري من أوجه‏:‏ أحدها أن التقرب إلى الله بالنوافل لا يكون إلا بغاية التواضع لله والتوكيل عليه، ذكره الكرماني، ثانيها ذكره أيضا فقال‏:‏ قيل الترجمة مستفادة مما قال ‏"‏ كنت سمعه ‏"‏ ومن التردد‏.‏
    قلت‏:‏ ويخرج منه جواب ثالث، ويظهر لي رابع، وهو أنها تستفاد من لازم قوله ‏"‏ من عادى لي وليا ‏"‏ لأنه يقتضي الزجر عن معاداة الأولياء المستلزم لموالاتهم، وموالاة جميع الأولياء لا تتأتى إلا بغاية التواضع، إذ منهم الأشعث الأغبر الذي لا يؤبه له وقد ورد في الحث على التواضع عدة أحاديث صحيحة لكن ليس شيء منها على شرطه فاستغنى عنها بحديثي الباب، منها حديث عياض بن حمار رفعه ‏"‏ إن الله تعالى أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ‏"‏ أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما، ومنها حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ وما تواضع أحد لله تعالى إلا رفعه ‏"‏ أخرجه مسلم أيضا والترمذي، ومنها حديث أبي سعيد رفعه ‏"‏ من تواضع لله رفعه الله حتى يجعله في أعلى عليين ‏"‏ الحديث أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان
    (ج11/ ص 425)
    قال عياض‏:‏ حاول بعضهم في تأويله أن نسبة ما بين الأصبعين كنسبة ما بقي من الدنيا بالنسبة إلى ما مضى وأن جملتها سبعة آلاف سنة، واستند إلى أخبار لا تصح‏.‏
    وذكر ما أخرجه أبو داود في تأخير هذه الأمة نصف يوم وفسره بخمسمائة سنة، فيؤخذ من ذلك أن الذي يقي نصف سبع وهو قريب مما بين السبابة والوسطى في الطول، قال‏:‏ وقد ظهر عدم صحة ذلك لوقوع خلافه ومجاوزة هذا المقدار ولو كان ذلك ثابتا لم يقع خلافه‏.‏
    قلت‏:‏ وقد انضاف إلى ذلك منذ عهد عياض إلى هذا الحين ثلاثمائة سنة‏.‏
    قال ابن العربي‏:‏ قيل الوسطى تزيد على السبابة نصف سبعها، وكذلك الباقي الدنيا من البعثة إلى قيام الساعة‏.‏
    قال‏:‏ وهذا بعيد ولا يعلم مقدار الدنيا فكيف يتحصل لنا نصف سبع أمد مجهول، فالصواب الإعراض عن ذلك قلت‏:‏ السابق إلى ذلك أبو جعفر بن جرير الطبري فإنه أورد في مقدمة تاريخه عن ابن عباس قال‏:‏ الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، وقد مضى ستة آلاف ومائة سنة، وأورده من طريق يحيى بن يعقوب عن حماد بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عنه‏.‏
    ويحيى هو أبو طالب القاص الأنصاري، قال البخاري‏:‏ منكر الحديث، وشيخه هو فقيه الكوفة وفيه مقال‏.‏
    ثم أورد الطبري عن كعب الأحبار قال‏:‏ الدنيا ستة آلاف سنة‏.‏
    وعن وهب بن منبه مثله وزاد أن الذي مضى منها خمسة آلاف وستمائة سنة، ثم زيفهما ورجح ما جاء عن ابن عباس‏.‏
    ثم أورد حديث ابن عمر الذي في الصحيحين مرفوعا ‏"‏ ما أجلكم في أجل من كان قبلكم إلا من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ‏"‏ ومن طريق مغيرة بن حكيم عن ابن عمر بلفظ ‏"‏ ما بقي لأمتي من الدنيا إلا كمقدار إذا صليت العصر ‏"‏ ومن طريق مجاهد عن ابن عمر ‏"‏ كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قعيقعان مرتفعة بعد العصر فقال‏:‏ ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من هذا النهار فيما مضى منه ‏"‏ وهو عند أحمد أيضا بسند حسن‏.‏
    ثم أورد حديث أنس ‏"‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وقد كادت الشمس تغيب ‏"‏ فذكر نحو الحديث الأول عن ابن عمر، ومن حديث أبي سعيد بمعناه قال عند غروب الشمس ‏"‏ إن مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منها كبقية يومكم هذا فيما مضى منه ‏"‏ وحديث أبي سعيد أخرجه أيضا وفيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وحديث أنس أخرجه أيضا وفيه موسى بن خلف، ثم جمع بينهما بما حاصله أنه حمل قوله ‏"‏ بعد صلاة العصر ‏"‏ على ما إذا صليت في وسط من وقتها‏.‏
    قلت‏:‏ وهو بعيد من لفظ أنس وأبي سعيد، وحديث ابن عمر صحيح متفق عليه فالصواب الاعتماد عليه، وله محملان أحدهما أن المراد بالتشبيه التقريب ولا يراد حقيقة المقدار فيه يجتمع مع حديث أنس وأبي سعيد على تقدير ثبوتهما، والثاني أن يحمل على ظاهره فيقدم حديث ابن عمر لصحته ويكون فيه دلالة على أن مدة هذه الأمة قدر خمس النهار تقريبا‏.‏
    ثم أيد الطبري كلامه بحديث الباب وبحديث أبي ثعلبه الذي أخرجه أبو داود وصححه الحاكم ولفظه ‏"‏ والله لا تعجز هذه الأمة من نصف يوم ‏"‏ ورواته ثقات ولكن رجح البخاري وقفه، وعند أبي داود أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ ‏"‏ إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم، قيل لسعد‏:‏ كم نصف يوم‏؟‏ قال‏:‏ خمسمائة سنة ‏"‏ ورواته موثقون إلا أن فيها انقطاعا‏.‏
    قال الطبري‏:‏ ونصف اليوم خمسمائة سنة أخذا من قوله تعالى ‏{‏وإن يوما عند ربك كألف سنة‏}‏ فإذا انضم إلى قول ابن عباس إن الدنيا سبعة آلاف سنة توافقت الأخبار، فيكون الماضي إلى وقت الحديث المذكور ستة آلاف سنة وخمسمائة سنة تقريبا‏.‏
    وقد أورد السهيلي كلام الطبري وأيده بما وقع عنده في حديث المستورد، وأكده بحديث زمل رفعه ‏"‏ الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخرها‏"‏‏.‏
    قلت وهذا الحديث إنما هو عن ابن زمل وسنده ضعيف جدا أخرجه ابن السكن في ‏"‏ الصحابة ‏"‏ وقال إسناده مجهول، وليس بمعروف في الصحابة، وابن قتيبة في ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏ وذكره في الصحابة أيضا ابن منده وغيره وسماه بعضهم عبد الله وبعضهم الضحاك، وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات‏.‏
    وقال ابن الأثير‏:‏ ألفاظه مصنوعة‏.‏
    ثم بين السهيلي أنه ليس في حديث نصف يوم ما ينفي الزيادة على الخمسمائة، قال‏:‏ وقد جاء بيان ذلك فيما رواه جعفر بن عبد الواحد بلفظ ‏"‏ إن أحسنت أمتي فبقاؤها يوم من أيام الآخرة وذلك ألف سنة، وإن أساءت فنصف يوم ‏"‏ قال وليس في قوله ‏"‏ بعثت أنا والساعة كهاتين ‏"‏ ما يقطع به على صحة التأويل الماضي، بل قد قيل في تأويله إنه ليس بينه وبين الساعة نبي مع التقريب لمجيئها‏.‏
    ثم جوز أن يكون في عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر ما يوافق حديث ابن زمل، وذكر أن عدتها تسعمائة وثلاثة‏.‏
    قلت‏:‏ وهو مبني على طريقة المغاربة في عد الحروف، وأما المشارقة فينقص العدد عندهم مائتين وعشرة فإن السين عند المغاربة بثلاثمائة والصاد بستين وأما المشارقة فالسين عندهم ستون والصاد تسعون فيكون المقدار عندهم ستمائة وثلاثة وتسعين، وقد مضت وزيادة عليها مائة وخمس وأربعون سنة، فالحمل على ذلك من هذه الحيثية باطل، وقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن عد أبي جاد والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد فإنه لا أصل له في الشريعة‏.‏
    وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي وهو من مشايخ السهيلي في فوائد رحلته ما نصه‏:‏ ومن الباطل الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصل لي فيها عشرون قولا وأزيد ولا أعرف أحدا يحكم عليها بعلم ولا يصل فيها إلى فهم إلا أني أقول‏.‏
    فذكر ما ملخصه أنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولا متداولا بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، بل تلا عليهم ‏"‏ص‏"‏ وحم وفصلت وغيرهما فلم ينكروا ذلك بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى عثرة وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمرا معروفا بينهم لا إنكار فيه‏.‏
    قلت‏:‏ وأما عد الحروف بخصوصه فإنما جاء عن بعض اليهود كما حكاه ابن إسحاق في السيرة النبوية عن أبي ياسر ابن أخطب وغيره أنهم حملوا الحروف التي في أوائل السور على هذا الحساب واستقصروا المدة أول ما نزل الم والر، فلما نزل بعد ذلك المص وطسم وغير ذلك قالوا ألبست علينا الأمر‏.‏
    وعلى تقدير أن يكون ذلك مرادا فليحمل على جميع الحروف الواردة ولا يحذف المكرر، فإنه ما من حرف منها إلا وله سر يخصه، أو يقتصر على حذف المكرر من أسماء السور ولو تكررت الحروف فيها، فإن السور التي ابتدئت بذلك تسع وعشرون سورة وعدد حروف الجميع ثمانية وسبعون حرفا وهي الم ستة حم ستة الر خمسة طسم ثنتان المص المر كهيعص حمعسق طه طس يس ص ق ن، فإذا حذف ما كرر من السور وهي خمس من ألم وخمس من حم وأربع من الر وواحدة من طسم بقي أربع عشرة سورة عدد حروفها ثمانية وثلاثون حرفا فإذا حسب عددها بالجمل المغربي بلغت ألفين وستمائة وأربعة وعشرين وأما بالجمل المشرقي فتبلغ ألفا وسبعمائة وأربعة وخمسين ولم أذكر ذلك ليعتمد عليه إلا لأبين أن الذي جنح إليه السهيلي لا ينبغي الاعتماد عليه لشدة التخالف فيه، وفي الجملة فأقوى ما يعتمد في ذلك عليه حديث ابن عمر الذي أشرت إليه قبل، وقد أخرج معمر في الجامع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال معمر‏:‏ وبلغني عن عكرمة في قوله تعالى ‏(‏في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة‏)‏ قال‏:‏ الدنيا من أولها إلى آخرها يوم مقداره خمسون ألف سنة لا يدري كم مضى ولا كم بقي إلا الله تعالى، وقد حمل بعض شراح ‏"‏ المصابيح ‏"‏ حديث ‏"‏ لن تعجز هذه الأمة أن يؤخرها نصف يوم ‏"‏ على حال يوم القيامة وزيفه الطيبي فأصاب، وأما زيادة جعفر فهي موضوعة لأنها لا تعرف إلا من جهته وهو مشهور بوضع الحديث وقد كذبه الأئمة مع أنه لم يسق سنده بذلك، فالعجب من السهيلي كيف سكت عنه مع معرفته بحاله‏.

  10. #210
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    تابع / كتاب الرقاق
    اليوم الثاني عشر من الحجر المنزلي
    الموافق 6/ شعبان / 1441 هجري
    الموافق 30/ 3/ 2020 ميلادي

    (ج11/ ص 430)
    وقال ابن عطية‏:‏ في هذا الحديث دليل على أن المراد بالبعض في قوله تعالى ‏(‏يوم يأتي بعض آيات ربك‏)‏ طلوع الشمس من المغرب وإلى ذلك ذهب الجمهور وأسند الطبري عن ابن مسعود أن المراد بالبعض إحدى ثلاث هذه أو خروج الدابة أو الدجال قال‏:‏ وفيه نظر لأن نزول عيسى بن مريم يعقب خروج الدجال وعيسى لا يقبل إلا الإيمان فانتفى أن يكون بخروج الدجال لا يقبل الإيمان ولا التوبة‏.‏
    قلت‏:‏ ثبت في صحيح مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل‏:‏ طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض ‏"‏ قيل فلعل حصول ذلك يكون متتابعا بحيث تبقى النسبة إلى الأول منها مجازية وهذا بعيد لأن مدة لبث الدجال إلى أن يقتله عيسى ثم لبس عيسى وخروج يأجوج ومأجوج كل ذلك سابق على طلوع الشمس من المغرب فالذي يترجح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض وينتهي ذلك بموت عيسى بن مريم وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي وينتهي ذلك بقيام الساعة ولعل خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب‏.‏
    وخروج الدابة على الناس ضحى فأيهما خرجت قبل الأخرى فالأخرى منها قريب ‏"‏ وفي الحديث قصة لمروان بن الحكم وأنه كان يقول‏:‏ أول الآيات خروج الدجال فأنكر عليه عبد الله بن عمرو‏.‏
    قلت‏:‏ ولكلام مروان محمل يعرف مما ذكرته‏.‏
    قال الحاكم أبو عبد الله‏:‏ الذي يظهر أن طلوع الشمس يسبق خروج الدابة ثم تخرج الدابة في ذلك اليوم أو الذي يقرب منه‏.‏
    قلت‏:‏ والحكمة في ذلك أن عند طلوع الشمس من المغرب يغلق باب التوبة فتخرج الدابة تميز المؤمن من الكافر تكميلا للمقصود من إغلاق باب التوبة وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة النار التي تحشر الناس
    ل ابن عطية وغيره ما حاصله‏:‏ معنى الآية أن الكافر لا ينفعه إيمانه بعد طلوع الشمس من المغرب وكذلك العاصي لا تنفعه توبته ومن لم يعمل صالحا من قبل ولو كان مؤمنا لا ينفعه العمل بعد طلوعها من المغرب‏.‏
    وقال القاضي عياض‏:‏ المعنى لا تنفع توبة بعد ذلك بل يختم على عمل كل أحد بالحالة التي هو عليها‏.‏
    والحكمة في ذلك أن هذا أول ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلوي فإذا شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة وارتفع الإيمان بالغيب فهو كالإيمان عند الغرغرة وهو لا ينفع فالمشاهدة لطلوع الشمس من المغرب مثله‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ التذكرة ‏"‏ بعد أن ذكر هذا‏:‏ فعلى هذا فتوبة من شاهد ذلك أو كان كالمشاهد له مردودة فلو امتدت أيام الدنيا بعد ذلك إلى أن ينسى هذا الأمر أو ينقطع تواتره ويصير الخبر عنه آحادا فمن أسلم حينئذ أو تاب قبل منه‏.‏
    (ج11/ ص 435)
    وقال ابن الأثير في النهاية‏:‏ المراد بلقاء الله هنا المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله لأنه إنما يصل إليه بالموت‏.‏
    وقول عائشة والموت دون لقاء الله يبين أن الموت غير اللقاء ولكنه معترض دون الغرض المطلوب فيجب أن يصبر عليه ويحتمل مشاقه حتى يصل إلى الفوز باللقاء‏.‏
    قال الطيبي‏:‏ يريد أن قول عائشة إنا لنكره الموت يوهم أن المراد بلقاء الله في الحديث الموت وليس كذلك لأن لقاء الله غير الموت بدليل قوله في الرواية الأخرى ‏"‏ والموت دون لقاء الله ‏"‏ لكن لما كان الموت وسيلة إلى لقاء الله عبر عنه بلقاء الله وقد سبق ابن الأثير إلى تأويل لقاء الله بغير الموت الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام فقال‏:‏ ليس وجهه عندي كراهة الموت وشدته لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة‏.‏
    قال‏:‏ ومما يبين ذلك أن الله تعالى عاب قوما بحب الحياة فقال ‏(‏إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها‏)‏ وقال الخطابي‏:‏ معنى محبة العبد للقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا فلا يحب استمرار الإقامة فيها بل يستعد للارتحال عنها والكراهة بضد ذلك وقال النووي‏:‏ معنى الحديث أن المحبة والكراهة التي تعتبر شرعا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة حيث يكشف الحال للمحتضر ويظهر له ما هو صائر إليه‏.‏
    (ج11/ ص 435)
    أن المحتضر إذا ظهرت عليه علامات السرور كان ذلك دليلا على أنه بشر بالخير وكذا بالعكس‏
    أن في كراهة الموت في حال الصحة تفصيلا فمن كرهه إيثارا للحياة على ما بعد الموت من نعيم الآخرة كان مذموما ومن كرهه خشية أن يفضي إلى المؤاخذة كأن يكون مقصرا في العمل لم يستعد له بالأهبة بأن يتخلص من التبعات ويقوم بأمر الله كما يجب فهو معذور لكن ينبغي لمن وجد ذلك أن يبادر إلى أخذ الأهبة حتى إذا حضره الموت لا يكرهه بل يحبه لما يرجو بعده من لقاء الله تعالى‏.‏
    وفيه أن الله تعالى لا يراه في الدنيا أحد من الأحياء وإنما يقع ذلك للمؤمنين بعد الموت أخذا من قوله ‏"‏ والموت دون لقاء الله ‏"‏ وقد تقدم أن اللقاء أعم من الرؤية فإذا انتفى اللقاء انتفت الرؤية وقد ورد بأصرح من هذا في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة مرفوعا في حديث طويل وفيه ‏"‏ واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا‏"‏‏.‏
    (ج11/ ص 436)
    وقد ذكر بعض الشراح أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت لما أتاه ليقبض روحه‏:‏ هل رأيت خليلا يميت خليله‏؟‏ فأوحى الله تعالى إليه قل له هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله‏؟‏ فقال يا ملك الموت الآن فاقبض‏.‏
    ووجدت في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ لأبي حذيفة إسحاق بن بشر البخاري أحد الضعفاء بسند له عن ابن عمر قال ‏"‏ قال ملك الموت يا رب إن عبدك إبراهيم جزع من الموت فقال‏:‏ قل له الخليل إذا طال به العهد من خليله اشتاق إليه‏.‏
    فبلغه فقال‏:‏ نعم يا رب قد اشتقت إلى لقائك فأعطاه ريحانة فشمها فقبض فيها‏"‏‏.‏
    (ج11/ ص 442)
    آخر من بقي ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبو الطفيل عامر بن واثلة كما جزم به مسلم وغيره وكانت وفاته سنة عشر ومائة من الهجرة وذلك عند رأس مائة سنة من وقت تلك المقالة وقيل كانت وفاته قبل ذلك فإن كان كذلك فيحتمل أن يكون تأخر بعده بعض من أدرك ذلك الزمان وإن لم يثبت أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وبه احتج جماعة من المحققين على كذب من ادعى الصحبة أو الرؤية ممن تأخر عن ذلك الوقت‏.‏
    وقال الراغب‏:‏ الساعة جزء من الزمان ويعبر بها عن القيامة تشبيها بذلك لسرعة الحساب قال الله تعالى ‏(‏وهو أسرع الحاسبين‏)‏ أو لما نبه عليه بقوله ‏(‏كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار‏)‏ وأطلقت الساعة على ثلاثة أشياء‏:‏ الساعة الكبرى وهي بعث الناس للمحاسبة والوسطى وهي موت أهل القرن الواحد نحو ما روى أنه رأى عبد الله بن أنيس فقال‏:‏ إن يطل عمر هذا الغلام لم يمت حتى تقوم الساعة فقيل أنه آخر من مات من الصحابة‏.‏
    والصغرى موت الإنسان فساعة كل إنسان موته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم عند هبوب الريح‏:‏ تخوفت الساعة يعني موته انتهى‏.‏
    (ج11/ ص 444)
    الذي يحصل له سكرات الموت ولا يتعلق ذلك بتقواه ولا بفجوره بل إن كان من أهل التقوى ازداد ثوابا وإلا فيكفر عنه بقدر ذلك ثم يستريح من أذى الدنيا الذي هذا خاتمته ويؤيد ذلك ما تقدم من كلام عائشة في الحديث الأول وقد قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ ما أحب أن يهون على سكرات الموت إنه لآخر ما يكفر به عن المؤمن‏.‏
    ومع ذلك فالذي يحصل للمؤمن من البشرى ومسرة الملائكة بلقائه ورفقهم به وفرحه بلقاء ربه يهون عليه كل ما يحصل له من ألم الموت حتى يصير كأنه لا يحس بشيء من ذلك‏.‏
    (ج11/ ص 447)
    تنبيه‏:‏ لا يلزم من كون الشيء مذموما أن لا يشبه به الممدوح فقد وقع تشبيه صوت الوحي بصلصلة الجرس مع النهي عن استصحاب الجرس كما تقدم تقريره في بدء الوحي والصور إنما هو قرن كما جاء في الأحاديث المرفوعة وقد وقع في قصة بدء الأذان بلفظ البوق والقرن في الآلة التي يستعملها اليهود للأذان ويقال إن الصور اسم القرن بلغة أهل اليمن
    وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال ‏"‏ جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما الصور‏؟‏ قال‏:‏ قرن ينفخ فيه ‏"‏ والترمذي أيضا وحسنه من حديث أبي سعيد مرفوعا ‏"‏ كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ ‏"‏ وأخرجه الطبراني من حديث زيد بن أرقم وابن مردويه من حديث أبي هريرة ولأحمد والبيهقي من حديث ابن عباس وفيه ‏"‏ جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وهو صاحب الصور يعني إسرافيل ‏"‏ وفي أسانيد كل منهما مقال‏.‏
    وللحاكم بسند حسن عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ إن طرف صاحب الصور منذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان‏"‏‏.‏
    (ج11/ ص 448)
    شتهر أن صاحب الصور إسرافيل عليه السلام ونقل فيه الحليمي الإجماع ووقع التصريح به في حديث وهب بن منبه المذكور وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي وفي حديث أبي هريرة عند ابن مردويه وكذا في حديث الصور الطويل الذي أخرجه عبد بن حميد والطبري وأبو يعلى في الكبير والطبراني في الطوالات وعلي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية والبيهقي في البعث من حديث أبي هريرة ومداره على إسماعيل بن رافع واضطرب في سنده مع ضعفه فرواه عن محمد بن كعب القرظي تارة بلا واسطة وتارة بواسطة رجل مبهم ومحمد عن أبي هريرة تارة بلا واسطة وتارة بواسطة رجل من الأنصار مبهم أيض
    وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير في حديث الصور‏:‏ جمعه إسماعيل ابن رافع من عدة آثار وأصله عنده عن أبي هريرة فساقه كله مساقا واحدا‏.‏
    وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع القاضي أبو بكر بن العربي في سراجه وتبعه القرطبي في التذكرة وقول عبد الحق في تضعيفه أولى وضعفه قبله البيهقي فوقع في هذا الحديث عند علي بن معبد ‏"‏ إن الله خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ‏"‏ الحديث وقد ذكرت ما جاء عن وهب بن منبه في ذلك فلعله أصله وجاء أن الذي ينفخ في الصور غيره ففي الطبراني الأوسط عن عبد الله بن الحارث ‏"‏ كنا عند عائشة فقالت يا كعب أخبرني عن إسرافيل ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ وملك الصور جاث على إحدى ركبتيه وقد نصب الأخرى يلتقم الصور محنيا ظهره شاخصا ببصره إلى إسرافيل
    (ج11/ ص 449)
    نقل عن ابن حزم أن النفخ في الصور يقع أربع مرات وتعقب كلامه في ذلك ثم رأيت في كلام ابن العربي أنها ثلاث‏:‏ نفخة الفزع كما في النمل‏.‏
    ونفخة الصعق كما في الزمر ونفخة البعث وهي المذكورة في الزمر أيضا‏.‏
    قال القرطبي‏:‏ والصحيح أنهما نفختان فقط لثبوت الاستثناء بقوله تعالى ‏(‏إلا من شاء الله‏)‏ في من الآيتين ولا يلزم من مغايرة الصعق للفزع أن لا يحصلا معا من النفخة الأولى ثم وجدت مستند ابن العربي في حديث الصور الطويل فقال فيه ‏"‏ ثم ينفخ في الصور ثلاث نفخات نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين ‏"‏ أخرجه الطبري هكذا مختصرا وقد ذكرت أن سنده ضعيف ومضطرب وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنهما نفختان ولفظه في أثناء حديث مرفوع ‏"‏ ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا ثم يرسل الله مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ‏"‏ وأخرج البيهقي بسند قوي عن ابن مسعود موقوفا
    (ج11/ ص 453)
    وأكثر العبرانية فيما يقوله أهل المعرفة مقلوب على لسان العرب بتقديم في الحروف وتأخير والله أعلم بصحته‏.‏
    (ج11/ 456)
    وقال أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ فيه دليل على عظيم القدرة والإعلام بجزئيات يوم القيامة ليكون السامع على بصيرة فيخلص نفسه من ذلك الهول لأن في معرفة جزئيات الشيء قبل وقوعه رياضة النفس وحملها على ما فيه خلاصها بخلاف مجيء الأمر بغتة وفيه إشارة إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجودة جدا والحكمة في الصفة المذكورة أن ذلك اليوم يوم عدل وظهور حق فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهرا عن عمل المعصية والظلم وليكون تجليه سبحانه على عباده المؤمنين على أرض تليق بعظمته ولأن الحكم فيه إنما يكون لله وحده فناسب أن يكون المحل خالصا له وحده‏.‏
    انتهى ملخصا‏.‏
    وفيه إشارة إلى أن أرض الدنيا اضمحلت وأعدمت وأن أرض الموقف تجددت‏.‏
    وقد وقع للسلف في ذلك خلاف في المراد بقوله تعالى ‏(‏يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات‏)‏ هل معنى تبديلها تغيير ذاتها وصفاتها أو تغيير صفاتها فقط
    (ج11/ ص 460)
    م ختم كلامه بأن قال‏:‏ هذا ما سنح لي على سبيل الاجتهاد ثم رأيت في صحيح البخاري في ‏"‏ باب المحشر‏:‏ يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق ‏"‏ فعلمت من ذلك أن الذي ذهب إليه الإمام التوربشتي هو الحق الذي لا محيد عنه‏.‏
    قلت‏:‏ ولم أقف في شيء من طرق الحديث الذي أخرجه البخاري على لفظ يوم القيامة لا في صحيحه ولا في غيره وكذا هو عند مسلم والإسماعيلي وغيرهما ليس فيه يوم القيامة نعم ثبت لفظ يوم القيامة في حديث أبي ذر المنبه عليه قبل وهو مؤول بأن المراد بذلك أن يوم القيامة يعقب ذلك فيكون من مجاز المجاورة ويتعين ذلك لما وقع فيه أن الظهر يقل لما يلقى عليه من الآفة وأن الرجل يشتري الشارف الواحد بالحديقة المعجبة فإن ذلك ظاهر جدا في أنه من أحوال الدنيا لا بعد المبعث‏.‏
    وقد أبدى البيهقي في حديث الباب احتمالين فقال‏:‏ قوله ‏"‏ راغبين ‏"‏ يحتمل أن يكون إشارة إلى الأبرار وقوله ‏"‏ راهبين ‏"‏ إشارة إلى المخلطين الذين هم بين الخوف والرجاء والذين تحشرهم النار هم الكفار‏.‏
    وتعقب بأنه حذف ذكر قوله ‏"‏ واثنان على بعير إلخ‏"‏‏.‏
    (ج11/ ص 466)
    بن عباس من صغار الصحابة وهو من المكثرين لكنه كان كثيرا ما يرسل ما يسمعه من أكابر الصحابة ولا يذكر الواسطة وتارة يذكره باسمه وتارة مبهما كقوله في أوقات الكراهة ‏"‏ حدثني رجال مرضيون أرضاهم عندي عمر ‏"‏ فأما ما صرح بسماعه له فقليل ولهذا كانوا يعتنون بعده فجاء عن محمد بن جعفر غندر أن هذه الأحاديث التي صرح ابن عباس بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم عشرة وعن يحيى بن معين وأبي داود صاحب السنن تسعة وأغرب الغزالي في ‏"‏ المستصفى ‏"‏ وقلده جماعة ممن تأخروا عنه فقال‏:‏ لم يسمع ابن عباس من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أربعه أحاديث وقال بعض شيوخ شيوخنا‏:‏ سمع من النبي صلى الله عليه وسلم دون العشرين من وجوه صحاح‏.‏
    قلت‏:‏ وقد اعتنيت بجمعها فزاد على الأربعين ما بين صحيح وحسن خارجا عن الضعيف وزائدا أيضا على ما هو في حكم السماع كحكايته حضور شيء فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فكأن الغزالي التبس عليه ما قالوا إن أبا العالية سمعه من ابن عباس وقيل خمسة وقيل أربعة‏.‏
    (ج11/ ص 467)
    قال أبو هلال العسكري‏:‏ لا تلتقي اللام مع الراء في كلمة إلا في أربع‏:‏ أرل اسم جبل وورل اسم حيوان معروف وحرل ضرب من الحجارة والغرلة‏.‏
    واستدرك عليه كلمتان هرل ولد الزوجة وبرل الديك الذي يستدير بعنقه والستة حوشية إلا الغرالة‏.‏
    (ج11/ ص 468)
    ‏وإن أول الخلائق يكسى يوم القمامة إبراهيم الخليل‏)‏ تقدم بعض الكلام عليه في أحاديث الأنبياء قال القرطبي في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏‏:‏ يجوز أن يراد بالخلائق من عدا نبينا صلى الله عليه وسلم فلم يدخل هو في عموم خطاب نفسه وتعقيه تلميذه القرطبي أيضا في ‏"‏ التذكرة ‏"‏ فقال‏:‏ هذا حسن لولا ما جاء من حديث على يعني الذي أخرجه ابن المبارك في الزهد من طريق عبد الله بن الحارث عن علي قال ‏"‏ أول من يكسى يوم القيامة خليل الله عليه السلام قبطيتين ثم يكسى محمد صلى الله عليه وسلم حلة حبرة عن يمين العرش‏"‏‏.‏
    قيل الحكمة في كون إبراهيم أول من يكسى أنه جرد حين ألقى في النار وقيل لأنه أول من استن التستر بالسراويل وقيل إنه لم يكن في الأرض أخوف لله منه فعجلت له الكسوة أمانا له ليطمئن قلبه‏.‏
    وهذا اختيار الحليمي والأول اختيار القرطبي‏.‏
    وإنه لا يلزم من تخصيص إبراهيم عليه السلام بأنه أول من يكسى أن يكون أفضل من نبينا عليه الصلاة والسلام مطلقا وقد ظهر لي الآن أنه يحتمل أن يكون نبينا عليه الصلاة والسلام خرج من قبره في ثيابه التي مات فيها والحلة التي يكساها حينئذ من حلل الجنة خلعة الكرامة بقرينة إجلاسه على الكرسي عند ساق العرش فتكون أولية إبراهيم في الكسوة بالنسبة لبقية الخلق‏.‏
    وأجاب الحليمي بأنه يكسى أولا ثم يكسى نبينا صلى الله عليه وسلم على ظاهر الخبر لكن حلة نبينا صلى الله عليه وسلم أعلى وأكمل فتجبر نفاستها ما فات من الأولية والله أعلم‏.‏
    (ج11/ ص 469)
    قال الخطابي‏:‏ لم يرتد من الصحابة أحد وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين وذلك لا يوجب قدحا في الصحابة المشهورين‏.‏
    ويدل قوله ‏"‏ أصيحابي ‏"‏ بالتصغير على قلة عددهم‏.‏
    وقال غيره‏:‏ قيل هو على ظاهره من الكفر والمراد بأمتي أمة الدعوة لا أمة الإجابة‏.‏
    ورجح بقوله في حديث أبي هريرة ‏"‏ فأقول بعدا لهم وسحقا ‏"‏ ويؤيده كونهم خفي عليه حالهم ولو كانوا من أمة الإجابة لعرف حالهم بكون أعمالهم تعرض عليه‏.‏
    وهذا يرده قوله في حديث أنس ‏"‏ حتى إذا عرفتهم ‏"‏ وكذا في حديث أبي هريرة‏.‏
    وقال ابن التين يحتمل أن يكونوا منافقين أو من مرتكبي الكبائر‏.‏
    وقيل هم قوم من جفاة الأعراب دخلوا في الإسلام رغبة ورهبة‏.‏
    وقال الداودي‏:‏ لا يمتنع دخول أصحاب الكبائر والبدع في ذلك‏.‏
    وقال النووي‏.‏
    قيل هم المنافقون والمرتدون فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل لكونهم من جملة الأمة فيناديهم من أجل السيما التي عليهم فيقال إنهم بدلوا بعدك أي لم يموتوا على ظاهر ما فارقتهم عليه‏.‏
    قال عياض وغيره‏:‏ وعلى هذا فيذهب عنهم الغرة والتحجيل ويطفأ نورهم‏.‏
    وقيل لا يلزم أن تكون عليهم السيما بل يناديهم لما كان يعرف من إسلامهم وقيل هم أصحاب الكبائر والبدع الذين ماتوا على الإسلام وعلى هذا فلا يقطع بدخول هؤلاء النار لجواز أن يذادوا عن الحوض أولا عقوبة لهم ثم يرحموا ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل فعرفهم بالسيما سواء كانوا في زمنه أو بعده ورجح عياض والباجي وغيرهما ما قال قبيصة راوي الخبر إنهم من ارتد بعده صلى الله عليه وسلم ولا يلزم من معرفته لهم أن يكون عليهم السيما لأنها كرامة يظهر بها عمل المسلم‏.‏
    والمرتد قد حبط عمله فقد يكون عرفهم بأعيانهم لا بصفتهم باعتبار ما كانوا عليه قبل ارتدادهم ولا يبعد أن يدخل في ذلك أيضا من كان في زمنه من المنافقين
    قال البيضاوي ليس قوله ‏"‏ مرتدين ‏"‏ نصا في كونهم ارتدوا عن الإسلام بل يحتمل ذلك ويحتمل أن يراد أنهم عصاة المؤمنين المرتدون عن الاستقامة يبدلون الأعمال الصالحة بالسيئة انتهى‏.‏
    وقد أخرج أبو يعلى بسند حسن عن أبي سعيد ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر حديثا فقال ‏"‏ يا أيها الناس إني فرطكم على الحوض فإذا جئتم قال رجل‏:‏ يا رسول الله أنا فلان ابن فلان وقال آخر‏:‏ أنا فلان ابن فلان فأقول أما النسب فقد عرفته ولعلكم أحدثتم بعدي وارتددتم
    (ج11/ ص 474)
    قتضى كلامه الأول تقديم حديث أبي هريرة على حديث أبي سعيد فإنه يشتمل على زيادة فإن حديث أبي سعيد يدل على أن نصيب أهل الجنة من كل ألف واحد وحديث أبي هريرة يدل على عشرة فالحكم للزائد ومقتضى كلامه الأخير أن لا ينظر إلى العدد أصلا بل القدر المشترك بينهما ما ذكره من تقليل العدد وقد فتح الله تعالى في ذلك بأجوبة أخر وهو حمل حديث أبي سعيد ومن وافقه على جميع ذرية آدم فيكون من كل ألف واحد حمل حديث أبي هريرة ومن وافقه على من عدا يأجوج ومأجوج فيكون من كل ألف عشرة ويقرب ذلك أن يأجوج ومأجوج ذكروا في حديث أبي سعيد دون حديث أبي هريرة ويحتمل أن يكون الأول يتعلق بالخلق أجمعين والثاني بخصوص هذه الأمة ويقربه قوله في حديث أبي هريرة ‏"‏ إذا أخذ منا ‏"‏ لكن في حديث ابن عباس ‏"‏ وإنما أمتي جزء من ألف جزء ‏"‏ ويحتمل أن تقع القسمة مرتين مرة من جميع الأمم قبل هذه الأمة فيكون من كل ألف واحد ومرة من هذه الأمة فقط فيكون من كل ألف عشرة ويحتمل أن يكون المراد ببعث النار الكفار ومن يدخلها من العصاة فيكون من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كافرا ومن كل مائة تسعة وتسعون عاصيا والعلم عند الله تعالى‏.‏
    (ج11/ ص 480)
    قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ ظاهر الحديث تعميم الناس بذلك، ولكن دلت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم في العرق الكفار ثم أصحاب الكبائر ثم من بعدهم والمسلمون منهم قليل بالنسبة إلى الكفار كما تقدم تقريره في حديث بعث النار، قال‏:‏ والظاهر أن المراد بالذراع في الحديث المتعارف، وقيل هو الذراع الملكي، ومن تأمل الحالة المذكورة عرف عظم الهول فيها، وذلك أن النار تحف بأرض الموقف وتدنى الشمس من الرءوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض وماذا يرويها من العرق حتى يبلغ منها سبعين ذراعا مع أن كل واحد لا يجد إلا قدر موضع قدمه، فكيف تكون حالة هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فبه، إن هذا لمما يبهر العقول ويدل على عظيم القدوة ويقتضي الإيمان بأمور الآخرة أن ليس للعقل فيها مجال، ولا يعترض عليها بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول ويدخل تحت الإيمان بالغيب، ومن توقف في ذلك دل على خسرانه وحرمانه‏.‏
    وفائدة الإخبار بذلك أن يتنبه السامع فيأخذ في الأسباب التي تخلصه من تلك الأهوال، ويبادر إلى التوبة من التبعات، ويلجأ إلى الكريم الوهاب في عونه على أسباب السلامة، ويتضرع إليه في سلامته من دار الهوان، وإدخاله دار الكرامة بمنه وكرمه‏.‏
    (ج11/ ص 481)
    قد اقتصر المصنف من أسماء يوم القيامة على هذا القدر، وجمعها الغزالي ثم القرطبي فبلغت نحو الثمانين اسما، فمنها يوم الجمع ويوم الفزع الأكبر ويوم التناد ويوم الوعيد ويوم الحسرة ويوم التلاق ويوم المآب ويوم الفصل ويوم العرض على الله ويوم الخروج ويوم الخلود، ومنها يوم عظيم ويوم عسير ويوم مشهود ويوم عبوس قمطرير، ومنها يوم تبلى السرائر، ومنها يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ويوم يدعون إلى نار جهنم ويوم تشخص فيه الأبصار ويوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ويوم لا ينطقون ويوم لا ينفع مال ولا بنون ويوم لا يكتمون الله حديثا ويوم لا مرد له من الله ويوم لا بيع فيه ولا خلال ويوم لا ريب فيه، فإذا ضمت هذه إلى ما ذكر في الأصل كانت أكثر من ثلاثين اسما معظمها ورد في القرآن بلفظه، وسائر الأسماء المشار إليها أخذت بطريق الاشتقاق بما ورد منصوصا كيوم الصدر من قوله ‏(‏يومئذ يصدر الناس أشتاتا‏)‏ ويوم الجدال من قوله ‏(‏يوم تأتي نفس تجادل عن نفسها‏)‏ ولو تتبع مثل هذا من القرآن زاد على ما ذكر والله أعلم‏.‏
    (ج11/ ص 483)
    ال الحميدي في ‏"‏ كتاب الموازنة‏:‏ الناس ثلاثة ‏"‏ من رجحت حسناته على سيئاته أو بالعكس أو من تساوت حسناته وسيئاته، فالأول فائز بنص القرآن والثاني يقتضى منه بما فضل من معاصيه على حسناته من النفخة إلى آخر من يخرج من النار بمقدار قلة شره وكثرته والقسم الثالث أصحاب الأعراف، وتعقبه أبو طالب عقيل بن عطية في كتابه الذي رد عليه فيه بأن حق العبارة فيه أن يقيد بمن شاء الله أن يعذبه منهم وإلا فالمكلف في المشيئة وصوب الثالث على أحد الأقوال أهل الأعراف قال‏:‏ وهو أرجح الأقوال فيهم‏.‏
    قلت‏:‏ قد قال الحميدي أيضا‏:‏ والحق أن من رجحت سيئاته على حسناته على قسمين من يعذب ثم يخرج من النار بالشفاعة ومن يعفى عنه فلا يعذب أصلا‏.‏
    (ج11/ ص 484)
    قد صنف فيه الحميدي صاحب ‏"‏ الجمع ‏"‏ كتابا لطيفا وتعقب أبو طالب عقيل بن عطية أكثره في كتاب سماه ‏"‏ تحرير المقال في موازنة الأعمال ‏"‏ وفي حديث الباب وما بعده دلالة على ضعف الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية غيلان بن جرير عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه رفعه ‏"‏ يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى ‏"‏ فقد ضعفه البيهقي وقال‏:‏ تفرد به شداد أبو طلحة، والكافر لا يعاقب بذنب غيره لقوله تعالى ‏(‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏)‏ وقد أخرج أصل الحديث مسلم من وجه آخر عن أبي بردة بلفظ ‏"‏ إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول‏:‏ هذا فداؤك من النار ‏"‏ قال البيهقي‏:‏ ومع ذلك فضعفه البخاري وقال‏:‏ الحديث في الشفاعة أصح‏.‏
    قال البيهقي‏:‏ ويحتمل أن يكون الفداء في قوم كانت ذنوبهم كفرت عنهم في حياتهم، وحديث الشفاعة في قوم لم تكفر ذنوبهم، ويحتمل أن يكون هذا القول لهم في الفداء بعد خروجهم من النار بالشفاعة‏.‏
    وقال غيره‏:‏ يحتمل أن يكون الفداء مجازا عما يدل عليه حديث أبي هريرة الآتي في أواخر ‏"‏ باب صفة الجنة والنار ‏"‏ قريبا بلفظ ‏"‏ لا يدخل الجنة أحد إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ‏"‏ الحديث وفيه في مقابله ‏"‏ ليكون عليه حسرة ‏"‏ فيكون المراد بالفداء إنزال المؤمن في مقعد الكافر من الجنة الذي كان أعد له وإنزال الكافر في مقعد المؤمن الذي كان أعد له، وقد يلاحظ في ذلك قوله تعالى ‏(‏وتلك الجنة التي أورثتموها‏)‏ وبذلك أجاب النووي تبعا لغيره‏.‏
    11/ ص 485)
    ن الصراط جسر موضوع على متن جهنم وأن الجنة وراء ذلك فيمر عليه الناس بحسب أعمالهم، فمنهم الناجي وهو من زادت حسناته على سيئاته أو استويا أو تجاوز الله عنه، ومنهم الساقط وهو من رجحت سيئاته على حسناته إلا من تجاوز الله عنه، فالساقط من الموحدين يعذب ما شاء الله ثم يخرج بالشفاعة وغيرها، والناجي قد يكون عليه تبعات وله حسنات توازيها أو تزيد عليها فيؤخذ من حسناته ما يعدل تبعاته فيخلص منها‏.‏
    واختلف في القنطرة المذكورة فقيل هي من تتمة الصراط وهي طرفه الذي يلي الجنة، وقيل إنهما صراطان، وبهذا الثاني جزم القرطبي،
    (ج11/ ص 490)
    أن تعرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منة الله عليه في سترها عليه في الدنيا وفي عفوه عنها في الآخرة كما في حديث ابن عمر في النجوى، قال عياض‏:‏ قوله ‏"‏ عذب ‏"‏ له معنيان أحدهما أن نفس مناقشه الحساب وعرض الذنوب والتوقيف على قبيح ما سلف والتوبيخ تعذيب، والثاني أنه يفضي إلى استحقاق العذاب إذ لا حسنة للعبد إلا من عند الله لإقداره عليها وتفضيله عليه بها وهدايته لها ولأن الخالص لوجهه قليل، ويؤيد هذا الثاني قوله في الرواية الأخرى ‏"‏ هلك ‏"‏ وقال النووي‏:‏ التأويل الثاني هو الصحيح لأن التقصير غالب على الناس، فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك‏.‏
    وقال غيره‏:‏ وجه المعارضة أن لفظ الحديث عام في تعذيب كل من حوسب ولفظ الآية دال على أن بعضهم لا يعذب؛ وطريق الجمع أن المراد بالحساب في الآية العرض وهو إبراز الأعمال وإظهارها فيعرف صاحبها بذنوبه ثم يتجاوز عنه، ويؤيده ما وقع عند البزار والطبري من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير ‏"‏ سمعت عائشة تقول‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحساب اليسير قال‏:‏ الرجل تعرض عليه ذنوبه ثم يتجاوز له عنها ‏"‏ وفي حديث أبي ذر عند مسلم ‏"‏ يؤتي بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه ‏"‏ الحديث وفي حديث جابر عند ابن أبي حاتم والحاكم ‏"‏ من زادت حسناته على سيئاته فذاك الذي يدخل الجنة بغير حساب‏.‏
    ومن استوت حسناته وسيئاته فذاك الذي يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته فذاك الذي أوبق نفسه وإنما الشفاعة في مثله ‏"‏ ويدخل في هذا حديث ابن عمر في النجوى وقد أخرجه المصنف في كتاب المظالم وفي تفسير سورة هود وفي التوحيد وفيه ‏"‏ ويدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول‏:‏ أعملت كذا وكذا‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم فيقرره‏.‏
    ثم يقول‏:‏ إني سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ‏
    (ج11/ ص 491)
    قال المازري‏:‏ مذهب أهل السنة أن الله تعالى أراد إيمان المؤمن وكفر الكافر، ولو أراد من الكافر الإيمان لآمن، يعني لو قدره عليه لوقع‏.‏
    وقال أهل الاعتزال‏:‏ بل أراد من الجميع الإيمان فأجاب المؤمن وامتنع الكافر، فحملوا الغائب على الشاهد لأنهم رأوا أن مريد الشر شرير والكفر شر فلا يصح أن يريده الباري‏.‏
    وأجاب أهل السنة عن ذلك بأن الشر شر في حق المخلوقين، وأما في حق الخالق فإنه يفعل ما يشاء، وإنما كانت إرادة الشر شرا لنهي الله عنه، والباري سبحانه ليس فوقه أحد يأمره فلا يصح أن تقاس إرادته على إرادة المخلوقين، وأيضا فالمريد لفعل ما إذا لم يحصل ما أراده آذن ذلك بعجزه وضعفه والباري تعالى لا يوصف بالعجز والضعف فلو أراد الإيمان من الكافر ولم يؤمن لآذن ذلك بعجز وضعف، تعالى الله عن ذلك‏.‏
    وقد تمسك بعضهم بهذا الحديث المتفق على صحته، والجواب عنه ما تقدم، واحتجوا أيضا بقوله تعالى ‏(‏ولا يرضى لعباده الكفر‏)‏ وأجيبوا بأنه من العام المخصوص بمن قضى الله له الإيمان، فعباده على هذا الملائكة ومؤمنو الإنس والجن وقال آخرون‏:‏ الإرادة معنى الرضا، ومعنى قوله ‏(‏ولا يرضى‏)‏ أي لا يشكره لهم ولا يثيبهم عليه، فعلى هذا فهي صفة فعل‏.‏
    وقيل معنى الرضا أنه لا يرضاه دينا مشروعا لهم، وقيل الرضا صفة وراء الإرادة، وقيل الإرادة تطلق بإزاء شيئين إرادة تقدير وإرادة رضا، والثانية أخص من الأولى والله أعلم‏.‏
    وقيل‏:‏ الرضا من الله إرادة الخير كما أن السخط إرادة الشر‏.‏
    (ج11/ ص 497)
    ووقع في رواية سعيد بن منصور عند مسلم ‏"‏ ولا يرقون ‏"‏ بدل ‏"‏ ولا يكتوون ‏"‏ وقد أنكر الشيخ تقي الدين بن تيمية هذه الرواية وزعم أنها غلط من راويها، واعتل بأن الراقي يحسن إلى الذي يرقينه فكيف يكون ذلك مطلوب الترك‏؟‏ وأيضا فقد رقي جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ورقي النبي أصحابه وأذن لهم في الرقي وقال ‏"‏ من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل ‏"‏ والنفع مطلوب‏.‏
    قال‏:‏ وأما المسترقي فإنه يسأل غيره ويرجو نفعه، وتمام التوكل ينافي ذلك‏.‏
    قال‏:‏ وإنما المراد وصف السبعين بتمام التوكيل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم ولا يتطيرون من شيء‏.‏
    وأجاب غيره بأن الزيادة من الثقة مقبولة وسعيد بن منصور حافظ وقد اعتمده البخاري ومسلم واعتمد مسلم على روايته هذه وبأن تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار إليه‏.‏
    والمعنى الذي حمله على التغليط موجود في المسترقي لأنه اعتل بأن الذي لا يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكيل فكذا يقال له والذي يفعل غيره به ذلك ينبغي أن لا يمكنه منه لأجل تمام التوكيل، وليس في وقوع ذلك من جبريل دلالة على المدعي ولا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم له أيضا دلالة لأنه في مقام التشريع وتبين الأحكام، ويمكن أن يقال إنما ترك المذكورون الرقي والاسترقاء حسما للمادة لأن فاعل ذلك لا يأمن أن يكل نفسه إليه وإلا فالرقية في ذاتها ليست ممنوعة وإنما منع منها ما كان شركا أو احتمله ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اعرضوا على رقاكم، ولا بأس بالرقي ما لم يكن شرك ‏"‏ ففيه إشارة إلى علة النهي كما تقدم تقرير ذلك واضحا في كتاب الطب، وقد نقل القرطبي عن غيره أن استعمال الرقي والكي قادح في التوكيل بخلاف سائر أنواع الطب، وفرق بين القسمين بأن البرء فيهما أمر موهوم وما عداهما محقق عادة كالأكل والشرب فلا يقدح، قال القرطبي وهذا فاسد من وجهين‏:‏ أحدهما أن أكثر أبواب الطب موهوم، والثاني أن الرقي بأسماء الله تعالى تقتضي التوكل عليه والالتجاء إليه والرغبة فيما عنده والتبرك بأسمائه، فلو كان ذلك قادحا في التوكل لقدح الدعاء إذ لا فرق بين الذكر والدعاء، وقد رقي النبي صلى الله عليه وسلم ورقي وفعله السلف والخلف، فلو كان مانعا من اللحاق بالسبعين أو قادحا في التوكل لم يقع من هؤلاء وفيهم من هو أعلم وأفضل ممن عداهم‏.‏
    وتعقب بأنه بني كلامه على أن السبعين المذكورين أرفع رتبة من غيرهم مطلقا، وليس كذلك لما سأبينه، وجوز أبو طالب بن عطية في ‏"‏ موازنة الأعمال ‏"‏ أن السبعين المذكورين هم المراد بقوله تعالى ‏(‏والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم‏)‏ فإن أراد أنهم من جملة السابقين فمسلم وإلا فلا، وقد أخرج أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث رفاعة الجهني قال ‏"‏ أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا وفيه ‏"‏ وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب، وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى تبوؤوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة ‏"‏ فهذا يدل على أن مزية السبعين بالدخول بغير حساب لا يستلزم أنهم أفضل من غيرهم، بل فيمن يحاسب في الجملة من يكون أفضل منهم وفيمن يتأخر عن الدخول ممن تحققت نجاته وعرف مقامه من الجنة يشفع في غيره من هو أفضل منهم،
    (ج11/ ص 498)
    وقال القرطبي وغيره‏:‏ قالت طائفة من الصوفية لا يستحق، اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله تعالى، حتى لو هجم عليه الأسد لا ينزعج، وحتى لا يسعى في طلب الرزق لكون الله ضمنه له‏.‏
    وأبي هذا الجمهور وقالوا‏:‏ يحصل التوكل بأن يثق بوعد الله ويوقن بأن قضاءه واقع، ولا يترك اتباع السنة في ابتغاء الرزق مما لا بد له منه من مطعم ومشرب وتحرز من عدو بإعداد السلاح وإغلاق الباب ونحو ذلك، ومع ذلك فلا يطمئن إلى الأسباب بقلبه بل يعتقد أنها لا تجلب بذاتها نفعا ولا تدفع ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى والكل بمشيئته، فإذا وقع من المرء ركون إلى السبب قدح في توكله، وهم مع ذلك فيه على قسمين‏:‏ واصل وسالك، فالأول صفة الواصل وهو الذي لا يلتفت إلى الأسباب ولو تعاطاها، وأما السالك فيقع له الالتفات إلى السبب أحيانا إلا أنه قد يدفع ذلك عن نفسه بالطرق العلمية والأذواق الحالية إلى أن يرتقي إلى مقام الواصل‏.‏
    وقال أبو القاسم القشيري‏:‏ التوكل محله القلب، وأما الحركة الظاهرة فلا تنافيه إذا تحقق العبد أن الكل من قبل الله، فإن تيسر شيء فبتيسره وإن تعسر فبتقديره‏.‏
    ومن الأدلة على مشروعية الاكتساب ما تقدم في البيوع من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ أفضل ما أكل الرجل من كسبه، وكان داود يأكل من كسبه ‏"‏ فقد قال تعالى ‏(‏وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم‏)‏ وقال تعالى ‏(‏وخذوا حذركم‏)‏ ‏.‏
    وسلك الكرماني في الصفات المذكورة مسلك التأويل فقال‏:‏ قوله ‏"‏ لا يكتوون ‏"‏ معناه إلا عند الضرورة مع اعتقاد أن الشفاء من الله لا من مجرد الكي، وقوله ‏"‏ويسترقون ‏"‏ معناه بالرقي التي ليست في القرآن والحديث الصحيح كرقي الجاهلية وما لا يؤمن أن يكون فيه شرك، وقوله ‏"‏ولا يتطيرون ‏"‏ أي لا يتشاءمون بشيء فكأن المراد أنهم الذين يتركون أعمال الجاهلية في عقائدهم‏.‏
    (ج11/ ص 500)
    قال الكلاباذي‏:‏ المراد بالأمة أولا أمة الإجابة، وبقوله آخرا أمتي أمة الاتباع، فإن أمته صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام‏:‏ أحدها أخص من الآخر أمة الاتباع ثم أمة الإجابة ثم أمة الدعوة، فالأولى أهل العمل الصالح والثانية مطلق المسلمين والثالثة من عداهم ممن بعث إليهم، ويمكن الجمع بأن القدر الزائد على الذي قبله هو مقدار الحثيات، فقد وقع عند أحمد من رواية قتادة عن النضر بن أنس أو غيره عن أنس رفعه ‏"‏ إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف، فقال أبو بكر‏:‏ زدنا يا رسول الله، فقال‏:‏ هكذا وجمع كفيه، فقال‏:‏ زدنا‏.‏
    فقال وهكذا‏.‏
    فقال عمر حسبك أن الله إن شاء أدخل خلقه الجنة بكف واحدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ صدق عمر ‏"‏ وسنده جيد لكن اختلف على قتادة في سنده اختلافا كثيرا‏.‏
    (ج11/ ص 502)
    وقد اختلقت أجوبة العلماء في الحكمة قوله ‏"‏ سبقك بها عكاشة ‏"‏ فأخرج ابن الجوزي في ‏"‏ كشف المشكل ‏"‏ من طريق أبي عمر الزاهد أنه سأل أبا العباس أحمد بن يحيى المعروف بالثعالبي عن ذلك فقال‏:‏ كان منافقا، وكذا نقله الدار قطني عن القاضي أبي العباس البرتي بكسر الموحدة وسكون الراء بعدها مثناة فقال‏:‏ كان الثاني منافقا، وكان صلى الله عليه وسلم لا يسأل في شيء إلا أعطاه، فأجابه بذلك‏.‏
    ونقل ابن عبد البر عن بعض أهل العلم نحو قول ثعلب‏.‏
    وقال ابن ناصر قول ثعلب أولى من رواية مجاهد لأن سندها واه واستبعد السهيلي قول ثعلب بما وقع في مسند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة ‏"‏ فقام رجل من خيار المهاجرين ‏"‏ وسنده ضعيف جدا مع كونه مخالفا لرواية الصحيح أنه من الأنصار‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ معنى قوله ‏"‏ سبقك ‏"‏ أي إلى إحراز هذه الصفات وهي التوكل وعدم التطير وما ذكر معه، وعدل عن قوله ‏"‏ لست منهم أو لست على أخلاقهم ‏"‏ تلطفا بأصحابه صلى الله عليه وسلم وحسن أدبه معهم‏.‏
    وقال ابن الجوزي ‏"‏ يظهر لي أن الأول سأل عن صدق قلب فأجيب، وأما الثاني فيحتمل أن يكون أريد به حسم المادة، فلو قال للثاني نعم لأوشك أن يقوم ثالث ورابع إلى ما لا نهاية له وليس كل الناس يصلح لذلك ‏"‏ وقال القرطبي‏:‏ لم يكن عند الثاني من تلك الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجب إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرا فيتسلسل، فسد الباب بقوله ذلك، وهذا أولى من قول من قال كان منافقا لوجهين‏:‏ أحدهما أن الأصل في الصحابة عدم النفاق فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح، والثاني أنه قل أن يصدر مثل هذا السؤال إلا عن قصد صحيح ويقين بتصديق الرسول، كيف صدر ذلك من منافق‏؟‏ وإلى هذا جنح ابن تيمية‏.‏
    وصحح النووي أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بالوحي أنه يجاب في عكاشة ولم يقع ذلك في حق الآخر‏.‏
    وقال السهيلي‏:‏ الذي عندي في هذا أنها كانت ساعة إجابة علمها صلى الله عليه وسلم واتفق أن الرجل قال بعدما انقضت، ويبينه ما وقع في حديث أبي سعيد ‏"‏ ثم جلسوا ساعة يتحدثون ‏"‏ وفي رواية ابن إسحاق بعد قوله سبقك بها عكاشة ‏"‏ وبردت الدعوة ‏"‏ أي انقضى وقتها‏.‏
    قلت‏:‏ فتحصل لنا من كلام هؤلاء الأئمة على خمسة أجوبة والعلم عند الله تعالى‏.‏
    ثم وجدت لقول ثعلب ومن وافقه مستندا وهو ما أخرجه الطبراني ومحمد بن سنجر في مسنده وعمر بن شيبة في ‏"‏ أخبار المدينة ‏"‏ من طريق نافع مولى حمنة عن أم قيس بنت محصن وهي أخت عكاشة أنها ‏"‏ خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع فقال‏:‏ يحشر من هذه المقبرة سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب كأن وجوههم القمر ليلة البدر، فقام رجل فقال‏:‏ يا رسول الله، وأنا‏؟‏ قال وأنت‏.‏
    مقام آخر فقال أنا‏؟‏ قال‏:‏ سبقك بها عكاشة قال قلت لها‏:‏ لم لم يقل للآخر‏؟‏ فقالت‏:‏ أراه كان منافقا ‏"‏ فإن كان هذا أصل ما جزم به من قال كان منافقا فلا يدفع تأويل غيره إذ ليس فيه إلا الظن‏.‏
    وقد أخرج الحاكم والبيهقي في ‏"‏ البعث ‏"‏ من طريق جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جابر رفعه ‏"‏ من زادت حسناته على سيئاته فذاك الذي يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فذاك الذي يحاسب حسابا يسيرا، ومن أوبق نفسه فهو الذي يشفع فيه بعد أن يعذب ‏"‏
    (ج11/ ص 511)
    قال القرطبي إنما كان النساء أقل ساكني الجنة لما يغلب عليهن من الهوى، والميل إلى عاجل زينة الدنيا، والإعراض عن الآخرة لنقص عقلهن وسرعة انخداعهن‏.‏
    وذكر مقاتل والكلبي في تفسيرهما في قوله تعالى ‏(‏الذي خلق الموت والحياة‏)‏ قال‏:‏ خلق الموت في صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيى‏.‏
    قال القرطبي‏:‏ الحكمة في الإتيان بالموت هكذا الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء له كما فدى ولد إبراهيم بالكبش، وفي الأملح إشارة إلى صفتي أهل الجنة والنار لأن الأملح ما فيه بياض وسواد‏.
    (ج11/ ص 513)
    ‏وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ بلغني أن آخر من يموت من الخلائق ملك الموت، فيقال له‏:‏ يا ملك الموت مت موتا لا تحيا بعده أبدا‏.‏
    فهذا لو كان ثابتا لكان حجة في الرد على من زعم أنه الذي يذبح لكونه مات قبل ذلك موتا لا حياة بعده، لكنه لم يثبت‏.‏
    وقال المازري‏:‏ الموت عندنا عرض من الأعراض، وعند المعتزلة ليس بمعنى، وعلى المذهبين لا يصح أن يكون كبشا ولا جسما، وأن المراد بهذا التمثيل والتشبيه‏.‏
    ثم قال‏:‏ وقد يخلق الله تعالى هذا الجسم ثم يذبح ثم يجعل مثالا لأن الموت لا يطرأ على أهل الجنة‏.‏
    وقال القرطبي في التذكرة‏:‏ الموت معنى والمعاني لا تنقلب جوهرا، وإنما يخلق الله أشخاصا من ثواب الأعمال، وكذا الموت يخلق الله كبشا يسميه الموت ويلقى في قلوب الفريقين أن هذا الموت يكون ذبحه دليلا على الخلود في الدارين‏.‏
    وقال غيره‏:‏ لا مانع أن ينشئ الله من الأعراض أجسادا يجعلها مادة لها كما ثبت في صحيح مسلم في حديث ‏"‏ إن البقرة وآل عمران يجيئان كأنهما غمامتان ‏"‏ ونحو ذلك من الأحاديث‏.‏
    قال القرطبي‏:‏ وفي هذه الأحاديث التصريح بأن خلود أهل النار فيها لا إلى غاية أمد، وإقامتهم فيها على الدوام بلا موت ولا حياة نافعة ولا راحة، كما قال تعالى ‏(‏لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها‏)‏ وقال تعالى ‏(‏كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها‏)‏ قال فمن زعم أنهم يخرجون منها وأنها تبقى خالية أو أنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى ما جاء به الرسول وأجمع عليه أهل السنة‏.‏
    قلت‏:‏ جمع بعض المتأخرين هذه المسألة سبعة أقوال‏:‏ أحدها هذا الذي نقل فيه الإجماع، والثاني يعذبون فيها إلى أن تنقلب طبيعتهم فتصير نارية حتى يتلذذوا بها لموافقة طبعهم وهذا قول بعض من ينسب إلى التصوف من الزنادقة، والثالث يدخلها قوم ويخلفهم آخرون كما ثبت في الصحيح عن اليهود وقد أكذبهم الله تعالى بقوله ‏(‏وما هم بخارجين من النار‏)‏ ، والرابع يخرجون منها وتستمر هي على حالها، الخامس تفنى لأنها حادثة وكل حادث يفنى وهو قول الجهمية، والسادس تفنى حركاتهم البتة وهو قول أبي الهذيل العلاف من المعتزلة، والسابع يزول عذابها ويخرج أهلها منها جاء ذلك عن بعض الصحابة أخرجه عبد بن حميد في تفسيره من رواية الحسن عن عمر قوله وهو منقطع ولفظه ‏"‏ لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه ‏"‏ وعن ابن مسعود ‏"‏ ليأتين عليها زمان ليس فيها أحد ‏"‏ قال عبيد الله بن معاذ راويه‏:‏ كان أصحابنا يقولون‏:‏ يعني به الموحدين‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا الأثر عن عمر لو ثبت حمل على الموحدين، وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول السابع ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب رديء مردود على قائله، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد‏.‏
    (ج11/ ص 519)
    وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن أنس قال‏:‏ من كذب بالشفاعة فلا نصيب له فيها‏.‏
    وأخرج البيهقي في البعث من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس‏:‏ خطب عمر فقال‏:‏ إنه سيكون في هذه الأمة قوم يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار‏.‏
    ومن طريق أبي هلال عن قتادة قال قال أنس‏:‏ يخرج قوم من النار، ولا نكذب بها كما يكذب بها أهل حروراء‏.‏
    يعني الخوارج‏.‏
    ال ابن بطال‏:‏ أنكرت المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين وتمسكوا بقوله تعالى ‏(‏فما تنفعهم شفاعة الشافعين‏)‏ ‏.‏
    وغير ذلك من الآيات‏.‏
    وأجاب أهل السنة بأنها في الكفار، وجاءت الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترة ودل عليها قوله تعالى ‏(‏عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا‏)‏ والجمهور على أن المراد به الشفاعة، وبالغ الواحدي فنقل فيه الإجماع، ولكنه أشار إلى ما جاء عن مجاهد وزيفه‏.‏
    وقال الطبري‏:‏ قال أكثر أهل التأويل المقام المحمود هو الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم ليريحهم من كرب الموقف، ثم أخرج عدة أحاديث بعضها التصريح بذلك وفي بعضها مطلق الشفاعة، فمنها حديث سلمان قال ‏"‏ فيشفعه الله في أمته فهو المقام المحمود ‏"‏ ومن طريق رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس ‏"‏ المقام المحمود الشفاعة ‏"‏ ومن طريق داود بن يزيد الأودي عن أبيه عن أبي هريرة في قوله تعالى ‏(‏عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا‏)‏ قال ‏"‏ سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هي الشفاعة ‏"‏
    من طريق الحسن البصري مثله، قال الطبري‏:‏ وقال ليث عن مجاهد في قوله تعالى ‏(‏مقاما محمودا‏)‏ ‏:‏ يجلسه معه على عرشه‏.‏
    ثم أسنده وقال‏:‏ الأول أولى، على أن الثاني ليس بمدفوع لا من جهة النقل ولا من جهة النظر‏.‏
    وقال ابن عطية‏:‏ هو كذلك إذا حمل على ما يليق به‏.‏
    وبالغ الواحدي في رد هذا القول، وأما النقاش فنقل عن أبي داود صاحب السنن أنه قال‏:‏ من أنكر هذا فهو متهم‏.‏
    وقد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبي وعن ابن عباس عند أبي الشيخ وعن عبد الله بن سلام قال‏:‏ إن محمدا يوم القيامة على كرسي الرب بين يدي الرب أخرجه الطبري‏.‏
    لشفاعة التي وردت في الأحاديث المذكورة في المقام المحمود نوعان‏:‏ الأول العامة في فصل القضاء، والثاني الشفاعة في إخراج المذنبين من النار وحديث سلمان الذي ذكره الطبري أخرجه ابن أبي شيبة أيضا، وحديث أبي هريرة أخرجه أحمد والترمذي، وحديث كعب أخرجه ابن حبان والحاكم وأصله في مسلم
    وقال الماوردي في تفسيره‏:‏ اختلف في المقام المحمود على ثلاثة أقوال، فذكر القولين‏:‏ الشفاعة والإجلاس، والثالث إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة‏.‏
    قال القرطبي‏:‏ هذا لا يغاير القول الأول، وأثبت غيره رابعا وهو ما أخرجه بن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن أبي هلال أحد صغار التابعين أنه بلغه أن المقام المحمود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون يوم القيامة بين الجبار وبين جبريل، فيغبطه بمقامه ذلك أهل الجمع‏.‏
    قلت‏:‏ وخامسا هو ما اقتضاه حديث حذيفة وهو ثناؤه على ربه، وسيأتي سياقه في شرح الحديث السابع عشر، ولكنه لا يغاير الأول أيضا‏.‏
    وحكى القرطبي سادسا وهو ما اقتضاه حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد والنسائي والحاكم قال ‏"‏ يشفع نبيكم رابع أربعة جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم لا يشفع أحد في أكثر مما يشفع فيه ‏"‏ الحديث، وهذا الحديث لم يصرح برفعه، وقد ضعفه البخاري وقال‏:‏ المشهور قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أنا أول شافع‏"‏‏.‏
    قلت‏:‏ وعلى تقدير ثبوته فليس في شيء من طرقه التصريح بأنه المقام لمحمود، مع أنه لا يغاير حديث الشفاعة في المذنبين، وجوز المحب الطبري سابعا وهو ما اقتضاه حديث كعب بن مالك الماضي ذكره فقال بعد أن أورده‏:‏ هذا يشعر بأن المقام المحمود غير الشفاعة، ثم قال‏:‏ ويجوز أن تكون الإشارة بقوله ‏"‏ فأقول ‏"‏ إلى المراجعة في الشفاعة‏.‏
    ن أرجح الأقوال في أصحاب الأعراف أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وشفاعة أخرى وهي شفاعته فيمن قال لا إله إلا الله ولم يعمل خيرا فقط، ومستندها رواية الحسن عن أنس
    (ج11/ ص 524)
    والقمقم معروف من آنية العطار، ويقال هو إناء ضيق الرأس يسخن فيه الماء يكون من نحاس وغيره فارسي ويقال رومي وهو معرب وقد يؤنث فيقال قمقمة، قال ابن التين‏:‏ في هذا التركيب نظر‏.‏
    وقال عياض‏:‏ الصواب ‏"‏ كما يغلي المرجل والقمقم
    فيجوز أن الله يضع عن بعض الكفار بعض جزاء معاصيه تطييبا لقلب الشافع لا ثوابا للكافر لأن حسناته صارت بموته على الكفر هباء‏.‏
    وأخرج مسلم عن أنس ‏"‏ وأما الكافر فيعطى حسناته في الدنيا حتى إذا أقصى إلى الآخرة لم تكن له حسنة ‏"‏ وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ اختلف في هذه الشفاعة هل هي بلسان قولي أو بلسان حالي‏؟‏ والأول يشكل بالآية، وجوابه جواز التخصيص؛ والثاني يكون معناه أن أبا طالب لما بالغ في إكرام النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه جوزي على ذلك بالتخفيف فأطلق على ذلك شفاعة لكونها بسببه‏.‏
    قال‏:‏ ويجاب عنه أيضا أن المخفف عنه لما لم يجد أثر التخفيف فكأنه لم ينتفع بذلك، ويؤيد ذلك ما تقدم أنه يعتقد أن ليس في النار أشد عذابا منه، وذلك أن القليل من عذاب جهنم لا تطيقه الجبال فالمعذب لاشتغاله بما هو فيه يصدق عليه أنه لم يحصل له انتفاع بالتخفيف‏.‏
    (ج11/ ص528)
    ذكر أبو حامد الغزالي في كشف علوم الآخرة أن بين إتيان أهل الموقف آدم وإتيانهم نوحا ألف سنة، وكذا بين كل نبي ونبي إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ولم أقف لذلك على أصل، ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها فلا يغتر بشيء منها‏.‏
    ................
    من كان أعرف بالله وأقرب إليه منزلة كان أعظم خوفا‏.


    ...........
    (ج11/ ص 536)
    أصل المسألة بأنه لا خلاف في عصمتهم من الكفر بعد النبوة وكذا قبلها على الصحيح، وكذا القول في الكبيرة على التفصيل المذكور، ويلتحق بها ما يزري بفاعله من الصغائر، وكذا القول في كل ما يقدح في الإبلاغ من جهة القول، واختلفوا في الفعل فمنعه بعضهم حتى في النسيان، وأجاز الجمهور السهو لكن لا يحصل التمادي، واختلفوا فيما عدا ذلك كله من الصغائر فذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم منها مطلقا، وأولوا الأحاديث والآيات الواردة في ذلك بضروب من التأويل، ومن جملة ذلك أن الصادر عنهم إما أن يكون بتأويل من بعضهم أو بسهو أو بإذن، لكن خشوا أن لا يكون ذلك موافقا لمقامهم فأشفقوا من المؤاخذة أو المعاتبة، قال‏:‏ وهذا أرجح المقالات، وليس هو مذهب المعتزلة وإن قالوا بعصمتهم مطلقا لأن منزعهم في ذلك التكفير بالذنوب مطلقا ولا يجوز على النبي الكفر، ومنزعنا أن أمة النبي مأمورة بالاقتداء به في أفعاله فلو جاز منه وقوع المعصية للزم الأمر بالشيء الواحد والنهي عنه في حالة واحدة وهو باطل‏.‏
    ثم قال عياض‏:‏ وجميع ما ذكر في حديث الباب لا يخرج عما قلناه لأن أكل آدم من الشجرة كان عن سهو، وطلب نوح نجاة ولده كان عن تأويل، ومقالات إبراهيم كانت معاريض وأراد بها الخير، وقتيل موسى كان كافرا كما تقدم بسط ذلك والله أعلم‏.‏
    (ج11/ ص543)
    ال النووي‏:‏ مذهب أهل السنة أن رؤية المؤمنين ربهم ممكنة ونفتها المبتدعة من المعتزلة والخوارج، وهو جهل منهم، فقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسلف الأمة على إثباتها في الآخرة للمؤمنين، وأجاب الأئمة عن اعتراضات المبتدعة بأجوبة مشهورة، ولا يشترط في الرؤية تقابل الأشعة ولا مقابلة المرئي وإن جرت العادة بذلك فيما بين المخلوقين والله أعلم‏.‏
    واعترض ابن العربي على رواية العلاء وأنكر هذه الزيادة وزعم أن المراجعة الواقعة في حديث الباب تكون بين الناس وبين الواسطة لأنه لا يكلم الكفار ولا يرونه البتة، وأما المؤمنون فلا يرونه إلا بعد دخول الجنة بالإجماع‏.‏
    (ج11/ ص 550)
    وللترمذي من حديث المغيرة ‏"‏ شعار المؤمنين على الصراط‏:‏ رب سلم سلم ‏"
    ودعوى الرسل يومئذ‏:‏ اللهم سلم سلم ‏"‏
    ............
    (ج11/ ص 552)
    وقد تمسك بظاهره بعض المبتدعة ممن زعم أن من وحد الله من أهل الكتاب يخرج من النار ولو لم يؤمن بغير من أرسل إليه، وهو قول باطل، فإن من جحد الرسالة كذب الله ومن كذب الله لم يوحده‏.‏
    ل النووي‏:‏ وظاهر الحديث أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة وهي الجبهة واليدان والركبتان والقدمان، وبهذا جزم بعض العلماء‏.‏
    وقال عياض‏:‏ ذكر الصورة ودارات الوجوه يدل على أن المراد بأثر السجود الوجه خاصة خلافا لمن قال يشمل الأعضاء السبعة، ويؤيد اختصاص الوجه أن في بقية الحديث ‏"‏ أن منهم من غاب في النار إلى نصف ساقيه ‏"‏ وفي حديث سمرة عند مسلم ‏"‏ وإلى ركبتيه ‏"‏ وفي رواية هشام بن سعد في حديث أبي سعيد ‏"‏ وإلى حقوه ‏"‏ قال النووي‏:‏ وما أنكره هو المختار، ولا يمنع من ذلك قوله في الحديث الآخر في مسلم ‏"‏ إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم ‏"‏ فإنه يحمل على أن هؤلاء قوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار، فيكون الحديث خاصا بهم وغيره عاما فيحمل على عمومه إلا ما خص منه‏.‏
    قلت‏:‏ إن أراد أن هؤلاء يخصون بأن النار لا تأكل وجوههم كلها وأن غيرهم لا تأكل منهم محل السجود خاصة وهو الجبهة سلم من الاعتراض، وإلا يلزمه تسليم ما قال القاضي في حق الجميع إلا هؤلاء، وإن كانت علامتهم الغرة كما تقدم النقل عمن قاله‏.
    (ج11/ ص 558)
    وقد وقع في ‏"‏ غرائب مالك للدار قطني ‏"‏ من طريق عبد الملك بن الحكم وهو واه عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه ‏"‏ إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة، فيقول أهل الجنة‏:‏ عند جهينة الخبر اليقين ‏"‏ وحكى السهيلي أنه جاء أن اسمه هناد، وجوز غيره أن يكون أحد الاسمين لأحد المذكورين والآخر للآخر‏.
    وقال النووي‏:‏ معنى قشبني سمني وآذاني وأهلكني، هكذا قاله جماهير أهل اللغة‏.‏
    وقال الداودي‏:‏ معناه غير جلدي وصورتي‏.‏
    قلت‏:‏ ولا يخفى حسن قول الخطابي، وأما الداودي فكثيرا ما يفسر الألفاظ الغريبة بلوازمها ولا يحافظ على أصول معانيها‏.‏
    وقال ابن أبي جمرة‏:‏ إذا فسرنا القشب بالنتن والمستقذر كانت فيه إشارة إلى طيب ريح الجنة وهو من أعظم نعيمها، وعكسها النار في جميع ذلك‏.‏
    وقال ابن القطاع‏:‏ قشب الشيء خلطه بما يفسده من سم أو غيره، وقشب الإنسان لطخه بسوء كاغتابه وعابه، وأصله السم فاستعمل بمعنى أصابه المكروه إذا أهلكه أو أفسده أو غيره أو أزال عقله أو تقذره هو، والله أعلم‏.‏
    ( ج11/ 559)
    وأما ذكا الغلام ذكاء بالمد فمعناه أسرعت فطنته‏.‏
    قال النووي‏:‏ المد والقصر لغتان ذكره جماعه فيها، وتعقبه مغلطاي بأنه لم يوجد عن أحد من المصنفين في اللغة ولا في الشارحين لدواوين العرب حكاية المد إلا عن أبي حنيفة الدينوري في ‏"‏ كتاب النبات ‏"‏ في مواضع منها ضرب العرب المثل بجمر الغضا لذكائه، قال‏:‏ وتعقبه علي بن حمزة الأصبهاني فقال‏:‏ ذكا النار مقصور ويكتب بالألف لأنه واوي يقال ذكت النار تذكو ذكوا وذكاء النار وذكو النار بمعنى وهو التهابها والمصدر ذكاء وذكو وذكو، بالتخفيف والتثقيل، فأما الذكاء بالمد فلم يأت عنهم في النار وإنما جاء في الفهم‏.‏
    وقال ابن قرقول في ‏"‏ المطالع ‏"‏ وعليه يعتمد الشيخ، وقع في مسلم فقد أحرقني ذكاؤها بالمد والمعروف في شدة حر النار القصر إلا أن الدينوري ذكر فيه المد وخطأه علي بن حمزة فقال‏:‏ ذكت النار ذكا وذكوا ومنه طيب ذكي منتشر الريح، وأما الذكاء بالمد فمعناه تمام الشيء ومنه ذكاء القلب‏.‏
    وقال صاحب الأفعال‏:‏ ذكا الغلام والعقل أسرع في الفطنة، وذكا الرجل ذكاء من حدة فكره، وذكت النار ذكا بالقصر توقدت‏.‏
    (ج11/ 562)
    وفيه إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، قال الطيبي‏:‏ وقول من أثبت الرؤية ووكل علم حقيقتها إلى الله فهو الحق، وكذا قول من فسر الإتيان بالتجلي هو الحق لأن ذلك قد تقدمه قوله ‏"‏ هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ‏"‏ وزيد في تقرير ذلك وتأكيده وكل ذلك يدفع المجاز عنه والله أعلم‏.‏
    واستدل به بعض السالمية ونحوهم على أن المنافقين وبعض أهل الكتاب يرون الله مع المؤمنين، وهو غلط لأن في سياق حديث أبي سعيد أن المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى بعد رفع رءوسهم من السجود وحينئذ يقولون أنت ربنا، ولا يقع ذلك للمنافقين ومن ذكر معهم، وأما الرؤية التي اشترك فيها الجميع قبل فقد تقدم أنه صورة الملك وغيره‏.‏
    قلت‏:‏ ولا مدخل أيضا لبعض أهل الكتاب في ذلك لأن في بقية الحديث أنهم يخرجون من المؤمنين ومن معهم ممن يظهر الإيمان ويقال لهم ما كنتم تعبدون‏؟‏ وأنهم يتساقطون في النار، وكل ذلك قبل الأمر بالسجود‏.‏
    وفيه أن جماعة من مذنبي هذه الأمة يعذبون بالنار ثم يخرجون بالشفاعة والرحمة خلافا لمن نفى ذلك عن هذه الأمة
    (ج11/ ص 567)
    وقال أبو عبد الله القرطبي في ‏"‏ التذكرة ‏"‏‏:‏ ذهب صاحب ‏"‏ القوت ‏"‏ وغيره إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، والصحيح، أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين أحدهما في الموقف قبل الصراط والآخر داخل الجنة وكل منهما يسمى كوثرا‏.‏
    قلت‏:‏ وفيه نظر لأن الكوثر نهر داخل الجنة
    (ج11/ 568-575)
    أنكره الخوارج وبعض المعتزلة، وممن كان ينكره عبيد الله بن زياد أحد أمراء العراق لمعاوية وولده، فعند أبي داود من طريق عبد السلام بن أبي حازم قال‏:‏ شهدت أبا برزة الأسلمي دخل على عبيد الله بن زياد فحدثني فلان وكان في السماط فذكر قصة فيها أن ابن زياد ذكر الحوض فقال هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئا‏؟‏ فقال أبو برزة‏:‏ نعم لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا ولا أربعا ولا خمسا فمن كذب به فلا سقاه الله منه‏.‏
    ال عياض‏:‏ أخرج مسلم أحاديث الحوض عن ابن عمر وأبي سعيد وسهل بن سعد وجندب وعبد الله بن عمرو وعائشة وأم سلمة وعقبة بن عامر وابن مسعود وحذيفة وحارثة بن وهب والمستورد وأبي ذر وثوبان وأنس وجابر بن سمرة، قال‏:‏ ورواه غير مسلم عن أبي بكر الصديق وزيد بن أرقم وأبي أمامة وأسماء بنت أبي بكر وخولة بنت قيس وعبد الله بن زيد وسويد بن جبلة وعبد الله الصنابحي والبراء بن عازب‏.‏
    وقال النووي بعد حكاية كلامه مستدركا عليه‏:‏ رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة ورواه غيرهما من رواية عمر وعائذ بن عمرو وآخرين، وجمع ذلك كله البيهقي في البعث بأسانيده وطرقه المتكاثرة‏.‏
    قلت‏:‏ أخرجه البخاري في هذا الباب عن الصحابة الذين نصب عياض لمسلم تخريجه عنهم إلا أم سلمة وثوبان وجابر بن سمرة وأبا ذر، وأخرجه أيضا عن عبد الله بن زيد وأسماء بنت أبي بكر وأخرجه مسلم عنهما أيضا وأغفلهما عياض،
    وفي حديث أبي ذر ‏"‏ ما بين عمان إلى أيلة ‏"‏ وعمان بضم المهملة وتخفيف النون بلد على ساحل البحر من جهة البحرين، وفي حديث أبي بردة عند ابن حبان ‏"‏ ما بين ناحيتي حوضي كما بين أيلة وصنعاء مسيرة شهر ‏"‏ وهذه الروايات متقاربة لأنها كلها نحو شهر أو تزيد أو تنقص‏.‏
    في لفظ ‏"‏ ما بين مكة وعمان
    وقد جمع العلماء بين هذا الاختلاف فقال عياض‏:‏ هذا من اختلاف التقدير لأن ذلك لم يقع في حديث واحد فيعد اضطرابا من الرواة وإنما جاء في أحاديث مختلفة عن غير واحد من الصحابة سمعوه في مواطن مختلفة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في كل منهما مثلا لبعد أقطار الحوض وسعته بما يسنح له من العبارة وبقرب ذلك للعلم ببعد بين البلاد النائية بعضها من بعض لا على إرادة المسافة المحققة، قال فبهذا يجمع بين الألفاظ المختلفة من جهة المعنى انتهى ملخصا، وفيه نظر من جهة أن ضرب المثل والتقدير إنما يكون فيما يتقارب، وأما هذا الاختلاف المتباعد الذي يزيد تارة على ثلاثين يوما وينقص إلى ثلاثة أيام فلا، قال القرطبي‏:‏ ظن بعض القاصرين أن الاختلاف في قدر الحوض اضطراب وليس كذلك، ثم نقل كلام عياض وزاد‏:‏ وليس اختلافا بل كلها تفيد أنه كبير متسع متباعد الجوانب، ثم قال‏:‏ ولعل ذكره للجهات المختلفة بحسب من حضره ممن يعرف تلك الجهة فيخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها، وأجاب النووي بأنه ليس في ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح فلا معارضة‏.‏
    وحاصله أنه يشير إلى أنه أخبر أولا بالمسافة اليسيرة ثم أعلم بالمسافة الطويلة فأخبره بها كأن الله تفضل عليه باتساعه شيئا بعد شيء فيكون الاعتماد على ما يدل على أطولها مسافة‏.‏
    وإذا تقرر ذلك رجع جميع المختلف إلى أنه لاختلاف السير البطيء والسير السريع، وسأحكي كلام ابن التين في تقدير المسافة بين جرباء وأذرح والله أعلم‏.

    انتهى كتاب الرقاق
    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    ويليه كتاب القدر من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله

    اسال الله العظيم ان يغفر ذنوبنا ويستر عيوبنا "
    الموافق 30 مارس 2020 م

  11. #211
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    تم ختم المجلد الحادي عشر بفضل من الله ومنة
    كتاب " القدر " و " الأيمان والنذور "
    ويليه المجلد الثاني عشر " كتاب " الفرائض "
    الموافق 7/ شعبان / 1441 هجري
    الموافق 31/ مارس / 2020 ميلادي
    وبهذه المناسبة " أسال الله العظيم رب العرش العظيم ان يصرف عنا هذا الوباء

    كتاب القدر
    ( ج11/ 582)
    قال الكرماني‏:‏ المراد بالقدر حكم الله‏.‏
    وقالوا - أي العلماء - القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله‏.‏
    وقال أبو المظفر بن السمعاني‏:‏ سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاره في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء العين ولا ما يطمئن به القلب، لأن القدر سر من أسرار الله تعالى اختص العليم الخبير به وضرب دونه الأستار وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب، وقيل إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف لهم قبل دخولها‏.‏
    انتهى وقد أخرج الطبراني بسند حسن من حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ إذا ذكر القدر فأمسكوا ‏"‏ وأخرج مسلم من طريق طاووس‏:‏ أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر، وسمعت عبد الله بن عمر يقول ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء بقدر حتى العجز والكيس‏"‏‏.‏
    (ج11/ ص 583)
    فسروا قوله تعالى ‏(‏في ظلمات ثلاث‏)‏ بأن المراد ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة البطن، فالمشيمة في الرحم والرحم في البطن‏.‏
    نقل الفاضل على بن المهذب الحموي الطبيب اتفاق الأطباء على أن خلق الجنين في الرحم يكون في نحو الأربعين، وفيها تتميز أعضاء الذكر دون الأنثى لحرارة مزاجه وقواه وأعبد إلى قوام المني الذي تتكون أعضاؤه منه ونضجه فيكون أقبل للشكل والتصوير، ثم يكون علقة مثل ذلك، والعلقة قطعة دم جامد، قالوا‏:‏ وتكون حركة الجنين في ضعف المدة التي يخلق فيها، ثم يكون مضغة مثل ذلك أي لحمة صغيرة وهي الأربعون الثالثة فتتحرك، قال‏:‏ واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر‏.‏
    ( ج11/ ص 584)
    واختلف في أول ما يتشكل من أعضاء الجنين فقيل قلبه لأنه الأساس وهو معدن الحركة الغريزية، وقيل الدماغ لأنه مجمع الحواس ومنه ينبعث، وقيل الكبد لأن فيه النمو والاغتذاء الذي هو قوام البدن، ورجحه بعضهم بأنه مقتضى النظام الطبيعي، لأن النمو هو المطلوب أولا ولا حاجة له حينئذ إلى حس ولا حركة إرادية لأنه حينئذ بمنزلة النبات، وإنما يكون له قوة الحس والإرادة عند تعلق النفس به فيقدم الكبد ثم القلب ثم الدماغ‏.‏
    وقال عياض‏:‏ اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم يختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يوما وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع وغير ذلك بحركة الجنين في الجوف‏.‏
    وقد قيل إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر وهو الدخول في الخامس، وزيادة حذيفة بن أسيد مشعرة بأن الملك لا يأتي لرأس الأربعين بل بعدها فيكون مجموع ذلك أربعة أشهر وعشرا، وهو مصرح به في حديث ابن عباس ‏"‏ إذا وقعت النطفة في الرحم مكثت أربعة أشهر وعشرا، ثم ينفخ فيها الروح ‏"‏ وما أشار إليه من عدة الوفاة جاء صريحا عن سعيد بن المسيب‏:‏ فأخرج الطبري عنه أنه سئل عن عدة الوفاة فقيل له‏:‏ ما بال العشرة بعد الأربعة أشهر‏؟‏ فقال‏:‏ ينفخ فيها الروح‏.‏
    وقد تمسك به من قال كالأوزاعي وإسحاق‏.‏
    (ج11/ ص 592)
    وفيه أن الأعمال حسنه وسيئها أمارات وليست بموجبات، وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء وجرى به القدر في الابتداء قاله الخطابي‏.‏
    قال ابن أبي جمرة نفع الله به‏:‏ هذه التي قطعت أعناق الرجال مع ما هم فيه من حسن الحال لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم‏.‏
    وفيه أن عموم مثل قوله تعالى ‏(‏من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم‏)‏ الآية مخصوص بمن مات على ذلك وأن من عمل السعادة وختم له بالشقاء فهو في طول عمره عند الله شقي وبالعكس وما ورد مما يخالفه يؤول إلى أن يؤول إلى هذا، وقد اشتهر الخلاف في ذلك بين الأشعرية والحنفية وتمسك الأشاعرة بمثل هذا الحديث وتمسك الحنفية بمثل قوله تعالى ‏(‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏)‏ وأكثر كل من الفريقين الاحتجاج لقوله، والحق أن النزاع لفظي، وأن الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي فيقع فيه المحو والإثبات كالزيادة في العمر والنقص وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله‏.‏
    (ج11/ ص 595)
    لسقط بعد الأربعة أشهر يصلي عليه لأنه وقت نفخ الروح فيه، وهو منقول عن القديم للشافعي والمشهور عن أحمد وإسحاق، وعن أحمد إذا بلغ أربعة أشهر وعشرا ففي تلك العشر ينفخ فيه الروح ويصلي عليه، والراجح عند الشافعية أنه لا بد من وجود الروح وهو الجديد، وقد قالوا فإذا بكي أو اختلج أو تنفس ثم بطل ذلك صلى عليه وإلا فلا، والأصل في ذلك من أخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم عن جابر رفعه ‏"‏ إذا استهل الصبي ورث وصلى عليه ‏"‏ وقد ضعفه النووي في شرح المهذب والصواب أنه صحيح الإسناد لكن المرجح عند الحفاظ وقفه، وعلى طريق الفقهاء لا أثر للتعليل بذلك لأن الحكم للرفع لزيادته، قالوا وإذا بلغ مائة وعشرين يوما غسل كفن ودفن بغير صلاة وما قبل ذلك لا يشرع له غسل ولا غيره، واستدل به على أن التخليق لا يكون إلا في الأربعين الثالثة فأقل ما يتبين فيه خلق الولد أحد وثمانون يوما وهي ابتداء الأربعين الثالثة وقد لا يتبين إلا في آخرها، ويترتب على ذلك أنه لا تنقضي العدة، بالوضع إلا ببلوغها وفيه خلاف، ولا يثبت للأمة أمية الولد إلا بعد دخول الأربعين الثالثة وهذا قول الشافعية والحنابلة وتوسع المالكية في ذلك فأداروا الحكم في ذلك على كل سقط ومنهم من قيده بالتخطيط ولو كان خفيا
    (ج11/ ص 596)
    الحث على الاستعاذة بالله تعالى من سوء الخاتمة، وقد عمل به جمع جم من السلف وأئمة الخلف، وأما ما قال عبد الحق في ‏"‏ كتاب العاقبة ‏"‏ أن سوء الخاتمة لا يقع لمن استقام باطنه وصلح ظاهره وإنما يقع لمن في طويته فساد أو ارتياب ويكثر وقوعه للمصر على الكبائر والمجترئ على العظائم فيهجم عليه الموت بغتة فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة، فقد يكون ذلك سببا لسوء الخاتمة نسأل الله السلامة، فهو محمول على الأكثر الأغلب‏.‏
    ( ج11/ ص 597)
    ن الأقدار غالبة والعاقبة غائبة فلا ينبغي لأحد أن يغتر بظاهر الحال، ومن ثم شرع الدعاء بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة
    حكى ابن التين أن عمر بن عبد العزيز لما سمع هذا الحديث أنكره وقال‏:‏ كيف يصح أن يعمل العبد عمره الطاعة ثم لا يدخل الجنة انتهى‏.‏
    وتوقف شيخنا ابن الملقن في صحة ذلك عن عمر، وظهر لي أنه إن ثبت عنه حمل على أن راويه حذف منه قوله في آخره ‏"‏ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ‏"‏ أو أكمل الراوي لكن استبعد عمر وقوعه وإن كان جائزا ويكون إيراده على سبيل التخويف من سوء الخاتمة‏.‏
    (ج11/ ص 599)
    ويقال إن عبد الله بن طاهر أمير خراسان للمأمون سأل الحسين بن الفضل عن قوله تعالى ‏(‏كل يوم هو في شأن‏)‏ مع هذا الحديث، فأجاب‏:‏ هي شئون يبديها لا شئون يبتديها؛ فقام إليه وقبل رأسه‏.‏
    (ج11/ 599)
    هو بصري تابعي ثقة، قيل كان كبير اللحية فلقب الرشك وهو بالفارسية كما زعم أبو على الغساني وجزم به ابن الجوزي الكبير اللحية‏.‏
    وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ كان غيورا فقيل له إرشك بالفارسية فمضى عليه الرشك‏.‏
    وقال الكرماني بل الرشك بالفارسية القمل الصغير الملتصق، بأصول شعر اللحية، وذكر الكلاباذي أن الرشك القسام‏.‏
    قلت‏:‏ بل كان يزيد يتعانى مساحة الأرض فقيل له القسام وكان يلقب الرشك لا أن مدلول الرشك القسام بل هما لقب ونسبة إلى صنعة، والمعتمد في أمره ما قال أبو حاتم، وما ليزيد في البخاري إلا هذا الحديث
    (ج11/ ص 600)
    ثبت في حديث ابن مسعود وغيره لكن لا اطلاع له على ذلك فعليه أن يبذل جهده ويجاهد نفسه في عمل الطاعة لا يترك وكولا إلى ما يؤول إليه أمره فيلام على ترك المأمور ويستحق العقوبة، وقد ترجم ابن حبان بحديث الباب ‏"‏ ما يجب على المرء من التشمير في الطاعات وإن جرى قبلها ما يكره الله من المحظورات ‏"‏ ولمسلم من طريق أبي الأسود عن عمران أنه قال له‏:‏ أرأيت ما يعمل الناس اليوم أشيء قضي عليهم ومضي فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم‏؟‏ فقال‏:‏ لا بل شيء قضى عليهم ومضى فهيم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل ‏(‏ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها‏)‏ وفيه قصة لأبي الأسود الدؤلي مع عمران وفيه قوله له‏:‏ أيكون ذلك ظلما‏؟‏ فقال‏:‏ لا كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل‏.‏
    قال عياض‏:‏ أورد عمران على أبي الأسود شبهة القدرية من تحكمهم على الله ودخولهم بآرائهم في حكمه، فلما أجابه بما دل على ثباته في الدين قواه بذكر الآية وهي حد لأهل السنة، وقوله كل خلق الله وملكه يشير إلى أن المالك الأعلى الخالق الآمر لا يعترض عليه إذا تصرف في ملكه بما يشاء، وإنما يعترض على المخلوق المأمور‏.‏
    (ج11/ ص 609)
    رت عادة البخاري أنه يترجم بما ورد في بعض طرق الحديث وإن لم يسق ذلك اللفظ بعينه ليبعث ذلك الناظر في كتابه على تتبع الطرق وليقدح الفكر في التطبيق ولغير ذلك من المقاصد التي فاق بها غيره من المصنفين كما تقرر غير مرة‏.‏
    (ج11/ ص 609)
    وقال النووي‏:‏ هي كلمة استسلام وتفويض وأن العبد لا يملك من أمره شيئا وليس له حيلة في دفع شر ولا قوة في جلب خير إلا بإرادة الله تعالى‏.‏
    (ج11/ ص 612)
    ‏باللمم‏)‏ بفتح اللام والميم هو ما يلم به الشخص من شهوات النفس، وقيل هو مقارفة الذنوب الصغار‏.‏
    وقال الراغب‏:‏ اللمم مقارفة المعصية ويعبر به عن الصغيرة، ومحصل كلام ابن عباس تخصيصه ببعضها، ويحتمل أن يكون أراد أن ذلك من جملة اللمم أو في حكم اللمم‏.‏
    قال الخطابي‏:‏ المراد باللمم ما ذكره الله في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم‏)‏ وهو المعفو عنه‏.‏
    وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏(‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم‏)‏ فيؤخذ من الآيتين أن اللمم من الصغائر وأنه يكفر باجتناب الكبائر، وقد تقدم بيان ذلك في الكلام على حديث‏:‏ ‏"‏ من هم بحسنة ومن هم بسيئة ‏"‏ في وسط كتاب الرقاق‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ تفضل الله على عباده بغفران اللمم إذا لم يكن للفرج تصديق بها فإذا صدقها الفرج كان ذلك كبيرة‏.‏
    (ج11/ ص 620)
    قال ابن عبد البر‏:‏ هذا الحديث أصل جسيم لأهل الحق في إثبات القدر وأن الله قضى أعمال العباد فكل أحد يصير لما قدر له بما سبق في علم الله، قال‏:‏ وليس فيه حجة للجبرية وإن كان في بادئ الرأي يساعدهم‏.‏
    وقال الخطابي في ‏"‏ معالم السنن ‏"‏‏:‏ يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر يستلزم الجبر وقهر العبد ويتوهم أن غلبة آدم كانت من هذا الوجه، وليس كذلك وإنما معناه الأخبار عن إثبات علم الله بما يكون من أفعال العباد وصدورها عن تقدير سابق منه، فإن القدر اسم لما صدر عن فعل القادر، وإذا كان كذلك فقد نفي عنهم من وراء علم الله أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور عن قصد وتعمد واختيار، فالحجة إنما نلزمهم بها واللائمة إنما تتوجه عليها، وجماع القول في ذلك أنهما أمران لا يبدل أحدهما عن الآخر‏:‏ أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء ونقضه وإنما جهة حجه آدم أن الله علم منهم أنه يتناول من الشجرة فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه، وإنما خلق للأرض وأنه لا يترك في الجنة بل ينقل منها إلى الأرض فكان تناوله من الشجرة سببا لإهباطه واستخلافه في الأرض كما قال تعالى قبل خلقه ‏(‏إني جاعل في الأرض خليفة‏)‏ قال فلما لامه موسى عن نفسه قال له‏:‏ أتلومني على أمر قدره الله على‏؟‏ فاللوم عليه من قبلك ساقط عني إذ ليس لأحد أن يعير أحدا بذنب كان منه، لأنه الخلق كلهم تحت العبودية سواء، وإنما يتجه اللوم من قبل الله سبحانه وتعالى إذ كان نهاه فباشر ما نهاه عنه، قال‏:‏ وقول موسى وإن كان في النفس منه شبهة وفي ظاهره تعلق لاحتجاجه بالسب لكن تعلق آدم بالقدر أرجح فلهذا غلبه‏.‏
    والغلبة تقع مع المعارضة كما تقع مع البرهان انتهى ملخصا‏.‏
    قال في أعلام الحديث نحوه ملخصا وزاد‏:‏ ومعنى قوله ‏"‏ فحج آدم موسى ‏"‏ دفع حجته التي ألزمه اللوم بها‏.‏
    قال‏:‏ ولم يقع من آدم إنكار لما صدر منه بل عارضه بأمر دفع به عنه اللوم‏.‏
    قلت‏:‏ ولم يتلخص من كلامه مع تطويله في الموضعين دفع للشبهة إلا في دعواه أنه ليس للآدمي أن يلوم آخر مثله على فعل ما قدره الله عليه، وإنما يكون ذلك لله تعالى لأنه هو الذي أمره ونهاه‏.‏
    الجواب من أوجه‏:‏ أحدها أن آدم إنما احتج بالقدر على المعصية لا المخالفة، فإن محصل لوم موسى إنما هو على الإخراج فكأنه قال أنا لم أخرجكم وإنما أخرجكم الذي رتب الإخراج على الأكل من الشجر والذي رتب ذلك قدره قبل أن أخلق فكيف تلومني على أمر ليس لي فيه نسبة إلا الأكل من الشجرة والإخراج المرتب عليها ليس من فعلي‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا الجواب لا يدفع شبهة الجبرية‏.‏
    ثانيها إنما حكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم بالحجة في معنى خاص وذلك لأنه لو كانت في المعنى العام لما تقدم من الله تعالى لومه بقوله ‏(‏ألم أنهكما عن تلكما الشجرة‏)‏ ولا أخذه بذلك حتى أخرجه من الجنة وأهبطه إلى الأرض، ولكن لما أخذ موسى في لومه وقدم قوله له أنت الذي خلقك الله بيده وأنت وأنت لم فعلت كذا‏؟‏ عارضه آدم بقوله أنت الذي اصطفاك الله وأنت وأنت‏.‏
    وحاصل جوابه إذا كنت بهذه المنزلة كيف يخفى عليك أنه لا محيد من القدر، وإنما وقعت الغلبة لآدم من وجهين‏:‏ أحدهما أنه ليس لمخلوق أن يلوم مخلوقا في وقوع ما قدر عليه إلا بإذن من الله تعالى فيكون الشارع هو اللائم، فلما أخذ موسى في لومه من غير أن يؤذن له في ذلك عارضه بالقدر فأسكته‏.‏
    والثاني أن الذي فعله آدم اجتمع فيه القدر والكسب، والتوبة تمحو أثر الكسب، وقد كان الله تاب عليه فلم يبق إلا القدر، والقدر لا يتوجه عليه لوم لأنه فعل الله ولا يسأل عما يفعل‏.‏
    ثالثها قال ابن عبد البر‏:‏ هذا عندي مخصوص بآدم لأن المناظرة بينهما وقعت بعد أن تاب الله على آدم قطعا كما قال تعالى ‏(‏فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه‏)‏ فحسن منه أن ينكر على موسى لومه على الأكل من الشجرة لأنه كان قد تيب عليه من ذلك وإلا فلا يجوز لأحد أن يقول لمن لامه على ارتكاب معصية كما لو قتل أو زنا أو سرق‏:‏ هذا سبق في علم الله وقدره علي قبل أن يخلقني فليس لك أن تلومني عليه، فإن الأمة أجمعت على جواز لوم من وقع منه ذلك بل على استحباب ذلك كما أجمعوا على استحباب محمدة من واظب على الطاعة‏.‏
    قال‏:‏ وقد حكى ابن وهب في كتاب القدر عن مالك عن يحيى بن سعيد أن ذلك كان من آدم بعد أن تيب عليه‏.‏
    رابعها إنما توجهت الحجة لآدم لأن موسى لامه بعد أن مات واللوم إنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف، فإن الأحكام حينئذ جارية عليهم، فيلام العاصي ويقام عليه الحد والقصاص وغير ذلك، وأما بعد أن يموت فقد ثبت النهي عن سبب الأموات ‏"‏ ولا تذكروا موتاكم إلا بخير ‏"‏ لأن مرجع أمرهم إلى الله، وقد ثبت أنه لا يثني العقوبة على من أقيم عليه الحد، بل ورد النهي عن التثريب على الأمة إذا زنت وأقيم عليها الحد، وإذا كان كذلك فلوم موسى لآدم إنما وقع بعد انتقاله عن دار التكليف، وثبت أن الله تاب عليه فسقط عنه اللوم، فلذلك عدل إلى الاحتجاج بالقدر السابق وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه غلب موسى بالحجة‏.‏
    قال المازري‏:‏ لما تاب الله على آدم صار ذكر ما صدر منه إنما هو كالبحث عن السبب الذي دعاه إلى ذلك، فأخبر هو أن الأصل في ذلك القضاء السابق فلذلك غلب بالحجة‏.‏
    قال الداودي فيما نقله ابن التين‏:‏ إنما قامت حجة آدم لأن الله خلقه ليجعله في الأرض خليفة، فلم يحتج آدم في أكله من الشجرة بسابق العلم لأنه كان عن اختيار منه، وإنما احتج بالقدر لخروجه لأنه لم يكن بد من ذلك‏.‏
    (ج11/ 625)
    قال الراغب‏:‏ هداية الله للخلق على أربعة أضرب‏:‏ الأول العامة لكل أحد بحسب احتماله وإليها أشار بقوله ‏(‏الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏)‏ ، والثاني الدعاء على ألسنة الأنبياء وإليها أشار بقوله ‏(‏وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا‏)‏ والثالث التوفيق الذي يختص به من اهتدى وإليها أشار بقوله ‏(‏ومن يؤمن بالله يهد قلبه‏)‏ وقوله ‏(‏والذين اهتدوا زادهم هدى‏)‏ ، والرابع الهدايات في الآخرة إلى الجنة وإليها أشار بقوله ‏(‏وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏)‏ قال‏:‏ وهذه الهدايات الأربع مرتبة فإنه من لا يحصل له الأولى لا تحصل له الثانية ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة ولا تحصل الرابعة إلا لمن حصلت له الثالثة ولا تحصل الثالثة إلا لمن حصلت له اللتان قبلها، وقد تحصل الأولى دون الثانية والثانية دون الثالثة، والإنسان لا يهدي أحدا إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون بقية الأنواع المذكورة، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى ‏(‏وانك لتهدي إلى صراط مستقيم‏)‏ وإلى بقية الهدايات أشار بقوله ‏(‏إنك لا تهدي من أحببت‏)‏ ‏.‏
    (ج11/ ص 636)
    وايم الله‏)‏ بكسر الهمزة وبفتحها والميم مضمومة، وحكى الأخفش كسرها مع كسر الهمزة، وهو اسم عند الجمهور وحرف عند الزجاج وهمزته همزة وصل عند الأكثر وهمزة قطع عند الكوفيين ومن وافقهم لأنه عندهم جمع يمين، وعند سيبويه ومن وافقه أنه اسم مفرد، واحتجوا بجواز كسر همزته وفتح ميمه‏.‏
    قال ابن مالك‏:‏ فلو كان جمعا لم تحذف همزته، واحتج بقول عروة بن الزبير لما أصيب بولده ورجله ‏"‏ ليمنك لئن ابتليت لقد عافيت ‏"‏ قال‏:‏ فلو كان جمعا لم يتصرف فيه بحذف بعضه، قال‏:‏ وفيه اثنتا عشرة لغة جمعتها في بيتين وهما‏:‏ همز ايم وايمن فافتح واكسر أو أم قل أو قل م أو من بالتثليث قد شكلا وايمن اختم به والله كلا أضف إليه في قسم تستوف ما نقلا قال ابن أبي الفتح تلميذ ابن مالك‏:‏ فإنه أم بفتح الهمزة وهيم بالهاء بدل الهمزة وقد حكاها القاسم بن أحمد المعلم الأندلسي في ‏"‏ شرح المفصل ‏"‏ وقد قدمت في أوائل هذا الشرح في آخر التيمم لغات في هذا فبلغت عشرين، وإذا حصر ما ذكر هنا زادت على ذلك‏.‏
    وقال غيره‏:‏ أصله يمين الله ويجمع أيمنا فيقال وأيمن الله حكاه أبو عبيدة وأنشد لزهير بن أبي سلمى‏:‏ فتجمع أيمن منا
    ونقل عن ابن عباس أن يمين الله من أسماء الله ومنه قول امرئ القيس‏:‏ فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ومن ثم قال المالكية والحنفية إنه يمين، وعند الشافعية إن نوى اليمين انعقدت وإن نوى غير اليمين لم ينعقد يمينا وإن أطلق فوجهان أصحهما لا ينعقد إلا إن نوى، وعن أحمد روايتان أصحهما الانعقاد، وحكى الغزالي في معناه وجهين أحدهما أنه كقوله تالله والثاني كقوله أحلف بالله وهو الراجح، ومنهم من سوى بينه وبين لعمر الله، وفرق الماوردي بأن لعمر الله شاع في استعمالهم عرفا بخلاف ايم الله، واحتج بعض من قال منهم بالانعقاد مطلقا بأن معناه يمين الله ويمين الله من صفاته وصفاته قديمة، وجزم النووي في التهذيب أن قول وايم الله كقوله وحق الله وقال إنه تنعقد به اليمين عند الإطلاق وقد استغربوه‏.‏
    (ج11/ ص 641)
    وقد جزم ابن حزم وهو ظاهر كلام المالكية والحنفية بأن جميع الأسماء الواردة في القرآن والسنة الصحيحة وكذا الصفات صريح في اليمين تنعقد به وتجب لمخالفته الكفارة، وهو وجه غريب عند الشافعية، وعندهم وجه أغرب منه أنه ليس في شيء من ذلك صريح إلا لفظ الجلالة وأحاديث الباب ترده‏.‏
    والمشهور عندهم وعند الحنابلة أنها ثلاثة أقسام‏.‏
    أحدها ما يختص به كالرحمن ورب العالمين وخالق الخلق فهو صريح تنعقد به اليمين سواء قصد الله أو أطلق‏.‏
    ثانيها ما يطلق عليه وقد يقال لغيره لكن بقيد كالرب والحق فتنعقد به اليمين إلا إن قصد به غير الله‏.‏
    ثالثها ما يطلق على السواء كالحي والموجود والمؤمن فإن نوى غير الله أو أطلق فليس بيمين وإن نوى به الله انعقد على الصحيح‏.‏
    وإذا تقرر هذا فمثل ‏"‏ والذي نفسي بيده ‏"‏ ينصرف عند الإطلاق لله جزما فإن نوى به غيره كملك الموت مثلا لم يخرج عن الصراحة على الصحيح، وفيه وجه عن بعض الشافعية وغيرهم، ويلتحق به ‏"‏ والذي فلق الحبة، ومقلب القلوب ‏"‏ وأما مثل ‏"‏ والذي أعبده، أو أسجد له، أو أصلي له ‏"‏ فصريح جزما،
    ( ج11/ ص 642)
    من حلف بصفة من صفات الله فحنث، ولا نزاع في أصل ذلك وإنما الخلاف في أي صفة تنعقد بها اليمين، والتحقيق أنها مختصة بالتي لا يشاركه فيها غيره كمقلب القلوب، قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ في الحديث جواز الحلف بأفعال الله إذا وصف بها ولم يذكر اسمه، قال وفرق الحنفية بين القدرة والعلم فقالوا‏:‏ إن حلف بقدرة الله انعقدت يمينه وإن حلف بعلم الله لم تنعقد لأن العلم يعبر به عن المعلوم كقوله تعالى ‏(‏قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا‏)‏ ‏.‏
    والجواب أنه هنا مجاز إن سلم أن المراد به المعلوم، والكلام إنما هو في الحقيقة‏.‏
    وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ القلب جزء من البدن خلقه الله وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة، وحصل ظاهر البدن محل التصرفات الفعلية والقولية، ووكل بها ملكا يأمر بالخير وشيطانا يأمر بالشر، فالعقل بنوره يهديه والهوى بظلمته يغويه والقضاء والقدر مسيطر على الكل والقلب ينقلب بين الخواطر الحسنة والسيئة واللمة من الملك تارة ومن الشيطان أخرى والمحفوظ من حفظه الله تعالى‏.‏
    (ج11/ ص 643)
    قال الخطابي‏:‏ حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حب الاختيار إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه‏.‏
    (ج11/ ص 644)
    الآن يا عمر ‏"‏ أي الآن عرفت فنطقت بما يجب‏.‏
    وأما تقرير بعض الشراح الآن صار إيمانك معتدا به، إذ المرء لا يعتد بإيمانه حتى يقتضي عقله ترجيح جانب الرسول‏.‏
    ففيه سوء أدب في العبارة، وما أكثر ما يقع مثل هذا في كلام الكبار عند عدم التأمل والتحرز لاستغراق الفكر في المعنى الأصلي، فلا ينبغي التشديد في الإنكار على من وقع ذلك منه بل يكتفي بالإشارة إلى الرد والتحذير من الاغترار به لئلا يقع المنكر في نحو مما أنكره‏.‏
    ( ج11/ ص 647)
    من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت‏)‏ قال العلماء‏:‏ السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، وظاهر الحديث تخصيص الحلف بالله خاصة، لكن قد اتفق الفقهاء على أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العلية، واختلفوا في انعقادها ببعض الصفات
    قال ابن عبد البر‏:‏ لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع، ومراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه، فإنه قال في موضع آخر‏:‏ أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها، والخلاف موجود عند الشافعية من أجل قول الشافعي‏:‏ أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية، فأشعر بالتردد، وجمهور أصحابه على أنه للتنزيه‏.‏
    وقال إمام الحرمين‏:‏ المذهب القطع بالكراهة، وجزم غيره بالتفصيل، فإن اعتقد في المحلوف فيه من التعظيم ما يعتقده في الله حرم الحلف به وكان بذلك الاعتقاد كافرا، وعليه يتنزل الحديث المذكور، وأما إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم فلا يكفر بذلك ولا تنعقد يمينه‏.‏
    قال الماوردي‏:‏ لا يجوز لأحد أن يحلف أحدا بغير الله لا بطلاق ولا عتاق ولا نذر، وإذا حلف الحاكم أحدا بشيء من ذلك وجب عزله لجهله‏.‏
    (ج11/ ص 650)
    وأما ما وقع مما يخالف ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي ‏"‏ أفلح وأبيه إن صدق ‏"‏ فقد تقدم في أوائل هذا الشرح في ‏"‏ باب الزكاة من الإسلام ‏"‏ في كتاب الأيمان الجواب عن ذلك وأن فيهم من طعن في صحة هذه اللفظة، قال ابن عبد البر‏:‏ هذه اللفظة غير محفوظة وقد جاءت عن راويها وهو إسماعيل بن جعفر بلفظ ‏"‏ أفلح والله إن صدق ‏"‏ قال‏:‏ وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ أفلح وأبيه لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح‏.‏
    ولم تقع في رواية مالك أصلا‏.‏
    وزعم بعضهم أن بعض الرواة عنه صحف قوله ‏"‏ وأبيه ‏"‏ من قوله ‏"‏ والله ‏"‏ وهو محتمل ولكن مثل ذلك لا يثبت بالاحتمال، وقد ثبت مثل ذلك من لفظ أبي بكر الصديق في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته فقال في حقه ‏"‏ وأبيك ما ليلك بليل سارق ‏"‏ أخرجه في الموطأ وغيره قال السهيلي‏:‏ وقد ورد نحو في حديث آخر مرفوع قال للذي سأل أي الصدقة أفضل فقال ‏"‏ وأبيك لتنبأن ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏
    (ج11/ ص 650)
    ذا ثبت ذلك فيجاب بأجوبة‏:‏ الأول أن هذا اللفظ كان يجرى على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف، وإلى هذا جنح البيهقي‏.‏
    وقال النووي‏:‏ إنه الجواب المرضي‏.‏
    الثاني أنه كان يقع في كلامهم على وجهين‏:‏ أحدهما للتعظيم والآخر للتأكيد، والنهي إنما وقع عن الأول فمن أمثلة ما وقع في كلامهم للتأكيد لا للتعظيم قول الشاعر ‏"‏ لعمر أبي الواشين إني أحبها ‏"‏ وقول الآخر‏.‏
    فإن تك ليلى استودعتني أمانة فلا وأبي أعدائها لا أذيعها فلا يظن أن قائل ذلك قصد تعظيم والد أعدائها كما لم يقصد الآخر تعظيم والد من وشى به، فدل على أن القصد بذلك تأكيد الكلام لا التعظيم‏.‏
    وقال البيضاوي‏:‏ هذا اللفظ من جملة ما يزاد في الكلام لمجرد التقرير والتأكيد ولا يراد به القسم، كما تزاد صيغة النداء لمجرد الاختصاص دون القصد إلى النداء، وقد تعقب الجواب بأن ظاهر سياق حديث عمر يدل على أنه كان يحلفه لأن في بعض طرقه أنه كان يقول لا وأبي لا وأبي فقيل له لا تحلفوا، فلولا أنه أتى بصيغة الحلف ما صادف النهي محلا، ومن ثم قال بعضهم وهو الجواب الثالث‏:‏ إن هذا كان جائزا ثم نسخ قاله الماوردي وحكاه البيهقي‏.‏
    وقال السبكي‏:‏ أكثر الشراح عليه، حتى قال ابن العربي‏:‏ وروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهى عن ذلك‏.‏
    قال‏:‏ وترجمة أبي داود تدل على ذلك، يعني قوله ‏"‏ باب الحلف بالآباء ‏"‏ ثم أورد الحديث المرفوع الذي فيه ‏"‏ أفلح وأبيه إن صدق ‏"‏ قال السهيلي ولا يصح لأنه لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحلف بغير الله ولا يقسم بكافر، تالله إن ذلك لبعيد من شيمته‏.‏
    وقال المنذري‏:‏ دعوى النسخ ضعيفة لإمكان الجمع ولعدم تحقق التاريخ‏.‏
    والجواب الرابع أن في الجواب حذفا تقديره أفلح ورب أبيه قاله البيهقي، وقد تقدم‏.‏
    الخامس أنه للتعجب قاله السهيلي
    لسادس أن ذلك خاص بالشارع دون غيره من أمته، وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال‏
    وقال ابن المنذر‏:‏ اختلف أهل العلم في معنى النهي عن الحلف بغير الله، فقالت طائفة هو خاص بالأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون به تعظيما لغير الله تعالى كاللات والعزى والآباء فهذه يأثم الحالف بها ولا كفارة فيها، وأما ما كان يؤول إلى تعظيم الله كقوله وحق النبي والإسلام والحج والعمرة والهدى والصدقة والعتق ونحوها مما يراد به تعظيم الله والقربة إليه فليس داخلا في النهي، وممن قال بذلك أبو عبيد وطائفة ممن لقيناه، واحتجوا بما جاء عن الصحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق والهدى والصدقة ما أوجبوه مع كونهم رأوا النهي المذكور، فدل على أن ذلك عندهم ليس على عمومه، إذ لو كان عاما لنهوا عن ذلك ولم يوجبوا فيه شيئا انتهى‏.‏
    وتعقبه ابن عبد البر بأن ذكر هذه الأشياء وإن كانت بصورة الحلف فليست يمينا في الحقيقة وإنما خرج عن الاتساع، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله‏.‏
    وقال المهلب‏:‏ كانت العرب تحلف بآبائها وآلهتها فأراد الله نسخ ذلك من قلوبهم لينسيهم ذكر كل شيء سواه ويبقى ذكره، لأنه الحق المعبود فلا يكون اليمين إلا به، والحلف بالمخلوقات في حكم الحلف بالآباء‏.‏
    (ج11/ ص 653)
    ال جمهور العلماء‏:‏ من حلف باللات والعزى أو غيرهما من الأصنام أو قال إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النبي صلى الله عليه وسلم لم تنعقد يمينه وعليه أن يستغفر الله ولا كفارة عليه ويستحب أن يقول لا إله إلا الله، وعن الحنفية تجب الكفارة إلا في مثل قوله أنا مبتدع أو بريء من النبي صلى الله عليه وسلم، واحتج بإيجاب الكفارة على المظاهر مع أن الظهار منكر من القول وزور كما قال الله تعال والحلف بهذه الأشياء منكر، وتعقب بهذا الخبر لأنه لم يذكر فيه إلا الأمر بلا إله إلا الله ولم يذكر فيه كفارة والأصل عدمها حتى يقام الدليل، وأما القياس على الظهار فلا يصح لأنهم لم يوجبوا فيه كفارة الظهار واستثنوا أشياء لم يوجبوا فيها كفارة أصلا مع أنه منكر من القول‏.‏
    وقال النووي في الأذكار‏:‏ الحلف بما ذكر حرام تجب التوبة منه، وسبقه إلى ذلك الماوردي وغيره ولم يتعرضوا لوجوب قول لا إله إلا الله وهو ظاهر الخبر وبه جزم ابن درباس في شرح المهذب‏.‏
    وقال البغوي في شرح السنة تبعا للخطابي‏:‏ في هذا الحديث دليل على أن لا كفارة على من حلف بغير الإسلام وإن أثم به، لكن تلزمه التوبة لأنه صلى الله عليه وسلم أمره بكلمة التوحيد
    وقال الطيبي‏:‏ الحكمة في ذكر القمار بعد الحلف باللات أن من حلف باللات وافق الكفار في حلفهم فأمر بالتوحيد، ومن دعا إلى المقامرة وافقهم في لعبهم فأمر بكفارة ذلك بالتصدق‏.‏
    قال‏:‏ وفي الحديث أن من دعا إلى اللعب فكفارته أن يتصدق، ويتأكد ذلك في حق من لعب بطريق الأولى‏.‏
    وقال النووي‏:‏ فيه أن من عزم على المعصية حتى استقر ذلك في قلبه أو تكلم بلسانه أنه تكتبه عليه الحفظة‏.‏
    كذا قال، وفي أخذ هذا الحكم من هذا الدليل وقفة‏.‏
    قال ابن المنذر‏:‏ اختلف فيمن قال أكفر بالله ونحو ذلك إن فعلت ثم فعل فقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار‏:‏ لا كفارة عليه ولا يكون كافرا إلا إن أضمر ذلك بقلبه‏.‏
    وقال الأوزاعي والثوري والحنفية وأحمد وإسحاق‏:‏ هو يمين، وعليه الكفارة‏.‏
    قال ابن المنذر‏:‏ والأول أصح لقوله ‏"‏ من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ‏"‏ ولم يذكر كفارة، زاد غيره‏:‏ ولذا قال ‏"‏ من حلف بملة غيره الإسلام فهو كما قال ‏"‏ فأراد التغليظ في ذلك حتى لا يجترئ أحد عليه‏.‏
    ونقل أبو الحسن بن القصار من المالكية عن الحنفية أنهم احتجوا لإيجاب الكفارة بأن في اليمين الامتناع من الفعل
    (ج11/ ص 659)
    ال ابن المنذر‏:‏ اختلف فيمن قال أقسمت بالله أو أقسمت مجردة فقال قوم هي يمين وإن لم يقصد، وممن روى ذلك عنه ابن عمر وابن عباس وبه قال النخعي والثوري والكوفيون‏.‏
    وقال الأكثرون لا تكون يمينا إلا أن ينوي‏.‏
    وقال مالك‏:‏ أقسمت بالله يمينا وأقسمت مجردة لا تكون يمينا إلا إن نوى‏.‏
    وقال الإمام الشافعي‏:‏ المجردة لا تكون يمينا أصلا ولو نوى، وأقسمت بالله إن نوى تكون يمينا‏.‏
    وقال إسحاق‏:‏ لا تكون يمينا أصلا‏.‏
    وعن أحمد كالأول وعنه كالثاني وعنه إن قال قسما بالله فيمين جزما لان التقدير أقسمت بالله قسما، وكذا لو قال إلية بالله، قال ابن المنير في الحاشية‏:‏ مقصود البخاري الرد على من لم يجعل القسم بصيغة أقسمت يمينا‏:‏ قال‏:‏ فذكر الآية وقد قرن فيها القسم بالله ثم بين أن هذا الاقتران ليس شرطا بالأحاديث فإن فيها أن هذه الصيغة بمجردها تكون يمينا تتصف بالبر وبالندب إلى إبرارها من غير الخلف، ثم ذكر من فروع هذه المسألة‏:‏ لو قال أقسم بالله عليك لتفعلن فقال نعم هل يلزمه يمين بقوله نعم وتجب الكفارة إن لم يفعل انتهى، وفيما قال نظر، والذي يظهر أن مراد البخاري أن يقيد ما أطلق في الأحاديث بما قيد به في الآية والعلم عند الله تعالى‏.‏
    ( ج11/ ص 662)
    ( كل ضعيف )
    وذكر الحاكم في ‏"‏ علوم الحديث ‏"‏ أن ابن خزيمة سئل من المراد بالضعيف هنا‏؟‏ فقال‏:‏ هو الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة في اليوم عشرين مرة إلى خمسين مرة‏.‏
    وقال الكرماني‏:‏ يجوز الكسر ويراد به المتواضع المتذلل،
    ( ج11/ ص 663)
    ل الشافعي فيما أخرجه البيهقي في المعرفة‏:‏ من قال وحق الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله يريد اليمين أو لا يريده فهي يمين انتهى‏.‏
    وقال غيره‏:‏ والقدرة تحتمل صفة الذات فتكون اليمين صريحة وتحتمل إرادة المقدور فتكون كناية كقول من يتعجب من الشيء‏:‏ انظر إلى قدرة الله، وكذا العلم كقوله‏:‏ اللهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك‏.‏
    (ج11/ ص 665)
    مح المصنف بهذه الترجمة إلى رد ما جاء عن ابن مسعود من الزجر عن الحلف بعزة الله، ففي ترجمة عون بن عبد الله بن عتبة من ‏"‏ الحلية لأبي نعيم ‏"‏ من طريق عبد الله بن رجاء عن المسعودي عن عون قال ‏"‏ قال عبد الله‏:‏ لا تحلفوا بحلف الشيطان أن يقول أحدكم وعزة الله ولكن قولوا كما قال الله تعالى رب العزة ‏"‏ انتهى‏.‏
    وفي المسعودي ضعف، وعون عن عبد الله منقطع


    ..........
    ( ج11/ ص 668)
    قال ابن عبد البر تفرد يحيى القطان عن هشام بذكر السبب في نزول الآية قلت‏:‏ قد صرح بعضهم برفعه عن عائشة أخرجه أبو داود من رواية إبراهيم الصائغ عن عطاء عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ لغو اليمين هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله ‏"‏ وأشار أبو داود إلى أنه اختلف على عطاء وعلى إبراهيم في رفعه ووقفه،
    قد أخرج ابن أبي عاصم من طريق الزبيدي وابن وهب في جامعه عن يونس وعبد الرزاق في مصنفه عن معمر كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة‏:‏ لغو اليمين ما كان في المراء والهزل والمراجعة في الحديث الذي كان يعقد عليه القلب، وهذا موقوف ورواية يونس تقارب الزبيدي، ولفظ معمر أنه القوم يتدارؤن يقول أحدهم لا والله وبلى والله وكلا والله ولا يقصد الحلف وليس مخالفا للأول وهو المعتمد‏.‏
    وأخرج ابن وهب عن الثقة عن الزهري بهذا السند هو الذي يحلف على الشيء لا يريد به إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه، وهذا يوافق القول الثاني، لكنه ضعيف من أجل هذا المبهم شاذ لمخالفة من هو أوثق منه وأكثر عددا‏.‏
    (ج11/ 671)
    اختلف السلف في ذلك على مذاهب ثالثها التفرقة بين الطلاق والعتاق فتجب فيه الكفارة مع الجهل والنسيان بخلاف غيرهما من الأيمان فلا تجب، وهذا قول عن الإمام الشافعي ورواية عن أحمد، والراجح عند الشافعية التسوية بين الجميع في عدم الوجوب، وعن الحنابلة عكسه وهو قول المالكية والحنفية‏.‏
    وقال ابن المنذر‏:‏ كان أحمد يوقع الحنث في النسيان في الطلاق حسب ويقف عما سوى ذلك‏.‏
    (ج11/ ص 671)
    ‏زرارة بن أوفى‏)‏ هو قاضي البصرة مات وهو ساجد أورده الترمذي وكان ذلك سنة ثلاث وتسعين‏.‏
    (ج11/ ص 679)
    نقل محمد بن نصر في اختلاف العلماء ثم ابن المنذر ثم ابن عبد البر اتفاق الصحابة على أن لا كفارة في اليمين الغموس، وروى آدم بن أبي إياس في مسند شعبة وإسماعيل القاضي في الأحكام عن ابن مسعود ‏"‏ كنا نعد الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذبا ليقتطعه ‏"‏ قال ولا مخالف له من الصحابة، واحتجوا بأنها أعظم من أن تكفر، وأجاب من قال بالكفارة كالحكم وعطاء والأوزاعي ومعمر والشافعي بأنه أحوج للكفارة من غيره وبأن الكفارة لا تزيده إلا خيرا، والذي يجب عليه الرجوع إلى الحق ورد المظلمة، فإن لم يفعل كفر فالكفارة لا ترفع عنه حكم التعدي بل تنفعه في الجملة‏.‏
    وقد طعن ابن حزم في صحة الأثر عن ابن مسعود واحتج بإيجاب الكفارة فيمن تعمد الجماع في صوم رمضان وفيمن أفسد حجه، قال‏:‏ ولعلهما أعظم إثما من بعض من حلف اليمين الغموس، ثم قال‏:‏ وقد أوجب المالكية الكفارة على من حلف أن لا يزني ثم زنى ونحو ذلك، ومن حجة الشافعي قوله في الحديث الماضي في أول كتاب الأيمان ‏"‏ فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ‏"‏ فأمر من تعمد الحنث أن يكفر فيؤخذ منه مشروعية الكفارة لمن حلف حانثا‏.‏
    (ج11/ ص 683)
    من اليهود لأن جماعة من اليمن كانوا تهودوا لما غلب يوسف ذو نواس على اليمن فطرد عنها الحبشة فجاء الإسلام وهم على ذلك، وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في أوائل السيرة النبوية مبسوطا، وقد تقدم في الشرب أن اسم ابن عمه المذكور الخفشيش بن معدان بن معد يكرب، وبينت الخلاف في ضبط الخفشيش وأنه لقب واسمه جرير وقيل معدان حكاه ابن طاهر، والمعروف أنه اسم كنيته أبو الخير‏.‏
    وأخرج الطبراني من طريق الشعبي عن الأشعث قال‏:‏ ‏"‏ خاصم رجل من الحضرميين رجلا منا يقال له الخفشيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي جيء بشهودك على حقك وإلا حلف لك ‏"‏
    وأخرج الطبراني من طريق الشعبي عن الأشعث قال‏:‏ ‏"‏ خاصم رجل من الحضرميين رجلا منا يقال له الخفشيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي جيء بشهودك على حقك وإلا حلف لك ‏"‏
    وقد أخرج أحمد والنسائي من حديث عدي بن عميرة الكندي قال‏:‏ ‏"‏ خاصم رجل من كندة يقال له امرؤ القيس بن عابس الكندي رجلا من حضر موت في أرض ‏"‏ فذكر نحو قصة الأشعث وفيه ‏"‏ إن مكنته من اليمين ذهبت أرضي‏.‏
    وقال من حلف ‏"‏ فذكر الحديث وتلا الآية، ومعد يكرب جد الخفشيش وهو جد الأشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية، فهو ابن عمه حقيقة‏.‏
    وقد ذكروا الخفشيش في الصحابة، واستشكله بعض مشايخنا لقوله في الطريق المذكورة قريبا إنه يهودي ثم قال يحتمل أنه أسلم‏.‏
    (ج11/ ص 688)
    قال الكرماني‏:‏ الظاهر أنه من تصرفات النقلة من أصل البخاري فإنه مات وفيه مواضع مبيضة من تراجم بلا حديث وأحاديث بلا ترجمة فأضافوا بعضا إلى بعض‏.‏
    (ج11/ 690)
    وقال مجاهد‏:‏ كلمة التقوى لا إله إلا الله‏)‏ وصله عبد بن حميد من طريق منصور بن المعتمر عن مجاهد بهذا موقوفا على مجاهد، وقد جاء مرفوعا من أحاديث جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب وأبو هريرة وابن عباس وسلمة بن الأكوع وابن عمر أخرجها كلها أبو بكر بن مردويه في تفسيره، وحديث أبي عند الترمذي وذكر أنه سأل أبا زرعة عنه فلم يعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وأخرجه أبو العباس البريقي في جزئه المشهور موقوفا على جماعة من الصحابة والتابعين‏.
    كتاب " النذور "
    (ج11/ ص 697)
    وقال النووي من ادعى حقا على رجل فأحلفه الحاكم انعقدت يمينه على ما نواه الحاكم ولا تنفعه التورية اتفاقا، فإن حلف بغير استحلاف الحاكم نفعت التورية إلا أنه إن أبطل بها حقا أثم وإن لم يحنث، وهذا كله إذا حلف بالله فإن حلف بالطلاق أو العتاق نفعته التورية ولو حلفه الحاكم لأن الحاكم ليس له أن يحلفه بذلك كذا أطلق، وينبغي فيما إذا كان الحاكم يرى جواز التحليف بذلك أن لا تنفعه التورية‏.‏
    وقد اختلف السلف فيمن نذر أن يتصدق بجميع ماله على عشرة مذاهب فقال مالك‏:‏ يلزمه الثلث بهذا الحديث، ونوزع في أن كعب بن مالك لم يصرح بلفظ النذر ولا بمعناه، بل يحتمل أنه نجز النذر، ويحتمل أن يكون أراده فاستأذن،
    وقد اختلف السلف فيمن نذر أن يتصدق بجميع ماله على عشرة مذاهب فقال مالك‏:‏ يلزمه الثلث بهذا الحديث، ونوزع في أن كعب بن مالك لم يصرح بلفظ النذر ولا بمعناه، بل يحتمل أنه نجز النذر، ويحتمل أن يكون أراده فاستأذن، والانخلاع الذي ذكره ليس بظاهر في صدور النذر منه، وإنما الظاهر أنه أراد أن يؤكد أمر توبته بالتصدق بجميع ماله شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليه وقال الفاكهاني في شرح العمدة‏:‏ كان الأولى بكعب أن يستشير ولا يستبد برأيه، لكن كأنه قامت عنده حال لفرحه بتوبته ظهر له فيها أن التصدق بجميع ماله مستحق عليه في الشكر فأورد الاستشارة بصيغة الجزم انتهى
    من ثم كان الراجح عند الكثير من العلماء وجوب الوفاء لمن التزم أن يتصدق بجميع ماله إلا إذا كان على سبيل القرية، وقيل إن كان مليا لزمه وإن كان فقيرا فعليه كفارة يمين، وهذا قول الليث ووافقه ابن وهب وزاد‏.‏
    وإن كان متوسطا يخرج قدر زكاة ماله
    أن التصدق بجميع المال يختلف باختلاف الأحوال، فمن كان قويا على ذلك يعلم من نفسه الصبر لم يمنع وعليه يتنزل فعل أبي بكر الصديق وإيثار الأنصار على أنفسهم المهاجرين ولو كان بهم خصاصة، ومن لم يكن كذلك فلا وعليه يتنزل ‏"‏ لا صدقة إلا عن ظهر غني ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غني ‏"‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ في حديث كعب أن للصدقة أثرا في محو الذنوب ومن ثم شرعت الكفارة المالية، ونازعه الفاكهاني فقال‏:‏ التوبة تجب ما قبلها، وظاهر حال كعب أنه أراد فعل ذلك على جهة الشكر‏.


    (ج11/ ص 700)
    ‏نذر اللجاج وهو أن يقول مثلا طعام كذا أو شراب كذا علي حرام أو نذرت أو لله علي أن لا أكل كذا أو لا أشرب كذا، والراجح من أقوال العلماء أن ذلك لا ينعقد إلا إن قرنه بحلف فيلزمه كفارة يمين‏.‏
    قال ابن المنذر‏:‏ اختلف فيمن حرم على نفسه طعاما أو شرابا يحل فقالت طائفة‏:‏ لا يحرم عليه وتلزمه كفارة يمين، وبهذا قال أهل العراق‏.‏
    وقالت طائفة‏:‏ لا تلزمه الكفارة إلا إن حلف، وإلى ترجيح هذا القول أشار المصنف
    ال إسماعيل القاضي‏:‏ الفرق بين المرأة والأمة أنه لو قال امرأتي علي حرام فهو فراق التزمه فتطلق، ولو قال لأمته من غير أن يحلف فإنه ألزم نفسه ما لم يلزمه فلا تحرم عليه أمته، قال الشافعي‏:‏ لا يقع عليه شيء إذا لم يحلف إلا إذا نوى الطلاق فتطلق أو العتق فتعتق، وعنه يلزمه كفارة يمين‏.‏
    (ج11/ ص 703)
    قال ابن الأثير في النهاية‏:‏ تكرر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضرا ولا يغير قضاء فقال‏:‏ لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم أو تصرفوا به عنكم ما قدره عليكم، فإذا نذرتم فاخرجوا بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم، انتهى كلامه‏.‏
    ونسبه بعض شراح المصابيح للخطابي وأصله من كلام أبي عبيد فيما نقله ابن المنذر في كتابه الكبير فقال‏:‏ كان أبو عبيد يقول وجه النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثما، ولو كان كذلك ما أمر الله أن يوفى به ولا حمد فاعله، ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يتهاون به فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به‏.‏
    ثم استدل بما ورد من الحث على الوفاء به في الكتاب والسنة، وإلى ذلك أشار المازري بقوله‏:‏ ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر والحض على الوفاء به‏.‏
    قال‏:‏ وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث‏.‏
    ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صارت عليه ضربة لازب، وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار، ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم ينذر القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب‏.‏
    قال‏:‏ ويشير إلى هذا التأويل قوله ‏"‏ إنه لا يأتي بخير ‏"‏ وقوله ‏"‏ إنه لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له ‏"‏ وهذا كالنص على هذا التعليل ا هـ‏.‏
    وقال الخطابي في الأعلام‏:‏ هذا باب من العلم غريب، وهو أن ينهي عن فعل شيء حتى إذا فعل كان واجبا، وقد ذكر أكثر الشافعية - ونقله أبو علي السنجي عن نص الشافعي - أن النذر مكروه لثبوت النهي عنه وكذا نقل عن المالكية وجزم به عنهم ابن دقيق العيد، وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم والجزم عن الشافعية بالكراهة، قال‏:‏ واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة لأنه لم يقصد به خالص القربة وإنما قصد أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضررا بما التزمه‏.‏
    وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم وتوقف بعضهم في صحتها‏.‏
    وقال الترمذي بعد أن ترجم كراهة النذر وأورد حديث أبي هريرة ثم قال‏:‏ وفي الباب عن ابن عمر العمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كرهوا النذر‏.‏
    وقال ابن المبارك‏:‏ معنى الكراهة في النذر في الطاعة وفي المعصية، فإن نذر الرجل في الطاعة فوفى به فله فيه أجر ويكره له النذر‏.‏
    وجزم القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال‏:‏ هذا النهي محله أن يقول مثلا إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا، ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكور على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى لما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعارضة، ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه، وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبا‏.‏
    وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث لقوله ‏"‏ إنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يخرجه ‏"‏ قال وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن الله يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإشارة بقوله في الحديث أيضا ‏"‏ فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا ‏"‏ والحالة الأولى تقارب الكفر والثانية خطأ صريح‏.‏
    قلت‏:‏ بل تقرب من الكفر أيضا‏.‏
    ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة وقال‏:‏ الذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرما والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك ا هـ‏.‏
    وهو تفصيل حسن، ويؤيده قصة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر فإنها في نذر المجازاة‏.‏
    قد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى ‏(‏يوفون بالنذر‏)‏ قال كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله أبرارا، وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة، وكأن البخاري رمز في الترجمة إلى الجمع بين الآية والحديث بذلك وقد يشعر التعبير بالبخيل أن المنهي عنه من النذر ما فيه مال فيكون أخص من المجازاة، لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة كما في الحديث المشهور ‏"‏ البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي ‏"‏ أخرجه النسائي وصححه ابن حبان، أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي‏.‏
    ثم نقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه ‏"‏ ولم يفرق بين المعلق وغيره انتهى، والاتفاق الذي ذكره مسلم، لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلق
    (ج11/ ص707)
    قال الراغب‏:‏ البخل إمساك ما يقتضي عمن يستحق، والشح بخل مع حرص، واللؤم فعل ما يلام عليه‏.‏
    قال البيضاوي‏:‏ عادة الناس تعليق النذر على تحصيل منفعة أو دفع مضرة، فنهي عنه لأنه فعل البخلاء إذ السخي إذا أراد أن يتقرب بادر إليه والبخيل لا تطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عوض يستوفيه أولا فيلتزمه في مقابلة ما يحصل له، وذلك لا يغني من القدر شيئا فلا يسوق إليه خيرا، لم يقدر له ولا يرد عنه شرا قضى عليه، لكن النذر قد يوافق القدر فيخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليخرجه، قال ابن العربي‏:‏ فيه حجة على وجوب الوفاء بما التزمه الناذر، لأن الحديث نص على ذلك بقوله ‏"‏ يستخرج به ‏"‏ فإنه لو لم يلزمه إخراجه لما تم المراد من وصفه بالبخل من صدور النذر عنه، إذ لو كان مخيرا في الوفاء لاستمر لبخله على عدم الإخراج‏.‏
    (ج11/ ص 707)
    ما أخرجه الترمذي من حديث أنس ‏"‏ إن الصدقة تدفع ميتة السوء ‏"‏ فظاهره يعارض قوله ‏"‏ إن النذر لا يرد القدر ‏"‏ ويجمع بينهما بأن الصدقة تكون سببا لدفع ميتة السوء، والأسباب مقدرة كالمسببات، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الرقي هل ترد من قدر الله شيئا‏؟‏ قال ‏"‏ هي من قدر الله ‏"‏ أخرجه أبو داود والحاكم، ونحوه قول عمر ‏"‏ نفر من قدر الله إلى قدر الله ‏"‏ كما تقدم تقريره في كتاب الطب، ومثل ذلك مشروعية الطب والتداوي‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ النذر شبيه بالدعاء فإنه لا يرد القدر ولكنه من القدر أيضا، ومع ذلك فقد نهي عن النذر وندب إلى الدعاء، والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله والتضرع له والخضوع، وهذا بخلاف النذر فإن فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة والله أعلم‏.
    (ج11/ ص 712)
    ‏وجاء عن ابن عمر وابن عباس خلاف ذلك فقال مالك في الموطأ‏:‏ إنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول‏:‏ لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد‏.‏
    وأخرج النسائي من طريق أيوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال‏:‏ لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد أورده ابن عبد البر من طريقه موقوفا ثم قال‏:‏ والنقل في هذا عن ابن عباس مضطرب‏.‏
    قلت‏:‏ ويمكن الجمع بحمل الإثبات في حق من مات والنفي في حق الحي، ثم وجدت عنه ما يدل على تخصيصه في حق الميت بما إذا مات وعليه شيء واجب فعند ابن أبي شيبة بسند صحيح‏:‏ سئل ابن عباس عن رجل مات وعليه نذر فقال‏:‏ يصام عنه النذر‏.‏
    وقال ابن المنير‏:‏ يحتمل أن يكون ابن عمر أراد بقوله ‏"‏ صلى عنها ‏"‏ العمل بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ‏"‏ فعد منها الولد لأن الولد من كسبه فأعماله الصالحة مكتوبة للوالد من غير أن ينقص من أجره، فمعنى صلى عنها أن صلاتك مكتتبة لها ولو كنت إنما تنوي عن نفسك، كذا قال ولا يخفى تكلفه‏.‏
    وحاصل كلامه تخصيص الجواز بالولد، وإلى ذلك جنح ابن وهب وأبو مصعب من أصحاب الإمام مالك، وفيه تعقب على ابن بطال حيث نقل الإجماع أنه لا يصلي أحد عن أحد لا فرضا ولا سنة لا عن حي ولا عن ميت، ونقل عن المهلب أن ذلك لو جاز لجاز في جميع العبادات البدنية ولكان الشارع أحق بذلك أن يفعله عن أبويه، ولما نهي عن الاستغفار لعمه، ولبطل معنى قوله ‏(‏ولا تكسب كل نفس إلا عليها ‏)‏ انتهى‏.‏
    (ج11/ ص 713)
    في قصة سعد بن عبادة ‏(‏فكانت سنة بعد‏)‏ أي صار قضاء الوارث ما على المورث طريقة شرعية أعم من أن يكون وجوبا أو ندبا، ولم أر هذه الزيادة في غير رواية شعيب عن الزهري، فقد أخرج الحديث الشيخان من رواية مالك والليث وأخرجه مسلم أيضا من رواية ابن عيينة ويونس ومعمر وبكر بن وائل والنسائي من رواية الأوزاعي والإسماعيلي من رواية موسى بن عقبة وابن أبي عتيق وصالح بن كيسان كلهم عن الزهري بدونها، وأظنها من كلام الزهري ويحتمل من شيخه، وفيها تعقب على ما نقل عن مالك لا يحج أحد عن أحد، واحتج بأنه لم يبلغه عن أحد من أهل دار الهجرة منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج عن أحد ولا أمر به ولا أذن فيه، فيقال لمن قلد، قد بلغ ذلك غيره؛ وهذا الزهري معدود في فقهاء أهل المدينة وكان شيخه في هذا الحديث، وقد استدل بهذه الزيادة ابن حزم للظاهرية ومن وافقهم في أن الوارث يلزمه قضاء النذر عن مورثه في جميع الحالات، قال‏:‏ وقد وقع نظير ذلك في حديث الزهري عن سهيل في اللعان لما فارقها الرجل قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراقها قال‏:‏ فكانت سنة‏.‏
    واختلف في تعيين نذر أم سعد فقيل كان صوما لما رواه مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ‏"‏ جاء رجل فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏"‏ الحديث، وتعقب بأنه لم يتعين أن الرجل المذكور هو سعد بن عبادة، وقيل كان عتقا قاله ابن عبد البر، واستدل بما أخرجه من طريق القاسم بن محمد ‏"‏ أن سعد بن عبادة قال‏:‏ يا رسول الله إن أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏"‏ وتعقب بأنه مع إرساله ليس فيه التصريح بأنها كانت نذرت ذلك، وقيل كان نذرها صدقة وقد ذكرت دليله من الموطأ وغيره من وجه آخر عن سعد بن عبادة ‏"‏ أن سعدا خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لأمه‏:‏ أوص، قالت‏:‏ المال مال سعد؛ فتوفيت قبل أن يقدم فقال‏:‏ يا رسول الله هل ينفعها أن أتصدق عنها‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏"‏ وعند أبي داود من وجه آخر نحوه وزاد ‏"‏ فأي الصدقة أفضل‏؟‏ قال‏:‏ الماء ‏"‏ الحديث‏.‏
    في الحديث قضاء الحقوق الواجبة عن الميت، وقد ذهب الجمهور إلى أن من مات وعليه نذر مالي أنه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوص إلا إن وقع النذر في مرض الموت فيكون من الثلث، وشرط المالكية والحنفية أن يوصي بذلك مطلقا، واستدل للجمهور بقصة أم سعد هذه، وقول الزهري إنها صارت سنة بعد، ولكن يمكن أن يكون سعد قضاه من تركتها أو تبرع به‏.‏
    وفيه استفتاء الأعلم، وفيه فضل بر الوالدين بعد الوفاة والتوصل إلى براءة ما في ذمتهم‏.‏
    وقد اختلف أهل الأصول في الأمر بعد الاستئذان هل يكون كالأمر بعد الحظر أو لا‏؟‏ فرجح صاحب ‏"‏ المحصول ‏"‏ أنه مثله، والراجح عند غيره أنه للإباحة كما رجح جماعة في الأمر بعد الحظر أنه للاستحباب‏.‏
    (ج11/ ص 715)
    واختلف فيمن وقع منه النذر في ذلك هل تجب فيه كفارة‏؟‏ فقال الجمهور‏:‏ لا، وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم، ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك كالقولين، واتفقوا على تحريم النذر في المعصية، واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة، واحتج من أوجبها بحديث عائشة ‏"‏ لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ‏"‏ أخرجه أصحاب السنن ورواته ثقات، لكنه معلول فإن الزهري رواه عن أبي سلمة ثم بين أنه حمله عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة فدلسه بإسقاط اثنين، وحسن الظن بسليمان وهو عند غيره ضعيف باتفاقهم، وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال‏:‏ لا يصح، ولكن له شاهد من حديث عمران بن حصين أخرجه النسائي وضعفه وشواهد أخرى ذكرتها آنفا‏.‏
    أخرجه أبو داود، وفيه ‏"‏ ومن نذر في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ‏"‏ ورواته ثقات، لكن أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا وهو أشبه
    ( ج11/ ص 718)
    ن الثقات إذا اختلفوا في الوصل والإرسال يرجح قول من وصل لما معه من زيادة العلم، لأن وهيبا وعبد الوهاب ثقتان، وقد وصله وهيب وأرسله عبد الوهاب وصححه البخاري مع ذلك، والذي عرفناه بالاستقراء من صنيع البخاري أنه لا يعمل في هذه الصورة بقاعدة مطردة بل يدور مع الترجيح إلا إن استووا فيقدم الوصل، والواقع هنا أن من وصله أكثر ممن أرسله، قال الإسماعيلي‏:‏ وصله مع وهيب عاصم بن هلال والحسن بن أبي جعفر وأرسله مع عبد الوهاب خالد الواسطي‏.‏
    قلت وخالد متقن وفي عاصم والحسن مقال فيستوي الطرفان فيترجح الوصل، وقد جاء الحديث المذكور من وجه آخر فازداد قوة أخرجه عبد الرزاق عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي إسرائيل‏.‏
    باب كفارات الأيمان
    ( ج11/ ص 724)
    قال ابن الصباغ‏:‏ ليس في الكفارات ما فيه تخيير وترتيب إلا كفارة اليمين وما ألحق بها‏.‏
    (ج11/ ص 730)
    قال الشافعي‏:‏ يشترط وصل الاستثناء بالكلام الأول، ووصله أن يكون نسقا فإن كان بينهما سكوت انقطع إلا إن كانت سكتة تذكر أو تنفس أو عي أو انقطاع صوت، وكذا يقطعه الأخذ في كلام آخر‏.‏
    ولخصه ابن الحاجب فقال‏:‏ شرطه الاتصال لفظا أو في ما في حكمه كقطعه لتنفس أو سعال ونحوه مما لا يمنع الاتصال عرفا، واختلف هل يقطعه ما يقطعه القبول عن الإيجاب‏؟‏ على وجهين للشافعية أصحهما أنه ينقطع بالكلام اليسير الأجنبي وإن لم ينقطع به الإيجاب والقبول، وفي وجه لو تخلل أستغفر الله لم ينقطع، وتوقف فيه النووي ونص الشافعي يؤيده حيث قال‏:‏ تذكر فإنه من صور التذكر عرفا، ويلتحق به لا إله إلا الله ونحوها، وعن طاوس والحسن له أن يستثنى ما دام في المجلس، وعن أحمد نحوه وقال‏:‏ ما دام في ذلك الأمر، وعن إسحاق مثله وقال‏:‏ إلا أن يقع السكوت، وعن قتادة إذا استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم، وعن عطاء قدر حلب ناقة، وعن سعيد بن جبير إلى أربعة أشهر، وعن مجاهد بعد سنتين، وعن ابن عباس أقوال منها له ولو بعد حين، وعنه كقول سعيد، وعنه شهر، وعنه سنة، وعنه أبدا‏.‏
    قال الحسن وقتادة وابن أبي ليلى والليث يدخل في الجميع إلا الطلاق، وعن أحمد يدخل الجميع إلا العتق واحتج بتشوف الشارع له، وورد فيه حديث عن معاذ رفعه ‏"‏ إذا قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم تطلق وإن قال لعبده أنت حر إن شاء الله فإنه حر ‏"‏ قال البيهقي‏:‏ تفرد به حميد بن مالك وهو مجهول، واختلف عليه في إسناده، واحتج من قال لا يدخل في الطلاق بأنه لا تحله الكفارة وهي أغلظ على الحالف من النطق بالاستثناء‏.‏
    فلما لم يحله الأقوى لم يحله الأضعف‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ الاستثناء أخو الكفارة وقد قال الله تعالى ‏(‏ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم‏)‏ فلا يدخل في ذلك إلا اليمين الشرعية وهي الحلف بالله

    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    تم ختم واختصار المجلد الحادي عشر
    ويليه المجلد الثاني عشر
    كتاب " الفرائض "
    والله ولي التوفيق

  12. #212
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    الحمد لله رب العالمين
    مختصر المجلد الثاني من " فتح الباري "
    الموافق 7/ شعبان / 1441 هجري
    الموافق 2/ ابريل / 2020 ميلادي
    كتاب " الفرائض " .

    كتاب الفرائض
    (ج12/ 7)
    وقوله ‏"‏ فلم يجبني بشيء ‏"‏ استدل به على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يجتهد، ورد بأنه لا يلزم من انتظاره الوحي في هذه القصة الخاصة عموم ذلك في كل قصة ولا سيما وهي في مسألة المواريث التي غالبها لا مجال للرأي فيه، سلمنا أنه كان يمكنه أن يجتهد فيها لكن لعله كان ينتظر الوحي أولا فإن لم ينزل اجتهد، فلا يدل على نفي الاجتهاد مطلقا‏.‏
    (ج12/ ص 7)
    وقال عقبة بن عامر‏:‏ تعلموا قبل الظانين، يعني الذين يتكلمون بالظن‏)‏ هذا الأثر لم أظفر به موصولا، وقوله ‏"‏قبل الظانين ‏"‏ فيه إشعار بأن أهل ذلك العصر كانوا يقفون عند النصوص ولا يتجاوزونها، وإن نقل عن بعضهم الفتوى بالرأي فهو قليل بالنسبة، وفيه إنذار بوقوع ما حصل من كثرة القائلين بالرأي‏.‏
    وقيل مراده قبل اندراس العلم وحدوث من يتكلم بمقتضى ظنه غير مستند إلى علم‏.‏
    قال ابن المنير‏:‏ وإنما خص البخاري قول عقبة بالفرائض لأنها أدخل فيه من غيرها، لأن الفرائض الغالب عليها التعبد وانحسام وجوه الرأي والخوض فيها بالظن لا انضباط له، بخلاف غيرها من أبواب العلم فإن للرأي فيها مجالا والانضباط فيها ممكن غالبا‏.‏
    (ج12/ ص 8)
    وقال الكرماني‏:‏ يحتمل أن يقال لما كان في الحديث ‏"‏ وكونوا عباد الله إخوانا ‏"‏ يؤخذ منه تعلم الفرائض ليعلم الأخ الوارث من غيره، وقد ورد في الحث على تعلم الفرائض حديث ليس على شرط المصنف أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما ‏"‏ ورواته موثقون، إلا أنه اختلف فيه على عوف الأعرابي اختلافا كثيرا، فقال الترمذي‏:‏ إنه مضطرب والاختلاف عليه أنه جاء عنه من طريق أبي مسعود، وجاء عنه من طريق أبي هريرة، وفي أسانيدها عنه أيضا اختلاف، ولفظه عند الترمذي من حديث أبي هريرة ‏"‏ تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم، وإنه أول ما ينزع من أمتي ‏"‏ وفي الباب عن أبي بكرة أخرجه الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من طريق راشد الحماني عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه رفعه ‏"‏ تعلموا القرآن والفرائض وعلموها الناس، أوشك أن يأتي على الناس زمان يختصم الرجلان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما ‏"‏ وراشد مقبول لكن الراوي عنه مجهول‏.‏
    وعن أبي سعيد الخدري بلفظ ‏(‏تعلموا الفرائض وعلموها الناس ‏"‏ أخرجه الدار قطني من طريق عطية وهو ضعيف‏.‏
    وأخرج الدارمي عن عمر موقوفا ‏"‏ تعلموا الفرائض كما تعلمون القرآن ‏"‏ وفي لفظ عنه ‏"‏ تعلموا الفرائض فإنها من دينكم ‏"‏ وعن ابن مسعود موقوفا أيضا ‏"‏ من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض ‏"‏ ورجالها ثقات إلا أن في أسانيدها انقطاعا، قال ابن الصلاح‏:‏ لفظ النصف في هذا الحديث بمعنى أحد القسمين وإن لم يتساويا، وقد قال ابن عيينة إذ سئل عن ذلك‏:‏ إنه يبتلى به كل الناس‏.‏
    وقال غيره‏:‏ لأن لهم حالتين حالة حياة وحالة موت والفرائض تتعلق بأحكام الموت، وقيل لأن الأحكام تتلقى من النصوص ومن القياس والفرائض لا تتلقى إلا من النصوص كما تقدم‏.‏
    (ج12/ ص 10)
    وأخرجه الدار قطني في ‏"‏ العلل ‏"‏ من رواية أم هانئ عن فاطمة عليها السلام عن أبي بكر الصديق بلفظ ‏"‏ إن الأنبياء لا يورثون ‏"‏ قال ابن بطال وغيره‏:‏ ووجه ذلك والله أعلم أن الله بعثهم مبلغين رسالته وأمرهم أن لا يأخذوا على ذلك أجرا كما قال ‏(‏قل لا أسألكم عليه أجرا‏)‏ وقال نوح وهود وغيرهما نحو ذلك، فكانت الحكمة في أن لا يورثوا لئلا يظن أنهم جمعوا المال لوارثهم، قال‏:‏ وقوله تعالى ‏(‏وورث سليمان داود‏)‏ حمله أهل العلم بالتأويل على العلم والحكمة، وكذا قول زكريا ‏(‏فهب لي من لدنك وليا يرثني‏)‏ وقد حكى ابن عبد البر أن للعلماء في ذلك قولين وأن الأكثر على أن الأنبياء لا يورثون، وذكر أن ممن قال بذلك من الفقهاء إبراهيم بن إسماعيل بن علية، ونقله عن الحسن البصري عياض في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏ وأخرج الطبري من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله تعالى حكاية عن زكريا ‏(‏وإني خفت الموالي‏)‏ قال‏:‏ العصبة‏.‏
    (ج12/ ص 14)
    قال ابن عبد البر‏:‏ أصل ما بنى عليه مالك والشافعي وأهل الحجاز ومن وافقهم في الفرائض قول زيد بن ثابت، وأصل ما بنى عليه أهل العراق ومن وافقهم فيها قول علي بن أبي طالب، وكل من الفريقين لا يخالف قول صاحبه إلا في اليسير النادر إذا ظهر له مما يجب عليه الانقياد إليه‏.‏
    (ج12/ ص 17)
    وقد لخصه الكرماني فقال‏:‏ ذكر صفة لأولى لا لرجل، والأولى بمعنى القريب الأقرب فكأنه قال‏:‏ فهو لقريب الميت ذكر من جهة رجل وصلب لا من جهة بطن ورحم، فالأولى من حيث المعنى مضاف إلى الميت، وأشير بذكر الرجل إلى الأولوية فأفاد بذلك نفي الميراث عن الأولى الذي من جهة الأم كالخال، وبقوله ذكر نفيه عن النساء بالعصوبة وإن كن من المدلين للميت من جهة الصلب انتهى‏.‏
    وقد أوردته كما وجدته ولم أحذف منه إلا أمثلة أطال بها وكلمات طويلة تبجح بها بسبب ما ظهر له من ذلك، والعلم عند الله تعالى‏.‏
    قال النووي‏:‏ أجمعوا على أن الذي يبقى بعد الفروض للعصبة يقدم الأقرب فالأقرب فلا يرث عاصب بعيد مع عاصب قريب، والعصبة كل ذكر يدلي بنفسه بالقرابة ليس بينه وبين الميت أنثى، فمتى انفرد أخذ جميع المال، وإن كان مع ذوي فروض غير مستغرقين أخذ ما بقي وإن كان مع مستغرقين فلا شيء له‏.‏
    (ج12/ ص 19)
    قوله تعالى ‏(‏يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين‏)‏ وقد تقدمت الإشارة إليه وإلى سبب نزولها وأن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون البنات كما حكاه أبو جعفر بن حبيب في ‏"‏ كتاب المحبر ‏"‏ وحكى أن بعض عقلاء الجاهلية ورث البنت لكن سوى بينها وبين الذكر وهو عامر بن جشم بضم الجيم وفتح المعجمة، وقد تمسك بالسبب المذكور من أجاب عن السؤال المشهور في قوله تعالى ‏(‏فإن كن نساء فوق اثنتين‏)‏ حيث قيل ذكر في الآية حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن دون الانفراد
    (ج12/ ص20)
    ال ابن بطال قال أكثر الفقهاء فيمن خلفت زوجا وأبا وبنتا وابن ابن وبنت ابن‏:‏ تقدم الفروض فللزوج الربع وللأب السدس وللبنت النصف وما بقي بين ولدي الابن للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كانت البنت أسفل من الابن فالباقي له دونها، وقيل الباقي له مطلقا لقوله فما بقي فلأولى رجل ذكر، وتمسك زيد بن ثابت والجمهور بقوله تعالى ‏(‏في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين‏)‏ وقد أجمعوا أن بني البنين ذكورا وإناثا كالبنين عند فقد البنين إذا استووا في التعدد، فعلى هذا تخص هذه الصورة من عموم ‏"‏ فلأولى رجل ذكر‏"‏‏.‏
    (ج12/ ص 21)
    ال ابن بطال‏:‏ فيه أن العالم يجتهد إذا ظن أن لا نص في المسألة ولا يتولى الجواب إلى أن يبحث عن ذلك، وفيه أن الحجة عند التنازع سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيجب الرجوع إليها وفيه ما كانوا عليه من الإنصاف والاعتراف بالحق والرجوع إليه، وشهادة بعضهم لبعض بالعلم والفضل، وكثرة اطلاع ابن مسعود على السنة، وتثبت أبي موسى في الفتيا حيث دل على من ظن أنه أعلم منه، قال‏:‏ ولا خلاف بين الفقهاء فيما رواه ابن مسعود، وفي جواب أبي موسى إشعار بأنه رجع عما قاله‏.‏
    وقال ابن عبد البر‏:‏ لم يخالف في ذلك إلا أبو موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة الباهلي وقد رجع أبو موسى عن ذلك، ولعل سلمان أيضا رجع كأبي موسى، وسلمان المذكور مختلف في صحبته وله أثر في فتوح العراق أيام عمر وعثمان واستشهد في زمن عثمان وكان يقال له سلمان الخيل لمعرفته بها، واستدل الطحاوي بحديث ابن مسعود هذا على أن المراد بحديث ابن عباس ‏"‏ فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ‏"‏ من يكون أقرب العصبات إلى الميت، فلو كان هناك عصبة أقرب إلى الميت ولو كانت أنثى كان المال الباقي لها، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأخوات من قبل الأب مع البنت عصبة فصرن مع البنات في حكم الذكور من قبل الإرث‏.‏
    (ج12/ ص 23)
    قال ابن عبد البر‏:‏ تفرد زيد من بين الصحابة في معادلته الجد بالإخوة بالأب مع الإخوة الأشقاء وخالفه كثير من الفقهاء القائلين بقوله في الفرائض في ذلك لأن الإخوة من الأب لا يرثون مع الأشقاء فلا معنى لإدخالهم معهم لأنه حيف على الجد في المقاسمة، وقد سأل ابن عباس زيدا عن ذلك فقال‏:‏ إنما أقول في ذلك برأيي كما تقول أنت برأيك‏.‏
    وقال الطحاوي‏:‏ ذهب مالك والشافعي وأبو يوسف إلى قول زيد بن ثابت في الجد إن كان معه إخوة أشقاء قاسمهم ما دامت المقاسمة خيرا له من الثلث وإن كان الثلث خيرا له أعطاه إياه ولا ترث الإخوة من الأب مع الجد شيئا ولا بنو الإخوة ولو كانوا أشقاء، وإذا كان مع الجد والإخوة أحد من أصحاب الفروض بدأ بهم ثم أعطى الجد خير الثلاثة من المقاسمة ومن ثلث ما بقي ومن السدس ولا ينقصه من السدس إلا في الأكدرية‏.‏
    والأكدرية المشار إليها تسمى مربعة الجماعة لأنهم أجمعوا على أنها أربعة ولكن اختلفوا في قسمها وهي زوج وأم وأخت وجد فللزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس وللأخت النصف، وتصح من سبعة وعشرين للزوج تسعة وللأم ستة وللأخت أربعة وللجد ثمانية، وقد نظمها بعضهم‏:‏ ما فرض أربعة يوزع بينهم ميراث ميتهم بفرض واقع فلواحد ثلث الجميع وثلث ما يبقى لثانيهم بحكم جامع بثالث من بعد ذا ثلث الذي يبقى وما يبقى نصيب الرابع
    (ج12/ ص 31)
    قال ابن بطال‏:‏ أجمعوا على أن الأخوات عصبة البنات فيرثن ما فضل عن البنات، فمن لم يخلف إلا بنتا وأختا فللبنت النصف وللأخت النصف الباقي على ما في حديث معاذ وإن خلف بنتين وأختا فلهما الثلثان وللأخت ما بقي، وإن خلف بنتا وأختا وبنت ابن فللبنت النصف ولبنت الابن تكملة الثلثين وللأخت ما بقي على ما في حديث ابن مسعود، لأن البنات لا يرثن أكثر من الثلثين، ولم يخالف في شيء من ذلك إلا ابن عباس فإنه كان يقول‏:‏ للبنت النصف وما بقي للعصبة وليس للأخت شيء، وكذا للبنتين الثلثان وللبنت وبنت الابن كما مضى والباقي للعصبة، فإذا لم تكن عصبة رد الفضل على البنت أو البنات‏.‏
    (ج12/ ص 33)
    وقد اختلف في تفسير الكلالة، والجمهور على أنه من لا ولد له ولا والد، واختلف في بنت وأخت هل ترث الأخت مع البنت‏؟‏ وكذا في الجد هل يتنزل منزلة الأب فلا ترث معه الإخوة‏؟‏ قال السهيلي‏:‏ الكلالة من الإكليل المحيط بالرأس لأن الكلالة وراثة تكللت العصبة أي أحاطت بالميت من الطرفين، وهي مصدر كالقرابة، وسمي أقرباء الميت كلالة بالمصدر كما يقال هم قرابة أي ذوو قرابة، وإن عنيت المصدر قلت ورثوه عن كلالة، وتطلق الكلالة على الورثة مجازا‏.‏
    قال‏:‏ ولا يصح قول من قال الكلالة المال ولا الميت إلا على إرادة تفسيره معنى من غير نظر إلى حقيقة اللفظ‏.‏
    ثم قال‏:‏ ومن العجب أن الكلالة في الآية الأولى من النساء لا يرث فيها الإخوة مع البنت مع أنه لم يقع فيها التقييد بقوله ليس له ولد، وقيد به في الآية الثانية مع أن الأخت فيها ورثت مع البنت، والحكمة فيها أن الأولى عبر فيها بقوله تعالى ‏(‏وإن كان رجل يورث‏)‏ فإن مقتضاه الإحاطة بجميع المال فأغنى لفظ يورث عن القيد، ومثله قوله تعالى ‏(‏وهو يرثها إن لم يكن لها ولد‏)‏ أي يحيط بميراثها‏.‏
    وقال الكرماني‏:‏ اختلف في تعيين آخر ما نزل فقال البراء هنا‏:‏ خاتمة سورة النساء‏.‏
    وقال ابن عباس كما تقدم في آخر سورة البقرة‏:‏ آية الربا، وهذا اختلاف بين الصحابيين ولم ينقل واحد منهما ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحمل على أن كلا منهما قال يظنه، وتعقب بأن الجمع أولى كما تقدم بيانه هناك‏.‏
    ووقع في صحيح مسلم عن عمر أنه خطب ثم قال ‏"‏ إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة، وما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما راجعته في الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري فقال‏:‏ ألا يكفيك آية النصف التي في آخر سورة النساء‏"‏‏.‏
    (ج12/ ص 35)
    قال المازري‏:‏ مراتب التعصيب البنوة ثم الأبوة ثم الجدودة، فالابن أولى من الأب وإن فرض له معه السدس، وهو أولى من الإخوة وبنيهم لأنهم ينتسبون بالمشاركة في الأبوة والجدودة، والأب أولى من الإخوة ومن الجد لأنهم به ينتسبون فيسقطون مع وجوده، والجد أولى من بني الإخوة لأنه كالأب معهم، ومن العمومة لأنهم به ينتسبون، والإخوة وبنوهم أولى من العمومة وبنيهم لأن تعصيب الإخوة بالأبوة والعمومة بالجدودة، هذا ترتيبهم وهم يختلفون في القرب، فالأقرب أولى كالإخوة مع بنيهم والعمومة مع بنيهم فإن تساووا في الطبقة والقرب ولأحدهما زيادة كالشقيق مع الأخ لأب قدم، وكذا الحال في بنيهم وفي العمومة وبنيهم، فإن كانت زيادة الترجيح بمعنى غير ما هما فيه كابني عم أحدهما أخ لأم فقيل يستمر الترجيح فيأخذ ابن العم الذي هو أخ لأم جميع ما بقي بعد فرض الزوج وهو قول عمر وابن مسعود وشريح والحسن وابن سيرين والنخعي وأبي ثور والطبري وداود ونقل عن أشهب، وأبى ذلك الجمهور فقالوا‏:‏ بل يأخذ الأخ من الأم فرضه ويقسم الباقي بينهما، والفرق بين هذه الصورة وبين تقدم الشقيق على الأخ لأب طريق الترجيح لأن الشرط فيها أن يكون فيه معنى مناسب لجهة التعصيب لأن الشقيق شارك شقيقه في جهة القرب المتعلقة بالتعصيب بخلاف الصورة المذكورة والله أعلم‏.‏
    (ج12/ ص 37)
    قال ابن بطال‏:‏ اختلف الفقهاء في توريث ذوي الأرحام وهم من لا سهم له وليس بعصبة، فذهب أهل الحجاز والشام إلى منعهم الميراث، وذهب الكوفيون وأحمد وإسحاق إلى توريثهم، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض‏)‏ واحتج الآخرون بأن المراد بها من له سهم في كتاب الله لأن آية الأنفال مجملة وآية المواريث مفسرة وبقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من ترك مالا فلعصبته ‏"‏ وأنهم أجمعوا على ترك القول بظاهرها فجعلوا ما يخلفه المعتوق إرثا لعصبته دون مواليه فإن فقدوا فلمواليه دون ذوي رحمه، واختلفوا في توريثهم فقال أبو عبيد‏:‏ رأى أهل العراق رد ما بقي من ذوي الفروض إذا لم تكن عصبة على ذوي الفروض وإلا فعليهم وعلى العصبة، فإن فقدوا أعطوا ذوي الأرحام، وكان ابن مسعود ينزل كل ذي رحم منزلة من يجر إليه‏.‏
    وأخرج بسند صحيح عن ابن مسعود أنه جعل العمة كالأب والخالة كالأم فقسم المال بينهما أثلاثا، وعن علي أنه كان لا يرد على البنت دون الأم، ومن أدلتهم حديث ‏"‏ الخال وارث من لا وارث له ‏"‏ وهو حديث حسن أخرجه الترمذي وغيره، وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يراد به إذا كان عصبة ويحتمل أن يريد بالحديث المذكور السلب كقولهم ‏"‏ الصبر حيلة من لا حيلة له ‏"‏ ويحتمل أن يكون المراد به السلطان لأنه خال المسلمين، حكى هذه الاحتمالات ابن العربي‏.‏
    (ج12/ 40)
    اختلف السلف في معنى إلحاقه بأمه مع اتفاقهم على أنه لا ميراث بينه وبين الذي نفاه، فجاء عن علي وابن مسعود أنهما قالا في ابن الملاعنة‏:‏ ‏"‏ عصبته عصبة أمه يرثهم ويرثونه ‏"‏ أخرجه ابن أبي شيبة وبه قال النخعي والشعبي، وجاء عن علي وابن مسعود أنهما كانا يجعلان أمه عصبة وحدها فتعطى المال كله، فإن ماتت أمه قبله فماله لعصبتها، وبه قال جماعة منهم الحسن وابن سيرين ومكحول والثوري وأحمد في رواية، وجاء عن علي أن ابن الملاعنة ترثه أمه وإخوته منها فإن فضل شيء فهو لبيت المال، وهذا قول زيد بن ثابت وجمهور العلماء وأكثر فقهاء الأمصار، قال مالك‏:‏ وعلى هذا أدركت أهل العلم‏.‏
    وأخرج عن الشعبي قال‏:‏ بعث أهل الكوفة إلى الحجاز في زمن عثمان يسألوني عن ميراث ابن الملاعنة فأخبروهم أنه لأمه وعصبتها، وجاء عن ابن عباس عن علي أنه أعطى الملاعنة الميراث وجعلها عصبة، قال ابن عبد البر‏:‏ الرواية الأولى أشهر عند أهل الفرائض، قال ابن بطال‏:‏ هذا الخلاف إنما نشأ من حديث الباب حيث جاء فيه‏:‏ ‏"‏ وألحق الولد بالمرأة ‏"‏ لأنه لما ألحق بها قطع نسب أبيه فصار كمن لا أب له من أولاد البغي، وتمسك الآخرون بأن معناه إقامتها مقام أبيه فجعلوا عصبة أمه عصبة أبيه‏.‏
    قلت‏:‏ وقد جاء في المرفوع ما يقوي القول الأول، فأخرج أبو داود من رواية مكحول مرسلا ومن رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ ‏"‏ جعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها ‏"‏ ولأصحاب السنن الأربعة عن واثلة رفعه ‏"‏ تحوز المرأة ثلاثة مواريث‏:‏ عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه ‏"‏ قال البيهقي‏:‏ ليس بثابت‏.‏
    قلت‏:‏ وحسنه الترمذي وصححه الحاكم وليس فيه سوى عمر بن رؤية بضم الراء وسكون الواو بعدها موحدة مختلف فيه، قال البخاري‏:‏ فيه نظر، ووثقه جماعة، وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن المنذر ومن طريق داود بن أبي هند عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن رجل من أهل الشام ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى به لأمة هي بمنزلة أبيه وأمه ‏"‏ وفي رواية أن عبد الله بن عبيد كتب إلى صديق له من أهل المدينة يسأله عن ولد الملاعنة فكتب إليه ‏"‏ إني سألت فأخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى به لأمة ‏"‏ وهذه طرق يقوى بعضها ببعض، قال ابن بطال‏:‏ تمسك بعضهم بالحديث الذي جاء أن الملاعنة بمنزلة أبيه وأمه، وليس فيه حجة لأن المراد أنها بمنزلة أبيه وأمه في تربيته وتأديبه وغير ذلك مما يتولاه أبوه، فأما الميراث فقد أجمعوا أن ابن الملاعنة لو لم تلاعن أمه وترك أمه وأباه كان لأمه السدس، فلو كانت بمنزلة أبيه وأمه لورثت سدسين فقط سدس بالأمومة وسدس بالأبوة،
    كذا قال وفيه نظر تصويرا واستدلالا وحجة الجمهور ما تقدم في اللعان أن في رواية فليح عن الزهري عن سهل في آخره ‏"‏ فكانت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض لها ‏"‏ أخرجه أبو داود،
    (ج12/ ص 42)
    عتبة بن أبي وقاص أخو سعد مختلف في صحبته فذكره في الصحابة العسكري وذكر ما نقله الزبير بن بكار في النسب أنه كان أصاب دما بمكة في قريش فانتقل إلى المدينة ولما مات أوصى إلى سعد، وذكره ابن منده في الصحابة ولم يذكر مستندا إلا قول سعد ‏"‏ عهد إلى أخي أنه ولده ‏"‏ واستنكر أبو نعيم ذلك وذكر أنه الذي شج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، قال وما علمت له إسلاما، بل قد روى عبد الرزاق من طريق عثمان الجزري عن مقسم ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بأن لا يحول على عتبة الحول حتى يموت كافرا فمات قبل الحول ‏"‏ وهذا مرسل، وأخرجه من وجه آخر عن سعيد بن المسيب بنحوه‏.‏
    وأخرج الحاكم في ‏"‏ المستدرك ‏"‏ من طريق صفوان بن سليم عن أنس أنه سمع حاطب بن أبي بلتعة يقول ‏"‏ إن عتبة لما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم ما فعل تبعته فقتلته‏"‏، كذا قال وجزم ابن التين والدمياطي بأنه مات كافرا‏.‏
    (ج12/ ص 44)
    ن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ يجتمع الرهط ما دون العشر فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومضت ليال أرسلت إليهم فاجتمعوا عندها فقالت‏:‏ قد ولدت فهو ابنك يا فلان، فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع ‏"‏ إلى أن قالت ‏"‏ ونكاح البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن فوضعت جمعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرى القائف لا يمتنع من ذلك ‏"‏ انتهي‏.‏
    واللائق بقصة أمة زمعة الأخير، فلعل جمع القافة لهذا الولد تعذر بوجه من الوجوه، أو أنها لم تكن بصفة البغايا بل أصابها عتبة سرا من زنا وهما كافران فحملت وولدت ولدا يشبهه فغلب على ظنه أنه منه فبغته الموت قبل استلحاقه فأوصى أخاه أن يستلحقه، فعمل سعد بعد ذلك تمسكا بالبراءة الأصلية قال القرطبي‏:‏ وكان عبد بن زمعة سمع أن الشرع ورد بأن الولد للفراش وإلا فلم يكن عادتهم الإلحاق به، كذا قاله، وما أدري من أين له هذا الجزم بالنفي، وكأنه بناه على ما قال الخطابي أمة زمعة كانت من البغايا اللاتي عليهن من الضرائب، فكان الإلحاق مختصا باستلحاقها على ما ذكر، أو بإلحاق القائف على ما في حديث عائشة، لكن لم يذكر الخطابي مستندا لذلك، والذي يظهر من سياق القصة ما قدمته أنها كانت أمة مستفرشة لزمعة فاتفق أن عتبة زنى بها كما تقدم، وكانت طريقة الجاهلية في مثل ذلك أن السيد إن استلحقه لحقه وإن نفاه انتفى عنه وإذا ادعاه غيره كان مرد ذلك إلى السيد أو القافة،
    (ج12/ ص 47)
    ديث ‏"‏ الولد للفراش ‏"‏ قال ابن عبد البر هو من أصح ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عن بضعة وعشرين نفسا من الصحابة فذكره البخاري في هذا الباب عن أبي هريرة وعائشة‏.‏
    وقال الترمذي عقب حديث أبي هريرة‏:‏ وفي الباب عن عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو وأبي أمامة وعمرو بن خارجة والبراء وزيد بن أرقم، وزاد شيخنا عليه معاوية وابن عمر، وزاد أبو القاسم بن منده في تذكرته معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وعلي بن أبي طالب والحسين ابن علي وعبد الله بن حذافة وسعد بن أبي وقاص وسودة بنت زمعة، ووقع لي من حديث ابن عباس وأبي مسعود البدري وواثلة بن الأسقع وزينب بنت جحش، وقد رقمت عليها علامات من أخرجها من الأئمة فطب علامة الطبراني في الكبير وطس علامته في الأوسط وبز علامة البزار وص علامة أبي يعلى الموصلي وتم علامة تمام في فوائده وجميع هؤلاء وقع عندهم ‏"‏ الولد للفراش وللعاهر الحجر ‏"‏ ومنهم من اقتصر على الجملة الأولى وفي حديث عثمان قصة وكذا علي وفي حديث معاوية قصة أخرى له مع نصر بن حجاج وعبد الرحمن ابن خالد بن الوليد فقال له نصر‏:‏ فأين قضاؤك في زياد‏؟‏ فقال‏:‏ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من قضاء معاوية‏.‏
    (ج12/ 48)
    قال ابن المنذر‏:‏ أجمعوا على أن اللقيط حر إلا رواية عن النخعي، وعنه كالجماعة، وعنه كالمنقول عن الحنفية، وقد جاء عن شريح نحو الأول وبه قال إسحاق بن راهويه‏.
    (ج12/ ص 53)
    استدل مالك على ما ذكره عنه ابن وهب في موطئه قال‏:‏ سئل عن عبد يبتاع نفسه من سيده على أنه يوالي من شاء فقال لا يجوز ذلك واحتج بحديث ابن عمر ثم قال‏:‏ فتلك الهبة المنهي عنها، وقد شذ عطاء ابن أبي رباح بالأخذ بمفهوم هذا الحديث فقال فيما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عنه‏:‏ إن أذن الرجل لمولاه أن يوالي من شاء جاز، واستدل بهذا الحديث، قال ابن بطال‏:‏ وجماعة الفقهاء على خلاف ما قال عطاء، قال‏:‏ ويحمل حديث علي على أنه جرى على الغالب مثل قوله تعالى ‏(‏ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق‏)‏ وقد أجمعوا على أن قتل الولد حرام سواء خشي الإملاق أم لا، وهو منسوخ بحديث النهي عن بيع الولاء وعن هبته‏.‏
    قلت‏:‏ قد سبق عطاء إلى القول بذلك عثمان، فروى ابن المنذر أن عثمان اختصموا إليه في نحو ذلك فقال للعتيق‏:‏ وال من شئت، وأن ميمونة وهبت ولاء مواليها للعباس وولده، والحديث الصحيح مقدم على جميع ذلك فلعله لم يبلغ هؤلاء أو بلغهم وتأولوه وانعقد الإجماع على خلاف قولهم‏.‏
    قال ابن بطال، وفي الحديث لأنه لا يجوز للعتيق أن يكتب فلان ابن فلان ويسمي نفسه ومولاه الذي أعتقه، بل يقول فلان مولى فلان، ولكن يجوز له أن ينتسب إلى نسبه كالقرشي وغيره، قال والأولى أن يفصح بذلك أيضا كأن يقول‏:‏ القرشي بالولاء أو مولاهم‏.
    (ج12/ 53)
    حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ
    وقد اشتهر هذا الحديث عن عبد الله بن دينار حتى قال مسلم لما أخرجه في صحيحه‏:‏ الناس في هذا الحديث عيال عليه‏.‏
    وقال الترمذي بعد تخريجه‏:‏ حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار رواه عنه سعيد وسفيان ومالك، ويروى عن شعبة أنه قال وددت أن عبد الله ابن دينار لما حدث بهذا الحديث أذن لي حتى كنت أقوم إليه فأقبل رأسه‏.‏
    قال الترمذي‏:‏ وروى يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار‏.‏
    وقد اعتنى أبو نعيم الأصبهاني بجمع طرقه عن عبد الله بن دينار فأورده عن خمسة وثلاثين نفسا ممن حدث به عن عبد الله ابن دينار منهم من الأكابر يحيى بن سعيد الأنصاري وموسى بن عقبة ويزيد بن الهاد وعبيد الله العمري وهؤلاء من صغار التابعين وممن دونهم مسعر والحسن بن صالح بن حي وورقاء وأيوب بن موسى وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار‏.‏
    وقال ابن العربي في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏‏:‏ تفرد بهذا الحديث عبد الله بن دينار وهو من الدرجة الثانية من الخبر لأنه لم يذكر لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه نقل معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنما الولاء لمن أعتق ‏"‏ قلت‏:‏ ويؤيده أن ابن عمر روى هذا الحديث عن عائشة في قصة بريرة كما مضى في العتق، لكن جاءت عنه صيغة الحديث من وجه آخر أخرجه النسائي وأبو عوانة من طريق الليث عن يحيى بن أيوب عن مالك ولفظه ‏"‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهي عن بيع الولاء وعن هبته ‏"‏ ووقع في رواية محمد بن أبي سليمان التي أشرت إليها بلفظ ‏"‏ الولاء لا يباع ولا يوهب
    وقال ابن بطال‏:‏ أجمع العلماء على أنه لا يجوز تحويل النسب فإذا كان حكم الولاء حكم النسب فكما لا ينتقل النسب لا ينتقل الولاء، وكانوا في الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره فنهى الشرع عن ذلك‏.‏
    وقال ابن عبد البر‏:‏ اتفق الجماعة على العمل بهذا الحديث إلا ما روي عن ميمونة أنها وهبت ولاء سليمان بن يسار لابن عباس، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء يجوز للسيد أن يأذن لعبده أن يوالي من شاء
    وقال ابن بطال وغيره‏:‏ جاء عن عثمان جواز بيع الولاء وكذا عن عروة، وجاء عن ميمونة جواز هبة الولاء وكذا عن ابن عباس ولعلهم لم يبلغهم الحديث، قلت‏:‏ قد أنكر ذلك ابن مسعود في زمن عثمان فأخرج عبد الرزاق عنه أنه كان يقول‏:‏ أيبيع أحدكم نسبه‏؟‏ ومن طريق علي‏:‏ الولاء شعبة من النسب، ومن طريق جابر أنه أنكر بيع الولاء وهبته، ومن طريق عطاء أن ابن عمر كان ينكره، ومن طريق عطاء عن ابن عباس لا يجوز وسنده صحيح ومن ثم فصلوا في النقل عن ابن عباس بين البيع والهبة‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ معنى ‏"‏ الولاء لحمة كلحمة النسب ‏"‏ أن الله أخرجه بالحرمة إلى النسب حكما كما أن الأب أخرجه بالنطفة إلى الوجود حسا لأن العبد كان كالمعدوم في حق الأحكام لا يقضي ولا يلي ولا يشهد، فأخرجه سيده بالحرية إلى وجود هذه الأحكام من عدمها، فلما شابه حكم النسب أنيط بالمعتق فلذلك جاء ‏"‏ إنما الولاء لمن أعتق ‏"‏ وألحق برتبة النسب فنهى عن بيعه وهبته‏.‏
    وقال القرطبي استدل للجمهور بحديث الباب، ووجه الدلالة أنه أمر وجودي لا يتأتى الانفكاك عنه كالنسب، فكما لا تنتقل الأبوة والجدودة فكذلك لا ينتقل الولاء، إلا أنه يصح في الولاء جرما يترتب عليه من الميراث كما لو تزوج عبد معتقة آخر فولد له منها ولد فإنه ينعقد حرا لحرية أمه فيكون ولاؤه لمواليها لو مات في تلك الحالة، ولو أعتق السيد أباه قبل موت الولد فإن ولاءه ينتقل إذا مات لمعتق أبيه اتفاقا انتهى‏.‏
    وهذا لا يقدح في الأصل المذكور أن ‏"‏ الولاء لحمة كلحمة النسب ‏"‏ لأن التشبيه لا يستلزم التسوية من كل وجه،
    (ج12/ ص 60)
    قال ابن بطال‏:‏ ذهب الجمهور إلى أن الأسير إذا وجب له ميراث أنه يوقف له، وعن سعيد بن المسيب أنه لم يورث الأسير في أيدي العدو، قال‏:‏ وقول الجماعة أولى، لأنه إذا كان مسلما دخل تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏من ترك مالا فلورثته
    (ج12/ ص 62)
    ل ابن المنير‏:‏ صورة المسألة إذا مات مسلم وله ولدان مثلا مسلم وكافر فأسلم الكافر قبل قسمة المال قال ابن المنذر‏:‏ ذهب الجمهور إلى الأخذ بما دل عليه عموم حديث أسامة يعني المذكور في هذا الباب إلا ما جاء عن معاذ قال‏:‏ يرث المسلم من الكافر من غير عكس، واحتج بأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ الإسلام يزيد ولا ينقص، وهو حديث أخرجه أبو داود وصححه الحاكم من طريق يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي عنه قال الحاكم صحيح الإسناد، وتعقب بالانقطاع بين أبي الأسود ومعاذ ولكن سماعه منه ممكن، وقد زعم الجوزقاني أنه باطل وهي مجازفة‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ هو كلام محكي ولا يروى كذا قال، وقد رواه من قدمت ذكره فكأنه ما وقف على ذلك‏.‏
    وأخرج أحمد بن منيع بسند قوي عن معاذ أنه كان يورث المسلم من الكافر بغير عكس وأخرج مسدد عنه أن أخوين اختصما إليه‏:‏ مسلم ويهودي مات أبوهما يهوديا فحاز ابنه اليهودي ماله فنازعه المسلم فورث معاذ المسلم‏.‏
    وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن معقل قال‏:‏ ما رأيت قضاء أحسن من قضاء قضى به معاوية‏:‏ نرث أهل الكتاب ولا يرثونا، كما يحل النكاح فيهم ولا يحل لهم، وبه قال مسروق وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وإسحاق، وحجة الجمهور أنه قياس في معارضة النص وهو صريح في المراد ولا قياس مع وجوده، وأما الحديث فليس نصا في المراد بل هو محمول على أنه يفضل غيره من الأديان ولا تعلق له بالإرث، وقد عارضه قياس آخر وهو أن التوارث يتعلق بالولاية ولا ولاية بين المسلم والكافر لقوله تعالى ‏(‏لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض‏)
    (ج12/ ص 64)
    ال ابن بطال‏:‏ لم يدخل البخاري تحت هذا الرسم حديثا، ومذهب العلماء أن العبد النصراني إذا مات فماله لسيده بالرق لأن ملك العبد غير صحيح ولا مستقر فهو مال السيد يستحقه لا بطريق الميراث وإنما يستحق بطريق الميراث ما يكون ملكا مستقرا لمن يورث عنه‏.‏
    وعن ابن سيرين ماله لبيت المال وليس للسيد فيه شيء لاختلاف دينهما، وأما المكاتب فإن مات قبل أداء كتابته وكان في ماله وفاء لباقي كتابته أخذ ذلك في كتابته فما فضل فهو لبيت المال
    لم يذكر البخاري ميراث النصراني إذا أعتقه المسلم، وقد حكى فيه ابن التين ثمانية أقوال فقال عمر بن عبد العزيز والليث والشافعي‏:‏ هو كالمولى المسلم إذا كانت له ورثة وإلا فماله لسيده، وقيل يرثه الولد خاصة، وقيل الولد والوالد خاصة، وقيل هما والإخوة، وقيل هم والعصبة، وقيل ميراثه لذوي رحمه وقيل لبيت المال فيئا، وقيل يوقف فمن ادعاه من النصارى كان له‏.‏
    انتهى ملخصا‏.‏
    وما نقله عن الشافعي لا يعرفه أصحابه، واختلف في عكسه فالجمهور أن الكافر إذا أعتق مسلما لا يرثه بالولاء، وعن أحمد رواية لأنه يرثه، ونقل مثله عن علي، وأما ما أخرج النسائي والحاكم من طريق أبي الزبير عن جابر مرفوعا ‏"‏ لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته ‏"‏ وأعله ابن حزم بتدليس أبي الزبير، وهو مردود فقد أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابرا، فلا حجة فيه لكل من المسألتين لأنه ظاهر في الموقوف‏.‏
    (ج12/ ص 68)
    قال أبو داود‏:‏ نقل أحمد بن صالح عن أهل النسب أنهم كانوا في الجاهلية يقدحون في نسب أسامة لأنه كان أسود شديد السواد وكان أبوه زيد أبيض من القطن، فلما قال القائف ما قال مع اختلاف اللون سر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لكونه كافا لهم عن الطعن فيه لاعتقادهم ذلك، وقد أخرج عبد الرزاق من طريق ابن سيرين، أن أم أسامة - وهي أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم - كانت سوداء فلهذا جاء أسامة أسود، وقد وقع في الصحيح عن ابن شهاب أن أم أيمن كانت حبشية وصيفة لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال كانت من سبي الحبشة الذين قدموا زمن الفيل، فصارت لعبد المطلب فوهبها‏.‏
    لعبد الله، وتزوجت قبل زيد عبيد الحبشي فولدت له أيمن فكنيت به واشتهرت بذلك، وكان يقال لها أم الظباء،
    انتهى كتاب " الفرائض "
    ويليه كتاب
    " الحدود "

  13. #213
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم الثامن عشر "
    الموافق 11/ شعبان / 1441 هجري
    الموافق 4/ 4/ 2020 ميلادي

    " المجلد الثاني عشر من " فتح الباري " للحافظ ابن حجر رحمه الله
    كتاب " الحدود " ويليه كتاب " الديات "
    واسال الله المزيد من فضله "

    ......................
    كتاب الحدود
    (ج12/ ص 72)
    في كتاب الإيمان من طريق عثمان بن أبي صفية قال ‏"‏ كان ابن عباس يدعو غلمانه غلاما غلاما فيقول‏:‏ ألا أزوجك‏؟‏ ما من عبد يزني إلا نزع الله منه نور الإيمان ‏"‏ وقد روي مرفوعا أخرجه أبو جعفر الطبري من طريق مجاهد عن ابن عباس ‏"‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من زنى نزع الله نور الإيمان من قلبه فإن شاء أن يرده إليه رده ‏"‏ وله شاهد من حديث أبى هريرة عند أبي داود‏.‏
    (ج12/ 73)
    وقال النووي‏:‏ اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، والصحيح الذي قاله المحققون أن معناه‏:‏ لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، هذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء والمراد نفي كماله كما يقال لا علم إلا ما نفع ولا مال إلا ما يغل ولا عيش إلا عيش الآخرة، وإنما تأولناه لحديث أبي ذر ‏"‏ من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق ‏"‏ وحديث عبادة الصحيح المشهور ‏"‏ أنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ‏"‏ الحديث، وفي آخره ‏"‏ ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة، ومن لم يعاقب فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ‏"‏ فهذا مع قول الله عز وجل ‏(‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن شاء‏)‏ مع إجماع أهل السنة على أن مرتكب الكبائر لا يكفر إلا بالشرك يضطرنا إلى تأويل الحديث ونظائره، وهو تأويل ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثيرا، قال‏:‏ وتأوله بعض العلماء على من فعله مستحلا مع علمه بتحريمه‏.‏
    وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري‏:‏ معناه ينزع عنه اسم المدح الذي سمي الله به أولياءه فلا يقال في حقه مؤمن ويستحق اسم الذم فيقال سارق وزان وفاجر وفاسق، وعن ابن عباس‏:‏ ينزع منه نور الإيمان، وفيه حديث مرفوع، وعن المهلب تنزع منه بصيرته في طاعة الله، وعن الزهري أنه من المشكل الذي نؤمن به ونمر كلما جاء ولا نتعرض لتأويله، قال‏:‏ وهذه الأقوال محتملة والصحيح ما قدمته، قال وقيل في معناه عن ما ذكرته مما ليس بظاهر بل بعضها غلط فتركتها‏.‏
    مثل هذا مرفوعا أخرجه أبو داود والحاكم بسند صحيح من طريق سعيد المقبري أنه سمع أبا هريرة رفعه ‏"‏ إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان ‏"‏ وأخرج الحاكم من طريق ابن حجيرة أنه سمع أبا هريرة يقول ‏"‏ من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه ‏"‏ وأخرج الطبراني بسند جيد من رواية رجل من الصحابة لم يسم رفعه ‏"‏ من زنى خرج منه الإيمان فإن تاب تاب الله عليه ‏"‏ وأخرج الطبري من طريق عبد الله بن رواحة ‏"‏ مثل الإيمان مثل قميص بينما أنت مدبر عنه إذ لبسته، وبينما، أنت قد لبسته إذ نزعته ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ وبيان ذلك أن الإيمان هو التصديق، غير أن للتصديق معنيين أحدهما قول والآخر عمل، فإذا ركب المصدق كبيرة فارقه اسم الإيمان فإذا كف عنها عاد له الاسم، لأنه في حال كفه عن الكبيرة مجتنب بلسانه ولسانه مصدق عقد قلبه وذلك معنى الإيمان‏.‏
    (ج12/ ص 80)
    ا يضرب الحد سرا، وقد ورد عن عمر في قصة ولده أبي شحمة لما شرب بمصر فحده عمرو بن العاص في البيت أن عمر أنكر عليه وأحضره إلى المدينة وضربه الحد جهرا، روى ذلك ابن سعد وأشار إليه الزبير وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر مطولا، وجمهور أهل العلم على الاكتفاء، وحملوا صنيع عمر على المبالغة في تأديب ولده لا أن إقامة الحد لا تصح إلا جهرا‏.‏
    (ج12/ ص 81)
    وقال في موضع آخر أظن ابن النعيمان جلد في الخمر أكثر من خمسين مرة، وذكر الزبير في بكار أيضا أنه كان مزاحا وله في ذلك قصة مع سويبط بن حرملة ومع مخرمة بن نوفل والد المسور مع أمير المؤمنين عثمان ذكرها الزبير مع نظائر لها في ‏"‏ كتاب الفكاهة والمزاح ‏"‏ وذكر محمد ابن سعد أنه عاش إلى خلافة معاوية‏.‏
    (ج12/ ص 83)
    يؤيده ما أخرجه مسلم من طريق حضير بمهملة وضاد معجمة مصغر ابن لمنذر ‏"‏ أن عثمان أمر عليا بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر اجلده فجلده، فلما بلغ أربعين قال‏:‏ أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة، وهذا أحب إلي ‏"‏ فإن فيه الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وسائر الأخبار ليس فيها عدد إلا بعض الروايات الماضية عن أنس ففيها ‏"‏ نحو الأربعين ‏"‏ والجمع بينها أن عليا أطلق الأربعين فهو حجة على من ذكرها بلفظ التقريب، وادعى الطحاوي أن رواية أبي ساسان هذه ضعيفة لمخالفتها الآثار المذكورة، ولأن راويها عبد الله بن فيروز المعروف بالداناج بنون وجيم ضعيف، وتعقبه البيهقي بأنه حديث صحيح مخرج في المسانيد والسنن، وأن الترمذي سأل البخاري عنه فقواه، وقد صححه مسلم وتلقاه الناس بالقبول‏.‏
    وقال ابن عبد البر‏:‏ إنه أثبت شيء في هذا الباب، قال البيهقي‏:‏ وصحة الحديث إنما تعرف بثقة رجاله، وقد عرفهم حفاظ الحديث وقبلوهم، وتضعيفه الداناج لا يقبل لأن الجرح بعد ثبوت التعديل لا يقبل إلا مفسرا، ومخالفة الراوي غيره في بعض ألفاظ الحديث لا تقتضي تضعيفه ولا سيما مع ظهور الجمع، قلت‏:‏ وثق الداناج المذكور أبو زرعة والنسائي، وقد ثبت عن علي في هذه القصة من وجه آخر أنه جلد الوليد أربعين، ثم ساقه من طريق هشام بن يوسف عن معمر وقال‏:‏ أخرجه البخاري، وهو كما قال، وقد تقدم في مناقب عثمان وأن بعض الرواة قال فيه إنه جلد ثمانين، وذكرت ما قيل في ذلك هناك‏.‏
    وطعن الطحاوي ومن تبعه في رواية أبي ساسان أيضا بأن عليا قال وهذا أحب إلي أي جلد أربعين مع أن عليا جلد النجاشي الشاعر في خلافته ثمانين، وبأن ابن أبي شيبة أخرج من وجه آخر عن علي أن حد النبيذ ثمانون، والجواب عن ذلك من وجهين، أحدهما أنه لا تصح أسانيد شيء من ذلك عن علي، الثاني على تقدير ثبوته فإنه يجوز أن ذلك يختلف بحال الشارب، وأن حد الخمر لا ينقص عن الأربعين ولا يزاد على الثمانين، والحجة إنما هي في جزمه بأنه صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وقد جمع الطحاوي بينهما بما أخرجه هو والطبري من طريق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن عليا جلد الوليد بسوط له طرفان‏.‏
    ال المازري‏:‏ لو فهم الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الخمر حدا معينا لما قالوا فيه بالرأي كما لم يقولوا بالرأي في غيره، فلعلهم فهموا أنه ضرب فيه باجتهاده في حق من ضربه انتهى‏.‏
    جمع القرطبي بين الأخبار بأنه لم يكن أولا في شرب الخمر حد وعلى ذلك يحمل حديث ابن عباس في الذي استجار بالعباس، ثم شرع فيه التعزيز على ما في سائر الأحاديث التي لا تقدير فيها، ثم شرع الحد ولم يطلع أكثرهم على تعيينه صريحا مع اعتقادهم أن فيه الحد المعين، ومن ثم توخى أبو بكر ما فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقر عليه الأمر، ثم رأي عمر ومن وافقه الزيادة على الأربعين إما حدا بطريق الاستنباط وإما تعزيرا‏.‏
    قلت‏:‏ وبقي ما ورد في الحديث أنه إن شرب فحد ثلاث مرات ثم شرب قتل في الرابعة وفي رواية في الخامسة وهو حديث مخرج في السنن من عدة طرق أسانيدها قوية، ونقل الترمذي الإجماع على ترك القتل وهو محمول على من بعد من نقل غيره عنه القول به كعبد الله بن عمرو فيما أخرجه أحمد والحسن البصري وبعض أهل الظاهر، وبالغ النووي فقال‏:‏ كل قول باطل مخالف لإجماع الصحابة فمن بعدهم والحديث الوارد فيه منسوخ إما بحديث ‏"‏ لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ‏"‏ وإما لأن الإجماع دل على نسخه‏.‏
    قلت‏:‏ بل دليل النسخ منصوص وهو ما أخرجه أبو داود من طريق الزهري عن قبيصة في هذه القصة قال ‏"‏ فأتى برجل قد شرب فجلده، ثم أتى به قد شرب فجلده، ثم أتى به فجلده ثم أتى به فجلده فرفع القتل وكانت رخصة ‏"‏
    وقد تمسك بذلك من قال بجواز القياس في الحدود وادعى إجماع الصحابة، وهي دعوى ضعيفة لقيام الاحتمال، وقد شنع ابن حزم على الحنفية في قولهم إن القياس لا يدخل في الحدود والكفارات مع جزم الطحاوي ومن وافقه منهم بأن حد الخمر وقع بالقياس على حد القذف، وبه تمسك من قال بالجواز من المالكية والشافعية، واحتج من منع ذلك بأن الحدود والكفارات شرعت بحسب المصالح، وقد تشترك أشياء مختلفة وتختلف أشياء متساوية فلا سبيل إلى علم ذلك إلا بالنص، وأجابوا عما وقع في زمن عمر بأنه لا يلزم من كونه جلد قدر حد القذف أن يكون جعل الجميع حدا بل الذي فعلوه محمول على أنهم لم يبلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حد فيه أربعين إذ لو بلغهم لما جاوزوه كما لم يجاوزوا غيره من الحدود المنصوصة، وقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يستنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال فرجح أن الزيادة كانت تعزيرا، ويؤيده ما أخرجه أبو عبيد في ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏ بسند صحيح عن أبي رافع بن عمر أنه أتى بشارب فقال لمطيع بن الأسود‏:‏ إذا أصبحت غدا فاضربه، فجاء عمر فوجده يضربه ضربا شديدا فقال‏:‏ كم ضربته‏؟‏ قال ستين قال اقتص عنه بعشرين، قال أبو عبيد‏:‏ يعني اجعل شدة ضربك له قصاصا بالعشرين التي بقيت من الثمانين، قال أبو عبيد‏:‏ فيؤخذ من هذا الحديث أن ضرب الشارب لا يكون شديدا وأن لا يضرب في حال السكر لقوله ‏"‏ إذا أصبحت فاضربه ‏"‏ قال البيهقي‏:‏ ويؤخذ منه أن الزيادة على الأربعين ليست بحد إذ لو كانت حدا لما جاز النقص منه بشدة الضرب إذ لا قائل به‏.‏
    ل صاحب ‏"‏ المفهم ‏"‏ ما ملخصه بعد أن ساق الأحاديث الماضية‏:‏ هذا كله يدل على أن الذي وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان أدبا وتعزيرا، ولذلك قال علي‏:‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه، فلذلك ساغ للصحابة الاجتهاد فيه فألحقوه بأخف الحدود، وهذا قول طائفة من علمائنا‏.‏
    قد استقر الإجماع على ثبوت حد الخمر وأن لا قتل فيه واستمر الاختلاف في الأربعين والثمانين، وذلك خاص بالحر المسلم وأما الذمي فلا يحد فيه، وعن أحمد رواية أنه يحد، وعنه إن سكر والصحيح عندهم كالجمهور، وأما من هو في الرق فهو على النصف من ذلك إلا عند أبي ثور وأكثر أهل الظاهر فقالوا الحر والعبد في ذلك سواء لا ينقص عن الأربعين نقله ابن عبد البر وغيره عنهم، وخالفهم ابن حزم فوافق الجمهور‏.‏
    (ج12/ ص 93)
    ال النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏‏:‏ وأما الدعاء على إنسان بعينه ممن اتصف بشيء من المعاصي فظاهر الحديث أنه لا يحرم وأشار الغزالي إلى تحريمه وقال في ‏"‏ باب الدعاء على الظلمة ‏"‏ بعد أن أورد أحاديث صحيحة في الجواز قال الغزالي‏:‏ وفي معنى اللعن الدعاء على الإنسان بالسوء حتى على الظالم مثل ‏"‏ لا أصح الله جسمه ‏"‏ وكل ذلك مذموم انتهى‏.‏
    والأولى حمل كلام الغزالي على الأول، وأما الأحاديث فتدل على الجواز كما ذكره النووي في قوله صلى الله عليه وسلم للذي قال كل بيمينك فقال لا أستطيع فقال ‏"‏ لا استطعت ‏"‏ فيه دليل على جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي، ومال هنا إلى الجواز قبل إقامة الحد والمنع بعد إقامته، وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين باسمه فيجمع بين المصلحتين، لأن لعن المعين والدعاء عليه قد يحمله على التمادي أو يقنطه من قبول التوبة، بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف فإن فيه زجرا وردعا عن ارتكاب ذلك وباعثا لفاعله على الإقلاع عنه، ويقويه النهي عن التثريب على الأمة إذا جلدت على الزنا كما سيأتي قريبا‏.‏
    واحتج شيخنا الإمام البلقيني على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح وهو في الصحيح، وقد توقف فيه بعض من لقيناه بأن اللاعن لها الملائكة فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها، والذي قاله شيخنا أقوى فإن الملك معصوم والتأسي بالمعصوم مشروع والبحث في جواز لعن المعين وهو الموجود‏.‏
    (ج12/ ص 97)
    أحاديث القتل منسوخة، وأخرجه أيضا من رواية ابن أبي ذئب حدثني ابن شهاب ‏"‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بشارب فجلده ولم يضرب عنقه‏.‏
    وقال الترمذي‏:‏ لا نعلم بين أهل العلم في هذا اختلافا في القديم والحديث‏.‏
    قال وسمعت محمدا يقول‏:‏ حديث معاوية في هذا أصح، وإنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد‏.‏
    وقال في ‏"‏ العلل ‏"‏ آخر الكتاب‏:‏ جميع ما في هذا الكتاب قد عمل به أهل العلم إلا هذا الحديث وحديث الجمع بين الصلاتين في الحضر، وتعقبه النووي فسلم قوله في حديث الباب دون الآخر، ومال الخطابي إلى تأويل الحديث في الأمر بالقتل فقال‏:‏ قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل وإنما قصد به الردع والتحذير، ثم قال‏:‏ ويحتمل أن يكون القتل في الخامسة كان واجبا ثم تسخ بحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل، وأما ابن المنذر فقال‏:‏ كان العمل فيمن شرب الخمر أن يضرب وينكل به، ثم نسخ بالأمر بجلده فإن تكرر ذلك أربعا قتل، ثم نسخ ذلك بالأخبار الثابتة وبإجماع أهل العلم إلا من شذ ممن لا يعد ‏[‏خلافه‏]‏ خلافا‏.‏
    قلت‏:‏ وكأنه أشار إلى بعض أهل الظاهر، فقد نقل عن بعضهم واستمر عليه ابن حزم منهم واحتج له وادعى أن لا إجماع وأورد من مسند الحارث بن أبي أسامة ما أخرجه هو والإمام أحمد من طريق الحسن البصري عن عبد الله بن عمرو أنه قال‏:‏ ائتوني برجل أقيم عليه الحد يعني ثلاثا ثم سكر فإن لم أقتله فأنا كذاب، وهذا منقطع لأن الحسن لم يسمع من عبد الله بن عمرو كما جزم به بن المديني وغيره فلا حجة فيه، وإذا لم يصح هذا عن عبد الله في عمرو لم يبق لمن رد الإجماع على ترك القتل متمسك حتى ولو ثبت عن عبد الله بن عمرو لكان عذره أنه لم يبلغه النسخ وعد ذلك من نزره المخالف، وقد جاء عن عبد الله بن عمرو أشد من الأول فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند لين قال‏:‏ لو رأيت أحدا يشرب الخمر واستطعت أن أقتله لقتلته‏.‏
    ( ج12/ ص 100)
    قال ابن بطال‏:‏ معناه لا ينبغي تعيين أهل المعاصي ومواجهتهم باللعن وإنما ينبغي أن يلعن في الجملة من فعل ذلك ليكون ردعا لهم وزجرا عن انتهاك شيء منها، ولا يكون لمعين لئلا يقنط، قال‏:‏ فإن كان هذا مراد البخاري فهو غير صحيح لأنه إنما نهى عن لعن الشارب وقال ‏"‏ لا تعينوا عليه الشيطان بعد إقامة الحد عليه ‏
    وقال عياض‏:‏ جوز بعضهم لعن المعين ما لم يحد لأن الحد كفارة، قال‏:‏ وليس هذا بسديد لثبوت النهي عن اللعن في الجملة فحمله على المعين أولى، وقد قيل‏:‏ إن لعن النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المعاصي كان تحذيرا لهم عنها قبل وقوعها، فإذا فعلوها استغفر لهم ودعا لهم بالتوبة، وأما من أغلظ له ولعنه تأديبا على فعل فعله فقد دخل في عموم شرطه حيث قال ‏"‏ سألت ربي أن يجعل لعني له كفارة ورحمة‏"‏‏.‏
    (ج12/ ص 101)
    وقال المازري‏:‏ تأول بعض الناس البيضة في الحديث بيضة الحديد لأنه يساوي نصاب القطع، وحمله بعضهم على المبالغة في التنبيه على عظم ما خسر وحقر ما حصل، وأراد من جنس البيضة والحبل ما يبلغ النصاب‏.‏
    قال القرطبي‏:‏ ونظير حمله على المبالغة ما حمل عليه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من بني لله مسجدا ولو كمفحص قطاة ‏"‏ فإن أحد ما قيل فيه إنه أراد المبالغة في ذلك، وإلا فمن المعلوم أن مفحص القطاة وهو قدر ما تحضن فيه بيضها لا يتصور أن يكون مسجدا، قال‏:‏ ومنه ‏"‏ تصدقن ولو بظلف محرق‏)‏ وهو مما لا يتصدق به، ومثله كثير في كلامهم‏.‏
    وقال عياض‏:‏ لا ينبغي أن يلتفت لما ورد أن البيضة بيضة الحديد والحبل حبل السفن لأن مثل ذلك له قيمة وقدر، فإن سياق الكلام يقتضي ذم من أخذ القليل لا الكثير، والخبر إنما ورد لتعظيم ما جنى على نفسه بما تقل به قيمته لا بأكثر، والصواب تأويله على ما تقدم من تقليل أمره وتهجين فعله وأنه إن لم يقطع في هذا القدر جرته عادته إلى ما هو أكثر منه‏.‏
    وأجاب بعض من انتصر لتأويل الأعمش‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله عند نزول الآية مجملة قبل بيان نصاب القطع انتهى‏.‏
    (ج12/ ص 104)
    وقد استشكل ابن بطال قوله ‏"‏ الحدود كفارة ‏"‏ مع قوله في الحديث الآخر ‏"‏ ما أدري الحدود كفارة لأهلها أو لا ‏"‏ وأجاب بأن سند حديث عبادة أصح، وأجيب بأن الثاني كان قبل أن يعلم بأن الحدود كفارة ثم أعلم فقال الحديث الثاني، وبهذا جزم ابن التين وهو المعتمد‏.‏
    وقد أجيب من توقف في ذلك لأجل أن الأول من حديث أبي هريرة وهو متأخر الإسلام عن بيعة العقبة، والثاني وهو التردد من حديث عبادة بن الصامت وقد ذكر في الخبر أنه ممن بايع ليلة العقبة وبيعة العقبة كانت قبل إسلام أبي هريرة بست سنين‏.‏
    (ج12/ ص 107)
    وأخرج موقوفا أخرجه أحمد وصححه الحاكم وحديث عائشة مرفوعا ‏"‏ أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم إلا في الحدود ‏"‏ أخرجه أبو داود‏.‏
    ويستفاد منه جواز الشفاعة فيما يقتضي التعزير‏.‏
    وقد نقل ابن عبد البر وغيره فيه الاتفاق، ويدخل فيه سائر الأحاديث الواردة في ندب الستر على المسلم، وهي محمولة على ما لم يبلغ الإمام‏.‏
    (ج12/ ص 108)
    كان قطع السارق معلوما عندهم قبل الإسلام، ونزل القرآن بقطع السارق فاستمر الحال فيه، وقد عقد ابن الكلبي بابا لمن قطع في الجاهلية بسبب السرقة فذكر قصة الذين سرقوا غزال الكعبة فقطعوا في عهد عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر من قطع في السرقة عوف بن عبد بن عمرو بن مخزوم ومقيس ابن قيس بن عدي بن سعد بن سهم وغيرهما وأن عوفا السابق لذلك‏.‏
    (ج12/ 110)
    ذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع في جحد العارية وهي رواية عن أحمد أيضا، وأجابوا عن الحديث بأن رواية من روى ‏"‏ سرقت ‏"‏ أرجح، وبالجمع بين الروايتين بضرب من التأويل فأما الترجيح فنقل النووي أن رواية معمر شاذة مخالفة لجماهير الرواة، قال‏:‏ والشاذة لا يعمل بها‏.‏
    وقال ابن المنذر في الحاشية وتبعه المحب الطبري‏:‏ قيل إن معمرا انفرد بها‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ رواية أنها سرقت أكثر وأشهر من رواية الجحد، فقد انفرد بها معمر وحده من بين الأئمة الحفاظ، وتابعه على ذلك من لا يقتدى بحفظه كابن أخي الزهري ونمطه‏.‏
    هذا قول المحدثين‏.‏
    قلت سبقه لبعضه القاضي عياض، وهو يشعر بأنه لم يقف على روايته شعيب ويونس بموافقة معمر إذ لو وقف عليها لم يجزم بتفرد معمر وأن من وافقه كابن أخي الزهري ونمطه ولا زاد القرطبي نسبة ذلك للمحدثين إذ لا يعرف عن أحد من المحدثين أنه قرن شعيب بن أبي حمزة ويونس بن يزيد وأيوب بن موسى بابن أخي الزهري بل هم متفقون على أن شعيبا ويونس أرفع درجة في حديث الزهري من ابن أخيه، ومع ذلك فليس في هذا الاختلاف عن الزهري ترجيح بالنسبة إلى اختلاف الرواة عنه إلا لكون رواية ‏"‏ سرقت ‏"‏ متفقا عليها ورواية ‏"‏ جحدت ‏"‏ انفرد بها مسلم، وهذا لا يدفع تقديم الجمع إذا أمكن بين الروايتين، وقد جاء عن بعض المحدثين عكس كلام القرطبي فقال‏:‏ لم يختلف على معمر ولا على شعيب وهما في غاية الجلالة في الزهري، وقد وافقهما ابن أخي الزهري، وأما الليث ويونس وإن كانا في الزهري كذلك فقد اختلف عليهما فيه، وأما إسماعيل بن أمية وإسحاق بن راشد فدون معمر وشعيب في الحفظ قلت‏:‏ وكذا اختلف على أيوب بن موسى كما تقدم، وعلى هذا فيتعادل الطريقان ويتعين الجمع فهو أولى من إطراح أحد الطريقين،
    عن ابن حزم وغيره‏:‏ هما قصتان مختلفتان لامرأتين مختلفتين، وتعقب بأن في كل من الطريقين أنهم استشفعوا بأسامة وأنه شفع وأنه قيل له‏:‏ ‏"‏ لا تشفع في حد من حدود الله ‏"‏ فيبعد أن أسامة يسمع النهي المؤكد عن ذلك ثم يعود إلى ذلك مرة أخرى ولا سيما أن اتحد زمن القصتين، وأجاب ابن حزم بأنه يجوز أن ينسى ويجوز أن يكون الزجر عن الشفاعة في حد السرقة تقدم فظن أن الشفاعة في جحد العارية جائز وأن لا حد فيه فشفع فأجيب بأن فيه الحد أيضا، ولا يخفى ضعف الاحتمالين‏.‏
    (ج12/ 113)
    قول سفيان المتقدم‏:‏ ذهبت أسأل الزهري عن حديث المخزومية التي سرقت فصاح على مما يكثر السؤال عنه وعن سببه، وقد أوضح ذلك بعض الرواة عن سفيان، فرأينا في كتاب المحدث الفاضل لأبي محمد الرامهرمزي من طريق سليمان بن عبد العزيز أخبرني محمد بن إدريس قال‏:‏ قلت لسفيان بن عيينة كم سمعت من الزهري‏؟‏ قال‏:‏ أما مع الناس فما أحصى، وأما وحدي فحديث واحد، دخلت يوما من باب بني شيبة فإذا أنا به جالس إلى عمود فقلت‏:‏ يا أبا بكر حدثني حديث المخزومية التي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها، قال فضرب وجهي بالحصى ثم قال‏:‏ قم؛ فما يزال عبد يقدم علينا بما نكره، قال‏:‏ فقمت منكسرا، فمر رجل فدعاه فلم يسمع فرماه بالحصى فلم يبلغه فاضطر إلى فقال‏:‏ ادعه لي، فدعوته له فأتاه فقضى حاجته، فنظر إلي فقال‏:‏ تعال، فجئت فقال‏:‏ ‏"‏ أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ العجماء جبار ‏"‏ الحديث، ثم قال لي‏:‏ هذا خير لك من الذي أردت‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا الحديث الأخير أخرجه مسلم والأربعة من طريق سفيان بدون القصة‏.‏
    (ج12/ ص 116)
    واختلف العلماء في ذلك فقال أبو عمر بن عبد البر لا أعلم خلافا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة ما لم تبلغ السلطان، وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته‏.‏
    وذكر الخطابي وغيره عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذى الناس ومن لم يعرف، فقال‏:‏ لا يشفع للأول مطلقا سواء بلغ الإمام أم لا، وأما من لم يعرف بذلك فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام‏.‏
    وتمسك بحديث الباب من أوجب إقامة الحد على القاذف إذا بلغ الإمام ولو عفا المقذوف، وهو قول الحنفية والثوري والأوزاعي‏.‏
    وقال مالك والشافعي وأبو يوسف‏:‏ يجوز العفو مطلقا ويدرأ بذلك الحد لأن الإمام لو وجده بعد عفو المقذوف لجاز أن يقيم البينة بصدق القاذف فكانت تلك شبهة قوية‏.‏
    وفيه دخول النساء مع الرجال في حد السرقة‏.‏
    وفيه قبول توبة السارق، ومنقبة لأسامة‏.‏
    ( ج12/ ص 117)
    في أشياء أخرى ذكرها ابن خالويه في ‏"‏ كتاب ليس ‏"‏ قال المازري ومن تبعه‏:‏ صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها من الانتهاب والغصب ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة بخلافها وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطع فيه حماية لليد، ثم لما خانت هانت، وفي ذلك إشارة إلى الشبهة التي نسبت إلى أبي العلاء المعري في قوله‏:‏ يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار‏؟‏ فأجابه القاسم عبد الوهاب المالكي بقوله‏:‏ صيانة العضو أغلاها وأرخصها صيانة المال فافهم حكمة الباري وشرح ذلك أن الدية لو كانت ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين، وقد عسر فهم المعنى المقدم ذكره في الفرق بين السرقة وبين النهب ونحوه على بعض منكري القياس فقال‏:‏ القطع في السرقة دون الغصب وغيره غير معقول المعنى، فإن الغصب أكثر هتكا للحرمة من السرقة، فدل على عدم اعتبار القياس لأنه إذا لم يعمل به في الأعلى فلا يعمل به في المساوي، وجوابه أن الأدلة على العمل بالقياس أشهر من أن يتكلف لإيرادها،
    (ج12/ ص 120)
    ‏وقطع علي من الكف‏)‏ أشار بهذا الأثر إلى الاختلاف في محل القطع، وقد اختلف في حقيقة اليد فقيل‏:‏ أولها من المنكب؛ وقيل من المرفق، وقيل من الكوع، وقيل من أصول الأصابع‏.‏
    فحجة الأول أن العرب تطلق الأيدي على ذلك، ومن الثاني آية الوضوء ففيها ‏(‏وأيديكم إلى المرافق‏)‏ ومن الثالث آية التيمم، ففي القرآن ‏(‏فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه‏)‏ وبينت السنة كما تقدم في بابه أنه عليه الصلاة والسلام مسح على كفيه فقط، وأخذ بظاهر الأول بعض الخوارج ونقل عن سعيد بن المسيب واستنكره جماعة، والثاني لا نعلم من قال به في السرقة، والثالث قول الجمهور ونقل بعضهم فيه الإجماع، والرابع نقل عن علي واستحسنه أبو ثور، ورد بأنه لا يسمى مقطوع اليد لغة ولا عرفا بل مقطوع الأصابع وبحسب هذا الاختلاف وقع الخلف في محل القطع فقال بالأول الخوارج وهم محجوجون بإجماع السلف على خلاف قولهم، وألزم ابن حزم الحنفية بأن يقولوا بالقطع من المرفق قياسا على الوضوء وكذا التيمم عندهم، قال‏:‏ وهو أولى من قياسهم قدر المهر على نصاب السرقة، ونقله عياض قولا شاذا وحجة الجمهور الأخذ بأقل ما ينطلق عليه الاسم لأن اليد قبل السرقة كانت محترمة فلما جاء النص بقطع اليد وكانت تطلق على هذه المعاني وجب أن لا يترك المتيقن وهو تحريمها إلا بمتيقن وهو القطع من الكف، وأما الأثر عن علي فوصله الدار قطني من طريق حجبة بن عدي أن عليا قطع من المفصل‏.‏
    (ج12/ ص 121)
    وقيل يقتل في الخامسة قاله أبو مصعب الزهري المدني صاحب مالك، وحجته ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث جابر قال ‏"‏ جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ اقتلوه، فقالوا يا رسول الله إنما سرق، قال‏:‏ اقطعوه، ثم جيء به الثانية فقال اقتلوه - فذكر مثله إلى أن قال - فأتى به الخامسة فقال‏:‏ اقتلوه‏.‏
    قال جابر‏:‏ فانطلقنا به فقتلناه ورميناه في بئر، قال النسائي هذا حديث منكر ومصعب بن ثابت راويه ليس بالقوي، وقد قال بعض أهل العلم كابن المنكدر والشافعي‏:‏ إن هذا منسوخ‏.‏
    وقال بعضهم هو خاص بالرجل المذكور فكأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أنه واجب القتل ولذلك أمر بقتله من أول مرة، ويحتمل أنه كان من المفسدين في الأرض‏.‏
    (ج12/ ص 123)
    قال ابن عبد البر‏:‏ حديث القتل في الخامسة منكر وقد ثبت ‏"‏ لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ‏"‏ وثبت ‏"‏ السرقة فاحشة وفيها عقوبة ‏"‏ وثبت عن الصحابة قطع الرجل بعد اليد وهم يقرءون ‏(‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏)‏ كما اتفقوا على الجزاء في الصيد وإن قتل خطأ وهم يقرءون ‏(‏ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم‏)‏ ويمسحون على الخفين وهم يقرءون غسل الرجلين، وإنما قالوا جميع ذلك بالسنة‏.‏
    (ج12/ ص 128)
    وله ‏"‏ قطع ‏"‏ معناه أمر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يباشر القطع بنفسه ‏"‏ وقد تقدم في الباب قبله أن بلالا هو الذي باشر قطع يد المخزومية، فيحتمل أن يكون هو الذي كان موكلا بذلك ويحتمل غيره
    حديث ابن عباس قال ‏"‏ كان قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم ‏"‏ قال فالاحتياط أن لا يقطع إلا فيما اجتمعت فيه هذه الآثار وهو عشرة، ولا يقطع فيما دونها لوجود الاختلاف فيه وتعقب بأنه لو سلم في الدراهم لم يسلم في النص الصريح في ربع دينار كما تقدم إيضاحه، ودفع ما أعله به‏.‏
    والجمع بين ما اختلفت الروايات في ثمن المجن ممكن بالحمل على اختلاف الثمن والقيمة أو على تعدد المجان التي قطع فيها وهو أولى‏.‏
    وقال ابن دقيق العيد‏:‏ الاستدلال بقوله ‏"‏ قطع في مجن ‏"‏ على اعتبار النصاب ضعيف لأنه حكاية فعل ولا يلزم من القطع في هذا المقدار عدم القطع فيما دونه بخلاف قوله ‏"‏ يقطع في ربع دينار فصاعدا ‏"‏ فإنه بمنطوقه يدل على أنه يقطع فيما إذا بلغه وكذا فيما زاد عليه، وبمفهومه على أنه لا قطع فيما دون ذلك، قال‏:‏ واعتماد الشافعي على حديث عائشة وهو قول أقوى في الاستدلال من الفعل المجرد، وهو قوي في الدلالة على الحنفية لأنه صريح في القطع في دون القدر الذي يقولون بجواز القطع فيه، ويدل على القطع فيما يقولون به بطريق الفحوى، وأما دلالته على عدم القطع في دون ربع دينار فليس هو من حيث منطوقه بل من حيث مفهومه فلا يكون حجة على من لا يقول بالمفهوم‏.‏
    (ج12/ ص 130)
    وقد خالف من المالكية في ذلك من القدماء ابن عبد الحكم وممن بعدهم ابن العربي فقال‏:‏ ذهب سفيان الثوري مع جلالته في الحديث إلى أن القطع لا يكون إلا في عشرة دراهم، وحجته أن اليد محترمة بالإجماع فلا تستباح إلا بما أجمع عليه والعشرة متفق على القطع فيها عند الجميع فيتمسك به ما لم يقع الاتفاق على ما دون ذلك، وتعقب بأن الآية دلت على القطع في كل قليل وكثير، وإذا اختلفت الروايات في النصاب أخذ بأصح ما ورد في الأقل، ولم يصح أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم، فكان اعتبار ربع دينار أقوى من وجهين‏:‏ أحدهما أنه صريح في الحصر حيث ورد بلفظ ‏"‏ لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا ‏"‏ وسائر الأخبار الصحيحة الواردة حكاية فعل لا عموم فيها، والثاني أن المعول عليه في القيمة الذهب لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها، ويؤيده ما نقل الخطابي استدلالا على أن أصل النقد في ذلك الزمان الدنانير بأن الصكاك القديمة كان يكتب فيها عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل فعرفت الدراهم بالدنانير وحصرت بها والله أعلم‏.‏
    وحاصل المذاهب في القدر الذي يقطع السارق فيه يقرب من عشرين مذهبا‏:‏ الأول يقطع في كل قليل وكثير تافها كان أو غير تافه نقل عن أهل الظاهر والخوارج ونقل عن الحسن البصري وبه قال أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي‏.‏
    ومقابل هذا القول في الشذوذ ما نقله عياض ومن تبعه عن إبراهيم النخعي أن القطع لا يجب إلا في أربعين درهما أو أربعة دنانير وهذا هو القول الثاني‏.‏
    الثالث مثل الأول إلا إن كان المسروق شيئا تافها لحديث عروة الماضي ‏"‏ لم يكن القطع في شيء من التافه ‏"‏ ولأن عثمان قطع في فخارة خسيسة وقال لمن يسرق السياط لئن عدتم لأقطعن فيه، وقطع ابن الزبير في نعلين أخرجهما ابن أبي شيبة وعن عمر بن عبد العزيز أنه قطع في مد أو مدين‏.‏
    الرابع تقطع في درهم فصاعدا وهو قول عثمان ألبتي بفتح الموحدة وتشديد المثناة من فقهاء البصرة وربيعة من فقهاء المدينة ونسبه القرطبي إلى عثمان فأطلق ظنا منه أنه الخليفة وليس كذلك الخامس في درهمين وهو قول الحسن البصري جزم به ابن المنذر عنه‏.‏
    السادس فيما زاد على درهمين ولو لم يبلغ الثلاثة أخرجه ابن أبي شيبة بسند قوي عن أنس ‏"‏ أن أبا بكر قطع في شيء ما يساوي درهمين ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ لا يساوي ثلاثة دراهم‏"‏‏.‏
    السابع في ثلاثة دراهم ويقوم ما عداها بها ولو كان ذهبا، وهي رواية عن أحمد، وحكاه الخطابي عن مالك‏.‏
    الثامن مثله لكن إن كان المسروق ذهبا فنصابه ربع دينار وإن كان غيرهما فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطع به وإن لم تبلغ لم يقطع ولو كان نصف دينار، وهذا قول مالك المعروف عند أتباعه، وهي رواية عن أحمد
    العاشر مثله لكن لا يكتفى بأحدهما إلا إذا كانا غالبين فإن كان أحدهما غالبا فهو المعول عليه، وهو قول جماعة من المالكية وهو الحادي عشر‏.‏
    الثاني عشر ربع دينار أو ما يبلغ قيمته من فضة أو عرض، وهو مذهب الشافعي
    (ج12/ ص 132)
    نقل البيهقي عن الشافعي أنه قال‏:‏ يحتمل أن يسقط كل حق لله بالتوبة، قال وجزم به في كتاب الحدود، وروى الربيع عنه أن حد الزنا لا يسقط، وعن الليث والحسن لا يسقط شيء من الحدود أبدا، قال وهو قول مالك، وعن الحنفية يسقط إلا الشرب‏.‏
    وقال الطحاوي ولا يسقط إلا قطع الطريق لورود النص فيه والله أعلم‏.‏
    وحديث عبادة بن الصامت في البيعة وفيه ذكر السرقة وفي آخره ‏"‏ فمن أصاب من ذلك شيئا فأخذ به في الدنيا فهو كفارة له وطهور ‏"‏ ووجه الدلالة منه أن الذي أقيم عليه الحد وصف بالتطهر فإذا انضم إلى ذلك أنه تاب فإنه يعود إلى ما كان عليه قبل ذلك فتضمن ذلك قبول شهادته أيضا‏.‏
    والله أعلم‏.‏
    (ج12/ ص 133)
    إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية‏"‏، ووقع مثله في حديث أبي هريرة، وممن قال ذلك الحسن وعطاء والضحاك والزهري قال‏:‏ وذهب جمهور الفقهاء إلى أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يسعى في الأرض بالفساد ويقطع الطريق، وهو قول مالك والشافعي والكوفيين، ثم قال‏:‏ ليس هذا منافيا للقول الأول لأنها وإن نزلت في العرنيين بأعيانهم لكن لفظها عام يدخل في معناه كل من فعل مثل فعلهم من المحاربة والفساد‏.‏
    (ج12/ ص 136)
    قال ابن بطال‏:‏ أجمع الصحابة وأئمة الأمصار على أن المحصن إذا زنى عامدا عالما مختارا فعليه الرجم، ودفع ذلك الخوارج وبعض المعتزلة واعتلوا بأن الرجم لم يذكر في القرآن، وحكاه ابن العربي عن طائفة من أهل المغرب لقيهم وهم من بقايا الخوارج، واحتج الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم وكذلك الأئمة بعده، ولذلك أشار علي رضي الله عنه بقوله في أول أحاديث الباب ‏"‏ ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وثبت في صحيح مسلم عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا‏.‏
    الثيب بالثيب الرجم ‏"‏ وسيأتي في ‏"‏ باب رجم الحبلى من الزنا ‏"‏ من حديث عمر أنه خطب فقال ‏"‏ إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه القرآن فكان مما أنزل آية الرجم
    (ج12/ ص 139)
    وأخرج ابن أبي شيبة من طريق جابر بن زيد وهو أبو الشعثاء التابعي المشهور فيمن أتى ذات محرم منه قال‏:‏ تضرب عنقه‏.‏
    ووجه الدلالة من حديث على أنه قال ‏"‏ رجمتها بسنة رسول الله ‏"‏ فإنه لم يفرق بين ما إذا كان الزنا بمحرم أو بغير محرم‏.‏
    وأشار البخاري إلى ضعف الخبر الذي ورد في قتل من زنى بذات محرم، وهو ما رواه صالح بن راشد قال‏:‏ أتى الحجاج برجل قد اغتصب أخته على نفسها فقال سلوا من هنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن المطرف ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من تخطى الحرمتين فخطوا وسطه بالسيف ‏"‏ فكتبوا إلى ابن عباس فكتب إليهم بمثله ذكره ابن أبي حاتم في ‏"‏ العلل ‏"‏ ونقل عن أبيه أنه روى عن مطرف ابن عبد الله بن الشخير من قوله، قال‏:‏ ولا أدري أهو هذا أو لا يشير إلى تجويز أن يكون الراوي غلط في قوله عبد الله بن مطرف وفي قوله سمعت‏.‏
    وإنما هو مطرف بن عبد الله ولا صحبة له‏.‏
    وقال ابن عبد البر‏:‏ يقولون إن الراوي غلط فيه، وأثر مطرف الذي أشار إليه أبو حاتم أخرجه ابن أبي شيبة من طريق بكر بن عبد الله المزي قال‏:‏ أتى الحجاج برجل قد وقع على ابنته وعنده مطرف بن عبد الله بن الشخير وأبو بردة، فقال أحدهما‏:‏ اضرب عنقه، فضربت عنقه‏.‏
    (ج12/ ص 144)
    ويوضح ضعفه قوله ‏"‏ فكتبوا إلى ابن عباس ‏"‏ وابن عباس مات قبل أن يلي الحجاج الإمارة بأكثر من خمس سنين، ولكن له طريق أخرى إلى ابن عباس أخرجها الطحاوي وضعف راويها، وأشهر حديث في الباب حديث البراء ‏"‏ لقيت خالي ومعه الراية فقال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن اضرب عنقه ‏"‏ أخرجه أحمد وأصحاب السنن وفي سنده اختلاف كثير، وله شاهد من طريق معاوية بن مرة عن أبيه أخرجه ابن ماجه والدار قطني، وقد قال بظاهره أحمد‏.‏
    وحمله الجمهور على من استحل ذلك بعد العلم بتحريمه بقرينة الأمر بأخذ ماله وقسمته
    (ج12/ ص 146)
    ومن المذاهب المستغربة ما حكاه ابن المنذر وابن حزم عن أبي بن كعب زاد ابن حزم وأبي ذر وابن عبد البر عن مسروق أن الجمع بين الجلد والرجم خاص بالشيخ والشيخة، وأما الشاب فيجلد إن لم يحصن ويرجم إن أحصن فقط، وحجتهم في ذلك حديث الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة كما سيأتي بيانه في الكلام على حديث عمر في ‏"‏ باب رجم الحبلى من الزنا ‏"‏ وقال عياض‏:‏ شذت فرقة من أهل الحديث فقالت الجمع على الشيخ الثيب دون الشاب ولا أصل له‏.‏
    وقال النووي‏:‏ هو مذهب باطل، كذا قاله ونفى أصله، ووصفه، بالبطلان إن كان المراد به طريقه فليس بجيد لأنه ثابت
    (ج12/ ص 148)
    وفي أول الأثر المذكور قصة تناسب هذه الترجمة وهو ‏"‏ عن ابن عباس أتى عمر أي بمجنونة قد زنت وهي حبلى فأراد أن يرجمها، فقال له علي‏:‏ أما بلغك أن القلم قد رفع عن ثلاثة ‏"‏ فذكره، هذا لفظ علي بن الجعد الموقوف في ‏"‏ الفوائد الجعديات ‏"‏ ولفظ الحديث المرفوع عن ابن عباس ‏"‏ مر علي ابن أبي طالب بمجنونة بني فلان قد زنت فأمر عمر برجمها فردها علي وقال لعمر‏:‏ أما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون المغلوب على عقله، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ‏؟‏ قال‏:‏ صدقت، فخلى عنها، هذه رواية جرير بن حازم عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن أبي داود وسندها متصل، لكن أعله النسائي بأن جرير بن حازم حدث بمصر بأحاديث غلط فيها‏.‏
    (ج12/ ص 152)
    يؤخذ من قضيته أنه يستحب لمن وقع في مثل قضيته أن يتوب إلى الله تعالى ويستر نفسه ولا يذكر ذلك لأحد كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعز، وأن من أطلع على ذلك يستر عليه بما ذكرنا ولا يفضحه ولا يرفعه إلى الإمام كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه القصة ‏"‏ لو سترته بثوبك لكان خيرا لك ‏"‏ وبهذا جزم الشافعي رضي الله عنه فقال‏:‏ أحب لمن أصاب ذنبا فستره الله عليه أن يستره على نفسه ويتوب، واحتج بقصة ماعز مع أبي بكر وعمر‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ هذا كله في غير المجاهر، فأما إذا كان متظاهرا بالفاحشة مجاهرا فإني أحب مكاشفته والتبريح به لينزجر هو وغيره‏.‏
    وقد استشكل استحباب الستر مع ما وقع من الثناء على ماعز والغامدية، وأجاب شيخنا ‏"‏ في شرح الترمذي ‏"‏ بأن الغامدية كان ظهر بها الحبل مع كونها غير ذات زوج فتعذر الاستتار للاطلاع على ما يشعر بالفاحشة، ومن ثم قيد بعضهم ترجيح الاستتار حيث لا يكون هناك ما يشعر بضده، وإن وجد فالرفع إلى الإمام ليقيم عليه الحد أفضل انتهى‏.‏
    والذي يظهر أن الستر مستحب والرفع لقصد المبالغة في التطهير أحب والعلم عند الله تعالى‏.‏
    وفيه ترك سجن من اعترف بالزنا في مدة الاستثبات وفي الحامل حتى تضع، وقيل إن المدينة لم يكن بها حينئذ سجن، وإنما كان يسلم كل جان لوليه‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ إنما لم يأمر بسجنه ولا التوكيل به لأن رجوعه مقبول فلا فائدة في ذلك مع جواز الإعراض عنه إذا رجع، ويؤخذ من قوله ‏"‏ هل أحصنت ‏"‏ وجوب الاستفسار عن الحال التي تختلف الأحكام باختلافها‏.‏
    وفيه أن إقرار السكران لا أثر له يؤخذ من قوله ‏"‏ استنكهوه ‏"‏ والذين اعتبروه وقالوا إن عقله زال بمعصيته، ولا دلالة في قصة ماعز لاحتمال تقدمها على تحريم الخمر أو أن سكره وقع عن غير معصية‏.‏
    وفيه أن المقر بالزنا إذا أقر يترك، فإن صرح بالرجوع فذاك وإلا اتبع ورجم وهو قول الشافعي وأحمد ودلالته من قصة ماعز ظاهرة، وقد وقع في حديث نعيم بن هزال ‏"‏ هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه ‏"‏ أخرجه أبو داود وصححه الحاكم وحسنه، وللترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وصححه الحاكم أيضا، وعند أبي داود من حديث بريدة قال ‏"‏ كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن ماعزا والغامدية لو رجعا لم يطلبهما ‏"‏ وعند المالكية في المشهور لا يترك إذا هرب، وقيل يشترط أن يؤخذ على الفور فإن لم يؤخذ ترك، وعن ابن عيينة إن أخذ في الحال كمل عليه الحد وإن أخذ بعد أيام ترك، وعن أشهب إن ذكر عذرا يقبل ترك وإلا فلا، ونقله القعنبي عن مالك، وحكى الكجي عنه قولين فيمن رجع إلى شبهة، ومنهم من قيده بما بعد إقراره عند الحاكم، واحتجوا بأن الذين رجموه حتى مات بعد أن هرب لم يلزموا بديته فلو شرع تركه لوجبت عليهم الدية، والجواب أنه لم يصرح بالرجوع، ولم يقل أحد إن حد الرجم يسقط بمجرد الهرب، وقد عبر في حديث بريدة بقوله ‏"‏ لعله يتوب ‏"‏ واستدل به على الاكتفاء بالرجم في حد من أحضر من غير جلد وقد تقدم
    (ج12/ ص 159)
    يستفاد منه أن المصلي لا يثبت له حكم المسجد إذ لو ثبت له ذلك لاجتنب الرجم فيه لأنه لا يؤمن التلويث من المرجوم خلافا لما حكاه الدارمي أن المصلي يثبت له حكم المسجد ولو لم يوقف، وتعقب بأن المراد أن الرجم وقع عنده لا فيه كما تقدم في البلاط، وأن في حديث ابن عباس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين عند باب المسجد ‏"‏ وفي رواية موسى ابن عقبة ‏"‏ أنهما رجما قريبا من موضع الجنائز قرب المسجد ‏"‏ وبأنه ثبت في حديث أم عطية الأمر بخروج النساء حتى الحيض في العيد إلى المصلى وهو ظاهر في المراد والله أعلم‏.‏
    وقال النووي‏:‏ ذكر الدارمي من أصحابنا أن مصلى العيد وغيره إذا لم يكن مسجدا يكون في ثبوت حكم المسجد له وجهان أصحهما لا‏.‏
    وقال البخاري وغيره في رجم هذا بالمصلى دليل على أن مصلى الجنائز والأعياد إذا لم يوقف مسجدا لا يثبت له حكم المسجد إذ لو كان له حكم المسجد لاجتنب فيه ما يجتنب في المسجد‏.‏
    قلت‏:‏ وهو كلام عياض بعينه وليس للبخاري منه سوى الترجمة‏.‏
    (ج12/ ص 159)
    قوله ‏(‏سئل أبو عبد الله هل قوله ‏"‏ فصلى عليه ‏"‏ يصح أم لا‏؟‏ قال‏:‏ رواه معمر، قبل له‏:‏ هل رواه غير معمر‏؟‏ قال‏:‏ لا‏)‏ وقع هذا الكلام في رواية المستملي وحده عن الفربري، وأبو عبد الله هو البخاري، وقد اعترض عليه في جزمه بأن معمرا روى هذه الزيادة مع أن المنفرد بها إنما هو محمود بن غيلان عن عبد الرزاق، وقد خالفه العدد الكثير من الحفاظ فصرحوا بأنه لم يصل عليه، لكن ظهر لي أن البخاري قويت عنده رواية محمود بالشواهد، فقد أخرج عبد الرزاق أيضا وهو في السنن لأبي قرة من وجه آخر عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف في قصة ماعز قال ‏"‏ فقيل يا رسول الله أتصلي عليه‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏
    قال‏:‏ فلما كان من الغد قال‏:‏ صلوا على صاحبكم، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ‏"‏ فهذا الخبر يجمع الاختلاف فتحمل رواية النفي على أنه لم يصل عليه حين رجم، ورواية الإثبات على أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه في اليوم الثاني، وكذا طريق الجمع لما أخرجه أبو داود عن بريدة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالصلاة على ماعز ولم ينه عن الصلاة عليه ‏"‏ ويتأيد بما أخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة الجهنية التي زنت ورجمت ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليها، فقال له عمر‏:‏ أتصلي عليها وقد زنت‏؟‏ فقال‏:‏ لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين لوسعتهم ‏"‏ وحكى المنذري قول من حمل الصلاة في الخبر على الدعاء، ثم قال‏:‏ في قصة الجهنية دلالة على توهين هذا الاحتمال، قال‏:‏ وكذا أجاب النووي فقال‏:‏ إنه فاسد لأن التأويل لا يصار إليه إلا عند الاضطرار إليه ولا اضطرار هنا‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ماعز، قال وأجاب من منع عن صلاته على الغامدية لكونها عرفت حكم الحد وماعز إنما جاء مستفهما، قال‏:‏ وهو جواب واه، وقيل لأنه قتله غضبا لله وصلاته رحمة فتنافيا، قال‏:‏ وهذا فاسد لأن الغضب انتهى، قال‏:‏ ومحل الرحمة باق، والجواب المرضي أن الإمام حيث ترك الصلاة على المحدود كان ردعا لغيره‏.‏
    قلت‏:‏ وتمامه أن يقال‏:‏ وحيث صلى عليه يكون هناك قرينة لا يحتاج معها إلى الردع فيختلف حينئذ باختلاف الأشخاص
    (ج12/ ص 160)
    قد اختلف أهل العلم في هذه المسألة فقال مالك‏:‏ يأمر الإمام بالرجم ولا يتولاه بنفسه ولا يرفع عنه حتى يموت، ويخلي بينه وبين أهله يغسلونه ويصلون عليه ولا يصلى عليه الإمام ردعا لأهل المعاصي إذا علموا أنه ممن لا يصلى عليه، ولئلا يجترئ الناس على مثل فعله‏.‏
    وعن بعض المالكية‏:‏ يجوز للإمام أن يصلي عليه وبه قال الجمهور، والمعروف عن مالك أنه يكره للإمام وأهل الفضل الصلاة على المرجوم، وهو قول أحمد، وعن الشافعي لا يكره وهو قول الجمهور، وعن الزهري لا يصلى على المرجوم ولا على قاتل نفسه، وعن قتادة لا يصلى على المولود من الزنا وأطلق عياض فقال لم يختلف العلماء في الصلاة على أهل الفسق والمعاصي والمقتولين في الحدود وإن كره بعضهم ذلك لأهل الفضل إلا ما ذهب إليه أبو حنيفة في المحاربين وما ذهب إليه الحسن في الميتة من نفاس الزنا وما ذهب إليه الزهري وقتادة، قال‏:‏ وحديث الباب في قصة الغامدية حجة للجمهور والله أعلم‏.‏
    (ج12/ ص 164)
    وقد طعن الحافظ أبو بكر البرزنجي في صحة هذا الخبر مع كون الشيخين اتفقا عليه فقال هو منكر وهم وفيه عمرو بن عاصم مع أن هماما كان يحيى بن سعيد لا يرضاه ويقول‏:‏ أبان العطار أمثل منه، قلت‏:‏ لم يبين وجه الوهم، وأما إطلاقه كونه منكرا فعلى طريقته في تسميته ما ينفرد به الراوي منكرا إذا لم يكن له متابع
    (ج12/ ص 165)
    وجزم النووي وجماعة أن الذنب الذي فعله كان من الصغائر بدليل أن في بقية الخبر أنه كفرته الصلاة بناء على أن الذي تكفره الصلاة من الذنوب الصغائر لا الكبائر، وهذا هو الأكثر الأغلب، وقد تكفر الصلاة بعض الكبائر كمن كثر تطوعه مثلا بحيث صلح لأن يكفر عددا كثيرا من الصغائر ولم يكن عليه من الصغائر شيء أصلا أو شيء يسير وعليه كبيرة واحدة مثلا فإنها تكفر عنه ذلك لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا‏.‏
    قلت‏:‏ وقد وقع في رواية أبي بكر البرزنجي عن محمد بن عبد الملك الواسطي عن عمرو بن عاصم بسند حديث الباب بلفظ ‏"‏ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني زنيت فأقم علي الحد ‏"‏ الحديث فحمله بعض العلماء على أنه ظن ما ليس زنا زنا فلذلك كفرت ذنبه الصلاة، وقد يتمسك به من قال إنه إذا جاء تائبا سقط عنه الحد، ويحتمل أن يكون الراوي عبر بالزنا من قوله أصبت حدا فرواه بالمعنى الذي ظنه والأصل ما في الصحيح فهو الذي اتفق عليه الحفاظ عن عمرو ابن عاصم بسنده المذكور، ويحتمل أن يختص ذلك بالمذكور لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد كفر عنه حده بصلاته، فإن ذلك لا يعرف إلا بطريق الوحي فلا يستمر الحكم في غيره إلا في من علم أنه مثله في ذلك وقد انقطع علم ذلك بانقطاع الوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تمسك بظاهره صاحب الهدى فقال للناس في حديث أبي أمامة - يعني المذكور قبل - ثلاث مسالك‏:‏ أحدها أن الحد لا يجب إلا بعد تعيينه والإصرار عليه من المقر به، والثاني أن ذلك يختص بالرجل المذكور في القصة، والثالث أن الحد يسقط بالتوبة، قال‏:‏ وهذا أصح المسالك، وقواه بأن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعا بخشية الله وحده تقاوم السيئة التي عملها، لأن حكمة الحدود الردع عن العود، وصنيعه ذلك دال على ارتداعه فناسب رفع الحد عنه لذلك والله أعلم‏.‏
    (ج12/ ص 174)
    أن السائل يذكر كل ما وقع في القصة لاحتمال أن يفهم المفتي أو الحاكم من ذلك ما يستدل به على خصوص الحكم في المسألة لقول السائل إن ابني كان عسيفا على هذا، وهو إنما جاء يسأل عن حكم الزنا، والسر في ذلك أنه أراد أن يقيم لابنه معذرة ما وأنه لم يكن مشهورا بالعهر ولم يهجم على المرأة مثلا ولا استكرهها، وإنما وقع له ذلك لطول الملازمة المقتضية لمزيد التأنيس والإدلال، فيستفاد منه الحث على إبعاد الأجنبي من الأجنبية مهما أمكن، لأن العشرة قد تفضي إلى الفساد ويتسور بها الشيطان إلى الإفساد‏.‏
    (ج12/ ص 175)
    أن الحد لا يقبل الفداء، وهو مجمع عليه في الزنا والسرقة والحرابة وشرب المسكر، واختلف في القذف والصحيح أنه كغيره وإنما يجري الفداء في البدن كالقصاص في النفس والأطراف‏.‏
    وأن الصلح المبني على غير الشرع يرد ويعاد المال المأخوذ فيه، قال ابن دقيق العيد‏:‏ وبذلك يتبين ضعف عذر من اعتذر من الفقهاء عن بعض العقود الفاسدة بأن المتعاوضين تراضيا وأذن كل منهما للآخر في التصرف، والحق أن الإذن في التصرف مقيد بالعقود الصحيحة‏.‏
    (ج12/ ص 180)
    وقال أبو هلال العسكري‏:‏ المراد به اشتداد الحاجرة، والأصل فيه أنه اسم رجل من العمالقة يقال له عمى غزا قوما في قائم الظهيرة فأوقع بهم فصار مثلا لكل من جاء في ذلك الوقت، وقيل هو رجل من عدوان كان يفيض بالحاج عند الهاجرة فضرب به المثل، وقيل المعنى أن الشخص في هذا الوقت يكون كالأعمى لا يقدر على مباشرة الشمس بعينه، وقيل أصله أن الظبي يدور أي يدوخ من شدة الحر فيصك برأسه ما واجهه، وللدار قطني من طريق سعيد بن داود عن مالك ‏"‏ صكة عمى ساعة من النهار تسميها العرب ‏"‏ وهو نصف النهار أو قريبا منه‏.‏
    (‏لا أدري لعلها بين يدي أجلي‏)‏ أي بقرب موتي، وهو من الأمور التي جرت على لسان عمر فوقعت كما قال، ووقع في رواية أبي معشر المشار إليها قبل ما يؤخذ منه سبب ذلك وأن عمر قال في خطبته هذه ‏"‏ رأيت رؤياي وما ذاك إلا عند قرب أجلي، رأيت كأن ديكا نقرني ‏"‏ وفي مرسل سعيد بن المسيب في الموطأ ‏"‏ أن عمر لما صدر من الحج دعا الله أن يقبضه إليه غير مضيع ولا مفرط ‏"‏ وقال في آخر القصة ‏"‏ فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر‏"‏‏.

    ‏"‏‏.
    (ج12/ 192)
    ‏وحجة مالك قول عمر في خطبته ولم ينكرها أحد، وكذا لو قامت القرينة على الإكراه أو الخطأ قال المازري في تصديق المرأة الخلية إذا ظهر بها حمل فادعت الإكراه خلاف هل يكون ذلك شبهة أم يجب عليها الحد لحديث عمر‏؟‏ قال ابن عبد البر‏:‏ قد جاء عن عمر في عدة قضايا أنه درأ الحد بدعوى الإكراه ونحوه، ثم ساق من طريق شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال ‏"‏ إنا لمع عمر بمنى فإذا بامرأة حبلى ضخمة تبكي، فسألها فقالت‏:‏ إني ثقيلة الرأس فقمت بالليل أصلي ثم نمت فما استيقظت إلا ورجل قد ركبني ومضى فما أدري من هو، قال فدرأ عنها الحد ‏"‏ وجمع بعضهم بأن من عرف منها مخايل الصدق في دعوى الإكراه قبل منها، وأما المعروفة في البلد التي لا تعرف بالدين ولا الصدق‏.‏
    ولا قرينة معها على الإكراه فلا ولا سيما إن كانت متهمة، وعلى الثاني يدل قوله ‏"‏ أو كان الخبل ‏"‏ واستنبط منه الباجي أن من وطئ في غير الفرج فدخل ماؤه فيه فادعت المرأة أن الولد منه لا يقبل ولا يلحق به إذا لم يعترف به، لأنه لو لحق به لما وجب الرجم على حبلى لجواز مثل ذلك، وعكسه غيره فقال‏:‏ هذا يقتضي أن لا يجب على الحبلى بمجرد الحبل حد لاحتمال مثل هذه الشبهة وهو قول الجمهور
    (ج12/ ص 197)
    واستدل به على أن المراد بالمخنثين المتشبهون بالنساء لا من يؤتي، فإن ذلك حده الرجم، ومن وجب رجمه لا ينفي، وتعقب بأن حده مختلف فيه، والأكثر أن حكمه حكم الزاني، فإن ثبت عليه جلد ونفى، لأنه لا يتصور فيه الإحصان، وإن كان يتشبه فقط نفى فقط، وقيل إن في الترجمة إشارة إلى ضعف القول الصائر إلى رجم الفاعل والمفعول به وأن هذا الحديث الصحيح لم يأت فيه إلا النفي، وفي هذا نظر لأنه لم يثبت عن أحد ممن أخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يؤتي، وقد أخرج أبو داود من طريق أبي هاشم عن أبي هريرة ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بمخنث قد خضب يديه ورجليه فقالوا‏:‏ ما بال هذا‏؟‏ قيل يتشبه بالنساء، فأمر به فنفى إلى النقيع ‏"‏ يعني بالنون والله أعلم‏.‏
    (ج12/ ص 199)
    ابن عباس فقال‏:‏ لأحد على الأمة إذا زنت قبل أن تتزوج، وبه قال جماعة من التابعين، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام، وهو وجه للشافعية، واحتج بما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس ‏"‏ ليس على الأمة حد حتى تحصن ‏"‏ وسنده حسن لكن اختلف في رفعه ووقفه والأرجح وقفه وبذلك جزم ابن خزيمة وغيره، وادعى ابن شاهين في ‏"‏ الناسخ والمنسوخ ‏"‏ أنه منسوخ بحديث الباب، وتعقب بأن النسخ يحتاج إلى التاريخ وهو لم يعلم، وقد عارضه حديث على ‏"‏ أقيموا الحدود على أرقائكم من أحصن منهم ومن لم يحصن ‏"‏ واختلف أيضا في رفعه ووقفه، والراجح أنه موقوف، لكن سياقه في مسلم يدل على رفعه فالتمسك به أقوى، وإذا حمل الإحصان في الحديث على التزويج وفي الآية على الإسلام حصل الجمع، وقد بينت السنة أنها إذا زنت قبل الإحصان تجلد‏.‏
    (ج12/ ص 201)
    قال ابن العربي‏:‏ يرجى عند تبديل المحل تبديل الحال، ومن المعلوم أن للمجاورة تأثيرا في الطاعة وفي المعصية،
    (ج12/ ص 205)
    احتج من قال‏:‏ لا يشرع نفي النساء مطلقا كما تقدم في ‏"‏ باب البكران يجلدان وينفيان ‏"‏ واختلف من قال بنفي الرقيق، فالصحيح نصف سنة، وفي وجه ضعيف عند الشافعية سنة كاملة، وفي ثالث لا نفي على رقيق وهو قول الأئمة الثلاثة والأكثر‏.‏
    (ج12/ ص 207)
    وجوب الحد على الكافر الذمي إذا زنى وهو قول الجمهور، وفيه خلاف عند الشافعية، وقد ذهل ابن عبد البر فنقل الاتفاق على أن شرط الإحصان الموجب للرجم الإسلام، ورد عليه بأن الشافعية وأحمد لا يشترطان ذلك، ويؤيد مذهبهما وقوع التصريح بأن اليهوديين اللذين رجما كانا قد أحصنا
    وقال المالكية ومعظم الحنفية وربيعة شيخ مالك شرط الإحصان الإسلام، وأجابوا عن حديث الباب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما رجمهما بحكم التوراة وليس هو من حكم الإسلام في شيء، وإنما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بما في كتابهم، فإن في التوراة الرجم على المحصن وغير المحصن قالوا وكان ذلك أول دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان مأمورا باتباع حكم التوراة والعمل بها حتى ينسخ ذلك في شرعه، فرجم اليهوديين على ذلك الحكم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى ‏(‏واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم‏)‏ إلى قوله ‏(‏أو يجعل الله لهن سبيلا
    م نسخ ذلك بالتفرقة بين من أحصن ومن لم يحصن كما تقدم انتهى‏.‏
    (ج12/ ص 210)
    وقال القرطبي‏:‏ الجمهور على أن الكافر لا تقبل شهادته على مسلم ولا على كافر لا في حد ولا في غيره ولا فرق بين السفر والحضر في ذلك، وقبل شهادتهم جماعة من التابعين وبعض الفقهاء إذا لم يوجد مسلم، واستثنى أحمد حالة السفر إذا لم يوجد مسلم، وأجاب القرطبي عن الجمهور عن واقعة اليهود بأنه صلى الله عليه وسلم نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به إظهارا لتحريفهم كتابهم وتغييرهم حكمه، أو كان ذلك خاصا بهذه الواقعة كذا قال، والثاني مردود‏.‏
    وقال النووي‏:‏ الظاهر أنه رجمهما بالاعتراف، فإن ثبت حدث جابر فلعل الشهود كانوا مسلمين وإلا فلا عبرة بشهادتهم، ويتعين أنهما أقرا بالزنا‏.‏
    قلت‏:‏ لم يثبت أنهم كانوا مسلمين، ويحتمل أن يكون الشهود أخبروا بذلك لسؤال بقية اليهود لهم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامهم ولم يحكم فيهم إلا مستندا لما أطلعه الله تعالى فحكم في ذلك بالوحي وألزمهم الحجة بينهم كما قال تعالى ‏(‏وشهد شاهد من أهلها‏)‏ وأن شهودهم شهدوا عليهم عند أحبارهم
    أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا ثبت ذلك لنا بدليل قرآن أو حديث صحيح ما لم يثبت نسخه بشريعة نبينا أو نبيهم أو شريعتهم، وعلى هذا فيحمل ما وقع في هذه القصة على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن هذا الحكم لم ينسخ من التوراة أصلا‏.‏
    (ج12/ ص 213)
    قال ابن بطال‏:‏ أجمع العلماء على أن من قذف امرأته أو امرأة غيره بالزنا فلم يأت عل ذلك ببينة أن عليه الحد، إلا إن أقر المقذوف، فلهذا يجب على الإمام أن يبعث إلى المرأة يسألها عن ذلك، ولو لم تعترف المرأة في قصة العسيف لوجب على والد العسيف حد القذف‏.‏
    ومما يتفرع عن ذلك لو اعترف رجل بأنه زنى بامرأة معينة فأنكرت هل يجب عليه حد الزنا وحد القذف أو حد القذف فقط‏؟‏ قال بالأول مالك وبالثاني أبو حنيفة‏.‏
    وقال الشافعي وصاحبا أبي حنيفة‏:‏ من أقر منهما فإنما عليه حد الزنا فقط، والحجة فيه أنه إن كان صدق في نفس الأمر فلا حد عليه لقذفها، وإن كان كذب‏.‏
    فليس بزان وإنما يجب عليه حد الزنا لأن كل من أقر على نفسه وعلى غيره لزمه ما أقر به على نفسه وهو مدع فيما أقر به على غيره فيؤاخذ بإقراره على نفسه دون غيره‏.‏
    (ج12/ ص 216)
    وقال ابن المنذر‏:‏ جاءت الأخبار عن عمر في ذلك مختلفة وعامة أسانيدها منقطعة، وقد ثبت عن علي أنه سئل عن رجل قتل رجلا وجده مع امرأته فقال‏:‏ إن لم يأت بأربعة شهداء وإلا فليغط برمته، قال الشافعي‏:‏ وبهذا نأخذ، ولا نعلم لعلى مخالفا في ذلك‏.‏
    (ج12/ ص 220)
    ‏إلا في حد من حدود الله‏)‏ ظاهره أن المراد بالحد ما ورد فيه من الشارع عدد من الجلد أو الضرب مخصوص أو عقوبة مخوصة، والمتفق عليه من ذلك الزنا والسرقة وشرب المسكر والحرابة والقذف بالزنا والقتل والقصاص في النفس والأطراف والقتل في الارتداد، واختلف في تسمية الأخيرين حدا، واختلف في أشياء كثيرة يستحق مرتكبها العقوبة هل تسمى عقوبته حدا أو لا، وهي جحد العارية واللواط وإتيان البهيمة وتحميل المرأة الفحل من البهائم عليها والسحاق وأكل الدم والميتة في حال الاختيار ولحم الخنزير، وكذا السحر والقذف بشرب الخمر وترك الصلاة تكاسلا والفطر في رمضان والتعرض بالزنا‏.‏
    وذهب بعضهم إلى أن المراد بالحد في حديث الباب حق الله، قال ابن دقيق العيد بلغني أن بعض العصريين قرر هذا المعنى بأن تخصيص الحد بالمقدرات المقدم ذكرها أمر اصطلاحي من الفقهاء، وأن عرف الشرع أول الأمر كان يطلق الحد على كل معصية كبرت أو صغرت، وتعقبه ابن دقيق العيد أنه خروج عن الظاهر ويحتاج إلى نقل، والأصل عدمه، قال ويرد عليه أنا إذا أجزنا في كل حق من حقوق الله أن يزاد على العشر لم يبق لنا شيء يختص المنع به، لأن ما عدا الحرمات التي لا يجوز فيها الزيادة هو ما ليس بمحرم، وأصل التعزير أنه لا يشرع فيما ليس بمحرم فلا يبقى لخصوص الزيادة معنى‏.‏
    قلت‏:‏ والعصري المشار إليه أظنه ابن تيمية، وقد تقلد صاحبه ابن القيم المقالة المذكورة فقال‏:‏ الصواب في الجواب أن المراد بالحدود هنا الحقوق التي هي أوامر الله ونواهيه، وهي المراد بقوله ‏(‏ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون‏)
    يحتمل أن يفرق بين مراتب المعاصي، فما ورد فيه تقدير لا يزاد عليه وهو المستثنى في الأصل، وما لم يرد فيه تقدير فإن كان كبيرة جازت الزيادة فيه وأطلق عليه اسم الحد كما في الآيات المشار إليها والتحق بالمستثنى، وإن كان صغيرة فهو المقصود بمنع الزيادة، فهذا يدفع إيراد الشيخ تقي الدين على العصري المذكور إن كان ذلك مراده، وقد أخرج ابن ماجة من حديث أبي هريرة بالتعزير بلفظ ‏"‏ لا تعزروا فوق عشرة أسواط ‏"‏ وقد اختلف السلف في مدلول هذا الحديث فأخذ بظاهره الليث وأحمد في المشهور عنه وإسحاق وبعض الشافعية‏.‏
    وقال مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة‏:‏ تجوز الزيادة على العشر، ثم اختلفوا فقال الشافعي‏:‏ لا يبلغ أدنى الحدود، وهل الاعتبار بحد الحر أو العبد‏؟‏ قولان، وفي قول أو وجه يستنبط كل تعزير من جنس حده ولا يجاوزه، وهو مقتضى قول الأوزاعي ‏"‏ لا يبلغ به الحد ‏"‏ ولم يفصل‏.‏
    (ج12/ ص 223)
    وقال النووي‏:‏ معنى تظهر السوء أنه اشتهر عنها وشاع ولكن لم تقم البينة عليها بذلك ولا اعترفت، فدل على أن الحد لا يجب بالاستفاضة‏.‏
    وقد أخرج الحاكم من طريق ابن عباس عن عمر أنه قال لرجل أقعد جاريته وقد اتهمها بالفاحشة على النار حتى احترق فرجها ‏"‏ هل رأيت ذلك عليها‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فاعترفت لك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏
    قال‏:‏ فضربه وقال‏:‏ لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يقاد مملوك من مالكه لأقدتها منك، ‏"‏ قال الحاكم صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بأن في إسناده عمرو بن عيسى شيخ الليث وفيه منكر الحديث،
    (ج12/ ص 226)
    من حديث أبي هريرة عند الحاكم ‏"‏ الصلوات كفارات إلا من ثلاث‏:‏ الإشراك بالله ونكث الصفقة وترك السنة ‏"‏ ثم فسر نكث الصفقة بالخروج على الإمام وترك السنة بالخروج عن الجماعة أخرجه الحاكم، ومن حديث ابن عمر عند ابن مردويه ‏"‏ أكبر الكبائر سوء الظن بالله ‏"‏ ومن الضعيف في ذلك نسيان القرآن أخرجه أبو داود والترمذي عن أنس رفعه ‏"‏ نظرت في الذنوب فلم أر أعظم من سورة من القرآن أوتيها رجل فنسيها ‏"‏ وحديث ‏"‏ من أتى حائضا أو كاهنا فقد كفر ‏"‏ أخرجه الترمذي، فهذا جميع ما وقفت عليه مما ورد التصريح بأنه من الكبائر أو من أكبر الكبائر صحيحا وضعيفا مرفوعا وموقوفا، وقد تتبعته غاية التتبع، وفي بعضه ما ورد خاصا ويدخل في عموم غيره كالتسبب في لعن الوالدين وهو داخل في العقوق وقتل الولد وهو داخل في قتل النفس والزنا بحليلة الجار وهو داخل في الزنا والنهبة والغلول واسم الخيانة يشمله ويدخل الجميع في السرقة وتعلم السحر وهو داخل في السحر وشهادة الزور وهي داخلة في قول الزور ويمين الغموس وهي داخلة في اليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله كاليأس من روح الله،
    (ج12/ ص 227)
    قال الرافعي في الشرح الكبير‏:‏ الكبيرة هي الموجبة للحد، وقيل ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة، هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر، وقد أقره في الروضة، وهو يشعر بأنه لا يوجد عن أحد من الشافعية الجمع بين التعريفين، وليس كذلك، فقد قال الماوردي في ‏"‏ الحاوي ‏"‏‏:‏ هي ما يوجب الحد أو توجه إليها الوعيد، وأوفى كلامه للتنويع لا للشك، وكيف يقول عالم إن الكبيرة ما ورد فيه الحد مع التصريح في الصحيحين بالعقوق واليمين الغموس وشهادة الزور وغير ذلك، والأصل فيما ذكره الرافعي قول البغوي في ‏"‏ التهذيب ‏"‏ من ارتكب كبيرة من زنا أو لواط أو شرب خمر أو غصب أو سرقة أو قتل بغير حق ترد شهادته وإن فعله مرة واحدة، ثم قال‏:‏ فكل ما يوجب الحد من المعاصي فهو كبيرة، وقيل ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة انتهى‏.‏
    والكلام الأول لا يقتضي الحصر، والثاني هو المعتمد‏.‏
    وقال ابن عبد السلام‏:‏ لم أقف عل ضابط الكبيرة يعني يسلم من الاعتراض، قال‏:‏ والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها، قال وضبطها بعضهم بكل ذنب قرن به وعيد أو لعن‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا أشمل من غيره، ولا يرد عليه إخلاله بما فيه حد، لأن كل ما ثبت فيه الحد لا يخلو من ورود الوعيد على فعله، ويدخل فيه ترك الواجبات الفورية منها مطلقا والمتراخية إذا تضيقت‏.‏
    وقال ابن الصلاح‏:‏ لها أمارات منها إيجاب الحد، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف صاحبها بالفسق، ومنها اللعن، قلت‏:‏ وهذا أوسع مما قبله‏.‏
    وقد أخرج إسماعيل القاضي بسند فيه ابن لهيعة عن أبي سعيد مرفوعا ‏"‏ الكبائر كل ذنب أدخل صاحبه النار ‏"‏ وبسند صحيح عن الحسن البصري قال ‏"‏ كل ذنب نسبه الله تعالى إلى النار فهو كبيرة ‏"‏ ومن أحسن التعاريف قول القرطبي في المفهم ‏"‏ كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم أو أخبر فيه بشدة العقاب أو علق عليه الحد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة ‏"‏ وعلى هذا فينبغي تتبع ما ورد فيه الوعيد أو العن أو الفسق من القرآن أو الأحاديث الصحيحة والحسنة ويضم إلى ما ورد فيه التنصيص في القرآن والأحاديث الصحاح والحسان على أنه كبيرة، فمهما بلغ مجموع ذلك عرف منه تحير عدها، وقد شرعت في جمع ذلك، وأسأل الله الإعانة على تحريره بمنه وكرمه‏.‏
    وقال الحليمي في ‏"‏ المنهاج ‏"‏ ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تضم إليها، وتنقلب الكبيرة فاحشة كذلك، إلا الكفر بالله فإنه أفحش الكبائر وليس من نوعه صغيرة، قلت‏:‏ ومع ذلك فهو ينقسم إلى فاحش وأفحش‏.‏
    ثم ذكر الحليمي أمثلة لما قال فالثاني كقتل النفس بغير حق فإنه كبيرة، فإن قتل أصلا أو فرعا أو ذا رحم أو بالحرم أو بالشهر الحرام فهو فاحشة‏.‏
    والزنا كبيرة، فإن كان بحليلة الجار أو بذات رحم أو في شهر رمضان أو في الحرم فهو فاحشة‏.‏
    لزنا كبيرة، فإن كان بحليلة الجار أو بذات رحم أو في شهر رمضان أو في الحرم فهو فاحشة‏.‏
    وشرب الخمر كبيرة، فإن كان في شهر رمضان نهارا أو في الحرم أو جاهر به فهو فاحشة‏.‏
    والأول كالمفاخذة مع الأجنبية صغيرة، فإن كان مع امرأة الأب أو حليلة الابن أو ذات رحم فكبيرة‏.‏
    (ج12/ ص 230)
    حدثنا ابن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ‏"‏ وقع عند الإسماعيلي من طريق العباس بن الوليد النرسي عن ابن عيينة ‏"‏ قال الزهري كنت أحسب أني قد أصبت من العلم، فلما لقيت عبيد الله كأنما كنت أفجر به بحرا ‏"‏ فذكر الحديث، وفيه إيماء إلى أنه لم يحمل هذا الحديث تاما إلا عن عبيد الله المذكور وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة‏.‏


    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    ختم كتاب " الحدود "

    ويليه كتاب " الديات " .


  14. #214
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الأثنين
    الموافق 13/ شعبان / 1441 هجري
    الموافق 6/ 4/ 2020 ميلادي
    كتاب " الديات " و " استتابة المرتدين والمعاندين "

    .........................
    كتاب الديات "
    ( ج12/ 233)
    وقال ابن العربي‏:‏ الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقتا لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول، وحاصله أنه فسره على رأي ابن عمر في عدم قبول توبة القاتل‏.‏
    قال ابن العربي‏:‏ ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بالتقي الصالح‏.‏
    أخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر ‏"‏ زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم ‏"‏ قال الترمذي حديث حسن‏.‏
    (ج12/ 239)
    بن آدم الأول‏)‏ هو قابيل عن الأكثر، وعكس القاضي جمال الدين بن واصل في تاريخه فقال‏:‏ اسم المقتول قابيل اشتق من قبول قربانه، وقيل اسمه قابن بنون بدل اللام بغير ياء، وقيل قبن مثله بغير ألف
    (ج12/ ص 240)
    ذكر ذلك ابن إسحاق في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ وعن الحسن‏:‏ ذكر لي أن هابيل قتل وله عشرون سنة ولأخيه القاتل خمس وعشرون سنة، وتفسير هابيل هبة الله، ولما قتل هابيل وحزن عليه آدم ولد له بعد ذلك شيث ومعناه عطية الله ومنه انتشرت ذرية آدم‏.‏
    وقال الثعلبي‏:‏ ذكر أهل العلم بالقرآن أن حواء ولدت لآدم أربعين نفسا في عشرين بطنا أولهم قابيل وأخته إقليما وآخرهم عبد المغيث وأمة المغيث ثم لم يمت حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا وهلكوا كلهم فلم يبق بعد الطوفان إلا ذرية نوح وهو من نسل شيث، قال الله تعالى ‏(‏وجعلنا ذريته هم الباقين‏)‏ وكان معه في السفينة ثمانون نفسا وهو المشار إليهم بقوله تعالى ‏(‏وما آمن معه إلا قليل‏)‏ ومع ذلك فما بقي إلا نسل نوح فتوالدوا حتى ملؤوا الأرض
    (ج12/ ص 243)
    وقال ابن أبي عاصم في الديات ‏"‏ حدثنا يعقوب بن حميد حدثنا يحيى بن سليم عن هشام بن حسان عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا إلى فدك فأغاروا عليهم، وكان مرداس الفدكي قد خرج من الليل وقال لأصحابه أني لاحق بمحمد وأصحابه فبصر به رجل فحمل عليه فقال إني مؤمن فقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هلا شققت عن قلبه‏:‏ قال فقال أنس‏:‏ إن قاتل مرداس مات فدفنوه فأصبح فوق القبر فأعادوه فأصبح فوق القبر مرارا فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن يطرح في واد بين جبلين ثم قال‏:‏ إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله وعظكم‏"‏‏.‏
    قال ابن التين‏:‏ في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفظ بالتوحيد‏.‏
    قال القرطبي‏:‏ في تكريره ذلك والإعراض عن قبول العذر زجر شديد عن الإقدام على مثل ذلك‏.‏
    قال النووي الفاعل في قوله ‏"‏ أقالها ‏"‏ هو القلب، ومعناه أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان وأما القلب فليس لك طريق إلى ما فيه، فأنكر عليه ترك العمل بما ظهر من اللسان فقال ‏"‏ أفلا شققت عن قلبه ‏"‏ لتنظر هل كانت فيه حين قالها واعتقدها أو لا، والمعنى أنك إذا كنت لست قادرا على ذلك فاكتف منه باللسان‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ فيه حجة لمن أثبت الكلام النفسي، وفيه دليل عل ترتب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة‏.‏
    (ج12/ ص 244)
    ‏إنه كان حريصا على قتل صاحبه ‏"‏ احتج به الباقلاني ومن تبعه على أن من عزم على المعصية يأثم ولو لم يفعلها، وأجاب من خالفه بأن هذا شرع في الفعل والاختلاف فيمن هم مجردا ثم صمم ولم يفعل شيئا هل يأثم
    وقال الخطابي‏:‏ هذا الوعيد لمن قاتل على عداوة دنيوية أو طلب ملك مثلا، فأما من قاتل أهل البغي أو دفع الصائل فقتل فلا يدخل في هذا الوعيد لأنه مأذون له في القتال شرعا
    _(ج12/ ص 246)
    لآية المذكورة أصل في اشتراط التكافؤ في القصاص وهو قول الجمهور، وخالفهم الكوفيون فقالوا يقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر الذمي، وتمسكوا بقوله تعالى ‏(‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏)‏ قال إسماعيل القاضي في ‏"‏ أحكام القرآن ‏"‏‏:‏ الجمع بين الآيتين أولى، فتحمل النفس على المكافئة، ويؤيده اتفاقهم على أن الحر لو قذف عبدا لم يجب عليه حد القذف، قال ويؤخذ الحكم من الآية نفسها فإن في آخرها ‏(‏فمن تصدق به فهو كفارة له‏)‏ والكافر لا يسمى متصدقا ولا مكفرا عنه، وكذلك العبد لا يتصدق بجرحه لأن الحق لسيده‏.‏
    وقال أبو ثور‏:‏ لما اتفقوا على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس كانت النفس أولى بذلك‏.‏
    ال ابن عبد البر‏:‏ أجمعوا على أن العبد يقتل بالحر وأن الأنثى تقتل بالذكر ويقتل بها إلا أنه ورد عن بعض الصحابة كعلي والتابعين كالحسن البصري أن الذكر إذا قتل الأنثى فشاء أولياؤها قتله وجب عليهم نصف الدية وإلا فلهم الدية كاملة قال‏:‏ ولا يثبت عن علي لكن هو قول عثمان البتي أحد فقهاء البصرة، ويدل على التكافؤ بين الذكر والأنثى أنهم اتفقوا على أن مقطوع اليد والأعور لو قتله الصحيح عمدا لوجب عليه القصاص ولم يجب له بسبب عينه أو يده دية‏
    وقال النووي‏:‏ ذهب مالك إلى ثبوت قتل المتهم بمجرد قول المجروح، واستدل بهذا الحديث، ولا دلالة فيه بل هو قول باطل لأن اليهودي اعترف كما وقع التصريح به في بعض طرقه، ونازعه بعض المالكية فقال‏:‏ لم يقل مالك ولا أحد من أهل مذهبه بثبوت القتل على المتهم بمجرد قول المجروح، وإنما قالوا إن قول المحتضر عند موته فلان قتلني لوث يوجب القسامة فيقسم اثنان فصاعدا من عصبته بشرط الذكورية، وقد وافق بعض المالكية الجمهور، واحتج من قال بالتدمية أن دعوى من وصل إلى تلك الحالة وهي وقت إخلاصه وتوبته عند معاينة مفارقة الدنيا يدل على أنه لا يقول إلا حقا، قالوا وهي أقوى من قول الشافعية أن الولي يقسم إذا وجد قرب وليه المقتول رجلا معه سكين لجواز أن يكون القاتل غير من معه السكين‏.‏
    (ج12/ ص 250)
    ‏(‏والثيب الزاني‏)‏ أي فيحل قتله بالرجم، وقد وقع في حديث عثمان عند النسائي بلفظ ‏"‏ رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم ‏"‏ قال النووي‏:‏ الزاني يجوز فيه إثبات الياء وحذفها وإثباتها أشهر‏.
    (ج12/ ص 251)
    وقال البيضاوي‏:‏ التارك لدينه صفة مؤكدة للمارق أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم، قال‏:‏ وفي الحديث دليل لمن زعم أنه لا يقتل أحد دخل في الإسلام بشيء غير الذي عدد كترك الصلاة ولم ينفصل عن ذلك، وتبعه الطيبي‏.‏
    وقال ابن دقيق العيد‏:‏ قد يؤخذ من قوله ‏"‏ المفارق للجماعة ‏"‏ أن المراد المخالف لأهل الإجماع فيكون متمسكا لمن يقول مخالف الإجماع كافر، وقد نسب ذلك إلى بعض الناس، وليس ذلك بالهين فإن المسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر بالنقل عن صاحب الشرع كوجوب الصلاة مثلا وتارة لا يصحبها التواتر، فالأول يكفر جاحده لمخالفة التواتر لا لمخالفة الإجماع، والثاني لا يكفر به‏.‏
    قال شيخنا في شرح الترمذي‏:‏ الصحيح في تكفير منكر الإجماع تقييده بإنكار ما يعلم وجوبه من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس، ومنهم من عبر بإنكار ما علم وجوبه بالتواتر ومنه القول بحدوث العالم، وقد حكى عياض وغيره الإجماع على تكفير من يقول بقدم العالم‏.‏
    وقال ابن دقيق العيد‏:‏ وقع هنا من يدعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة فظن أن المخالف في حدوث العالم لا يكفر لأنه من قبيل مخالفة الإجماع، وتمسك بقولنا إن منكر الإجماع لا يكفر على الإطلاق حتى يثبت النقل بذلك متواترا عن صاحب الشرع، قال وهو تمسك ساقط إما عن عمى في البصيرة أو تعام لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل‏.‏
    وقال النووي‏:‏ قوله ‏"‏ التارك لدينه ‏"‏ عام في كل من ارتد بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، وقوله ‏"‏المفارق للجماعة ‏"‏ يتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو نفي إجماع كالروافض والخوارج وغيرهم، كذا قال
    (ج12/ ص 252)
    لكن يرد على ذلك قتل تارك الصلاة، وقد تعرض له ابن دقيق العيد فقال‏:‏ استدل بهذا الحديث أن تارك الصلاة لا يقتل بتركها لكونه ليس من الأمور الثلاثة، وبذلك استدل شيخ والدي الحافظ أبو الحسن بن المفضل المقدسي في أبياته المشهورة، ثم ساقها ومنها وهو كاف في تحصيل المقصود هنا‏:‏ والرأي عندي أن يعزره الإمام بكل تعزير يراه صوابا فالأصل عصمته إلى أن يمتطى إحدى الثلاث إلى الهلاك ركابا قال‏:‏ فهذا من المالكية اختار خلاف مذهبه، وكذا استشكله إمام الحرمين من الشافعية‏.‏
    قلت‏:‏ تارك الصلاة اختلف فيه، فذهب أحمد وإسحاق وبعض المالكية ومن الشافعية ابن خزيمة وأبو الطيب بن سلمة وأبو عبيد بن جويرية ومنصور الفقيه وأبو جعفر الترمذي إلى أنه يكفر بذلك ولو لم يجحد وجوبها، وذهب الجمهور إلى أنه يقتل حدا، وذهب الحنفية ووافقهم المزني إلى أنه لا يكفر ولا يقتل‏.‏
    ومن أقوى ما يستدل به على عدم كفره حديث عبادة رفعه ‏"‏ خمس صلوات كتبهن الله على العباد ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ‏"‏ أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه ابن حبان وابن السكن وغيرهما، وتمسك أحمد ومن وافقه بظواهر أحاديث وردت بتكفيره وحملها من خالفهم على المستحل جمعا بين الأخبار والله أعلم‏.‏
    وقال ابن دقيق العيد‏:‏ وأراد بعض من أدركنا زمانه أن يزيل الإشكال فاستدل بحديث ‏"‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ‏"‏ ووجه الدليل منه أنه وقف العصمة على المجموع، والمرتب على أشياء لا تحصل إلا بحصول مجموعها وينتفي بانتفاء بعضها، قال‏:‏ وهذا إن قصد الاستدلال بمنطوقه وهو ‏"‏ أقاتل الناس إلخ ‏"‏ فإنه يقتضي الأمر بالقتال إلى هذه الغاية، فقد ذهل للفرق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه، فإن المقاتلة مفاعلة تقتضي الحصول من الجانبين فلا يلزم من إباحة المقاتلة على الصلاة إباحة قتل الممتنع من فعلها إذا لم يقاتل، وليس النزاع في أن قوما لو تركوا الصلاة ونصبوا القتال أنه يجب قتالهم، وإنما النظر فيما إذا تركها إنسان من غير نصب قتال هل يقتل أو لا، والفرق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه ظاهر، وإن كان أخذه من آخر الحديث وهو ترتب العصمة على فعل ذلك فإن مفهومه يدل على أنها لا تترتب على فعل بعضه هان الأمر لأنها دلالة مفهوم، ومخالفه في هذه المسألة لا يقول بالمفهوم، وأما من يقول به فله أن يدفع حجته بأنه عارضته دلالة المنطوق
    قال شيخنا في شرح الترمذي‏:‏ استثنى بعضهم من الثلاثة قتل الصائل فإنه يجوز قتله للدفع، وأشار بذلك إلى قول النووي يخص من عموم الثلاثة الصائل ونحوه فيباح قتله في الدفع، وقد يجاب بأنه داخل في المفارق للجماعة أو يكون المراد لا يحل تعمد قتله بمعنى أنه لا يحل قتله إلا مدافعة بخلاف الثلاثة، واستحسنه الطيبي وقال‏:‏ هو أولى من تقرير البيضاوي
    قال‏:‏ فأباح القتل بمجرد الفساد في الأرض قال وقد ورد في القتل بغير الثلاث أشياء‏:‏ منها قوله تعالى ‏(‏فقاتلوا التي تبغي‏)‏ وحديث ‏"‏ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه ‏"‏ وحديث ‏"‏ من أتى بهيمة فاقتلوه ‏"‏ وحديث ‏"‏ من خرج وأمر الناس جمع يريد تفرقهم فاقتلوه ‏"‏ وقول عمر ‏"‏ تغرة أن يقتلا ‏"‏ وقول جماعة من الأئمة‏:‏ إن تاب بل القدر وإلا قتلوا، وقل جماعة من الأئمة‏:‏ يضرب المبتدع حتى يرجع أو يموت، وقول جماعة من الأئمة يقتل تارك الصلاة قال‏:‏ وهذا كله زائد على الثلاث‏.‏
    قلت‏:‏ وزاد غيره قتل من طلب أخذ مال إنسان أو حريمه بغير حق، ومانع الزكاة المفروضة، ومن ارتد ولم يفارق الجماعة، ومن خالف الإجماع وأظهر الشقاق والخلاف، والزنديق إذا تاب على رأي، والساحر‏.‏
    والجواب عن ذلك كله أن الأكثر في المحاربة أنه إن قتل قتل، وبأن حكم الآية في الباغي أن يقاتل لا أن يقصد إلى قتله، وبأن الخبرين في اللوط وإتيان البهيمة لم يصحا وعلى تقدير الصحة فهما داخلان في الزنا، وحديث الخارج عن المسلمين تقدم تأويله بأن المراد بقتله حبسه ومنعه من الخروج، وأثر عمر من هذا القبيل، والقول في القدرية وسائر المبتدعة مفرع على القول بتكفيرهم، وبأن قتل تارك الصلاة عند من لا يكفره مختلف فيه كما تقدم إيضاحه، وأما من طلب المال أو الحريم فمن حكم دفع الصائل، ومانع الزكاة تقدم جوابه، ومخالف الإجماع داخل في مفارق الجماعة، وقتل الزنديق لاستصحاب حكم كفره، وكذا الساحر، والعلم عند الله تعالى‏.‏
    وقد حكى ابن العربي عن بعض أشياخه أن أسباب القتل عشرة، قال ابن العربي‏:‏ ولا تخرج عن هذه الثلاثة بحال، فإن من سحر أو سب نبي الله كفر فهو داخل في التارك لدينه والله أعلم‏.‏
    (ج12/ ص 257)
    وقد ذكر ابن هشام أن المقتول من بني ليث اسمه جندب بن الأدلع‏.‏
    وقال بلغني أن أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح جندب بن الأدلع قتله بنو كعب فوداه بمائة ناقة، لكن ذكر الواقدي أن اسمه جندب بن الأدلع، فرآه جندب بن الأعجب الأسلمي فخرج يستجيش عليه فجاء خراش فقتله، فظهر أن القصة واحدة فلعله كان هذليا حالف بني ليث أو بالعكس، ورأيت في آخر الجزء الثالث من ‏"‏ فوائد أبي علي بن خزيمة ‏"‏ أن اسم الخزاعي القاتل هلال بن أمية، فإن ثبت فلعل هلالا لقب خراش والله أعلم‏.‏
    (ج12/ ص 258)
    لأن شرع من قبلنا إنما يتمسك منه بما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وقد قيل إن شريعة عيسى لم يكن فيها قصاص وإنه كان فيها الدية فقط، فإن ثبت ذلك امتازت شريعة الإسلام بأنها جمعت الأمرين فكانت وسطى لا إفراط ولا تفريط، واستدل به على أن المخير في القود أو أخذ الدية هو الولي وهو قول الجمهور، وقرره الخطابي بأن العفو في الآية يحتاج إلى بيان، لأن ظاهر القصاص أن لا تبعة لأحدهما على الآخر، لكن المعنى أن من عفي عنه من القصاص إلى الدية فعلى مستحق الدية الاتباع بالمعروف وهو المطالبة وعلى القاتل الأداء وهو دفع الدية بإحسان‏.‏
    وذهب مالك والثوري وأبو حنيفة إلى أن الخيار في القصاص أو الدية للقاتل، قال الطحاوي‏:‏ والحجة لهم حديث أنس في قصة الربيع عمته فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كتاب الله القصاص ‏"‏ فإنه حكم بالقصاص ولم يخير، ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما، فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله ‏"‏ فهو بخير النظرين ‏"‏ أي ولي المقتول مخير بشرط أن يرضني الجاني أن يغرم الدية‏.‏
    (ج12/ ص 263)
    وقد أخرج أبو إسحاق الفزاري في السنن عن الأوزاعي عن الزهري قال ‏"‏ أخطأ المسلمون بأبي حذيفة يوم أحد حتى قتلوه، فقال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فبلغت النبي صلى الله عليه وسلم فزاده عنده خيرا ووداه من عنده ‏"‏ وهذه الزيادة ترد قول من حمل قوله ‏"‏ فلم يزل في حذيفة منها بقية خير ‏"‏ على الحزن على أبيه، وقد أوضحت الرد عليه في ‏"‏ باب من حنث ناسيا ‏"‏ ويؤخذ منها أيضا التعقب على المحب الطبري حيث قال‏:‏ حمل البخاري قول حذيفة ‏"‏ غفر الله لكم ‏"‏ على العفو عن الضمان وليس بصريح، فيجاب بأن البخاري أشار بهذا الذي هو غير صريح إلى ما ورد صريحا وإن كان ليس على شرطه فإنه يؤيد ما ذهب إليه‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من حقه دون السلطان، قال‏:‏ وإنما اختلفوا فيمن أقام الحد على عبده كما تقدم تفصيله‏.‏
    قال‏:‏ وأما أخذ الحق فإنه يجوز عندهم أن يأخذ حقه من المال خاصة إذا جحده إياه ولا بينة عليه كما سيأتي تقريره قريبا‏.‏
    ثم أجاب عن حديث الباب بأنه خرج على التغليظ والزجر عن الاطلاع على عورات الناس انتهى‏.‏
    قلت‏:‏ فأما من نقل الاتفاق فكأنه استند فيه إلى ما أخرجه إسماعيل القاضي في ‏"‏ نسخة أبي الزناد ‏"‏ عن الفقهاء الذين ينتهي إلى قولهم ومنه‏:‏ لا ينبغي لأحد أن يقيم شيئا من الحدود دون السلطان، إلا أن للرجل أن يقيم حد الزنا على عبده، وهذا إنما هو اتفاق أهل المدينة في زمن أبي الزناد‏.‏
    وأما الجواب فإن أراد أنه لا يعمل بظاهر الخبر فهو محل النزاع‏.‏
    (ج12/ ص 370)
    قيل إنه لم يسمع منه سوى خمسة أحاديث والبقية سمعها من أصحابه عنه كثابت وقتادة فكان يدلسها فيرويها عن أنس بلا واسطة، والحق أنه سمع منه أضعاف ذلك، وقد أكثر البخاري من تخريج حديث حميد عن أنس، بخلاف مسلم فلم يخرج منها إلا القليل‏.‏
    لهذه العلة، لكن البخاري لا يخرج من حديثه إلا ما صرح فيه بالتحديث أو ما قام مقام التصريح ولو باللزوم كما لو كان من رواية شعبة عنه فإن شعبة لا يحمل عن شيوخه إلا ما عرف أنهم سمعوه من شيوخهم
    (ج12/ ص 371)
    قال إسحاق أي بالوجوب، وتوجيهه أنه مسلم مات بفعل قوم من المسلمين فوجبت ديته في بيت مال المسلمين‏.‏
    قلت‏:‏ ولعل حجته ما ورد في بعض طرق قصة حذيفة، وهو ما أخرجه أبو العباس السراج في تاريخه من طريق عكرمة أن والد حذيفة قتل يوم أحد قتله بعض المسلمين وهو يظن أنه من المشركين فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجاله ثقات مع إرساله، وقد تقدم له شاهد مرسل أيضا في ‏"‏ باب العفو عن الخطأ ‏"‏ وروى مسدد في مسنده من طريق يزيد بن مذكور أن رجلا زحم يوم الجمعة فمات فوداه علي من بيت المال، وفي المسألة مذاهب أخرى منها قول الحسن البصري إن ديته تجب على جميع من حضر وهو أخص من الذي قبله، وتوجهه أنه مات بفعلهم فلا يتعداهم إلى غيرهم‏.‏
    ومنها قول الشافعي ومن تبعه أنه يقال لوليه ادع على من شئت واحلف فإن حلفت استحقيت الدية وإن نكلت حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة، وتوجيهه أن الدم لا يجب إلا بالطلب‏.‏
    ومنها قول مالك دمه هدر، وتوجهه أنه إذا لم يعلم قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد، وقد تقدمت الإشارة إلى الراجح من هذه المذاهب في ‏"‏ باب العفو عن الخطأ‏"‏‏.‏
    (ج12/ ص 278)
    فيه أن من وقع له أمر يأنفه أو يحتشم من نسبته إليه إذا حكاه كنى عن نفسه بأن يقول فعل رجل أو إنسان أو نحو ذلك كذا وكذا كما وقع ليعلى في هذه القصة، وكما وقع لعائشة حيث قالت‏:‏ ‏"‏ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، فقال لها عروة‏:‏ هل هي إلا أنت‏؟‏ فتبسمت‏"‏‏.‏
    (ج12/ ص 279)
    فعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ‏"‏ أي لأبر قسمه‏.‏
    ووقع في رواية خالد الطحان عن حميد عن أنس في هذا الحديث عند ابن أبي عاصم ‏"‏ كم من رجل لو أقسم على الله لأبره ‏"‏ ووجه تعجبه أن أنس بن النضر أقسم على نفي فعل غيره مع إصرار ذلك الغير على إيقاع ذلك الفعل فكان قضية ذلك في العادة أن يحنث في يمينه، فألهم الله الغير العفو فبر قسم أنس، وأشار بقوله ‏"‏ إن من عباد الله ‏"‏ إلى أن هذا الاتفاق إنما وقع إكراما من الله لأنس ليبر يمينه، وأنه من جملة عباد الله الذين يجيب دعاءهم ويعطيهم أربهم‏.‏
    (ج12/ ص 280)
    ولأبي داود من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن شعبة ‏"‏ الأصابع والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء ‏"‏ ولأبي داود والترمذي من طريق يزيد النحوي عن عكرمة بلفظ ‏"‏ الأسنان الأصابع سواء ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ أصابع اليدين والرجلين سواء ‏"‏ وأخرج ابن أبي عاصم من رواية يحيى القطان عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال بعثه مروان إلى ابن عباس يسأله عن الأصابع فقال ‏"‏ قضى النبي صلى الله عليه وسلم في اليد خمسين وكل أصبع عشر ‏"‏ وكذا في كتاب عمرو بن حزم عند مالك ‏"‏ في الأصابع عشر عشر ‏"‏ وسأذكر سنده، ولابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه ‏"‏ الأصابع سواء كلهن فيه عشر عشر من الإبل، وفرقه أبو داود حديثين وسنده جيد‏.‏
    قلت‏:‏ وبه قال جميع فقهاء الأمصار، وكان فيه خلاف قديم فأخرج ابن أبي شيبة من رواية سعيد بن المسيب عن عمر ‏"‏ في الإبهام خمسة عشر وفي السبابة والوسطى عشر عشر وفي البنصر تسع وفي الخنصر ست ‏"‏ ومثله عن مجاهد، وفي ‏"‏ جامع الثوري ‏"‏ عن عمر نحوه وزاد ‏"‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ حتى وجد عمر في كتاب الديات لعمرو بن حزم في كل إصبع عشر فرجع إليه‏"‏‏.‏
    قلت‏:‏ وكتاب عمرو بن حزم أخرجه مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه ‏"‏ أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم في العقول أن في العشر مائة من الإبل ‏"‏ وفيه ‏"‏ وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل ‏"‏ ووصله أبو داود في ‏"‏ المراسيل ‏"‏ والنسائي من وجه آخر عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده مطولا، وصححه ابن حبان، وأعله أبو داود والنسائي‏.‏
    أخرج مالك في الموطأ ‏"‏ أن مروان بعث أبا غطفان المزني إلى ابن عباس‏:‏ ماذا في الضرس‏؟‏ فقال‏:‏ خمس من الإبل، قال‏:‏ فردني إليه‏:‏ أتجعل مقدم الفم مثل الأضراس‏؟‏ فقال‏:‏ لو لم تعتبر ذلك إلا في الأصابع عقلها سواء‏)‏ وهذا يقتضي أن لا خلاف عند ابن عباس ومروان في الأصابع وإلا لكان في القياس المذكور نظر‏.‏
    قال الخطابي‏:‏ هذا أصل في كل جناية لا تضبط كميتها، فإذا فاق ضبطها من جهة المعنى اعتبرت من حيث الاسم فتتساوى ديتها وإن اختلف حالها ومنفعتها ومبلغ فعلها، فإن للإبهام من قوة ما ليس للخنصر ومع ذلك فديتهما سواء، ومثله في الجنين غرة سواء كان ذكرا أو أنثى، وهكذا القول في الواضح ديتها سواء ولو اختلف في المساحة، وكذلك الأسنان نفع بعضها أقوى من بعض وديتها سواء نظرا للاسم فقط‏.‏
    وما أخرجه مالك في الموطأ عن ربيعة ‏"‏ سألت سعيد بن المسيب كم في إصبع المرأة‏؟‏ قال‏:‏ عشر، قلت‏:‏ ففي إصبعين‏؟‏ قال‏:‏ عشرون، قلت‏:‏ ففي ثلاث‏؟‏ قال‏:‏ ثلاثون، قلت‏:‏ ففي أربع‏؟‏ قال‏:‏ عشرون‏.‏
    قلت‏:‏ حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها‏.‏
    قال‏:‏ يا ابن أخي هي السنة، فإنما قال ذلك لأن دية المرأة نصف دية الرجل لكنها عنده تساويه فيما كان قدر ثلث الدية فما دونه فإذا زاد على ذلك رجعت إلى حكم النصف‏.‏
    .............
    (ج12/ ص 284)
    وقد أخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن يحيى القطان من وجه آخر عن نافع ولفظه ‏"‏ أن عمر قتل سبعة من أهل صنعاء برجل إلخ ‏"‏ وأخرجه الموطأ بسند آخر قال ‏"‏ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر قتل خمسة أو ستة برجل قتلوه غيلة وقال‏:‏ لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا
    (ج12/ ص 284)
    الأثر الذي وصله ابن وهب ومن طريقه قاسم بن أصبغ والطحاوي والبيهقي، قال ابن وهب حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حكيم الصنعاني حدثه عن أبيه أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها وترك في حجرها ابنا له من غيرها غلاما يقال له أصيل، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلا فقالت له أن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبى، فامتنعت منه، فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها فقتلوه ثم قطعوه أعضاء وجعلوه في عيبة - بفتح المهملة وسكون التحتانية ثم موحدة مفتوحة هي وعاء من أدم - فطرحوه في ركية - بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتانية هي البئر التي لم تطو - في ناحية القرية ليس فيها ماء فذكر القصة وفيه ‏"‏ فأخذ خليلها فاعترف ثم اعترف الباقون فكتب يعلى وهو يومئذ أمر بشأنهم إلى عمر فكتب إليه عمر بقتلهم جميعا وقال‏:‏ والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين ‏"‏ وأخرجه أبو الشيخ في ‏"‏ كتاب الترهيب ‏"‏ من وجه آخر عن جرير بن حازم وفيه ‏"‏ فكتب يعلى بن أمية عامل عمر على اليمن إلى عمر فكتب إليه نحوه ‏"‏ وفي أثر ابن عمر هذا تعقب على ابن عبد البر في قوله لم يقل فيه أنه قتل غيلة إلا مالك ‏"‏ وروينا نحو هذه القصة من وجه آخر عند الدار قطني وفي فوائد أبي الحسن بن زنجويه بسند جيد إلى أبي المهاجر عبد الله بن عميرة من بني قيس ابن ثعلبة قال ‏"‏ كان رجل يسابق الناس كل سنة بأيام، فلما قدم وجد مع وليدته سبعة رجال يشربون فأخذوه فقتلوه ‏"‏ فذكر القصة في اعترافهم وكتاب الأمير إلى عمر وفي جوابه أن ‏"‏ أضرب أعناقهم واقتلها معهم فلو أن أهل صنعاء اشتركوا في دمه لقتلتهم ‏"‏ وهذه القصة غير الأولى وسنده جيد، فقد تكرر ذلك من عمر، ولم أقف على اسم واحد ممن ذكر فيها إلا على اسم الغلام في رواية ابن وهب، وحكيم والد المغيرة صنعاني لا أعرف حاله ولا اسم والده وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين‏.‏
    المشهور عن مالك وهو قول الأكثر لا قود في اللطمة إلا إن جرحت ففيها حكومة، والسبب فيه تعذر المماثلة لافتراق لطمتي القوي والضعيف فيجب التعزير بما يليق باللاطم‏.‏
    وقال ابن القيم‏:‏ بالغ بعض المتأخرين فنقل الإجماع على عدم القود في اللطمة والضربة وإنما يجب التعزير، وذهل في ذلك، فإن القول بجريان القود في ذلك ثابت عن الخلفاء الراشدين، فهو أولى بأن يكون إجماعا، وهو مقتضى إطلاق الكتاب والسنة‏.‏
    (ج12/ ص 288)
    وصله سعيد بن منصور حدثنا هشيم حدثنا حميد الطويل قال ‏"‏ كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز في قتيل وجد في سوق البصرة، فكتب إليه عمر رحمه الله أن من القضايا ما لا يقضى فيه إلى يوم القيامة وأن هذه القضية لمنهن ‏"‏ وأخرج ابن المنذر من وجه آخر عن حميد قال وجد قتيل بين قشير وعائش فكتب فيه عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز فذكر نحوه، وهذا أثر صحيح، وعدي بن أرطاة بفتح الهمزة وسكون الراء بعدها مهملة وهو فزاري من أهل دمشق‏.‏
    (ج12/ ص 289)
    وأخرج ابن المنذر من طريق‏.‏
    الزهري قال‏.‏
    ‏"‏ قال لي عمر بن عبد العزيز إني أريد أن أدع القسامة يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا فيحلفون على ما لا يرون، فقلت إنك إن تتركها يوشك أن الرجل يقتل عند بابك فيبطل دمه، وإن للناس في القسامة لحياة ‏"‏ وسبق عمر بن عبد العزيز إلى إنكار القسامة سالم بن عبد الله بن عمر فأخرج ابن المنذر عنه أنه كان يقول ‏"‏ بالقوم يحلفون على أمر لم يروه ولم يحضروه، ولو كان لي أمر لعاقبتهم ولجعلتهم نكالا ولم أقبل لهم شهادة ‏"‏ وهذا يقدح في نقل إجماع أهل المدينة على القود بالقسامة فإن سالما من أجل فقهاء المدينة‏.‏
    وأخرج ابن المنذر أيضا عن ابن عباس أن القسامة لا يقاد بها‏.‏
    وأخرج ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال‏:‏ القود بالقسامة جور‏.‏
    ومن طريق الحكم بن عتيبة أنه كان لا يرى القسامة شيئا‏.‏
    ومحصل الاختلاف في القسامة هل يعمل بها أو لا‏؟‏ وعلى الأول فهل توجب القود أو الدية، وهل يبدأ بالمدعين أو المدعى عليهم‏؟‏ واختلفوا أيضا في شرطها‏.‏
    (ج12/ ص 297)
    اختلف قول مالك في مشروعية القسامة في قتل الخطأ، واختلف القائلون بها في العمد هل يجب بها القود أو الدية‏؟‏ فمذهب معظم الحجازيين إيجاب القود إذا كملت شروطها، وهو قول الزهري وربيعة وأبي الزناد ومالك والليث والأوزاعي والشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود، وروي ذلك عن بعض الصحابة كابن الزبير، واختلف عن عمر بن عبد العزيز‏.‏
    وقال أبو الزناد‏:‏ قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان‏.‏
    قلت‏:‏ إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة فضلا عن ألف‏.‏
    ثم قال القاضي‏:‏ وحجتهم حديث الباب‏:‏ يعني من رواية يحيى بن سعيد التي أشرت إليها، قال‏:‏ فإن مجيئه من طرق صحاح لا يدفع، وفيه تبرئة المدعين ثم ردها حين أبوا على المدعى عليهم واحتجوا بحديث أبي هريرة ‏"‏ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه إلا القسامة‏"‏، ويقول مالك‏:‏ أجمعت الأئمة في القديم والحديث على أن المدعين يبدءون في القسامة، ولأن جنبة المدعي إذا قويت بشهادة أو شبهة صارت اليمين له‏.‏
    وهاهنا الشبهة قوية‏.‏
    (ج12/ ص 299)
    ويحتمل أن يكون المراد أنهم علموا رأي عمر بن عبد العزيز في إنكار القسامة فلما سألهم سكتوا مضمرين مخالفته، ثم تكلم بعضهم بما عنده في ذلك كما وقع في هذه الرواية ‏"‏ قالوا نقول القسامة القود بها حق وقد أقادت بها الخلفاء ‏"‏ وأرادوا بذلك ما تقدم نقله عن معاوية وعن عبد الله بن الزبير وكذا جاء عن عبد الملك بن مروان، لكن عبد الملك أقاد بها ثم ندم كما ذكره أبو قلابة بعد ذلك في رواية حماد بن زيد عن أيوب وحجاج الصواف عن أبي رجاء ‏"‏ أن عمر بن عبد العزيز استشار الناس في القسامة فقال قوم‏:‏ هي حق، قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضى بها الخلفاء، أخرجه أبو عوانة في صحيحه وأصله عند الشيخين من طريقه‏.‏
    (ج12/ ص 306)
    وذهب المالكية إلى القصاص وأنه لا يجوز قصد العين ولا غيرها، واعتلوا بأن المعصية لا تدفع بالمعصية، وأجاب الجمهور بأن المأذون فيه إذا ثبت الإذن لا يسمى معصية وإن كان الفعل لو تجرد عن هذا السبب يعد معصية، وقد اتفقوا على جواز دفع الصائل ولو أتى على نفس المدفوع، وهو بغير السبب المذكور معصية فهذا ملحق به مع ثبوت النص فيه، وأجابوا عن الحديث بأنه ورد على سبيل التغليظ والإرهاب، ووافق الجمهور منهم ابن نافع‏.‏
    وقال يحيى بن عمر منهم لعل مالكا لم يبلغه الخبر‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ ما كان عليه الصلاة والسلام بالذي يهم أن يفعل ما لا يجوز أو يؤدي إلى ما لا يجوز، والحمل على رفع الإثم لا يتم مع وجود النص برفع الحرج وليس مع النص قياس، واعتل بعض المالكية أيضا بالإجماع على أن من قصد النظر إلى عورة الآخر ظاهر أن ذلك لا يبيح فقء عينه ولا سقوط ضمانها عمن فقأها فكذا إذا كان المنظور في بيته وتجسس الناظر إلى ذلك، ونازع القرطبي في ثبوت هذا الإجماع وقال‏:‏ إن الخبر يتناول كل مطلع، قال‏:‏ وإذا تناول المطلع في البيت مع المظنة فتناوله المحقق أولى‏.‏
    قلت‏:‏ وفيه نظر لأن التطلع إلى ما في داخل البيت لم ينحصر في النظر إلى شيء معين كعورة الرجل مثلا بل يشمل استكشاف الحريم وما يقصد صاحب البيت ستره من الأمور التي لا يجب اطلاع كل أحد عليها، ومن ثم ثبت النهي عن التجسيس والوعيد عليه حسما لمواد ذلك، فلو ثبت الإجماع المدعي لم يستلزم رد هذا الحكم الخاص، ومن المعلوم أن العاقل يشتد عليه أن الأجنبي يرى وجه زوجته وابنته ونحو ذلك وكذا في حال ملاعبته أهله أشد مما رأى الأجنبي ذكره منكشفا، والذي ألزمه القرطبي صحيح في حق من يروم النظر فيدفعه المنظور إليه، وفي وجه للشافعية لا يشرع في هذه الصورة، وهل يشترط الإنذار قبل الرمي‏؟‏ وجهان، قيل يشترط كدفع الصائل، وأصحهما لا لقوله في الحديث ‏"‏ يختله بذلك ‏"‏ وفي حكم المتطلع من خلل الباب الناظر من كوة من الدار وكذا من وقف في الشارع فنظر إلى حريم غيره أو إلى شيء في دار غيره، وقيل المنع مختص بمن كان في ملك المنظور إليه، وهل يلحق الاستماع بالنظر‏؟‏ وجهان، الأصح لا، لأن النظر إلى العورة أشد من استماع ذكرها، وشرط القياس المساواة أو أولوية المقيس وهنا بالعكس‏.

    (ج12/ ص 307)
    ‏(‏باب العاقلة‏)‏ بكسر القاف جمع عاقل وهو دافع الدية، وسميت الدية عقلا تسمية بالمصدر لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي القتيل
    وتحمل العاقلة الدية ثابت بالسنة، وأجمع أهل العلم على ذلك، وهو مخالف لظاهر قوله ‏(‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏)‏ لكنه خص من عمومها ذلك لما فيه من المصلحة، لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله، لأن تتابع الخطأ منه لا يؤمن ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول‏.‏
    (ج12/ ص 310)
    ونقل ابن المنذر والخطابي عن طاوس ومجاهد وعروة بن الزبير ‏"‏ الغرة عبد أو أمة أو فرس ‏"‏ وتوسع داود ومن تبعه من أهل الظاهر فقالوا‏:‏ يجزئ كل ما وقع عليه اسم غرة، والغرة في الأصل البياض يكون في جبهة الفرس، وقد استعمل للآدمي في الحديث المتقدم في الوضوء ‏"‏ إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا ‏"‏ وتطلق الغرة على الشيء النفيس آدميا كان أو غيره ذكرا كان أو أنثى، وقيل أطلق على الآدمي غرة لأنه أشرف الحيوان، فإن محل الغرة الوجه والوجه أشرف الأعضاء، وقوله في الحديث ‏"‏ غرة عبد أو أمة ‏"‏ قال الإسماعيلي قرأه العامة بالإضافة وغيرهم بالتنوين، وحكى القاضي عياض الخلاف‏.‏
    (ج12/ ص 314)
    ذم السجع في الكلام، ومحل الكراهة إذا كان ظاهر التكلف، وكذا لو كان منسجما لكنه في إبطال حق أو تحقيق باطل، فأما لو كان منسجما وهو في حق أو مباح فلا كراهة، بل ربما كان في بعضه ما يستحب مثل أن يكون فيه إذعان مخالف للطاعة كما وقع لمثل القاضي الفاضل في بعض رسائله ‏"‏ أو إقلاع عن معصية كما وقع لمثل أبي الفرج بن الجوزي في بعض مواعظه ‏"‏ وعلى هذا يحمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا عن غيره من السلف الصالح، والذي يظهر لي أن الذي جاء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عن قصد إلى التسجيع وإنما جاء اتفاقا لعظم بلاغته، وأما من بعده فقد يكون كذلك وقد يكون عن قصد وهو الغالب، ومراتبهم في ذلك متفاوتة جدا‏.‏
    والله أعلم
    (ج12/ ص 317)
    قال الترمذي فسر بعض أهل العلم قالوا‏:‏ العجماء الدابة المنفلتة من صاحبها فما أصابت من انفلاتها فلا غرم على صاحبها‏.‏
    وقال أبو داود بعد تخرجه‏:‏ العجماء التي تكون منفلتة لا يكون معها أحد، وقد تكون بالنهار ولا تكون بالليل ووقع عند ابن ماجه في آخر حديث عبادة بن الصامت ‏"‏ والعجماء البهيمة من الأنعام وغيرها، والجبار هو الهدر الذي لا يغرم ‏"‏ كذا وقع التفسير مدرجا وكأنه من رواية موسى بن عقبة‏.‏
    وذكر ابن العربي أن بناء ج ب ر للرفع والإهدار من باب السلب وهو كثير يأتي اسم الفعل والفاعل لسلب معناه
    (ج12/ ص 318)
    قال أبو عبيد‏:‏ المراد بالبئر هنا العادية القديمة التي لا يعلم لها مالك تكون في البادية فيقع فيها إنسان أو دابة فلا شيء في ذلك على أحد، وكذلك لو حفر بئرا في ملكه أو في موات فوقع فيها إنسان أو غيره فتلف فلا ضمان إذا لم يكن منه تسبب إلى ذلك ولا تغرير، وكذا لو استأجر إنسانا ليحفر له البئر فانهارت عليه فلا ضمان، وأما من حفر بئرا في طريق المسلمين وكذا في ملك غيره بغير إذن فتلف بها إنسان فإنه يجب ضمانه على عاقلة الحافر والكفارة في ماله، وإن تلف بها غير آدمي وجب ضمانه في مال الحافر، ويلتحق بالبئر كل حفرة على التفصيل
    ال ابن بطال‏:‏ وخالف الحنفية في ذلك فضمنوا حافر البئر مطلقا قياسا على راكب الدابة، ولا قياس مع النص، قال ابن العربي اتفقت الروايات المشهورة على التلفظ بالبئر، وجاءت رواية شاذة بلفظ ‏"‏ النار جبار ‏"‏ بنون وألف ساكنة قبل الراء ومعناه عندهم أن من استوقد نارا مما يجوز له فتعدت حتى أتلفت شيئا فلا ضمان عليه، قال وقال بعضهم‏:‏ صحفها بعضهم لأن أهل اليمن يكتبون النار بالياء لا بالألف فظن بعضهم البئر الموحدة النار بالنون فرواها كذلك، قلت هذا التأويل نقله ابن عبد البر وغيره عن يحيى بن معين وجزم بأن معمرا صحفه حيث رواه عن همام عن أبي هريرة، قال ابن عبد البر‏:‏ ولم يأت ابن معين على قوله بدليل، وليس بهذا ترد أحاديث الثقات‏.‏
    قلت‏:‏ ولا يعترض على الحفاظ الثقات بالاحتمالات‏.‏
    ويؤيده ما قال ابن معين اتفاق الحفاظ من أصحاب أبي هريرة على ذكر البئر دون النار، وقد ذكر مسلم أن علامة المنكر في حديث المحدث أن يعمد إلى مشهور بكثرة الحديث والأصحاب فيأتي عنه بما ليس عندهم وهذا من ذاك، ويؤيده أيضا أنه وقع عند أحمد من حديث جابر بلفظ ‏"‏ والجب جبار ‏"‏ بجيم مضمومة وموحدة ثقيلة وهي البئر، وقد اتفق الحفاظ على تغليط سفيان بن حسين حيث روى عن الزهري في حديث الباب ‏"‏ الرجل جبار ‏"‏ بكسر الراء وسكون الجيم، وما ذاك إلا أن الزهري مكثر من الحديث والأصحاب فتفرد سفيان عنه بهذا اللفظ فعد منكرا‏.‏
    وقال الشافعي‏:‏ لا يصح هذا‏.‏
    وقال الدار قطني‏:‏ رواه عن أبي هريرة سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعبيد الله بن عبد الله والأعرج وأبو صالح ومحمد بن زياد ومحمد ابن سيرين فلم يذكروها، وكذلك رواه أصحاب الزهري وهو المعروف‏:‏ نعم الحكم الذي نقله ابن العربي صحيح ويمكن أن يتلقى من حيث المعنى من الإلحاق بالعجماء ويلتحق به كل جماد، فلو أن شخصا عثر فوقع رأسه في جدار فمات أو انكسر لم يجب على صاحب الجدار شيء‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ فرق الحنفية فيما أصابت الدابة بيدها أو رجلها فقالوا لا يضمن ما أصابت برجلها وذنبها ولو كانت بسبب، ويضمن ما أصابت بيدها وفمها، فأشار البخاري إلى الرد بما نقله عن أئمة أهل الكوفة مما يخالف ذلك‏.‏
    وقد احتج لهم الطحاوي بأنه لا يمكن التحفظ من الرجل والذنب بخلاف اليد والفم واحتج برواية سفيان بن حسين ‏"‏ الرجل جبار ‏"‏ وقد غلطه الحفاظ، ولو صح فاليد أيضا جبار بالقياس على الرجل‏.‏
    وكل منهما مقيد بما إذا لم يكن لمن هي معه مباشرة ولا تسبب، ويحتمل أن يقال حديث ‏"‏ الرجل جبار ‏"‏ مختصر من حديث ‏"‏ العجماء جبار ‏"‏ لأنها فرد من أفراد العجماء، وهم لا يقولون بتخصيص العموم بالمفهوم فلا حجة لهم فيه، وقد وقع في حديث الباب زيادة ‏"‏ والرجل جبار ‏"‏ أخرجه الدار قطني من طريق آدم عن شعبة‏.‏
    وقال تفرد آدم عن شعبة بهذه الزيادة وهي وهم، وعند الحنفية خلاف فقال أكثرهم لا يضمن الراكب والقائد في الرجل والذنب إلا إن أوقفها في الطريق، وأما السائق فقيل ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها لأن النفحة بمرأى عينه فيمكنه الاحتراز عنها، والراجح عندهم لا يضمن النفحة وإن كان يراها إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التحرز عنه، بخلاف الفم فإنه يمنعها باللجام وكذا قال الحنابلة‏.‏
    وقد استدل بهذا الإطلاق من قال‏:‏ لا ضمان فيما أتلفت البهيمة سواء كانت منفردة أو معها أحد سواء كان راكبها أو سائقها أو قائدها، وهو قول الظاهرية،
    وقال الجمهور‏:‏ إنما يسقط الضمان إذا كان ذلك نهارا، وأما بالليل فإن عليه حفظها، فإذا أتلفت بتقصير منه وجب عليه ضمان ما أتلفت، ودليل هذا التخصيص ما أخرجه الشافعي رضي الله عنه وأبو داود والنسائي وابن ماجه كلهم من رواية الأوزاعي والنسائي أيضا وابن ماجه من رواية عبد الله بن عيسى والنسائي أيضا من رواية محمد بن ميسرة وإسماعيل بن أمية كلهم عن الزهري عن حرام ابن محيصة الأنصاري عن البراء بن عازب قال كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل ‏"‏ وأخرج ابن ماجه أيضا من رواية الليث عن الزهري عن ابن محيصة أن ناقة للبراء ولم يسم حراما‏.‏
    د قال ابن عبد البر‏:‏ هذا الحديث وإن كان مرسلا فهو مشهور حدث به الثقات وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول، وأما إشارة الطحاوي إلى أنه منسوخ بحديث الباب فقد تعقبوه بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال مع الجهل بالتاريخ، وأقوى من ذلك قول الشافعي‏:‏ أخذنا بحديث البراء لثبوته ومعرفة رجاله ولا يخالفه حديث ‏"‏ العجماء جبار ‏"‏ لأنه من العام المراد به الخاص، فلما قال ‏"‏ العجماء جبار ‏"‏ وقضى فيما أفسدت العجماء بشيء في حال دون حال دل ذلك على أن ما أصابت العجماء من جرح وغيره في حال جبار وفي حال غير جبار ثم نقض على الحنفية أنهم لم يستمروا على الأخذ بعمومه في تضمين الراكب متمسكين بحديث ‏"‏ الرجل جبار ‏"‏ مع ضعف راوي
    (ج12/ ص 324)
    ت‏:‏ والذي يظهر لي في الجمع أن يقال إن الأربعين أقل زمن يدرك به ريح الجنة من في الموقف والسبعين فوق ذلك أو ذكرت للمبالغة، والخمسمائة ثم الألف أكثر من ذلك، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأعمال، فمن أدركه من المسافة البعدى أفضل ممن أدركه من المسافة القربى وبين ذلك، وقد أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي فقال‏:‏ الجمع بين هذه الروايات أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص بتفاوت منازلهم ودرجاتهم‏.‏
    ثم رأيت نحوه في كلام ابن العربي فقال‏:‏ ريح الجنة لا يدرك بطبيعة ولا عادة وإنما يدرك بما يخلق الله من إدراكه فتارة يدركه من شاء الله من مسيرة سبعين وتارة من مسيرة خمسمائة‏.‏
    ونقل ابن بطال أن المهلب احتج بهذا الحديث على أن المسلم إذا قتل الذمي أو المعاهد لا يقتل به للاقتصار في أمره على الوعيد الأخروي دون الدنيوي
    (ج12/ ص 327)
    فإن خطبة يوم الفتح كانت بسبب القتيل الذي قتلت خزاعة وكان له عهد، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ لو قتلت مؤمنا بكافر لقتلته به ‏"‏ وقال ‏"‏ لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهد ‏"‏ فأشار بحكم الأول إلى ترك اقتصاصه من الخزاعي بالمعاهد الذي قتله‏.‏
    ومن حججهم قطع المسلم بسرقة مال الذمي، قالوا والنفس أعظم حرمة، وأجاب ابن بطال بأنه قياس حسن لولا النص، وأجاب غيره بأن القطع حق لله، ومن ثم لو أعيدت السرقة بعينها لم يسقط الحد ولو عفا، والقتل بخلاف ذلك‏.‏
    وأيضا القصاص يشعر بالمساواة ولا مساواة للكافر والمسلم، والقطع لا تشترط فيه المساواة‏.‏
    انتهي كتاب " الديات "
    ويليه كتاب " استتابة المرتدين والمعاندين "

    ‏.‏
    كتاب " استتابة المرتدين والمعاندين "
    (ج12/ ص 332)
    قال تعالى ‏(‏قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏)‏ قال‏:‏ ووجه هذا الحديث أن الكافر إذا أسلم لم يؤاخذ بما مضى، فإن أساء في الإسلام غاية الإساءة وركب أشد المعاصي وهو مستمر الإسلام فإنه إنما يؤاخذ بما جناه من المعصية في الإسلام ويبكت بما كان منه في الكفر كأن يقال له‏:‏ ألست فعلت كذا وأنت كافر فهلا منعك إسلامك عن معاودة مثله‏؟‏ انتهى ملخصا، وحاصله أنه أول المؤاخذة في الأول بالتبكيت وفي الآخر بالعقوبة، والأولى قول غيره‏:‏ إن المراد بالإساءة الكفر لأنه غاية الإساءة وأشد المعاصي فإذا ارتد ومات على كفره كان كمن لم يسلم فيعاقب على جميع ما قدمه، وإلى ذلك أشار البخاري بإيراد هذا الحديث بعد حديث ‏"‏ أكبر الكبائر الشرك ‏"‏ وأورد كلا في أبواب المرتدين، ونقل ابن بطال عن المهلب قال‏:‏ معنى حديث الباب من أحسن في الإسلام بالتمادي على محافظته والقيام بشرائطه لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أي في عقده بترك التوحيد أخذ بكل ما أسلفه، قال ابن بطال‏:‏ فعرضته على جماعة من العلماء فقالوا لا معنى لهذا الحديث غير هذا، ولا تكون الإساءة هنا إلا الكفر للإجماع على أن المسلم لا يؤاخذ بما عمل في الجاهلية‏.‏
    قلت‏:‏ وبه جزم المحب الطبري‏.‏
    ونقل ابن التين عن الداودي معنى من أحسن مات على الإسلام، ومن أساء مات على غير الإسلام‏.‏
    وعن أبي عبد الملك البوني‏:‏ معنى من أحسن في الإسلام أي أسلم إسلاما صحيحا لا نفاق فيه ولا شك، ومن أساء في الإسلام أي أسلم رياء وسمعة وبهذا جزم القرطبي، ولغيره معنى الإحسان الإخلاص حين دخل فيه وداومه عليه إلى موته، والإساءة بضد ذلك فإنه إن لم يخلص إسلامه كان منافقا فلا ينهدم عنه ما عمل في الجاهلية فيضاف نفاقه المتأخر إلى كفره الماضي فيعاقب على جميع ذلك‏.‏
    قلت‏:‏ وحاصله أن الخطابي حمل قوله ‏"‏ في الإسلام ‏"‏ على صفة خارجة عن ماهية الإسلام، وحمله غيره على صفة في نفس الإسلام وهو أوجه‏.‏
    (ج12/ 332)
    م وجدت في ‏"‏ كتاب السنة ‏"‏ لعبد العزيز بن جعفر وهو من رءوس الحنابلة ما يدفع دعوة الخطابي وابن بطال الإجماع الذي نقلاه، وهو ما نقل عن الميموني عن أحمد أنه قال‏:‏ بلغني أن أبا حنيفة يقول إن من أسلم لا يؤاخذ بما كان في الجاهلية، ثم رد عليه بحديث ابن مسعود ففيه أن الذنوب التي كان الكافر يفعلها في جاهليته إذا أصر عليها في الإسلام فإنه يؤاخذ بها لأنه بإصراره لا يكون تاب منها وإنما تاب من الكفر فلا يسقط عنه ذنب تلك المعصية لإصراره عليها، وإلى هذا ذهب الحليمي من الشافعية، وتأول بعض الحنابلة قوله ‏(‏قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏)‏ على أن المراد ما سلف مما انتهوا عنه، قال‏:‏ والاختلاف في هذه المسألة مبني على أن التوبة هي الندم على الذنب مع الإقلاع عنه والعزم على عدم العود إليه والكافر إذا تاب من الكفر ولا يعزم على عدم العود إلى الفاحشة لا يكون تائبا منها فلا تسقط عنه المطالبة بها والجواب عن الجمهور أن هذا خاص بالمسلم وأما الكافر فإنه يكون بإسلامه كيوم ولدته أمه والأخبار دالة على ذلك كحديث أسامة لما أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قتل الذي قال لا إله إلا الله حتى قال في آخره ‏"‏ حتى تمنيت أنني كنت أسلمت يومئذ‏"‏‏.‏
    (ج12/ ص 336)
    وأخرج الدار قطني عن ابن المنكدر عن جابر ‏"‏ أن امرأة ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها ‏"‏ وهو يعكر على ما نقله ابن الطلاع في الأحكام أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل مرتدة‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ اختلف في استتابة المرتد فقيل يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهو قول الجمهور، وقيل يجب قتله في الحال جاء ذلك عن الحسن وطاوس وبه قال أهل الظاهر‏.‏
    واستدل ابن القصار لقول الجمهور بالإجماع يعني السكوتي لأن عمر كتب في أمر المرتد‏:‏ هلا حبستموه ثلاثة أيام وأطعمتموه في كل يوم رغيفا لعله يتوب فيتوب الله عليه‏؟‏ قال‏:‏ ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة كأنهم فهموا من قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏من بدل دينه فاقتلوه ‏"‏ أي إن لم يرجع، وقد قال تعالى ‏(‏فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم‏)‏ واختلف القائلون بالاستتابة هل يكتفى بالمرة أو لا بد من ثلاث‏؟‏ وهل الثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة أيام‏؟‏ وعن علي يستتاب شهرا، وعن النخعي يستتاب أبدا كذا نقل عنه مطلقا، والتحقيق أنه في من تكررت منه الردة وسيأتي مزيد لذلك في الحديث الأول عند ذكر الزنادقة‏.‏
    (ج12/ ص 338)
    عند الطبراني في الأوسط من طريق سويد بن غفلة ‏"‏ أن عليا بلغه أن قوما ارتدوا عن الإسلام فبعث إليهم فأطعمهم ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فحفر حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم ورماهم فيها ثم ألقى عليهم الحطب فاحرقهم ثم قال‏:‏ صدق الله ورسوله ‏"‏ وزعم أبو المظفر الإسفرايني في ‏"‏ الملل والنحل ‏"‏ أن الذين أحرقهم علي طائفة من الروافض ادعوا فيه الإلهية وهم السبائية وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ يهوديا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة، وهذا يمكن أن يكون أصله ما رويناه في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبد الله ابن شريك العامري عن أبيه قال‏:‏ قيل لعلي إن هنا قوما على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم ويلكم ما تقولون‏؟‏ قالوا‏:‏ أنت ربنا وخالقنا ورازقنا‏.‏
    فقال‏:‏ ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا، فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال‏:‏ قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال أدخلهم فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فقال يا قنبر ائتني بفعلة معهم مرورهم فخذ لهم أخدودا بين باب المسجد والقصر وقال‏:‏ احفروا فأبعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال‏:‏ إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال‏:‏ إني إذا رأيت أمرا منكرا أوقدت ناري ودعوت قنبرا وهذا سند حسن
    (ج12/ ص 339)
    قال أبو حاتم السجستاني وغيره‏:‏ الزنديق فارسي معرب أصله ‏"‏ زنده كرداي ‏"‏ يقول بدوام الدهر لأن زنده الحياة وكرد العمل، ويطلق على من يكون دقيق النظر في الأمور‏.‏
    وقال ثعلب‏:‏ ليس في كلام العرب زنديق وإنما قالوا زندقي لمن يكون شديد التحيل، وإذا أرادوا ما تريد العامة قالوا ملحد ودهري بفتح الدال أي يقول بدوام الدهر، وإذا قالوها بالضم أرادوا كبر السن‏.‏
    وقال الجوهري‏:‏ الزنديق من الثنوية، كذا قال وفسره بعض الشراح بأنه الذي يدعي أن مع الله إلها آخر، وتعقب بأنه يلزم منه أن يطلق على كل مشرك، والتحقيق ما ذكره من صنف في الملل أن أصل الزنادقة أتباع ديصان ثم ماني ثم مزدك الأول بفتح الدال وسكون المثناة التحتانية بعدها صاد مهملة، والثاني بتشديد النون وقد تخفف والياء خفيفة، والثالث بزاي ساكنة ودال مهملة مفتوحة ثم كاف، وحاصل مقالتهم أن النور والظلمة قديمان وأنهما امتزجا فحدث العالم كله منهما، فمن كان من أهل الشر فهو من الظلمة ومن كان من أهل الخير فهو من النور‏.‏
    وأنه يجب السعي في تخليص النور من الظلمة فيلزم إزهاق كل نفس‏.‏
    وإلى ذلك أشار المتنبي حيث قال في قصيدته المشهورة‏:‏ وكم لظلام الليل عندك من يد تخبر أن المانوية تكذب وكان بهرام جد كسرى تحيل على ماني حتى حضر عنده وأظهر له أنه قبل مقالته ثم قتله وقتل أصحابه وبقيت منهم بقايا اتبعوا مزدك المذكور، وقام الإسلام والزنديق يطلق على من يعتقد ذلك، وأظهر جماعة منهم الإسلام خشية القتل ومن ثم أطلق الاسم على كل من أسر الكفر وأظهر الإسلام حتى قال مالك الزندقة ما كان عليه المنافقون وكذا أطلق جماعة من الفقهاء الشافعية وغيرهم أن الزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر، فإن أرادوا اشتراكهم في الحكم فهو كذلك وإلا فأصلهم ما ذكرت، وقد قال النووي في لغات الروضة‏:‏ الزنديق الذي لا ينتحل دينا‏.‏
    كل زنديق منافق من غير عكس وكان من أطلق عليه في الكتاب والسنة المنافق يظهر الإسلام ويبطن عبادة الوثن أو اليهودية، وأما الثنوية فلا يحفظ أن أحدا منهم أظهر الإسلام في العهد النبوي والله أعلم‏.‏
    وقد اختلف النقلة في الذين وقع لهم مع علي ما وقع على ما سأبينه، واشتهر في صدر الإسلام الجعد بن درهم فذبحه خالد القسري في يوم عيد الأضحى، ثم كثروا في دولة المنصور وأظهر له بعضهم معتقده فأبادهم بالقتل ثم ابنه المهدي فأكثر في تتبعهم وقتلهم، ثم خرج في أيام المأمون بابك بموحدتين مفتوحتين ثم كاف مخففة الخرمي بضم المعجمة وتشديد الراء فغلب على بلاد الجبل وقتل في المسلمين وهزم الجيوش إلى أن ظفر به المعتصم فصلبه، وله أتباع يقال لهم الخرمية وقصصهم في التواريخ معروفة‏.‏
    قد وقع في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له ‏"‏ أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها ‏"‏ وسنده حسن، وهو نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه، ويؤيده اشتراك الرجال والنساء في الحدود كلها الزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف، ومن صور الزنا رجم المحصن حتى يموت
    (ج12/ ص 341)
    أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر وقد قال صلى الله عليه وسلم لأسامة ‏"‏ هلا شققت عن قلبه ‏"‏ وقال للذي ساره في قتل رجل ‏"‏ أليس يصلي‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏
    قال‏:‏ أولئك الذين نهيت عن قتلهم ‏"‏ وسيأتي قريبا أن في بعض طرق حديث أبي سعيد أن خالد بن الوليد لما استأذن في قتل الذي أنكر القسمة وقال كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ‏"‏ أخرجه مسلم، والأحاديث في ذلك كثيرة‏.‏



    (ج12/ ص 346)
    وقال أبو محمد بن حزم في ‏"‏ الملل والنحل ‏"‏‏:‏ انقسمت العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقسام‏:‏ طائفة بقيت على ما كانت عليه في حياته وهم الجمهور، وطائفة بقيت على الإسلام أيضا إلا أنهم قالوا نقيم الشرائع إلا الزكاة وهم كثير لكنهم قليل بالنسبة إلى الطائفة الأولى، والثالثة أعلنت بالكفر والردة كأصحاب طليحة وسجاح وهم قليل بالنسبة لمن قبلهم إلا أنه كان في كل قبيلة من يقاوم من ارتد، وطائفة توقفت فلم تطع أحدا من الطوائف الثلاثة وتربصوا لمن تكون الغلبة فأخرج أبو بكر إليهم البعوث وكان فيروز ومن معه غلبوا على بلاد الأسود وقتلوه وقتل مسيلمة باليمامة وعاد طليحة إلى الإسلام وكذا سجاح ورجع غالب من كان ارتد إلى الإسلام فلم يحل الحول إلا والجميع قد راجعوا دين الإسلام ولله الحمد‏.‏
    (ج12/ ص 348)
    قال الخطابي‏:‏ زعم الروافض أن حديث الباب متناقض لأن في أوله أنهم كفروا وفي آخره أنهم ثبتوا على الإسلام إلا أنهم منعوا الزكاة، فإن كانوا مسلمين فكيف استحل قتالهم وسبي ذراريهم، وإن كانوا كفارا فكيف احتج على عمر بالتفرقة بين الصلاة والزكاة، فإن في جوابه إشارة إلى أنهم كانوا مقرين بالصلاة‏.‏
    قال‏:‏ والجواب عن ذلك أن الذين نسبوا إلى الردة كانوا صنفين، صنف رجعوا إلى عبادة الأوثان، وصنف منعوا الزكاة وتأولوا قوله تعالى ‏(‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم‏)‏ فزعموا أن دفع الزكاة خاص به صلى الله عليه وسلم لأن غيره لا يطهرهم ولا يصلى عليهم فكيف تكون صلاته سكنا لهم، وإنما أراد عمر بقوله ‏"‏ تقاتل الناس ‏"‏ الصنف الثاني لأنه لا يتردد في جواز قتل الصنف الأول، كما أنه لا يتردد في قتال غيرهم من عباد الأوثان والنيران واليهود والنصارى، قال‏:‏ وكأنه لم يستحضر من الحديث إلا القدر الذي ذكره، وقد حفظ غيره في الصلاة والزكاة معا، وقد رواه عبد الرحمن بن يعقوب بلفظ يعم جميع الشريعة حيث قال فيها ‏"‏ ويؤمنوا بي وبما جئت به ‏"‏ فإن مقتضى ذلك أن من جحد شيئا مما جاء به صلى الله عليه وسلم ودعي إليه فامتنع ونصب القتال أنه يجب قتاله وقتله إذا أصر، قال‏:‏ وإنما عرضت الشبهة لما دخله من الاختصار، وكأن راويه لم يقصد سياق الحديث على وجهه وإنما أراد سياق مناظرة أبي بكر وعمر واعتمد على معرفة السامعين بأصل الحديث، انتهى ملخصا‏.‏
    قلت وفي هذا الجواب نظر، لأنه لو كان عند عمر في الحديث ‏"‏ حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ‏"‏ ما استشكل قتالهم للتسوية في كون غاية القتال ترك كل من التلفظ بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، قال عياض‏:‏ حديث ابن عمر نص في قتال من لم يصل ولم يزك كمن لم يقر بالشهادتين، واحتجاج عمر على أبي بكر وجواب أبي بكر دل على أنهما لم يسمعا في الحديث الصلاة والزكاة إذ لو سمعه عمر لم يحتج على أبي بكر ولو سمعه أبو بكر لرد به على عمر ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله ‏"‏ إلا بحقه‏"‏‏.‏
    قلت‏:‏ إن كان الضمير في قوله ‏"‏ بحقه ‏"‏ للإسلام فمهما ثبت أنه من حق الإسلام تناوله، ولذلك اتفق الصحابة على قتال من جحد الزكاة‏.‏
    (ج12/ ص 350)
    قيل العقال يطلق على صدقة عام يقال أخذ منه عقال هذا العام يعني صدقته حكاه المازري عن الكسائي واستشهد بقول الشاعر‏:‏ سعى عقالا فلم يترك لن سندا فكيف لو قد سعى عمرو عقالين وعمرو المشار إليه هو ابن عتبة بن أبي سفيان، وكان عمه معاوية يبعثه ساعيا على الصدقات فقيل فيه ذلك‏.‏
    ونقل عياض عن ابن وهب أنه الفريضة من الإبل، ونحوه عن النضر بن شميل، وعن أبي سعيد الضرير‏:‏ العقال ما يؤخذ في الزكاة من نعام وثمار لأنه عقل عن مالكها‏.‏
    وقال المبرد‏:‏ العقال ما أخذه العامل من صدقة بعينها فإن تعوض عن شيء منها قيل أخذ نقدا، وعلى هذا فلا إشكال فيه‏.‏
    وذهب الأكثر إلى حمل العقال على حقيقته وأن المراد به الحبل الذي يعقل به البعير، نقله عياض عن الواقدي عن مالك بن أبي ذئب قالا العقال عقال الناقة‏.‏
    قال أبو عبيد العقال اسم لما يعقل به البعير، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم محمد ابن مسلمة على الصدقة فكان يأخذ مع كل فريضة عقالا‏.‏
    وقال النووي‏:‏ ذهب إلى هذا كثير من المحققين‏.‏
    وقال ابن التيمي في ‏"‏ التحرير ‏"‏‏:‏ قول من فسر العقال بفريضة العام تعسف، وهو نحو تأويل من حمل البيضة والحبل في حديث لعن السارق على بيضة الحديد وحبل السفينة‏.‏
    وقال عياض‏:‏ احتج به بعضهم على جواز أخذ الزكاة في عروض التجارة، وفيه بعد، والراجح أن العقال لا يؤخذ في الزكاة لوجوبه بعينه وإنما يؤخذ تبعا للفريضة التي تعقل به، أو أنه قال ذلك مبالغة على تقدير أن لو كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال النووي‏:‏ يصح قدر قيمة العقال في زكاة النقد وفي المعدن والركاز والمعشرات وزكاة الفطر، وفيما لو وجبت سن فأخذ الساعي دونه، وفيما إذا كانت الغنم سخالا فمنع واحدة وقيمتها عقال‏.‏
    قال‏:‏ وقد رأيت كثيرا ممن يتعانى الفقه يظن أنه لا يتصور وإنما هو للمبالغة‏.‏
    وهو غلط منه‏.‏
    وقد قال الخطابي‏:‏ حمله بعضهم على زكاة العقال إذا كان من عروض التجارة، وعلى الحبل نفسه عند من يجيز أخذ القيم، والشافعي قول إنه يتخير بين العرض والنقد، قال‏:‏ وأظهر من ذلك كله قول من قال إنه يجب أخذ العقال مع الفريضة كما جاء عن عائشة ‏"‏ كان من عادة المتصدق أن يعمد إلى قرن - بفتح القاف والراء وهو الحبل - فيقرن به بين بعيرين لئلا تشرد الإبل، وهكذا جاء عن الزهري‏.‏
    وقال غيره في قول أبي بكر ‏"‏ لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ غنية عن حمله على المبالغة‏.‏
    وحاصله أنهم متى منعوا شيئا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قل فقد منعوا شيئا واجبا إذ لا فرق في منع الواجب وجحده بين القليل الكثير، قال‏:‏ وهذا يعني عن جميع التقادير والتأويلات التي لا يسبق الفهم إليها، ولا يظن بالصديق أنه يقصد إلى مثلها‏.‏
    قلت‏:‏ الحامل لمن حمله على المبالغة أن الذي تمثل به في هذا المقام لا بد وأن يكون من جنس ما يدخل في الحكم المذكور، فلذلك حملوه على المبالغة والله أعلم‏.‏
    (ج12/ ص 350)
    قال البغوي‏:‏ الكافر إذا كان وثنيا أو ثنويا لا يقر بالوحدانية، فإذا قال لا إله إلا الله حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام، وأما من كان مقرا بالوحدانية منكرا للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول محمد رسول الله، فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة فلا بد أن يقول إلى جميع الخلق، فإن كان كفر بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج أن يرجع عما اعتقده، ومقتضى قوله ‏"‏ يجبر ‏"‏ أنه إذا لم يلتزم تجري عليه أحكام المرتد، وبه صرح القفال واستدل بحديث الباب فادعى أنه لم يرد في خبر من الأخبار ‏"‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أو أني رسول الله ‏"‏ كذا قال وهي غفلة عظيمة، فالحديث في صحيحي البخاري ومسلم في كتاب الإيمان من كل منهما من رواية ابن عمر بلفظ ‏"‏ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ‏"‏ ويحتمل أن يكون المراد بقوله لا إله إلا الله هنا التلفظ بالشهادتين لكونها سارت علما على ذلك، ويؤيده ورودهما صريحا في الطرق الأخرى، واستدل بها على أن الزكاة لا تسقط عن المرتد، وتعقب بأن المرتد كافر والكافر لا يطالب بالزكاة وإنما يطالب بالإيمان، وليس في فعل الصديق حجة لما ذكر وإنما فيه قتال من منع الزكاة، والذين تمسكوا بأصل الإسلام ومنعوا الزكاة بالشبهة التي ذكروها لم يحكم عليهم بالكفر قبل إقامة الحجة‏.‏
    وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم هل تغنم أموالهم وتسبى ذراريهم كالكفار أو لا كالبغاة‏؟‏ فرأى أبو بكر الأول وعمل به وناظره عمر في ذلك
    (ج12/ ص 351)
    وقال القاضي عياض‏:‏ يستفاد من هذه القصة أن الحاكم إذا أداه اجتهاده في أمر لا نص فيه إلى شيء تجب طاعته فيه ولو اعتقد بعض المجتهدين خلافه، فإن صار ذلك المجتهد المعتقد خلافه حاكما وجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده وتسوغ له مخالفة الذي قبله في ذلك، لأن عمر أطاع أبا بكر فيما رأى من حق مانعي الزكاة مع اعتقاده خلافه ثم عمل في خلافته بما أداه إليه اجتهاده ووافقه أهل عصره من الصحابة وغيرهم، وهذا مما ينبه عليه في الاحتجاج بالإجماع السكوتي، فيشترط في الاحتجاج به انتفاء موانع الإنكار وهذا منها‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ في الحديث أن من أظهر الإسلام أجريت عليه أحكامه الظاهرة ولو أسر الكفر في نفس الأمر‏.‏
    ومحل الخلاف إنما هو فيمن اطلع على معتقده الفاسد فأظهر الرجوع هل يقبل منه أو لا‏؟‏ وأما من جهل أمره فلا خلاف في إجراء الأحكام الظاهرة عليه‏.‏
    (ج12/ ص 352)
    د نقل ابن المنذر الاتفاق علي أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحا وجب قتله، ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم مما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل لأن حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة، وخالفه القفال فقال‏:‏ كفر بالسب فيسقط القتل بالإسلام‏.‏
    وقال الصيدلاني‏:‏ يزول القتل ويجب حد القذف، وضعفه الإمام، فإن عرض فقال الخطابي‏:‏ لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ اختلف العلماء فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم، فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك‏:‏ يقتل إلا أن يسلم، وأما المسلم فيقتل بغير استتابة‏.‏
    ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي وأحمد وإسحاق مثله في حق اليهودي ونحوه، ومن طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك في المسلم‏:‏ هي ردة يستتاب منها‏.‏
    وعن الكوفيين إن كان ذميا عزر وإن كان مسلما فهي ردة‏.‏
    وحكى عياض خلافا هل كان ترك من وقع منه ذلك لعدم التصريح أو لمصلحة التأليف‏؟‏ ونقل عن بعض المالكية أنه إنما لم يقتل اليهود في هذه القصة لأنهم لم تقم عليهم البينة بذلك ولا أقروا به فلم يقض فيهم بعلمه، وقيل إنهم لما لم يظهروه ولووه بألسنتهم ترك قتلهم‏.‏
    (ج12/ ص 355)
    الخوارج فهم جمع خارجة أي طائفة، وهم قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين، وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعي في الشرح الكبير أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه بقتله أو مواطأته إياهم، كذا قال، وهو خلاف ما أطبق عليه أهل الأخبار فإنه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان بل كانوا ينكرون عليه أشياء ويتبرءون منه، وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه ويستبدون برأيهم ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك، فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه واعتقدوا إمامة علي وكفر من قاتله من أهل الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا عليا فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة فاتفقوا على طلب قتلة عثمان وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك، فبلغ عليا فخرج إليهم، فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة وانتصر علي وقتل طلحة في المعركة وقتل الزبير بعد أن انصرف من الوقعة، فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق، ثم قام معاوية بالشام في مثل ذلك وكان أمير الشام إذ ذاك وكان علي أرسل إليه لأن يبايع له أهل الشام فاعتل بأن عثمان قتل مظلوما وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك، ويلتمس من علي أن يمكنه منهم، ثم يبايع له بعد ذلك، وعلي يقول ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إلى أحكم فيهم بالحق، فلما طال الأمر خرج علي في أهل العراق طالبا قتال أهل الشام فخرج معاوية في أهل الشام قاصدا إلى قتاله، فالتقيا بصفين فدامت الحرب بينهما أشهرا، وكاد أهل الشام أن ينكسروا فرفعوا المصاحف على الرماح ونادوا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص وهو مع معاوية، فترك جمع كثير ممن كان مع علي وخصوصا القراء القتال بسبب ذلك تدينا، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم‏)‏ الآية، فراسلوا أهل الشام في ذلك فقالوا ابعثوا حكما منكم وحكما منا ويحضر معهما من لم يباشر القتال فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب علي ومن معه إلى ذلك وأنكرت ذلك تلك الطائفة التي صاروا خوارج وكتب علي بينه وبين معاوية كتاب الحكومة بين أهل العراق والشام‏:‏ هذا ما قضى عليه أمير المؤمنين على معاوية فامتنع أهل الشام من ذلك وقالوا اكتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب علي إلى ذلك فأنكره عليه الخوارج أيضا‏.‏
    فأوقع بهم بالنهروان، ولم ينج منهم إلا دون العشرة ولا قتل ممن معه إلا نحو العشرة، فهذا ملخص أول أمرهم، ثم انضم إلى من بقي منهم من مال إلى رأيهم فكانوا مختفين في خلافة علي حتى كان منهم عبد الرحمن ابن ملجم الذي قتل عليا بعد أن دخل علي في صلاة الصبح، ثم لما وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يقال له النجيلة ثم كانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه عبيد الله على العراق طول مدة معاوية وولده يزيد، وظفر زياد وابنه منهم بجماعة فأبادهم بين قتل وحبس طويل، فلما مات يزيد ووقع الافتراق وولي الخلافة عبد الله بن الزبير وأطاعه أهل الأمصار إلا بعض أهل الشام ثار مروان فادعى الخلافة وغلب على جميع الشام إلى مصر، فظهر الخوارج حينئذ بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نجدة بن عامر وزاد نجدة على معتقد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم، وعظم البلاء بهم وتوسعوا في معتقدهم الفاسد فأبطلوا رجم المحصن وقطعوا يد السارق من الإبط وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها وكفروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرا، وإن لم يكن قادرا فقد ارتكب كبيرة، وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكفوا عن أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقا وفتكوا فيمن ينسب إلى الإسلام بالقتل والسبي والنهب، فمنهم من يفعل ذلك مطلقا بغير دعوة منهم، ومنهم من يدعو أولا ثم يفتك، ولم يزل البلاء بهم يزيد إلى أن أمر المهلب بن أبي صفرة على قتالهم فطاولهم حتى ظفر بهم وتقلل جمعهم، ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ودخلت طائفة منهم المغرب‏.‏
    وقد صنف في أخبارهم أبو مخنف بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح النون بعدها فاء واسمه لوط بن يحيى كتابا لخصه الطبري في تاريخه وصنف في أخبارهم أيضا الهيثم بن عدي كتابا، ومحمد ابن قدامة الجوهري أحد شيوخ البخاري خارج الصحيح كتابا كبيرا، وجمع أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه ‏"‏ الكامل ‏"‏ لكن بغير أسانيد بخلاف المذكورين قبله، قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ الخوارج صنفان أحدهما يزعم أن عثمان وعليا وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بالتحكيم كفار، والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبدا‏.‏
    وقال غيره‏:‏ بل الصنف الأول مفرع عن الصنف الثاني لأن الحامل لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم‏.‏
    وقال ابن حزم‏:‏ ذهب نجدة بن عامر من الخوارج إلى أن من أتى صغيرة عذب بغير النار، ومن أدمن على صغيرة فهو كمرتكب الكبيرة في التخليد في النار، وذكر أن منهم من غلا في معتقدهم الفاسد فأنكر الصلوات الخمس وقال‏:‏ الواجب صلاة بالغداة وصلاة بالعشي، ومنهم من جوز نكاح بنت الابن وبنت الأخ والأخت، ومنهم من أنكر أن تكون سورة يوسف من القرآن، وأن من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن عند الله ولو اعتقد الكفر بقلبه‏.‏
    وقال أبو منصور البغدادي في المقالات‏:‏ عدة فرق الخوارج عشرون فرقة‏.‏
    وقال ابن حزم أسوءوهم حالا الغلاة المذكورون وأقربهم إلى قول أهل الحق الأباضية، وقد بقيت منهم بقية بالمغرب وقد وردت بما ذكرته من أصل حال الخوارج أخبار جياد‏:‏ منها ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر وأخرجه الطبري من طريق يونس كلاهما عن الزهري قال‏:‏ لما نشر أهل الشام المصاحف بمشورة عمرو بن العاص حين كاد أهل العراق أن يغلبوهم هاب أهل الشام ذلك إلى أن آل الأمر إلى التحكيم، ورجع كل إلى بلده إلى أن اجتمع الحكمان في العام المقبل بدومة الجندل وافترقا عن غير شيء، فلما رجعوا خالفت الحرورية عليا وقالوا لا حكم إلا لله‏.‏
    قال الغزالي في ‏"‏ الوسيط ‏"‏ تبعا لغيره في حكم الخوارج وجهان‏:‏ أحدهما أنه كحكم أهل الردة، والثاني أنه كحكم أهل البغي، ورجح الرافعي الأول
    (ج12/ ص 359)
    وقال النووي‏:‏ يستفاد منه أن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال السن وكثرة التجارب وقوة العقل

    ؟...........
    ‏(ج12/ ص 376)
    وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد وجرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام‏.‏
    وقال عياض‏:‏ كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالا عند المتكلمين من غيرها، حتى سأل الفقيه عبد الحق الإمام أبا المعالي عنها فاعتذر بأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين، قال‏:‏ وقد توقف قبله القاضي أبو بكر الباقلاني وقال‏:‏ لم يصرح القوم بالكفر وإنما قالوا أقوالا تؤدي إلى الكفر‏.‏
    وقال الغزالي في كتاب ‏"‏ التفرقة بين الإيمان والزندقة والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد‏.‏
    ومما احتج به من لم يكفرهم قوله في ثالث أحاديث الباب بعد وصفهم بالمروق من الدين ‏"‏ كمروق السهم فينظر الرامي إلى سهمه ‏"‏ إلى أن قال ‏"‏ فيتمارى في الفوقة هل علق بها شيء ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين لقوله ‏"‏ يتمارى في الفوق ‏"‏ لأن التماري من الشك، وإذ وقع الشك في ذلك لم يقطع عليهم بالخروج من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين قال‏:‏ وقد سئل علي عن أهل النهر هل كفروا‏؟‏ فقال‏:‏ من الكفر فروا‏.‏
    قال ابن هبيرة‏:‏ وفي الحديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين، والحكمة فيه أن في قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظ رأس المال أولى، وفيه الزجر عن الأخذ بظواهر جميع الآيات القابلة للتأويل التي يفضي القول بظواهرها إلى مخالفة إجماع السلف، وفيه التحذير من الغلو في الديانة والتنطع في العبادة بالحمل على النفس فيما لم يأذن فيه الشرع، وقد وصف الشارع الشريعة بأنها سهلة سمحة، وإنما ندب إلى الشدة على الكفار وإلى الرأفة بالمؤمنين، فعكس ذلك الخوارج كما تقدم بيانه‏.‏
    وفيه جواز قتال من خرج عن طاعة الإمام العادل، ومن نصب الحرب فقاتل على اعتقاد فاسد، ومن خرج يقطع الطرق ويخيف السبيل ويسعى في الأرض بالفساد، وأما من خرج عن طاعة إمام جائر أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور ولا يحل قتاله وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته، وسيأتي بيان ذلك في كتاب الفتن، وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن عبد الله بن الحارث عن رجل من بني نضر عن علي وذكر الخوارج فقال‏:‏ إن خالفوا إماما عدلا فقاتلوهم، وإن خالفوا إماما جائرا فلا تقاتلوهم فإن لهم مقالا‏.‏
    قلت‏:‏ وعلى ذلك يحمل ما وقع للحسين بن علي ثم لأهل المدينة في الحرة ثم لعبد الله بن الزبير ثم للقراء الذين خرجوا على الحجاج في قصة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث والله أعلم‏.‏
    أن الخوارج شر الفرق المبتدعة من الأمة المحمدية ومن اليهود والنصارى‏.‏
    (ج12/ ص 377)
    طريق الفرزدق الشاعر أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد وسألهما فقال إني رجل من أهل المشرق وإن قوما يخرجون علينا يقتلون من قال لا إله إلا الله ويؤمنون من سواهم فقالا لي ‏"‏ سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من قتلهم فله أجر شهيد ومن قتلوه فله أجر شهيد ‏"‏ فهؤلاء خمسة وعشرون نفسا من الصحابة والطرق إلى كثرتهم متعددة كعلي وأبي سعيد وعبد الله بن عمر وأبي بكرة وأبي برزة وأبي ذر، فيفيد مجموع خبرهما القطع بصحة ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
    ( ج12/ ص 386)
    في رواية عبيد الله بن أبي رافع ‏"‏ دعني أضرب عنق هذا المنافق ‏"‏ وفي حديث ابن عباس ‏"‏ قال عمر فاخترطت سيفي وقلت‏:‏ يا رسول الله أمكني منه فإنه قد كفر ‏"‏ وقد أنكر القاضي أبو بكر بن الباقلاني هذه الرواية وقال ليست بمعروفة قاله في الرد على الجاحظ لأنه احتج بها على تكفير العاصي، وليس لإنكار القاضي معنى لأنها وردت بسند صحيح وذكر البرقاني في مستخرجه أن مسلما أخرجها، ورده الحميدي، والجمع بينهما أن مسلما خرج سندها ولم يسق لفظها، وإذا ثبت فلعله أطلق الكفر وأراد به كفر النعمة كما أطلق النفاق وأراد به نفاق المعصية، وفيه نظر لأنه استأذن في ضرب عنقه فأشعر بأنه ظن أنه نافق نفاق كفر ولذلك أطلق أنه كفر، ولكن مع ذلك لا يلزم منه أن يكون عمر يرى تكفير من ارتكب معصية ولو كبرت كما يقوله المبتدعة ولكنه غلب على ظنه ذلك في حق حاطب، فلما بين له النبي صلى الله عليه وسلم عذر حاطب رجع‏.‏
    (ج12/ ص 388)
    ي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن المؤمن ولو بلغ بالصلاح أن يقطع له بالجنة لا يعصم من الوقوع في الذنب لأن حاطبا دخل فيمن أوجب الله لهم الجنة ووقع منه ما وقع، وفيه تعقب على من تأول أن المراد بقوله ‏"‏ اعملوا ما شئتم ‏"‏ أنهم حفظوا من الوقوع في شيء من الذنوب‏.‏
    وفيه الرد على من كفر المسلم بارتكاب الذنب، وعلى من جزم بتخليده في النار، وعلى من قطع بأنه لا بد وأن يعذب‏.‏
    وفيه أن من وقع منه الخطأ لا ينبغي له أن يجحده بل يعترف ويعتذر لئلا يجمع بين ذنبين‏.‏
    وفيه جواز التشديد في استخلاص الحق والتهديد بما لا يفعله المهدد تخويفا لمن يستخرج منه الحق‏.‏
    وفيه هتك ستر الجاسوس، وقد استدل به من يرى قتله من المالكية لاستئذان عمر في قتله ولم يرده النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلا لكونه من أهل بدر، ومنهم من قيده بأن يتكرر ذلك منه، والمعروف عن مالك يجتهد فيه الإمام، وقد نقل الطحاوي الإجماع على أن الجاسوس المسلم لا يباح دمه وقال الشافعية والأكثر يعزر، وإن كان من أهل الهيئات يعفى عنه‏.‏
    وكذا قال الأوزاعي وأبو حنيفة يوجع عقوبة ويطال حبسه‏.‏
    وفيه العفو عن زلة ذوي الهيئة‏.‏
    أجاب الطبري عن قصة حاطب واحتجاج من احتج بأنه إنما صفح عنه لما أطلعه الله عليه من صدقه في اعتذاره فلا يكون غيره كذلك، قال القرطبي وهو ظن خطأ لأن أحكام الله في عباده إنما تجري على ما ظهر منهم، وقد أخبر الله تعالى نبيه عن المنافقين الذين كانوا بحضرته ولم يبح له قتلهم مع ذلك لإظهارهم الإسلام، وكذلك الحكم في كل من أظهر الإسلام تجري عليه أحكام الإسلام‏.‏
    وفيه من أعلام النبوة إطلاع الله نبيه على قصة حاطب مع المرأة كما تقدم بيانه من الروايات في ذلك، وفيه إشارة الكبير على الإمام بما يظهر له من الرأي العائد نفعه على المسلمين ويتخير الإمام في ذلك‏.‏
    وفيه جواز العفو عن العاصي‏.‏
    وفيه أن العاصي لا حرمة له وقد أجمعوا على أن الأجنبية يحرم النظر إليها مؤمنة كانت أو كافرة
    انتهى كتاب " المرتدين و المعاندين "
    ويليه
    كتاب " الاكراه "

    ...........
    كتاب " الإكراه "
    (ج12/ ص 392)
    ن الحسن البصري قال التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلا أنه كان لا يجعل في القتل تقية ‏"‏ ولفظ عبد بن حميد إلا في قتل النفس التي حرم الله يعني لا يعذر من أكره على قتل غيره لكونه يؤثر نفسه على نفس غيره‏.‏
    قلت‏:‏ ومعنى التقية الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير، وأصله وقية بوزن حمزة فعلة من الوقاية‏.‏
    وأخرج البيهقي من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال ‏"‏ التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان ولا يبسط يده للقتل‏"‏‏.‏
    قول ابن عباس فوصله ابن أبي شيبة من طريق عكرمة أنه سئل عن رجل أكرهه اللصوص حتى طلق امرأته فقال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ليس بشيء، أي لا يقع عليه الطلاق‏.‏
    وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان لا يرى طلاق المكره شيئا، وأما قول ابن عمر وابن الزبير فأخرجهما الحميدي في جامعه والبيهقي من طريقه قال ‏"‏ حدثنا سفيان سمعت عمرا يعني ابن دينار حدثني ثابت الأعرج قال‏:‏ تزوجت أم ولد عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب فدعاني ابنه ودعا غلامين له فربطوني وضربوني بالسياط وقال لتطلقها أو لأفعلن وأفعلن فطلقتها، ثم سألت ابن عمر وابن الزبير فلم يرياه شيئا ‏"‏ وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن ثابت الأعرج نحوه‏.‏
    وأما قول الشعبي فوصله عبد الرزاق بسند صحيح عنه قال‏:‏ إن أكرهه اللصوص فليس بطلاق وإن أكرهه السلطان وقع‏.‏
    ونقل عن ابن عيينة توجيهه وهو أن اللص يقدم على قتله والسلطان لا يقتله‏.‏
    قال ابن بطال تبعا لابن المنذر‏:‏ أجمعوا على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أنه لا يحكم عليه بالكفر ولا تبين منه زوجته، إلا محمد بن الحسن فقال‏:‏ إذا أظهر الكفر صار مرتدا وبانت منه امرأته ولو كان في الباطن مسلما‏.‏
    قال‏:‏ وهذا قول تغني حكايته عن الرد عليه لمخالفته النصوص‏.‏
    وقال قوم‏:‏ محل الرخصة في القول دون الفعل كأن يسجد للصنم أو يقتل مسلما أو يأكل الخنزير أو يزني، وهو قول الأوزاعي وسحنون‏.‏
    (ج12/ ص 395)
    وجه أخذ الترجمة منه أنه سوى بين كراهية الكفر وكراهية دخول النار، والقتل والضرب والهوان أسهل عند المؤمن من دخول النار فيكون أسهل من الكفر إن اختار الأخذ بالشدة، ذكره ابن بطال وقال أيضا‏:‏ فيه حجة لأصحاب مالك، وتعقبه ابن التين بأن العلماء متفقون على اختيار القتل على الكفر، وإنما يكون حجة على من يقول إن التلفظ بالكفر أولى من الصبر على القتل، ونقل عن المهلب أن قوما منعوا من ذلك واحتجوا بقوله تعالى ‏(‏ولا تقتلوا أنفسكم‏)‏ الآية، ولا حجة فيه لأنه قال تلو الآية المذكورة ‏(‏ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما‏)‏ فقيده بذلك، وليس من أهلك نفسه في طاعة الله ظالما ولا معتديا‏.‏
    وقد أجمعوا على جواز تقحم المهالك في الجهاد انتهى، وهذا يقدح في نقل ابن التين الاتفاق المذكور وأن ثم من قال بأولوية التلفظ على بذل النفس للقتل، وإن كان قائل ذلك يعمم فليس بشيء، وإن قيده بما لو عرض ما يرجح المفضول كما لو عرض على من إذا تلفظ به نفع متعد ظاهرا فيتجه‏.‏
    وقال الكرماني‏:‏ هي مأخوذة من كون عثمان اختار القتل على ما يرضى قاتليه فيكون اختياره القتل على الكفر بطريق الأولى، واسم زوجته فاطمة بنت الخطاب وهي أول امرأة أسلمت بعد خديجة فيما يقال، وقيل سبقتها أم الفضل زوج العباس‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ أجمعوا على أن من أكره على الكفر واختار القتل أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة، وأما غير الكفر فإن أكره على أكل الخنزير وشرب الخمر مثلا فالفعل أولى‏.‏
    وقال بعض المالكية‏:‏ بل يأثم إن منع من أكل غيرها فإنه يصير كالمضطر على أكل الميتة إذا خاف على نفسه الموت فلم يأكل‏.


    .......
    (ج12/ ص 399)
    قال ابن بطال‏:‏ ذهب الجمهور إلى بطلان نكاح المكره، وأجازه الكوفيون قالوا فلو أكره رجل على تزويج امرأة بعشرة آلاف وكان صداق مثلها ألفا صح النكاح ولزمته الألف وبطل الزائد، قال‏:‏ فلما أبطلوا الزائد بالإكراه كان أصل النكاح بالإكراه أيضا باطلا ا هـ، فلو كان راضيا بالنكاح وأكره على المهر كانت المسألة اتفاقية يصح العقد ويلزم المسمى بالدخول، ولو أكره على النكاح والوطء لم يحد ولم يلزمه شيء، وإن وطئ مختارا غير راض بالعقد حد‏.‏
    (ج12/ ص 400)
    قل ابن بطال عن محمد بن سحنون قال‏:‏ وافق الكوفيون الجمهور على أن بيع المكره باطل، وهذا يقتضي أن البيع مع الإكراه غير ناقل للملك، فإن سلموا ذلك بطل قولهم إن نذر المشتري وتدبيره يمنع تصرف الأول فيه، وإن قالوا إنه ناقل فلم خصوا ذلك بالعتق والهبة دون غيرهما من التصرفات‏؟‏ قال الكرماني‏:‏ ذكر المشايخ أن المراد بقول البخاري في هذه الأبواب ‏"‏ بعض الناس ‏"‏ الحنفية وغرضه أنهم تناقضوا، فإن بيع الإكراه إن كان ناقلا للملك إلى المشتري فإنه يصح منه جميع التصرفات فلا يختص بالنذر والتدبير، وإن قالوا ليس بناقل فلا يصح النذر والتدبير أيضا، وحاصله أنهم صححوا النذر والتدبير بدون الملك، وفيه تحكم وتخصيص بغير مخصص‏.‏
    وقال المهلب‏:‏ أجمع العلماء على أن الإكراه على البيع والهبة لا يجور معه البيع، وذكر عن أبي حنيفة إن أعتقه المشتري أو دبره جاز وكذا الموهوب له، وكأنه قاسه على البيع الفاسد لأنهم قالوا إن تصرف المشتري في البيع الفاسد نافذ ثم ذكر البخاري حديث جابر في بيع المدبر
    (ج12/ ص 403)
    لم يذكروا حكم إكراه الرجل على الزنا، وقد ذهب الجمهور أنه لا حد عليه‏.‏
    وقال مالك وطائفة‏:‏ عليه الحد لأنه لا ينتشر إلا بلذة، وسواء أكرهه سلطان أم غيره، وعن أبي حنيفة يحد إن أكرهه غير السلطان، وخالفه صاحباه، واحتج المالكية بأن الانتشار لا يحصل إلا بالطمأنينة وسكون النفس، والمكره بخلافه لأنه خائف، وأجيب بالمنع وبأن الوطء يتصور بغير انتشار‏.‏
    (ج12/ ص 405)
    وقال ابن بطال‏:‏ اختلفوا فيمن قاتل عن رجل خشي عليه أن يقتل فقتل دونه هل يجب على الآخر قصاص أو دية‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ لا يجب عليه شيء للحديث المذكور ففيه ‏"‏ ولا يسلمه ‏"‏ وفي الحديث الذي بعده ‏"‏ أنصر أخاك ‏"‏ وبذلك قال عمر‏.‏
    وقالت طائفة‏:‏ عليه القود وهو قول الكوفيين وهو يشبه قول ابن القاسم وطائفة من المالكية، وأجابوا عن الحديث بأن فيه الندب إلى النصر وليس فيه الإذن بالقتل، والمتجه قول ابن بطال أن القادر على تخليص المظلوم توجه عليه دفع الظلم بكل ما يمكنه، فإذا دافع عنه لا يقصد قتل الظالم وإنما يقصد دفعه فلو أتى الدفع على الظالم كان دمه هدرا وحينئذ لا فرق بين دفعه عن نفسه أو عن غيره‏.‏
    (ج12/ ص 405)
    وقال ابن بطال ما ملخصه‏:‏ مراد البخاري أن من هدد بقتل والده أو بقتل أخيه في الإسلام إن لم يفعل شيئا من المعاصي أو يقر على نفسه بدين ليس عليه أو يهب شيئا لغيره بغير طيب نفس منه أو يحل عقدا كالطلاق والعتاق بغير اختياره أنه يفعل جميع ما هدد به لينجو أبوه من القتل وكذا أخوه المسلم من الظلم ودليله على ذلك ما ذكره في الباب الذي بعده موصولا ومعلقا، ونبه ابن التين على وهم وقع للداودي الشارح حاصله أن الداودي وهم في إيراد كلام البخاري فجعل قوله ‏"‏ لتقتلن ‏"‏ بالتاء وجعل قول البخاري وسعه ذلك ‏"‏ لم يسعه ذلك ‏"‏ ثم تعقبه بأنه إن أراد لا يسعه في قتل أبيه أو أخيه فصواب، وأما الإقرار بالدين والهبة والبيع فلا يلزم، واختلف في الشرب والأكل، قال ابن التين‏:‏ قرأ لتقتلن بتاء الخاطبة وإنما هو بالنون‏.‏
    (ج12/ ص 406)
    ال الكرماني‏:‏ وقوله أي البخاري أن تفريقهم بين المحرم وغيره شيء قالوه لا يدل عليه كتاب ولا سنة أي ليس فيهما ما يدل على الفرق بينهما في باب الإكراه، وهو أيضا كلام استحساني، قال‏:‏ وأمثال هذه المباحث غير مناسبة لوضع هذا الكتاب إذ هو خارج عن فنه‏.‏
    قلت‏:‏ وهو عجب منه لأن كتاب البخاري كما تقدم تقريره لم يقصد به إيراد الأحاديث نقلا صرفا بل ظاهر وضعه أنه يجعل كتابا جامعا للأحكام وغيرها، وفقهه في تراجمه، فلذلك يورد فيه كثيرا الاختلاف العالي ويرجح أحيانا ويسكت أحيانا توقفا عن الجزم بالحكم ويورد كثيرا من التفاسير ويشير فيه إلى كثير من العلل وترجيح بعض الطرق عل بعض، فإذا أورد فيه شيئا من المباحث لم تستغرب، وأما رمزه إلى أن طريقة البحث ليست من فنه‏.‏
    فتلك شكاة ظاهر عنك عارها، فللبخاري أسوة بالأئمة الذين سلك طريقهم كالشافعي وأبي ثور والحميدي وأحمد وإسحاق، فهذه طريقتهم في البحث وهي محصلة للمقصود وإن لم يعرجوا على اصطلاح المتأخرين‏.
    (ج12/ ص 407)
    ‏وصله محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عنه بلفظ ‏"‏ إذا استحلف الرجل وهو مظلوم فاليمين على ما نوى وعلى ما ورى، وإذا كان ظالما فاليمين على نية من استحلفه، ووصله ابن أبي شيبة من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي بلفظ ‏"‏ إذا كان الحالف مظلوما فله أن يوري، وإن كان ظالما فليس له أن يوري‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ قول النخعي يدل على أن النية عنده نية المظلوم أبدا‏.‏
    وإلى مثله ذهب مالك والجمهور، وعند أبي حنيفة النية نية الحالف أبدا‏.
    ‏قلت‏:‏ ومذهب الشافعي أن الحلف إن كان عند الحاكم فالنية نية الحاكم وهي راجعة إلى نية صاحب الحق، وإن كان في غير الحكم فالنية نية الحالف‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ ويتصور كون المستحلف مظلوما أن يكون له حق في قبل رجل فيجحده ولا بينه له فيستحلفه فتكون النية نيته لا الحالف فلا تنفعه في ذلك التورية‏.

    انتهى كتاب " الإكراه "
    ويليه كتاب " الحيل "
    والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

  15. #215
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الثلاثاء
    الموافق 14/ شعبان / 1441 هجري
    الموافق 7/ابريل / 2020 ميلادي

    كتاب " الحيل " من فتح الباري
    ويليه كتاب " التعبير "

    كتاب الحيل "
    ( ج12/ ص 408)
    هي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها، فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهي حرام أو إلى إثبات حق أو دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة‏.‏
    ووقع الخلاف بين الأئمة في القسم الأول‏:‏ هل يصح مطلقا وينفذ ظاهرا وباطنا، أو يبطل مطلقا، أو يصح مع الإثم‏؟‏ ولمن أجازها مطلقا أو أبطلها مطلقا أدلة كثيرة، فمن الأول قوله تعالى ‏(‏وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث‏)‏ وقد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم في حق الضعيف الذي زنى، وهو من حديث أبي أمامة بن سهل في السنن، ومنه قوله تعالى ‏(‏ومن يتق الله يجعل له مخرجا‏)‏ وفي الحيل مخارج من المضايق، ومنه مشروعية الاستثناء فإن فيه تخليصا من الحنث، وكذلك الشروط كلها فإن فيها سلامة من الوقوع في الحرج، ومنه حديث أبي هريرة وأبي سعيد في قصة بلال ‏"‏ بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا ‏"‏ ومن الثاني قصة أصحاب السبت وحديث ‏"‏ حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها ‏"‏ وحديث النهي عن النجش، وحديث لعن المحلل والمحلل له، والأصل في اختلاف العلماء في ذلك اختلافهم‏:‏ هل المعتبر في صيغ العقود ألفاظها أو معانيها‏؟‏ فمن قال بالأول أجاز الحيل‏.‏
    ثم اختلفوا‏:‏ فمنهم من جعلها تنفذ ظاهرا وباطنا في جميع الصور أو في بعضها ومنهم من قال تنفذ ظاهرا لا باطنا، ومن قال بالثاني أبطلها ولم يجز منها إلا ما وافق فيه اللفظ المعنى الذي تدل عليه القرائن الحالية، وقد اشتهر القول بالحيل عن الحنفية لكون أبي يوسف صنف فيها كتابا، لكن المعروف عنه وعن كثير من أئمتهم تقييد أعمالها بقصد الحق، قال صاحب المحيط أصل الحيل قوله تعالى ‏(‏وخذ بيدك ضغثا‏)‏ الآية، وضابطها إن كانت للفرار من الحرام والتباعد من الإثم فحسن، وإن كانت لإبطال حق مسلم فلا بل هي إثم وعدوان‏.‏
    (ج12/ ص 410)
    والضابط ما تقدمت الإشارة إليه إن كان فيه خلاص مظلوم مثلا فهو مطلوب، وإن كان فيه فوات حق فهو مذموم ونص الشافعي على كراهة تعاطي الحيل في تفويت الحقوق فقال بعض أصحابه‏:‏ هي كراهة تنزيه‏.‏
    وقال كثير من محققيهم كالغزالي‏:‏ هي كراهة تحريم ويأثم بقصده، ويدل عليه قوله ‏"‏ وإنما لكل امرئ ما نوى ‏"‏ فمن نوى بعقد البيع الربا وقع في الربا ولا يخلصه من الإثم صورة البيع، ومن نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا ودخل في الوعيد على ذلك باللعن ولا يخلصه من ذلك صورة النكاح، وكل شيء قصد به تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله كان إثما‏.‏
    ولا فرق في حصول الإثم في التحيل على الفعل المحرم بين الفعل الموضوع له والفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له، واستدل به على أنه لا تصح العبادة من الكافر ولا المجنون لأنهما ليسا من أهل العبادة وعلى سقوط القود في شبه العمد لأنه لم يقصد القتل، وعلى عدم مؤاخذة المخطئ والناسي والمكره في الطلاق والعتاق ونحوهما،
    (ج12/ ص 411)
    قد نقل النسفي الحنفي في ‏"‏ الكافي ‏"‏ عن محمد بن الحسن قال‏:‏ ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق‏.‏
    (ج12/ ص 412)
    حديث أبي هريرة لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة، قال ابن بطال‏:‏ فيه رد على من قال إن من أحدث في القعدة الأخيرة أن صلاته صحيحة لأنه أتى بما يضادها‏.‏
    وتعقب بأن الحدث في أثنائها مفسد لها فهو كالجماع في الحج لو طرأ في خلاله لأفسده، وكذا في آخره‏.‏
    وقال ابن حزم في أجوبة له عن مواضع من صحيح البخاري‏:‏ مطابقة الحديث للترجمة أنه لا يخلو أن يكون المرء طاهرا متيقنا للطهارة أو محدثا متيقنا للحدث وعلى الحالين ليس لأحد أن يدخل في الحقيقة حيلة، فإن الحقيقة إثبات الشيء صدقا أو نفيه صدقا فما كان ثابتا حقيقة فنافيه بحيلة مبطل وما كان منتفيا فمثبته بالحيلة مبطل وقال ابن المنير أشار البخاري بهذه الترجمة إلى الرد على قول من قال بصحة صلاة من أحدث عمدا في أثناء الجلوس الأخير ويكون حدثه كسلامه بأن ذلك من الحيل لتصحيح الصلاة مع الحدث، وتقرير ذلك أن البخاري بني على أن التحلل من الصلاة ركن منها فلا تصح مع الحدث، والقائل بأنها تصح يرى أن التحلل من الصلاة ضدها فتصح مع الحدث، قال‏:‏ وإذا تقرر ذلك فلا بد من تحقق كون السلام ركنا داخلا في الصلاة لا ضدا لها‏.‏
    وقد استدل من قال بركنيته بمقابلته بالتحريم لحديث ‏"‏ تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ‏"‏ فإذا كان أحد الطرفين ركنا كان الطرف الآخر ركنا ويؤيده أن السلام من جنس العبادات لأنه ذكر الله تعالى ودعاء لعباده فلا يقوم الحدث الفاحش مقام الذكر الحسن، وانفصل الحنفية بأن السلام واجب لا ركن، فإن سبقه الحدث بعد التشهد توضأ وسلم وإن تعمده فالعمد قاطع وإذا وجد القطع انتهت الصلاة لكون السلام ليس ركنا وقال ابن بطال‏:‏ فيه رد على أبي حنيفة في قوله إن المحدث في صلاته يتوضأ ويبني، ووافقه ابن أبي ليلى‏.‏
    وقال مالك والشافعي‏:‏ يستأنف الصلاة واحتجا بهذا الحديث، وفي بعض ألفاظه ‏"‏ لا صلاة إلا بطهور
    (ج12/ ص 414)
    قال ابن بطال‏:‏ أجمع العلماء على أن للمرء قبل الحول التصرف في ماله بالبيع والهبة والذبح وإذا لم ينو الفرار من الصدقة وأجمعوا على أنه إذا حال الحول أنه لا يحل التحيل بأن يفرق بين مجتمع أو يجمع بين متفرق، ثم اختلفوا فقال مالك‏:‏ من فوت من ماله شيئا ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر أو نحوه لزمته الزكاة عند الحول لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏خشية الصدقة ‏"‏ وقال أبو حنيفة إن نوى بتفويته الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا تضره النية لأن ذلك لا يلزمه إلا بتمام الحول ولا يتوجه إليه معنى قوله ‏"‏ خشية الصدقة ‏"‏ إلا حينئذ، قال‏:‏ وقال المهلب قصد البخاري أن كل حيلة يتحيل بها أحد في إسقاط الزكاة فإن إثم ذلك عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع من جمع الغنم أو تفرقتها خشية الصدقة فهم منه هذا المعنى، وفهم من حديث طلحة في قوله ‏"‏ أفلح إن صدق
    وقال بعض الحنفية‏:‏ هذا الذي ذكره البخاري ينسب لأبي يوسف وقال محمد‏:‏ يكره لما فيه من القصد إلى إبطال حق الفقراء بعد وجود سببه وهو النصاب، واحتج أبو يوسف بأنه امتناع من الوجوب لا إسقاط للواجب
    ( ج12/ ص 415)
    ونقل أبو حفص الكبير راوي ‏"‏ كتاب الحيل ‏"‏ عن محمد بن الحسن أن محمدا قال‏:‏ ما احتال به المسلم حتى يتخلص به من الحرام أو يتوصل به إلى الحلال فلا بأس به، وما احتال به حتى يبطل حقا أو يحق باطلا أو ليدخل به شبهة في حق فهو مكروه والمكروه عنده إلى الحرام أقرب‏.‏
    وذكر الشافعي أنه ناظر محمدا في امرأة كرهت زوجها وامتنع من فراقها فمكنت ابن زوجها من نفسها فإنها تحرم عندهم على زوجها بناء على قولهم إن حرمة المصاهرة تثبت بالزنا، قال فقلت لمحمد‏:‏ الزنا لا يحرم الحلال لأنه ضده ولا يقاس شيء على ضده فقال‏:‏ يجمعهما الجماع، فقلت‏:‏ الفرق بينهما أن الأول حمدت به وحصنت فرجها والآخر ذمت به ووجب عليها الرجم، ويلزم أن المطلقة ثلاثا إذا زنت حلت لزوجها، ومن كان عنده أربع نسوة فزنى بخامسة أن تحرم عليه إحدى الأربع إلى آخر المناظرة‏.‏
    (ج12/ ص 416)
    وقال المهلب‏:‏ فيه حجة على أن الزكاة لا تسقط بالحيلة ولا بالموت، لأن النذر لما لم يسقط بالموت - والزكاة أوكد منه - كانت لازمة لا تسقط بالموت أولى، لأنه لما ألزم الولي بقضاء النذر عن أمه كان قضاء الزكاة التي فرضها الله أشد لزوما‏.‏
    (ج12/ ص 418)
    ‏وقال بعضهم‏:‏ المتعة والشغار جائزان والشرط باطل‏)‏ أي في كل منهما كأنه يشير إلى ما نقل عن زفر أنه أجاز النكاح المؤقت وألغى الوقت لأنه فاسد والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة، وردوا عليه بالفرق المذكور، قال ابن بطال لا يكون البضع صداقا عند أحد من العلماء وإنما قالوا ينعقد النكاح بمهر المثل إذا اجتمعت شروطه والصداق ليس بركن فيه، فهو كما لو عقد بغير صداق ثم ذكر الصداق فصار ذكر البضع كلا ذكر انتهى‏.‏
    وهذا محصل ما قاله أبو زيد وغيره من أئمة الحنفية، وتعقبه ابن السمعاني فقال‏:‏ ليس الشغار إلا النكاح الذي اختلفنا فيه وقد ثبت النهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه لأن العقد الشرعي إنما يجوز بالشرع وإذا كان منهيا لم يكن مشروعا، ومن جهة المعنى أنه يمنع تمام الإيجاب في البضع للزوج والنكاح لا ينعقد إلا بإيجاب كامل،
    (ج12/ ص 421)
    وقال ابن القيم في الإعلام‏:‏ أحدث بعض المتأخرين حيلا لم يصح القول بها عن أحد من الأئمة، ومن عرف سيرة الشافعي وفضله علم أنه لم يكن يأمر بفعل الخيل التي تبنى عليا لخداع وإن كان يجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد إذا خالف لفظه، فحاشاه أن يبيح للناس المكر والخديعة، فإن الفرق بين إجراء العقد على ظاهره فلا يعتبر القصد في العقد وبين تجويز عقد قد علم بناؤه على المكر مع العلم بأن باطنه بخلاف ظاهره، ومن نسب حل الثاني إلى الشافعي فهو خصمه عند الله فإن الذي جوزه بمنزلة الحاكم يجري الحكم على ظاهره في عدالة الشهود فيحكم بظاهر عدالتهم وإن كانوا في الباطن شهود زور، وكذا في مسألة العينة إنما جوز أن يبيع السلعة ممن يشتريها جريا منه على أن ظاهر عقود المسلمين سلامتها من المكر والخديعة، ولم يجوز قط أن المتعاقدين يتواطآن على ألف بألف ومائتين ثم يحضران سلعة تحلل الربا ولا سيما إن لم يقصد البائع بيعها ولا المشتري شراءها، ويتأكد ذلك إذا كانت ليست ملكا للبائع كأن يكون عنده سلعة لغيره فيوقع العقد ويدعي أنها ملكه ويصدقه المشتري فيوقعان العقد على الأكثر ثم يستعيدها البائع بالأقل ويترتب الأكثر في ذمة المشتري في الظاهر، ولو علم الذي جوز ذلك بذلك لبادر إلى إنكاره لأن لازم المذهب ليس بمذهب، فقد يذكر العالم الشيء ولا يستحضر لازمه حتى إذا عرفه أنكره، وأطال في ذلك جدا وهذا ملخصه والتحقيق أنه لا يلزم من الإثم في العقد بطلانه في ظاهر الحكم، فالشافعية يجوزون العقود على ظاهرها يقولون مع ذلك إن من عمل الحيل بالمكر والخديعة يأثم في الباطن، وبهذا يحصل الانفصال عن إشكاله والله أعلم‏.‏
    (ج12/ ص 430)
    وحكى ابن التين عن الداودي أن قوله في هذا الحديث أن التي سقته العسل حفصة غلط لأن صفية هي التي تظاهرت مع عائشة في هذه القصة وإنما شربه عند صفية وقيل عند زينب، كذا قال، وجزمه بأن الرواية التي فيها حفصة غلط مردود فإنها ليست غلطا بل هي قصة أخرى، والحديث الصحيح لا يرد بمثل هذا، ويكفي في الرد عليه أنه جعل قصة زينب لصفية وأشار إلى أن نسبة ذلك لزينب ضعيف، والواقع أنه صحيح وكلاهما متفق على صحته، وللداودي عجائب في شرحه ذكرت منها شيئا كثرا ومنها في هذا الحديث أنه قال في قوله ‏"‏ جرست نحله العرفط ‏"‏ جرست معناه تغير طعم العسل لشيء يأكله النحل والعرفط موضع وتفسير الجرس بالتغير والعرفط بالموضوع مخالف للجميع
    (ج12/ ص 433)
    قال ابن التين‏:‏ مراده أن مذهب أبي حنيفة أن من سوى الوالدين يرجع في هبته ولا يرجع الوالد فيما وهب لولده، وهو خلاف قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا يحل لرجل أن يعط عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يرجع في عطيته كالكلب يعود في قيئه‏"‏‏.‏
    (ج12/ ص 434)
    قال ابن بطال‏:‏ دل الحديث على أن الهدية للعامل تكون لشكر معروفه أو للتحبب إليه أو للطمع في وضعه من الحق، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه فيما يهدى له من ذلك كأحد المسلمين لا فضل له عليهم فيه وأنه لا يجوز الاستئثار به انتهى‏.‏
    والذي يظهر أن الصورة الثالثة إن وقعت لم تحل للعامل جزما وما قبلها في طرف الاحتمال،

    كتاب " التعبير "
    ( ج12/ ص 441)
    قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان إما بأسمائها أي حقيقتها وإما بكناها أي بعبارتها وإما تخليط، ونظيرها في اليقظة الخواطر
    فإنها قد تأتي على نسق في قصة وقد تأتي مسترسلة غير محصلة، هذا حاصل قول الأستاذ أبي إسحاق، قال‏:‏ وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى إنها اعتقادات، واحتج بأن الرائي قد يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا، وليس هذا إدراكا، فوجب أن يكون اعتقادا لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد، قال ابن العربي‏:‏ والأول أولى، والذي يكون من قبيل ما ذكره ابن الطيب من قبيل المثل، فالإدراك إنما يتعلق به لا بأصل الذات‏.‏
    انتهى ملخصا‏.‏
    وقال المازري، كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا‏.‏
    وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يصدقون بالسمع فاضطربت أقوالهم، فمن ينتمي إلى الطب ينسب جميع الرؤيا إلى الإخلاط فيقول من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح في الماء ونحو ذلك لمناسبة الماء طبيعة البلغم، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو، وهكذا إلى آخره، وهذا وإن جوزه العقل وجاز أن يجري الله العادة به لكنه لم يقم عليه دليل ولا اطردت به عادة، والقطع في موضع التجويز غلط‏.‏
    ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول‏:‏ إن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنقوش فما حاذى بعض النقوش منها انتقش فيها، قال‏:‏ وهذا أشد فسادا من الأول لكونه تحكما لا برهان عليه والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض والأعراض لا ينتقش فيها قال والصحيح ما عليه أهل السنة أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان فإذا خلقها فكأنه جعلها علما على أمور أخرى يخلقها في ثاني الحال، ومهما وقع منها على خلاف المعتقد فهو كما يقع لليقظان، ونظيره أن الله خلق الغيم علامة على المطر وقد يتخلف، وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسر أو بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يضر والعلم عند الله تعالى‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ سبب تخليط غير الشرعيين إعراضهم عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم، وبيان ذلك أن الرؤيا إنما هي من إدراكات النفس وقد غيب عنا علم حقيقتها أي النفس، وإذا كان كذلك فالأولى أن لا نعلم علم إدراكاتها، بل كثير مما انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنما نعلم منه أمورا جملية لا تفصيلة‏.‏
    ونقل القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ عن بعض أهل العلم أن لله تعالى ملكا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم فيمثل له صورة محسوسة، فتارة تكون أمثلة موافقة لما يقع في الوجود وتارة تكون أمثلة لمعان معقولة، وتكون في الحالين مبشرة ومنذرة، قال‏:‏ ويحتاج فيما نقله عن الملك إلى توقيف من الشرع وإلا فجائز أن يخلق الله تلك المثالات من غير ملك، قال‏:‏ وقيل إن الرؤيا إدراك أمثلة منضبطة في التخيل جعلها الله أعلاما على ما كان أو يكون‏.‏
    وقال القاضي عياض‏:‏ اختلف في النائم المستغرق فقيل لا تصح رؤياه ولا ضرب المثل له لأن هذا لا يدرك شيئا مع استغراق أجزاء قلبه لأن النوم يخرج الحي عن صفات التمييز والظن والتخيل كما يخرجه عن صفة العلم‏.‏
    وقال آخرون‏:‏ بل يصح للنائم مع استغراق أجزاء قلبه بالنوم أن يكون ظانا ومتخيلا، وأما العلم فلا لأن النوم آفة تمنع حصول الاعتقادات الصحيحة، نعم إن كان بعض أجزاء قلبه لم يحل فيه النوم فيصح وبه يضرب المثل وبه يرى ما يتخيله ولا تكليف عليه حينئذ لأن رؤياه ليست على حقيقة وجود العلم ولا صحة الميز، وإنما بقيت فيه بقية يدرك بها ضرب المثل‏.‏
    (ج12/ ص 443)
    وذكر فيه اختلافا في وقفه ورفعه، وذكر ابن القيم حديثا مرفوعا غير معزو ‏(‏إن رؤيا المؤمن كلام يكلم به العبد ربه في المنام ‏"‏ ووجد الحديث المذكور في ‏"‏ نوادر الأصول للترمذي‏)‏ من حديث عبادة بن الصامت أخرجه في الأصل الثامن والسبعين وهو من روايته عن شيخه عمر بن أبي عمر، وهو واه وفي سنده جنيد، قال ابن ميمون عن حمزة بن الزبير عن عبادة قال الحكيم‏:‏ قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب‏)‏ أي في المنام، ورؤيا الأنبياء وحي بخلاف غيرهم، فالوحي لا يدخله خلل لأنه محروس بخلاف رؤيا غير الأنبياء فإنها قد يحضرها الشيطان‏.‏
    وقال الحكيم أيضا‏:‏ وكل الله بالرؤيا ملكا اطلع على أحوال بني آدم كل من اللوح المحفوظ فينسخ منها ويضرب لكل على قصته مثلا، فإذا نام مثل له تلك الأشياء على طريق الحكمة لتكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة، والآدمي قد تسلط عليه الشيطان لشدة العداوة بينهما فهو يكيده بكل وجه ويريد إفساد أموره بكل طريق فيلبس عليه رؤياه إما بتغليطه فيها وإما بغفلته عنها، ثم جميع المرائي تنحصر على قسمين‏:‏ الصادقة وهي رؤيا الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين وقد تقع لغيرهم بندور وهي التي تقع في اليقظة على وفق ما وقعت في النوم، والأضغاث وهي لا تنذر بشيء وهي أنواع‏:‏ الأول تلاعب الشيطان ليحزن الرائي كأن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه أو رأى أنه واقع في هول ولا يجد من ينجده ونحو ذلك، الثاني أن يرى أن بعض الملائكة تأمره أن يفعل المحرمات مثلا ونحوه من المحال عقلا، الثالث أن يرى ما تتحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه فيراه كما هو في المنام وكذا رؤية ما جرت به عادته في اليقظة أو ما يغلب على مزاجه ويقع عن المستقبل غالبا وعن الحال كثيرا وعن الماضي قليلا‏.‏
    (ج12/ ص 445)
    حراء وإن كان الأفصح فيه كسر أوله وبالمد وحكي تثليث أوله مع المد والقصر وكسر الراء والصرف وعدمه فيجتمع فيه عدة لغات مع قلة أحرفه، ونظيره قباء لكن الخطابي جزم بأن فتح أوله لحن وكذا ضمه وكذا قصر وكسر الراء، وزاد التميمي ترك الصرف‏.‏
    (ج12/ ص 445)
    وقال الكرماني اختلف في تعبده صلى الله عليه وسلم بماذا كان يتعبد بناء على أنه هل كان متعبدا بشرع سابق أو لا‏؟‏ والثاني قول الجمهور ومستندهم أنه لو وجد لنقل، ولأنه لو وقع لكان فيه تنفير عنه‏.‏
    وبماذا كان يتعبد‏؟‏ قيل بما يلقى إليه من أنوار المعرفة، وقيل بما يحصل له من الرؤيا، وقيل بالتفكر، وقيل باجتناب رؤية ما كان يقع من قومه ورجح الآمدي وجماعة الأول ثم اختلفوا في تعيينه على ثمانية أقوال آدم أو نوح أو إبراهيم أو موسى أو عيسى أو أي شريعة أو كل شريعة أو الوقف‏.‏
    (ج12/ ص 448)
    حديث ابن عباس ‏"‏ كان يعالج من التنزيل شدة ‏"‏ وكذا في حديث عائشة وعمر ويعلى بن أمية وغيرهم، وهي حالة يؤخذ فيها عن حال الدنيا من غير موت، فهو مقام برزخي يحصل له عند تلقي الوحي، ولما كان البرزخ العام ينكشف فيه للميت كثير من الأحوال خص الله نبيه ببرزخ في الحياة يلقى إليه فيه وحيه المشتمل على كثير من الأسرار، وقد يقع لكثير من الصلحاء عند الغيبة بالنوم أو غيره اطلاع على كثير من الأسرار، وذلك مستمد من المقام النبوي، ويشهد له حديث ‏"‏ رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ‏"
    (ج12/ ص 452)
    قال الإسماعيلي‏:‏ موه بعض الطاعنين على المحدثين فقال كيف يجوز للنبي أن يرتاب في نبوته حتى يرجع إلى ورقة ويشكو لخديجة ما يخشاه، وحتى يوفى بذروة جبل ليلقي منها نفسه على ما جاء في رواية معمر‏؟‏ قال‏:‏ ولئن جاز أن يرتاب مع معاينة النازل عليه من ربه فكيف ينكر على من ارتاب فيما جاءه به مع عدم المعاينة‏؟‏ قال‏:‏ والجواب أن عادة الله جرت بأن الأمر الجليل إذا قضى بإيصاله إلى الخلق أن يقدمه ترشيح وتأسيس، فكان ما يراه النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤيا الصادقة ومحبة الخلوة والتعبد من ذلك، فلما فجئه الملك فجئة بغتة أمر خالف العادة والمألوف فنفر طبعه البشرى منه وهاله ذلك ولم يتمكن من التأمل في تلك الحال، لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها، فلا يتعجب أن يجزع مما لم يألفه وينفر طبعه منه حتى إذا تدرج عليه وألفه استمر عليه، فلذلك رجع إلى أهله التي ألف تأنيسها له فأعلمها بما وقع له فهونت عليه خشيته بما عرفته من أخلاقه الكريمة وطريقته الحسنة، فأرادت الاستظهار بمسيرها به إلى ورقة لمعرفتها بصدقه ومعرفته وقراءته الكتب القديمة، فلما سمع كلامه أيقن بالحق واعترف به، ثم كان من مقدمات تأسيس النبوة فترة الوحي ليتدرج فيه ويمرن عليه، فشق عليه فتوره إذ لم يكن خوطب عن الله بعد أنك رسول من الله ومبعوث إلى عباده، فأشفق أن يكون ذلك أمر بدئ به ثم لم يرد استفهامه فحزن لذلك، حتى تدرج على احتمال أعباء النبوة والصبر على ثقل ما يرد عليه فتح الله له من أمره بما فتح قال‏:‏ ومثال ما وقع له في أول ما خوطب ولم يتحقق الحال على جليتها مثل رجل سمع آخر يقول ‏"‏ الحمد لله ‏"‏ فلم يتحقق أنه يقرأ حتى إذا وصلها بما بعدها من الآيات تحقق أنه يقرأ، وكذا لو سمع قائلا يقول ‏"‏ خلت الديار ‏"‏ لم يتحقق أنه ينشد شعرا حتى يقول ‏"‏ محلها ومقامها ‏"‏ انتهى ملخصا‏.



    ..............؟
    (ج12/ ص 454)
    قال المهلب‏:‏ المراد غالب رؤيا الصالحين، وإلا فالصالح قد يري الأضغاث ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم فإن الصدق فيها نادر لغلبة تسلط الشيطان عليهم، قال‏:‏ فالناس على هذا ثلاث درجات‏:‏ الأنبياء ورؤياهم كلها صدق وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، والصالحون والأغلب على رؤياهم الصدق وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير، ومن عداهم يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث وهي ثلاثة أقسام‏:‏ مستورون فالغالب استواء الحال في حقهم، وفسقة والغالب على رؤياهم الأضغاث ويقل فيها الصدق، وكفار ويندر في رؤياهم الصدق جدا ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا ‏"‏ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
    وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ رؤيا المؤمن الصالح هي التي تنسب إلى أجزاء النبوة، ومعنى صلاحها استقامتها وانتظامها، قال‏:‏ وعندي أن رؤيا الفاسق لا تعد في أجزاء النبوة، وقيل تعد من أقصى الأجزاء، وأما رؤيا الكافر فلا تعد أصلا‏.‏
    وقال القرطبي‏:‏ المسلم الصادق الصالح هو الذي يناسب حاله حال الأنبياء فأكرم بنوع مما أكرم به الأنبياء وهو الاطلاع على الغيب، وأما الكافر والفاسق والمخلط فلا، ولو صدقت رؤياهم أحيانا فذاك كما قد يصدق الكذوب وليس كل من حديث عن غيب يكون خبره من أجزاء النبوة كالكاهن والمنجم‏.‏
    (ج12/ ص 455)
    (‏جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة‏)‏ كذا وقع في أكثر الأحاديث، ولمسلم من حديث أبي هريرة ‏"‏ جزء من خمسة وأربعين ‏"‏ أخرجه من طريق أيوب عن محمد بن سيرين عنه
    ووقع عند مسلم أيضا من حديث ابن عمر ‏"‏ جزء من سبعين جزءا ‏"‏ وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود موقوفا، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عنه مرفوعا، وله من وجه آخر عنه ‏"‏ جزء من ستة وسبعين ‏"‏ وسندها ضعيف
    وأخرج ابن عبد البر من طريق عبد العزيز بن المختار عن ثابت عن أنس مرفوعا ‏"‏ جزء من ستة وعشرين ‏"‏ والمحفوظ من هذا الوجه كالجادة،
    وأخرج أحمد وأبو يعلى والطبري في ‏"‏ تهذيب الآثار ‏"‏ من طريق الأعرج عن سليمان بن عريب بمهملة وزن عظيم من أبي هريرة كالجادة، قال سليمان‏:‏ فذكرته لابن عباس فقال ‏"‏ جزء من خمسين ‏"‏ فقلت له إني سمعت أبا هريرة فقال ابن عباس‏:‏ فإني سمعت العباس بن عبد المطلب يقول ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الرؤيا الصالحة من المؤمن جزء من خمسين جزءا من النبوة ‏"‏ وللترمذي والطبري من حديث أبي رزين العقيلي ‏"‏ جزء من أربعين ‏"‏ وأخرج الترمذي من وجه آخر كالجادة، وأخرجه الطبري من وجه آخر عن ابن عباس ‏"‏ أربعين ‏"‏ وللطبري من حديث عبادة ‏"‏ جزء من أربعة وأربعين ‏"‏ والمحفوظ عن عبادة كالجادة كما سيأتي بعد باب وأخرج الطبري وأحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ‏"‏ جزء من تسعة وأربعين ‏"‏ وذكره القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ بلفظ ‏"‏ سبعة ‏"‏ بتقديم السين، فحصلنا من هذه الروايات على عشرة أوجه أقلها جزء من ستة وعشرين وأكثرها من ستة وسبعين وبين ذلك أربعين وأربعة وأربعين وخمسة وأربعين وستة وأربعين وسبعة وأربعين وتسعة وأربعين وخمسين وسبعين، أصحها مطلقا الأول ويليه السبعين، ووقع في شرح النووي وفي رواية عبادة أربعة وعشرين‏.‏
    وفي رواية ابن عمر ستة وعشرين وهاتان الروايتان لا أعرف من أخرجهما إلا أن بعضهم نسب رواية ابن عمر هذه لتخريج الطبري
    (ج12/ ص 456)
    قال الخطابي قيل معناه إن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة لا أنها جزء باق من النبوة، وقيل المعنى إنها جزء من علم النبوة لأن النبوة وإن انقطعت فعلمها باق، وتعقب بقول مالك فيما حكاه ابن عبد البر أنه سئل‏:‏ أيعبر الرؤيا كل أحد‏؟‏ فقال أبالنبوة يلعب‏؟‏ ثم قال‏:‏ الرؤيا جزء من النبوة فلا يلعب بالنبوة‏.‏
    والجواب أنه لم يرد أنها نبوة باقية وإنما أراد أنها لما أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب لا ينبغي أن يتكلم فيها بغير علم‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ كون الرؤيا جزءا من أجزاء النبوة مما يستعظم ولو كانت جزءا من ألف جزء، فيمكن أن يقال إن لفظ النبوة مأخوذ من الإنباء وهو الإعلام لغة، فعلى هذا فالمعنى أن الرؤيا خبر صادق من الله لا كذب فيه كما أن معنى النبوة نبأ صادق من الله لا يجوز عليه الكذب فشابهت الرؤيا النبوة في صدق الخبر‏.‏
    وقال المازري‏:‏ يحتمل أن يراد بالنبوة في هذا الحديث الخبر بالغيب لا غير وإن كان يتبع ذاك إنذار أو تبشير فالخبر بالغيب أحد ثمرات النبوة، وهو غير مقصود لذاته لأنه يصح أن يبعث نبي يقرر الشرع ويبين الأحكام وإن لم يخبر في طول عمره بغيب ولا يكون ذلك قادحا في نبوته ولا مبطلا للمقصود منها، والخبر بالغيب من النبي لا يكون إلا صدقا ولا يقع إلا حقا، وأما خصوص العدد فهو مما أطلع الله عليه نبيه لأنه يعلم من حقائق النبوة ما لا يعلمه غيره، قال‏:‏ وقد سبق بهذا الجواب جماعة لكنهم لم يكشفوه ولم يحققوه‏.‏
    وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك أو نبي، وإنما القدر الذي أراده النبي أن يبين أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة في الجملة لأن فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما، وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة‏.‏
    وقال المازري‏:‏ لا يلزم العالم أن يعرف كل شيء جملة وتفصيلا، فقد جعل الله للعالم حدا يقف عنده، فمنه ما يعلم المراد به جملة وتفصيلا، ومنه ما يعلمه جملة لا تفصيلا، وهذا من هذا القبيل‏.‏
    وقد تكلم بعضهم على الرواية المشهورة وأبدى لها مناسبة فنقل ابن بطال عن أبي سعيد السفاقسي أن بعض أهل العلم ذكر أن الله أوحى إلى نبيه في المنام ستة أشهر، ثم أوحى إليه بعد ذلك في اليقظة بقية مدة حياته، ونسبتها من الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءا لأنه عاش بعد النبوة ثلاثا وعشرين سنة على الصحيح، قال ابن بطال‏:‏ هذا التأويل يفسد من وجهين‏:‏ أحدهما أنه قد اختلف في قدر المدة التي بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى موته، والثاني أنه يبقى حديث السبعين جزءا بغير معنى‏.‏
    وقد سبقه الخطابي إلى إنكار هذه المناسبة فقال‏:‏ كان بعض أهل العلم يقول في تأويل هذا العدد قولا لا يكاد يتحقق، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أقام بعد الوحي ثلاثا وعشرين سنة وكان يوحى إليه في منامه ستة أشهر وهي نصف سنة فهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، قال الخطابي‏:‏ وهذا وإن كان وجها تحتمله قسمة الحساب والعدد فأول ما يجب على من قاله أن يثبت بما ادعاه خبرا، ولم يسمع فيه أثر ولا ذكر مدعية في ذلك خبرا، فكأنه قاله على سبيل الظن والظن لا يغني من الحق شيئا، ولئن كانت هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة على ما ذهب إليه فليلحق بها سائر الأوقات التي كان يوحى إليه فيها في منامه في طول المدة كما ثبت ذلك عنه في أحاديث كثيرة جليلة القدر، والرؤيا في أحد وفي دخول مكة فإنه يتلفق من ذلك مدة أخرى وتزاد في الحساب فتبطل القسمة التي ذكرها
    قال النووي‏:‏ لم يثبت أن زمن الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم كان ستة أشهر وأما ما ألزمه به من تلفيق أوقات المرائي وضمها إلى المدة فإن المراد وحي المنام المتتابع، وأما ما وقع منه في غضون وحي اليقظة فهو يسير بالنسبة إلى وحي اليقظة فهو مغمور في جانب وحي اليقظة فلم يعتبر بمدته، وهو نظير ما اعتمدوه في نزول الوحي، وقد أطبقوا على تقسيم النزول إلى مكي ومدني قطعا فالمكي ما نزل قبل الهجرة ولو وقع بغيرها مثلا كالطائف ونخلة والمدني ما نزل بعد الهجرة ولو وقع وهو بغيرها كما في الغزوات وسفر الحج والعمرة حتى مكة‏.‏
    قلت‏:‏ وهو اعتذار مقبول، ويمكن الجواب عن اختلاف الأعداد أنه وقع بحسب الوقت الذي حدث فيه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كأن يكون لما أكمل ثلاث عشرة سنة بعد مجيء الوحي إليه حدث بأن الرؤيا جزء من ستة وعشرين إن ثبت الخبر بذلك وذلك وقت الهجرة،
    (ج12/ ص 458)
    حديث الهدى الصالح الذي ذكره الخطابي أخرجه الترمذي والطبراني من حديث عبد الله بن سرخس لكن بلفظ أربعة وعشرين جزءا وقد ذكره القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ بلفظ من ستة وعشرين انتهى‏.‏
    وقد أبدى غير الخطابي المناسبة باختلاف الروايات في العدد المذكور، وقد جمع بينها جماعة أولهم الطبري فقال‏:‏ رواية السبعين عامة في كل رؤيا صادقة من كل مسلم، ورواية الأربعين خاصة بالمؤمن الصادق الصالح، وأما ما بين ذلك فبالنسبة لأحوال المؤمنين‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ أما الاختلاف في العدد قلة وكثرة فأصح ما ورد فيها من ستة وأربعين ومن سبعين وما بين ذلك من أحاديث الشيوخ، وقد وجدنا الرؤيا تنقسم قسمين‏:‏ جلية ظاهرة كمن رأى في المنام أنه يعطى تمرا فأعطي تمرا مثله في اليقظة فهذا القسم لا إغراب في تأويلها ولا رمز في تفسيرها، ومرموزة بعيدة المرام فهذا القسم لا يقوم به حتى يعبره إلا حاذق لبعد ضرب المثل فيه، فيمكن أن هذا من السبعين والأول من الستة والأربعين لأنه إذا قلت الأجزاء كانت الرؤيا أقرب إلى الصدق وأسلم من وقوع الغلط في تأويلها، بخلاف ما إذا كثرت‏.‏
    قال‏:‏ وقد عرضت هذا الجواب على جماعة فحسنوه وزادني بعضهم فيه أن النبوة على مثل هذين الوصفين تلقاها الشارع عن جبريل، فقد أخبر أنه كان يأتيه الوحي مرة فيكلمه بكلام فيعيه بغير كلفة ومرة يلقى إليه جملا وجوامع يشتد عليه حملها حتى تأخذه الرحضاء ويتحدر منه العرق ثم يطلعه الله على بيان ما ألقى عليه منها‏.‏
    ولخصه المازري فقال‏:‏ قيل إن المنامات دلالات، والدلالات منها ما هو جلي ومنها ما هو خفي، فالأقل في العدد هو الجلي والأكثر في العدد هو الخفي وما بين ذلك‏.‏
    وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة ما حاصله‏:‏ إن النبوة جاءت بالأمور الواضحة، وفي بعضها ما يكون فيه إجمال مع كونه مبينا في موضع آخر، وكذلك المرائي منها ما هو صريح لا يحتاج إلى تأويل ومنها ما يحتاج فالذي يفهمه العارف من الحق الذي يعرج عليه منها جزء من أجزاء النبوة، وذلك الجزء يكثر مرة ويقل أخرى بحسب فهمه، فأعلاهم من يكون بينه وبين درجة النبوة أقل ما ورد من العدد، وأدناهم الأكثر من العدد، ومن عداهما ما بين ذلك‏.‏
    (ج12/ ص 459)
    والذي نحاه القاضي سبقه إليه الحليمي ‏"‏ فقرأت في مختصره للشيخ علاء الدين القونوي بخطه ما نصه‏:‏ ثم إن الأنبياء يختصون بآيات يؤيدون بها ليتميزوا بها عمن ليس مثلهم، كما تميزوا بالعلم الذي أوتوه ‏"‏ فيكون لهم الخصوص من وجهين‏:‏ فما هو في حيز التعليم هو النبوة، وما هو في حيز التأبيد هو حجة النبوة، قال‏:‏ وقد قصد الحليمي في هذا الموضع بيان كون الرؤيا الصالحة جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة فذكر وجوها من الخصائص العلمية للأنبياء تكلف في بعضها حتى أنهاها إلى العدد المذكور، فتكون الرؤيا واحدا من تلك الوجوه، فأعلاها تكليم الله بغير واسطة، ثانيها الإلهام بلا كلام بل يجد علم شيء في نفسه من غير تقدم ما يوصل إليه بحس أو استدلال، ثالثها الوحي على لسان ملك يراه فيكلمه، رابعها نفث الملك في روعه وهو الوحي الذي يخص به القلب دون السمع، قال‏:‏ وقد ينفث الملك في روع بعض أهل الصلاح لكن بنحو الإطماع في الظفر بالعدو والترغيب في الشيء والترهيب من الشيء فيزول عنه بذلك وسوسة الشيطان بحضور الملك لا بنحو نفي علم الأحكام والوعد والوعيد فإنه من خصائص النبوة، خامسها إكمال عقله فلا يعرض له فيه عارض أصلا، سادسها قوة حفظه حتى يسمع السورة الطويلة فيحفظها من مرة ولا ينسى منها حرفا، سابعها عصمته من الخطأ في اجتهاده، ثامنها ذكاء فهمه حتى يتسع لضروب من الاستنباط، تاسعها ذكاء بصره حتى يكاد يبصر الشيء من أقصى الأرض، عاشرها ذكاء سمعه حتى يسمع من أقصى الأرض ما لا يسمعه غيره، حادي عشرها ذكاء شمه كما وقع ليعقوب في قميص يوسف، ثاني عشرها تقوية جسده حتى سار في ليلة مسيرة ثلاثين ليلة، ثالث عشرها عروجه إلى السماوات، رابع عشرها مجيء الوحي له في مثل صلصلة الجرس، خامس عشرها تكليم الشاة، سادس عشرها إنطاق النبات، سابع عشرها إنطاق الجذع، ثامن عشرها إنطاق الحجر، تاسع عشرها إفهامه عواء الذئب أن يفرض له رزقا، العشرون إفهامه رغاء البعير، الحادي والعشرون أن يسمع الصوت ولا يرى المتكلم، الثانية والعشرون تمكينه من مشاهدة الجن، الثالثة والعشرون تمثيل الأشياء المغيبة له كما مثل له بيت المقدس صبيحة الإسراء،
    (ج12/ ص 460)
    وقال الغزالي في كتاب الفقر والزهد من ‏"‏ الإحياء‏"‏، لما ذكر حديث يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ‏"‏ وفي رواية بأربعين سنة قال‏:‏ وهذا يدل على تفاوت درجات الفقراء فكان الفقير الحريص على جزء من خمسة وعشرين جزءا من الفقير الزاهد لأن هذه نسبة الأربعين إلى الخمسمائة، ولا يظن أن تقدير النبي صلى الله عليه وسلم يتجزأ على لسانه كيف ما اتفق بل لا ينطق إلا بحقيقة الحق وهذا كقوله ‏"‏ الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ‏"‏ فإنه تقدير تحقيق، لكن ليس في قوة غيره أن يعرف علة تلك النسبة إلا بتخمين، لأن النبوة عبارة عما يختص به النبي ويفارق به غيره، وهو يختص بأنواع من الخواص منها أنه يعرف حقاق الأمور المتعلقة بالله وصفاته وملائكته والدار الآخرة لا كما يعلمه غيره بل عنده من كثرة المعلومات وزيادة اليقين والتحقيق ما ليس عند غيره، وله صفة تتم له بها الأفعال الخارقة للعادات كالصفة التي بها تتم لغيره الحركات الاختيارية، وله صفة يبصر بها الملائكة ويشاهد بها الملكوت كالصفة التي يفارق بها البصير الأعمى، وله صفة بها يدرك ما سيكون في الغيب ويطالع بها ما في اللوح المحفوظ كالصفة التي يفارق بها الذكي البليد، فهذه صفات كمالات ثابتة للنبي
    (ج12/ ص 461)
    وقال ابن الجوزي‏:‏ لما كانت النبوة تتضمن اطلاعا على أمور يظهر تحقيقها فيما بعد وقع تشبيه رؤيا المؤمن بها، وقيل إن جماعة من الأنبياء كانت نبوتهم وحيا في المنام فقط، وأكثرهم ابتدئ بالوحي في المنام ثم رقوا إلى الوحي في اليقظة‏!‏ فهذا بيان مناسبة تشبيه المنام الصادق بالنبوة، وأما خصوص العدد المذكور فتكلم فيه جماعة فذكر المناسبة الأولى وهي أن مدة وحي المنام إلى نبينا كانت ستة أشهر وقد تقدم ما فيه، ثم ذكر أن الأحاديث اختلفت في العدد المذكور قال‏:‏ فعلى هذا تكون رؤيا المؤمن مختلفة بأعلاها ستة وأربعون وأدناها سبعون، ثم ذكر المناسبة التي ذكرها الطبري‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ يحتمل أن يكون المراد من هذا الحديث أن المنام الصادق خصلة من خصال النبوة كما جاء في الحديث الآخر ‏"‏ التؤدة والاقتصاد وحسن السمت جزء من ستة وعشرين جزءا من النبوة ‏"‏ أي النبوة مجموع خصال مبلغ أجزائها ذلك وهذه الثلاثة جزء منها، وعلى مقتضى ذلك يكون كل جزء من الستة والعشرين ثلاثة أشياء فإذا ضربنا ثلاثة في ستة وعشرين انتهت إلى ثمانية وسبعين فيصح لنا أن عدد خصال النبوة من حيث آحادها ثمانية وسبعون قال‏:‏ ويصح أن يسمى كل اثنين منها جزءا فيكون العدد بهذا الاعتبار تسعة وثلاثين، ويصح أن يسمى كل أربعة منها جزءا فتكون تسعة عشر جزءا ونصف جزء فيكون اختلاف الروايات في العدد بحسب اختلاف اعتبار الأجزاء، ولا يلزم منه اضطراب‏.‏
    (ج12/ ص 461)
    وذكر الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة وجها آخر ملخصه أن النبوة لها وجوه من الفوائد الدنيوية والأخروية خصوصا وعموما، منها ما يعلم ومنها ما لا يعلم، ليس بين النبوة والرؤيا نسبة إلا في كونها حقا فيكون مقام النبوة بالنسبة لمقام الرؤيا بحسب تلك الأعداد راجعة إلى درجات الأنبياء، فنسبتها من أعلاهم وهو من ضم له إلى النبوة الرسالة أكثر ما ورد من العدد، ونسبتها إلى الأنبياء غير المرسلين أقل ما ورد من العدد وما بين ذلك، ومن ثم أطلق في الخبر النبوة ولم يقيدها بنبوة نبي بعينه‏.‏
    ورأيت في بعض الشروح أن معنى الحديث أن للمنام شبها بما حصل للنبي وتميز به عن غيره بجزء من ستة وأربعين جزءا، فهذه عدة مناسبات لم أر من جمعها في موضع واحد، فلله الحمد على ما ألهم وعلم ‏"‏ ولم أقف في شيء من الأخبار على كون الإلهام جزءا من أجزاء النبوة مع أنه من أنواع الوحي إلا أن ابن أبي جمرة تعرض لشيء منه كما سأذكره في ‏"‏ باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.
    (12/ ص 462)
    وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ فيه إشارة إلى أنه في مقام الرقية ليتقرر عند النفس دفعه عنها وعبر في بعض الروايات بالبصاق إشارة، إلى استقذاره، وقد ورد بثلاثة ألفاظ النفث والتفل والبصق، قال النووي في الكلام على النفث في الرقية تبعا لعياض‏:‏ اختلف في النفث والتفل فقيل هما بمعنى ولا يكونان إلا بريق‏.‏
    وقال أبو عبيد‏:‏ يشترط في التفل ريق يسير ولا يكون في النفث، وقيل عكسه، وسئلت عائشة عن النفث في الرقية فقالت‏:‏ كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه‏.‏
    وقال النووي أيضا‏:‏ أكثر الروايات في الرؤيا ‏"‏ فلينفث ‏"‏ وهو نفخ لطيف بلا ريق فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا‏.‏
    (12/ ص 463)
    قلت‏:‏ لم أر في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحدة، نعم أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية في دفع شرها وكأنه أخذه من قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‏)‏ فيحتاج مع الاستعاذة إلى صحة التوجه ولا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ الصلاة تجمع ذلك كله، لأنه إذا قام فصلى تحول عن جنبه وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء واستعاذ قبل القراءة ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه فيكفيه الله شرها بمنه وكرمه‏.‏
    (ج12/ ص 466)
    قال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ ظاهر الخبر أن هذا النوع من الرؤيا يعني ما كان فيه تهويل أو تخويف أو تحزين هو المأمور بالاستعاذة منه لأنه من تخيلات الشيطان، فإذا استعاذ الرائي منه صادقا في التجائه إلى الله وفعل ما أمر به من التفل والتحول والصلاة أذهب الله عنه ما به وما يخافه من مكروه ذلك ولم يصبه منه شيء، وقيل بل الخبر على عمومه فيما يكرهه الرائي بتناول ما يتسبب به الشيطان وما لا تسبب له فيه، وفعل الأمور المذكورة مانع من وقوع المكروه كما جاء أن الدعاء يدفع البلاء والصدقة تدفع ميتة السوء وكل ذلك بقضاء الله وقدره، ولكن الأسباب عادات لا موجودات، وأما ما يرى أحيانا مما يعجب الرائي ولكنه لا يجده في اليقظة ولا ما يدل عليه فإنه يدخل في قسم آخر وهو ما كان الخاطر به مشغولا قبل النوم ثم يحصل النوم فيراه فهذا قسم لا يضر ولا ينفع‏.‏
    (ج12/ ص 468)
    من النبوة‏)‏ قال بعض الشراح كذا هو في جميع الطرق وليس في شيء منها بلفظ ‏"‏ من الرسالة ‏"‏ بدل ‏"‏ من النبوة ‏"‏ قال وكأن السر فيه أن الرسالة تزيد على النبوة بتبليغ الأحكام للمكلفين بخلاف النبوة المجردة فإنها اطلاع على بعض المغيبات وقد يقرر بعض الأنبياء شريعة من قبله ولكن لا يأتي بحكم جديد مخالف لمن قبله، فيؤخذ من ذلك ترجيح القول بأن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأمره بحكم يخالف حكم الشرع المستقر في الظاهر أنه لا يكون مشروعا في حقه ولا في حق غيره حتى يجب عليه تبليغه

    .....................؟؟
    (ج12/ ص 471)
    واختلف في المدة التي كانت بين الرؤيا وتفسيرها، فأخرج الطبري والحاكم والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن سلمان الفارسي قال ‏"‏ كان بين رؤيا يوسف وعبارتها أربعون عاما ‏"‏ وذكر البيهقي له شاهدا عن عبد الله بن شداد وزاد ‏"‏ وإليها ينتهي أمد الرؤيا ‏"‏ وأخرج الطبري من طريق الحسن البصري قال‏:‏ كانت مدة المفارقة بين يعقوب ويوسف ثمانين سنة وفي لفظ ثلاثا وثمانين سنة، ومن طريق قتادة خمسا وثلاثين سنة، ونقل الثعلبي عن ابن مسعود تسعين سنة، وعن الكلبي اثنتين وعشرين سنة قال وقيل سبعا وسبعين، ونقل ابن إسحاق قولا أنها كانت ثمانية عشر عاما والأول أقوى والعلم عند الله‏.‏
    (ج12/ ص 477)
    قال أهل العلم بالتعبير‏:‏ إذا رأى الكافر أو الفاسق الرؤيا الصالحة فإنها تكون بشرى له بهدايته إلى الإيمان مثلا أو التوبة أو إنذار من بقائه على الكفر أو الفسق، وقد تكون لغيره ممن ينسب إليه من أهل الفضل، وقد يرى ما يدل على الرضا بما هو فيه ويكون من جملة الابتلاء والغرور والمكر ونعوذ بالله من ذلك‏.‏
    (ج12/ ص 477)
    قال السهيلي‏:‏ اسم أحدهما شرهم والآخر شرهم كل منهما بمعجمة إحداهما مفتوحة والأخرى مضمومة، قال وقال الطبري‏:‏ الذي رأى أنه يعصر خمرا اسمه نبوء، وذكر اسم الآخر فلم أحفظه‏.‏
    قلت‏:‏ سماه مخلث بمعجمة ومثلثة وعزاه لابن إسحاق في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ وبه جزم الثعلبي، وذكر أبو عبيد البكري في كتاب ‏"‏ المسالك ‏"‏ إن اسم الخباز واشان والساقي مرطس، وحكوا أن الملك اتهمهما أنهما أرادا سمه في الطعام والشراب فحبسهما إلى أن ظهرت براءة ساحة الساقي دون الخباز، ويقال إنهما لم يريا شيئا وإنما أرادا امتحان يوسف، فأخرج الطبري عن ابن مسعود قال‏:‏ لم يريا شيئا وإنما تحاكما ليجربا، وفي سنده ضعف‏.‏
    وأخرج الحاكم بسند صحيح عن ابن مسعود نحوه وزاد‏:‏ فلما ذكر لهما التأويل قالا إنما كنا نلعب، قال‏:‏ قضي الأمر الآي
    (ج12/ ص 480)
    خرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب ‏"‏ حدثني أبي قال‏:‏ قلت لابن عباس رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قال‏:‏ صفه لي، قال‏:‏ ذكرت الحسن بن علي فشبهته به، قال‏:‏ قد رأيته ‏"‏ وسنده جيد، ويعارضه ما أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أبي هريرة قال ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رآني في المنام فقد رآني، فإني أرى في كل صورة ‏"‏ وفي سنده صالح مولى التوأمة وهو ضعيف لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط، ويمكن الجمع بينهما بما قال القاضي أبو بكر ابن العربي‏:‏ رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة وإدراك الصفات إدراك المثل، قال وشذ بعض القدرية فقال‏:‏ الرؤيا لا حقيقة لها أصلا وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعيني الرأس حقيقة‏.‏
    وقال بعض المتكلمين‏:‏ هي مدركة بعينين في القلب قال وقوله ‏"‏ فسيراني ‏"‏ معناه فسيرى تفسير ما رأى لأنه حق وغيب ألقي فيه، وقيل معناه فسيراني في القيامة، ولا فائدة في هذا التخصيص
    قال القرطبي‏:‏ اختلف في معنى الحديث فقال قوم هو على ظاهره فمن رآه في النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء، قال وهذا قول يدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره، وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل وقالت طائفة‏:‏ معناه أن من رآه رآه على صورته التي كان عليها، ويلزم منه أن من رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من الأضغاث، ومن المعلوم أنه يرى في النوم على حالة تخالف حالته في الدنيا من الأحوال اللائقة به وتقع تلك الرؤيا حقا كما لو رئي ملأ دارا بجسمه مثلا فإنه يدل على امتلاء تلك الدار بالخير، ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشيء مما كان عليه أو ينسب إليه لعارض عموم قوله ‏"‏ فإن الشيطان لا يتمثل بي ‏"‏ فالأولى أن تنزه رؤياه وكذا رؤيا شيء منه أو مما ينسب إليه عن ذلك، فهو أبلغ في الحرمة وأليق بالعصمة كما عصم من الشيطان في يقظته
    (ج12/ ص 481)
    خرق العادة قد يقع للزنديق بطريق الإملاء والإغواء كما يقع للصديق بطريق الكرامة والإكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة انتهى‏.‏
    (ج12/ ص 483)
    قال القاضي عياض‏:‏ يحتمل أن يكون معنى الحديث إذا رآه على الصفة التي كان عليها في حياته لا على صفة مضادة لحاله، فإن رئي على غيرها كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقة، فإن من الرؤيا ما يخرج على وجهه ومنها ما يحتاج إلى تأويل‏.‏
    وقال النووي‏:‏ هذا الذي قاله القاضي ضعيف، بل الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كانت على صفته المعروفة أو غيرها كما ذكره المازري، وهذا الذي رده الشيخ تقدم عن محمد بن سيرين إمام المعبرين اعتباره، والذي قاله القاضي توسط حسن، ويمكن الجمع بينه وبين ما قاله المازري بأن تكون رؤياه على الحالين حقيقة لكن إذا كان على صورته كأن يرى في المنام على ظاهره لا يحتاج إلى تعبير وإذا كان على غير صورته كان النقص من جهة الرائي لتخيله الصفة على غير ما هي عليه ويحتاج ما يراه في ذلك المنام إلى التعبير، وعلى ذلك جرى علماء التعبير فقالوا‏:‏ إذا قال الجاهل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسأل عن صفته فإن وافق الصفة المروية وإلا فلا يقبل منه، وأشاروا إلى ما إذا رآه على هيئة تخالف هيئته مع أن الصورة كما هي، فقال أبو سعد أحمد بن محمد بن نصر‏:‏ من رأى نبيا على حاله وهيئته فذلك دليل على صلاح الرائي وكمال جاهه وظفره بمن عاداه، ومن رآه متغير الحال عابسا مثلا فذاك دال على سوء حال الرائي، ونحا الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة إلى ما اختاره النووي فقال بعد أن حكى الخلاف‏:‏ ومنهم من قال إن الشيطان لا يتصور على صورته أصلا فمن رآه في صورة حسنة فذاك حسن في دين الرائي وإن كان في جارحة من جوارحه شين أو نقص فذاك خلل في الرائي من جهة الدين، قال‏:‏ وهذا هو الحق، وقد جرب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه حتى يتبين للرائي هل عنده خلل أو لا
    (ج12/ ص 484)
    وز أهل التعبير رؤية الباري عز وجل في المنام مطلقا ولم يجروا فيها الخلاف في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاب بعضهم عن ذلك بأمور قابلة للتأويل في جميع وجوهها فتارة يعبر بالسلطان وتارة بالوالد وتارة بالسيد وتارة بالرئيس في أي فن كان، فلما كان الوقوف على حقيقة ذاته ممتنعا وجميع من يعبر به يجوز عليهم الصدق والكذب كانت رؤياه تحتاج إلى تعبير دائما، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رئي على صفته المتفق عليها وهو لا يجوز عليه الكذب كانت في هذه الحالة حقا محضا لا يحتاج إلى تعبير‏.‏
    (ج12/ ص 485)
    قال ابن السمعاني‏:‏ وإنكار الإلهام مردود، ويجوز أن يفعل الله بعبده ما يكرمه به، ولكن التمييز بين الحق والباطل في ذلك أن كل ما استقام على الشريعة المحمدية ولم يكن في الكتاب والسنة ما يرده فهو مقبول، وإلا فمردود يقع من حديث النفس ووسوسة الشيطان، ثم قال‏:‏ ونحن لا ننكر أن الله يكرم عبده بزيادة نور منه يزداد به نظره ويقوى به رأيه، وإنما ننكر أن يرجع إلى قلبه بقول لا يعرف أصله، ولا نزعم أنه حجة شرعية وإنما هو نور يختص الله به من يشاء من عباده فإن وافق الشرع كان الشرع هو الحجة انتهى‏.‏
    ويؤخذ من هذا ما تقدم التنبيه عليه أن النائم لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بشيء هل يجب عليه امتثاله ولا بد، أو لا بد أن يعرضه على الشرع الظاهر، فالثاني هو المعتمد كما تقدم‏.‏
    (ج12/ ص 488)
    ال القيرواني‏:‏ ولا فرق في حكم العبارة بين رؤيا الليل والنهار وكذا رؤيا النساء والرجال‏.‏
    كلام القيرواني وغيره في ذلك، وذكر أيضا أن المرأة إذا رأت ما ليست له أهلا فهو لزوجها وكذا حكم العبد لسيده كما أن رؤيا الطفل لأبويه، وذكر ابن بطال الاتفاق على أن رؤيا المؤمنة الصالحة داخلة في قوله ‏"‏ رؤيا المؤمن الصالح جزء من أجزاء النبوة‏"‏
    (ج12/ ص 492)
    (‏باب اللبن‏)‏ أي إذا رئي في المنام بماذا يعبر‏؟‏ قال المهلب يدل على الفطرة والسنة والقرآن والعلم قلت‏:‏ وقد جاء في بعض الأحاديث المرفوعة تأويله بالفطرة كما أخرجه البزار من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ اللبن في المنام فطرة ‏"‏ وعند الطبراني من حديث أبي بكرة رفعه ‏"‏ من رأى أنه شرب لبنا فهو الفطرة ‏"‏ ومضى في حديث أبي هريرة في أول الأشربة ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم لما أخذ قدح اللبن قال له جبريل‏:‏ الحمد لله الذي هداك للفطرة ‏"‏ وذكر الدينوري أن اللبن المذكور في هذا يختص بالإبل، وإنه لشاربه مال حلال وعلم وحكمة، قال‏:‏ ولبن البقر خصب السنة ومال حلال وفطرة أيضا، ولبن الشاة مال وسرور وصحة جسم، وألبان الوحش شك في الدين، وألبان السباع غير محمودة، إلا أن لبن اللبوة مال مع عداوة لذي أمر‏.‏
    قال ابن العربي‏:‏ اللبن رزق يخلقه الله طيبا بين أخباث من دم وفرث كالعلم نور يظهره الله في ظلمة الجهل، فضرب به المثل في المنام‏.‏
    قال بعض العارفين‏:‏ الذي خلص اللبن من بين فرث ودم قادر على أن يخلق المعرفة من بين شك وجهل ويحفظ العمل عن غفلة وزلل، وهو كما قال‏:‏ لكن أطردت العادة بأن العلم بالتعلم، والذي ذكره قد يقع خارقا للعادة فيكون من باب الكرامة‏.‏
    (ج12/ ص 495)
    وقال ابن العربي‏:‏ إنما أوله النبي صلى الله عليه وسلم بالدين لأن الدين يستر عورة الجهل كما يستر الثوب عورة البدن، قال‏:‏ وأما غير عمر فالذي كان يبلغ الثدي هو الذي يستر قلبه عن الكفر وإن كان يتعاطى المعاصي، والذي كان يبلغ أسفل من ذلك وفرجه باد هو الذي لم يستر رجليه عن المشي إلى المعصية، والذي يستر رجليه هو الذي احتجب بالتقوى من جميع الوجوه، والذي يجر قميصه زائدا على ذلك بالعمل الصالح الخالص‏.


    (ج12/ ص 500)
    ‏ال ابن بطال‏:‏ رؤيا المرأة في المنام يختلف على وجوه‏:‏ منها أن يتزوج الرائي حقيقة بمن يراها أو شبهها، ومنها أن يدل على حصول دنيا أو منزلة فيها أو سعة في الرزق، وهذا أصل عند المعبرين في ذلك‏.‏
    وقد تدل المرأة بما يقترن بها في الرؤيا على فتنة تحصل للرائي‏.‏
    وأما ثياب الحرير فيدل اتخاذها للنساء في المنام على النكاح وعلى العزاء وعلى الغنى وعلى زيادة في البدن، قالوا‏:‏ والملبوس كله يدل على جسم لابسه لكونه يشتمل عليه، ولا سيما واللباس في العرف دال على أقدار الناس وأحوالهم‏.
    (ج2/ ص 501)
    ‏‏باب المفاتيح في اليد‏)‏ أي إذا رئيت في المنام، قال أهل التعبير‏:‏ المفتاح مال وعز وسلطان، فمن رأى أنه فتح باب بمفتاح فإنه يظفر بحاجته بمعونة من له بأس، وإن رأى أن بيده مفاتيح فإنه يصيب سلطانا عظيما‏.‏
    قال أهل التعبير‏:‏ الحلقة والعروة المجهولة تدل لمن تمسك بها على قوته في دينه وإخلاصه فيه‏.‏
    (ج2/ ص 502)
    قال ابن بطال‏:‏ وسألت المهلب عن ترجمة عمود الفسطاط تحت وسادته ولم يذكر في الحديث عمود فسطاط ولا وسادة فقال‏:‏ الذي يقع في نفسي أنه رأى في بعض طرق الحديث السرقة شيئا أكمل مما ذكره في كتابه، وفيه أن السرقة مضروبة في الأرض على عمود كالخباء وأن ابن عمر اقتلعها من عمودها فوضعها تحت وسادته وقام هو بالسرقة فأمسكها وهي كالهودج من إستبرق فلا يريد موضعا من الجنة إلا طارت به إليه، ولم يرض بسند هذه الزيادة فلم يدخله في كتابه، وقد فعل مثل هذا في كتابه كثيرا كما يترجم بالشيء ولا يذكره ويشير إلى أنه روى في بعض طرقه، وإنما لم يذكره للين في سنده، وأعجلته المنية عن تهذيب كتابه انتهى‏
    (ج12/ ص 503)
    إشارة إلى أن من رأى عمود الفسطاط في منامه فإنه يعبر بنحو ما وقع في الخبر المذكور، وهو قول العلماء بالتعبير قالوا من رأى في منامه عمودا فإنه يعبر بالدين أو برجل يعتمد عليه فيه، وفسروا العمود بالدين والسلطان، وأما الفسطاط فقالوا من رأى أنه ضرب عليه فسطاط فإنه ينال سلطانا بقدره أو يخاصم ملكا فيظفر به‏.‏
    (ج12/ ص 506)
    ن رأى في المنام أنه مقيد ما يكون تعبيره‏؟‏ وظاهر إطلاق الخبر أنه يعبر بالثبات في الدين في جميع وجوهه، لكن أهل التعبير خصوا ذلك بما إذا لم يكن هناك قرينة أخرى كما لو كان مسافرا أو مريضا فإنه يدل على أن سفره أو مرضه يطول، وكذا لو رأى في القيد صفة زائدة كمن رأى في رجله قيدا من فضة فإنه يدل على أن يتزوج، وإن كان من ذهب فإنه لأمر يكون بسبب مال يتطلبه، وإن كان من صفر فإنه لأمر مكروه أو مال فات، وإن كان من رصاص فإنه لأمر فيه وهن، وإن كان من حبل فلأمر في الدين، وإن كان من خشب فلأمر فيه نفاق، وإن كان من حطب فلتهمة، وإن كان من خرقة أو خيط فلأمر لا يدوم‏.‏
    (ج12/ ص 507)
    والمعبرون يقولون‏:‏ أصدق الرؤيا ما كان وقت اعتدال الليل والنهار وإدراك الثمار، ونقله في ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏ عن أبي داود السجستاني ثم قال‏:‏ والمعبرون يزعمون أن أصدق الأزمان لوقوع التعبير وقت انفتاق الأزهار وإدراك الثمار وهما الوقتان اللذان يعتدل فيهما الليل والنهار، والقول الآخر إن اقتراب الزمان انتهاء مدته إذا دنا قيام الساعة‏.‏
    (ج12/ ص 508)
    وتنبغي الإشارة إلى هذه المناسبة فيما تقدم من المناسبات وحاصل ما اجتمع من كلامهم في معنى قوله ‏"‏ إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ‏"‏ إذا كان المراد آخر الزمان ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها أن العلم بأمور الديانة لما يذهب غالبه بذهاب غالب أهله وتعذرت النبوة في هذه الأمة عوضوا بالمرأى الصادقة ليجدد لهم ما قد درس من العلم، والثاني أن المؤمنين لما يقل عددهم ويغلب الكفر والجهل والفسق على الموجودين يؤنس المؤمن ويعان بالرؤيا الصادقة إكراما له وتسلية وعلى هذين القولين لا يختص ذلك بزمان معين بل كلما قرب فراغ الدنيا وأخذ أمر الدين في الاضمحلال تكون رؤيا المؤمن الصادق أصدق، والثالث أن ذلك خاص بزمان عيسى بن مريم، وأولها أولاها، والله أعلم‏.‏
    (ج12/ ص 508)
    أخرجه الترمذي والنسائي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الرؤيا ثلاث، فرؤيا حق ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان ‏"‏ وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي من طريق عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن محمد بن سيرين مرفوعا أيضا بلفظ ‏"‏ الرؤيا ثلاث، فالرؤيا الصالحة بشرى من الله ‏"‏ والباقي نحوه‏.‏
    قع في حديث عوف بن مالك عند ابن ماجه بسند حسن رفعه ‏"‏ الرؤيا ثلاث منها أهاويل من الشيطان ليحزن ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة‏"‏‏.‏
    وبقي نوع خامس وهو تلاعب الشيطان، وقد ثبت عند مسلم من حديث جابر قال ‏"‏ جاء أعرابي فقال‏:‏ يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي قطع فأنا أتبعه ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ فقد خرج فاشتددت في أثره، فقال‏:‏ لا تخبر بتلاعب الشيطان بك في المنام ‏"‏ وفي رواية له ‏"‏ إذا تلاعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يخبر به الناس‏"‏‏.‏
    نوع سادس وهو رؤيا ما يعتاده الرائي في اليقظة، كمن كانت عادته أن يأكل في وقت فنام فيه فرأى أنه يأكل أو بات طافحا من أكل أو شرب فرأى أنه يتقيأ، وبينه وبين حديث النفس عموم وخصوص‏.‏
    وسابع وهو الأضغاث‏.‏
    (ج12/ ص 511)
    قال المهلب‏:‏ الغل يعبر بالمكروه لأن الله أخبر في كتابه أنه من صفات أهل النار بقوله تعالى ‏(‏إذ الأغلال في أعناقهم‏)‏ الآية، وقد يدل على الكفر، وقد يعبر بامرأة تؤذي‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ إنما أحبوا القيد لذكر النبي صلى الله عليه وسلم له في قسم المحمود فقال ‏"‏ قيد الإيمان الفتك‏"‏‏.‏
    وأما الغل فقد كره شرعا في المفهوم كقوله ‏(‏خذوه فغلوه - وإذ الأغلال في أعناقهم - ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك - وغلت أيديهم‏)‏ وإذا جعل القيد ثباتا في الدين لأن المقيد لا يستطيع المشي فضرب مثلا للإيمان الذي يمنع عن المشي إلى الباطل‏.‏
    وقال النووي‏:‏ قال العلماء إنما أحب القيد لأن محله الرجل وهو كف عن المعاصي والشر والباطل، وأبغض الغل لأن محله العنق وهو صفة أهل النار‏.‏
    وأما أهل التعبير فقالوا إن القيد ثبات في الأمر الذي يراه الرائي بحسب من يرى ذلك له‏.‏
    وقالوا أيضا‏:‏ إن رأى أن يديه مغلولتان فهو يخيل، وإن رأى أنه قيد وغل فإنه يقع في سجن أو شدة‏.‏
    قلت‏:‏ وقد يكون الغل في بعض المرائي محمودا كما وقع لأبي بكر الصديق فأخرج أبو بكر بن أبي شيبة بسند صحيح عن مسروق قال ‏"‏ مر صهيب بأبي بكر فأعرض عنه، فسأله فقال‏:‏ رأيت يدك مغلولة على باب أبي الحشر رجل من الأنصار، فقال أبو بكر‏:‏ جمع لي ديني إلى يوم الحشر‏.‏
    وقال الكرماني‏:‏ اختلف في قوله وكان يقال هل هو مرفوع أو لا فقال بعضهم من قوله ‏"‏ وكان يقال ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ في الدين ‏"‏ مرفوع كله‏.

    (ج12/ ص 513)
    قال المهلب‏:‏ العين الجارية تحتمل وجوها، فإن كان ماؤها صافيا عبرت بالعمل الصالح وإلا فلا‏.‏
    وقال غيره‏:‏ العين الجارية عمل جار من صدقة أو معروف لحي أو ميت قد أحدثه أو أجراه‏.‏
    وقال آخرون‏:‏ عين الماء نعمة وبركة وخير وبلوغ أمنية إن كان صاحبها مستورا، فإن كان غير عفيف أصابته مصيبة يبكي لها أهل داره‏.‏
    ( ج12/ ص 515)
    قلت‏:‏ ما العبقري‏؟‏ قال‏:‏ الأجير‏.‏
    وتفسير العبقري بالأجير غريب قال أبو عمرو الشيباني‏:‏ عبقري القوم سيدهم وقويهم وكبيرهم‏.‏
    وقال الفارابي‏:‏ العبقري من الرجال الذي ليس فوقه شيء‏.‏
    وذكر الأزهري أن عبقر موضع بالبادية، وقيل بلد كان ينسج فيه البسط الموشية فاستعمل في كل شيء جيد وفي كل شيء فائق‏.‏
    ونقل أبو عبيد أنها من أرض الجن، وصار مثلا لكل ما ينسب إلى شيء نفيس‏.‏
    وقال الفراء‏:‏ العبقري السيد وكل فاخر من حيوان وجوهر، وبساط وضعت عليه وأطلقوه في كل شيء عظيم في نفسه‏.‏
    وقد وقع في رواية عقيل المشار إليه ‏"‏ ينزع نزع ابن الخطاب ‏"‏ وفي رواية أبي يونس ‏"‏ فلم أر نزع رجل قط أقوى منه‏"‏‏.‏
    وقال النووي قالوا هذا المنام مثال لما جرى للخليفتين من ظهور آثارهما الصالحة وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صاحب الأمر فقام به أكمل قيام وقرر قواعد الدين، ثم خلفه أبو بكر فقاتل أهل الردة وقطع دابرهم، ثم خلفه عمر فاتسع الإسلام في زمنه، فشبه أمر المسلمين بقليب فيه الماء الذي فيه حياتهم وصلاحهم وشبه بالمستقي لهم منها وسقيه هو قيامه بمصالحهم‏.‏
    ي حديث سمرة زيادة إشارة إلى ما وقع لعلي من الفتن والاختلاف عليه، فإن الناس أجمعوا على خلافته ثم لم يلبث أهل الجمل أن خرجوا عليه وامتنع معاوية في أهل الشام ثم حاربه بصفين ثم غلب بعد قليل على مصر، وخرجت الحرورية على علي فلم يحصل له في أيام خلافته راحة، فضرب المنام المذكور مثلا لأحوالهم رضوان الله عليهم أجمعين‏.‏
    (ج12/ ص 518)
    ‏(‏باب الاستراحة في المنام‏)‏ قال أهل التعبير‏:‏ إن كان المستريح مستلقيا على قفاه فإنه يقوى أمره وتكون الدنيا تحت يده لأن الأرض أقوى ما يستند إليه، بخلاف ما إذا كان منبطحا فإنه لا يدري ما وراءه‏.‏
    (ج12/ ص 519)
    (‏باب القصر في المنام‏)‏ قال أهل التعبير‏:‏ القصر في المنام عمل صالح لأهل الدين ولغيرهم حبس وضيق، وقد يفسر دخول القصر بالتزويج‏.‏
    (ج12/ ص 520)
    قال أهل التعبير‏:‏ رؤية الوضوء في المنام وسيلة إلى سلطان أو عمل، فإن أتمه في النوم حصل مراده في اليقظة، وإن تعذر لعجز الماء مثلا أو توضأ بما لا تجوز الصلاة به فلا، والوضوء للخائف أمان ويدل على حصول الثواب وتكفير الخطايا، وذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور في الباب الذي قبله،
    (ج12/ ص 521)
    ‏ قال أهل التعبير‏:‏ الطواف يدل على الحج وعلى التزويج وعلى حصول أمر مطلوب من الإمام وعلى بر الوالدين وعلى خدمة عالم والدخول في أمر الإمام فإن كان الرائي رقيقا دل على نصحه لسيده‏.‏
    (ج12/ ص 522)
    قال أهل التعبير‏:‏ من رأى أنه خائف من شيء أمن منه، ومن رأى أنه قد أمن من شيء فإنه يخاف منه‏.‏
    (ج12/ ص 524)
    (‏باب القدح في النوم‏)‏ قال أهل التعبير‏:‏ القدح في النوم امرأة أو مال من جهة امرأة، وقدح الزجاج يدل على ظهور الأشياء الخفية، وقدح الذهب والفضة ثناء حسن‏.‏
    (ج12/ ص 525)
    (‏باب إذا طار الشيء في المنام‏)‏ أي الذي من شأنه أن يطير، قال أهل التعبير من رأى أنه يطير فإن كان إلى جهة السماء بغير تعريج ما له ضرر، فإن غاب في السماء ولم يرجع مات، وإن رجع أفاق من مرضه، وإن كان يطير عرضا سافر ونال رفعة بقدر طيرانه، فإن كان بجناح فهو مال أو سلطان يسافر في كنفه، وإن كان بغير جناح دل على التغرير فيما يدخل فيه‏.‏
    وقالوا إن الطيران للشرار دليل رديء‏.‏
    ( ج12/ ص 526)
    قال المهلب‏:‏ هذه الرؤيا ليست على وجهها، وإنما هي من ضرب المثل، وإنما أول النبي صلى الله عليه وسلم السوارين بالكذابين لأن الكذب وضع الشيء في غير موضعه، فلما رأى في ذراعيه سوارين من ذهب وليسا من لبسه لأنهما من حلية النساء عرف أنه سيظهر من يدعي ما ليس له، وأيضا ففي كونهما من ذهب والذهب منهي عن لبسه دليل على الكذب، وأيضا فالذهب مشتق من الذهاب فعلم أنه شيء يذهب عنه، وتأكد ذلك بالإذن له في نفخهما فطارا فعرف أنه لا يثبت لهما أمر وأن كلامه بالوحي الذي جاء به يزيلهما عن موضعهما والنفخ يدل على الكلام‏.‏
    (ج12/ ص 527)
    وفي رواية لأحمد ‏"‏ حدثنا جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر، فأولت الدرع الحصينة المدينة وأن البقر بقر والله خير
    قول السهيلي إن البقر تعبر برجال متسلحين يتناطحون في القتال
    وقد ذكر أهل التعبير للبقر في النوم وجوها أخرى‏:‏ منها أن البقرة الواحدة تفسر بالزوجة والمرأة والخادم والأرض، والثور يفسر بالثائر لكونه يثير الأرض فيتحرك عاليها وسافلها فكذلك من يثور في ناحية لطلب ملك أو غيره، ومنها أن البقر إذا وصلت إلى بلد فإن كانت بحرية فسرت بالسفن وإلا فبعسكر أو بأهل بادية أو يبس يقع في تلك البلد‏.‏
    (ج12/ ص 529)
    ‏باب النفخ في المنام‏)‏ قال أهل التعبير‏:‏ النفخ يعبر بالكلام وقال ابن بطال‏:‏ يعبر بإزالة الشيء المنفوخ بغير تكلف شديد لسهولة النفخ على النافخ، ويدل على الكلام، وقد أهلك الله الكذابين المذكورين بكلامه صلى الله عليه وسلم وأمره بقتلهما‏.‏
    (ج12/ 530)
    ‏قال الخطابي‏:‏ المراد بخزائن الأرض ما فتح على الأمة من الغنائم من ذخائر كسرى وقيصر وغيرهما، ويحتمل معادن الأرض التي فيها الذهب والفضة، قال غيره‏:‏ بل يحمل على أعم من ذلك‏.‏
    (ج12/ ص 532)
    ال القاضي عياض‏:‏ لما كان رؤيا السوارين في اليدين جميعا من الجهتين وكان النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ بينهما فتأول السوارين عليهما لوضعهما في غير موضعهما لأنه ليس من حلية الرجال وكذلك الكذاب يضع الخبر في غير موضعه، وفي كونهما من ذهب إشعار بذهاب أمرهما‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ السوار من حلي الملوك الكفار كما قال الله تعالى ‏(‏فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب‏)‏ واليد لها معان منها القوة والسلطان والقهر، قال‏:‏ ويحتمل أن يكون ضرب المثل بالسوار كناية عن الأسوار وهو من أسامي ملوك الفرس، قال‏:‏ وكثيرا ما يضرب المثل بحذف بعض الحروف‏.‏
    قال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ ما ملخصه‏:‏ مناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا أن أهل صنعاء وأهل اليمامة كانوا أسلموا فكانوا كالساعدين للإسلام فلما ظهر فيهما الكذابان وبهرجا على أهلهما بزخرف أقوالهما ودعواهما الباطلة انخدع أكثرهم بذلك فكان اليدان بمنزلة البلدين والسواران بمنزلة الكذابين، وكونهما من ذهب إشارة إلى ما زخرفاه والزخرف من أسماء الذهب‏.‏
    (ج12/ ص 532)
    قال المهلب‏:‏ هذه الرؤيا من قسم الرؤيا المعبرة وهي مما ضرب به المثل، ووجه التمثيل أنه شق من اسم السوداء السوء والداء فتأول خروجها بما جمع اسمها، وتأول من ثوران شعر رأسها أن الذي يسوء ويثير الشر يخرج من المدينة، وقيل لأن ثوران الشعر من اقشعرار الجسد ومعنى الاقشعرار الاستيحاش فلذلك يخرج ما تستوحش النفوس منه كالحمى‏.‏
    (ج12/ ص 533)
    لأهل التعبير في السيف تصرف على أوجه منها أن من نال سيفا فإنه ينال سلطانا إما ولاية وإما وديعة وإما زوجة وإما ولدا فإن سله من غمده فانثلم سلمت زوجته وأصيب ولده، فإن انكسر الغمد وسلم السيف فبالعكس، وإن سلما أو عطبا فكذلك، وقائم السيف يتعلق بالأب والعصبات ونصله بالأم وذوي الرحم، وإن جرد السيف وأراد قتل شخص فهو لسانه يجرده في خصومه، وربما عبر السيف بسلطان جائر انتهى ملخصا‏.‏
    وقال بعضهم‏:‏ من رأى أنه أغمد السيف فإنه يتزوج، أو ضرب شخصا بسيف فإنه يبسط لسانه فيه، ومن رأى أنه يقاتل آخر وسيفه أطول من سيفه فإنه يغلبه، ومن رأى سيفا عظيما فهي فتنة، ومن قلد سيفا قلد أمرا، فإن كان قصيرا لم يدم أمره‏.‏
    وإن رأى أنه يجر حمائله فإنه يعجز عنه‏.‏
    (ج12/ ص 535)
    ما الكذب على المنام فقال الطبري‏:‏ إنما اشتد فيه الوعيد من أن الكذب في اليقظة قد يكون أشد مفسدة منه إذ قد تكون شهادة في قتل أو حد أو أخذ مال، لأن الكذب في المنام كذب على الله أنه أراه ما لم يره، والكذب على الله أشد من الكذب على المخلوقين لقوله تعالى ‏(‏ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم‏)‏ الآية، وإنما كان الكذب في المنام كذبا على الله لحديث ‏"‏ الرؤيا جزء من النبوة ‏"‏ وما كان من أجزاء النبوة فهو من قبل الله تعالى انتهى ملخصا‏.‏
    (ج12/ ص 540)
    قال أبو عبيد وغيره‏:‏ معنى قوله ‏"‏ الرؤيا لأول عابر ‏"‏ إذا كان العابر الأول عالما فعبر فأصاب وجه التعبير، وإلا فهي لمن أصاب بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب في تعبير المنام، ليتوصل بذلك إلى مراد الله فيما ضربه من المثل، فإذا أصاب فلا ينبغي أن يسأل غيره، وإن لم يصب فليسأل الثاني، وعليه أن يخبر بما عنده ويبين ما جهل الأول‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا التأويل لا يساعده حديث أبي رزين ‏"‏ إن الرؤيا إذا عبرت وقعت ‏"‏ إلا أن يدعى تخصيص ‏"‏ عبرت ‏"‏ بأن عابرها يكون عالما مصيبا، فيعكر عليه قوله في الرؤيا المكروهة ‏"‏ ولا يحدث بها أحدا ‏"‏ فقد تقدم في حكمة هذا النهي أنه ربما فسرها تفسيرا مكروها على ظاهرها مع احتمال أن تكون محبوبة في الباطن فتقع على ما فسر
    (ج12/ ص 546)
    قال‏:‏ ويحتمل أن يكون السمن والعسل العلم والعمل، ويحتمل أن يكونا الفهم والحفظ، وأيد ابن الجوزي ما نسب للطحاوي بما أخرجه أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال ‏"‏ رأيت فيما يرى النائم كأن في إحدى إصبعي سمنا وفي الأخرى عسلا فألعقهما، فلما أصبحت ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ تقرأ الكتابين التوراة والفرقان فكان يقرؤهما‏"‏‏.‏
    قلت‏:‏ ففسر العسل بشيء والسمن بشيء، قال النووي‏:‏ قيل إنما لم يبر النبي صلى الله عليه وسلم قسم أبي بكر لأن إبرار القسم مخصوص بما إذا لم يكن هناك مفسدة ولا مشقة ظاهرة فإن وجد ذلك فلا إبرار، ولعل المفسدة في ذلك ما علمه من سبب انقطاع السبب بعثمان وهو قتله وتلك الحروب والفتن المترتبة عليه فكره ذكرها خوف شيوعها، ويحتمل أن يكون سبب ذلك أنه لو ذكر له السبب للزم منه أن يوبخه بين الناس لمبادرته، ويحتمل أن يكون خطؤه في ترك تعيين الرجال المذكورين، فلو أبر قسمه للزم أن يعينهم ولم يؤمر بذلك إذ لو عينهم لكان نصا على خلافتهم، وقد سبقت مشيئة الله أن الخلافة تكون على هذا الوجه فترك تعيينهم خشية أن يقع في ذلك مفسدة‏.‏
    (ج12/ ص 547)
    قال ابن العربي‏:‏ وأخبرني أبي أنه قيل وجه الخطأ أن الصواب في التعبير أن الرسول هو الظلة والسمن والعسل القرآن والسنة، وقيل‏:‏ وجه الخطأ أنه جعل السبب الحق عثمان لم ينقطع به الحق، وإنما الحق أن الولاية كانت بالنبوة ثم صارت بالخلافة فاتصلت لأبي بكر ولعمر ثم انقطعت بعثمان لما كان ظن به ثم صحت براءته فأعلاه الله ولحق بأصحابه‏.‏
    قال‏:‏ وسألت بعض الشيوخ العارفين عن تعيين الوجه الذي أخطأ فيه أبو بكر فقال‏:‏ من الذي يعرفه ‏"‏ ولئن كان تقدم أبي بكر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم للتعبير خطأ فالتقدم بين يدي أبي بكر لتعيين خطئه أعظم وأعظم، فالذي يقتضيه الدين والحزم الكف عن ذلك‏.‏
    وقال الكرماني‏:‏ إنما أقدموا علي تبين ذلك مع كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يبينه لأنه كان يلزم من تبيينه مفسدة إذ ذاك فزالت بعده، مع أن جميع ما ذكروه إنما هو بطريق الاحتمال ولا جزم في شيء من ذلك‏.

    تم خنم وتلخيص المجلد الثاني عشر من " فتح الباري "
    الموافق الثلاثاء 14/ شعبان / 1441 هجري

    والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    ويليه المجلد الثالث عشر " كتاب " الفتن "

  16. #216
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الخميس
    " الموافق : 16/ شعبان / 1441 هجري
    الموافق : 9/ ابريل / 2020 ميلادي

    بداية " المجلد الثالث عشر " كتاب " الفتن "
    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات "

    كتاب الفتن
    (ج13/ ص 5)
    والفتن جمع فتنة، قال الراغب‏:‏ أصل الفتن إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته، ويستعمل في إدخال الإنسان النار ويطلق على العذاب كقوله ‏(‏ذوقوا فتنتكم‏)‏ ، وعلى ما يحصل عند العذاب كقوله تعالى ‏(‏ألا في الفتنة سقطوا‏)‏ ، وعلى الاختبار كقوله ‏(‏وفتناك فتونا‏)‏ ، وفيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وفي الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا، قال تعالى ‏(‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة‏)‏ ومنه قوله ‏(‏وإن كادوا ليفتنونك‏)‏ أي يوقعونك في بلية وشدة في صرفك عن العمل بما أوحي إليك‏.‏
    وقال أيضا الفتنة تكون من الأفعال الصادرة من الله ومن العبد كالبلية والمصيبة والقتل والعذاب والمعصية وغيرها من المكروهات‏:‏ فإن كانت من الله فهي على وجه الحكمة، وإن كانت من الإنسان بغير أمر الله فهي مذمومة، فقد ذم الله الإنسان بإيقاع الفتنة كقوله ‏(‏والفتنة أشد من القتل‏)‏ وقوله ‏(‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات‏)‏ وقوله ‏(‏ما أنتم عليه بفاتنين‏)‏ وقوله ‏(‏بأيكم المفتون‏)‏ كقوله ‏(‏واحذرهم أن يفتنوك‏)‏ ‏.‏
    وقال غيره‏:‏ أصل الفتنة الاختبار، ثم استعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه، ثم أطلقت على كل مكروه أو آيل إليه كالكفر والإثم والتحريق والفضيحة والفجور وغير ذلك‏.‏
    (ج13/ ص 6)
    وعند الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال ‏"‏ أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب ‏"‏ ولهذا الأثر شاهد من حديث عدي بن عميرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة ‏"‏ أخرجه أحمد بسند حسن وهو عند أبي داود من حديث العرس بن عميرة وهو أخو عد
    (ج12/ ص 10)
    قال ابن بطال‏:‏ في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها
    (ج13/ ص 12)
    نقل ابن التين عن الداودي قال‏:‏ الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر‏.‏
    وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه‏.‏
    (ج13/ ص 13)
    استحباب هجران البلدة التي يقع فيها إظهار المعصية فإنها سبب وقوع الفتن التي ينشأ عنها عموم الهلاك قال ابن وهب عن مالك‏:‏ تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا، وقد صنع ذلك جماعة من السلف‏.‏
    (ج13/ ص 20)
    قال ابن بطال‏:‏ ليس في هذا الحديث ما يحتاج إلى تفسير غير قوله يتقارب الزمان ومعناه والله أعلم تقارب أحوال أهله في قلة الدين حتى لا يكون فيهم من يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر لغلبة الفسق وظهور أهله، وقد جاء في الحديث لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا فإذا تساووا هلكوا يعني لا يزالون بخير ما كان فيهم أهل فضل وصلاح وخوف من الله يلجأ إليهم عند الشدائد ويستشفى بآرائهم ويتبرك بدعائهم ويؤخذ بتقويمهم وآثارهم‏.‏
    وقال الطحاوي‏:‏ قد يكون معناه في ترك طلب العلم خاصة والرضا بالجهل، وذلك لأن الناس لا يتساوون في العلم لأن درج العلم تتفاوت قال تعالى ‏(‏وفوق كل ذي علم عليم‏)‏ وإنما يتساوون إذا كانوا جهالا، وكأنه يريد غلبة الجهل وكثرته بحيث يفقد العلم بفقد العلماء قال ابن بطال‏:‏ وجميع ما تضمنه هذا الحديث من الأشراط قد رأيناها عيانا فقد نقص العلم وظهر الجهل وألقي الشح في القلوب وعمت الفتن وكثر القتل قلت‏:‏ الذي يظهر أن الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله، والمراد من الحديث استحكام ذلك حتى لا يبقى مما يقابله إلا النادر، وإليه الإشارة بالتعبير بقبض العلم فلا يبقى إلا الجهل الصرف، ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم لأنهم يكونون حينئذ مغمورين في أولئك، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن ماجه بسند قوي عن حذيفة قال ‏"‏ يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ويسري على الكتاب في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية
    م نقل ابن بطال عن الخطابي في معنى تقارب الزمان المذكور في الحديث الآخر يعني الذي أخرجه الترمذي من حديث أنس وأحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كاحتراق السعفة ‏"‏ قال الخطابي هو من استلذاذ العيش، يريد والله أعلم أنه يقع عند خروج المهدي ووقوع الأمنة في الأرض وغلبة العدل فيها فيستلذ العيش عند ذلك وتستقصر مدته، وما زال الناس يستقصرون مدة أيام الرخاء وإن طالت ويستطيلون مدة المكروه وإن قصرت، وتعقبه الكرماني بأنه لا يناسب أخواته من ظهور الفتن وكثرة الهرج وغيرهما‏.‏
    (ج13/ ص 21)
    قال النووي تبعا لعياض وغيره‏:‏ المراد بقصره عدم البركة فيه وأن اليوم مثلا يصير الانتفاع به بقدر الانتفاع بالساعة الواحدة، قالوا وهذا أظهر وأكثر فائدة وأوفق لبقية الأحاديث، وقد قيل في تفسير قوله ‏"‏ يتقارب الزمان ‏"‏ قصر الأعمار بالنسبة إلى كل طبقة فالطبقة الأخيرة أقصر أعمارا من الطبقة التي قبلها، وقيل تقارب أحوالهم في الشر والفساد والجهل، وهذا اختيار الطحاوي، واحتج بأن الناس لا يتساوون في العلم والفهم، فالذي جنح إليه لا يناسب ما ذكر معه، إلا أن نقول إن الواو لا ترتب فيكون ظهور الفتن أولا ينشأ عنها الهرج ‏"‏ ثم يخرج المهدي فيحصل الأمن‏"‏‏.‏
    قال ابن أبي جمرة‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بتقارب الزمان قصره على ما وقع في حديث ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر ‏"‏ وعلى هذا فالقصر يحتمل أن يكون حسيا ويحتمل أن يكون معنويا، أما الحسي فلم يظهر بعد ولعله من الأمور التي تكون قرب قيام الساعة، وأما المعنوي فله مدة منذ ظهر يعرف ذلك أهل العلم الديني ومن له فطنة من أهل السبب الدنيوي فإنهم يجدون أنفسهم لا يقدر أحدهم أن يبلغ من العمل قدر ما كانوا يعملونه قبل ذلك ويشكون ذلك ولا يدرون العلة فيه، ولعل ذلك بسبب ما وقع من ضعف الإيمان لظهور الأمور المخالفة للشرع من عدة أوجه، وأشد ذلك الأقوات ففيها من الحرام المحض ومن الشبه ما لا يخفى حتى إن كثيرا من الناس لا يتوقف في شيء ومهما قدر على تحصيل شيء هجم عليه ولا يبالي، والواقع أن البركة في الزمان وفي الرزق وفي النبت إنما يكون من طريق قوة الإيمان واتباع الأمر واجتناب النهي، والشاهد لذلك قوله تعالى ‏(‏ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض‏)‏ انتهى ملخصا‏.‏
    وقال البيضاوي‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بتقارب الزمان تسارع الدول إلى الانقضاء والقرون إلى الانقراض فيتقارب زمانهم وتتدانى أيامهم، وأما قول ابن بطال إن بقية الحديث لا تحتاج إلى تفسير فليس كما قال، فقد اختلف أيضا في المراد بقوله ‏"‏ ينقص العلم ‏"‏ فقيل المراد نقص علم كل عالم بأن يطرأ عليه النسيان مثلا، وقيل نقص العلم بموت أهله فكلما مات عالم في بلد ولم يخلفه غيره نقص العلم من تلك البلد، وأما نقص العمل فيحتمل أن يكون بالنسبة لكل فرد فرد، فإن العامل إذا دهمته الخطوب ألهته عن أوراده وعبادته، ويحتمل أن يراد به ظهور الخيانة في الأمانات والصناعات‏.‏
    قال ابن أبي جمرة‏:‏ نقص العمل الحسي ينشأ عن نقص الدين ضرورة، وأما المعنوي فبحسب ما يدخل من الخلل بسبب سوء المطعم وقلة المساعد على العمل، والنفس ميالة إلى الراحة وتحن إلى جنسها، ولكثرة شياطين الإنس الذين هم أضر من شياطين الجن‏.‏
    (ج13/ ص 25)
    ذكر صاحب المحكم للهرج معاني أخرى ومجموعها تسعة‏:‏ شدة القتل وكثرة القتل والاختلاط والفتنة في آخر الزمان وكثرة النكاح وكثرة الكذب وكثرة النوم وما يرى في النوم غير منضبط وعدم الإتقان للشيء‏.‏
    وقال الجوهري‏:‏ أصل الهرج الكثرة في الشيء يعني حتى لا يتميز‏.‏
    (ج13/ ص 27)
    قال ابن بطال‏:‏ هذا الخبر من أعلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بفساد الأحوال، وذلك من الغيب الذي لا يعلم بالرأي وإنما يعلم بالوحي انتهى‏.‏
    وقد استشكل هذا الإطلاق مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز وهو بعد زمن الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخبر الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز، بل لو قيل أن الشر اضمحل في زمانه لما كان بعيدا فضلا عن أن يكون شرا من الزمن الذي قبله وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، فسئل عن وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج فقال‏:‏ لا بد للناس من تنفيس‏.‏
    وأجاب بعضهم أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏خير القرون قرني ‏"‏ وهو في الصحيحين، وقوله ‏"‏أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏
    ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع، فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال ‏"‏ سمعت عبد الله بن مسعود يقول‏:‏ لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالا يفيده ولكن لا يأتي عليكم يوم وإلا وهو أقل علما من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر فعند ذلك يهلكون ‏"‏ ومن طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود إلى قوله ‏"‏ شر منه ‏"‏ قال ‏"‏ فأصابتنا سنة خصب فقال ليس ذلك أعني إنما أعني ذهاب العلماء ‏"‏ ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال ‏"‏ لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله أما إني لا أعني أميرا خيرا من أمير ولا عاما خيرا من عام ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا، ويجيء قوم يفتون برأيهم ‏"‏ وفي لفظ عنه من هذا الوجه ‏"‏ وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه ‏"‏ وأخرج الدارمي الأول من طريق الشعبي بلفظ ‏"‏ لست أعني عاما أخصب من عام ‏"‏ والباقي مثله وزاد ‏"‏ وخياركم ‏"‏ قبل قوله ‏"‏ وفقهاؤكم ‏"‏ واستشكلوا أيضا زمان عيسى بن مريم بعد زمان الدجال، وأجاب الكرماني بأن المراد الزمان الذي يكون بعد عيسى‏؟‏ أو المراد جنس الزمان الذي فيه الأمراء، وإلا فمعلوم من الدين بالضرورة أن زمان النبي المعصوم لا شر فيه‏.‏
    قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة ما قبل وجود العلامات العظام كالدجال وما بعده ويكون المراد بالأزمنة المتفاضلة في الشر من زمن الحجاج فما بعده إلى زمن الدجال، وأما زمن عيسى عليه السلام فله حكم مستأنف والله أعلم‏.‏
    يحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة بناء على أنهم هم المخاطبون بذلك فيختص بهم، فأما من بعدهم فلم يقصد في الخبر المذكور، لكن الصحابي فهم التعميم فلذلك أجاب من شكا إليه الحجاج بذلك وأمرهم بالصبر، وهم أو جلهم من التابعين‏.‏
    واستدل ابن حبان في صحيحه بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي وأنه يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا، ثم وجدت عن ابن مسعود ما يصلح أن يفسر به الحديث وهو ما أخرجه الدارمي بسند حسن عن عبد الله قال ‏"‏ لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله، أما إني لست أعني عاما‏"‏‏.‏
    (ج13/ ص 29)
    وفي رواية هشام ‏"‏ كم من كاسية الدنيا عارية يوم القيامة ‏"‏ وهو يؤيد ما ذهب إليه ابن مالك من أن رب أكثر ما ترد للتكثير فإنه قال أكثر النحويين إنها للتقليل وأن معنى مما يصدر بها المضي، والصحيح أن معناها في الغالب التكثير وهو مقتضى كلام سيبويه فإنه قال في ‏"‏ باب كم ‏"‏ واعلم أن كم في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه رب، لأن المعنى واحد إلا أن كم اسم ورب غير اسم انتهى، ولا خلاف أن معنى كم الخبرية التكثير ولم يقع في كتابه ما يعارض ذلك فصح أن مذهبه ما ذكرت وحديث الباب شاهد لذلك، فليس مراده أن ذلك قليل بل المتصف بذلك من النساء كثير ‏"‏ ولذلك لو جعلت كم موضع رب لحسن انتهى
    (ج13/ ص 37)
    قاله أبو بكرة يوافق ما وقع عند أحمد من حديث ابن مسعود ذكر الفتنة ‏"‏ قلت يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك‏؟‏ قال‏:‏ كف يدك ولسانك وادخل دارك، قلت يا رسول الله أرأيت إن دخل رجل علي داري‏؟‏ قال‏:‏ فادخل بيتك‏.‏
    قال قلت‏:‏ أفرأيت إن دخل علي بيتي قال فادخل مسجدك - وقبض بيمينه على الكوع - وقل ربي الله حتى تموت على ذلك ‏"‏ وعند الطبراني من حديث جندب ‏"‏ ادخلوا بيوتكم وأخملوا ذكركم قال‏:‏ أرأيت إن دخل على أحدنا بيته قال‏:‏ ليمسك بيده وليكن عبد الله المقتول لا القاتل ‏"‏ ولأحمد وأبي يعلى من حديث خرشة ابن الحر ‏"‏ فمن أتت عليه فليمش بسيفه إلى صفاة فليضربه بها حتى ينكسر ثم ليضطجع لها حتى تنجلي ‏"‏ وفي حديث أبي بكرة عند مسلم ‏"‏ قال رجل يا رسول الله أرأيت أن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين فجاء سهم أو ضربني رجل بسيف‏؟‏ قال‏:‏ يبوء بإثمه وإثمك ‏"‏ الحديث، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة‏.‏
    (ج13/ ص 38)
    قال الطبري‏:‏ اختلف السلف فحمل ذلك بعضهم على العموم وهم من قعد عن الدخول في القتال بين المسلمين مطلقا كسعد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة في آخرين، وتمسكوا بالظواهر المذكورة وغيرها، ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفة بلزوم البيوت‏.‏
    وقالت طائفة بل بالتحول عن بلد الفتن أصلا‏.‏
    ثم اختلفوا فمنهم من قال‏:‏ إذا هجم عليه شيء من ذلك يكف يده ولو قتل، ومنهم من قال‏:‏ بل يدافع عن نفسه وعن ماله وعن أهله وهو معذور إن قتل أو قتل‏.‏
    وقال آخرون‏:‏ إذا بغت طائفة على الإمام فامتنعت من الواجب عليها ونصبت الحرب وجب قتالها، وكذلك لو تحاربت طائفتان وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطئ ونصر المصيب، وهذا قول الجمهور، وفصل آخرون فقالوا‏:‏ كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة فالقتال حينئذ ممنوع، وتنزل الأحاديث التي في هذا الباب، وغيره على ذلك وهو قول الأوزاعي، قال الطبري‏:‏ والصواب أن يقال إن الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها‏.‏
    ذهب آخرون إلى أن الأحاديث وردت في حق ناس مخصوصين، وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك‏.‏
    وقيل إن أحاديث النهي مخصوصة بآخر الزمان حيث يحصل التحقق أن المقاتلة إنما هي في طلب الملك‏.‏
    وقد وقع في حديث ابن مسعود الذي أشرت إليه ‏"‏ قلت يا رسول الله ومتى ذلك‏؟‏ قال أيام الهرج قلت ومتى‏؟‏ قال حين لا يأمن الرجل جليسه‏"‏‏.‏
    (ج13/ ص 44)
    واحتج به من لم ير القتال في الفتنة وهم كل من ترك القتال مع علي في حروبه كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة وغيرهم وقالوا‏:‏ يجب الكف حتى لو أراد أحد قتله لم يدفعه عن نفسه‏.‏
    ومنهم من قال لا يدخل في الفتنة فإن أراد أحد قتله دفع عن نفسه، وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين، وحمل هؤلاء الأحاديث الواردة في ذلك على من ضعف عن القتال أو قصر نظره عن معرفة صاحب الحق، واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وأن المصيب يؤجر أجرين
    (ج13/ ص 44)
    ن هم بحسنة ومن هم بسيئة ‏"‏ وقالوا في قوله تعالى ‏(‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏)‏ اختيار باب الافتعال في الشر لأنه يشعر بأنه لا بد فيه من المعالجة، بخلاف الخير فإنه يثاب عليه بالنية المجردة، ويؤيده حديث ‏"‏ إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا ‏"‏ والحاصل أن المراتب ثلاث‏:‏ الهم المجرد وهو يثاب عليه ولا يؤاخذ به، واقتران الفعل بالهم أو بالعزم ولا نزاع في المؤاخذة به، والعزم وهو أقوى من الهم وفيه النزاع‏.‏
    (ج13/ ص 45)
    وقال القابسي‏:‏ معناه أنهم في الظاهر على ملتنا وفي الباطن محالفون، وجلدة الشيء ظاهره، وهي في الأصل غشاء البدن، قيل ويؤيد إرادة العرب أن السمرة غالبة عليهم واللون إنما يظهر في الجلد، ووقع في رواية أبي الأسود ‏"‏ فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ‏
    ال عياض‏:‏ المراد بالشر الأول الفتن التي وقعت بعد عثمان، والمراد بالخير الذي بعده ما وقع في خلافة عمر بن عبد العزيز، والمراد بالذين تعرف منهم وتنكر الأمراء بعده، فكان فيهم من يتمسك بالسنة والعدل وفيهم من يدعو إلى البدعة ويعمل بالجور قلت‏:‏ والذي يظهر أن المراد بالشر الأول ما أشار إليه من الفتن الأولى، وبالخير ما وقع من الاجتماع مع علي ومعاوية وبالدخن ما كان في زمنهما من بعض الأمراء كزياد بالعراق وخلاف من خالف عليه من الخوارج، وبالدعاة على أبواب جهنم من قام في طلب الملك من الخوارج وغيرهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله ‏"‏ الزم جماعة المسلمين وإمامهم ‏"‏
    _(ج13/ ص 47)
    قال ابن بطال‏:‏ فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك الخروج على أئمة الجور، لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم ‏"‏ دعاة على أبواب جهنم ‏"‏ ولم يقل فيهم ‏"‏ تعرف وتنكر ‏"‏ كما قال في الأولين، وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير حق، وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة‏.‏
    قال الطبري‏:‏ اختلف في هذا الأمر وفي الجماعة، فقال قوم‏:‏ هو للوجوب والجماعة السواد الأعظم، ثم ساق عن محمد بن سيرين عن أبي مسعود أنه وصى من سأله لما قتل عثمان ‏"‏ عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة‏"‏‏.‏
    وقال قوم‏:‏ المراد بالجماعة الصحابة دون من بعدهم‏.‏
    وقال قوم‏:‏ المراد بهم أهل العلم لأن الله جعلهم حجة على الخلق والناس تبع لهم في أمر الدين‏.‏
    قال الطبري‏:‏ والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة، قال‏:‏ وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابا فلا يتبع أحدا في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر، وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث،
    (ج13/ ص 51)
    قال ابن التين‏:‏ الأمانة كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله من المكلف‏.‏
    وعن ابن عباس‏:‏ هي الفرائض التي أمروا بها ونهوا عنها، وقيل هي الطاعة، وقيل التكاليف، وقيل العهد الذي أخذه الله على العباد‏.‏
    وهذا الاختلاف وقع في تفسير الأمانة المذكورة في الآية ‏(‏إنا عرضنا الأمانة‏)‏ وقال صاحب التحرير‏:‏ الأمانة المذكورة في الحديث هي الأمانة المذكورة في الآية وهي عين الإيمان، فإذا استمكنت في القلب قام بأداء ما أمر به واجتنب ما نهي عنه‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ المراد بالأمانة في حديث حذيفة الإيمان، وتحقيق ذلك فيما ذكر من رفعها أن الأعمال السيئة لا تزال تضعف الإيمان، حتى إذا تناهى الضعف لم يبق إلا أثر الإيمان، وهو التلفظ باللسان والاعتقاد الضعيف في ظاهر القلب، فشبهه بالأثر في ظاهر البدن، وكني عن ضعف الإيمان بالنوم، وضرب مثلا لزهوق الإيمان عن القلب حالا بزهوق الحجر عن الرجل حتى يقع بالأرض‏.‏
    (ج13/ ص 52)
    " التعرب "
    هو أن ينتقل المهاجر من البلد التي هاجر منها فيسكن البدو فيرجع بعد هجرته أعرابيا، وكان إذ ذاك محرما إلا إن أذن له الشارع في ذلك، وقيده بالفتنة إشارة إلى ما ورد من الإذن في ذلك عند حلول الفتن
    وقيل بمنعه في زمن الفتنة لما يترتب عليه من خذلان أهل الحق، ولكن نظر السلف اختلف في ذلك‏:‏ فمنهم من آثر السلامة واعتزل الفتن كسعد ومحمد بن مسلمة وابن عمر في طائفة، ومنهم من باشر القتال وهم الجمهور‏.‏
    ل غيره‏:‏ كان ذلك من جفاء الحجاج حيث خاطب هذا الصحابي الجليل بهذا الخطاب القبيح من قبل أن يستكشف عن عذره، ويقال إنه أراد قتله فبين الجهة التي يريد أن يجعله مستحقا للقتل بها‏.‏
    وقد أخرج الطبراني من حديث جابر بن سمرة رفعه ‏"‏ لعن الله من بدا بعد هجرته ‏"‏ إلا في الفتنة فإن البدو خير من المقام في الفتنة‏.‏
    (ج13/ ص 54)
    بأن سلمة لم يمت بالبادية كما جزم به يحيى بن عبد الوهاب بن منده في الجزء الذي جمعه في آخر من مات من الصحابة بل مات بالمدينة كما تقتضيه رواية يزيد بن أبي عبيد هذه وبذلك جزم أبو عبد الله بن منده في ‏"‏ معرفة الصحابة ‏"‏ وفي الحديث أيضا رد على من أرخ وفاة سلمة سنة أربع وستين فإن ذلك كان في آخر خلافة يزيد بن معاوية ولم يكن الحجاج يومئذ أميرا ولا ذا أمر ولا نهي، وكذا فيه رد على الهيثم بن عدي حيث زعم أنه مات في آخر خلافة معاوية وهو أشد غلطا من الأول إن أراد معاوية بن أبي سفيان وإن أراد معاوية بن يزيد بن معاوية فهو عين القول الذي قبله، وقد مشى الكرماني على ظاهره فقال‏:‏ مات سنة ستين وهي السنة التي مات فيها معاوية بن أبي سفيان، كذا جزم به والصواب خلافه، وقد اعترض الذهبي على من زعم أنه عاش ثمانين سنة ومات سنة أربع وسبعين لأنه يلزم منه أن يكون له في الحديبية اثنتا عشرة سنة وهو باطل لأنه ثبت أنه قاتل يومئذ وبايع‏.‏
    لكونه لما قتل عثمان ووقعت الفتن اعتزل عنها وسكن الربذة وتأهل بها ولم يلابس شيئا من تلك الحروب، والحق حمل عمل كل أحد من الصحابة المذكورين على السداد فمن لابس القتال اتضح له الدليل لثبوت الأمر بقتال الفئة الباغية وكانت له قدرة على ذلك، ومن قعد لم يتضح له أي الفئتين هي الباغية وإذا لم يكن له قدرة على القتال‏.‏
    وقد وقع لخزيمة بن ثابت أنه كان مع علي وكان مع ذلك لا يقاتل فلما قتل عمار قاتل حينئذ وحدث بحديث ‏"‏ يقتل عمارا الفئة الباغية ‏"‏ أخرجه أحمد وغيره
    (ج13/ ص 55)
    فضيلة العزلة لمن خاف على دينه، وقد اختلف السلف في أصل العزلة فقال الجمهور الاختلاط أولى لما فيه من اكتساب الفوائد الدينية للقيام بشعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال أنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعيادة وغير ذلك‏.‏
    وقال قوم العزلة أولى لتحقق السلامة بشرط معرفة ما يتعين، وقد مضى طرف من ذلك في ‏"‏ باب العزلة ‏"‏ من كتاب الرقاق وقال النووي المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أنه يقع في معصية، فإن أشكل الأمر فالعزلة أولى‏.‏
    وقال غيره‏:‏ يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من يتحتم عليه أحد الأمرين ومنهم من يترجح ليس الكلام فيه بل إذا تساويا فيختلف باختلاف الأحوال فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فمن يتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر فيجب عليه إما عينا وإما كفاية بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح من يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممن يستوي من يأمن على نفسه ولكنه يتحقق أنه لا يطاع، وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة فإن وقعت الفتنة ترجحت العزلة لما ينشأ فيها غالبا من الوقوع في المحذور، وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها كما قال الله تعالى ‏(‏واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة‏)‏ ويؤيد التفصيل المذكور حديث أبي سعيد أيضا ‏"‏ خير الناس رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره ‏"‏
    ( ج13/ ص 56)
    قال ابن بطال‏:‏ في مشروعية ذلك الرد على من قال‏:‏ اسألوا الله الفتنة فإن فيها حصاد المنافقين، وزعم أنه ورد في حديث وهو لا يثبت رفعه بل الصحيح خلافه‏.‏
    قلت‏:‏ أخرجه أبو نعيم من حديث علي بلفظ ‏"‏ لا تكرهوا الفتنة في آخر الزمان فإنها تبير المنافقين ‏"‏ وفي سنده ضعيف ومجهول، وقد تقدم في الدعوات عدة تراجم للتعوذ من عدة أشياء منها الاستعاذة من فتنة الغنى والاستعاذة من فتنة الفقر والاستعاذة من أرذل العمر ومن فتنة الدنيا ومن فتنة النار وغير ذلك، قال العلماء‏:‏ أراد صلى الله عليه وسلم مشروعية ذلك لأمته‏.‏
    (ج13/ ص 59)
    قال المهلب‏:‏ إنما ترك صلى الله عليه وسلم الدعاء لأهل المشرق ليضعفوا عن الشر الذي هو موضوع في جهتهم لاستيلاء الشيطان بالفتن وأما قوله ‏"‏ قرن الشمس ‏"‏ فقال الداودي‏:‏ للشمس قرن حقيقة ويحتمل أن يريد بالقرن قوة الشيطان وما يستعين به على الإضلال، وهذا أوجه، وقيل إن الشيطان يقرن رأسه بالشمس عند طلوعها ليقع سجود عبدتها له قيل ويحتمل أن يكون للشمس شيطان تطلع الشمس بين قرنيه‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ القرن الأمة من الناس يحدثون بعد فناء آخرين، وقرن الحية أن بضرب المثل فيما لا يحمد من الأمور‏.‏
    وقال غيره كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفتنة تكون من تلك الناحية فكان كما أخبر، وأول الفتن كان من قبل المشرق فكان ذلك سببا للفرقة بين المسلمين وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ نجد من جهة المشرق ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها وهي مشرق أهل المدينة، وأصل النجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور فإنه ما انخفض منها وتهامة كلها من الغور ومكة من تهامة انتهى وعرف بهذا وهاء ما قاله الداودي أن نجدا من ناحية العراق فإنه توهم أن نجدا موضع مخصوص، وليس كذلك بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما يليه يسمى المرتفع نجدا والمنخفض غورا‏.‏
    (ج13/ ص 60)
    قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ
    والمحفوظ أن الأبيات المذكورة لعمرو ابن معد يكرب الزبيدي كما جزم به أبو العباس المبرد في الكامل، وكذا رويناه في ‏"‏ كتاب الغرر من الأخبار ‏"‏ لأبي بكر خمد بن خلف القاضي المعروف بوكيع قال ‏"‏ حدثنا معدان بن علي حدثنا عمرو بن محمد الناقد حدثنا سفيان بن عيينة عن خلف بن حوشب قال قال عمرو بن معد يكرب ‏"‏ وبذلك جزم السهيلي في ‏"‏ الروض ‏"‏ ووقع لنا موصولا من وجه آخر وفيه زيادة رويناه في ‏"‏ فوائد الميمون بن حمزة المصري ‏"‏ عن الطحاوي فيما زاده في السنن التي رواها عن المزني عن الشافعي فقال ‏"‏ حدثنا المزني حدثنا الحميدي عن سفيان عن خلف بن حوشب قال قال عيسى بن مريم للحواريين كما ترك لكم الملوك الحكمة فاتركوا لهم الدنيا ‏"‏ وكان خلف يقول ينبغي للناس أن يتعلموا هذه الأبيات في الفتنة‏.
    ‏(ج13/ ص 63)
    ‏(‏الحرب أول ما تكون فتية‏)‏ بفتح الفاء وكسر المثناة وتشديد التحتانية أي شابة، حكى ابن التين عن سيبويه الحرب مؤنثة وعن المبرد قد تذكر وأنشد له شاهدا قال‏:‏ وبعضهم يرفع ‏"‏ أول وفتية ‏"‏ لأنه مثل، ومن نصب أول قال إنه الخبر، ومنهم من قدره الحرب أول ما تكون أحوالها إذا كانت فتية، ومنهم من أعرب أول حالا ‏"‏ وقال غيره يجوز فيه أربعة أوجه رفع أول ونصب فتية وعكسه ورفعهما جميعا ونصبهما فمن رفع أول ونصب فتية فتقديره الحرب أول أحوالها إذا كانت فتية فالحرب مبتدأ وأول مبتدأ ثان وفتية حال سدت مسد الخبر والجملة خبر الحرب، ومن عكس فتقديره الحرب في أول أحوالها فتية فالحرب مبتدأ وفتية خبرها وأول منصوب على الظرف، ومن رفعهما فالتقدير الحرب أول أحوالها فأول مبتدأ ثان أو بدل من الحرب وفتية خبر، ومن نصبهما جعل أول ظرفا وفتية حالا والتقدير الحرب في أول أحوالها إذا كانت فتية وتسعى خبر عنها، أي الحرب في حال ما هي فتية أي في وقت وقوعها يفر من لم يجربها حتى يدخل فيها فتهلكه‏
    (ج13/ ص 64)
    قال ابن بطال‏:‏ إنما عدل حذيفة حين سأله عمر عن الإخبار بالفتنة الكبرى إلى الإخبار بالفتنة الخاصة لئلا يغم ويشتغل باله، ومن ثم قال له ‏"‏ إن بينك وبينها بابا مغلقا ‏"‏ ولم يقل له أنت الباب وهو يعلم أنه الباب فعرض له بما فهمه ولم يصرح وذلك من حسن أدبه‏.‏
    وقول عمر ‏"‏ إذا كسر لم يغلق ‏"‏ أخذه من جهة أن الكسر لا يكون إلا غلبة والغلبة لا تقع إلا في الفتنة، وعلم من الخبر النبوي أن بأس الأمة بينهم واقع، وأن الهرج لا يزال إلى يوم القيامة كما وقع في حديث شداد رفعه ‏"‏ إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏
    قلت‏:‏ أخرجه الطبري وصححه ابن حبان‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ إنما خص عثمان بذكر البلاء مع أن عمر قتل أيضا لكون عمر لم يمتحن بمثل ما امتحن عثمان من تسلط القوم الذين أرادوا منه أن ينخلع من الإمامة بسبب ما نسبوه إليه من الجور والظلم مع تنصله من ذلك واعتذاره عن كل ما أوردوه عليه ثم هجومهم عليه داره وهتكهم ستر أهله، وكل ذلك زيادة على قتله‏.‏
    قلت‏:‏ وحاصله أن المراد بالبلاء الذي خص به الأمور الزائدة على القتل وهو كذلك‏.‏
    (ج13/ ص 65)
    قال الداودي‏:‏ كان سعيد ابن المسيب لجودته في عبارة الرؤيا يستعمل التعبير فيما يشبهها‏.‏
    (ج13/ ص 66)
    وضابط المداراة أن لا يكون فيها قدح في الدين، والمداهنة المذمومة أن يكون فيها تزيين القبيح وتصويب الباطل ونحو ذلك‏.‏
    وقال الطبري‏:‏ اختلف السلف في الأمر بالمعروف، فقالت طائفة يجب مطلقا واحتجوا بحديث طارق بن شهاب رفعه ‏"‏ أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ‏"‏ وبعموم قوله ‏"‏ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ‏"‏ الحديث‏.‏
    وقال بعضهم‏:‏ يجب إنكار المنكر، لكن شرطه أن لا يلحق المنكر بلاء لا قبل له به من قتل ونحوه‏.‏
    وقال آخرون‏:‏ ينكر بقلبه لحديث أم سلمة مرفوعا ‏"‏ يستعمل عليكم أمراء بعدي، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع ‏"‏ الحديث قال‏:‏ والصواب اعتبار الشرط المذكور ويدل عليه حديث ‏"‏ لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه ‏"‏ ثم فسره بأن يتعرض من البلاء لما لا يطيق انتهى ملخصا‏.‏
    وقال غيره‏:‏ يجب الأمر بالمعروف لمن قدر عليه ولم يخف على نفسه منه ضررا ولو كان الآمر متلبسا بالمعصية، لأنه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف ولا سيما إن كان مطاعا، وأما إثمه الخاص به فقد يغفره الله له وقد يؤاخذه به، وأما من قال‏:‏ لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأولى فجيد وإلا فيستلزم سد باب الأمر إذا لم يكن هناك غيره‏.‏
    ثم قال الطبري‏:‏ فإن قيل كيف صار المأمورون بالمعروف في حديث أسامة المذكور في النار‏؟‏ والجواب أنهم لم يمتثلوا ما أمروا به فعذبوا بمعصيتهم وعذب أميرهم بكونه كان يفعل ما ينهاهم عنه، وفي الحديث تعظيم الأمراء والأدب معهم وتبليغهم ما يقول الناس فيهم ليكفوا ويأخذوا حذرهم بلطف وحسن تأدية بحيث يبلغ المقصود من غير أذية للغير‏.


    ..................
    (ج13/ ص 70)
    ومن طريق عاصم بن كليب عن أبيه قال قال علي‏:‏ أتدرون بمن بليت‏؟‏ أطوع الناس في الناس عائشة، وأشد الناس الزبير، وأدهى الناس طلحة، وأيسر الناس يعلى بن أمية‏.‏
    ومن طريق ابن أبي ليلى قال‏:‏ خرج علي في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين ومن طريق محمد بن علي بن أبي طالب قال‏:‏ سار علي من المدينة ومعه تسعمائة راكب فنزل بذي قار‏.‏
    ومن طريق قيس بن أبي حازم قال‏:‏ لما أقبلت عائشة فنزلت بعض مياه بني عامر نبحت عليها الكلاب فقالت‏:‏ أي ماء هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ الحوأب - بفتح الحاء المهملة وسكون الواو بعدها همزة ثم موحدة - قالت ما أظنني إلا راجعة، فقال لها بعض من كان معها‏:‏ بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم، فقالت‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا ذات يوم‏:‏ كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب‏.‏
    وأخرج هذا أحمد وأبو يعلى والبزار وصححه ابن حبان والحاكم وسنده على شرط الصحيح‏.‏
    من طريق عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه‏:‏ أيتكن صاحبة الجمل الأدبب - بهمزة مفتوحة ودال ساكنة ثم موحدتين الأولى مفتوحة - تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها وعن شمالها قتلى كثيرة وتنجو من بعدما كادت‏.‏
    (ج13/ ص 71)
    لما هلك كسرى قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من استخلفوا‏؟‏ قالوا‏:‏ ابنته‏"‏‏.
    "‏ ولي أمرهم امرأة ‏"‏ بالرفع على أنها الفاعل، وكسرى المذكور هو شيرويه بن أبرويز بن هرمز، واسم ابنته المذكورة بوران‏.‏
    (ج13/ ص 72)
    لمعروف من مذهب أبي بكرة أنه كان على رأي عائشة في طلب الإصلاح بين الناس، ولم يكن قصدهم القتال، لكن لما انتشبت الحرب لم يكن لمن معها بد من المقاتلة، ولم يرجع أبو بكرة عن رأي عائشة وإنما تفرس بأنهم يغلبون لما رأى الذين مع عائشة تحت أمرها لما سمع في أمر فارس، قال‏:‏ ويدل لذلك أن أحدا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومن معها على منعه من قتل قتلة عثمان وترك الاقتصاص منهم، وكان على ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتص منه، فاختلفوا بحسب ذلك، وخشي من نسب إليهم القتل أن يصطلحوا على قتلهم فأنشبوا الحرب بينهم إلى أن كان ما كان‏.‏
    فلما انتصر علي عليهم حمد أبو بكرة رأيه في ترك القتال معهم وإن كان رأيه كان موافقا لرأي عائشة في الطلب بدم عثمان‏.‏
    (ج13/ ص 77)
    وفي صحيح ابن حبان عن عائشة مرفوعا ‏"‏ إن الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصالحون قبضوا معهم ثم بعثوا على نياتهم وأعمالهم ‏"‏ وأخرجه البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ وله من طريق الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب عنها مرفوعا ‏"‏ إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه فيهم، قيل‏:‏ يا رسول الله وفيهم أهل طاعته‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ثم يبعثون إلى رحمة الله تعالى ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ هذا الحديث يبين حديث زينب بنت جحش حيث قالت ‏"‏ أنهلك وفينا الصالحون‏؟‏ قال‏:‏ نعم إذا كثر الخبث ‏"‏ فيكون إهلاك الجميع عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصي‏.‏
    قلت‏:‏ الذي يناسب كلامه الأخير حديث أبي بكر الصديق ‏"‏ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ‏"‏ أخرجه الأربعة وصححه ابن حبان، وأما حديث ابن عمر في الباب وحديث زينب بنت جحش فمتناسبان، وقد أخرجه مسلم عقبه، ويجمعهما أن الهلاك يعم الطائع مع العاصي، وزاد حديث ابن عمر أن الطائع عند البعث يجازي بعمله، ومثله حديث عائشة مرفوعا ‏"‏ العجب أن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فقلنا‏:‏ يا رسول الله إن الطريق قد تجمع الناس، قال‏:‏ نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏
    قال القاضي عياض‏:‏ أورد مسلم حديث جابر ‏"‏ يبعث كل عبد على ما مات عليه ‏"‏ تعقب حديث جابر أيضا رفعه ‏"‏ لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ‏"‏ يشير إلى أنه مفسر له، ثم أعقبه بحديث ‏"‏ ثم بعثوا على أعمالهم ‏"‏ مشيرا إلى أنه وإن كان مفسرا لما قبله لكنه ليس مقصورا عليه بل هو عام فيه وفي غيره، ويؤيده الحديث الذي ذكره بعده ‏"‏ ثم يبعثهم الله على نياتهم ‏"‏ انتهى ملخصا‏.‏
    حاصل أنه لا يلزم من الاشتراك في الموت الاشتراك في الثواب أو العقاب بل يجازي كل أحد بعمله على حسب نيته‏.‏
    وجنح ابن أبي جمرة إلى أن الذين يقع لهم ذلك إنما يقع بسبب سكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما من أمر ونهى فهم المؤمنون حقا لا يرسل الله عليهم العذاب بل يدفع بهم العذاب، ويؤيده قوله تعالى ‏(‏وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون‏)‏ وقوله تعالى ‏(‏وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏)‏ ويدل على تعميم العذاب لمن لم ينه عن المنكر وإن لم يتعطاه قوله تعالى ‏(‏فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم‏)‏ ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار ومن الظلمة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يعنهم ولم يرض بأفعالهم فإن أعان أو رضي فهو منهم، ويؤيده أمره صلى الله عليه وسلم بالإسراع في الخروج من ديار ثمود‏.
    (ج13/ ص 78)
    أشار الحسن البصري بهذه القصة إلى ما اتفق بعد قتل علي رضي الله عنه، وكان علي لما انقضى أمر التحكيم ورجع إلى الكوفة تجهز لقتال أهل الشام مرة بعد أخرى فشغله أمر الخوارج بالنهروان كما تقدم وذلك في سنة ثمان وثلاثين، ثم تجهز في سنة تسع وثلاثين فلم يتهيأ ذلك لافتراق آراء أهل العراق عليه، ثم وقع الجد منه في ذلك في سنة أربعين فأخرج إسحاق من طريق عبد العزيز بن سياه بكسر المهملة وتخفيف الياء آخر الحروف قال‏:‏ لما خرج الخوارج قام علي فقال‏:‏ أتسيرون إلى الشام أو ترجعون إلى هؤلاء الذين خلفوكم في دياركم‏؟‏ قالوا‏:‏ بل نرجع إليهم، فذكر قصة الخوارج قال فرجع علي إلى الكوفة، فلما قتل واستخلف الحسن وصالح معاوية كسب إلى قيس بن سعد بذلك فرجع عن قتال معاوية‏.‏
    وأخرج الطبري بسند صحيح عن يونس ابن يزيد عن الزهري قال‏:‏ جعل علي على مقدمة أهل العراق قيس بن سعد بن عبادة وكانوا أربعين ألفا بايعوه على الموت، فقتل علي فبايعوا الحسن بن علي بالخلافة، وكان لا يحب القتال ولكن كان يريد أن يشترط على معاوية لنفسه، فعرف أن قيس بن سعد لا يطاوعه على الصلح فنزعه وأمر عبد الله بن عباس فاشترط لنفسه كما اشترط الحسن‏.‏
    وكان معاوية لما بلغه قتل علي خرج في عساكر من الشام، وخرج الحسن بن علي حتى نزل المدائن، فوصل معاوية إلى مسكن وقال ابن بطال‏:‏ ذكر أهل العلم بالأخبار أن عليا لما قتل سار معاوية يريد العراق وسار الحسن يريد الشام فالتقيا بمنزل من أرض الكوفة، فنظر الحسن إلى كثرة من معه فنادى‏:‏ يا معاوية إني اخترت ما عند الله، فإن يكن هذا الأمر لك فلا ينبغي لي أن أنازعك فيه وإن يكن لي فقد تركته لك فكبر أصحاب معاوية‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ سلم الحسن لمعاوية الأمر وبايعه على إقامة كتاب الله وسنة نبيه، ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس فسميت سنة الجماعة لاجتماع الناس وانقطاع الحرب‏.‏
    وبايع معاوية كل من كان معتزلا للقتال كابن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد ابن مسلمة، وأجاز معاوية الحسن بثلاثمائة ألف وألف ثوب وثلاثين عبدا ومائة جمل، وانصرف إلى المدينة، وولى معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة والبصرة عبد الله بن عامر ورجع إلى دمشق‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ هذا يدل على أن معاوية كان هو الراغب في الصلح وأنه عرض على الحسن المال ورغبه فيه وحثه على رفع السيف وذكره ما وعده به جده صلى الله عليه وسلم من سيادته في الإصلاح به، فقال له الحسن‏:‏ إنا بنو عبد المطلب أصبنا من هذا المال، أي إنا جبلنا على الكرم والتوسعة على أتباعنا من الأهل والموالى وكنا نتمكن من ذلك بالخلافة حتى صار ذلك لنا عادة وقوله إن هذه الأمة أي العسكرين الشامي والعراقي ‏"‏ قد عاثت ‏"‏ بالمثلثة أي قتل بعضها بعضا فلا يكفون عن ذلك إلا بالصفح عما مضى منهم والتألف بالمال‏.‏
    وأراد الحسن بذلك كله تسكين الفتنة وتفرقة المال على من لا يرضيه إلا المال، فوافقاه على ما شرط من جميع ذلك والتزما له من المال في كل عام والثياب والأقوات ما يحتاج إليه لكل من ذكر‏.‏
    وذكر محمد بن قدامة في ‏"‏ كتاب الخوارج ‏"‏ بسند قوي إلى أبي بصرة أنه سمع الحسن بن علي يقول في خطبته عند معاوية إني اشترطت على معاوية لنفسي الخلافة بعده‏.‏
    وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح إلى الزهري قال‏:‏ كاتب الحسن بن علي معاوية واشترط لنفسه فوصلت الصحيفة لمعاوية وقد أرسل إلى الحسن يسأله الصلح ومع الرسول صحيفة بيضاء مختوم على أسفلها وكتب إليه أن اشترط ما شئت فهو لك، فاشترط الحسن أضعاف ما كان سأل أولا، فلما التقيا وبايعه الحسن سأله أن يعطيه ما اشترط في السجل الذي ختم معاوية في أسفله فتمسك معاوية إلا ما كان الحسن سأله أولا، واحتج بأنه أجاب سؤاله أول ما وقف عليه فاختلفا في ذلك فلم ينفذ للحسن من الشرطين شيء‏.‏
    وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق عبد الله بن شوذب قال‏:‏ لما قتل علي سار الحسن بن علي في أهل العراق ومعاوية في أهل الشام فالتقوا، فكره الحسن القتال وبايع معاوية على أن يجعل العهد للحسن من بعده فكان أصحاب الحسن يقولون له يا عار المؤمنين فيقول العار خير من النار‏.‏
    (ج13/ ص 83)
    وفيه ولاية المفضول الخلافة مع وجود الأفضل لأن الحسن ومعاوية ولى كل منهما الخلافة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد في الحياة وهما بدريان قاله ابن التين‏
    وذهب جمهور أهل السنة إلى تصويب من قاتل مع علي لامتثال قوله تعالى ‏(‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا‏)‏ الآية ففيها الأمر بقتال الفئة الباغية، وقد ثبت أن من قاتل عليا كانوا بغاة، وهؤلاء مع هذا التصويب متفقون على أنه لا يذم واحد من هؤلاء بل يقولون اجتهدوا فأخطؤوا، وذهب طائفة قليلة من أهل السنة - وهو قول كثير من المعتزلة - إلى أن كلا من الطائفتين مصيب، وطائفة إلى أن المصيب طائفة لا بعينها‏.

    ‏.‏
    (ج13/ ص 95)
    وقال ابن عبد البر‏.‏
    ظن بعضهم أن هذا الحديث معارض للنهي عن تمني الموت، وليس كذلك، وإنما في هذا أن هذا القدر سيكون لشدة تنزل بالناس من فساد الحال في الدين أو ضعفه أو خوف ذهابه لا لضرر ينزل في الجسم، كذا قال، وكأنه يريد أن النهي عن تمني الموت هو حيث يتعلق بضرر الجسم، وأما إذا كان لضرر يتعلق بالدين فلا‏.‏
    وقد ذكره عياض احتمالا أيضا وقال غيره‏:‏ ليس بين هذا الخبر وحديث النهي عن تمني الموت معارضة، لأن النهي صريح وهذا إنما فيه إخبار عن شدة ستحصل ينشأ عنها هذا التمني، وليس فيه تعرض لحكمه، وإنما سيق للإخبار عما سيقع‏.‏
    قلت‏:‏ ويمكن أخذ الحكم من الإشارة في قوله ‏"‏ وليس به الدين إنما هو البلاء ‏"‏ فإنه سيق مساق الذم والإنكار، وفيه إيماء إلى أنه لو فعل ذلك بسبب الدين لكان محمودا، ويؤيده ثبوت تمني الموت عند فساد أمر الدين عن جماعة من السلف‏.‏
    قال النووي لا كراهة في ذلك بل فعله خلائق من السلف منهم عمر بن الخطاب وعيسى الغفاري وعمر بن عبد العزيز وغيرهم‏.‏
    ثم قال القرطبي‏:‏ كأن في الحديث إشارة إلى أن الفتن والمشقة البالغة ستقع حتى يخف أمر الدين ويقل الاعتناء بأمره ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاشه نفسه وما يتعلق به، ومن ثم عظم قدر العبادة أيام الفتنة كما أخرج مسلم من حديث معقل بن يسار رفعه ‏"‏ العبادة في الهرج كهجرة إلى ‏"‏ ويؤخذ من قوله ‏"‏ حتى يمر الرجل بقبر الرجل ‏"‏ أن التمني المذكور إنما يحصل عند رؤية القبر، وليس ذلك مرادا بل فيه إشارة إلى قوة هذا التمني لأن الذي يتمنى الموت بسبب الشدة التي تحصل عنده قد يذهب ذلك التمني أو يخف عند مشاهدة القبر والمقبور
    (ج13/ ص 97)
    وقد ثبت أن الآيات العظام مثل السلك إذا انقطع تناثر الخرز بسرعة، وهو عند أحمد وفي مرسل أبي العالية ‏"‏ الآيات كلها في ستة أشهر ‏"‏ وعن أبي هريرة في ‏"‏ ثمانية أشهر ‏"‏ وقد أورد مسلم عقب حديث أبي هريرة من حديث عائشة ما يشير إلى بيان الزمان الذي يقع فيه ذلك ولفظه ‏"‏ لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى ‏"‏ وفيه ‏"‏ يبعث الله ريحا طيبة فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم
    ثم وجدت في كتاب ‏"‏ التيجان لابن هشام ‏"‏ ما يعرف منه - إن ثبت - اسم القحطاني وسيرته وزمانه، فذكر أن عمران بن عامر كان ملكا متوجا وكان كاهنا معمرا وأنه قال لأخيه عمرو بن عامر المعروف بمزيقيا لما حضرته الوفاة‏:‏ إن بلادكم ستخرب، وإن لله في أهل اليمن سخطتين ورحمتين‏:‏ فالسخطة الأولى هدم سد مأرب وتخرب البلاد بسببه، والثانية غلبة الحبشة على أرض اليمن‏.‏
    والرحمة الأولى بعثة نبي من تهامة اسمه محمد يرسل بالرحمة ويغلب أهل الشرك، والثانية إذا خرب بيت الله يبعث الله رجلا يقال له شعيب بن صالح فيهلك من خربه ويخرجهم حتى لا يكون بالدنيا إيمان إلا بأرض اليمن انتهى‏.‏
    (ج13/ ص 100)
    ال القرطبي في ‏"‏ التذكرة ‏"‏‏:‏ قد خرجت نار بالحجاز بالمدينة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العتمة الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت، وظهرت النار بقريظة بطرف الحرة ترى في صورة البلد العظيم عليها سور محيط عليه شراريف وأبراج ومآذن، وترى رجال يقودونها، لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته، ويخرج من مجموع ذلك مثل النهر أحمر وأزرق له دوي كدوي الرعد يأخذ الصخور بين يديه وينتهي إلى محط الركب العراقي، واجتمع من ذلك ردم صار كالجبل العظيم، فانتهت النار إلى قرب المدينة، ومع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم بارد، وشوهد لهذه النار غليان كغليان البحر‏.‏
    وقال لي بعض أصحابنا‏:‏ رأيتها صاعدة في الهواء من نحو خمسة أيام، وسمعت أنها رئيت من مكة ومن جبال بصرى‏.‏
    وقال النووي‏:‏ تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام‏.‏
    وقال أبو شامة في ‏"‏ ذيل الروضتين ‏"‏‏:‏ وردت في أوائل شعبان سنة أربع وخمسين كتب من المدينة الشريفة فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصحيحين، فذكر هذا الحديث، قال‏:‏ فأخبرني بعض من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب، فمن الكتب‏.‏
    من ذلك أن في بعض الكتب‏:‏ ظهر في أول جمعة من جمادى الآخرة في شرقي المدينة نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم انفجرت من الأرض وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد‏.‏
    وفي كتاب آخر‏:‏ انبجست الأرض من الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل مسجد المدينة وهي برأي العين من المدينة، وسال منها واد يكون مقداره أربع فراسخ وعرضه أربع أميال يجري على وجه الأرض ويخرج منه مهاد وجبال صغار‏.‏
    وفي كتاب آخر‏:‏ ظهر ضوؤها إلى أن رأوها من مكة، قال ولا أقدر أصف عظمها، ولها دوى‏.‏
    (ج13/ ص 102)
    قع عند أحمد وابن ماجه من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مثل حديث الباب إلى قوله ‏"‏ من ذهب فيقتتل عليه الناس فيقتل من كل عشرة تسعة ‏"‏ وهي رواية شاذة، والمحفوظ ما تقدم من عند مسلم وشاهده من حديث أبي بن كعب ‏"‏ من كل مائة تسعة وتسعون ‏"‏ ويمكن الجمع باختلاف تقسيم الناس إلى قسمين‏.‏
    (ج13/ ص 108)
    وقد ذكر يحيى بن سليمان الجعفي أحد شيوخ البخاري في ‏"‏ كتاب صفين ‏"‏ في تأليفه بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية‏:‏ أنت تنازع عليا في الخلافة أو أنت مثله‏؟‏ قال‏:‏ لا، وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه‏؟‏ فأتوا عليا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان، فأتوه فكلموه فقال‏:‏ يدخل في البيعة ويحاكمهم إلى، فامتنع معاوية فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين، وسار معاوية حتى نزل هناك وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين، فتراسلوا فلم يتم لهم أمر، فوقع القتال إلى أن قتل من الفريقين فيما ذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه نحو سبعين ألفا، وقيل كانوا أكثر من ذلك، ويقال كان بينهم أكثر من سبعين زحفا، وقد تقدم في تفسير سورة الفتح ما زادها أحمد وغيره في حديث سهل بن حنيف المذكور هناك من قصة التحكيم بصفين وتشبيه سهل بن حنيف ما وقع لهم بها بما وقع يوم الحديبية‏.‏
    وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي الرضا سمعت عمارا يوم صفين يقول‏:‏ من سره أن يكتنفه الحور العين فليتقدم بين الصفين محتسبا‏.‏
    ومن طريق زياد بن الحارث‏:‏ كنت إلى جنب عمار فقال رجل‏:‏ كفر أهل الشام، فقال عمار‏:‏ لا تقولوا ذلك نبينا واحد، ولكنهم قوم حادوا عن الحق فحق علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا‏.‏
    (ج13/ ص 114)
    الثالث ففي حديث النواس عند مسلم أنه يخرج عند فتح المسلمين القسطنطينية‏.‏
    وأما سبب خروجه فأخرج مسلم في حديث ابن عمر عن حفصة أنه يخرج من غضبة يغضبها‏.‏
    وأما من أين يخرج‏؟‏ فمن قبل المشرق جزما‏.‏
    ثم جاء في رواية أنه يخرج من خراسان، أخرج ذلك أحمد والحاكم من حديث أبي بكر، وفي أخرى أنه يخرج من أصبهان أخرجها مسلم‏.‏
    أما الذي يدعيه فإنه يخرج أولا فيدعي الإيمان والصلاح ثم يدعي النبوة ثم يدعي الإلهية كما أخرج الطبراني
    (ج13/ ص 115)
    شتهر السؤال عن الحكمة في عدم التصريح بذكر الدجال في القرآن مع ما ذكر عنه من الشر وعظم الفتنة به وتحذير الأنبياء منه والأمر بالاستعاذة منه حتى في الصلاة، وأجيب بأجوبة أحدها أنه ذكر في قوله ‏(‏يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها‏)‏ فقد أخرج الترمذي وصححه عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل‏:‏ الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ‏"‏ الثاني قد وقعت الإشارة في القرآن إلى نزول عيسى بن مريم في قوله تعالى ‏(‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته‏)‏ وفي قوله تعالى ‏(‏وإنه لعلم للساعة‏)‏ وصح أنه الذي قتل الدجال فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر، ولكونه يلقب المسيح كعيسى؛ لكن الدجال مسيح الضلالة وعيسى مسيح الهدى‏.‏
    الثالث أنه ترك ذكره احتقارا، وتعقب بذكر يأجوج ومأجوج وليست الفتنة بهم بدون الفتنة بالدجال والذي قبله، وتعقب بأن السؤال باق وهو ما الحكمة في ترك التنصيص عليه‏؟‏ وأجاب شيخنا الإمام البلقيني بأنه اعتبر كل من ذكر في القرآن من المفسدين فوجد كل من ذكر إنما هم ممن مضى وانقضى أمره وأما من لم يجيء بعد فلم يذكر منهم أحدا انتهى‏.‏
    وهذا ينتقض بيأجوج ومأجوج‏.‏
    وقد وقع في تفسير البغوي أن الدجال مذكور في القرآن في قوله تعالى ‏(‏لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس‏)‏ وأن المراد بالناس هنا الدجال من إطلاق الكل على البعض‏.‏
    وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة فيكون من جملة ما تكفل النبي صلى الله عليه وسلم ببيانه والعلم عند الله تعالى‏.‏
    وأما ما يظهر على يده من الخوارق
    (ج13/ ص 118)
    ‏وحكى شيخنا مجد الدين الشيرازي صاحب القاموس في اللغة أنه اجتمع له من الأقوال في سبب تسمية الدجال المسيح خمسون قولا، وبالغ القاضي ابن العربي فقال‏:‏ ضل قوم فرووه المسيخ بالخاء المعجمة، وشدد بعضهم السين ليفرقوا بينه وبين المسيح عيسى بن مريم بزعمهم، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بقوله في الدجال ‏"‏ مسيح الضلالة ‏"‏ فدل على أن عيسى مسيح الهدى، فأراد هؤلاء تعظيم عيسى فحرفوا الحديث‏.

    (ج13/ ص 124)
    وفي حديث سمرة مثله وكلاهما عند الطبراني ولكن في حديثهما ‏"‏ أعور العين اليسرى ‏"‏ ومثله لمسلم من حديث حذيفة، وهذا بخلاف قوله في حديث الباب ‏"‏ أعور العين اليمنى ‏"‏ وقد اتفقا عليه من حديث ابن عمر فيكون أرجح، وإلى ذلك أشار ابن عبد البر لكن جمع بينهما القاضي عياض فقال‏:‏ تصحح الروايتان معا بأن تكون المطموسة والممسوحة هي العوراء الطافئة بالهمز أي التي ذهب ضوؤها وهي العين اليمنى كما في حديث ابن عمر، وتكون الجاحظة التي كأنها كوكب وكأنها نخاعة في حائط هي الطافية بلا همز وهي العين اليسرى كما جاء في الرواية الأخرى، وعلى هذا فهو أعور العين اليمنى واليسرى معا فكل واحدة منهما عوراء أي معيبة، فإن الأعور من كل شيء المعيب، وكلا عيني الدجال معيبة فإحداهما معيبة بذهاب ضوئها حتى ذهب إدراكها، والأخرى بنتوئها انتهى‏.‏
    قال النووي‏:‏ هو في نهاية الحسن‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ حاصل كلام القاضي أن كل واحدة من عيني الدجال عوراء إحداهما بما أصابها حتى ذهب إدراكها والأخرى بأصل خلقها معيبة، لكن يبعد هذا التأويل أن كل واحدة من عينيه قد جاء وصفها في الرواية بمثل ما وصفت به الأخرى من العور فتأمله‏.‏
    وأجاب صاحبه القرطبي في التذكرة بأن الذي تأوله القاضي صحيح، فإن المطموسة وهي التي ليست ناتئة ولا جحراء هي التي فقدت الإدراك، والأخرى وصفت بأن عليها ظفرة غليظة وهي جلدة تغشى العين وإذا لم تقطع عميت العين، وعلى هذا فالعور فيهما لأن الظفرة مع غلظها تمنع الإدراك أيضا، فيكون الدجال أعمى أو قريبا منه إلا أنه جاء ذكر الظفرة في العين اليمنى في حديث سفينة وجاء في العين الشمال في حديث سمرة فالله أعلم‏.‏
    (ج13/ ص 123)
    وقال عياض‏:‏ لا إشكال في طواف عيسى بالبيت، وأما الدجال فلم يقع في رواية مالك أنه طاف وهي أثبت ممن روى طوافه‏.‏
    وتعقب بأن الترجيح مع إمكان الجمع مردود، لأن سكوت مالك عن نافع عن ذكر الطواف لا يرد رواية الزهري عن سالم، وسواء ثبت أنه طاف أم لم يطف فرؤيته إياه بمكة مشكلة مع ثبوت أنه لا يدخل مكة ولا المدينة، وقد انفصل عنه القاضي عياض بأن منعه من دخولها إنما هو عند خروجه في آخر الزمان‏.‏
    (ج13/ ص 125)
    وقال النووي‏:‏ الصحيح الذي عليه المحققون أن الكتابة المذكورة حقيقة جعلها الله علامة قاطعة بكذب الدجال فيظهر الله المؤمن عليها ويخفيها على من أراد شقاوته‏.‏
    وحكى عياض خلافا وأن بعضهم قال ‏"‏ هي مجاز عن سمة الحدوث عليه ‏"‏ وهو مذهب ضعيف، ولا يلزم من قوله ‏"‏ يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ‏"‏ أن لا تكون الكتابة حقيقة بل يقدر الله على غير الكاتب علم الإدراك فيقرأ ذلك وإن لم يكن سبق له معرفة الكتابة، وكأن السر اللطيف في أن الكاتب وغير الكاتب يقرأ ذلك لمناسبة أن كونه أعور يدركه كل من رآه فالله أعلم‏.‏
    (ج13/ ص 130)
    ال الخطابي‏:‏ فإن قيل كيف يجوز أن يجري الله الآية على يد الكافر‏؟‏ فإن إحياء الموتى آية عظيمة من آيات الأنبياء فكيف ينالها الدجال وهو كذاب مفتر يدعي الربوبية‏؟‏ فالجواب أنه على سبيل الفتنة للعباد إذ كان عندهم ما يدل على أنه مبطل غير محق في دعواه وهو أنه أعور مكتوب على جبهته كافر يقرؤه كل مسلم، فدعواه داحضة مع وسم الكفر ونقص الذات والقدر، إذ لو كان إلها لأزال ذلك عن وجهه، وآيات الأنبياء سالمة من المعارضة فلا يشتبهان وقال الطبري‏:‏ لا يجوز أن تعطى أعلام الرسل لأهل الكذب والإفك في الحالة التي لا سبيل لمن عاين ما أتى به فيها إلا الفصل بين المحق منهم والمبطل، فأما إذا كان لمن عاين ذلك السبيل إلى علم الصادق من الكاذب فمن ظهر ذلك على يده فلا ينكر إعطاء الله ذلك للكذابين، فهذا بيان الذي أعطيه الدجال من ذلك فتنة لمن شاهده ومحنة لمن عاينه انتهى‏.‏
    وفي الدجال مع ذلك دلالة بينة لمن عقل على كذبه‏.‏
    لأنه ذو أجزاء مؤلفة، وتأثير الصنعة فيه ظاهر مع ظهور الآفة به من عور عينيه، فإذا دعا الناس إلى أنه ربهم فأسوأ حال من يراه من ذوي العقول أن يعلم أنه لم يكن ليسوي خلق غيره ويعدله ويحسنه ولا يدفع النقص عن نفسه، فأقل ما يجب أن يقول‏:‏ يا من يزعم أنه خالق السماء والأرض صور نفسك وعدلها وأزل عنها العاهة، فإن زعمت أن الرب لا يحدث في نفسه شيئا فأزل ما هو مكتوب بين عينيك‏.‏
    وقال المهلب‏:‏ ليس في اقتدار الدجال على إحياء المقتول المذكور ما يخالف ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏هو أهون على الله من ذلك ‏"‏ أي من أن يمكن من المعجزات تمكينا صحيحا، فإن اقتداره على قتل الرجل ثم إحيائه لم يستمر له فيه ولا في غيره ولا استضر به المقتول إلا ساعة تألمه بالقتل مع حصول ثواب ذلك له، وقد لا يكون وجد للقتل ألما لقدرة الله تعالى على دفع ذلك عنه‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ الذي يظهر على يدي الدجال من الآيات من إنزال المطر والخصب على من يصدقه والجدب على من يكذبه واتباع كنوز الأرض له وما معه من جنة ونار ومياه تجري كل ذلك محنة من الله واختبار ليهلك المرتاب وينجو المتيقن، وذلك كله أمر مخوف، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا فتنة أعظم من فتنة الدجال ‏"‏ وكان يستعيذ منها في صلاته تشريعا لأمته، وأما قوله في الحديث الآخر عند مسلم ‏"‏ غير الدجال أخوف لي عليكم ‏"‏ فإنما قال ذلك للصحابة لأن الذي خافه عليهم أقرب إليهم من الدجال فالقريب المتيقن وقوعه لمن يخاف عليه يشتد الخوف منه على البعيد المظنون وقوعه به ولو كان أشد‏.‏
    (13/ ص 132)
    وقال القاضي عياض‏:‏ في هذه الأحاديث حجة لأهل السنة في صحة وجود الدجال وأنه شخص معين يبتلي الله به العباد ويقدره على أشياء كإحياء الميت الذي يقتله وظهور الخصب والأنهار والجنة والنار واتباع كنوز الأرض له وأمره السماء فتمطر والأرض فتنبت وكل ذلك بمشيئة الله، ثم يعجزه الله فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ثم يبطل أمره ويقتله عيسى بن مريم وقد خالف في ذلك بعض الخوارج والمعتزلة والجهمية فأنكروا وجوده وردوا الأحاديث الصحيحة، وذهب طوائف منهم كالجبائي إلى أنه صحيح الوجود لكن كل الذي معه مخاريق وخيالات لا حقيقة لها، وألجأهم إلى ذلك أنه لو كان ما معه بطريق الحقيقة لم يوثق بمعجزات الأنبياء، وهو غلط منهم لأنه لم يدع النبوة فتكون الخوارق تدل على صدقه، وإنما ادعى الإلهية وصورة حاله تكذبه لعجزه ونقصه فلا يغتر به إلا رعاع الناس إما لشدة الحاجة والفاقة وإما تقية وخوفا من أذاه وشره مع سرعة مروره في الأرض فلا يمكث حتى يتأمل الضعفاء حاله، فمن صدقه في تلك الحال لم يلزم منه بطلان معجزات الأنبياء، ولهذا يقول له الذي يحييه بعد أن يقتله ‏"‏ ما ازددت فيك إلا بصيرة‏"‏‏.‏
    قلت‏:‏ ولا يعكر على ذلك ما ورد في حديث أبي أمامة عند ابن ماجه أنه ‏"‏ يبدأ فيقول أنا نبي، ثم يثنى فيقول أنا ربكم ‏"‏ فإنه يحمل على أنه، إنما يظهر الخوارق بعد قوله الثاني‏.‏
    ووقع في حديث أبي أمامة المذكور ‏"‏ وإن من فتنته أن يقول للأعرابي‏:‏ أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك‏؟‏ فيقول نعم، فيمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه يقولان له‏:‏ يا بني اتبعه فإنه ربك، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت، ويمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر والأرض أن تنبت فتمطر وتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظم وأمدة خواصر وأدرة ضروعا‏"‏‏.

    ‏"‏‏.‏
    (ج13/ ص 134)
    ووقع في ‏"‏ فتاوى الشيخ محيي الدين ‏"‏ يأجوج ومأجوج من أولاد آدم لا من حواء عند جماهير العلماء فيكون إخواننا لأب كذا قال ولم نر هذا عن أحد من السلف إلا عن كعب الأحبار، ويرده الحديث المرفوع أنهم من ذرية نوح ونوح من ذرية حواء قطعا‏.‏
    -(ج13/ ص 137)
    قال ابن العربي‏:‏ فيه البيان بأن الخير يهلك بهلاك الشرير إذا لم يغير عليه خبثه، وكذلك إذا غير عليه لكن حيث لا يجدي ذلك ويصر الشرير على عمله السيء؛ ويفشو ذلك ويكثر حتى يعم الفساد فيهلك حينئذ القليل والكثير، ثم يحشر كل أحد على نيته‏.‏

    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    ختم كتاب " الفتن " وآخره فتنة " يأجوج ومأجوج "
    ويليه كتاب " الأحكام " من فتح الباري
    الموافق / الجمعة / شعبان / 1441 هجريالم
    الموافق 10/ ابريل / 2020 ميلادي
    واسال الله ان يرفع الغمة والكربة والوباء والبلاء عن العالم الاسلامي بمنه كرمه في هذه الساعة المباركة ‏

  17. #217
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : السبت
    الموافق : 19 / شعبان / 1441 هجري
    الموافق 11/ ابريل / 2020 ميلادي

    كتاب " الأحكام من المجلد الثالث "
    وبالله التوفيق
    كتاب الأحكام
    (ج13/ ص 138)
    ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم‏)‏ في هذا إشارة من المصنف إلى ترجيح القول الصائر إلى أن الآية نزلت في طاعة الأمراء، خلافا لمن قال نزلت في العلماء، وقد رجح ذلك أيضا الطبري
    (ج13/ ص 139)
    وجوب طاعة ولاة الأمور وهي مقيدة بغير الأمر بالمعصية كما تقدم في أوائل الفتن، والحكمة في الأمر بطاعتهم المحافظة على اتفاق الكلمة لما في الافتراق من الفساد‏.‏
    (ج13/ ص 140)
    جاء في حديث أنس مثل حديث ابن عمر فزاد في آخره ‏"‏ فأعدوا للمسألة جوابا، قالوا‏:‏ وما جوابها‏؟‏ قال‏:‏ أعمال البر ‏"‏ أخرجه ابن عدي والطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ وسنده حسن، وله من حديث أبي هريرة ‏"‏ ما من راع إلا يسأل يوم القيامة أقام أمر الله أم أضاعه ‏"‏ ولابن عدي بسند صحيح عن أنس ‏"‏ إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ ذلك أو ضيعه ‏"‏ واستدل به على أن المكلف يؤاخذ بالتقصير في أمر من هو في حكمه، وترجم له في النكاح ‏"‏ باب قوا أنفسكم وأهليكم نارا ‏"‏ وعلى أن للعبد أن يتصرف في مال سيده بإذنه وكذا المرأة والولد، وترجم لكراهة التطاول على الرقيق وتقدم توجيهه هناك وفي هذا الحديث بيان كذب الخبر الذي افتراه بعض المتعصبين لبني أمية قرأت في ‏"‏ كتاب القضاء ‏"‏ لأبي علي الكرابيسي أنبأنا الشافعي عن عمه هو محمد بن علي قال دخل ابن شهاب على الوليد بن عبد الملك فسأله عن حديث ‏"‏ إن الله إذا استرعى عبدا الخلافة كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات ‏"‏ فقال له‏:‏ هذا كذب، ثم تلا ‏(‏يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض - إلى قوله - بما نسوا يوم الحساب‏)‏ فقال الوليد‏:‏ إن الناس ليغروننا عن ديننا‏.‏
    (ج13/ ص 142)
    قال صالح جزرة الحافظ‏:‏ لم يقل أحد في روايته عن الزهري عن محمد بن جبير، إلا ما وقع في رواية نعيم بن حماد عن عبد الله بن المبارك ‏"‏ يعني التي ذكرها البخاري عقب هذا ‏"‏ قال صالح‏:‏ ولا أصل له من حديث ابن المبارك، وكانت عادة الزهري إذا لم يسمع الحديث يقول‏:‏ كان فلان يحدث وتعقبه البيهقي بما أخرجه من طريق يعقوب بن سفيان عن حجاج بن أبي منيع الرصافي عن جده عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم، وأخرجه الحسن بن رشيق في فوائده من طريق عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل عن الزهري عن محمد بن جبير‏.‏
    (ج13/ ص 144)
    بن التين، ثم قال ‏"‏ وقد أجمعوا أنه أي الخليفة إذا دعا إلى كفر أو بدعة أنه يقام عليه واختلفوا إذا غصب الأموال وسفك الدماء وانتهك هل يقام عليه أو لا ‏"‏ انتهى‏.‏
    وما ادعاه من الإجماع على القيام فيما إذا دعا الخليفة إلى البدعة مردود، إلا أن حمل على بدعة تؤدي إلى صريح الكفر، وإلا فقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك، ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة فأبطل المحنة وأمر بإظهار السنة‏؟‏ وما نقله من الاحتمال في قوله ‏"‏ ما أقاموا الدين ‏"‏ خلاف ما تدل عليه الأخبار الواردة في ذلك الدالة على العمل بمفهومه أو أنهم إذا لم يقيموا الدين يخرج الأمر عنهم‏.‏
    ( ج13/ ص 145)
    وأخرج أحمد من حديث ذي مخبر بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الموحدة بعدهما راء وهو ابن أخي النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ كان هذا الأمر في حمير فنزعه الله منهم وصيره في قريش وسيعود إليهم ‏"‏ وسنده جيد وهو شاهد قوي لحديث القحطاني، فإن حمير يرجع نسبها إلى قحطان، وبه يقوى أن مفهوم حديث معاوية ما أقاموا الدين أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم، ويؤخذ من بقية الأحاديث أن خروجه عنهم إنما يقع بعد إيقاع ما هددوا به من اللعن أولا وهو الموجب للخذلان وفساد التدبير، وقد وقع ذلك في صدر الدولة العباسية، ثم التهديد بتسليط من يؤذيهم عليهم، ووجد ذلك في غلبة مواليهم بحيث صاروا معهم كالصبي المحجور عليه يقتنع بلذاته ويباشر الأمور غيره، ثم اشتد الخطب فغلب عليهم الديلم فضايقوهم في كل شيء حتى لم يبق للخليفة إلا الخطبة، واقتسم المتغلبون الممالك في جميع الأقاليم، ثم طرأ عليهم طائفة بعد طائفة حتى انتزع الأمر منهم في جميع الأقطار ولم يبق للخليفة إلا مجرد الاسم في بعض الأمصار‏.‏
    (ج13/ ص 146)
    ويحتمل أن يكون بقاء الأمر في قريش في بعض الأقطار دون بعض، فإن بالبلاد اليمنية وهي النجود منها طائفة من ذرية الحسن بن علي لم تزل مملكة تلك البلاد معهم من أواخر المائة الثالثة، وأما من بالحجاز من ذرية الحسن بن علي وهم أمراء مكة وأمراء ينبع ومن ذرية الحسين بن علي وهم أمراء المدينة فإنهم وإن كانوا من صميم قريش لكنهم تحت حكم غيرهم من ملوك الديار المصرية، فبقى الأمر في قريش بقطر من الأقطار في الجملة، وكبير أولئك أي أهل اليمن يقال له الإمام، ولا يتولى الإمامة فيهم إلا من يكون عالما متحريا للعدل‏.‏
    وقال الكرماني‏:‏ لم يخل الزمان عن وجود خليفة من قريش إذ في المغرب خليفة منهم على ما قيل وكذا في مصر‏.‏
    قلت‏:‏ الذي في مصر لا شك في كونه قرشيا لأنه من ذرية العباس، والذي في صعدة وغيرها من اليمن لا شك في كونه قرشيا لأنه من ذرية الحسين ابن علي، وأما الذي في المغرب فهو حفصي من ذرية أبي حفص صاحب ابن تومرت وقد انتسبوا إلى عمر بن الخطاب وهو قرشي‏.‏
    ولحديث ابن عمر شاهد من حديث ابن عباس أخرجه البزار بلفظ ‏"‏ لا يزال هذا الدين واصبا ما بقي من قريش عشرون رجلا ‏"‏ وقال النووي‏:‏ حكم حديث ابن عمر مستمر إلى يوم القيامة ما بقي من الناس اثنان، وقد ظهر ما قاله صلى الله عليه وسلم فمن زمنه إلى الآن لم تزل الخلافة في قريش من غير مزاحمة لهم على ذلك، ومن تغلب على الملك بطريق الشركة لا ينكر أن الخلافة في قريش وإنما يدعي أن ذلك بطريق النيابة عنهم انتهى‏.‏
    وقد أورد عليه أن الخوارج في زمن بني أمية تسموا بالخلافة واحدا بعد واحد ولم يكونوا من قريش، وكذلك ادعى الخلافة بنو عبيد وخطب لهم بمصر والشام والحجاز ولبعضهم بالعراق أيضا وأزيل الخلافة ببغداد قدر سنة، وكانت مدة بني عبيد بمصر سوى ما تقدم لهم بالمغرب تزيد على مائتي سنة، وادعى الخلافة عبد المؤمن صاحب ابن تومرت وليس بقرشي وكذلك كل من جاء بعده بالمغرب إلى اليوم، والجواب عنه أما عن بني عبيد فإنهم كانوا يقولون إنهم من ذرية الحسين بن علي ولم يبايعوه إلا على هذا الوصف، والذين أثبتوا نسبتهم ليسوا بدون من نفاه، وأما سائر من ذكر ومن لم يذكر فهم من المتغلبين وحكمهم حكم البغاة فلا عبرة بهم وقال القرطبي‏:‏ هذا الحديث خبر عن المشروعية أي لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقرشي مهما وجد منهم أحد، وكأنه جنح إلى أنه خبر بمعنى الأمر، وقد ورد الأمر بذلك في حديث جبير بن مطم رفعه ‏"‏ قدموا قريشا ولا تقدموها ‏"‏ أخرجه البيهقي
    (ج13/ ص 147)
    لى هذا ذهب جمهور أهل العلم أن شرط الإمام أن يكون قرشيا، وقيد ذلك طوائف ببعض قريش فقالت طائفة لا يجوز إلا من ولد علي وهذا قول الشيعة ثم اختلفوا اختلافا شديدا في تعيين بعض ذرية علي‏.‏
    وقالت طائفة يختص بولد العباس وهو قول أبي مسلم الخراساني وأتباعه‏.‏
    ونقل ابن حزم أن طائفة قالت‏:‏ لا يجوز إلا في ولد جعفر بن أبي طالب وقالت أخرى في ولد عبد المطلب، وعن بعضهم لا يجوز إلا في بني أمية، وعن بعضهم لا يجوز إلا في ولد عمر، قال ابن حزم ولا حجة لأحد من هؤلاء الفرق‏.‏
    وقالت الخوارج وطائفة من المعتزلة‏:‏ يجوز أن يكون الإمام غير قرشي، وإنما يستحق الإمامة من قام بالكتاب والسنة سواء كان عربيا أم عجميا، وبالغ ضرار ابن عمرو فقال‏:‏ تولية غير القرشي أولى لأنه يكون أقل عشيرة فإذا عصى كان أمكن لخلعه‏.‏
    وقال أبو بكر ابن الطيب‏:‏ لم يعرج المسلمون على هذا القول بعد ثبوت حديث ‏"‏ الأئمة من قريش ‏"‏ وعمل المسلمون به قرنا بعد قرن وانعقد الإجماع على اعتبار ذلك قبل أن يقع الاختلاف‏.‏
    قلت‏:‏ قد عمل بقول ضرار من قبل أن يوجد من قام بالخلافة من الخوارج على بني أمية كقطري بفتح القاف والطاء المهملة ودامت فتنتهم حتى أبادهم المهلب بن أبي صفرة أكثر من عشرين سنة، وكذا تسمى بأمير المؤمنين من غير الخوارج ممن قام على الحجاج كابن الأشعث، ثم تسمى بالخلافة من قام في قطر من الأقطار في وقت ما فتسمى بالخلافة وليس من قريش كبني عباد وغيرهم بالأندلس كعبد المؤمن وذريته ببلاد المغرب كلها، وهؤلاء ضاهوا الخوارج في هذا ولم يقولوا بأقوالهم ولا تمذهبوا بآرائهم بل كانوا من أهل السنة داعين إليها‏.‏
    قال عياض‏:‏ اشتراط كون الإمام قرشيا مذهب العلماء كافة وقد عدوها في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها خلاف وكذلك من بعدهم في جميع الأمصار، قال‏:‏ ولا اعتداد بقول الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة لما فيه من مخالفة المسلمين‏.‏
    قلت‏:‏ ويحتاج من نقل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر من ذلك، فقد أخرج أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال ‏"‏ إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ فإن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل ‏"‏ الحديث ومعاذ بن جبل أنصاري لا نسب له في قريش، فيحتمل أن يقال‏:‏ لعل الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيا أو تغير اجتهاد عمر في ذلك والله أعلم، وأما ما احتج به من لم يعين الخلافة في قريش من تأمير عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة وأسامة وغيرهم في الحروب فليس من الإمامة العظمى في شيء، بل فيه أنه يجوز للخليفة استنابة غير القرشي في حياته والله أعلم
    (ج13/ ص 148)
    قال عياض‏:‏ ولا حجة فيها لأن المراد بالأئمة في هذه الأحاديث الخلفاء، وإلا فقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم سالما مولى أبي حذيفة في إمامة الصلاة ووراءه جماعة من قريش، وقدم زيد بن حارثة وابنه أسامة ابن زيد ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص في التأمير في كثير من البعوث والسرايا ومعهم جماعة من قريش‏.‏
    وتعقبه النووي وغيره بأن في الأحاديث ما يدل على أن للقرشي مزية على غيره، فيصح الاستدلال به لترجيح الشافعي على غيره، وليس مراد المستدل به أن الفضل لا يكون إلا للقرشي بل المراد أن كونه قرشيا من أسباب الفضل والتقدم كما أن من أسباب الفضل والتقدم الورع والفقه والقراءة والسن وغيرها، فالمستويان في جميع الخصال إذا اختص أحدهما بخصلة منها دون صاحبه ترجح عليه فيصح الاستدلال على تقديم الشافعي على من ساواه في العلم والدين من غير قريش لأن الشافعي قرشي، وعجب قول القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ بعد أن ذكر ما ذكره عياض‏:‏ أن المستدل بهذه الأحاديث على ترجيح الشافعي صحبته غفلة قارنها من صميم التقليد طيشه، كذا قال ولعل الذي أصابته الغفلة من لم يفهم مراد المستدل والعلم عند الله تعالى‏.‏
    (ج13/ ص 154)
    قال المهلب‏:‏ وفي معنى الإكراه عليه أن يدعي إليه فلا يرى نفسه أهلا لذلك هيبة له وخوفا من الوقوع في المحذور فإنه يعان عليه إذا دخل فيه، ويسدد؛ والأصل فيه أن من تواضع لله رفعه الله‏.‏
    وقال ابن التين‏:‏ هو محمول على الغالب، وإلا فقد قال يوسف ‏(‏اجعلني على خزائن الأرض‏)‏ وقال سليمان ‏(‏وهب لي ملكا‏)‏ قال‏:‏ ويحتمل أن يكون في غير الأنبياء‏.‏
    (ج13/ ص 156)
    وفي الطبراني الأوسط من رواية شريك عن عبد الله ابن عيسى عن أبي صالح عن أبي هريرة قال شريك‏:‏ لا أدري رفعه أم لا ‏"‏ قال ‏"‏ ‏"‏ الإمارة أولها ندامة، وأوسطها غرامة، وآخرها عذاب يوم القيامة ‏"‏ وله شاهد من حديث شداد بن أوس رفعه بلفظ ‏"‏ أولها ملامة وثانيها ندامة ‏"‏ أخرجه الطبراني وعند الطبراني من حديث زيد بن ثابت رفعه ‏"‏ نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها، وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها تكون عليه حسرة يوم القيامة ‏"‏ وهذا يقيد ما أطلق في الذي قبله، ويقيده أيضا ما أخرج مسلم عن أبي ذر قال ‏"‏ قلت يا رسول الله ألا تستعملني‏؟‏ قال‏:‏ إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ‏"‏ قال النووي‏:‏ هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية ولا سيما لمن كان فيه ضعف‏.‏
    وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزي بالخزي يوم القيامة، وأما من كان أهلا وعدل فيها فأجره عظيم كما تظاهرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها والله أعلم‏.‏
    (ج13/ ص 156)
    ‏(‏فنعم المرضعة وبئست الفاطمة‏)‏ قال الدوادي‏:‏ نعم المرضعة أي الدنيا، وبئست الفاطمة أي بعد الموت، لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك، فهو كالذي يفطم قبل أن يستغنى فيكون في ذلك هلاكه‏.‏
    وقال غيره‏:‏ نعم المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها، وبئست الفاطمة عند الانفصال عنها بموت أو غيره وما يترتب عليها التبعات في الآخرة‏.‏
    (ج13/ ص 159)
    قال القاضي البيضاوي‏:‏ فلا ينبغي لعاقل أن يفرح بلذة يعقبها حسرات، قال المهلب‏:‏ الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء واستبيحت الأموال والفروج وعظم الفساد في الأرض بذلك ووجه الندم أنه قد يقتل أو يعزل أو يموت فيندم على الدخول فيها لأنه يطالب بالتبعات التي ارتكبها وقد فاته ما حرص عليه بمفارقته، قال‏:‏ ويستثنى من ذلك من تعين عليه كأن يموت الوالي ولا يوجد بعده من يقوم بالأمر غيره، وإذا لم يدخل في ذلك يحصل الفساد بضياع الأحوال‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا لا يخالف ما فرض في الحديث الذي قبله من الحصول بالطلب أو بغير طلب بل في التعبير بالحرص إشارة إلى أن من قام بالأمر عند خشية الضياع يكون كمن أعطى بغير سؤال لفقد الحرص غالبا عمن هذا شأنه‏.‏
    وقد يغتفر الحرص في حق من تعين عليه لكونه يصير واجبا عليه، وتولية القضاء على الإمام فرض عين وعلى القاضي فرض كفاية إذا كان هناك غيره‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ هذا وعيد شديد على أئمة الجور فمن ضيع من استرعاه الله أو خانهم أو ظلمهم فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد ‏"‏ يوم القيامة ‏"‏ فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة ومعنى ‏"‏ حرم الله عليه الجنة ‏"‏ أي أنفذ الله عليه الوعيد ولم يرض عنه المظلومين‏.‏
    ونقل ابن التين عن الداودي نحوه قال‏:‏ ويحتمل أن يكون هذا في حق الكافر لأن المؤمن لا بد له من نصيحة‏.‏
    قلت‏:‏ وهو احتمال بعيد جدا، والتعليل مردود، فالكافر أيضا قد يكون ناصحا فيما تولاه ولا يمنعه ذلك الكفر‏.‏
    (ج13/ ص 162)
    ووقع عند الطبراني من طريق ليث بن أبي سليم عن صفوان بن محرز عن جندب بن عبد الله أنه مر بقوم فقال‏:‏ ائتني بنفر من قراء القرآن وليكونوا شيوخا، قال فأتيته بنافع بن الأزرق وأبي بلال مرداس ونفر معهما ستة أو ثمانية فقال‏:‏ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الحديث‏.‏
    قلت‏:‏ وأخرجه أيضا من طريق الأعمش عن أبي تميمة أنه انطلق مع جندب إلى البصرة فقال‏:‏ هل كنت تدارس أحدا القرآن‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، قال فائتني بهم، قال فأتيته بنافع وأبي بلال مرداس ونجدة وصالح بن مشرح فأنشأ يحدث‏.‏
    قلت‏:‏ وهؤلاء الأربعة من رءوس الخوارج الذين خرجوا إلى مكة لنصر ابن الزبير لما جهز إليه يزيد ابن معاوية الجيوش فشهدوا معه الحصار الأول، فلما جاءهم الخبر بموت يزيد بن معاوية سألوا ابن الزبير عن قوله في عثمان فأثنى عليه فغضبوا وفارقوه، فحجوا‏.‏
    وخرج نجدة باليمامة فغلب عليها وعلى بعض بلاد الحجاز، وخرج نافع بن الأزرق بالعراق فدامت فتنته مدة‏.‏
    وأما أبو بلال مرداس فكان خرج على عبيد الله ابن زياد قبل ذلك فقتله‏.‏
    (ج13/ ص 165)
    قال ابن التين‏:‏ لعل سبب سؤال الرجل عن الساعة إشفاقا مما يكون فيها، ولو سأل استعجالا لدخل في قوله تعالى ‏(‏يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها‏)‏ وقوله ‏"‏ كبير عمل ‏"‏ بالموحدة للأكثر وبالمثلثة لبعضهم؛ قال ابن بطال‏:‏ في حديث أنس جواز سكوت العالم عن جواب السائل والمستفتي إذا كانت المسألة لا تعرف، أو كانت مما لا حاجة بالناس إليها، أو كانت مما يخشى منها الفتنة‏.‏
    أو سوء التأويل‏.‏
    ونقل عن المهلب الفتيا في الطريق وعلى الدابة، ونحو ذلك من التواضع، فإن كانت لضعيف فهو محمود وإن كانت لرجل من أهل الدنيا أو لمن يخشى لسانه فهو مكروه‏.‏
    (ج13/ ص 168)
    وقد اختلف في مشروعية الحجاب للحكام فقال الشافعي وجماعة‏:‏ ينبغي للحاكم أن لا يتخذ حاجبا، وذهب آخرون إلى جوازه، وحمل الأول على زمن سكون الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم‏.‏
    وقال آخرون‏:‏ بل يستحب ذلك حينئذ ليرتب الخصوم ويمنع المستطيل ويدفع الشرير، ونقل ابن التين عن الداودي قال‏:‏ الذي أحدثه بعض القضاة من شدة الحجاب وإدخال بطائق الخصوم لم يكن من فعل السلف انتهى‏.‏
    فأما اتخاذ الحاجب فقد ثبت في قصة عمر في منازعة العباس وعلى أنه كان له حاجب يقال له يرفا ومضى ذلك في فرض الخمس واضحا‏.‏
    ومنهم من قيد جوازه بغير وقت جلوسه للناس لفصل الأحكام‏.‏
    ومنهم من عمم الجواز كما مضى‏.‏
    وأما البطائق فقال ابن التين‏:‏ إن كان مراده البطائق التي فيها الإخبار بما جرى فصحيح، يعني أنه حادث قال‏:‏ وأما البطائق التي تكتب للسبق ليبدأ بالنظر خصومة من سبق فهو من العدل في الحكم‏.‏
    وقال غيره‏:‏ وظيفة البواب أو الحاجب أن يطالع الحاكم بحال من حضر ولا سيما من الأعيان ‏"‏ لاحتمال أن يجيء مخاصما والحاكم يظن أنه جاء زائرا فيعطيه حقه من الإكرام الذي لا يجوز لمن يجيء مخاصما ‏"‏ وإيصال الخبر للحاكم بذلك إما بالمشافهة وإما بالمكاتبة ويكره دوام الاحتجاب وقد يحرم فقد أخرج أبو داود والترمذي بسند جيد عن أبي مريم الأسدي أنه قال لمعاوية ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من ولاه الله من أمر الناس شيئا فاحتجب عن حاجتهم احتجب الله عن حاجته يوم القيامة ‏"‏ وفي هذا الحديث وعيد شديد لمن كان حاكما بين الناس فاحتجب عنهم لغير عذر، لما في ذلك من تأخير إيصال الحقوق أو تضييعها‏.‏
    واتفق العلماء على أنه يستحب تقديم الأسبق فالأسبق والمسافر على المقيم ولا سيما إن خشي فوات الرفقة، وأن من اتخذ بوابا أو حاجبا أن يتخذه ثقة عفيفا أمينا عارفا حسن الأخلاق غارفا بمقادير الناس‏.‏
    (ج13/ ص 171)
    ال الشافعي في ‏"‏ الأم ‏"‏‏:‏ أكره للحاكم أن يحكم وهو جائع أو تعب أو مشغول القلب فإن ذلك يغير القلب‏"‏‏.‏
    ‏(‏فرع‏)‏ ‏:‏ لو خالف فحكم في حال الغضب صح إن صادف الحق مع الكراهة، هذا قول الجمهور، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قضى للزبير بشراج الحرة بعد أن أغضبه خصم الزبير، لكن لا حجة فيه لرفع الكراهة عن غيره لعصمته صلى الله عليه وسلم فلا يقول في الغضب إلا كما يقول في الرضا‏.‏
    قال النووي في حديث اللقطة‏:‏ ‏"‏ فيه جواز الفتوى في حال الغضب ‏"‏ وكذلك الحكم وينفذ ولكنه مع الكراهة في حقنا ولا يكره في حقه صلى الله عليه وسلم لأنه لا يخاف عليه في الغضب ما يخاف على غيره، وأبعد من قال‏:‏ يحمل على أنه تكلم في الحكم قبل وصوله في الغضب إلى تغير الفكر، ويؤخذ من الإطلاق أنه لا فرق بين مراتب الغضب ولا أسبابه، وكذا أطلقه الجمهور، وفصل إمام الحرمين والبغوي فقيدا الكراهة بما إذا كان الغضب لغير الله، واستغرب الروياني هذا التفصيل واستبعده غيره لمخالفته لظواهر الحديث وللمعنى الذي لأجله نهى عن الحكم حال الغضب‏.‏
    وقال بعض الحنابلة لا ينفذ الحكم في حالة الغضب لثبوت النهي عنه والنهي يقضي الفساد ‏"‏ وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثر وإلا فهو محل الخلاف، وهو تفصيل معتبر ‏"‏ وقال ابن المنير‏:‏ أدخل البخاري حدث أبي بكرة الدال على المنع ثم حديث أبي مسعود الدال على الجواز تنبيها منه على طريق الجمع بأن يجعل الجواز خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لوجود العصمة في حقه والأمن من التعدي، أو أن غضبه إنما كان للحق فمن كان في مثل حاله جاز وإلا منع، وهو كما قيل في شهادة العدو إن كانت دنيوية ردت وإن كانت دينية لم ترد قاله ابن دقيق العبد وغيره‏.‏
    (ج13/ ص 176)
    ‏(‏وقال معاوية بن عبد الكريم الثقفي‏)‏ هو المعروف بالضال بضاد معجمة ولام ثقيلة، سمى بذلك لأنه ضل في طريق مكة، قاله عبد الغني بن سعيد المصري، ووثقه أحمد وابن معين وأبو داود والنسائي، ومات سنة ثمانين ومائة، وكان معمرا أدرك أبا رجاء العطاردي
    (ج13/ ص 177)
    محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة وإمامها، وليها في زمن يوسف بن عمر الثقفي في خلافة الوليد بن يزيد ومات سنة ثمان وأربعين ومائة وهو صدوق، اتفقوا على ضعف حديثه من قبل سوء حفظه‏.‏
    وقال الساجي‏:‏ كان يمدح في قضائه، فإما في الحديث فليس بحجة‏.‏
    وقال أحمد‏:‏ فقه ابن أبي ليلى أحب إلي من حديثه، وحديثه في السنن الأربعة، وأغفل المزي أن يعلم له في ‏"‏ التهذيب ‏"‏ علامة تعليق البخاري، كما أغفل أن يترجم لسوار بن عبد الله المذكور بعده أصلا مع أنه أعلم لكل من ذكره معاوية بن عبد الكريم هنا ممن لم يخرج له شيئا موصولا‏.‏
    (ج13/ ص 179)
    فقال ابن بطال‏:‏ اتفق العلماء على أن الشهادة لا تجوز للشاهد إذا رأى خطه إلا إذا تذكر تلك الشهادة، فإن كان لا يحفظها فلا يشهد، فإنه من شاء انتقش خاتما ومن شاء كتب كتابا، وقد فعل مثله في أيام عثمان في قصة مذكورة في سبب قتله، وقد قال الله تعالى ‏(‏إلا من شهد بالحق وهم يعلمون‏)‏ وأجاز مالك الشهادة على الخط، ونقل ابن شعبان عن ابن وهب أنه قال‏:‏ لا آخذ بقول مالك في ذلك‏.‏
    وقال الطحاوي‏:‏ خالف مالكا جميع الفقهاء في ذلك وعدوا قوله في ذلك شذوذا، لأن الخط قد يشبه الخط، وليست شهادة على قول منه ولا معاينة‏.‏
    وقال محمد بن الحارث‏:‏ الشهادة على الخط خطأ، فقد قال مالك في رجل قال‏:‏ سمعت فلانا يقول رأيت فلانا قتل فلانا أو طلق امرأته أو قذف‏:‏ لا يشهد على شهادته إلا أن أشهده‏.‏
    قال‏:‏ فالخط أبعد من هذا وأضعف، قال‏:‏ والشهادة على الخط في الحقيقة استشهاد الموتى‏.‏
    وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم‏:‏ لا يقضي في دهرنا بالشهادة على الخط، لأن الناس قد أحدثوا ضروبا من الفجور‏.‏
    وقد قال مالك‏:‏ يحدث للناس أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور‏.‏
    وقد كان الناس فيما مضى يجيزون الشهادة على خاتم القاضي ثم رأى مالك أن ذلك لا يجوز فهذه أقوال الجماعة من أئمة المالكية توافق الجمهور‏.‏
    وقال أبو علي الكرابيسي في ‏"‏ كتاب أدب القضاء ‏"‏ له أجاز الشهادة على الخط قوم لا نظر لهم، فإن الكتاب يشبهون الخط بالخط حتى يشكل ذلك على أعلمهم انتهى
    وإذا كان هذا في ذلك العصر فكيف بمن جاء بعدهم وهم أكثر مسارعة إلى الشر ممن مضى وأدق نظرا فيه وأكثر هجوما عليه
    وأما الحكم الثاني فقال ابن بطال‏:‏ اختلفوا في ‏"‏ كتب القضاة ‏"‏ فذهب الجمهور إلى الجواز، واستثنى الحنفية الحدود، وهو قول الشافعي، والذي احتج به البخاري على الحنفية قوي لأنه لم يصر مالا إلا بعد ثبوت القتل قال‏:‏ وما ذكره عن القضاة من التابعين من إجازة ذلك حجتهم فيه ظاهرة من الحديث، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى الملوك ولم ينقل أنه أشهد أحدا على كتابه‏.‏
    قال‏:‏ ثم أجمع فقهاء الأمصار على ما ذهب إليه سوار وابن أبي ليلى من اشتراط الشهود لما دخل الناس من الفساد فاحتيط للدماء والأموال‏.‏
    (ج13/ ص 181)
    قال أبو علي الكرابيسي صاحب الشافعي في ‏"‏ كتاب آداب القضاء ‏"‏ له‏:‏ لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافا أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه وعلمه وورعه، قارئا لكتاب الله، عالما بأكثر أحكامه، عالما بسنن رسول الله حافظا لأكثرها، وكذا أقوال الصحابة، عالما بالوفاق والخلاف وأقوال فقهاء التابعين يعرف الصحيح من السقيم يتبع في النوازل الكتاب فإن لم يجد فالسنن فإن لم يجد عمل بما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن ثم بالسنة ثم بفتوى أكابر الصحابة عمل به؛ ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم والمشاورة لهم مع فضل وورع، ويكون حافظا للسانه وبطنه وفوجه، فهما بكلام الخصوم، ثم لا بد أن يكون عاقلا مائلا عن الهوى ثم قال‏:‏ وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم‏.‏
    وقال المهلب‏:‏ لا يكفي في استحباب القضاء أن يرى نفسه أهلا لذلك بل أن يراه الناس أهلا لذلك‏.‏
    وقال ابن حبيب عن مالك ‏"‏ لا بد أن يكون القاضي عالما عاقلا‏"‏‏.‏
    قال ابن حبيب فإن لم يكن علم فعقل وورع، لأنه بالورع يقف وبالعقل يسأل، وهو إذا طلب العلم وجده وإذا طلب العقل لم يجده‏.‏
    قال ابن العربي‏:‏ واتفقوا على أنه لا يشترط أن يكون غنيا، والأصل قوله تعالى ‏(‏ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم‏)‏ الآية‏.‏
    اتفقوا على اشتراط الذكورية في القاضي إلا عن الحنفية، واستثنوا الحدود، وأطلق ابن جرير، وحجة الجمهور الحديث الصحيح ‏"‏ ما أفلح قوم ولوا أمورهم امرأة ‏"‏ وقد تقدم؛ ولأن القاضي يحتاج إلى كمال الرأي ورأي المرأة ناقص ولا سيما في محافل الرجال‏.‏
    (ج13/ ص 183)
    والأصح في الواقعة أن داود أصاب الحكم وسليمان أرشد إلى الصلح، ولا يخلو قوله تعالى ‏(‏وكلا آتينا حكما وعلما‏)‏ أن يكون عاما أو في واقعة الحرث فقط ‏"‏ وعلى التقديرين يكون أثنى على داود فيها بالحكم والعلم فلا يكون من قبيل عذر المجتهد إذا أخطأ، لأن الخطأ ليس حكما ولا علما وإنما هو ظن غير مصيب ‏
    وقد وقع لعمر رضي الله عنه قريب مما وقع لسليمان، وذلك أن بعض الصحابة مات وخلف مالا له نماء وديونا، فأراد أصحاب الديون بيع المال في وفاء الدين لهم فاسترضاهم عمر بأن يؤخروا التقاضي حتى يقبضوا ديونهم من النماء ويتوفر لأيتام المتوفي أصل المال؛ فاستحسن ذلك من نظره‏.‏
    ولو أن الخصوم امتنعوا لما منعهم من البيع‏.‏
    وعلى هذا التفصيل يمكن تنزيل قصة أصحاب الحرث والغنم والله أعلم‏.‏
    القصة التي وقعت لداود وسليمان في المرأتين اللتين أخذ الذئب ابن إحداهما واختلاف حكم داود وسليمان في ذلك، وتوجيه حكم داود بما يقرب مما ذكر هنا في هذه القصة ووقعت لهما قصة ثالثة في التفرقة بين الشهود في قصة المرأة التي اتهمت بأنها تحمل على نفسها فشهد عليها أربعة بذلك، فأمر داود برجمها، فعمد سليمان وهو غلام فصور مثل قصتها بين الغلمان ثم فرق بين الشهود وامتحنهم فتخالفوا فدرأ عنها، ووقعت لهما رابعة في قصة المرأة التي صب في دبرها ماء البيض وهي نائمة، وقيل إنها زنت فأمر داود برجمها، فقال سليمان‏:‏ يشوي ذلك الماء فإن اجتمع فهو بيض، وإلا فهو مني، فشوى فاجتمع‏.‏
    وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن مسروق قال‏:‏ كان حرثهم عنبا نفشت فيه الغنم أي رعت ليلا، فقضى داود بالغنم لهم، فمروا على سليمان فأخبروه الخبر فقال سليمان‏:‏ لا، ولكن أقضي بينهم أن يأخذوا الغنم فيكون لهم لبنها وصوفها ومنفعتها ويقوم هؤلاء على حرثهم، حتى إذا عاد كان ردوا عليهم غنمهم‏.‏
    أخرجه الطبري من وجه آخر لين فقال‏:‏ فيه عن مسروق عن ابن مسعود وأخرجه ابن مردويه والبيهقي من وجه آخر عن ابن مسعود وسنده حسن، وعن معمر عن قتادة‏:‏ قضى داود أن يأخذوا الغنم، ففهمها الله سليمان فقال‏:‏ خذوا الغنم فلكم ما خرج من رسلها وأولادها وصوفها إلى الحول‏.‏
    وأخرج عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث، فحكم سليمان بجزة الغنم وألبانها لأهل الحرث وعليهم رعايتها ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون كهيئة يوم أكل، ثم يدفع لأهله ويأخذون غنمهم‏.‏
    (ج13/ ص 185)
    أخرجه أيضا محمد بن سعد في الطبقات عن محمد ابن عبد الله الأسدي هو أحمد الزبيري عن سفيان هو الثوري عن يحيى بن سعيد عن عمر بن عبد العزيز قال‏:‏ لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيا حتى يكون فيه خمس خصال‏:‏ ‏"‏ عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الرأي، لا يبالي، بملامة الناس ‏"‏ وجاء في استحباب الاستشارة آثار جياد‏.‏
    وأخرج يعقوب بن سفيان بسند جيد عن الشعبي قال‏:‏ من سره أن يأخذ بالوثيقة من القضاء فليأخذ بقضاء عمر، فإنه كان يستشير‏.
    (ج13/ ص 186)‏
    وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا
    قال الطبري‏:‏ ذهب الجمهور إلى جواز أخذ القاضي الأجرة على الحكم لكونه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه، غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك ولم يحرموه مع ذلك‏.‏
    وقال أبو علي الكرابيسي‏:‏ لا بأس للقاضي أن يأخذ الرزق على القضاء عند أهل العلم قاطبة من الصحابة ومن بعدهم، وهو قول فقهاء الأمصار لا أعلم بينهما اختلافا، وقد كره ذلك قوم منهم مسروق ولا أعلم أحدا منهم حرمه‏.‏
    وقال المهلب‏:‏ وجه الكراهة أنه في الأصل محمول على الاحتساب لقوله تعالى لنبيه ‏(‏قل لا أسألكم عليه أجرا‏)‏ فأرادوا أن يجري الأمر فيه على الأصل الذي وضعه الله لنبيه، ولئلا يدخل فيه من لا يستحقه فيتحيل على أموال الناس‏.‏
    وقال غيره‏:‏ أخذ الرزق على القضاء إذا كانت جهة الأخذ من الحلال جائزا إجماعا، ومن تركه إنما تركه تورعا، وأما إذا كانت هناك شبهة فالأولى الترك جزما، ويحرم إذا كان المال يؤخذ لبيت المال من غير وجهه، واختلف إذا كان الغالب حراما‏:‏ وأما من غير بيت المال ففي جواز الأخذ من المتحاكمين خلاف، ومن أجازه شرط فيه شروطا لا بد منها، وقد جر القول بالجواز إلى إلغاء الشروط، وفشا ذلك في هذه الأعصار بحيث تعذر إزالة ذلك والله المستعان‏.‏
    (ج13/ ص 188)
    (‏إن حويطب بن عبد العزى‏)‏ أي ابن أبي قيس بن عبد شمس القرشي العامري، كان من أعيان قريش‏.‏
    وأسلم في الفتح، وكان حميد الإسلام، وكانت وفاته بالمدينة سنة أربع وخمسين من الهجرة وهو ابن مائة وعشرين سنة؛ وهو ممن أطلق عليه أنه عاش ستين في الجاهلية وستين في الإسلام تجوزا، ولا يتم ذلك تحقيقا لأنه إن أريد بزمان الإسلام أول البعثة فيكون عاش فيها سبعا وستين، أو الهجرة فيكون عاش فيه أربعا وخمسين، أو زمن إسلامه هو فيكون ستا وأربعين، والأول أقرب إلى الإطلاق على طريقة جبر الكسر تارة وإلغائه أخرى‏.‏
    ( ج13/ ص 188)
    قال النووي‏:‏ فيه النهي عن السؤال، وقد اتفق العلماء على النهي عنه لغير الضرورة، واختلف في مسألة القادر على الكسب والأصح التحريم، وقيل يباح بثلاث شروط‏:‏ أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسئول، فإن فقد شرط من هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق
    (ج13/ ص 191)
    ان ابن عمر لا يسأل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أعطيه ‏"‏ قلت‏:‏ وهذا بعمومه ظاهر في أنه كان لا يرد ما فيه شبهة، وقد ثبت أنه كان يقبل هدايا المختار بن أبي عبيد الثقفي وهو أخو صفية زوج ابن عمر بنت أبي عبيد، وكان المختار غلب على الكوفة وطرد عمال عبد الله ابن الزبير وأقام أميرا عليها مدة في غير طاعة خليفة وتصرف فيما يتحصل منها من المال على ما يراه، ومع ذلك فكان ابن عمر يقبل هداياه وكان مستنده أن له حقا في بيت المال فلا يضره على أي كيفية وصل إليه، أو كان يرى أن التبعة في ذلك على الآخذ الأول، أو أن للمعطى المذكور مالا آخر في الجملة وحقا ما في المال المذكور، فلما لم يتميز وأعطاه له عن طيب نفس دخل في عموم قوله ‏"‏ ما أتاك من هذا المال من غير سؤال ولا استشراف فخذه ‏"‏ فرأى أنه لا يستثني من ذلك إلا ما علمه حراما محضا قال الطبري‏:‏ في حديث عمر الدليل الواضح على أن لمن شغل بشيء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك كالولاة والقضاة وجباة الفيء وعمال الصدقة وشبههم، لإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر العمالة على عمله، وذكر ابن المنذر أن زيد بن ثابت كان يأخذ الأجر على القضاء، واحتج أبو عبيد في جواز ذلك بما فرض الله للعاملين على الصدقة وجعل لهم منها حقا لقيامهم وسعيهم فيها، وحكى الطبري عن العلماء هل الأمر في قوله في هذا الحديث ‏"‏ خذه وتموله ‏"‏ للوجوب أو للندب، ثالثها إن كانت العطية من السلطان فهي حرام أو مكروهة أو مباحة، وإن كانت من غيره فمستحبة‏.‏
    قال النووي‏:‏ والصحيح أنه إن غلب الحرام حرمت، وكذا إن كان مع عدم الاستحقاق وإن لم يغلب الحرام وكان الآخذ مستحقا فيباح، وقيل يندب في عطية السلطان دون غيره والله أعلم‏.‏
    وقال ابن المنذر‏:‏ وحديث ابن السعدي حجة في جواز أرزاق القضاة من وجوهها‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ في الحديث أن أخذ ما جاء من المال عن غير سؤال أفضل من تركه لأنه يقع في إضاعة المال، وقد ثبت النهي عن ذلك‏.‏
    وتعقبه ابن المنير بأنه ليس من الإضاعة في شيء لأن الإضاعة التبذير بغير وجه صحيح، وأما الترك توفيرا على المعطى تنزيها عن الدنيا وتحرجا أن لا يكون قائما بالوظيفة على وجهها فليس من الإضاعة‏.‏
    ثم قال‏:‏ والوجه في تعليل الأفضلية أن الآخذ أعون في العمل وألزم للنصيحة من التارك، لأنه إن لم يأخذ كان عند نفسه متطوعا بالعمل فقد لا يجد جد من أخذ ركونا إلى أنه غير ملتزم بخلاف الذي يأخذ فإنه يكون مستشعرا بأن العمل واجب عليه فيجد جد فيها وقال ابن التين‏:‏ وفي هذا الحديث كراهة أخذ الرزق على القضاء مع الاستغناء وأن المال طيبا،
    (ج13/ ص 191)
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ فيه ذم التطلع إلى ما في أيدي الأغنياء والتشوف إلى فضوله وأخذه منهم، وهي حالة مذمومة تدل على شدة الرغبة في الدنيا والركون إلى التوسع فيها، فنهى الشارع عن الأخذ على هذه الصورة المذمومة قمعا للنفس ومخالفة لها في هواها انتهى‏.‏
    (ج13/ ص 193)
    قال ابن بطال‏:‏ استحب القضاء في المسجد طائفة‏.‏
    وقال مالك هو الأمر القديم، لأنه يصل إلى القاضي فيه المرأة والضعيف، وإذا كان في منزله لم يصل إليه الناس لإمكان الاحتجاب قال‏:‏ وبه قال أحمد وإسحاق‏:‏ وكرهت ذلك طائفة، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى القاسم بن عبد الرحمن أن لا تقضي في المسجد فإنه يأتيك الحائض والمشرك‏.‏
    قال الكرابيسي‏:‏ كره بعضهم الحكم في المسجد من أجل أنه قد يكون الحكم بين مسلم ومشرك فيدخل المشرك المسجد، قال ودخول المشرك المسجد مكروه، ولكن الحكم بينهم لم يزل من صنيع السلف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ وحديث سهل بن سعد حجة للجواز، وإن كان الأولى صيانة المسجد‏.‏
    وقد قال مالك‏:‏ كان من مضى يجلسون في رحاب المسجد إما في موضع الجنائز وإما في رحبة دار مروان، قال‏:‏ وإني لأستحب ذلك في الأمصار ليصل إليه اليهودي والنصراني والحائض والضعيف، وهو أقرب إلى التواضع وقال ابن المنير لرحبة المسجد حكم المسجد إلا إن كانت منفصلة عنه والذي يظهر أنها كانت منفصلة عنه، ويمكن أن يكون جلوس القاضي في الرحبة المتصلة وقيام الخصوم خارجا عنها أو في الرحبة المتصلة، وكأن التابعي المذكور يرى أن الرحبة لا تعطى حكم المسجد ولو اتصلت بالمسجد، وهو خلاف مشهور، فقد وقع للشافعية في حكم رحبة المسجد اختلاف في التعريف مع اتفاقهم على صحة صلاة من في الرحبة المتصلة بالمسجد بصلاة من في المسجد قال‏:‏ والفرق بين الحريم والرحبة أن لكل مسجد حريما وليس لكل مسجد رحبة، فالمسجد الذي يكون أمامه قطعة من البقعة هي الرحبة وهي التي لها حكم المسجد‏.‏
    لحريم هو الذي يحيط بهذه الرحبة وبالمسجد، وإن كان سور المسجد محيطا بجميع البقعة فهو مسجد بلا رحبة ولكن له حريم كالدور انتهى ملخصا‏
    قد يفرق حكم الرحبة من المسجد في جواز اللغط ونحوه فيها بخلاف المسجد مع إعطائها حكم المسجد في الصلاة فيها، فقد أخرج مالك في الموطأ من طريق سالم بن عبد الله بن عمر قال ‏"‏ بنى عمر إلى جانب المسجد رحبة فسماها البطحاء فكان يقول‏:‏ من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوتا فليخرج إلى هذه الرحبة‏"‏‏.‏
    أما أثر عمر فوصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق كلاهما من طريق طارق بن شهاب قال ‏"‏ أتي عمر بن الخطاب برجل في حد فقال‏:‏ أخرجاه من المسجد ثم اضرباه ‏"‏ وسنده على شرط الشيخين
    قال ابن بطال‏:‏ ذهب إلى المنع من إقامة الحدود في المسجد الكوفيون والشافعي وأحمد وإسحاق، وأجازه الشعبي وابن أبي ليلى‏.‏
    وقال مالك‏:‏ لا بأس بالضرب بالسياط اليسيرة، فإذا كثرت الحدود فليكن ذلك خارج المسجد‏.‏
    قال ابن بطال‏:‏ وقول من نزه المسجد عن ذلك أولى‏.‏
    وفي الباب حديثان ضعيفان في النهي عن إقامة الحدود في المساجد انتهى‏.‏
    والمشهور فيه حديث مكحول عن أبي الدرداء وواثلة وأبي أمامة مرفوعا ‏"‏ جنبوا مساجدكم صبيانكم ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ وإقامة حدودكم ‏"‏ أخرجه البيهقي في الخلافيات، وأصله في ابن ماجه من حديث واثلة فقط وليس فيه ذكر الحدود وسنده ضعيف، ولابن ماجه من حديث ابن عمر رفعه ‏"‏ خصال لا تنبغي في المسجد‏:‏ لا يتخذ طريقا ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ ولا يضرب فيه حد ‏"‏ وسنده ضعيف أيضا‏.


    .....................
    (ج13/ ص 203 )
    بالتيسير في الأمور والرفق بالرعية وتحبيب الإيمان إليهم وترك الشدة لئلا تنفر قلوبهم ولا سيما فيمن كان قريب العهد بالإسلام أو قارب حد التكليف من الأطفال ليتمكن الإيمان من قلبه ويتمرن عليه، وكذلك الإنسان في تدريب نفسه على العمل إذا صدقت إرادته لا يشدد عليها بل يأخذها بالتدريج والتيسير حتى إذا أنست بحالة داومت عليها نقلها لحال آخر وزاد عليها أكثر من الأولى حتى يصل إلى قدر احتمالها ولا يكلفها بما لعلها تعجز عنه‏.
    (ج13/ ص 203)
    قال العلماء لا يجيب الحاكم دعوة شخص بعينه دون غيره من الرعية لما في ذلك من كسر قلب من لم يجبه، إلا أن كان له عذر في ترك الإجابة كرؤية المنكر الذي لا يجاب إلى إزالته، فلو كثرت بحيث تشغله عن الحكم الذي تعين عليه ساغ له أن لا يجيب‏.‏
    قوله ‏(‏وقد أجاب عثمان بن عفان عبدا للمغيرة بن شعبة‏)‏ لم أقف على اسم العبد المذكور، والأثر رويناه موصولا في ‏"‏ فوائد أبي محمد بن صاعد ‏"‏ وفي ‏"‏ زوائد البر والصلة لابن المبارك ‏"‏ بسند صحيح إلى أبي عثمان النهدي ‏"‏ إن عثمان بن عفان أجاب عبدا للمغيرة بن شعبة دعاه وهو صائم فقال‏:‏ أردت أن أجيب الداعي وأدعو بالبركة‏"‏
    (ج13/ ص 210)
    قع في سير الواقدي أن أبارهم الغفاري كان يطوف على القبائل حتى جمع العرفاء واجتمع الأمناء على قول واحد‏.‏
    وفيه أن الخبر الوارد في ذم العرفاء لا يمنح إقامة العرفاء لأنه محمول - إن ثبت - على أن الغالب على العرفاء الاستطالة ومجاوزة الحد وترك الإنصاف المفضي إلى الوقوع في المعصية، والحديث المذكور أخرجه أبو داود من طريق المقدام بن معد يكرب رفعه ‏"‏ العرافة حق، ولا بد للناس من عريف، والعرفاء في النار ‏"‏ ولأحمد وصححه ابن خزيمة من طريق عباد بن أبي علي عن أبي حازم عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ ويل للأمراء، ويل للعرفاء ‏"‏ قال الطيبي‏:‏ قوله ‏"‏ والعرفاء في النار ‏"‏ ظاهر أقيم مقام الضمير يشعر بأن العرافة على خطر، ومن باشرها غير آمن من الوقوع في المحذور المفضي إلى العذاب، فهو كقوله تعالى ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا‏}‏ فينبغي للعاقل أن يكون على حذر منها لئلا يتورط فيما يؤديه إلى النار‏.‏
    قلت‏:‏ ويؤيد هذا التأويل الحديث الآخر حيث توعد الأمراء بما توعد به العرفاء، فدل على أن المراد بذلك الإشارة إلى أن كل من يدخل في ذلك لا يسلم وأن الكل على خطر، والاستثناء مقدر في الجميع‏.‏
    وأما قوله ‏"‏ العرافة حق ‏"‏ فالمراد به أصل نصبهم، فإن المصلحة تقتضيه لما يحتاج إليه الأمير من المعاونة على ما يتعاطاه بنفسه، ويكفي في الاستدلال لذلك وجودهم في العهد النبوي كما دل عليه حديث الباب‏.‏
    (ج13/ ص 212)
    حكم بالمال دون القطع، قال ابن بطال‏:‏ أجاز مالك والليث والشافعي وأبو عبيد وجماعة الحكم على الغائب، واستثنى ابن القاسم عن مالك ما يكون للغائب فيه حجج كالأرض والعقار إلا إن طالت غيبته أو انقطع خبره، وأنكر ابن الماجشون صحة ذلك عن مالك وقال‏:‏ ‏"‏ العمل بالمدينة على الحكم على الغائب مطلقا حتى لو غاب بعد أن توجه عليه الحكم قضي عليه ‏"‏ وقال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة‏:‏ ‏"‏ لا يقضي على الغائب مطلقا‏.‏
    وأما من هرب أو استتر بعد إقامة البينة فينادي القاضي عليه ثلاثا فإن جاء وإلا أنفذ الحكم عليه ‏"‏ وقال ابن قدامة‏:‏ أجازه أيضا ابن شبرمة والأوزاعي وإسحاق وهو أحد الروايتين عن أحمد، ومنعه أيضا الشعبي والثوري وهي الرواية الأخرى عن أحمد قال‏:‏ ‏"‏ واستثنى أبو حنيفة من له وكيل مثلا، فيجوز الحكم عليه بعد الدعوى على وكيله ‏"‏ واحتج من منع بحديث على رفعه ‏"‏ لا تقضي لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر ‏"‏ وهو حديث حسن، أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما، وبحديث ‏"‏ الأمر بالمساواة بين الخصمين، وبأنه لو حضر لم تسمع بينة المدعي حتى يسأل المدعى عليه فإذا غاب فلا تسمع، وبأنه لو جاز الحكم مع غيبته لم يكن الحضور واجبا عليه ‏"‏ وأجاب من أجاز‏:‏ بأن ذلك كله لا يمنع الحكم على الغائب لأن حجته إذا حضر قائمة فتسمع ويعمل بمقتضاها ولو أدى إلى نقض الحكم السابق،
    وحديث على محمول على الحاضرين‏.‏
    وقال ابن العربي‏:‏ حديث علي، إنما هو مع إمكان السماع فأما مع تعذره بمغيب فلا يمنع الحكم، كما لو تعذر بإغماء أو جنون أو حجر أو صغر، وقد عمل الحنفية بذلك في الشفعة والحكم على من عنده للغائب مال أن يدفع منه ‏"‏ نفقة زوج الغائب‏"‏‏.

    (ج13/ ص 220)
    ن التعمق في البلاغة بحيث يحصل اقتدار صاحبها على تزيين الباطل في صورة الحق وعكسه مذموم، فإن المراد بقوله ‏"‏ أبلغ ‏"‏ أي أكثر بلاغة ‏"‏ ولو كان ذلك في التوصل إلى الحق لم يذم وإنما يذم من ذلك ما يتوصل به إلى الباطل في صورة الحق، فالبلاغة إذن لا تذم لذاتها وإنما تذم بحسب التعلق الذي يمدح بسببه وهي في حد ذاتها ممدوحة، وهذا كما يذم صاحبها إذا طرأ عليه بسببها الإعجاب، وتحقير غيره ممن لم يصل إلى درجته ولا سيما إن كان الغير من أهل الصلاح فإن البلاغة إنما تذم من هذه الحيثية بحسب ما ينشأ عنها من الأمور الخارجية عنها، ولا فرق في ذلك بين البلاغة وغيرها بل كل فتنة توصل إلى المطلوب محمودة في حد ذاتها وقد تذم أو تمدح بحسب متعلقها، واختلف في تعريف البلاغة فقيل‏:‏ أن يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، وقيل‏:‏ إيصال المعنى إلى الغير بأحسن لفظ، وقيل‏:‏ الإيجاز مع الإفهام والتصرف من غير إضمار، وقيل‏:‏ قليل لا يبهم وكثير لا يسأم؛ وقيل‏:‏ إجمال اللفظ واتساع المعنى، وقيل‏:‏ تقليل اللفظ وتكثير المعنى، وقيل‏:‏ حسن الإيجاز مع إصابة المعنى، وقيل‏:‏ سهولة اللفظ مع البديهة، وقيل‏:‏ لمحة دالة أو كلمة تكشف عن البغية، وقيل‏:‏ الإيجاز من غير عجز والإطناب من غير خطأ، وقيل‏:‏ النطق في موضعه والسكوت في موضعه، وقيل معرفة الفصل والوصل، وقيل‏:‏ الكلام الدال أوله على آخره وعكسه‏.‏
    وهذا كله عن المتقدمين، وعرف أهل المعاني والبيان البلاغة‏:‏ بأنها ‏"‏ مطابقة الكلام لمقتضى الحال والفصاحة ‏"‏ وهي خلوه عن التعقيد‏.‏
    (ج13/ ص 226)
    عادة العرب إذا عظمت الرجل ذكرته باسمه وكنيته أو لقبه، وفي غير ذلك تنسبه إلى أبيه ولا تسميه،
    (ج13/ ص 227)
    حكى ابن بطال عن المهلب في هذا الحديث ‏"‏ أن العقل أصل الخلال المحمودة ‏"‏
    (ج13/ ص 228)
    اتخاذ الكاتب للسلطان والقاضي ‏"‏ وأن من سبق له علم بأمر يكون أولى به من غيره إذا وقع، وعند البيهقي بسند حسن عن عبد الله بن الزبير ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب عبد الله بن الأرقم، فكان يكتب له إلى الملوك فبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب ويختم ولا يقرؤه، ثم استكتب زيد بن ثابت فكان يكتب الوحي ويكتب إلى الملوك، وكان إذا غابا كتب جعفر بن أبي طالب وكتب له أيضا أحيانا جماعة من الصحابة ‏"‏ ومن طريق عياض الأشعري عن أبي موسى ‏"‏ أنه استكتب نصرانيا فانتهره عمر ‏"‏ وقرأ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏}‏ الآية‏.‏
    فقال أبو موسى ‏"‏ والله ما توليته وإنما كان يكتب ‏"‏ فقال‏:‏ ‏"‏ أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب لا تدنهم إذ أقصاهم الله، ولا تأتمنهم إذ خونهم الله، ولا تعزهم بعد أن ذلهم الله‏"‏‏.‏
    (ج13/ ص 231)
    أخرجه أبو داود والترمذي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد قال الترمذي‏:‏ حسن صحيح؛ وقد رواه الأعمش عن ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابت ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم السريانية‏"‏‏.
    قلت‏:‏ وهذه الطريق وقعت لي بعلو في فوائد هلال الحفار قال‏:‏ حدثنا الحسين ابن عياش، حدثنا يحيى بن أيوب بن السري، حدثنا جرير عن الأعمش فذكره وزاد ‏"‏ فتعلمتها في سبعة عشر يوما ‏"‏ وأخرجه أحمد وإسحاق في ‏"‏ مسنديهما ‏"‏ وأبو بكر بن أبي داود في ‏"‏ كتاب المصاحف ‏"‏ من طريق الأعمش وأخرجه أبو يعلى من طريقه وعنده ‏"‏ إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي وينقصوا فتعلم السريانية ‏"‏ فذكره وله طريق أخرى أخرجها ابن سعد، وفي كل ذلك رد علي من زعم أن عبد الرحمن بن أبي الزناد تفرد به، نعم لم يروه عن أبيه عن خارجة إلا عبد الرحمن فهو تفرد نسبي، وقصة ثابت يمكن أن تتحد مع قصة خارجة ‏"‏ بأن من لازم تعلم كتابة اليهودية تعلم لسانهم ولسانهم السريانية‏.‏
    لكن المعروف أن لسانهم العبرانية فيحتمل أن زيدا تعلم اللسانين لاحتياجه إلى ذلك ‏"‏ وقد اعترض بعضهم على ابن الصلاح ومن تبعه في أن الذي يجزم به البخاري يكون على شرط الصحيح، وقد جزم بهذا مع أن عبد الرحمن بن أبي الزناد قد قال فيه ابن معين ‏"‏ ليس ممن يحتج به أصحاب الحديث، ليس بشيء ‏"‏ وفي رواية عنه ‏"‏ ضعيف ‏"‏ وعنه ‏"‏ هو دون الدراوردي ‏"‏ وقال يعقوب بن شبة ‏"‏ صدوق وفي حديثه ضعف ‏"‏ سمعت علي بن المديني يقول ‏"‏ حديثه بالمدينة مقارب وبالعراق مضطرب ‏"‏ وقال صالح بن أحمد عن أبيه ‏"‏ مضطرب الحديث ‏"‏ وقال عمرو بن علي نحو قول علي‏.‏
    وقالا ‏"‏ كان عبد الرحمن بن مهدي يحط على حديثه ‏"‏ وقال أبو حاتم والنسائي ‏"‏ لا يحتج بحديثه ‏"‏ ووثقه جماعة غيرهم كالعجلي والترمذي فيكون غاية أمره أنه ‏"‏ مختلف فيه ‏"‏ فلا يتجه الحكم بصحة ما ينفرد به بل غايته أن يكون حسنا، وكنت سألت شيخي الإمامين العراقي والبلقيني عن هذا الموضع فكتب لي كل منهما بأنهما ‏"‏ لا يعرفان له متابعا ‏"‏ وعولا جميعا على أنه عند البخاري ‏"‏ ثقة ‏"‏ فاعتمده وزاد شيخنا العراقي أن صحة ما يجزم به البخاري لا يتوقف أن يكون على شرطه وهو تنقيب جيد، ثم ظفرت بعد ذلك بالمتابع الذي ذكرته فانتفى الاعتراض من أصله ولله الحمد‏.‏
    (ج13/ ص 232)
    ‏وقال بعض الناس لا بد للحاكم من مترجمين‏)‏ نقل صاحب المطالع أنها رويت بصيغة الجمع وبصيغة التثنية، ووجه الأول‏:‏ بأن الألسنة قد تكثر فيحتاج إلى تكثير المترجمين‏.‏
    قلت‏:‏ والثاني هو المعتمد، والمراد ‏"‏ ببعض الناس ‏"‏ محمد بن الحسن فإنه الذي ‏"‏ اشترط أن لا بد في الترجمة من اثنين ونزلها منزلة الشهادة وخالف أصحابه الكوفيين ‏"‏ ووافقه الشافعي فتعلق بذلك مغلطاي فقال‏:‏ فيه رد لقول من قال‏:‏ إن البخاري إذا قال‏.‏
    قال بعض الناس يريد الحنفية وتعقبه الكرماني فقال‏:‏ يحمل على الأغلب أو أراد هنا بعض الحنفية لأن محمدا قائل بذلك ولا يمنع ذلك أن يوافقه الشافعي كما لا يمنع أن يوافق الحنفية في غير هذه المسألة بعض الأئمة
    ( ج13/ ص 234)
    ونقل ابن التين عن أشهب أنه ‏"‏ ينبغي للحاكم أن يتخذ من يستكشف له أحوال الناس في السر، وليكن ثقة مأمونا فطنا عاقلا ‏"‏ لأن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به إذا كان هو حسن الظن به فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك‏.‏
    وفي معنى حديث الباب حديث عائشة مرفوعا ‏"‏ من ولي منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه ‏"‏ قال ابن التين ‏"‏ يحتمل أن يكون المراد بالبطانتين الوزيرين ويحتمل أن يكون الملك والشيطان ‏"‏ وقال الكرماني ‏"‏ يحتمل أن يكون المراد بالبطانتين النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة المحرضة على الخير ‏"‏ إذ لكل منهما قوة ملكية وقوة حيوانية انتهى‏.‏
    والحمل على الجميع أولى إلا أنه جائز أن لا يكون لبعضهم إلا البعض‏.‏
    وقال المحب الطبري ‏"‏ البطانة‏:‏ الأولياء والأصفياء ‏"‏ وهو مصدر وضع موضع الاسم يصدق على الواحد والاثنين والجمع مذكرا ومؤنثا‏.‏
    (ج13/ ص 240)
    من ابن عمر إلى عبد الملك ‏"‏ وقوله ‏"‏ حيث اجتمع الناس على عبد الملك ‏"‏ يريد ابن مروان بن الحكم، والمراد بالاجتماع اجتماع الكلمة وكانت قبل ذلك مفرقة، وكان في الأرض قبل ذلك اثنان كل منهما يدعى له بالخلافة، وهما عبد الملك بن مروان وعبد الله ابن الزبير، فأما ابن الزبير فكان أقام بمكة وعاذ بالبيت بعد موت معاوية، وامتنع من المبايعة ليزيد بن معاوية، فجهز إليه يزيد الجيوش مرة بعد أخرى فمات يزيد وجيوشه محاصرون ابن الزبير، ولم يكن ابن الزبير ادعى الخلافة حتى مات يزيد في ربيع الأول سنة أربع وستين، فبايعه الناس بالخلافة بالحجاز، وبايع أهل الآفاق لمعاوية بن يزيد بن معاوية فلم يعش إلا نحو أربعين يوما ومات، فبايع معظم الآفاق لعبد الله بن الزبير وانتظم له ملك الحجاز واليمن ومصر والعراق والمشرق كله وجميع بلاد الشام حتى دمشق، ولم يتخلف عن بيعته إلا جميع بني أمية ومن يهوى هواهم وكانوا بفلسطين، فاجتمعوا على مروان بن الحكم فبايعوه بالخلافة، وخرج بمن أطاعه إلى جهة دمشق والضحاك بن قيس قد بايع فيها لابن الزبير، فاقتتلوا ‏"‏ بمرج راهط ‏"‏ فقتل الضحاك وذلك في ذي الحجة منها وغلب مروان على الشام، ثم لما انتظم له ملك الشام كله توجه إلى مصر فحاصر بها عبد الرحمن بن جحدر عامل ابن الزبير حتى غلب عليها في ربيع الآخر سنة خمس وستين ثم مات في سنته، فكانت مدة ملكه ستة أشهر؛ وعهد إلى ابنه عبد الملك بن مروان فقام مقامه وكمل له ملك الشام ومصر والمغرب، ولابن الزبير ملك الحجاز والعراق والمشرق إلا أن المختار بن أبي عبيد غلب على الكوفة، وكان يدعو إلى المهدى من أهل البيت فأقام على ذلك نحو السنتين، ثم سار إليه مصعب بن الزبير أمير البصرة لأخيه فحاصره حتى قتل في شهر رمضان سنة سبع وستين، وانتظم أمر العراق كله لابن الزبير فدام ذلك إلى سنة إحدى وسبعين، فسار عبد الملك إلى مصعب فقاتله حتى قتله في جمادى الآخرة منها وملك العراق كله، ولم يبق مع ابن الزبير إلا الحجاز واليمن فقط، فجهز إليه عبد الملك الحجاج فحاصره في سنة اثنتين وسبعين إلى أن قتل عبد الله بن الزبير في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وكان عبد الله بن عمر في تلك المدة امتنع أن يبايع لابن الزبير أو لعبد الملك كما كان امتنع أن يبايع لعلي أو معاوية، ثم بايع لمعاوية لما اصطلح مع الحسن بن علي واجتمع عليه الناس، وبايع لابنه يزيد بعد موت معاوية لاجتماع الناس عليه، ثم امتنع من المبايعة لأحد حال الاختلاف إلى أن قتل ابن الزبير وانتظم الملك كله لعبد الملك فبايع له حينئذ، فهذا معنى قوله ‏"‏ لما اجتمع الناس على عبد الملك ‏"‏ وأخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه من طريق سعيد بن حرب العبدي قال ‏"‏ بعثوا إلى ابن عمر لما بويع ابن الزبير فمد يده وهي ترعد فقال‏:‏ والله ما كنت لأعطي بيعتي في فرقة، ولا أمنعها من جماعة ‏"‏ ثم لم يلبث ابن عمر أن توفى في تلك السنة بمكة، وكان عبد الملك وصى الحجاج أن يقتدى به في مناسك الحج كما تقدم في ‏"‏ كتاب الحج ‏"‏ فدس الحجاج عليه الحربة المسمومة، كما تقدم بيان ذلك في ‏"‏ كتاب العيدين ‏"‏ فكان ذلك سبب موته رضي الله عنه

    (ج13/ ص 245)
    ال الطبري‏:‏ لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم والمعرفة بالسياسة ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم، فإن قيل كان بعض هؤلاء الستة أفضل من بعض وكان رأى عمر أن الأحق بالخلافة أرضاهم دينا، وأنه لا تصح ولاية المفضول مع وجود الفاضل، فالجواب أنه لو صرح بالأفضل منهم لكان قد نص على استخلافه، وهو قصد أن لا يتقلد العهدة في ذلك؛ فجعلها في ستة متقاربين في الفضل، لأنه يتحقق أنهم لا يجتمعون على تولية المفضول، ولا يألون المسلمين نصحا في النظر والشورى، وأن المفضول منهم لا يتقدم على الفاضل، ولا يتكلم في منزلة وغيره أحق بها منه، وعلم رضا الأمة بمن رضى به الستة‏.‏
    ويؤخذ منه بطلان قول الرافضة وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الإمامة في أشخاص بأعيانهم، إذ لو كان كذلك لما أطاعوا عمر في جعلها شورى، ولقال قائل منهم ما وجه التشاور في أمر كفيناه ببيان الله لنا على لسان رسول، ففي رضا الجميع بما أمرهم به دليل على أن الذي كان عندهم من العهد في الإمامة أوصاف من وجدت فيه استحقها، وإدراكها يقع بالاجتهاد، وفيه أن الجماعة الموثوق بديانتهم إذا عقدوا عقد الخلافة لشخص بعد التشاور والاجتهاد لم يكن لغيرهم أن يحل ذلك العقد، إذ لو كان العقد لا يصح إلا باجتماع الجميع، لقال قائل لا معنى لتخصيص هؤلاء الستة، فلما لم يعترض منهم معترض بل رضوا وبايعوا، دل ذلك على صحة ما قلناه، انتهى ملخصا من كتاب ابن بطال،
    (ج13/ ص 251)
    وقال الخطابي‏:‏ خص وقت العصر بتعظيم الإثم فيه، وإن كانت اليمين الفاجرة محرمة في كل وقت، لأن الله عظم شأن هذا الوقت بأن جعل الملائكة تجتمع فيه وهو وقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها فغلظت العقوبة فيه لئلا يقدم عليها تجرؤا، فإن من تجرأ عليها فيه اعتادها في غيره، وكان السلف يحلفون بعد العصر؛ وجاء ذلك في الحديث أيضا، وفي الحديث وعيد شديد في نكث البيعة، والخروج على الإمام لما في ذلك من تفرق الكلمة، ولما في الوفاء من تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء، والأصل في مبايعة الإمام أن يبايعه على أن يعمل بالحق ويقيم الحدود ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
    (ج13/ ص 251)
    وقد أخرج إسحاق بن راهويه بسند حسن عن أسماء بنت يزيد مرفوعا إني لا أصافح النساء وفي الحديث أن كلام الأجنبية مباح سماعه وأن صوتها ليس بعورة، ومنع لمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة لذلك‏.‏
    (ج13/ ص 256)
    قال ابن بطال ما حاصله ‏"‏ أن عمر سلك في هذا الأمر مسلكا متوسطا خشية الفتنة ‏"‏ فرأى أن الاستخلاف أضبط لأمر المسلمين، فجعل الأمر معقودا موقوفا على الستة لئلا يترك الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فأخذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم طرفا وهو ترك التعيين، ومن فعل أبي بكر طرفا وهو العقد لأحد الستة وإن لم ينص عليه انتهى ملخصا‏.‏
    وفيه رد على من جزم كالطبري، وقبله بكر بن أخت عبد الواحد وبعده ابن حزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر قال‏:‏ ووجهه جزم عمر بأنه لم يستخلف، لكن تمسك من خالفه بإطباق الناس على تسمية أبي بكر خليفة رسول الله، واحتج الطبري أيضا بما أخرجه بسند صحيح من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم ‏"‏ رأيت عمر يجلس الناس ويقول اسمعوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏
    قلت‏:‏ ونظيره ما في الحديث الخامس من قول أبي بكر ‏"‏ حتى يرى الله خليفة نبيه ‏"‏ ورد بأن الصيغة يحتمل أن تكون من مفعول ومن فاعل فلا حجة فيها، ويترجح كونها من فاعل جزم عمر بأنه لم يستخلف وموافقة ابن عمر له على ذلك، فعلى هذا فمعنى ‏"‏ خليفة رسول الله ‏"‏ الذي خلفه فقام بالأمر بعده فسمي خليفة رسول الله لذلك وأن عمر أطلق على أبي بكر خليفة رسول الل
    وكذا في رد على من زعم من الراوندية أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على العباس وعلى قول الروافض كلها أنه نص على علي‏.‏
    ووجه الرد عليهم إطباق الصحابة على متابعة أبي بكر ثم على طاعته في مبايعة عمر، ثم على العمل بعهد عمر في الشورى، ولم يدع العباس ولا علي أنه صلى الله عليه وسلم عهد له بالخلافة‏.‏
    وقال النووي وغيره‏:‏ أجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف، وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان حيث لا يكون هناك استخلاف غيره، وعلى جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين عدد محصور أو غيره، وأجمعوا على أنه يجب نصب خليفة، وعلى أن وجوبه بالشرع لا بالعقل، وخالف بعضهم كالأصم وبعض الخوارج فقالوا‏:‏ يجب نصب الخليفة‏.‏
    وخالف بعض المعتزلة فقالوا‏:‏ يجب بالعقل لا بالشرع، وهما باطلان‏.‏
    (ج13/ ص 263)
    ا أخرجه أحمد والبزار من حديث ابن مسعود بسند حسن ‏"‏ أنه سئل كم يملك هذه الأمة من خليفة‏؟‏ ‏"‏ فقال‏:‏ سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل ‏"‏ وقال ابن الجوزي‏:‏ في ‏"‏ كشف المشكل ‏"‏ قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث وتطلبت مظانه وسألت عنه فلم أقع على المقصود به لأن ألفاظه مختلفة ولا أشك أن التخليط فيها من الرواة، ثم وقع لي فيه شيء وجدت الخطابي بعد ذلك قد أشار إليه، ثم وجدت كلاما لأبي الحسين بن المنادي وكلاما لغيره، فأما الوجه الأول فإنه أشار إلى ما يكون بعده وبعد أصحابه وأن حكم أصحابه مرتبط بحكمه‏.‏
    فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم، فكأنه أشار بذلك إلى عدد الخلفاء من بني أمية، وكأن قوله ‏"‏ لا يزال الدين - أي الولاية - إلى أن يلي اثنا عشر خليفة ‏"‏ ثم ينتقل إلى صفة أخرى أشد من الأولى، وأول بني أمية يزيد ابن معاوية وآخرهم مروان الحمار وعدتهم ثلاثة عشر، ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير، لكونهم صحابة فإذا أسقطنا منهم مروان بن الحكم للاختلاف في صحبته، أو لأنه كان متغلبا بعد أن اجتمع الناس على عبد الله ابن الزبير صحت العدة، وعند خروج الخلافة من بني أمية وقعت الفتن العظيمة والملاحم الكثيرة حتى استقرت دولة بني العباس فتغيرت الأحوال عما كانت عليه تغيرا بينا، قال‏:‏ ويؤيد هذا ما أخرجه أبو داود من حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن هلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما ‏"‏ زاد الطبراني والخطابي فقالوا‏:‏ سوى ما مضى‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏
    قال الخطابي ‏"‏ رحى الإسلام ‏"‏ كناية عن الحرب شبهها بالرحى التي تطحن الحب لما يكون فيها من تلف الأرواح
    قال الخطابي ‏"‏ رحى الإسلام ‏"‏ كناية عن الحرب شبهها بالرحى التي تطحن الحب لما يكون فيها من تلف الأرواح، والمراد بالدين في قوله ‏"‏ يقم لهم دينهم ‏"‏ الملك، قال فيشبه أن يكون إشارة إلى مدة بني أمية في الملك وانتقاله عنهم إلى بني العباس، فكان ما بين استقرار الملك لبني أمية وظهور الوهن فيه، نحو من سبعين سنة‏.‏
    قلت‏:‏ لكن يعكر عليه أن من استقرار الملك لبني أمية عند اجتماع الناس على معاوية سنة إحدى وأربعين إلى أن زالت دولة بني أمية فقتل مروان بن محمد في أوائل سنة اثنتين وثلاثين ومائة أزيد من تسعين سنة، ثم نقل عن الخطيب أبي بكر البغدادي قوله ‏"‏ تدور رحى الإسلام ‏"‏ مثل يريد أن هذه المدة إذا انتهت حدث في الإسلام أمر عظيم يخاف بسببه على أهله الهلاك يقال للأمر إذا تغير واستحال‏:‏ دارت رحاه، قال‏:‏ وفي هذا إشارة إلى انتقاض مدة الخلافة،
    فقد وجدت في ‏"‏ كتاب دانيال ‏"‏ إذا مات المهدي ملك بعده خمسة رجال من ولد السبط الأكبر، ثم خمسة من ولد السبط الأصغر؛ ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأكبر، ثم يملك بعده ولده فيتم بذلك اثنا عشر ملكا؛ كل واحد منهم إمام مهدي، قال ابن المنادي وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس ‏"‏ المهدي اسمه محمد بن عبد الله وهو رجل ربعة مشرب بحمرة يفرج الله به عن هذه الأمة كل كرب، ويصرف بعدله كل جور، ثم يلي الأمر بعده اثنا عشر رجلا، ستة من ولد الحسن، وخمسة من ولد الحسين، وآخر من غيرهم؛ ثم يموت فيفسد الزمان ‏"‏ وعن كعب الأحبار ‏"‏ يكون اثنا عشر مهديا، ثم ينزل روح الله، فيقتل الدجال ‏"‏ قال‏:‏ والوجه الثالث أن المراد وجود اثنى عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة يعملون بالحق وإن لم تتوال أيامهم، ويؤيده ما أخرجه مسدد في مسنده الكبير من طريق أبي بحر، أن أبا الجلد حدثه ‏"‏ أنه لا تهلك هذه الأمة حتى يكون منها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق، منهم رجلان من أهل بيت محمد، يعيش أحدهما أربعين سنة، والآخر ثلاثين سنة ‏"‏ وعلى هذا فالمراد بقوله ‏"‏ ثم يكون الهرج ‏"‏ أي الفتن المؤذنة بقيام الساعة، من خروج الدجال ثم يأجوج ومأجوج، إلى أن تنقضي الدنيا‏.‏
    انتهى كلام ابن الجوزي ملخصا بزيادات يسيرة‏.‏
    (ج13/ ص 264)
    والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي إلى أن وقع أمر الحكمين في صفين، فسمي معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا على ولده يزيد ولم ينتظم للحسين أمر بل قتل قبل ذلك، ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة‏:‏ الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك اجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام، فولي نحو أربع سنين ثم قاموا عليه فقتلوه، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك، لأن يزيد بن الوليد الذي قام على ابن عمه الوليد بن يزيد لم تطل مدته بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عم أبيه مروان بن محمد بن مروان ‏"‏ ولما مات يزيد ولى أخوه إبراهيم فغلبه مروان، ثم ثار على مروان بنو العباس إلى أن قتل، ثم كان أول خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح، ولم تطل مدته مع كثرة من ثار عليه، ثم ولى أخوه المنصور فطالت مدته، لكن خرج عنهم المغرب الأقصى باستيلاء المروانيين على الأندلس، واستمرت في أيديهم متغلبين عليها إلى أن تسموا بالخلافة بعد ذلك، وانفرط الأمر في جميع أقطار الأرض إلى أن لم يبق من الخلافة إلا الاسم في بعض البلاد، بعد أن كانوا في أيام بني عبد الملك بن مروان يخطب للخليفة في جميع أقطار الأرض شرقا وغربا وشمالا ويمينا مما غلب عليه المسلمون، ولا يتولى أحد في بلد من البلاد كلها الإمارة على شيء منها إلا بأمر الخليفة، ومن نظر في أخبارهم عرف صحة ذلك فعلى هذا يكون المراد بقوله ‏"‏ ثم يكون الهرج ‏"‏ يعني القتل الناشئ عن الفتن وقوعا فاشيا يفشو ويستمر ويزداد على مدى الأيام، وكذا كان والله المستعان‏.‏
    جميع من ولي الخلافة من الصديق إلى عمر بن عبد العزيز أربعة عشر نفسا، منهم اثنان لم تصح ولايتهما ولم تطل مدتهما وهما‏:‏ معاوية بن يزيد ومروان بن الحكم، والباقون اثنا عشر نفسا على الولاء كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاة عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة، وتغيرت الأحوال بعده، وانقضى القرن الأول الذي هو خير القرون، ولا يقدح في ذلك قوله ‏"‏ يجتمع عليهم الناس ‏"‏ لأنه يحمل على الأكثر الأغلب، لأن هذه الصفة لم تفقد منهم إلا في الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير مع صحة ولايتهما، والحكم بأن من خالفهما لم يثبت استحقاقه إلا بعد تسليم الحسن وبعد قتل ابن الزبير والله أعلم‏.

    انتهى كتاب " الأحكام "
    ويليه كتاب " التمني " من المجلد الثالث عشر من " فتح الباري "
    وأسال الله ان يغفر ذنوبنا ويستر عيوبنا
    اليوم 12/ ابريل / 2020 ميلادي

  18. #218
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الاثنين
    الموافق : 20 / شعبان / 1441 هجري
    الموافق 13/ ابريل / 2020 ميلادي

    كتاب " التمني "
    (ج13/ ص 267)
    ‏قيل أن بين التمني والترجي عموما وخصوصا، فالترجي في الممكن، والتمني في أعم من ذلك، وقيل التمني يتعلق بما فات وعبر عنه بعضهم بطلب ما لا يمكن حصوله وقال الراغب قد يتضمن التمني معنى الود، لأنه يتمنى حصول ما يود
    (ج13/ ص 268)
    ال ابن عطية‏:‏ يجوز تمني ما لا يتعلق بالغير أي مما يباح وعلى هذا فالنهي عن التمني بخصوص بما يكون داعية إلى الحسد والتباغض وعلى هذا محصل قول الشافعي ‏"‏ لولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون كذا ‏"‏ ولم يرد أن كل التمني يحصل به الإثم‏.‏
    (ج13/ ص 268)
    وقد خطر لي في معنى الحديث أن فيه إشارة إلى تغبيط المحسن بإحسانه وتحذير المسيء من إساءته، فكأنه يقول‏:‏ من كان محسنا فليترك تمني الموت وليستمر على إحسانه والازدياد منه، ومن كان مسيئا فليترك تمني الموت وليقلع عن الإساءة لئلا يموت على إساءته فيكون على خطر، وأما من عدا ذلك ممن تضمنه التقسيم فيؤخذ حكمه من هاتين الحالتين إذ لا انفكاك عن أحدهما والله أعلم‏.‏
    (ج13/ ص 274)
    قال ابن بطال ‏"‏ لولا ‏"‏ عند العرب يمتنع بها الشيء لوجود غيره تقول ‏"‏ لولا زيد ما صرت إليك ‏"‏ أي كان مصيري إليك من أجل زيد وكذلك ‏"‏ لولا الله ما اهتدينا ‏"‏ أي كانت هدايتنا من قبل الله تعالى وقال الراغب لوقوع غيره، ويلزم خبره الحذف ويستغنى بجوابه عن الخبر ‏"‏ قال ‏"‏ وتجيء بمعنى ‏"‏ هلا ‏"‏ نحو ‏"‏ لولا أرسلت إلينا رسولا ‏"‏ ومثله ‏"‏ لوما ‏"‏ بالميم بدل اللام وقال ابن هشام ‏"‏ لولا ‏"‏ تجيء على ثلاثة أوجه أحدها‏:‏ أن تدخل على جملة لتربط امتناع الثانية بوجود الأولى نحو ‏"‏ لولا زيد لأكرمتك ‏"‏ أي لولا وجوده، وأما حديث ‏"‏ لو لا أن أشق ‏"‏ فالتقدير ‏"‏ لولا مخافة أن أشق ‏"‏ لأمرت أمر إيجاب وإلا لانعكس معناها، إذ الممتنع المشقة؛ والموجود الأمر‏.‏
    والوجه الثاني‏:‏ أنها تجيء ‏"‏ للحض ‏"‏ وهو طلب بحث وإزعاج و ‏"‏ للعرض ‏"‏ وهو طلب بلين وأدب، فتختص بالمضارع نحو ‏(‏لولا تستغفرون الله‏)‏ والوجه الثالث‏:‏ أنها تجيء ‏"‏ للتوبيخ والتندم ‏"‏ فتختص بالماضي نحو ‏(‏لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء‏)‏ أي ‏"‏ هلا ‏"‏ انتهى، وذكر أبو عبيد الهروي في الغريبين أنها تجيء بمعنى ‏"‏ لم لا ‏"‏ وجعل منه قوله تعالى ‏(‏فلولا كانت قوية آمنت‏)‏ والجمهور أنها من القسم الثالث وموقع الحديث من الترجمة أن هذه الصيغة إذا علق بها القول الحق، لا يمنع بخلاف ما لو علق بها ما ليس بحق، كمن يفعل شيئا فيقع في محذور فيقول‏:‏ لولا فعلت كذا ما كان كذا، فلو حقق لعلم أن الذي قدره الله لا بد من وقوعه، سواء فعل أم ترك فقولها واعتقاد معناها يفضي إلى التكذيب بالقدر‏.‏
    (ج13/ ص 280)
    وقال عياض الذي يفهم من ترجمة البخاري ومما ذكره في الباب من الأحاديث أنه يجوز استعمال ‏"‏ لو ولولا ‏"‏ فيما يكون للاستقبال مما فعله لوجود غيره وهو من باب لو لكونه لم يدخل في الباب إلا ما هو للاستقبال، وما هو حق صحيح متيقن، بخلاف الماضي والمنقضي أو ما فيه اعتراض على الغيب والقدر السابق‏.‏
    قال‏:‏ والنهي إنما هو حيث قاله معتقدا ذلك حتما وأنه لو فعل ذلك لم يصبه ما أصابه قطعا، فأما من رد ذلك إلى مشيئة الله تعالى، وأنه لولا أن الله أراد ذلك ما وقع فليس من هذا قال والذي عندي في معنى الحديث أن النهي على ظاهره وعمومه لكنه نهي تنزيه، ويدل عليه قوله‏:‏ ‏"‏ فإن لو تفتح عمل الشيطان ‏"‏ أي يلقي في القلب معارضة القدر فيوسوس به الشيطان، وتعقبه النووي بأنه جاء من استعمال لو في الماضي مثل قوله ‏"‏ لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ‏"‏ فالظاهر أن النهي عنه إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، وأما من قاله تأسفا على ما فات من طاعة الله أو ما هو معتذر عليه منه ونحو هذا فلا بأس به، وعليه يحمل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث‏.‏
    وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ المراد من الحديث الذي أخرجه مسلم أن الذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله والرضى بما قدر والإعراض عن الالتفات لما فات، فإنه إذا ذكر فيما فاته من ذلك فقال لو أني فعلت كذا لكان كذا، جاءته وساوس الشيطان فلا تزال به حتى يفضي إلى الخسران، فيعارض بتوهم التدبير سابق المقادير، وهذا هو عمل الشيطان المنهي عن تعاطي أسبابه بقوله‏:‏ ‏"‏ فلا تقل لو فإن لو تفتح عمل الشيطان
    كتاب " الآحاد "
    (ج13/ ص 287)
    فقد نقل الأستاذ أبو منصور البغدادي أن بعضهم اشترط في قبول خبر الواحد أن يرويه ثلاثة عن ثلاثة إلى منتهاه، واشترط بعضهم أربعة عن أربعة، وبعضهم خمسة عن خمسة، وبعضهم سبعة عن سبعة انتهى‏.‏
    وكأن كل قائل منهم يرى أن العدد المذكور يفيد التواتر، أو يرى تقسيم الخبر إلى متواتر وآحاد ومتوسط بينهم، وفات الأستاذ ذكر من اشترط اثنين عن اثنين كالشهادة على الشهادة وهو منقول عن بعض المعتزلة‏.‏
    ونقله المازري وغيره عن أبي علي الجبائي ونسب إلى الحاكم أبي عبد الله وأنه ادعى أنه شرط الشيخين، ولكنه غلط على الحاكم كما أوضحته في الكلام على علوم الحديث، وقوله الصدوق قيد لا بد منه وإلا فمقابله وهو الكذوب لا يحتج به اتفاقا، وأما من لم يعرف حاله فثالثها يجوز أن اعتضد وقوله ‏"‏ والفرائض ‏"‏ بعد قوله ‏"‏ في الأذان والصلاة والصوم ‏"‏ من عطف العام على الخاص، وأفرد الثلاثة بالذكر للاهتمام بها‏.

    (ج13/ ص 287)
    قبل أبو بكر خبر عائشة في أن ‏"‏ النبي صلى الله عليه وسلم مات يوم الاثنين ‏"‏ وقبل عمر خبر عمرو بن حزم في أن ‏"‏ دية الأصابع سواء ‏"‏ وقبل خبر الضحاك بن سفيان في ‏"‏ توريث المرأة من دية زوجها ‏"‏ وقبل خبر عبد الرحمن بن عوف في ‏"‏ أمر الطاعون، وفي أخذ الجزية من المجوس ‏"‏ وقبل خبر سعد بن أبي وقاص في ‏"‏ المسح على الخفين ‏"‏ وقبل عثمان خبر الفريعة بنت سنان أخت أبي سعيد في ‏"‏ إقامة المعتمد عن الوفاة في بيتها ‏"‏ إلى غير ذلك‏.‏
    (ج13/ ص 293)
    قال ابن القيم في الرد على من رد خبر الواحد إذا كان زائدا على القرآن، ما ملخصه‏:‏ السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه أحدها أن توافقه من كل وجه فيكون من توارد الأدلة، ثانيها أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن، ثالثها أن تكون دالة على حكم سكت عنه القرآن، وهذا ثالث يكون حكما مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم فتجب طاعته فيه ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يطاع إلا فيما وافق القرآن، لم تكن له طاعة خاصة، وقد قال تعالى ‏(‏من يطع الرسول فقد أطاع الله‏)‏ وقد تناقض من قال‏:‏ إنه لا يقبل الحكم الزائد على القرآن إلا إن كان متواترا أو مشهورا‏.‏
    فقد قالوا بتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم ما يحرم من النسب بالرضاعة، وخيار الشرط والشفعة والرهن في الحضر، وميراث الجدة، وتخيير الأمة إذا عتقت، ومنع الحائض من الصوم والصلاة ووجوب الكفارة على من جامع وهو صائم في رمضان، ووجوب إحداد المعتدة عن الوفاة، وتجويز الوضوء بنبيذ التمر، وإيجاب الوتر وأن أقل الصداق عشرة دراهم، وتوريث بنت الابن السدس مع البنت، واستبراء المسببة بحيضة، وأن أعيان بني الأم يتوارثون، ولا يقاد الوالد بالولد، وأخذ الجزية من المجوس، وقطع رجل السارق في الثانية، وترك الاقتصاص من الجرح قبل الاندمال، والنهي عن بيع الكالئ بالكالئ، وغيرهما مما يطول شرحه، وهذه الأحاديث كلها آحاد وبعضها ثابت وبعضها غير ثابت ولكنهم قسموها إلى ثلاثة أقسام ولهم في ذلك تفاصيل يطول شرحها، ومحل بسطها أصول الفقه، وبالله التوفيق‏.‏
    (ج13/ ص 297)
    وأما ‏"‏ أمراء البلاد ‏"‏ التي فتحت فإنه صلى الله عليه وسلم أمر على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى عمان عمرو بن العاص، وعلى نجران أبا سفيان بن حرب وأمر على صنعاء وسائر جبال اليمن بأذان ثم ابنه شهر وفيروز والمهاجر بن أبي أمية وأبان بن سعيد بن العاص وأمر على السواحل أبا موسى، وعلى الجند وما معها معاذ بن جبل وكان كل منهما يقضي في عمله ويسير فيه، وكانا ربما التقيا كما تقدم، وأمر أيضا عمرو بن سعيد بن العاص على وادي القرى، ويزيد بن أبي سفيان على تيماء، وثمامة بن أثال على اليمامة‏.‏
    فأما ‏"‏ أمراء السرايا والبعوث ‏"‏ فكانت إمرتهم تنتهي بانتهاء تلك الغزوة‏.‏
    وأما ‏"‏ أمراء القرى ‏"‏ فإنهم استمروا فيها ‏"‏ ومن أمرائه أبو بكر على الحج سنة تسع، وعلى لقسمة الغنيمة وأفراد الخمس باليمن وقراءة سورة براءة على المشركين في حجة أبي بكر، وأبو عبيدة لقبض الجزية من البحرين، وعبد الله بن رواحة لخرص خيبر إلى أن استشهد في غزوة مؤتة، ومنهم عماله لقبض الزكوات
    (ج13/ ص 298)
    وقع للزركشي هنا خبط، فإنه قال عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى كذا وقع في الأمهات ولم يذكر فيه ‏"‏ دحية ‏"‏ بعد قوله ‏"‏ بعث ‏"‏ والصواب إثباته وقد ذكره في رواية الكشميهني تعليقا فقال‏:‏ قال ابن عباس ‏"‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم دحية بكتابه إلى عظيم بصرى وأن يدفعه إلى قيصر ‏"‏ وهو الصواب انتهى، وكأنه توهم أن القصتين واحدة وحمله على ذلك كونهما من رواية ابن عباس؛ والحق أن المبعوث لعظيم بصرى هو دحية، والمبعوث لعظيم البحرين وإن لم يسم في هذه الرواية فقد سمي في غيرها وهو عبد الله بن حذافة، ولو لم يكن في الدليل على المغايرة بينهما إلا بعدما بين بصرى والبحرين فإن بينهما نحو شهر، وبصرى كانت في مملكة هرقل ملك الروم، والبحرين كانت في مملكة كسرى ملك الفرس، وإنما نبهت على ذلك مع وضوحه خشية أن يغتر به من ليس له اطلاع على ذلك‏.‏
    (ج13/ ص 299)
    وقال الكرماني مراد الشعبي أن الحسن مع كونه تابعيا كان يكثر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عمر مع كونه صحابيا يحتاط ويقل من ذلك مهما أمكن‏.‏
    قلت‏:‏ وكأن ابن عمر اتبع رأي أبيه في ذلك‏.‏
    فإنه كان يحض على قلة التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين أحدهما‏:‏ خشية الاشتغال عن تعلم القرآن وتفهم معانيه، والثاني‏:‏ خشية أن يحدث عنه بما لم يقله، لأنهم لم يكونوا يكتبون فإذا طال العهد لم يؤمن النسيان وقد أخرج سعيد بن منصور بسند آخر صحيح عن الشعبي عن قرظة بن كعب عن عمر قال ‏"‏ أقلوا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم
    انتهى كتاب " أخبار الآحاد "
    ويليه كتاب " الاعتصام بالكتاب والسنة "
    والحمد لله رب العالمين "

  19. #219
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الثلاثاء
    الموافق : 21/ شعبان / 1441 هجري
    الموافق : 14/ ابريل / 2020 ميلادي
    كتاب " الاعتصام بالكتاب والسنة "

    كتاب " الاعتصام بالكتاب والسنة "
    (ج13/ ص 302)
    قال ابن بطال‏:‏ لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو في سنة رسوله أو في إجماع العلماء
    (ج13/ ص 310)
    قال ابن بطال‏:‏ أراد عمر قسمة المال في مصالح المسلمين فلما ذكره شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بعده لم يتعرضا له لم يسعه خلافهما، ورأى أن الاقتداء بهما واجب‏.‏
    (ج13/ ص 311)
    قال الشافعي ‏"‏ البدعة بدعتان‏:‏ محمودة ومذمومة، فما وافق السنة فهو محمود وما خالفها فهو مذموم ‏"‏ أخرجه أبو نعيم بمعناه من طريق إبراهيم بن الجنيد عن الشافعي، وجاء عن الشافعي أيضا ما أخرجه البيهقي في مناقبه قال ‏"‏ المحدثات ضربان ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلال، وما أحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة ‏"‏ انتهى‏.‏
    وقسم بعض العلماء البدعة إلى الأحكام الخمسة وهو واضح، وثبت عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ قد أصبحتم على الفطرة وإنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول، فمما حدث تدوين الحديث ثم تفسير القرآن ثم تدوين المسائل الفقهية المولدة عن الرأي المحض ثم تدوين ما يتعلق بأعمال القلوب، فأما الأول فأنكره عمر وأبو موسى وطائفة ورخص فيه الأكثرون وأما الثاني فأنكره جماعة من التابعين كالشعبي، وأما الثالث فأنكره الإمام أحمد وطائفة يسيرة وكذا اشتد إنكار أحمد للذي بعده، ومما حدث أيضا تدوين القول في أصول الديانات فتصدى لها المثبتة والنفاة، فبالغ الأول حتى شبه وبالغ الثاني حتى عطل، واشتد إنكار السلف لذلك كأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وكلامهم في ذم أهل الكلام مشهور، وسببه أنهم تكلموا فيما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وثبت عن مالك أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر شيء من الأهواء - يعني بدع الخوارج والروافض والقدرية - وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلا يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن له منه بد فليكتف منه بقدر الحاجة، ويجعل الأول المقصود بالأصالة والله الموفق‏.‏
    وقد أخرج أحمد بسند جيد عن غضيف بن الحارث قال بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال‏:‏ إنا قد جمعنا الناس على رفع الأيدي على المنبر يوم الجمعة، وعلى القصص بعد الصبح والعصر، فقال‏:‏ أما إنهما أمثل بدعكم عندي ولست بمجيبكم إلى شيء منهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة‏"‏‏.‏
    وقال ابن عبد السلام‏:‏ في أواخر ‏"‏ القواعد ‏"‏ البدعة خمسة أقسام ‏"‏ فالواجبة ‏"‏ كالاشتغال بالنحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله لأن حفظ الشريعة واجب، ولا يتأتى إلا بذلك فيكون من مقدمة الواجب، وكذا شرح الغريب وتدوين أصول الفقه والتوصل إلى تمييز الصحيح والسقيم ‏"‏ والمحرمة ‏"‏ ما رتبه من خالف السنة من القدرية والمرجئة والمشبهة ‏"‏ والمندوبة ‏"‏ كل إحسان لم يعهد عينه في العهد النبوي كالاجتماع عن التراويح وبناء المدارس والربط والكلام في التصوف المحمود وعقد مجالس المناظرة إن أريد بذلك وجه الله ‏"‏ والمباحة ‏"‏ كالمصافحة عقب صلاة الصبح والعصر، والتوسع في المستلذات من أكل وشرب وملبس ومسكن‏.‏
    وقد يكون بعض ذلك مكروها أو خلاف الأول والله أعلم‏.‏
    (ج13/ ص 318)
    أسلم في الفتح وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا فأعطاه مع المؤلفة وإياه عنى العباس بن مرداس السلمي بقوله‏:‏ أتجعل نهبي ونهب العبـ يد بين عيينة والأقرع وله ذكر مع الأقرع بن حابس سيأتي قريبا في ‏"‏ باب ما يكره من التعمق ‏"‏ وله قصة مع أبي بكر وعمر حين سأل أبا بكر أن يعطيه أرضا يقطعه إياها فمنعه عمر، وقد ذكره البخاري في ‏"‏ التاريخ الصغير ‏"‏ وسماه النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الأحمق المطاع ‏"‏ وكان عيينة ممن وافق طليحة الأسدي لما ادعى النبوة، فلما غلبهم المسلمون في قتال أهل الردة فر طليحة وأسر عيينة، فأتى به أبو بكر فاستتابه فتاب، وكان قدومه إلى المدينة على عمر بعد أن استقام أمره وشهد الفتوح، وفيه من جفاء الأعراب شيء‏.‏
    (ج13/ ص 320)
    في بعضها ‏"‏ هيه ‏"‏ بكسر الهاءين بينهما تحتانية ساكنة، قال النووي بعد أن ضبطها هكذا هي كلمة تقال في الاستزادة ويقال بالهمزة بدل الهاء الأولى، وسبق إلى ذلك قاسم بن ثابت في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ كما نقله صاحب المشارق فقال في قول ابن الزبير أيها قوله ‏"‏ إيه ‏"‏ بهمز مكسور مع التنوين كلمة استزادة من حديث لا يعرف، وتقول ‏"‏ إيها عنا ‏"‏ بالنصب أي كف، قال وقال يعقوب يعني ابن السكيت تقول لمن استزدته، من عمل أو حديث ‏"‏ إيه ‏"‏ فإن وصلت نونت فقلت ‏"‏ إيه حدثنا ‏"‏ وحكاه كذا في النهاية وزاد فإذا قلت ‏"‏ إيها ‏"‏ بالنصب فهو أمر بالسكوت‏.‏
    وقال الليث قد تكون كلمة استزادة وقد تكون كلمة زجر كما قال‏:‏ إيه عنا أي كف‏.‏
    وقال الكرماني‏:‏ هيه هنا بكسر الهاء الأولى، وفي بعض النسخ بهمزة بدلها وهو من أسماء الأفعال، تقال لمن تستزيده، كذا قال ولم يضبط الهاء الثانية، ثم قال وفي بعض النسخ هي بحذف الهاء الثانية والمعنى واحد، أو هو ضمير لمحذوف أي هي داهية أو القصة هذه انتهى، واقتصر شيخنا ابن الملقن في شرحه على قوله ‏"‏ هي يا ابن الخطاب ‏"‏ بمعنى التهديد له ووقع في تنقيح الزركشي فقال ‏"‏ هئ يا ابن الخطاب ‏"‏ بكسر الهاء وآخره همزة مفتوحة، تقول للرجل إذا استزدته ‏"‏ هيه وإيه ‏"‏ انتهى، وقوله وآخره همزة مفتوحة لا وجه له ولعله من الناسخ أو سقط من كلامه شيء، والذي يقتضيه السياق أنه أراد بهذه الكلمة الزجر وطلب الكف لا الازدياد، وقد تقدم شيء من الكلام على هذه الكلمة في مناقب عمر وقوله ‏"‏ يا ابن الخطاب ‏"‏ هذا أيضا من جفائه حيث خاطبه بهذه المخاطبة وقوله ‏"‏ والله ما تعطينا الجزل ‏"‏ بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها لام أي الكثير، وأصل الجزل ما عظم من الحطب‏.‏
    (ج13/ ص 321)
    ‏فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه‏)‏ في رواية محمد بن زياد ‏"‏ فانتهوا عنه ‏"‏ هكذا رأيت هذا الأمر على تلك المقدمة والمناسبة فيه ظاهرة، ووقع في أول رواية الزهري المشار إليها ‏"‏ ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ‏"‏ فاقتصر عليها النووي في الأربعين، وعزا الحديث للبخاري ومسلم، فتشاغل بعض شراح الأربعين بمناسبة تقديم النهي على ما عداه ولم يعلم أن ذلك من تصرف الرواة، وأن اللفظ الذي أورده البخاري هنا أرجح من حيث الصناعة الحديثية لأنهما اتفقا على إخراج طريق أبي الزناد دون طريق الزهري وإن كان سند الزهري مما عد في أصح الأسانيد، فإن سند أبي الزناد أيضا مما عد فيها فاستويا، وزادت رواية أبي الزناد اتفاق الشيخين، وظن القاضي تاج الدين في شرح المختصر أن الشيخين اتفقا على هذا اللفظ، فقال‏:‏ بعد قول ابن الحاجب الندب أي احتج من قال إن الأمر للندب بقوله ‏"‏ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ‏"‏ فقال الشارح‏:‏ رواه البخاري ومسلم ولفظهما ‏"‏ وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ‏"‏ وهذا إنما هو لفظ مسلم وحده ولكنه اغتر بما ساقه النووي في الأربعين، ثم إن هذا النهي عام في جميع المناهي، ويستثنى من ذلك ما يكره المكلف على فعله كشرب الخمر وهذا على رأي الجمهور، وخالف قوم فتمسكوا بالعموم فقالوا‏:‏ الإكراه على ارتكاب المعصية لا يبيحها، والصحيح عدم المؤاخذة إذا وجدت صورة الإكراه المعتبرة، واستثنى بعض الشافعية من ذلك الزنا، فقال‏:‏ لا يتصور الإكراه عليه وكأنه أراد التمادي فيه، وإلا فلا مانع أن يتعظ الرجل بغير سبب فيكره على الإيلاج حينئذ فيولج في الأجنبية، فإن مثل ذلك ليس بمحال، ولو فعله مختارا لكان زانيا فتصور الإكراه على الزنا، واستدل به من قال لا يجوز التداوي بشيء محرم كالخمر، ولا دفع العطش به، ولا إساغة لقمة من غص به؛ والصحيح عند الشافعية جواز الثالث حفظا للنفس فصار كأكل الميتة لمن اضطر، بخلاف التداوي فإنه ثبت النهي عنه نصا، ففي مسلم عن وائل رفعه أنه ليس بدواء ولكنه داء، ولأبي داود عن أبي الدرداء رفعه ‏"‏ ولا تداووا بحرام ‏"‏ وله عنه أم سلمة مرفوعا إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها، وأما العطش فإنه لا ينقطع بشربها ولأنه في معنى التداوي والله أعلم، والتحقيق أن الأمر باجتناب المنهي على عمومه ما لم يعارضه إذن في ارتكاب منهي كأكل الميتة للمضطر‏.‏
    وقال الفاكهاني لا يتصور امتثال اجتناب المنهي حتى يترك جميعه، فلو اجتنب بعضه لم يعد ممتثلا بخلاف الأمر - يعني المطلق - فإن من أتى بأقل ما يصدق عليه الاسم كان ممتثلا انتهى ملخصا‏.‏
    فافعلوا ‏"‏ قال النووي هذا من جوامع الكلم وقواعد الإسلام، ويدخل فيه كثير من الأحكام كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط فيأتي بالمقدور، وكذا الوضوء، وستر العورة، وحفظ بعض الفاتحة، وإخراج بعض زكاة الفطر لمن لم يقدر على الكل، والإمساك في رمضان لمن أفطر بالعذر ثم قدر في أثناء النهار إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها‏.‏
    وقال غيره فيه أن من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبر عنه بعض الفقهاء بأن الميسور لا يسقط بالمعسور، كما لا يسقط ما قدر عليه من أركان الصلاة بالعجز عن غيره، وتصح توبة الأعمى عن النظر المحرم، والمجبوب عن الزنا، لأن الأعمى والمجبوب قادران على الندم فلا يسقط عنهما بعجزهما عن العزم على عدم العود
    والتحقيق أن المكلف في ذلك كله ليس منهيا في تلك الحال، وأجاب الماوردي بأن الكف عن المعاصي ترك وهو سهل، وعمل الطاعة فعل وهو يشق، فلذلك لم يبح ارتكاب المعصية ولو مع العذر لأنه ترك، والترك لا يعجز المعذور عنه؛ وأباح ترك العمل بالعذر لأن العمل قد يعجز المعذور عنه، وادعى بعضهم أن قوله تعالى ‏(‏فاتقوا الله ما استطعتم‏)‏ يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي وقد قيد بالاستطاعة واستويا، فحينئذ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار، وزعم بعضهم أن قوله تعالى ‏(‏فاتقوا الله ما استطعتم‏)‏ نسخ بقوله تعالى ‏(‏فاتقوا الله حق تقاته‏)‏ والصحيح أن لا نسخ بل المراد بحق تقاته امتثال أمره واجتناب نهيه مع القدرة لا مع العجز، واستدل به على أن المكروه يجب اجتنابه لعموم الأمر باجتناب المنهي عنه فشمل الواجب والمندوب، وأجيب بأن قوله ‏"‏ فاجتنبوه ‏"‏ يعمل به في الإيجاب والندب بالاعتبارين، ويجيء مثل هذا السؤال وجوابه في الجانب الآخر وهو الأمر‏.‏
    وقال الفاكهاني النهي يكون تارة مع المانع من النقيض وهو المحرم، وتارة لا معه وهو المكروه، وظاهر الحديث يتناولهما واستدل به على أن المباح ليس مأمورا به، لأن التأكيد في الفعل إنما يناسب الواجب والمندوب، وكذا عكسه، وأجيب بأن من قال المباح مأمور به لم يرد الأمر بمعنى الطلب وإنما أراد بالمعنى الأعم وهو الإذن، واستدل به على أن الأمر لا يقتضي التكرار ولا عدمه،
    (ج13/ ص 324)
    النهي عن كثرة المسائل والتعمق في ذلك، قال البغوي في ‏"‏ شرح السنة ‏"‏ المسائل على وجهين أحدهما‏:‏ ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إليه من أمر الدين فهو جائز بل مأمور به لقوله تعالى ‏(‏فاسألوا أهل الذكر‏)‏ الآية، وعلى ذلك تتنزل أسئلة الصحابة عن الأنفال والكلالة وغيرهما، ثانيهما‏:‏ ما كان على وجه التعنت والتكلف وهو المراد في هذا الحديث والله أعلم، ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن ذلك وذم السلف، فعند أحمد من حديث معاوية ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات ‏"‏ قال الأوزاعي هي شداد المسائل‏.‏
    وقال الأوزاعي أيضا ‏"‏ إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علما ‏"‏ وقال ابن وهب سمعت مالكا يقول ‏"‏ المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل ‏"‏ وقال ابن العربي ‏"‏ كان النهي عن السؤال في العهد النبوي خشية أن ينزل ما يشق عليهم، فأما بعد فقد أمن ذلك لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع ‏"‏ قال ‏"‏ وإنه لمكروه إن لم يكن حراما إلا للعلماء فإنهم فرعوا ومهدوا فنفع الله من بعدهم بذلك، ولا سيما مع ذهاب العلماء ودروس العلم ‏"‏ انتهى ملخصا‏.‏
    وينبغي أن يكون محل الكراهة للعالم إذا شغله ذلك عما هو أعم منه، وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجردا عما يندر، ولا سيما في المختصرات ليسهل تناوله والله المستعان‏.‏
    وفي الحديث إشارة إلى الاشتغال بالأهم المحتاج إليه عاجلا عما لا يحتاج إليه في الحال فكأنه قال‏:‏ عليكم بفعل الأوامر واجتناب النواهي فاجعلوا اشتغالكم بها عوضا عن الاشتغال بالسؤال عما لم يقع‏.‏
    فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله ثم يجتهد في تفهم ذلك والوقوف على المراد به‏.‏
    ثم يتشاغل بالعمل به فإن كان من العلميات يتشاغل بتصديقه واعتقاد حقيته، وإن كان من العمليات بذل وسعه في القيام به فعلا وتركا، فإن وجد وقتا زائدا على ذلك فلا بأس بأن يصرفه في الاشتغال بتعرف حكم ما سيقع على قصد العمل به أن لو وقع، فأما إن كانت الهمة مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع مع الإعراض عن القيام بمقتضى ما سمع فإن هذا مما يدخل في النهي، فالتفقه في الدين إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدال‏.‏
    (ج13/ ص 326)
    قد اشتد إنكار جماعة من الفقهاء ذلك، منهم القاضي أبو بكر بن العربي فقال‏:‏ اعتقد قوم من الغافلين منع السؤال عن النوازل إلى أن تقع تعلقا بهذه الآية وليس كذلك لأنها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المسألة في جوابه، ومسائل النوازل ليست كذلك، انتهى‏.‏
    وهو كما قال لأن ظاهرها اختصاص ذلك بزمان نزول الوحي؛ ويؤيده حديث سعد الذي صدر به المصنف الباب ‏"‏ من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته، فإن مثل ذلك قد أمن وقوعه ‏"‏ ويدخل في معنى حديث سعد ما أخرجه البزار وقال‏:‏ سنده صالح وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء رفعه ‏"‏ ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئا ‏"‏ ثم تلا هذه الآية ‏(‏وما كان ربك نسيا‏)‏ وأخرج الدار قطني من حديث أبي ثعلبة رفعه ‏"‏ إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ‏"‏ وله شاهد من حديث سلمان أخرجه الترمذي، وآخر من حديث ابن عباس أخرجه أبو داود وقد أخرج مسلم وأصله في البخاري كما تقدم في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ من طريق ثابت عن أنس قال‏:‏ كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل الغافل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع، فذكر الحديث ومضى في قصة اللعان من حديث ابن عمر ‏"‏ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ‏"‏ ولمسلم عن النواس بن سمعان قال‏:‏ أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ومراده أنه قدم وافدا فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجرا فيمتنع عليه السؤال، وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفودا كانوا أو غيرهم‏.‏
    (ج13/ ص 328)
    عقد الإمام الدارمي في أوائل مسنده لذلك بابا، وأورد فيه عن الجماعة من الصحابة والتابعين آثارا كثيرة في ذلك، منها عن ابن عمر ‏"‏ لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن ‏"‏ وعن عمر ‏"‏ أحرج عليكم أن تسألوا عما لم يكن فإن لنا فيما كان شغلا ‏"‏ وعن زيد ابن ثابت أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول‏:‏ كان هذا فإن قيل لا، قال‏:‏ دعوه حتى يكون، وعن أبي ابن كعب وعن عمار نحو ذلك‏.‏
    وأخرج أبو داود في المراسيل من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة مرفوعا، ومن طريق طاوس عن معاذ رفعه ‏"‏ لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد أو وفق، وإن عجلتم تشتت بكم السبل ‏"‏ وهما مرسلان يقوي بعض بعضا، ومن وجه ثالث عن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعا ‏"‏ لا يزال في أمتي من إذا سئل سدد وأرشد حتى يتساءلوا عما لم ينزل ‏"‏ الحديث نحوه قال بعض الأئمة والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين، أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها فهذا مطلوب لا مكروه بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين، ثانيهما‏:‏ أن يدقق النظر في وجوه الفروق فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلا فهذا الذي ذمه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ هلك المتنطعون ‏"‏ أخرجه مسلم فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع وهي نادرة الوقوع جدا، فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى ولا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه، وأشد من ذلك في كثرة السؤال، البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس، كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة، إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف‏.‏
    والكثير منه لم يثبت فيه شيء فيجب الإيمان به من غير بحث، وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة، وسيأتي مثال ذلك في حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله
    (ج13/ ص 331)
    ال ابن عبد البر سئل مالك عن معنى النهي عن كثرة السؤال، فقال ما أدري أنهى عن الذي أنتم فيه من السؤال عن النوازل، أو عن مسألة الناس المال، قال ابن عبد البر‏:‏ الظاهر الأول، وأما الثاني فلا معنى للتفرقة بين كثرته وقلته لا حيث يجوز ولا حيث لا يجوز قال‏:‏ وقيل كانوا يسألون عن الشيء ويلحون فيه إلى أن يحرم، قال‏:‏ وأكثر العلماء على أن المراد كثرة السؤال عن النوازل والأغلوطات والتوليدات كذا قال
    (ج13/ ص 235)
    قال المهلب‏:‏ قوله صريح الإيمان، يعني الانقطاع في إخراج الأمر إلى ما لا نهاية له، فلا بد عند ذلك من إيجاب خالق لا خالق له لأن المتفكر العاقل يجد للمخلوقات كلها خالقا لأثر الصنعة فيها والحدث الجاري عليها والخالق بخلاف هذه الصفة فوجب أن يكون لكل منها خالق لا خالق له فهذا هو صريح الإيمان، لا البحث الذي هو من كيد الشيطان المؤدي إلى الحيرة‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ فإن قال الموسوس فما المانع أن يخلق الخالق نفسه، قيل له هذا ينقض، بعضه بعضا، لأنك أثبت خالقا وأوجبت وجوده ثم قلت‏:‏ يخلق نفسه فأوجبت عدمه، والجمع بين كونه موجودا معدوما فاسد لتناقضه، لأن الفاعل يتقدم وجوده على وجود فعله فيستحيل كون نفسه فعلا له‏.‏
    وهذا واضح في حل هذه الشبهة وهو يفضي إلى صريح الإيمان انتهى ملخصا موضحا‏.‏
    لمسألة وقعت في زمن الرشيد في قصة له مع صاحب الهند، وأنه كتب إليه هل يقدر الخالق أن يخلق مثله فسأل أهل العلم، فبدر شاب فقال‏:‏ هذا السؤال محال لأن المخلوق محدث والمحدث لا يكون مثل القديم، فاستحال أن يقال يقدر أن يخلق مثله أو لا يقدر، كما يستحيل أن يقال في القادر العالم يقدر أن يصير عاجزا جاهلا‏.‏
    (ج13/ ص 337)
    لأصل فيه قوله تعالى ‏(‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة‏)‏ وقد ذهب جمع إلى وجوبه لدخوله في عموم الأمر بقوله تعالى ‏(‏وما آتاكم الرسول فخذوه‏)‏ وبقوله ‏(‏فاتبعوني يحببكم الله‏)‏ وبقوله تعالى ‏(‏فاتبعوه‏)‏ فيجب اتباعه في فعله كما يجب في قوله حتى يقوم دليل على الندب أو الخصوصية‏.‏
    وقال آخرون‏:‏ يحتمل الوجوب والندب والإباحة فيحتاج إلى القرينة، والجمهور‏.‏
    للندب إذا ظهر وجه القربة، وقيل ولو لم يظهر، ومنهم من فصل بين التكرار وعدمه‏.‏
    وقال آخرون ما يفعله صلى الله عليه وسلم إن كان بيانا لمجمل فحكمه حكم ذلك المجمل وجوبا أو ندبا أو إباحة، فإن ظهر وجه القربة فللندب وما لم يظهر فيه وجه التقرب فللإباحة، وأما تقريره على ما يفعل بحضرته فيدل على الجواز، والمسألة مبسوطة في أصول الفقه، ويتعلق بها تعارض قوله وفعله، ويتفرع من ذلك حكم الخصائص وقد أفردت بالتصنيف، ولشيخ شيوخنا الحافظ صلاح الدين العلائي فيه مصنف جليل، وحاصل ما ذكر فيه ثلاثة أقوال أحدها يقدم القول لأن له صيغة تتضمن المعاني بخلاف الفعل، ثانيها الفعل لأنه لا يطرقه من الاحتمال ما يطرق القول، ثالثها يفزع إلى الترجيح، وكل ذلك محله ما لم تقم قرينة تدل على الخصوصية، وذهب الجمهور إلى الأول، والحجة له أن القول يعبر به عن المحسوس والمعقول بخلاف الفعل فيختص بالمحسوس، فكان القول أتم، وبأن القول متفق على أنه دليل بخلاف الفعل، ولأن القول يدل بنفسه بخلاف الفعل فيحتاج إلى واسطة، وبأن تقديم الفعل يفضي إلى ترك العمل بالقول والعمل بالقول يمكن معه العمل بما دل عليه الفعل فكان القول أرجح بهذه الاعتبارات‏.‏
    (ج13/ ص 345)
    ال ابن بطال‏:‏ دل الحديث على أن من أحدث محدثا أو آوى محدثا في غير المدينة، أنه غير متوعد بمثل ما توعد به من فعل ذلك بالمدينة، وإن كان قد علم أن من آوى أهل المعاصي أنه يشاركهم في الإثم فإن من رضى فعل قوم وعملهم التحق بهم، ولكن خصت المدينة بالذكر لشرفها لكونها مهبط الوحي وموطن الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنها انتشر الدين في أقطار الأرض فكان لها بذلك مزيد فضل على غيرها‏.‏
    وقال غيره، السر في تخصيص المدينة بالذكر أنها كانت إذ ذاك موطن النبي صلى الله عليه وسلم ثم صارت موضع الخلفاء الراشدين‏.‏
    (ج13/ ص 346)
    الحديث الذي رواه أبو أمامة قال‏:‏ لما كان في حجة الوداع قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل آدم فقال ‏"‏ يا أيها الناس خذوا من العلم قبل أن يقبض، وقبل أن يرفع من الأرض ‏"‏ الحديث وفي آخره ‏"‏ ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته ‏"‏ ثلاث مرات أخرجه أحمد والطبراني والدارمي، فبين عبد الله بن عمرو أن الذي ورد في قبض العلم ورفع العلم إنما هو على الكيفية التي ذكرها، وكذلك أخرج قاسم بن أصبغ ومن طريقه ابن عبد البر أن عمر سمع أبا هريرة يحدث بحديث ‏"‏ يقبض العلم ‏"‏ فقال ‏"‏ إن قبض العلم ليس شيئا ينزع من صدور الرجال، لكنه فناء العلماء ‏"‏ وهو عند أحمد والبزار من هذا الوجه‏.‏
    (ج13/ ص 350)
    في حديث أبي أمامة من الفائدة الزائدة ‏"‏ أن بقاء الكتب بعد رفع العلم بموت العلماء لا يغني من ليس بعالم شيئا ‏"‏ فإن في بقيته ‏"‏ فسأله أعرابي فقال‏:‏ يا نبي الله كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف، وقد تعلمنا ما فيها وعلمناها أبناءنا ونساءنا وخدمنا، فرفع إليه رأسه وهو مغضب فقال‏:‏ وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف، لم يتعلقوا منها بحرف فيما جاءهم به أنبياؤهم ‏"‏ ولهذه الزيادة شواهد من حديث عوف بن مالك وابن عمرو وصفوان بن عسال وغيرهم، وهي عند الترمذي والطبراني والدارمي والبزار بألفاظ مختلفة، وفي جميعها هذا المعنى، وقد فسر عمر قبض العلم بما وقع تفسيره به في حديث عبد الله بن عمرو، وذلك فيما أخرجه أحمد من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة فذكر الحديث، وفيه ‏"‏ ويرفع العلم ‏"‏ فسمعه عمر فقال‏:‏ ‏"‏ أما أنه ليس ينزع من صدور العلماء ولكن بذهاب العلماء ‏"‏ وهذا يحتمل أن يكون عند عمر مرفوعا، فيكون شاهدا قويا لحديث عبد الله بن عمرو، واستدل بهذا الحديث على جواز خلو الزمان عن مجتهد، وهو قول الجمهور خلافا لأكثر الحنابلة، وبعض من غيرهم لأنه صريح في رفع العلم بقبض العلماء، وفي ترئيس أهل الجهل ومن لازمه الحكم بالجهل، وإذا انتفى العلم ومن يحكم به استلزم انتفاء الاجتهاد والمجتهد، وعورض هذا بحديث ‏"‏ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ حتى تقوم الساعة - أو - حتى يأتي أمر الله ‏"‏ ومضى في العلم كالأول بغير شك‏.‏
    وفي رواية مسلم ‏"‏ ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله ‏"‏ ولم يشك وهو المعتمد، وأجيب أولا بأنه ظاهر في عدم الخلو لا في نفي الجواز، وثانيا بأن الدليل للأول أظهر للتصريح بقبض العلم تارة وبرفعه أخرى بخلاف الثاني، وعلى تقدير التعارض فيبقى أن الأصل عدم المانع‏.‏
    قالوا الاجتهاد فرض كفاية، فيستلزم انتفاؤه الاتفاق على الباطل، وأجيب بأن بقاء فرض الكفاية مشروط ببقاء العلماء، فأما إذا قام الدليل على انقراض العلماء فلا لأن بفقدهم تنتفي القدرة والتمكن من الاجتهاد، وإذا انتفى أن يكون مقدورا لم يقع التكليف به، هكذا اقتصر عليه جماعة
    (ج13/ ص 351)
    ويمكن أن تنزل هذه الأحاديث على الترتيب في الواقع فيكون أولا‏:‏ رفع العلم بقبض العلماء المجتهدين الاجتهاد المطلق ثم المقيد، ثانيا‏:‏ فإذا لم يبق مجتهد استووا في التقليد لكن ربما كان بعض المقلدين أقرب إلى بلوغ درجة الاجتهاد المقيد من بعض، ولا سيما إن فرعنا على جواز تجزئ الاجتهاد ولكن لغلبة الجهل يقدم أهل الجهل أمثالهم، وإليه الإشارة بقوله ‏"‏ اتخذ الناس رءوسا جهالا ‏"‏ وهذا لا ينفي ترئيس بعض من لم يتصف بالجهل التام، كما لا يمتنع ترئيس من ينسب إلى الجهل في الجملة في زمن أهل الاجتهاد، وقد أخرج ابن عبد البر في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ من طريق عبد الله بن وهب سمعت خلاد بن سلمان الحضرمي يقول حدثنا دراج أبو السمح يقول ‏"‏ يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى يسير عليها في الأمصار يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها، فلا يجد إلا من يفتيه بالظن ‏"‏ فيحمل على أن المراد الأغلب الأكثر في الحالين، وقد وجد هذا مشاهدا ثم يجوز أن يقبض أهل تلك الصفة ولا يبقى إلا المقلد الصرف، وحينئذ يتصور خلو الزمان عن مجتهد حتى في بعض الأبواب بل في بعض المسائل، ولكن يبقى من له نسبة إلى العلم في الجملة، ثم يزداد حينئذ غلبة الجهل وترئيس أهله، ثم يجوز أن يقبض أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، وذلك جدير بأن يكون عند خروج الدجال أو بعد موت عيسى عليه السلام، وحينئذ يتصور خلو الزمان عمن ينسب إلى العلم أصلا، ثم تهب الريح فتقبض كل مؤمن، وهناك يتحقق خلو الأرض عن مسلم فضلا عن عالم فضلا عن مجتهد ويبقى شرار الناس

    (ج13/ ص 353)
    (‏وقال أبو وائل شهدت صفين وبئست صفين‏)‏ كذا لأبي ذر ولغيره ‏"‏ وبئست صفون ‏"‏ وفي رواية النسفي مثله ولكن قال ‏"‏ وبئست الصفون ‏"‏ بزيادة ألف ولام والمشهور في صفين كسر الصاد المهملة وبعضهم فتحها وجزم بالكسر جماعة من الأئمة والفاء مكسورة مثقلة اتفاقا، والأشهر فيها بالياء قبل النون كماردين وفلسطين وقنسرين وغيرها، ومنهم من أبدل الياء واوا في الأحوال، وعلى هاتين اللغتين فإعرابها إعراب غسلين وعربون، ومنهم من أعربها إعراب جمع المذكر السالم فتتصرف بحسب العوامل، مثل ‏(‏لفي عليين، وما أدراك ما عليون‏)‏ ومنهم من فتح النون مع الواو لزوما نقل كل ذلك ابن مالك ولم يذكر فتح النون مع الياء لزوما وقوله ‏"‏ اتهموا رأيكم على دينكم ‏"‏ أي لا تعملوا في أمر الدين بالرأي المجرد الذي لا يستند إلى أصل من الدين، وهو كنحو قول علي فيما أخرجه أبو داود بسند حسن ‏"‏ لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه ‏"‏ والسبب في قول سهل ذلك ما تقدم بيانه في استتابة المرتدين، أن أهل الشام لما استشعروا أن أهل العراق شارفوا ‏"‏ أن يغلبوهم، وكان أكثر أهل العراق من القراء الذين يبالغون في التدين، ومن ثم صار منهم الخوارج الذين مضى ذكرهم،
    (ج13/ ص 355)
    وقد جاء عن عمر نحو قول سهل ولفظه ‏"‏ اتقوا الرأي في دينكم ‏"‏ أخرجه البيهقي في المدخل هكذا مختصرا، وأخرجه هو والطبري والطبراني مطولا بلفظ ‏"‏ اتهموا الرأي على الدين؛ فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي اجتهادا، فوالله ما آلو عن الحق ‏"‏ وذلك يوم أبي جندل حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ تراني أرضى وتأبى ‏"‏ والحاصل أن المصير إلى الرأي إنما يكون عند فقد النص، وإلى هذا يومئ قول الشافعي فيما أخرجه البيهقي بسند صحيح إلى أحمد بن حنبل سمعت الشافعي يقول القياس عند الضرورة، ومع ذلك فليس العامل برأيه على ثقة من أنه وقع على المراد من الحكم في نفس الأمر، وإنما عليه بذل الوسع في الاجتهاد ليؤجر ولو أخطأ وبالله التوفيق‏.‏
    (ج13/ ص 354)
    وأخرج البيهقي في المدخل، وابن عبد البر في بيان العلم عن جماعة من التابعين كالحسن وابن سيرين وشريح والشعبي والنخعي بأسانيد جياد، ذم القول بالرأي المجرد ويجمع ذلك كله حديث أبي هريرة ‏"‏ لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ‏"‏ أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات وقد صححه النووي في آخر الأربعين، وأما ما أخرجه البيهقي من طريق الشعبي عن عمرو بن حريث عن عمر قال ‏"‏ إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا ‏"‏ فظاهر في أنه أراد ذم من قال بالرأي مع وجود النص من الحديث لإغفاله التنقيب عليه فهلا يلام، وأولى منه باللوم من عرف النص وعمل، بما عارضه من الرأي، وتكلف لرده بالتأويل وإلى ذلك الإشارة بقوله في الترجمة وتكلف القياس والله أعلم‏.‏
    وقال ابن عبد البر في بيان العلم بعد أن ساق آثارا كثيرة في ذم الرأي ما ملخصه‏:‏ اختلف العلماء في الرأي المقصود إليه بالذم في هذه الآثار مرفوعها وموقوفها ومقطوعها، فقالت طائفة‏:‏ هو القول في الاعتقاد بمخالفة السنن لأنهم استعملوا آراءهم وأقيستهم في رد الأحاديث، حتى طعنوا في المشهور منها الذي بلغ التواتر كأحاديث الشفاعة، وأنكروا أن يخرج أحد من النار بعد أن يدخلها، وأنكروا الحوض والميزان وعذاب القبر، إلى غير ذلك من كلامهم في الصفات والعلم والنظر‏.‏
    وقال أكثر أهل العلم‏:‏ الرأي المذموم الذي لا يجوز النظر فيه ولا الاشتغال به، هو ما كان في نحو ذلك من ضروب البدع، ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال‏:‏ لا تكاد ترى أحدا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل، قال‏:‏ وقال جمهور أهل العلم الرأي المذموم في الآثار المذكورة، هو القول في الأحكام بالاستحسان، والتشاغل بالأغلوطات ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى أصول السنن وأضاف كثير منهم إلى ذلك من يتشاغل بالإكثار منها قبل وقوعها لما يلزم من الاستغراق في ذلك من تعطيل السنن، وقوى ابن عبد البر هذا القول الثاني واحتج له، ثم قال‏:‏ ليس أحد من علماء الأمة يثبت عنده حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ثم يرده إلا بادعاء نسخ أو معارضة أثر غيره أو إجماع أو عمل يجب على أصله الانقياد إليه أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك بغير ذلك لسقطت عدالته فضلا عن أن يتخذ إماما، وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك، ثم ختم الباب بما بلغه عن سهل بن عبد الله التستري الزاهد المشهور قال‏:‏ ما أحدث أحد في العلم شيئا إلا سئل عنه يوم القيامة فإن وافق السنة سلم وإلا فلا‏.‏
    (ج13/ ص 355)
    وقال الكرماني في قوله في الترجمة لا أدري حزازة إذ ليس في الحديث ما يدل عليه، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ذلك كذا قال، وهو تساهل شديد منه في الإقدام على نفي الثبوت كما سأبينه، والذي يظهر أنه أشار في الترجمة إلى ما ورد في ذلك ولكنه لم يثبت عنده منه شيء على شرطه، وإن كان يصلح للحجة كعادته في أمثال ذلك، وأقرب ما ورد عنده في ذلك حديث ابن مسعود الماضي في تفسير سورة ص ‏"‏ من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم ‏"‏ الحديث لكنه موقوف، والمراد منه إنما هو ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاب ‏"‏ بلا أعلم ‏"‏ أو ‏"‏ لا أدري ‏"‏ وقد وردت فيه عدة أحاديث منها حديث ابن عمر ‏"‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أي البقاع خير، قال‏:‏ لا أدري، فأتاه جبريل فسأله فقال‏:‏ لا أدري، فقال‏:‏ سل ربك فانتفض جبريل انتفاضة ‏"‏ الحديث أخرجه ابن حبان، وللحاكم نحوه من حديث جبير ابن مطعم، وفي الباب عن أنس عند ابن مردويه، وأما حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا ‏"‏ وهو عند الدار قطني والحاكم فقد تقدم في شرح حديث عبادة من ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ الكلام عليه وطريق الجمع بينه وبين حديث عبادة، ووقع الإلمام بشيء من ذلك في ‏"‏ كتاب الحدود ‏"‏ أيضا‏.‏
    وقال ابن الحاجب‏:‏ في أوائل مختصره لثبوت لا أدري وقد أوردت من ذلك ما تيسر في الأمالي في تخريج أحاديث المختصر‏.‏
    وقال الأوزاعي ‏"‏ العلم ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يجئ عنهم فليس بعلم ‏"‏ وأخرج أبو عبيد ويعقوب بن شيبة عن ابن مسعود قال ‏"‏ لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا ‏"‏ وقال أبو عبيدة معناه أن كل ما جاء عن الصحابة وكبار التابعين لهم بإحسان هو العلم الموروث، وما أحدثه من جاء بعدهم هو المذموم، وكان السلف يفرقون بين العلم والرأي فيقولون للسنة علم ولما عداها رأي، وعن أحمد يؤخذ العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن الصحابة، فإن لم يكن فهو في التابعين مخير، وعنه ما جاء عن الخلفاء الراشدين فهو من السنة وما جاء عن غيرهم من الصحابة ممن قال إنه سنة لم أدفعه، وعن ابن المبارك ليكن المعتمد عليه الأثر وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الخبر، والحاصل أن الرأي إن كان مستندا للنقل من الكتاب أو السنة فهو محمود وإن تجرد عن علم فهو مذموم، وعليه يدل حديث عبد الله بن عمرو المذكور، فإنه ذكر بعد فقد العلم أن الجهال يفتون برأيهم‏.‏
    وأخرج البيهقي بسند صحيح عن حسان بن عطية أحد التابعين من ثقات الشاميين ‏"‏ كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن ‏"‏ ويجمع ذلك كله ‏(‏وما ينطق عن الهوى‏)‏ الآية‏.‏
    ثم ذكر الشافعي أن من وجوه الوحي ما يراه في المنام‏.‏
    وما يلقيه روح القدس في روعه‏.‏
    ثم قال‏:‏ ولا تعدو السنن كلها واحدا من هذه المعاني التي وصفت انتهى‏.‏
    واحتج من ذهب إلى أنه كان يجتهد بقول الله تعالى ‏(‏فاعتبروا يا أولى الأبصار‏)‏ والأنبياء أفضل أولي الأبصار‏.‏
    (ج13/ ص 357)
    واحتج ابن عبد البر لعدم القول بالرأي بما أخرجه من طريق ابن شهاب ‏"‏ أن عمر خطب فقال‏:‏ يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا، لأن الله عز وجل يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف ‏"‏ وبهذا يمكن التمسك به لمن يقول كان يجتهد، لكن لا يقع فيما يجتهد فيه خطأ أصلا، وهذا في حقه صلى الله عليه وسلم فأما من بعده فإن الوقائع كثرت والأقاويل انتشرت، فكان السلف يتحرزون من المحدثات‏.‏
    ثم انقسموا ثلاث فرق‏:‏ الأولى تمسكت بالأمر، وعملوا بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ‏"‏ فلم يخرجوا في فتاويهم عن ذلك، وإذا سئلوا عن شيء لا نقل عندهم فيه أمسكوا عن الجواب وتوقفوا‏.‏
    والثانية‏:‏ قاسوا ما لم يقع على ما وقع وتوسعوا في ذلك، حتى أنكرت عليهم الفرقة الأولى كما تقدم ويجيء‏.‏
    والثالثة‏:‏ توسطت فقدمت الأثر ما دام موجودا فإذا فقد قاسوا‏.‏
    (ج13/ ص 361)
    ال النووي فيه أن الإجماع حجة، ثم قال يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين‏.‏
    ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولا فأولا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا جاء أمر الله، انتهى ملخصا مع زيادة فيه، ونظير ما نبه عليه ما حمل عليه بعض الأئمة حديث ‏"‏ إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ‏"‏ أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة وهو متجه، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدعي ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها؛ ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفا بالصفات الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد سواء تعدد أم لا
    ( ج13/ ص 364)
    قال ابن بطال التشبيه والتمثيل هو القياس عند العرب، وقد احتج المزني بهذين الحديثين على من أنكر القياس، قال‏:‏ وأول من أنكر القياس إبراهيم النظام وتبعه بعض المعتزلة، وممن ينسب إلى الفقه داود بن علي، وما اتفق عليه الجماعة هو الحجة، فقد قاس الصحابة فمن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار وبالله التوفيق، وتعقب بعضهم الأولية التي ادعاها بان بطال بأن إنكار القياس ثبت عن ابن مسعود من الصحابة ومن التابعين عن عامر الشعبي من فقهاء الكوفة، وعن محمد بن سيرين من فقهاء البصرة وقال الكرماني عقد هذا الباب وما فيه يدل على صحة القياس وأنه ليس مذموما‏.‏
    لكن لو قال من شبه أمرا معلوما لوافق اصطلاح أهل القياس، قال‏:‏ وأما الباب الماضي المشعر بذم القياس وكراهته، فطريق الجمع بينهما أن القياس على نوعين‏:‏ صحيح وهو المشتمل على جميع الشرائط؛ وفاسد وهو بخلاف ذلك، فالمذموم هو الفاسد، وأما الصحيح فلا مذمة فيه بل هو مأمور به انتهى، وقد ذكر الشافعي شرط من له أن يقيس فقال‏:‏ يشترط أن يكون عالما بالأحكام من كتاب الله تعالى وبناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه، ويستدل على ما احتمل التأويل بالسنة وبالإجماع، فإن لم يكن فبالقياس على ما في الكتاب، فإن لم يكن فبالقياس على ما في السنة، فإن لم يكن فبالقياس على ما اتفق عليه السلف وإجماع الناس، ولم يعرف له مخالف قال‏:‏ ولا يجوز القول في شيء من العلم إلا من هذه الأوجه، ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلاف العلماء ولسان العرب ويكون صحيح العقل ليفرق بين المشتبهات ولا يعجل، ويستمع ممن خالفه ليتنبه بذلك على غفلة إن كانت، وأن يبلغ غاية جهده وينصف من نفسه حتى يعرف من أين قال ما قال، والاختلاف على وجهين فما كان منصوصا لم يحل فيه الاختلاف عليه، وما كان يحتمل التأويل أو يدرك قياسا فذهب المتأول أو القائس إلى معنى يحتمل وخالفه غيره، لم أقل أنه يضيق عليه ضيق المخالف للنص، وإذا قاس من له القياس فاختلفوا وسع كلا أن يقول بمبلغ اجتهاده، ولم يسعه اتباع غيره فيما أداه إليه اجتهاده‏.‏
    وقال ابن عبد البر - في بيان العلم بعد أن ساق هذا الفصل - قد أتى الشافعي رحمه الله في هذا الباب بما فيه كفاية وشفاء والله الموفق؛ وقال ابن العربي وغيره‏:‏ القرآن هو الأصل، فإن كانت دلالته خفية نظر في السنة فإن بينته وإلا فالجلي من السنة، وإن كانت الدلالة منها خفية نظر فيما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا رجح فإن لم يوجد عمل بما يشبه نص الكتاب السنة ثم السنة ثم الاتفاق ثم الراجح كما سقته عنه في شرح حديث أنس ‏"‏ لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه ‏"‏ في أوائل ‏"‏ كتاب الفتن ‏"‏ وأنشد ابن عبد البر لأبي محمد اليزيدي النحوي المقرئ برواية أبي عمرو بن العلاء من أبيات طويلة في إثبات القياس‏:‏ لا تكن كالحمار يحمل أسفارا كما قد قرأت في القرآن إن هذا القياس في كل أمر عند أهل العقول كالميزان لا يجوز القياس في الدين إلا لفقيه لدينه صوان ليس يغني عن جاهل قول راو عن فلان وقوله عن فلان إن أتاه مسترشدا أفتاه بحديثين فيهما معنيان إن من يحمل الحديث ولا يعـ ـرف فيه المراد كالصيدلاني حكم الله في الجزاء ذوي عد ل لذي الصيد بالذي يريان لم يوقت ولم يسم ولكن قال فيه فليحكم العدلان ولنا في النبي صلى عليـ ـه الله والصالحون كل أوان أسوة في مقاله لمعاذ اقض بالرأي إن أتى الخصمان وكتاب الفاروق يرحمه الله إلى الأشعري في تبيان قس إذا أشكلت عليك أمور ثم قل بالصواب والعرفان وتعقب بعضهم الأولية التي ادعاها ابن بطال بأن إنكار القياس ثبت عن ابن مسعود من الصحابة، ومن التابعين عن عامر الشعبي من فقهاء الكوفة، وعن محمد بن سيرين من فقهاء البصرة وذلك مشهور عنهم، نقله ابن عبد البر ومن قبله الدارمي وغيره عنهم وعن غيرهم، والمذهب المعتدل ما قاله الشافعي ‏"‏ أن القياس مشروع عند الضرورة ‏"‏ لا أنه أصل برأسه‏.


    وفي هذا اليوم 21/ شعبان /1441 هجري
    14/ 4/ 2020 ميلادي :
    رايت فيما يرى النائم :
    إننا اجتمعنا في بيت من بيوت الله للافطار ومن العادة معنا أن نجتمع في رمضان
    للافطار في المسجد والمكوث إلى ما بعد التراويح فحصل كلام من أحد الاخوة
    ان يكون تقديم العشاء( المائدة ) بعد صلاة المغرب بعد الانتهاء من صلاة المغرب لأن العادة
    معنا تكون المائدة بعد آذان المغرب مباشرة فنصحنا بعض الاخوة بأن يكون بعد
    الصلاة وّذلك أروح للنفس وأهنأ وأبرأ من العشاء مباشرة بعد الفطر وإن شاء الله تعالى يكون فتح من الله ونصر قريب لفتح أبواب المساجد يكون على مشارف
    شهر رمضان بحوله وقوته
    بشرى خير في رمضان أن تفتح أبواب المساجد ويصلى القيام والتراويح في المساجد
    وان يرفع البلاء والوباء عن الامة الإسلامية إنه سميع قريب مجيب الدعاء
    وكما هو معلوم " نستبشر بالرؤيا الحسنة كما كان يتفاءل بالكلمة الطيبة
    ففي حديث البخاري: لم يبق من النبوة إلا المبشرات . قالوا : وما المبشرات؟ قال : الرؤيا الصالحة . وفي رواية مسلم: لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة.
    وفي الصحيحين أيضا: الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان.
    وفي صحيح مسلم: الرؤيا ثلاثة: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس.
    قال القرطبي: ويدخل فيه ما يلازمه في يقظته من الأعمال والعلوم والأقوال، وما يقوله الأطباء من أن الرؤيا من خلط غالب على الرائي ( ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) ... . اهـ .

    ‏.‏
    (ج13/ ص 369)
    واستدل ابن عبد البر في باب ذم القول بالرأي إذا كان على غير أصل بما أخرجه من جامع ابن وهب ‏"‏ أخبرني يحيى بن أيوب عن هشام بن عروة أنه سمع أباه يقول ‏"‏ لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى حدث فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فأحدثوا فيهم القول بالرأي وأضلوا بني إسرائيل ‏"‏ قال‏:‏ وكان أبي يقول ‏"‏ السنن السنن فإن السنن قوام الدين ‏"‏ وعن ابن وهب أخبرني بكر بن مضر عمن سمع ابن شهاب الزهري وهو يذكر ما وقع الناس فيه من الرأي وتركهم السنن، فقال ‏"‏ إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي كان بأيديهم حين استقلوا الرأي وأخذوا فيه ‏"‏ وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق مكحول عن أنس ‏"‏ قيل‏:‏ يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏؟‏ قال إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، إذا ظهر الإدهان في خياركم والفحش في شراركم، والملك في صغاركم، والفقه في رذالكم ‏"‏ وفي مصنف قاسم بن أصبغ بسند صحيح عن عمر ‏"‏ فساد الدين إذا جاء العلم من قبل الصغير استعصى عليه الكبير، وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير تابعه عليه الصغير ‏"‏ وذكر أبو عبيد أن المراد بالصغر في هذا صغر القدر لا السن والله أعلم‏.‏
    (ج13/ ص 374)
    قال الكرماني‏:‏ الإجماع هو اتفاق أهل الحل والعقد، أي المجتهدين من أمة محمد على أمر من الأمور الدينية، واتفاق مجتهدي الحرمين دون غيرهم ليس بإجماع عند الجمهور‏.‏
    وقال مالك‏:‏ إجماع أهل المدينة حجة، قال وعبارة البخاري مشعرة بأن اتفاق أهل الحرمين كليهما إجماع‏.‏
    قلت‏:‏ لعله أراد الترجيح به لا دعوى الإجماع، وإذا قال بحجية إجماع أهل المدينة وحدها مالك ومن تبعه فهم قائلون به إذا وافقهم أهل مكة بطريق الأولى، وقد نقل ابن التين عن سحنون اعتبار إجماع أهل مكة مع أهل المدينة، قال حتى لو اتفقوا كلهم وخالفهم ابن عباس في شيء لم يعد إجماعا، وهو مبني على أن ندرة المخالف تؤثر في ثبوت الإجماع‏
    (ج13/ ص 377)
    قلت‏:‏ وذكر ابن سعد من طرق أن الحسن بن علي أوصى أخاه أن يدفنه عندهم إن لم يقع بذلك فتنة، فصده عن ذلك بنو أمية فدفن بالبقيع‏.‏
    وأخرج الترمذي من حديث عبد الله ابن سلام قال مكتوب في التوراة ‏"‏ صفة محمد وعيسى بن مريم عليهما السلام يدفن معه ‏"‏ قال أبو داود أحد رواته‏:‏ وقد بقي في البيت موضع قبر‏.‏
    وفي رواية الطبراني ‏"‏ يدفن عيسى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فيكون قبرا رابعا قال ابن بطال عن المهلب إنما كرهت عائشة أن تدفن معهم خشية أن يظن أحد أنها أفضل الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فقد سأل الرشيد مالكا عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فقال‏:‏ كمنزلتهما منه بعد مماته، فزكاهما بالقرب معه في البقعة المباركة والتربة التي خلق منها، فاستدل على أنهما أفضل الصحابة باختصاصهما بذلك، وقد احتج أبو بكر الأبهري المالكي بأن المدينة أفضل من مكة بأن النبي صلى الله عليه وسلم مخلوق من تربة المدينة وهو أفضل البشر، فكانت تربته أفضل الترب انتهى‏.‏
    كون تربته أفضل الترب لا نزاع فيه، وإنما النزاع هل يلزم من ذلك أن تكون المدينة أفضل من مكة‏؟‏ لأن المجاور للشيء لو ثبت له جميع مزاياه لكن لما جاور ذلك المجاور نحو ذلك، فيلزم أن يكون ما جاور المدينة أفضل من مكة، وليس كذلك اتفاقا، كذا أجاب به بعض المتقدمين وفيه نظر‏.‏
    (ج13/ ص 380)
    قع قريب من ذلك في حديث أنس من وجه ضعيف، وقع لنا بعلو في جزء الفلكي بلفظ ‏"‏ كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف، وأخرجوا الزكاة، ودعا الولاة أهل السجون ‏"‏ الحديث موقوف‏.‏
    قال ابن بطال عن المهلب في هذين الحديثين سنة متبعة بأن الخليفة يخطب على المنبر في الأمور المهمة، لا يخافتها لتصل الموعظة إلى أسماع الناس إذا أشرف عليهم انتهى‏.‏
    وفيه إشارة إلى أن المنبر النبوي بقي إلى ذلك العهد ولم يتغير بزيادة ولا نقص، وقد جاء في غيره أنه بقي بعد ذلك زمانا آخر‏.‏
    (ج13/ ص 384)
    نقل ابن بطال عن المهلب ما ملخصه‏:‏ أن عليا لم يكن له أن يدفع ما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من الصلاة بقوله ذلك، بل كان عليه الاعتصام بقوله، فلا حجة لأحد في ترك المأمور انتهى، ومن أين له أن عليا لم يمتثل ما دعاه إليه فليس في القصة تصريح بذلك، وإنما أجاب على بما ذكر اعتذارا عن تركه القيام بغلبة النوم، ولا يمتنع أنه صلى عقب هذه المراجعة إذ ليس في الخبر ما ينفيه‏.‏
    وقال الكرماني حرضهم النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار الكسب والقدرة الكاسبة، وأجاب علي باعتبار القضاء والقدر، قال‏:‏ وضرب النبي صلى الله عليه
    وسلم فخذه تعجبا من سرعة جواب علي، ويحتمل أن يكون تسليما لما قال‏:‏ وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة، في هذا الحديث من الفوائد مشروعية التذكير للغافل خصوصا القريب والصاحب، لأن الغفلة من طبع البشر فينبغي للمرء أن يتفقد نفسه ومن يحبه بتذكير الخير والعون عليه، وفيه أن الاعتراض بأثر الحكمة لا يناسبه الجواب‏.‏
    (ج13/ ص 388)
    ال ابن المنذر وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالما بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالما فلا، واستدل بحديث ‏"‏ القضاة ثلاثة - وفيه - وقاض قضى بغير حق فهو في النار، وقاض قضى وهو لا يعلم فهو في النار ‏"‏ وهو حديث أخرجه أصحاب السنن عن بريدة بألفاظ مختلفة، وقد جمعت طرقه في جزء مفرد، ويؤيد حديث الباب ما وقع في قصة سليمان في حكم داود عليه السلام في أصحاب الحرث، وقد تقدمت الإشارة إليها فيما مضى قريبا‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ في معالم السنن إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعا لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بالخطأ، بخلاف المتكلف فيخاف عليه، ثم إنما يؤجر العالم لأن اجتهاده في طلب الحق عبادة، هذا إذا أصاب، وأما إذا أخطأ فلا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط كذا قال‏:‏ وكأنه يرى أن قوله ‏"‏ وله أجر واحد ‏"‏ مجاز عن وضع الإثم‏.‏
    (ج13/ ص 392)
    عقد البيهقي في المدخل باب الدليل على أنه قد يعزب على المتقدم الصحبة الواسع العلم الذي يعلمه غيره، ثم ذكر حديث أبي بكر في الجدة وهو في الموطأ، وحديث عمر في الاستئذان وهو المذكور في هذا الباب، وحديث ابن مسعود في الرجل الذي عقد على امرأة ثم طلقها فأراد أن يتزوج أمها، فقال‏:‏ لا بأس وإجازته بيع الفضة المكسرة بالصحيحة متفاضلا، ثم رجوعه عن الأمرين معا لما سمع من غيره من الصحابة النهي عنهما، وأشياء غير ذلك، وذكر فيه حديث البراء ‏"‏ ليس كلنا كان يسمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، كانت لنا صنعة وأشغال، ولكن كان الناس لا يكذبون، فيحدث الشاهد الغائب ‏"‏ وسنده ضعيف‏.‏
    وكذا حديث أنس ‏"‏ ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه ولكن لم يكذب بعضنا بعضا ‏"‏ ثم سرد ما رواه صحابي عن صحابي مما وقع في الصحيحين‏.‏
    (ج13/ ص 396)
    إن قال المجتهد قولا وانتشر لم يخالفه غيره بعد الاطلاع عليه فهو حجة، وقيل لا يكون حجة حتى يتعدد القيل به، ومحل هذا الخلاف أن لا يخالف ذلك القول نص كتاب أو سنة، فإن خالفه فالجمهور على تقديم النص، واحتج من منع مطلقا أن الصحابة اختلفوا في كثير من المسائل الاجتهادية، فمنهم من كان ينكر على غيره إذا كان القول عنده ضعيفا، وكان عنده ما هو أقوى منه من نص كتاب أو سنة، ومنهم من كان يسكت فلا يكون سكوته دليلا على الجواز، لتجويز أن يكون لم يتضح له الحكم، فسكت لتجويز أن يكون ذلك القول صوابا وإن لم يظهر له وجهه‏.‏
    (ج13/ ص 397)
    قد أخرج مسلم حديث الباب عن عبيد الله بن معاذ بلا واسطة، وهو أحد الأحاديث التي نزل فيها البخاري عن مسلم، أخرجها مسلم عن شيخ وأخرجها البخاري بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ وهي أربعة أحاديث ليس في الصحيح غيرها بطريق التصريح، وفيه عدة أحاديث نحو الأربعين مما يتنزل منزلة ذلك، وقد أفردتها في جزء جمعت ما وقع للبخاري من ذلك فكان أضعاف أضعاف ما وقع لمسلم، وذلك أن مسلما في هذه الأربعة باق على الرواية عن الطبقة الأول أو الثانية من شيوخه، وأما البخاري فإنه نزل فيها عن طبقته العالية بدرجتين، مثال ذلك من هذا الحديث أن البخاري إذا روى حديث شعبة عاليا كان بينه وبينه راو واحد، وقد أدخل بينه وبين شعبة فيه ثلاثة، وأما مسلم فلا يروي حديث شعبة بأقل من واسطتين‏.‏
    الحديث الثاني من الأربعة مضى في تفسير سورة الأنفال، أخرجه عن أحمد وعن محمد بن النضر النيسابوريين عن عبيد الله بن معاذ أيضا عن أبيه عن شعبة بسند آخر، وأخرجه مسلم عن عبيد الله بن معاذ نفسه‏.‏
    والحديث الثالث أخرجه في آخر المغازي عن أحمد بن الحسن الترمذي عن أحمد بن حنبل عن معتمر ابن سليمان عن كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن أبيه في عدد الغزوات، وأخرجه مسلم عن أحمد ابن حنبل بهذا السند بلا واسطة‏.‏
    والحديث الرابع وقع في ‏"‏ كتاب كفارة الأيمان ‏"‏ عن محمد بن عبد الرحيم، وهو الحافظ المعروف بصاعقة عن داود بن رشيد عن الوليد بن مسلم عن أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد ابن أسلم عن علي بن الحسين بن علي بن سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة في فضل العتق، وأخرجه مسلم عن داود بن رشيد نفسه وهذا مما نزل فيه البخاري عن طبقته درجتين، لأنه يروي حديث ابن غسان بواسطة واحدة كسعيد بن أبي مريم، وهنا بينهما ثلاث وسائط، وقد أشرت لكل حديث من هذه الأربعة في موضعه، وجمعتها هنا تتميما للفائدة
    وقد تكلم ابن دقيق العيد على مسألة التقرير في أوائل ‏"‏ شرح الإلمام ‏"‏ فقال‏:‏ ما ملخصه إذا أخبر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر ليس فيه حكم شرعي، فهل يكون سكوته صلى الله عليه وسلم دليلا على مطابقة ما في الواقع كما وقع لعمر في حلفه على ابن صياد هو الدجال فلم ينكر عليه، فهل يدل عدم إنكاره على أن ابن صياد هو الدجال كما فهمه جابر، حتى صار يحلف عليه ويستند إلى حلف عمر أو لا يدل، فيه نظر‏.‏
    قال‏:‏ والأقرب عندي أنه لا يدل، لأن مأخذ المسألة ومناطها هو العصمة من التقرير على باطل، وذلك يتوقف على تحقق البطلان، ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة، إلا أن يدعي مدع أنه يكفي في وجوب البيان عدم تحقق الصحة فيحتاج إلى دليل وهو عاجز عنه، نعم التقرير يسوغ الحلف على ذلك على غلبة الظن لعدم توقف ذلك على العلم انتهى ملخصا‏.‏
    (ج13/ ص 400)
    قال الخطابي اختلف السلف في أمر ابن صياد بعد كبره، فروى أنه تاب من ذلك القول ومات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا وجهه حتى يراه الناس، وقيل لهم اشهدوا‏.‏
    وقال النووي‏:‏ قال العلماء قصة ابن صياد مشكلة، وأمره مشتبه لكن لا شك أنه دجال من الدجاجلة، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه في أمره بشيء، وإنما أوحى إليه بصفات الدجال‏.‏
    وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يقطع في أمره بشيء بل قال لعمر ‏"‏ لا خير لك في قتله ‏"‏ الحديث وأما احتجاجاته هو بأنه مسلم إلى سائر ما ذكر فلا دلالة فيه على دعواه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت خروجه آخر الزمان قال‏:‏ ومن جملة ما في قصته قوله للنبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أتشهد أني رسول الله ‏"‏ وقوله ‏"‏ أنه يأتيه صادق وكاذب ‏"‏ وقوله ‏"‏ إنه تنام عينه ولا ينام قلبه ‏"‏ وقوله ‏"‏ أنه يرى عرشا على الماء، وأنه لا يكره أن يكون الدجال، وأنه يعرفه ويعرف مولده وموضعه وأين هو الآن ‏"‏ قال‏:‏ وأما إسلامه وحجه وجهاده فليس فيه تصريح بأنه غير الدجال، لاحتمال أن يختم له بالشر، فقد أخرج أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان ما يؤيد كون ابن صياد هو الدجال، فساق من طريق شبيل بمعجمة وموحدة مصغرا آخره لام، ابن عرزة بمهملة ثم زاي بوزن ضربة، عن حسان بن عبد الرحمن عن أبيه قال‏:‏ لما افتتحنا أصبهان كان بين عسكرنا وبين اليهودية فرسخ، فكنا نأتيها فنمتار منها، فأتيتها يوما فإذا اليهود يزفنون ويضربون، فسألت صديقا لي منهم فقال ملكنا الذي نستفتح به على العرب يدخل فبت عنده على سطح فصليت الغداة ‏"‏ فلما طلعت الشمس إذا لرهج من قبل العسكر فنظرت، فإذا رجل عليه قبة من ريحان واليهود يزفنون ويضربون، فنظرت فإذا هو ابن صياد، فدخل المدينة فلم يعد حتى الساعة‏.‏
    قلت‏:‏ وعبد الرحمن ابن حسان ما عرفته والباقون ثقات، وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن جابر قال ‏"‏ فقدنا ابن صياد يوم الحرة ‏"‏ وبسند حسن، مضى التنبيه عليه فقيل إنه مات‏.‏
    ما أخرجه من طريق جبير بن نفير وشريح بن عبيد وعمرو بن الأسود وكثير بن مرة، قالوا جميعا ‏"‏ الدجال ليس هو إنسان وإنما هو شيطان موثق بسبعين حلقة في بعض جزائر اليمن، لا يعلم من أوثقه سليمان النبي أو غيره، فإذا إن طهوره فك الله عنه كل عام حلقة‏.‏
    فإذا برز أتته أتان عرض ما بين أذنيها أربعون ذراعا فيضع على ظهرها منبرا من نحاس ويقعد عليه ويتبعه قبائل الجن يخرجون له خزائن الأرض ‏"‏ قلت‏:‏ وهذا لا يمكن معه كون ابن صياد هو الدجال، ولعل هؤلاء مع كونهم ثقات تلقوا ذلك من بعض كتب أهل الكتاب‏.‏
    وأخرج أبو نعيم أيضا من طريق كعب الأحبار أن الدجال تلده أمه بقوص من أرض مصر، قال وبين مولده ومخرجه ثلاثون سنة، قال ولم ينزل خبره في التوراة والإنجيل، وإنما هو في بعض كتب الأنبياء انتهى‏.‏
    وأخلق بهذا الخبر أن يكون باطلا، فإن الحديث الصحيح أن كل نبي قبل نبينا أنذر قومه الدجال‏.‏
    وذكر ابن وصيف المؤرخ أن الدجال من ولد شق الكاهن المشهور، قال وقال بل هو شق نفسه أنظره الله وكانت أمه جنية عشقت أباه فأولدها، وكان الشيطان يعمل له العجائب فأخذه سليمان فحبسه في جزيرة من جزائر البحر، وهذا أيضا في غاية الوهي، وأقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقا، وأن ابن صياد شيطان تبدي في صورة الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها، ولشدة التباس الأمر في ذلك سلك البخاري مسلك الترجيح فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صياد، ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم، وقد توهم بعضهم أنه غريب فرد وليس كذلك فقد رواه مع فاطمة بنت قيس أبو هريرة وعائشة وجابر، أما أبو هريرة فأخرجه أحمد من رواية عامر الشعبي عن المحرز بن أبي هريرة عن أبيه بطوله‏.‏
    وقد أخرج أحمد من حديث أبي ذر ‏"‏ لأن أحلف عشر مرار أن ابن صياد هو الدجال، أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه ليس هو ‏"‏ وسنده صحيح ومن حديث ابن مسعود نحوه لكن قال ‏"‏ سبعا ‏"‏ بدل عشر مرات أخرجه الطبراني والله أعلم؛ وفي الحديث جواز الحلف بما يغلب على الظن، ومن صوره المتفق عليها عند الشافعية ومن تبعهم أن من وجد بخط أبيه الذي يعرفه أن له عند شخص ما لا وغلب على ظنه صدقه أن له إذا طالبه، وتوجهت عليه اليمين أن يحلف على البت أنه يستحق قبض ذلك منه‏.‏
    (ج13/ ص 409)
    وقال ابن الجوزي المعنى أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبا لا أنه يتعمد الكذب وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار، وهو كعب بن ماتع بكسر المثناة بعدها مهملة ابن عمرو ابن قيس من آل ذي رعين، وقيل ذي الكلاع الحميري، وقيل غير ذلك في اسم جده ونسبه يكنى أبا إسحاق، كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم رجلا وكان يهوديا عالما بكتبهم حتى كان يقال له كعب الحبر كعب الأحبار، وكان إسلامه في عهد عمر، وقيل في خلافة أبي بكر، وقيل إنه أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتأخرت هجرته، والأول أشهر، والثاني قاله أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز، وأسنده ابن منده من طريق أبي إدريس الخولاني وسكن المدينة وغزا الروم في خلافة عمر، ثم تحول في خلافة عثمان إلى الشام فسكنها إلى أن مات بحمص في خلافة عثمان سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع وثلاثين والأول أكثر، قال ابن سعد ذكروه لأبي الدرداء فقال‏:‏ إن عند ابن الحميرية لعلما كثيرا‏.‏
    وأخرج ابن سعد من طريق عبد الرحمن بن جبير بن نفير قال‏:‏ قال معاوية إلا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلم كالبحار وإن كنا فيه لمفرطين، وفي تاريخ محمد ابن عثمان بن أبي شيبة من طريق ابن أبي ذئب أن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ ما أصبت في سلطاني شيئا إلا قد أخبرني به كعب قبل أن يقع، ثم ذكر فيه حديثين‏.‏
    (ج13/ ص 416)
    وقد اختلف في متعلق المشاورة فقيل في كل شيء ليس فيه نص وقيل في الأمر الدنيوي فقط وقال الداودي إنما كان يشاوره في أمر الحرب مما ليس فيه حكم لأن معرفة الحكم إنما تلتمس منه قال‏:‏ ومن زعم أنه كان يشاوره في الأحكام فقد غفل غفلة عظيمة وأما في غير الأحكام فربما رأى غيره أو سمع ما لم يسمعه أو يره كما كان يستصحب الدليل في الطريق وقال غيره اللفظ وإن كان عاما لكن المراد به الخصوص للاتفاق على أنه لم يكن يشاورهم في فرائض الأحكام‏.‏
    قلت‏:‏ وفي هذا الإطلاق نظر فقد أخرج الترمذي وحسنه وصححه ابن حبان من حديث علي قال‏:‏ ‏"‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول 00‏}‏ الآية، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما ترى‏؟‏ دينار‏.‏
    قلت‏:‏ لا يطيقونه قال‏:‏ فنصف دينار‏؟‏ قلت‏:‏ لا يطيقونه‏.‏
    قال‏:‏ فكم‏؟‏ قلت شعيرة‏.‏
    قال‏:‏ إنك لزهيد‏.‏
    فنزلت ‏{‏أأشفقتم‏.‏
    الآية‏}‏ قال‏:‏ فبي خفف الله عن هذه الأمة، ففي هذا الحديث المشاورة في بعض الأحكام‏.‏
    ونقل السهيلي عن ابن عباس أن المشاورة مختصة بأبي بكر وعمر ولعله من تفسير الكلبي ثم وجدت له مستندا في فضائل الصحابة لأسد بن موسى والمعرفة ليعقوب بن سفيان بسند لا بأس به عن عبد الرحمن بن غنم بفتح المعجمة وسكون النون وهو مختلف في صحبته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر ‏"‏ لو أنكما تتفقان على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبدا ‏"‏ وقد وقع في حديث أبي قتادة في نومهم في الوادي ‏"‏ إن تطيعوا أبا بكر وعمر ترشدوا ‏"‏ لكن لا حجة فيه للتخصيص ووقع في الأدب من رواية طاوس عن ابن عباس في قوله تعالى ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ قال في بعض الأمر قيل وهذا تفسير لا تلاوة، ونقله بعضهم قراءة عن ابن مسعود وعد كثير من الشافعية المشاورة في الخصائص واختلفوا في وجوبها فنقل البيهقي في المعرفة الاستحباب عن النص وبه جزم أبو نصر القشيري في تفسيره وهو المرجح‏.‏
    (ج13/ ص420)
    ن القراء كانوا أصحاب مجلس عمر ومشاورته، ومشاورة عمر الصحابة في حد الخمر تقدمت في ‏"‏ كتاب الحدود ‏"‏ ومشاورة عمر الصحابة في إملاص المرأة تقدمت في الديات، ومشاورة عمر في قتال الفرس تقدمت في الجهاد، ومشاورة عمر المهاجرين والأنصار ثم قريشا لما أرادوا دخول الشام وبلغه أن الطاعون وقع بها، وقد مضى مطولا مع شرحه في ‏"‏ كتاب الطب ‏"‏ وروينا في القطعيات من رواية إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال سل عنها عليا، قال ولقد شهدت عمر أشكل عليه شيء فقال هاهنا على، وفي كتاب النوادر للحميدي، والطبقات لمحمد بن سعد من رواية سعيد بن المسيب قال‏:‏ كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن - يعني علي بن أبي طالب - ومشاورة عثمان الصحابة أول ما استخلف فيما يفعل بعبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان وغيره، ظنا منه أن لهم في قتل أبيه مدخلا، وهي عند ابن سعد وغيره بسند حسن، ومشاورته الصحابة في جمع الناس على مصحف واحد، أخرجها ابن أبي داود في ‏"‏ كتاب المصاحف ‏"‏ من طرق عن علي منها قوله ‏"‏ ما فعل عثمان الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا ‏"‏ وسنده حسن‏.‏
    (ج13/ ص 420)
    وفي روايتنا في فوائد محمد بن عبد الله المعروف بابن أخي ميمي من مرسل سعيد بن المسيب وغيره، وكان رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعا شيئا من ذلك قالا سبحانك هذا بهتان عظيم، زيد بن حارثة وأبو أيوب، وزيد أيضا ليس أنصاريا، وفي تفسير سنيد من مرسل سعيد بن جبير أن سعد ابن معاذ لما سمع ما قيل في أمر عائشة قال ‏"‏ سبحانك هذا بهتان عظيم ‏"‏ وفي الإكليل للحاكم من طريق الواقدي أن أبي بن كعب قال ذلك، وحكي عن المبهمات لابن بشكوال ولم أره أنا فيها أن قتادة بن النعمان قال ذلك ‏"‏ فإن ثبت فقد اجتمع ممن قال ذلك ستة‏:‏ أربعة من الأنصار ومهاجريان‏"‏‏.
    انتهى كتاب " الاعتصام بالكتاب والسنة "
    ويليه آخر كتاب في " صحيح البخاري "
    كتاب " التوحيد " وبه ختم الإمام البخاري
    صحيحه "
    وفي هذا اليوم 21/ شعبان /1441 هجري
    14/ 4/ 2020 ميلادي :
    رايت فيما يرى النائم :
    إننا اجتمعنا في بيت من بيوت الله للافطار ومن العادة معنا أن نجتمع في رمضان
    للافطار في المسجد والمكوث إلى ما بعد التراويح فحصل كلام من أحد الاخوة
    ان يكون تقديم العشاء( المائدة ) بعد صلاة المغرب بعد الانتهاء من صلاة المغرب لأن العادة
    معنا تكون المائدة بعد آذان المغرب مباشرة فنصحنا بعض الاخوة بأن يكون بعد
    الصلاة وّذلك أروح للنفس وأهنأ وأبرأ من العشاء مباشرة بعد الفطر وإن شاء الله تعالى يكون فتح من الله ونصر قريب لفتح أبواب المساجد يكون على مشارف
    شهر رمضان بحوله وقوته
    بشرى خير في رمضان أن تفتح أبواب المساجد ويصلى القيام والتراويح في المساجد
    وان يرفع البلاء والوباء عن الامة الإسلامية إنه سميع قريب مجيب الدعاء
    وكما هو معلوم " نستبشر بالرؤيا الحسنة كما كان يتفاءل بالكلمة الطيبة
    ففي حديث البخاري: لم يبق من النبوة إلا المبشرات . قالوا : وما المبشرات؟ قال : الرؤيا الصالحة . وفي رواية مسلم: لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة.
    وفي الصحيحين أيضا: الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان.
    وفي صحيح مسلم: الرؤيا ثلاثة: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس.
    قال القرطبي: ويدخل فيه ما يلازمه في يقظته من الأعمال والعلوم والأقوال، وما يقوله الأطباء من أن الرؤيا من خلط غالب على الرائي ( ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) ... . اهـ .
    والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات "

  20. #220
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,737

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الخميس
    الموافق : 23/ شعبان / 1441 هجري
    الموافق : 16/ ابريل / 2020 ميلادي
    " ختم شرح صحيح البخاري "
    " كتاب التوحيد " وهو آخر كتاب في " صحيح الجامع للإمام البخاري " رحمه الله
    والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات "

    ..............................
    كتاب " التوحيد "
    (ج13/ ص 421)
    الفرق الأربع هم رءوس البدعة وقد سمى المعتزلة أنفسهم ‏"‏ أهل العدل والتوحيد ‏"‏ وعنوا بالتوحيد ما اعتقدوه من نفي الصفات الإلهية، لاعتقادهم أن إثباتها يستلزم التشبيه ومن شبه الله بخلقه أشرك، وهم في النفي موافقون للجهمية، وأما أهل السنة ففسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل، ومن ثم قال الجنيد فيما حكاه أبو القاسم القشيري ‏"‏ التوحيد إفراد القديم من المحدث ‏"‏ وقال أبو القاسم التميمي في ‏"‏ كتاب الحجة ‏"‏ التوحيد مصدر وحد يوحد، ومعنى وحدت الله اعتقدته منفردا بذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه، وقيل معنى وحدته علمته واحدا، وقيل سلبت عنه الكيفية والكمية فهو واحد في ذاته لا انقسام له، وفي صفاته لا شبيه له، في إلهيته وملكه وتدبيره لا شريك له ولا رب سواه ولا خالق غيره‏.‏
    وأما الجهمية فلم يختلف أحد ممن صنف في المقالات أنهم ينفون الصفات حتى نسبوا إلى التعطيل، وثبت عن أبي حنيفة أنه قال بالغ جهم في نفي التشبيه حتى قال إن الله ليس بشيء‏.‏
    وقال الكرماني الجهمية فرقة من المبتدعة ينتسبون إلى جهم بن صفوان مقدم الطائفة القائلة أن لا قدرة للعبد أصلا، وهم الجبرية بفتح الجيم وسكون الموحدة، ومات مقتولا في زمن هشام بن عبد الملك انتهى‏.‏
    وليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات‏.‏
    حتى قالوا إن القرآن ليس كلام الله وأنه مخلوق، وقد ذكر الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي في كتابه ‏"‏ الفرق بين الفرق ‏"‏ أن رءوس المبتدعة أربعة إلى أن قال‏:‏ والجهمية أتباع جهم بن صفوان الذي قال‏:‏ بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال‏.‏
    وقال لا فعل لأحد غير الله تعالى، وإنما ينسب الفعل إلى العبد مجازا من غير أن يكون فاعلا أو مستطيعا لشيء، وزعم أن علم الله حادث، وامتنع من وصف الله تعالى بأنه شيء أو حي أو عالم أو مريد، حتى قال لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره، قال وأصفه بأنه خالق ومحي ومميت وموحد بفتح المهملة الثقيلة لأن هذه الأوصاف خاصة به، وزعم أن كلام الله حادث، ولم يسم الله متكلما به، قال‏:‏ وكان جهم يحمل السلاح ويقاتل، وخرج مع الحارث بن سريج،
    ال البخاري في ‏"‏ كتاب خلق أفعال العباد ‏"‏ بلغني أن جهما كان يأخذ عن الجعد بن درهم، وكان خالد القسري وهو أمير العراق خطب فقال‏:‏ إني مضح بالجعد بن درهم لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما‏.‏
    قلت‏:‏ وكان ذلك في خلافة هشام بن عبد الملك، فكأن الكرماني انتقل ذهنه من الجعد إلى الجهم فإن قتل جهم كان بعد ذلك بمدة، ونقل البخاري عن محمد بن مقاتل قال‏:‏ قال عبد الله بن المبارك‏:‏ ولا أقول بقول الجهم أن له قولا يضارع قول الشرك أحيانا وعن ابن المبارك إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ونستعظم أن نحكي قول جهم، وعن عبد الله بن شوذب قال‏:‏ ترك جهم الصلاة أربعين يوما على وجه الشك‏.‏
    (ج13/ ص 423)
    قال ابن جزم في ‏"‏ كتاب الملل والنحل‏)‏ فرق المقرين بملة الإسلام خمس‏:‏ أهل السنة، ثم المعتزلة ومنهم القدرية، ثم المرجئة ومنهم الجهمية والكرامية ثم الرافضة ومنهم الشيعة، ثم الخوارج ومنهم الأزارقة والأباضية ثم افترقوا فرقا كثيرة، فأكثر افتراق أهل السنة في الفروع، وأما في الاعتقاد ففي نبذ يسيرة، وأما الباقون ففي مقالاتهم ما يخالف أهل السنة الخلاف البعيد والقريب، فأقرب فرق المرجئة من قال‏:‏ الإيمان التصديق بالقلب واللسان فقط وليست العبادة من الإيمان‏.‏
    وأبعدهم الجهمية القائلون بأن الإيمان عقد بالقلب فقط وإن أظهر الكفر والتثليث بلسانه، وعبد الوثن من غير تقية‏.‏
    والكرامية‏:‏ القائلون بأن الإيمان قول باللسان فقط وإن اعتقد الكفر بقلبه، وساق الكلام على بقية الفرق ثم قال‏:‏ فأما المرجئة فعمدتهم الكلام في الإيمان والكفر، فمن قال إن العبادة من الإيمان، وأنه يزيد وينقص ولا يكفر مؤمنا بذنب، ولا يقول إنه يخلد في النار فليس مرجئا، ولو وافقهم في بقية مقالاتهم‏.‏
    وأما المعتزلة فعمدتهم الكلام في الوعد والوعيد والقدر، فمن قال القرآن ليس بمخلوق وأثبت القدر ورؤية الله تعالى في القيامة، وأثبت صفاته الواردة في الكتاب والسنة وإن صاحب الكبائر لا يخرج بذلك عن الإيمان فليس بمعتزلي وإن وافقهن في سائر مقالاتهم وساق بقية ذلك إلى أن قال‏:‏ وأما الكلام فيما يوصف الله به فمشترك بين الفرق الخمسة، من مثبت لها وناف، فرأس النفاة المعتزلة والجهمية فقد بالغوا في ذلك حتى كادوا يعطلون، ورأس المثبتة مقاتل بن سليمان ومن تبعه من الرافضة والكرامية، فإنهم بالغوا في ذلك حتى شبهوا الله تعالى بخلقه، تعالى الله سبحانه عن أقوالهم علوا كبيرا، ونظير هذا التباين قول الجهمية إن العبد لا قدرة له أصلا، وقول القدرية إنه يخلق فعل نفسه‏.‏
    قلت‏:‏ وقد أفرد البخاري خلق أفعال العباد في تصنيف، وذكر منه هنا أشياء بعد فراغه مما يتعلق بالجهمية
    (ج13/ ص 426)
    كان ابتداء دخول اليهودية اليمن في زمن أسعد ذي كرب وهو تبع الأصغر كما ذكره ابن إسحاق مطولا في السيرة، فقام الإسلام وبعض أهل اليمن على اليهودية، ودخل دين النصرانية إلى اليمن بعد ذلك لما غلبت الحبشة على اليمن، وكان منهم أبرهة صاحب الفيل الذي غزا مكة وأراد هدم الكعبة حتى أجلاهم عنها سيف بن ذي يزن، كما ذكره ابن إسحاق مبسوطا أيضا، ولم يبق بعد ذلك باليمن أحد من النصارى أصلا إلا بنجران وهي بين مكة واليمن، وبقي ببعض بلادها قليل من اليهود‏.‏
    (ج13/ ص 427)
    فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله ‏"‏ وكذا أخرجه مسلم عن الشيخ الذي أخرجه عنه البخاري، وقد تمسك به من قال أول واجب المعرفة كإمام الحرمين واستدل بأنه لا يتأتى الإتيان بشيء من المأمورات على قصد الامتثال، ولا الانكفاف عن شيء من المنهيات على قصد الانزجار إلا بعد معرفة الآمر والناهي، واعترض عليه بأن المعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلال، وهو مقدمة الواجب فيجب فيكون أول واجب النظر، وذهب إلى هذا طائفة كابن فورك، وتعقب بأن النظر ذو أجزاء يترتب بعضها على بعض، فيكون أول واجب جزأ من النظر وهو محكي عن القاضي أبي بكر بن الطيب وعن الأستاذ أبي إسحاق الأسفرايني أول واجب القصد إلى النظر، وجمع بعضهم بين هذه الأقوال بأن من قال أول واجب المعرفة أراد طلبا وتكليفا، ومن قال النظر أو القصد أراد امتثالا لأنه يسلم أنه وسيلة إلى تحصيل المعرفة، فيدل ذلك على سبق وجوب المعرفة، وقد ذكرت في ‏"‏ كتاب الإيمان ‏"‏ من أعرض عن هذا من أصله وتمسك بقوله تعالى ‏{‏فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها‏}‏ وحديث ‏"‏ كل مولود يولد على
    (ج13/ ص 427)
    قرأت في جزء من كلام شيخ شيخنا الحافظ صلاح الدين العلائي ما ملخصه‏:‏ أن هذه المسألة مما تناقضت فيها المذاهب وتباينت بين مفرط ومفرط ومتوسط، فالطرف الأول قول من قال يكفي التقليد المحض في إثبات وجود الله تعالى ونفي الشريك عنه، وممن نسب إليه إطلاق ذلك عبيد الله بن الحسن العنبري وجماعة من الحنابلة والظاهرية، ومنهم من بالغ فحرم النظر في الأدلة واستند إلى ما ثبت عن الأئمة الكبار من ذم الكلام كما سيأتي بيانه‏.‏
    والطرف الثاني‏:‏ قول من وقف صحة إيمان كل أحد على معرفة الأدلة من علم الكلام، ونسب ذلك لأبي إسحاق الأسفرايني‏.‏
    وقال الغزالي‏:‏ أسرفت طائفة فكفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرروها فهو كافر، فضيقوا رحمة الله الواسعة وجعلوا الجنة مختصة بشر ذمة يسيرة من المتكلمين، وذكر نحوه أبو المظفر بن السمعاني وأطال في الرد على قائله، ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا‏:‏ لا يجوز أن تكلف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها، لأن في ذلك من المشقة أشد من المشقة في تعلم الفروع الفقهية‏.‏
    وأما المذهب المتوسط فذكره وسأذكره ملخصا بعد هذا‏.‏
    (ج13/ ص 429)
    وقال القرطبي في المفهم‏:‏ في شرح حديث ‏"‏ أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ‏"‏ الذي تقدم شرحه في أثناء ‏"‏ كتاب الأحكام ‏"‏ وهو في أوائل ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ من صحيح مسلم، هذا الشخص الذي يبغضه الله هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق ورده بالأوجه الفاسدة والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كما يقع لأكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة واصطلاحات مخترعة وقوانين جدلية وأمور صناعية مدار أكثرها على آراء سوفسطائية، أو مناقضات لفظية ينشأ بسببها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها ثم إن هؤلاء قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البله ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز الجواهر والألوان والأحوال، فأخذوا فيما أمسك عنه السلف الصالح من كيفيات تعلقات صفات الله تعالى وتعديدها واتحادها في نفسها، وهل هي الذات أو غيرها وفي الكلام‏:‏ هل هو متحد أو منقسم، وعلى الثاني‏:‏ هل ينقسم بالنوع أو الوصف، وكيف تعلق في الأزل بالمأمور مع كونه حادثا، ثم إذا انعدم المأمور هل يبقى التعلق، وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو نفس الأمر لعمرو بالزكاة إلى غير ذلك مما ابتدعوه مما لم يأمر به الشارع وسكت عنه الصحابة ومن سلك سبيلهم، بل نهوا عن الخوض فيها لعلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته بالعقل، لكون العقول لها حد تقف عنده، ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات وكيفية الصفات، ومن توقف في هذا فليعلم أنه إذا كان حجب عن كيفية نفسه مع وجودها، وعن كيفية إدراك ما يدرك به فهو عن إدراك غيره أعجز، وغاية علم العالم أن يقطع بوجود فاعل لهذه المصنوعات منزه عن الشبيه مقدس عن النظير متصف بصفات الكمال، ثم متى ثبت النقل عنه بشيء من أوصافه وأسمائه قبلناه واعتقدناه وسكتنا عما عداه، كما هو طريق السلف، وما عداه لا يأمن صاحب من الزلل، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما ثبت عن الأئمة المتقدمين كعمر ابن عبد العزيز ومالك بن أنس والشافعي، وقد قطع بعض الأئمة بأن الصحابة لم يخوضوا في الجوهر والعرض وما يتعلق بذلك من مباحث المتكلمين، فمن رغب عن طريقهم فكفاه ضلالا، قال‏:‏ وأفضي الكلام بكثير من أهله إلى الشك، وببعضهم إلى الإلحاد وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات، وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع وتطلبهم حقائق الأمور من غيره، وليس في قوة العقل ما يدرك ما في نصوص الشارع من الحكم التي استأثر بها، وقد رجع كثير من أئمتهم عن طريقهم، حتى جاء عن إمام الحرمين أنه قال ‏"‏ ركبت البحر الأعظم، وغصت في كل شيء نهى عنه أهل العلم في طلب الحق فرارا من التقليد والآن فقد رجعت واعتقدت مذهب السلف ‏"‏ هذا كلامه أو معناه وعنه أنه قال عند موته ‏"‏ يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغت ما تشاغلت به ‏"‏ إلى أن قال القرطبي‏:‏ ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقا بالذم‏:‏ إحداهما قول بعضهم إن أول واجب الشك إذ هو اللازم عن وجوب النظر أو القصد إلى النظر، وإليه أشار الإمام بقوله ركبت البحر‏.‏
    (ج13/ ص 429)
    قول جماعة منهم إن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه، حتى لقد أورد على بعضهم أن هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك، فقال لا تشنع علي بكثرة أهل النار، قال وقد رد بعض من لم يقل بهما على من قال بهما بطريق من الرد النظري وهو خطأ منه، فإن القائل بالمسألتين كافر شرعا، لجعله الشك في الله واجبا، ومعظم المسلمين كفارا حتى يدخل في عموم كلامه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهذا معلوم الفساد من الدين بالضرورة، وإلا فلا يوجد في الشرعيات ضروري، وختم القرطبي كلامه بالاعتذار عن إطالة النفس في هذا الموضع لما شاع بين الناس من هذه البدعة حتى اغتر بها كثير من الأغمار فوجب بذل النصيحة، والله يهدي من يشاء انتهى‏.‏
    وقال الآمدي في أبكار الأفكار‏:‏ ذهب أبو هاشم من المعتزلة إلى أن من لا يعرف الله بالدليل فهو كافر، لأن ضد المعرفة النكرة والنكرة كفر، قال‏:‏ وأصحابنا مجمعون على خلافه وإنما اختلفوا فيما إذا كان الاعتقاد موافقا لكن عن غير دليل، فمنهم من قال إن صاحبه مؤمن عاص بترك النظر الواجب، ومنهم من اكتفى بمجرد الاعتقاد الموافق وإن لم يكن عن دليل وسماه علما، وعلى هذا فلا يلزم من حصول المعرفة بهذا الطريق وجوب النظر‏.‏
    وقال غيره‏:‏ من منع التقليد وأوجب الاستدلال لم يرد التعمق في طريق المتكلمين، بل اكتفى بما لا يخلو عنه من نشأ بين المسلمين من الاستدلال بالمصنوع على الصانع، وغايته أنه يحصل في الذهن مقدمات ضرورية تتألف تألفا صحيحا وتنتج العلم، لكنه لو سئل كيف حصل له ذلك ما اهتدى للتعبير به، وقيل الأصل في هذا كله المنع من التقليد في أصول الدين وقد انفصل بعض الأئمة عن ذلك بأن المراد بالتقليد أخذ قول الغير بغير حجة، ومن قامت عليه حجة بثبوت النبوة حتى حصل له القطع بها، فمهما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم كان مقطوعا عنده بصدقه فإذا اعتقده لم يكن مقلدا لأنه لم يأخذ بقول غيره بغير حجة، وهذا مستند السلف قاطبة في الأخذ بما ثبت عندهم من آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهذا الباب، فآمنوا بالمحكم من ذلك وفوضوا أمر المتشابه منه إلى ربهم، وإنما قال من قال إن مذهب الخلف أحكم بالنسبة إلى الرد على من لم يثبت النبوة، فيحتاج من يريد رجوعه إلى الحق أن يقيم عليه الأدلة إلى أن يذعن فيسلم أو يعاند فيهلك، بخلاف المؤمن فإنه لا يحتاج في أصل إيمانه إلى ذلك، وليس سبب الأول إلا جعل الأصل عدم الإيمان فلزم إيجاب النظر المؤدي إلى المعرفة وإلا فطريق السلف أسهل من هذا كما تقدم إيضاحه من الرجوع إلى ما دلت عليه النصوص حتى يحتاج إلى ما ذكر من إقامة الحجة على من ليس بمؤمن، فاختلط الأمر على من اشترط ذلك والله المستعان‏.‏
    (ج13/ ص 430)
    قال غيره قول من قال طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم ليس بمستقيم، لأنه ظن أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه في ذلك، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، فجمع هذا القائل بين الجهل بطريقة السلف والدعوى في طريقة الخلف، وليس الأمر كما ظن، بل السلف في غاية المعرفة بما يليق بالله تعالى، وفي غاية التعظيم له والخضوع لأمره والتسليم لمراده، وليس من سلك طريق الخلف واثقا بأن الذي يتأوله هو المراد ولا يمكنه القطع بصحة تأويله، وأما قولهم في العلم فزادوا في التعريف عن ضرورة أو استدلال وتعريف العلم، انتهى
    (ج13/ ص 430)
    وقال أبو المظفر بن السمعاني تعقب بعض أهل الكلام قول من قال إن السلف من الصحابة والتابعين لم يعتنوا بإيراد دلائل العقل في التوحيد بأنهم لم يشتغلوا بالتعريفات في أحكام الحوادث وقد قبل الفقهاء ذلك واستحسنوه فدونوه في كتبهم، فكذلك علم الكلام، ويمتاز علم الكلام بأنه يتضمن الرد على الملحدين وأهل الأهواء، وبه تزول الشبهة عن أهل الزيغ ويثبت اليقين لأهل الحق، وقد علم الكل أن الكتاب لم تعلم حقيته، والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقل، وأجاب‏:‏ أما أولا فإن الشارع والسلف الصالح نهوا عن الابتداع وأمروا بالاتباع، وصح عن السلف أنهم نهوا عن علم الكلام وعدوه ذريعة للشك والارتياب‏.‏
    وأما الفروع فلم يثبت عن أحد منهم النهي عنها إلا من ترك النص الصحيح وقدم عليه القياس، وأما من اتبع النص وقاس عليه فلا يحفظ عن أحد من أئمة السلف إنكار ذلك، لأن الحوادث في المعاملات لا تنقضي وبالناس حاجة إلى معرفة الحكم، فمن ثم تواردوا على استحباب الاشتغال بذلك بخلاف علم الكلام‏.‏
    (ج13/ ص 432)
    قال القرطبي‏:‏ هذا الذي عليه أئمة الفتوى ومن قبلهم من أئمة السلف، واحتج بعضهم بما تقدم من القول في أصل الفطرة وبما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة أنهما حكموا بإسلام من أسلم من جفاة العرب ممن كان يعبد الأوثان، فقبلوا منهم الإقرار بالشهادتين، والتزام أحكام الإسلام من غير إلزام بتعلم الأدلة، وإن كان كثير منهم إنما أسلم لوجود دليل ما، فأسلم بسبب وضوحه له، فالكثير منهم قد أسلموا طوعا من غير تقدم استدلال، بل بمجرد ما كان عندهم من أخبار أهل الكتاب بأن نبيا سيبعث وينتصر على من خالفه، فلما ظهرت لهم العلامات في محمد صلى الله عليه وسلم بادروا إلى الإسلام، وصدقوه في شيء قاله ودعاهم إليه من الصلاة والزكاة وغيرهما، وكثير منهم كان يؤذن له في الرجوع إلى معاشه من رعاية الغنم وغيرها، وكانت أنوار النبوة وبركاتها تشملهم فلا يزالون يزدادون إيمانا ويقينا‏.‏
    وقال أبو المظفر بن السمعاني أيضا ما ملخصه‏:‏ إن العقل لا يوجب شيئا ولا يحرم شيئا، ولا حظ له في شيء من ذلك، ولو لم يرد الشرع بحكم ما وجب على أحد شيء، لقوله تعالى ‏(‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏)‏ وقوله ‏(‏لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏)‏ وغير ذلك من الآيات‏.‏
    فمن زعم أن دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام إنما كانت لبيان الفروع، لزمه أن يجعل العقل هو الداعي إلى الله دون الرسول ويلزمه أن وجود الرسول وعدمه بالنسبة إلى الدعاء إلى الله سواء، وكفى بهذا ضلالا‏.‏
    ونحن لا ننكر أن العقل يرشد إلى التوحيد وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك حتى لا يصح إسلام إلا بطريقه، مع قطع النظر عن السمعيات لكون ذلك خلاف ما دلت عليه آيات الكتاب والأحاديث الصحيحة التي تواترت ولو بالطريق المعنوي، ولو كان يقول أولئك لبطلت السمعيات التي لا مجال للعقل فيها أو أكثرها، بل يجب الإيمان بما ثبت من السمعيات، فإن عقلناه فبتوفيق الله وإلا اكتفينا باعتقاد حقيته على وفق مراد الله سبحانه وتعالى انتهى‏.‏
    ويؤيد كلامه ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس ‏"‏ أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدك الله الله أرسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن ندع اللات والعزى‏؟‏ قال‏:‏ نعم فأسلم ‏"‏ وأصله في الصحيحين في قصة ضمام بن ثعلبة، وفي حديث عمرو بن عبسة عند مسلم أنه ‏"‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما أنت‏؟‏ قال‏:‏ نبي الله‏.‏
    قلت‏:‏ الله أرسلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏
    قلت‏:‏ بأي شيء‏؟‏ قال‏:‏ أوحد الله لا أشرك به شيئا ‏"‏ الحديث، وفي حديث أسامة بن زيد في قصة قتله الذي قال لا إله إلا الله فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم
    (ج13/ ص 434)
    وفي كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وكسرى وغيرهما من الملوك يدعوهم إلى التوحيد؛ إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة التواتر المعنوي الدال على أنه صلى الله عليه وسلم لم يزد في دعائه المشركين على أن يؤمنوا بالله وحده ويصدقوه فيما جاء به عنه، فمن فعل ذلك قبل منه سواء كان إذعانه عن تقدم نظر أم لا، ومن توقف منهم نبهه حينئذ على النظر، أو أقام عليه الحجة إلى أن يذغن أو يستمر على عناده‏.‏
    وقال البيهقي في ‏"‏ كتاب الاعتقاد ‏"‏ سلك بعض أئمتنا في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمعجزات الرسالة فإنها أصل في وجوب قبول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
    وعلى هذا الوجه وقع إيمان الذين استجابوا للرسل، ثم ذكر قصة النجاشي وقول جعفر بن أبي طالب له ‏"‏ بعث الله إلينا رسولا نعرف صدقه فدعانا إلى الله وتلا علينا تنزيلا من الله لا يشبهه شيء فصدقناه وعرفنا أن الذي جاء به الحق
    الحديث بطوله، وقد أخرجه ابن خزيمة في ‏"‏ كتاب الزكاة ‏"‏ من صحيحه من رواية ابن إسحاق وحاله معروفة وحديثه في درجة الحسن،
    (ج13/ ص 434)
    وقد استدل من اشترط النظر بالآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ولا حجة فيها لأن من لم يشترط النظر لم ينكر أصل النظر، وإنما أنكر توقف الإيمان على وجود النظر بالطرق الكلامية، إذ لا يلزم من الترغيب في النظر جعله شرطا، واستدل بعضهم بأن التقليد لا يفيد العلم إذ لو أفاده لكان العلم حاصلا لمن قلد في قدم العالم ولمن قلد في حدوثه‏.‏
    وهو محال لإفضائه إلى الجمع بين النقيضين‏.‏
    وهذا إنما يتأتى في تقليد غير النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
    وأما تقليده صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه فلا يتناقض أصلا واعتذر بعضهم عن اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بإسلام من أسلم من الأعراب من غير نظر بأن ذلك كان لضرورة المبادئ‏.‏
    وأما بعد تقرر الإسلام وشهرته فيجب العمل بالأدلة ولا يخفى ضعف هذا الاعتذار والعجب أن من اشترط ذلك من أهل الكلام ينكرون التقليد وهم أول داع إليه حتى استقر في الأذهان أن من أنكر قاعدة من القواعد التي أصلوها فهو مبتدع ولو لم يفهمها ولم يعرف مأخذها وهذا هو محض التقليد فآل أمرهم إلى تكفير من قلد الرسول عليه الصلاة والسلام في معرفة الله تعالى والقول بإيمان من قلدهم وكفى بهذا ضلالا وما مثلهم إلا كما قال بعض السلف‏:‏ إنهم كمثل قوم كانوا سفرا فوقعوا في فلاة ليس فيها ما يقوم به البدن من المأكول والمشروب ورأوا فيها طرقا شتى فانقسموا قسمين فقسم وجدوا من قال لهم أنا عارف بهذه الطرق وطريق النجاة منها واحدة فاتبعوني فيها تنجوا فتبعوه فنجوا، وتخلفت عنه طائفة فأقاموا إلى أن وقفوا على أمارة ظهر لهم أن في العمل بها النجاة فعملوا بها فنجوا وقسم هجموا بغير مرشد ولا أمارة فهلكوا، فليست نجاة من اتبع المرشد بدون نجاة من أخذ بالأمارة إن لم تكن أول منها، ونقلت من جزء الحافظ صلاح الدين العلائي يمكن أن يفصل فيقال‏:‏ من لا له أهلية لفهم شيء من الأدلة أصلا وحصل له اليقين التام بالمطلوب إما بنشأته على ذلك أو لنور يقذفه الله في قلبه، فإنه يكتفي منه بذلك، ومن فيه أهلية لفهم الأدلة لم يكتف منه إلا بالإيمان عن دليل، ومع ذلك فدليل كل أحد يحسبه وتكفي الأدلة المجملة التي تحصل بأدنى نظر، ومن حصلت عنده شبهة وجب عليه التعلم إلى أن تزول عنه، قال فبهذا يحصل الجمع بين كلام الطائفة المتوسطة، وأما من غلا فقال لا يكفي إيمان المقلد فلا يلتفت إليه، لما يلزم منه من القول بعدم إيمان أكثر المسلمين، وكذا من غلا أيضا فقال لا يجوز النظر في الأدلة لما يلزم منه من أن أكابر السلف لم يكونوا من أهل النظر انتهى ملخصا‏.‏
    (ج13/ ص 434)
    وقد ورد عن تعزيره بالمال حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا ولفظه ‏"‏ ومن منعها - يعني الزكاة - فإنا آخذوها، وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ‏"‏ الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم، وأما ابن حبان فقال في ترجمة بهز بن حكيم لولا هذا الحديث لأدخلته في ‏"‏ كتاب الثقات ‏"‏ وأجاب من صححه ولم يعمل به بأن الحكم الذي دل عليه منسوخ وأن الأمر كان أولا كذلك ثم نسخ، وضعف النووي هذا الجواب من جهة أن العقوبة بالمال لا تعرف أولا حتى يتم دعوى النسخ ولأن النسخ لا يثبت إلا بشرطه كمعرفة التاريخ ولا يعرف ذلك، واعتمد النووي ما أشار إليه ابن حبان من تضعيف بهز وليس يجيد لأنه موثق عند الجمهور حتى قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح إذا كان دون بهز ثقة‏.‏
    وقال الترمذي‏:‏ تكلم فيه شعبة وهو ثقة عند أهل الحديث، وقد حسن له الترمذي عدة أحاديث، واحتج به أحمد وإسحاق والبخاري خارج الصحيح وعلق له في الصحيح‏.‏
    وقال أبو عبيدة الآجري عن أبي داود وهو عندي حجة لا عند الشافعي فإن اعتمد من قلد الشافعي على هذا كفاه، ويؤيده إطباق فقهاء الأمصار على ترك العمل به فدل على أن له معارضا راجحا، وقول من قال بمقتضاه يعد في ندرة المخالف وقد دل خبر الباب أيضا على أن الذي يقبض الزكاة الإمام أو من أقامه لذلك، وقد أطبق الفقهاء بعد ذلك على أن لأرباب الأموال الباطنة مباشرة الإخراج، وشذ من قال بوجوب الدفع إلى الإمام وهو رواية عن مالك، وفي القديم للشافعي نحوه على تفصيل عنهما فيه‏.‏
    (ج13/ ص 436)
    وفي قوله ‏(‏هل تعلم له سميا‏)‏ هل تعلم له شبها أو مثلا، وفي حديث الباب حجة لمن أثبت أن لله صفة وهو قول الجمهور، وشذ ابن حزم فقال هذه لفظة اصطلح عليها أهل الكلام من المعتزلة ومن تبعهم، ولم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، فإن اعترضوا بحديث الباب فهو من أفراد سعيد بن أبي هلال وفيه ضعف، قال‏:‏ وعلى تقدير صحته فقل هو الله أحد صفة الرحمن كما جاء في هذا الحديث، ولا يزاد عليه بخلاف الصفة التي يطلقونها فإنها في لغة العرب لا تطلق إلا على جوهر أو عرض كذا قال، وسعيد متفق على الاحتجاج به فلا يلتفت إليه في تضعيفه، وكلامه الأخير مردود باتفاق الجميع على إثبات الأسماء الحسنى، قال الله تعالى ‏(‏ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها‏)‏ وقال بعد أن ذكر منها عدة أسماء في آخر سورة الحشر ‏(‏له الأسماء الحسنى‏)‏ والأسماء المذكورة فيها بلغة العرب صفات ففي إثبات أسمائه إثبات صفاته، لأنه إذا ثبت أنه حي مثلا فقد وصف بصفة زائدة على الذات وهي صفة الحياة، ولولا ذلك لوجب الاقتصار على ما ينبئ عن وجود الذات فقط، وقد قاله سبحانه وتعالى ‏(‏سبحان ربك رب العزة عما يصفون‏)‏ فنزه نفسه عما يصفونه به من صفة النقص، ومفهومه أن وصفه بصفة الكمال مشروع، وقد قسم البيهقي وجماعة من أئمة السنة جميع الأسماء المذكورة في القرآن وفي الأحاديث الصحيحة على قسمين‏:‏ أحدهما صفات ذاته‏:‏ وهي ما استحقه فيما لم يزل ولا يزال، والثاني صفات فعله‏:‏ وهي ما استحقه فيما لا يزال دون الأزل، قال ولا يجوز وصفه إلا بما دل عليه الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة أو أجمع عليه، ثم منه ما اقترنت به دلالة العقل كالحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام من صفات ذاته، وكالخلق والرزق والإحياء والإماتة والعفو والعقوبة من صفات فعله، ومنه ما ثبت بنص الكتاب والسنة كالوجه واليد والعين من صفات ذاته، وكالاستواء والنزول والمجيء من صفات فعله، فيجوز إثبات هذه الصفات له لثبوت الخبر بها على وجه ينفي عنه التشبيه، فصفة ذاته لم تزل موجودة بذاته ولا تزال، وصفة فعله ثابتة عنه ولا يحتاج في الفعل إلى مباشرة ‏(‏إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون‏)‏ وقال القرطبي في المفهم‏:‏ اشتملت ‏(‏قل هو الله أحد‏)‏ على اسمين يتضمنان جميع أوصاف الكمال‏:‏ وهما الأحد والصمد، فإنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، فإن الواحد والأحد وان رجعا إلى أصل واحد فقد افترقا استعمالا وعرفا، فالوحدة راجعة إلى نفي التعدد والكثرة، والواحد أصل العدد من غير تعرض لنفي ما عداه والأحد يثبت مدلوله ويتعرض لنفي ما سواه، ولهذا يستعملونه في النفي ويستعملون الواحد في الإثبات، يقال ما رأيت أحدا ورأيت واحدا فالأحد في أسماء الله تعالى مشعر بوجوده الخاص به الذي لا يشاركه فيه غيره، وأما الصمد فإنه يتضمن جميع أوصاف الكمال لأن معناه الذي انتهى سؤدده بحيث يصمد إليه في الحوائج كلها وهو لا يتم حقيقة إلا لله، قال ابن دقيق العيد قوله ‏"‏ لأنها صفة الرحمن ‏"‏ يحتمل أن يكون مراده أن فيها ذكر صفة الرحمن كما لو ذكر وصف فعبر عن الذكر بأنه الوصف وإن لم يكن نفس الوصف ويحتمل غير ذلك إلا أنه لا يختص ذلك بهذه السورة لكن لعل تخصيصها بذلك لأنه ليس فيها إلا صفات الله سبحانه وتعالى فاختصت بذلك دون غيرها‏.‏
    (ج13/ ص 439)
    وقال ابن التين‏:‏ ‏"‏ الرحمن والرحيم ‏"‏ مشتقان من الرحمة وقيل هما اسمان من غير اشتقاق، وقيل يرجعان إلى معنى الإرادة، فرحمته إرادته تنعيم من يرحمه، وقيل راجعان إلى تركه عقاب من يستحق العقوبة‏.‏
    وقال الحليمي‏:‏ معنى ‏"‏ الرحمن ‏"‏ أنه مزيح العلل لأنه لما أمر بعبادته بين حدودها وشروطها فبشر وأنذر وكلف ما تحمله بنيتهم فصارت العلل عنهم مزاحة والحجج منهم منقطعة، قال ومعنى ‏"‏ الرحيم ‏"‏ أنه المثيب على العمل فلا يضيع لعامل أحسن عملا، بل يثيب العامل بفضل رحمته أضعاف عمله‏.‏
    وقال الخطابي‏:‏ ذهب الجمهور إلى أن ‏"‏ الرحمن ‏"‏ مأخوذ من الرحمة مبني على المبالغة ومعناه ذو الرحمة لا نظير له فيها، ولذلك لا يثنى ولا يجمع، واحتج له البيهقي بحديث عبد الرحمن بن عوف، وفيه خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي‏.‏
    قلت‏:‏ وكذا حديث الرحمة الذي اشتهر بالمسلسل بالأولية، أخرجه البخاري في التاريخ وأبو داود والترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ ‏"‏ الراحمون يرحمهم الرحمن ‏"‏ الحديث، ثم قال الخطابي‏:‏ ‏"‏ فالرحمن ‏"‏ ذو الرحمة الشاملة للخلق ‏"‏ والرحيم ‏"‏ فعيل بمعنى فاعل وهو خاص بالمؤمنين، قال تعالى ‏(‏وكان بالمؤمنين رحيما‏)‏ وأورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ‏"‏ الرحمن والرحيم ‏"‏ اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، وعن مقاتل أنه نقل عن جماعة من التابعين مثله، وزاد ‏"‏ فالرحمن ‏"‏ بمعنى المترحم، والرحيم بمعنى المتعطف، ثم قال الخطابي لا معنى لدخول الرقة في شيء من صفات الله تعالى، وكأن المراد بها اللطف ومعناه الغموض لا الصغر الذي هو من صفات الأجسام‏.‏
    قلت‏:‏ والحديث المذكور عن ابن عباس لا يثبت لأنه من رواية الكلبي عن ابن صالح عنه، والكلبي متروك الحديث وكذلك مقاتل، ونقل البيهقي عن الحسين بن المفضل البجلي أنه نسب راوي حديث ابن عباس إلى التصحيف وقال إنما هو الرفيق بالفاء وقواه البيهقي بالحديث الذي أخرجه مسلم عن عائشة مرفوعا ‏"‏ إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى عليه ما لا يعطي على العنف ‏"‏ وأورد له شاهدا من حديث عبد الله بن مغفل ومن طريق عبد الرحمن بن يحيى ثم قال و ‏"‏ الرحمن ‏"‏ خاص في التسمية عام في الفعل، و ‏"‏ الرحيم ‏"‏ عام في التسمية خاص في الفعل، واستدل بهذه الآية، على أن من حلف باسم من أسماء الله تعالى كالرحمن والرحيم انعقدت يمينه، وقد تقدم في موضعه، وعلى أن الكافر إذا أقر بالوحدانية للرحمن مثلا حكم بإسلامه، وقد خص الحليمي من ذلك ما يقع به الاشتراك كما لو قال الطبائعي، لا إله إلا المحي المميت، فإنه لا يكون مؤمنا حتى يصرح باسم لا تأويل فيه، ولو قال من ينسب إلى التجسيم من اليهود لا إله إلا الذي في السماء لم يكن مؤمنا كذلك، إلا إن كان عاميا لا يفقه معنى التجسيم فيكتفي منه بذلك كما في قصة الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم أنت مؤمنة، قالت نعم، قال فأين الله‏؟‏ قالت في السماء، فقال أعتقها فإنها مؤمنة، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم‏.‏
    وإن من قال لا إله إلا الرحمن حكم بإسلامه إلا إن عرف أنه قال ذلك عنادا وسمى غير الله رحمانا كما وقع لأصحاب مسيلمة الكذاب، قال الحليمي ولو قال اليهودي لا إله إلا الله لم يكن مسلما حتى يقر بأنه ليس كمثله شيء، ولو قال الوثني لا إله إلا الله وكان يزعم أن الصنم يقربه إلى الله لم يكن مؤمنا حتى تبرأ من عبادة الصنم‏.‏
    (ج13/ ص 440)
    حدهما الذي يظهر من تصرف البخاري في ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ أنه يسوق الأحاديث التي وردت في الصفات المقدسة فيدخل كل حديث منها في باب ويؤيده بآية من القرآن للإشارة إلى خروجها عن أخبار الآحاد على طريق التنزل في ترك الاحتجاج بها في الاعتقاديات، وإن من أنكرها خالف الكتاب والستة جميعا، وقد أخرج ابن أبي حاتم في ‏"‏ كتاب الرد على الجهمية ‏"‏ بسند صحيح عن سلام بن أبي مطيع وهو شيخ شيوخ البخاري أنه ذكر المبتدعة فقال‏:‏ ويلهم ماذا ينكرون من هذه الأحاديث، والله ما في الحديث شيء إلا وفي القرآن مثله، يقول الله تعالى ‏(‏إن الله سميع بصير - ويحذركم الله نفسه - والأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه - ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي - وكلم الله موسى تكليما - الرحمن على العرش استوى‏)‏ ونحو ذلك فلم يزل - أي سلام بن مطيع - يذكر الآيات من العصر إلى غروب الشمس؛ وكأنه لمح في هذه الترجمة بهذه الآية إلى ما ورد في سبب نزولها، وهو ما أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو يا الله يا رحمن، فقالوا كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين فنزلت‏.‏
    وأخرج عن عائشة بسند آخر نحوه، الثاني قوله في السند الأول حدثنا محمد كذا للأكثر قال الكرماني تبعا لأبي علي الجياني هو إما ابن سلام وإما ابن المثنى انتهى‏.‏
    (ج13/ ص 441)
    ثم نشأ الاختلاف‏:‏ هل القدرة من صفات الذات أو من صفات الأفعال‏؟‏ فمن نظر في القدرة إلى الاقتدار على إيجاد الرزق قال هي صفة ذات قديمة، ومن نظر إلى تعلق القدرة قال هي صفة فعل حادثة، ولا استحالة في ذلك في الصفات الفعلية والإضافية بخلاف الذاتية، وقوله في الحديث ‏"‏ أصبر ‏"‏ أفعل تفضيل من الصبر ومن أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى‏:‏ الصبور ومعناه الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة، وهو قريب من معنى الحليم، والحليم أبلغ في السلامة من العقوبة، والمراد بالأذى أذى رسله وصالحي عباده لاستحالة تعلق أذى المخلوقين به لكونه صفة نقص وهو منزه عن كل نقص، ولا يؤخر النقمة قهرا بل تفضلا، وتكذيب الرسل في نفي الصاحبة والولد عن الله أذى لهم، فأضيف الأذى لله تعالى للمبالغة في الإنكار عليهم والاستعظام لمقالتهم، ومنه قوله تعالى ‏(‏إن الذين يؤذون الله ورسوبه لعنهم الله في الدنيا والآخرة‏)‏ فإن معناه يؤذون أولياء الله وأولياء ورسوله
    (ج13/ ص 443)
    وضل من زعم من الفلاسفة أنه سبحانه وتعالى يعلم الجزئيات على الوجه الكلي لا الجزئي، واحتجوا بأمور فاسدة منها أن ذلك يؤدي إلى محال وهو تغير العلم فإن الجزئيات زمانية تتغير بتغير الزمان والأحوال، والعلم تابع للمعلومات في الثبات والتغير فيلزم تغير علمه، والعلم قائم بذاته فتكون محلا للحوادث وهو محال، والجواب أن التغير إنما وقع في الأحوال الإضافية، وهذا مثل رجل قام عن يمين الاسطوانة ثم عن يسارها ثم أمامها ثم خلفها، فالرجل هو الذي يتغير والاسطوانة بحالها، فالله سبحانه وتعالى عالم بما كنا عليه أمس وبما نحن عليه الآن وبما نكون عليه غدا، وليس هذا خبرا عن تغير علمه بل التغير جار على أحوالنا وهو عالم في جميع الأحوال على حد واحد، وأما السمعية فالقرآن العظيم طافح بما ذكرناه مثل قوله تعالى ‏(‏أحاط بكل شيء علما‏)‏ وقال ‏(‏لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر‏)‏ وقال تعالى ‏(‏إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه‏)
    (ج13/ ص 445)
    من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا ‏"‏ وما ادعاه من النفي متعقب، فإن بعض من لم يرسخ في الإيمان كان يظن ذلك حتى كان يرى أن صحة النبوة تستلزم إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على جميع المغيبات، كما وقع في المغازي لابن إسحاق أن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ضلت، فقال زيد بن الصيت بصاد مهملة وآخره مثناة وزن عظيم‏:‏ يزعم محمد أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن رجلا يقول كذا وكذا، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها وهي في شعب كذا قد حبستها شجرة، فذهبوا فجاءوه بها ‏"‏ فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، وهو مطابق لقوله تعالى ‏(‏فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول‏)‏ الآية، وقد اختلف في المراد بالغيب فيها فقيل هو على عمومه، وقيل ما يتعلق بالوحي خاصة، وقيل ما يتعلق بعلم الساعة وهو ضعيف لما تقدم في تفسير لقمان، أن علم الساعة مما استأثر الله بعلمه، إلا إن ذهب قائل ذلك، إلى أن الاستثناء منقطع، وقد تقدم ما يتعلق بالغيب هناك‏.‏
    قال الزمخشري‏:‏ في هذه الآية إبطال الكرامات لأن الذين يضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وتعقب بما تقدم وقال الإمام فخر الدين‏:‏ قوله على غيبه لفظ مفرد وليس فيه صيغة عموم، فيصح أن يقال إن الله لا يظهر على غيب واحد من غيوبه أحدا إلا الرسل، فيحمل على وقت وقوع القيامة ويقويه ذكرها عقب قوله ‏(‏أقريب ما توعدون‏)‏ وتعقب بأن الرسل لم يظهروا على ذلك‏.‏
    وقال أيضا يجوز أن يكون الاستثناء منقطعا، أي لا يظهر على غيبه المخصوص أحدا لكن من ارتضى من رسول فإنه يجعل له حفظه‏.‏
    وقال القاضي البيضاوي‏:‏ يخصص الرسول بالملك في اطلاعه على الغيب، والأولياء يقع لهم ذلك بالإلهام‏.‏
    وقال ابن المنير دعوى الزمخشري عامة ودليله خاص، فالدعوى امتناع الكرامات كلها، والدليل يحتمل أن يقال ليس فيه إلا نفي الاطلاع على الغيب بخلاف سائر الكرامات انتهى‏.‏
    وتمامه أن يقال المراد بالاطلاع على الغيب ‏"‏ علم ما سيقع قبل أن يقع على تفصيله ‏"‏ فلا يدخل في هذا ما يكشف لهم من الأمور المغيبة عنهم وما لا يخرق لهم من العادة، كالمشي على الماء وقطع المسافة البعيدة في مدة لطيفة ونحو ذلك‏.‏
    وقال الطيبي الأقرب تخصيص الاطلاع بالظهور والخفاء، فإطلاع الله الأنبياء على المغيب أمكن، ويدل عليه حرف الاستعلاء في ‏"‏ على غيبه ‏"‏ فضمن ‏"‏ يظهر ‏"‏ معنى يطلع، فلا يظهر على غيبه إظهارا تاما وكشفا جليا إلا لرسول يوحى إليه مع ملك وحفظة، ولذلك قال ‏(‏فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا‏)‏ وتعليله بقوله ‏(‏ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم‏)‏ وأما الكرامات فهي من قبيل التلويح واللمحات، وليسوا في ذلك كالأنبياء‏.‏
    وقد جزم الأستاذ أبو إسحاق بأن كرامات الأولياء لا تضاهي ما هو معجزة للأنبياء‏.‏
    وقال أبو بكر بن فورك‏:‏ الأنبياء مأمورون بإظهارها، والولي يجب عليه إخفاؤها؛ والنبي يدعي ذلك بما يقطع به بخلاف الولي فإنه لا يأمن الاستدراج‏.‏
    وفي الآية رد على المنجمين وعلى كل من يدعي أنه يطلع على ما سيكون من حياة أو موت أو غير ذلك لأنه مكذب للقرآن وهم أبعد شيء من الارتضا مع سلب صفة الرسلية عنهم‏.‏
    (ج13/ ص 448)
    أن ابن قتيبة ومن تبعه كالخطابي زعموا أنه مفيعل من الأمن قلبت الهمز هاء، وقد تعقب ذلك إمام الحرمين، ونقل إجماع العلماء على أن أسماء الله لا تصغر، ونقل البيهقي عن الحليمي أن المهيمن معناه الذي لا ينقص الطائع من ثوابه شيئا ولو كثر، ولا يزيد العاصي عقابا على ما يستحقه لأنه لا يجوز عليه الكذب، وقد سمي الثواب والعقاب جزاء وله أن يتفضل بزيادة الثواب ويعفو عن كثير من العقاب قال البيهقي‏:‏ هذا شرح قول أهل التفسير في المهيمن أنه الأمين، ثم ساق من طريق التيمي عن ابن عباس في قوله ‏"‏ مهيمنا عليه ‏"‏ قال مؤتمنا ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ المهيمن الأمين، ومن طريق مجاهد قال‏:‏ المهيمن الشاهد، وقيل‏:‏ المهيمن الرقيب على الشيء والحافظ له، وقيل‏:‏ الهيمنة القيام على الشيء، قال الشاعر‏:‏ ألا إن خير الناس بعد نبيه مهيمنه التاليه في العرف والنكر يريد القائم على الناس بعده بالرعاية لهم انتهى‏.‏
    (ج13/ ص 462)
    وقال ابن بطال الإحصاء يقع بالقول ويقع بالعمل فالذي بالعمل أن لله أسماء يختص بها كالأحد والمتعال والقدير ونحوها، فيجب الإقرار بها والخضوع عندها، وله أسماء يستحب الاقتداء بها في معانيها‏:‏ كالرحيم والكريم والعفو ونحوها، فيستحب للعبد أن يتحلى بمعانيها ليؤدي حق العمل بها فبهذا يحصل الإحصاء العملي، وأما الإحصاء القولي فيحصل بجمعها وحفظها والسؤال بها ولو شارك المؤمن غيره في العد والحفظ، فإن المؤمن يمتاز عنه بالإيمان والعمل بها‏.‏
    وقال ابن أبي حاتم في ‏"‏ كتاب الرد على الجهمية ‏"‏ ذكر نعيم بن حماد أن الجهمية قالوا‏:‏ إن أسماء الله مخلوقة، لأن الاسم غير المسمى، وادعوا أن الله كان ولا وجود لهذه الأسماء، ثم خلقها ثم تسمى بها، قال فقلنا لهم‏:‏ إن الله قال ‏(‏سبح اسم ربك الأعلى‏)‏ وقال ‏(‏ذلكم الله ربكم فاعبدوه‏)‏ فأخبر أنه المعبود ودل كلامه على اسمه بما دل به على نفسه، فمن زعم أن اسم الله مخلوق فقد زعم أن الله أمر نبيه أن يسبح مخلوقا، ونقل عن إسحاق بن راهويه عن الجهمية أن جهما قال‏:‏ لو قلت إن لله تسعة وتسعين اسما لعبدت تسعة وتسعين إلها، قال فقلنا لهم‏:‏ إن الله أمر عباده أن يدعوه بأسمائه، فقال ‏(‏ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها‏)‏ والأسماء جمع أقله ثلاثة ولا فرق في الزيادة على الواحد بين الثلاثة وبين التسعة والتسعين‏.‏
    (ج13/ ص 464)
    حديث أبي هريرة في القول عند النوم وقد تقدم شرحه مستوفى في الدعوات وفيه ‏"‏ باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ أضاف الوضع إلى الاسم، والرفع إلى الذات فدل على أن المراد بالاسم الذات وبالذات يستعان في الرفع والوضع لا باللفظ‏.‏
    (ج13/ ص 467)
    وقال التاج الكندي في الرد على الخطيب بن نباتة في قوله كنه ذاته ذات، بمعنى صاحبة تأنيث ذو وليس لها في اللغة مدلول غير ذلك، وإطلاق المتكلمين وغيرهم الذات بمعنى النفس خطأ عند المحققين، وتعقب بأن الممتنع استعمالها بمعنى صاحبة، أما إذا قطعت عن هذا المعنى واستعملت بمعنى الاسمية فلا محذور لقوله تعالى ‏(‏إنه عليم بذات الصدور‏)‏ أي بنفس الصدور، وقد حكى المطرزي كل ذات شيء وليس كل شيء ذاتا، وأنشد أبو الحسين فارس‏:‏ فنعم ابن عم القوم في ذات ماله إذا كان بعض القوم في ماله وفر ويحتمل أن تكون ‏"‏ ذات ‏"‏ هنا مقحمة كما في قولهم ذات ليلة، وقد ذكرت ما فيه في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ في باب العظة بالليل‏.‏
    وقال النووي في تهذيبه‏:‏ وأما قولهم - أي الفقهاء - في باب الأيمان فإن حلف بصفة من صفات الذات، وقول المهذب اللون كالسواد والبياض أعراض تحل الذات فمرادها بالذات الحقيقة وهو اصطلاح المتكلمين وقد أنكره بعض الأدباء وقال لا يعرف في لغة العرب ذات بمعنى حقيقة، قال وهذا الإنكار منكر فقد قال الواحدي في قوله تعالى ‏(‏فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم‏)‏ قال ثعلب أي الحالة التي بينكم فالتأنيث عنده لحالة‏.‏
    وقال‏:‏ الزجاج معنى ذات حقيقة والمراد بالبين الوصل، فالتقدير‏:‏ فأصلحوا حقيقة وصلكم، قال فذات عنده بمعنى النفس‏.‏
    وقال غيره ذات هنا كناية عن المنازعة فأمروا بالموافقة،
    (ج13/ ص 468)
    الاعتراض أقوى من الجواب وأصل الاعتراض للشيخ تقي الدين السبكي فيما أخبرني به عنه شيخنا أبو الفضل الحافظ، وقد ترجم البيهقي في الأسماء والصفات ما جاء في الذات، وأورد حديث أبي هريرة المتفق عليه في ذكر إبراهيم عليه السلام ‏"‏ إلا ثلاث كذبا اثنتين في ذات الله ‏"‏ وتقدم شرحه في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، وحديث أبي هريرة المذكور في الباب، وحديث ابن عباس ‏"‏ تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله ‏"‏ موقوف وسنده جيد، وحديث أبي الدرداء ‏"‏ لا تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله ‏"‏ ورجاله ثقات إلا أنه منقطع، ولفظ ذات في الأحاديث المذكورة بمعنى من أجل أو بمعنى حق، ومثله قول حسان‏:‏ وإن أخا الأحقاف إذ قام فيهم يجاهد في ذات الإله ويعدل وهي كقوله تعالى حكاية عن قول القائل‏:‏ يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، فالذي يظهر أن المراد جواز إطلاق لفظ ذات لا بالمعنى الذي أحدثه المتكلمون ولكنه غير مردود إذا عرف أن المراد به النفس لثبوت لفظ النفس في الكتاب العزيز، ولهذه النكتة عقب المصنف بترجمة النفس، وسيأتي في باب الوجه أنه ورد بمعنى الرضا وقال ابن دقيق العيد في العقيدة‏:‏ تقول في الصفات المشكلة أنها حق وصدق على المعنى الذي أراده الله، ومن تأولها نظرنا فإن كان تأويله قريبا على مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه، وإن كان بعيدا توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه‏.‏
    وما كان منها معناه ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب حملناه عليه لقوله ‏"‏ على ما فرطت في جنب الله ‏"‏ فإن المراد به في استعمالهم الشائع حق الله فلا يتوقف في حمله عليه، وكذا قوله ‏"‏ إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ‏"‏ فإن المراد به إرادة قلب ابن آدم مصرفة بقدرة الله وما يوقعه فيه، وكذا قوله تعالى ‏(‏فأتى الله بنيانهم من القواعد‏)‏ معناه خرب الله بنيانهم، وقوله ‏(‏إنما نطعمكم لوجه الله‏)‏ معناه لأجل الله، وقس على ذلك وهو تفصيل بالغ قل من تيقظ له‏.‏
    وقال غيره اتفق المحققون على أن حقيقة الله مخالفة لسائر الحقائق، وذهب بعض أهل الكلام إلى أنها من حيث إنها ذات مساوية لسائر الذوات، وإنما تمتاز عنها بالصفات التي تختص بها كوجوب الوجود، والقدرة التامة، والعلم التام، وتعقب بأن الأشياء المتساوية في تمام الحقيقة يجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر ‏"‏ فيلزم من دعوى التساوي المحال، وبأن أصل ما ذكروه قياس الغائب على الشاهد وهو أصل كل خبط، والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث والتفويض إلى الله في جميعها والاكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب الله في كتابه أو على لسان نبيه إثباته له أو تنزيهه عنه على طريق الإجمال وبالله التوفيق، ولو لم يكن في ترجيح التفويض على التأويل إلا أن صاحب التأويل ليس جازما بتأويله بخلاف صاحب التفويض‏.‏
    (ج13/ ص 468)
    وقال ابن أبي جمرة المراد بالظن هنا العلم وهو كقوله ‏(‏وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه‏)‏ وقال القرطبي في المفهم قيل معنى ظن عبدي بي ظن الإجابة عند الدعاء وظن القبول عند التوبة وظن المغفرة عند الاستغفار وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكا بصادق وعده‏.‏
    وقال ويؤيده قوله في الحديث الآخر ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة قال ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه موقنا بأن الله يقبله ويغفر له لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد فإن اعتقد أو ظن أن الله لا يقبلها وأنها لا تنفعه فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وكل إلى ما ظن كما في بعض طرق الحديث المذكور ‏"‏ فليظن بي عبدي ما شاء ‏"‏ قال‏:‏ وأما ظن المغفرة مع الإصرار فذلك محض الجهل والغرة وهو يجر إلى مذهب المرجئة‏.‏
    (ج13/ ص 473)
    ‏(‏ذكرته في ملأ خير منهم‏)‏ قال بعض أهل العلم يستفاد منه أن الذكر الخفي أفضل من الذكر الجهري والتقدير إن ذكرني في نفسه ذكرته بثواب لا أطلع عليه أحدا وإن ذكرني جهرا ذكرته بثواب أطلع عليه الملأ الأعلى وقال ابن بطال هذا نص في أن الملائكة أفضل من بني آدم وهو مذهب جمهور أهل العلم وعلى ذلك شواهد من القرآن مثل ‏(‏إلا أن تكونا ملك أو تكونا من الخالدين‏)‏ والخالد أفضل من الفاني فالملائكة أفضل من بني آدم وتعقب بأن المعروف عن جمهور أهل السنة أن صالحي بني آدم أفضل من سائر الأجناس والذين ذهبوا إلى تفضيل الملائكة الفلاسفة ثم المعتزلة وقليل من أهل السنة من أهل التصوف وبعض أهل الظاهر فمنهم من فاضل بين الجنسين فقالوا حقيقة الملك أفضل من حقيقة الإنسان لأنها نورانية وخيرة ولطيفة مع سعة العلم والقوة وصفاء الجوهر وهذا لا يستلزم تفضيل كل فرد على كل فرد لجواز أن يكون في بعض الأناسي ما في ذلك وزيادة ومنهم من خص الخلاف بصالحي البشر والملائكة ومنهم من خصه بالأنبياء ثم منهم من فضل الملائكة على غير الأنبياء ومنهم من فضلهم على الأنبياء أيضا إلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أدلة تفضيل النبي على الملك أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم على سبيل التكريم له حتى قال إبليس ‏(‏أرأيت هذا الذي كرمت علي‏)‏ ومنها قوله تعالى ‏(‏لما خلقت بيدي‏)‏ لما فيه من الإشارة إلى العناية به ولم يثبت ذلك للملائكة، ومنها قوله تعالى ‏(‏إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين‏)‏ ومنها قوله تعالى ‏(‏وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض‏)‏ فدخل في عمومه الملائكة، والمسخر له أفضل من المسخر، ولأن طاعة الملائكة بأصل الخلقة وطاعة البشر غالبا مع المجاهدة للنفس لما طبعت عليه من الشهوة والحرص والهوى والغضب؛ فكانت عبادتهم أشق، وأيضا فطاعة الملائكة بالأمر الوارد عليهم وطاعة البشر بالنص تارة وبالاجتهاد تارة والاستنباط تارة فكانت أشق ولأن الملائكة سلمت من وسوسة الشياطين وإلقاء الشبه والإغواء الجائزة على البشر ولأن الملائكة تشاهد حقائق الملكوت والبشر لا يعرفون ذلك إلا بالإعلام فلا يسلم منهم من إدخال الشبهة من جهة تدبير الكواكب وحركة الأفلاك إلا الثابت على دينه ولا يتم ذلك إلا بمشقة شديدة ومجاهدات كثيرة، وأما أدلة الآخرين فقد قيل إن حديث الباب أقوى ما استدل به لذلك للتصريح بقوله فيه في ملأ خير منهم
    م رأيته في كلام القاضي كمال الدين بن الزملكاني في الجزء الذي جمعه في الرفيق الأعلى فقال إن الله قابل ذكر العبد في نفسه بذكره له في نفسه، وقابل ذكر العبد في الملأ بذكره له في الملأ فإنما صار الذكر في الملأ الثاني خيرا من الذكر في الأول لأن الله وهو الذاكر فيهم والملأ الذين يذكرون والله فيهم أفضل من الملأ الذين يذكرون وليس الله فيهم، ومن أدلة المعتزلة تقديم الملائكة في الذكر في قوله تعالى ‏(‏من كان عدوا لله وملائكته ورسله - شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم - الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس‏)‏ وتعقب بأن مجرد التقديم في الذكر لا يستلزم التفضيل لأنه لم ينحصر فيه بل له أسباب أخرى كالتقديم بالزمان في مثل قوله ‏(‏ومنك ومن نوح وإبراهيم‏)‏ فقدم نوحا على إبراهيم لتقدم زمان نوح مع أن إبراهيم أفضل ومنها قوله تعالى ‏(‏لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون‏)‏ وبالغ الزمخشري فادعى أن دلالتها لهذا المطلوب قطعية بالنسبة لعلم المعاني فقال في قوله تعالى ‏(‏ولا الملائكة المقربون‏)‏ أي ولا من هو أعلى قدرا من المسيح، وهم الملائكة الكروبيون الذين حول العرش، كجبريل وميكائيل وإسرافيل، قال‏:‏ ولا يقتضي علم المعاني غير هذا من حيث إن الكلام إنما سيق للرد على النصارى لغلوهم في المسيح، فقيل لهم لن يترفع فيه المسيح عن العبودية ولا من هو أرفع درجة منه انتهى ملخصا،
    (ج13/ ص 474)
    أن يكون بصفة الملك من ترك الأكل والشرب والجماع، وهو من نمط إنكارهم أن يرسل الله بشرا مثلهم فنفى عنه أنه ملك، ولا يستلزم ذلك التفضيل، ومنها أنه سبحانه لما وصف جبريل ومحمدا، قال في جبريل ‏(‏إنه لقول رسول كريم‏)‏ وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏وما صاحبكم بمجنون‏)‏ وبين الوصفين بون بعيد، وتعقب بأن ذلك إنما سيق للرد على من زعم أن الذي يأتيه شيطان فكان وصف جبريل بذلك تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع بمثل ما وصف به جبريل هنا وأعظم منه، وقد أفرط الزمخشري في سوء الأدب هنا‏.‏
    وقال كلاما يستلزم تنقيص المقام المحمدي، وبالغ الأئمة في الرد عليه في ذلك وهو من زلاته الشنيعة‏.‏
    (ج13/ ص 475)
    وقال البيهقي‏:‏ تكرر ذكر الوجه في القرآن والسنة الصحيحة، وهو في بعضها صفة ذات كقوله‏:‏ إلا رداء الكبرياء على وجهه وهو ما في صحيح البخاري عن أبي موسى، وفي بعضها بمعنى من أجل كقوله ‏(‏إنما نطعمكم لوجه الله‏)‏ وفي بعضها بمعنى الرضا كقوله ‏(‏يريدون وجهه‏)‏ ، ‏(‏إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى‏)‏ وليس المراد الجارحة جزما والله أعلم‏.‏
    (ج13/ ص 477)
    قال الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتاب العقيدة له، أخبر الله في كتابه وثبت عن رسوله الاستواء والنزول والنفس واليد والعين، فلا يتصرف فيها بتشبيه ولا تعطيل، إذ لولا إخبار الله ورسوله ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى، قال الطيبي‏:‏ هذا هو المذهب المعتمد وبه يقول السلف الصالح‏.‏
    وقال غيره لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه من طريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك ولا المنع من ذكره، ومن المحال أن يأمر الله نبيه بتبليغ ما أنزل إليه من ربه وينزل عليه ‏(‏اليوم أكملت لكم دينكم‏)‏ ثم يترك هذا الباب فلا يميز ما يجوز نسبته إليه مما لا يجوز مع حضه على التبليغ عنه بقوله ‏"‏ ليبلغ الشاهد الغائب ‏"‏ حتى نقلوا أقواله وأفعاله وأحوله وصفاته وما فعل بحضرته، فدل على أنهم اتفقوا على الإيمان بها على الوجه الذي أراده الله منها، ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات بقوله تعالى ‏(‏ليس كمثله شيء‏)‏ فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم فقد خالف سبيلهم وبالله التوفيق‏.‏
    وقد سئلت هل يجوز لقارئ هذا الحديث أن يصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجبت وبالله التوفيق أنه إن حضر عنده من يوافقه على معتقده وكان يعتقد تنزيه الله تعالى عن صفات الحدوث وأراد التأسي محضا جاز، والأولى به الترك خشية أن يدخل على من يراه شبهة التشبيه تعالى الله عن ذلك، ولم أر في كلام أحد من الشراح في حمل هذا الحديث على معنى خطر لي فيه إثبات التنزيه، وحسم مادة التشبيه عنه، وهو أن الإشارة إلى عينه صلى الله عليه وسلم إنما هي بالنسبة إلى عين الدجال فإنها كانت صحيحة مثل هذه ثم طرأ عليها العور لزيادة كذبه في دعوى الإلهية، وهو أنه كان صحيح العين مثل هذه فطرأ عليها النقص ولم يستطع دفع ذلك عن نفسه‏.‏
    (ج13/ ص 481)
    اليد في اللغة تطلق لمعان كثيرة اجتمع لنا منها خمسة وعشرون معنى ما بين حقيقة ومجاز‏:‏ الأول الجارحة، الثاني القوة نحو ‏(‏داود ذا الأيد‏)‏ الثالث الملك ‏(‏أن الفضل بيد الله‏)‏ الرابع العهد ‏(‏يد الله فوق أيديهم‏)‏ ومنه قوله ‏"‏ هذي يدي لك بالوفاء ‏"‏ الخامس الاستسلام والانقياد قال الشاعر ‏"‏ أطاع يدا بالقول فهو ذلول ‏"‏ السادس النعمة قال ‏"‏ وكم لظلام الليل عندي من يد ‏"‏ السابع الملك ‏(‏قل إن الفضل بيد الله‏)‏ الثامن الذل ‏(‏حتى يعطوا الجزية عن يد‏)‏ التاسع ‏(‏أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح‏)‏ ، العاشر السلطان، الحادي عشر الطاعة، الثاني عشر الجماعة، الثالث عشر الطريق، يقال أخذتهم يد الساحل، والرابع عشر التفرق ‏"‏ تفرقوا أيدى سبأ ‏"‏ الخامس عشر الحفظ، السادس عشر يد القوس أعلاها، السابع عشر يد السيف مقبضه، الثامن عشر يد الرحى عود القابض، التاسع عشر جناح الطائر، العشرون المدة، يقال لا ألقاه يد الدهر، الحادي والعشرون الابتداء يقال لقيته أول ذات يدي، وأعطاه عن ظهر يد، الثاني والعشرون يد الثوب ما فضل منه، الثالث والعشرون يد الشيء أمامه، الرابع والعشرون الطاقة، الخامس والعشرون النقد نحو‏:‏ بعته يدا بيد‏.‏
    (ج13/ ص 487)
    ‏ وقال ابن بطال لا يحمل ذكر الإصبع على الجارحة بل يحمل على أنه صفة من صفات الذات لا تكيف ولا تحدد ‏"‏ وهذا ينسب للأشعري ‏"‏ وعن ابن فورك يجوز أن يكون الإصبع خلقا يخلقه الله فيحمله الله ما يحمل الإصبع، ويحتمل أن يراد به القدرة والسلطان، كقول القائل ما فلان إلا بين إصبعي إذا أراد الإخبار عن قدرته عليه، وأيد ابن التين الأول بأنه قال على إصبع ولم يقل على إصبعيه، قال ابن بطال‏:‏ وحاصل الخبر أنه ذكر المخلوقات وأخبر عن قدرة الله على جميعها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقا له وتعجبا من كونه يستعظم ذلك في قدرة الله تعالى، وأن ذلك ليس في جنب ما يقدر عليه بعظيم، ولذلك قرأ قوله تعالى ‏(‏وما قدروا الله حق قدره‏)‏ الآية أي ليس قدره في القدرة على ما يخلق على الحد الذي ينتهي إليه الوهم، ويحيط به الحصر لأنه تعالى يقدر على إمساك مخلوقاته على غير شيء كما هي اليوم، قال تعالى ‏(‏إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا‏)‏ وقال ‏(‏رفع السموات بغير عمد ترونها‏)‏ وقال الخطابي لم يقع ذكر الإصبع في القرآن ولا في حديث مقطوع به، وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع بل هو توقيف أطلقه الشارع فلا يكيف ولا يشبه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي، فإن اليهود مشبهة وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه ولا تدخل في مذاهب المسلمين، وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم من قول الحبر فيحتمل الرضا والإنكار، وأما قول الراوي ‏"‏ تصديقا ‏"‏ له فظن منه وحسبان، وقد جاء الحديث من عدة طرق ليس فيها هذه الزيادة، وعلى تقدير صحتها فقد يستدل بحمرة الوجه على الخجل، وبصفرته على الوجل، ويكون الأمر بخلاف ذلك، فقد تكون الحمرة لأمر حدث في البدن كثوران الدم، والصفرة لثوران خلط من مرار وغيره، وعلى تقدير أن يكون ذلك محفوظا فهو محمول على تأويل قوله تعالى ‏(‏والسموات مطويات بيمينه‏)‏ أي قدرته على طيها، وسهولة الأمر عليه في جمعها بمنزلة من جمع شيئا في كفه واستقل بحمله من غير أن يجمع كفه عليه بل يقله ببعض أصابعه، وقد جرى في أمثالهم فلان يقل - كذا - بإصبعه ويعمله بخنصره انتهى ملخصا
    (ج13/ ص 489)
    ال ابن بطال‏:‏ أجمعت الأمة على أن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شخص لأن التوقيف لم يرد به، وقد منعت منه المجسمة مع قولهم بأنه جسم لا كالأجسام كذا قال، والمنقول عنهم خلاف ما قال‏.‏
    وقال الإسماعيلي ليس في قوله لا شخص أغير من الله إثبات أن الله شخص بل هو كما جاء ‏"‏ ما خلق الله أعظم من آية الكرسي ‏"‏ فإنه ليس فيه إثبات أن آية الكرسي مخلوقة، بل المراد أنها أعظم من المخلوقات، وهو كما يقول من يصف امرأة كاملة الفضل حسنة الخلق ما في الناس رجل يشبهها، يريد تفضيلها على الرجال لا أنها رجل‏.‏
    وقال ابن بطال‏:‏ اختلفت ألفاظ هذا الحديث فلم يختلف في حديث ابن مسعود أنه بلفظ لا أحد، فظهر أن لفظ شخص جاء موضع أحد فكأنه من تصرف الراوي، ثم قال على أنه من باب المستثنى من غير جنسه كقوله تعالى ‏(‏وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن‏)‏ وليس الظن من نوع العلم‏.‏
    لت‏:‏ وهذا هو المعتمد وقد قرره ابن فورك ومنه أخذه ابن بطال فقال بعدما تقدم من التمثيل بقوله ‏(‏إن يتبعون إلا الظن‏)‏ فالتقدير أن الأشخاص الموصوفة بالغيرة لا تبلغ غيرتها وإن تناهت غيرة الله تعالى، وإن لم يكن شخصا بوجه، وأما الخطابي فبنى على أن هذا التركيب يقتضي إثبات هذا الوصف لله تعالى فبالغ في الإنكار وتخطئة الراوي، فقال‏:‏ إطلاق الشخص في صفات الله تعالى غير جائز لأن الشخص لا يكون إلا جسما مؤلفا فخليق أن لا تكون هذه اللفظة صحيحة، وأن تكون تصحيفا من الراوي ودليل ذلك أن أبا عوانة روى هذا الخبر عن عبد الملك فلم يذكرها، ووقع في حديث أبي هريرة وأسماء بنت أبي بكر بلفظ ‏"‏ شيء ‏"‏ والشيء والشخص في الوزن سواء، فمن لم يمعن في الاستماع لم يأمن الوهم وليس كل من الرواة يراعى لفظ الحديث حتى لا يتعداه، بل كثير منهم يحدث بالمعنى وليس كلهم فهما بل في كلام بعضهم جفاء وتعجرف، فلعل لفظ شخص جرى على هذا السبيل إن لم يكن غلطا من قبيل التصحيف يعني السمعي قال ثم إن عبيد الله بن عمرو انفرد عن عبد الملك فلم يتابع عليه واعتوره الفساد من هذه الأوجه ‏"‏ وقد تلقى هذا عن الخطابي أبو بكر بن فورك فقال لفظ الشخص غير ثابت من طريق السند فإن صح فبيانه في الحديث الآخر؛ وهو قوله ‏"‏ لا أحد ‏"‏ فاستعمل الراوي لفظ شخص موضع أحد ثم ذكر نحو ما تقدم عن ابن بطال ومنه أخذ ابن بطال، ثم قال ابن فورك وإنما منعنا من إطلاق لفظ الشخص أمور أحدها أن اللفظ لم يثبت من طريق السمع، والثاني الإجماع على المنع منه، والثالث أن معناه الجسم المؤلف المركب، ثم قال ومعنى الغيرة الزجر والتحريم، فالمعنى أن سعدا الزجور عن المحارم وأنا أشد زجرا منه، والله أزجر من الجميع انتهى، وطعن الخطابي ومن تبعه في السند مبني على تفرد عبيد الله بن عمرو به وليس كذلك، كما تقدم وكلامه ظاهر في أنه لم يراجع صحيح مسلم ولا غيره من الكتب التي وقع فيها هذا اللفظ من غير رواية عبيد الله بن عمرو، ورد الروايات الصحيحة والطعن في أئمة الحديث الضابطين مع إمكان توجيه ما رووا من الأمور التي أقدم عليها كثير من غير أهل الحديث، وهو يقتضي قصور فهم من فعل ذلك منهم، ومن ثم قال الكرماني لا حاجة لتخطئة الرواة الثقاة بل حكم هذا حكم سائر المتشابهات، إما التفويض وإما التأويل‏.‏
    لم يفصح المصنف بإطلاق الشخص على الله، بل أورد ذلك على طريق الاحتمال، وقد جزم في الذي بعده فتسميته شيئا لظهور ذلك فيما ذكره من الآيتين‏.‏
    ‏وقال كل شيء هالك إلا وجهه‏)
    اندراج المستثنى في المستثنى منه وهو الراجح، على أن لفظ شيء يطلق على الله تعالى وهو الراجح
    (ج13/ ص 491)
    وأشار ابن بطال إلى أن البخاري انتزع هذه الترجمة من كلام عبد العزيز بن يحيى المكي فإنه قال في ‏"‏ كتاب الحيدة ‏"‏ سمى الله تعالى نفسه شيئا إثباتا لوجوده ونفيا للعدم عنه، وكذا أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه ولم يجعل لفظ شيء من أسمائه بل دل على نفسه أنه شيء تكذيبا للدهرية ومنكري الإلهية من الأمم، وسبق في علمه أنه سيكون من يلحد في أسمائه ويلبس على خلقه ويدخل كلامه في الأشياء المخلوقة، فقال ‏(‏ليس كمثله شيء‏)‏ فأخرج نفسه وكلامه من الأشياء المخلوقة ثم وصف كلامه بما وصف به نفسه فقال ‏(‏وما قدروا الله حق قدره، إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء‏)‏ وقال تعالى ‏(‏أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء‏)‏ فدل على كلامه بما دل على نفسه ليعلم أن كلامه صفة من صفات ذاته فكل صفة تسمى شيئا بمعنى أنها موجودة وحكى ابن بطال أيضا أن في هذه الآيات والآثار ردا على من زعم أنه لا يجوز أن يطلق على الله شيء، كما صرح به عبد الله الناشئ المتكلم وغيره، وردا على من زعم أن المعدوم شيء، وقد أطبق العقلاء على أن لفظ شيء يقتضي إثبات موجود، وعلى أن لفظ لا شيء يقتضي نفي موجود إلا ما تقدم من إطلاقهم ليس بشيء في الذم فإنه بطريق المجاز‏.‏
    (ج13/ ص 496)
    وقال البيهقي في ‏"‏ الأسماء والصفات ‏"‏ اتفقت أقاويل هذا التفسير على أن العرش هو السرير وأنه جسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله وتعبدهم بتعظيمه والطواف به كما خلق في الأرض بيتا وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة، وفي الآيات - أي التي ذكرها - والأحاديث والآثار دلالة على صحة ما ذهبوا إليه‏.‏
    (ج13/ ص 496)
    قال ابن بطال اختلف الناس في الاستواء المذكور هنا فقالت المعتزلة معناه الاستيلاء بالقهر والغلبة واحتجوا بقول الشاعر‏:‏ قد استوى بشر على العراق من غير ودم مهراق وقالت الجسمية معناه الاستقرار‏.‏
    وقال بعض أهل السنة معناه ارتفع، وبعضهم معناه علا، وبعضهم معناه الملك والقدرة ومنه استوت له الممالك، يقال لمن أطاعه أهل البلاد، وقيل معنى الاستواء التمام والفراغ من فعل الشيء، ومنه قوله تعالى ‏(‏ولما بلغ أشده واستوى‏)‏ فعلى هذا فمعنى استوى على العرش أتم الخلق، وخص لفظ العرش لكونه أعظم الأشياء وقيل إن ‏"‏ على ‏"‏ في قوله على العرش بمعنى‏:‏ إلى، فالمراد على هذا انتهى إلى العرش أي فيما يتعلق بالعرش لأنه خلق الخلق شيئا بعد شيء، ثم قال ابن بطال‏:‏ فأما قول المعتزلة فإنه فاسد لأنه لم يزل قاهرا غالبا مستوليا، وقوله ‏"‏ثم استوى ‏"‏ يقتضي افتتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، ولازم تأويلهم أنه كان مغالبا فيه فاستولى عليه بقهر من غالبه، وهذا منتف عن الله سبحانه، وأما قول المجسمة ففاسد أيضا، لأن الاستقرار من صفات الأجسام ويلزم منه الحلول والتناهي، وهو محال في حق الله تعالى، ولائق بالمخلوقات لقوله تعالى ‏(‏فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك‏)‏ وقوله ‏(‏لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه‏)‏ قال وأما تفسير استوى‏:‏ علا فهو صحيح وهو المذهب الحق، وقول أهل السنة لأن الله سبحانه وصف نفسه بالعلي‏.‏
    وقال ‏(‏سبحانه وتعالى عما يشركون‏)‏ وهي صفة من صفات الذات، وأما من فسره‏:‏ ارتفع ففيه نظر لأنه لم يصف به نفسه، قال واختلف أهل السنة هل الاستواء صفة ذات أو صفة فعل، فمن قال معناه علا قال هي صفة ذات، ومن قال غير ذلك قال هي صفة فعل، وإن الله فعل فعلا سماه استوى على عرشه، لا أن ذلك قائم بذاته لاستحالة قيام الحوادث به انتهى ملخصا‏.‏
    قد نقل أبو إسماعيل الهروي في كتاب الفاروق بسنده إلى داود بن علي بن خلف قال‏:‏ كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي يعني محمد بن زياد اللغوي فقال له رجل ‏(‏الرحمن على العرش استوى‏)‏ فقال هو على العرش كما أخبر، قال يا أبا عبد الله إنما معناه استولى، فقال اسكت لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي سمعت ابن الأعرابي يقول أرادني أحمد بن أبي داود أن أجد له في لغة العرب ‏(‏الرحمن على العرش استوى‏)‏ بمعنى استولى فقلت والله ما أصبت هذا‏.‏
    وقال غيره لو كان بمعنى استولى لم يختص بالعرش، لأنه غالب على جميع المخلوقات، ونقل محيي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن معناه ارتفع وقال أبو عبيدة والفراء وغيرهما بنحوه‏.‏
    وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة أنها قالت ‏"‏ الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر ‏"‏ ومن طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى على العرش‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى الله الرسالة، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم ‏"‏ وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي قال كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله على عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته‏.‏
    وأخرج الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى ‏(‏ثم استوى على العرش‏)‏ فقال‏:‏ هو كما وصف نفسه‏.‏
    وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله ‏"‏ الرحمن على العرش استوى، كيف استوى‏؟‏ فأطرق مالك فأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال‏:‏ الرحمن على العرش استوى وصف به نفسه ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وما أراك إلا صاحب بدعة أخرجوه ‏"‏ ومن طريق يحيى بن يحيى عن مالك نحو المنقول عن أم سلمة لكن قال فيه ‏"‏ والإقرار به واجب، والسؤال عنه بدعة ‏"‏ وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال‏:‏ كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحددون لا يشبهون ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف، قال أبو داود وهو قولنا، قال البيهقي وعلى هذا مضى أكابرنا وأسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال‏:‏ اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسر شيئا منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفارق الجماعة، لأنه وصف الرب بصفة لا شيء، ومن طريق الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي ومالكا والثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا‏:‏ أمروها كما جاءت بلا كيف ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول‏:‏ لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر، فثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه، فقال ‏(‏ليس كمثله شيء‏)‏ وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة قال ‏"‏ كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه ‏"‏ ومن طريق أبي بكر الضبعي قال‏:‏ مذهب أهل السنة في قوله ‏(‏الرحمن على العرش استوى‏)‏ قال بلا كيف والآثار فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل‏.‏
    (ج13/ ص 502)
    ‏كان الله ولم يكن شيء قبله‏)‏ تقدم في بدء الخلق بلفظ ‏"‏ ولم يكن شيء غيره ‏"‏ وفي رواية أبي معاوية ‏"‏ كان الله قبل كل شيء ‏"‏ وهو بمعنى ‏"‏ كان الله ولا شيء معه ‏"‏ وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية، ووقفت في كلام له على هذا الحديث يرجح الرواية التي في هذا الباب على غيرها، مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه على التي في بدء الخلق لا العكس، والجمع يقدم على الترجيح بالاتفاق، قال الطيبي‏:‏ قوله ولم يكن شيء قبله حال، وفي المذهب الكوفي خبر، والمعنى يساعده إذ التقدير كان الله منفردا، وقد جوز الأخفش دخول الواو في خبر كان وأخواتها نحو‏:‏ كان زيد وأبوه قائم، على جعل الجملة خبرا مع الواو تشبيها للخبر بالحال، ومال التوربشتي إلى أنهما جملتان مستقلتان، وقد تقدم تقريره في بدء الخلق‏.‏
    وقال الطيبي لفظة ‏"‏ كان ‏"‏ في الموضعين بحسب حال مدخولها، فالمراد بالأول الأزلية والقدم، وبالثاني الحدوث بعد العدم، ثم قال فالحاصل أن عطف قوله ‏(‏وكان عرشه على الماء‏)‏ على قوله ‏"‏ كان الله ‏"‏ من باب الإخبار عن حصول الجملتين في الوجود وتفويض الترتيب إلى الذهن قالوا وفيه بمنزلة ثم‏.‏
    (ج13/ ص 506)
    اختلف الخبر الوارد في قدر مسافة ما بين السماء والأرض، وذكر هناك ما ورد في الترمذي أنها مائة عام وفي الطبراني خمسمائة، ويزاد هنا ما أخرجه ابن خزيمة في التوحيد من صحيحه وابن أبي عاصم في ‏"‏ كتاب السنة ‏"‏ عن ابن مسعود قال‏:‏ بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام‏.‏
    وفي رواية ‏"‏ وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء والله فوق العرش ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم ‏"‏ وأخرجه البيهقي من حديث أبي ذر مرفوعا نحوه دون قوله، وبين السابعة والكرسي إلخ، وزاد فيه ‏"‏ وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك ‏"‏ وفي حديث العباس بن عبد المطلب عند أبي داود وصححه ابن خزيمة والحاكم مرفوعا ‏"‏ هل تدرون بعدما بين السماء والأرض‏؟‏ قلنا لا، قال‏:‏ إحدى أو اثنتان أو ثلاث وسبعون، قال وما فوقها مثل ذلك حتى عد سبع سموات، ثم فوق السماء السابعة البحر أسفله من أعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوقه ثمانية أو عال ما بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء ثم العرش فوق ذلك بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم الله فوق ذلك ‏"‏ والجمع بين اختلاف هذا العدد في هاتين الروايتين أن تحمل الخمسمائة على السير البطيء كسير الماشي على هينته، وتحمل السبعين على السير السريع كسير السعاة، ولولا التحديد بالزيادة على السبعين لحملنا السبعين على المبالغة، فلا تنافي الخمسمائة، وقد تقدم الجواب عن الفوقية في الذي قبله‏.‏
    (ج13/ ص519)
    وأخرج بسند صحيح عن مجاهد‏:‏ ناظرة تنظر الثواب، وعن أبي صالح نحوه، وأورد الطبري الاختلاف فقال الأول عندي بالصواب ما ذكرناه عن الحسن البصري وعكرمة وهو ثبوت الرؤية لموافقته الأحاديث الصحيحة، وبالغ ابن عبد البر في رد الذي نقل عن مجاهد وقال هو شذوذ، وقد تمسك به بعض المعتزلة وتمسكوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان، وفيه ‏"‏ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ‏"‏ قال بعضهم فيه إشارة إلى انتفاء الرؤية، وتعقب بأن المنفي فيه رؤيته في الدنيا لأن العبادة خاصة بها، فلو قال قائل إن فيه إشارة إلى جواز الرؤية في الآخرة لما أبعد، وزعمت طائفة من المتكلمين كالسالمية من أهل البصرة أن في الخبر دليلا على أن الكفار يرون الله في القيامة من عموم اللقاء والخطاب‏.‏
    وقال بعضهم يراه بعض دون بعض، واحتجوا بحديث أبي سعيد حيث جاء فيه أن الكفار يتساقطون في النار إذا قيل لهم ألا تردون، ويبقى المؤمنون، وفيهم المنافقون فيرونه لما ينصب الجسر ويتبعونه، ويعطي كل إنسان منهم نوره ثم يطفأ نور المنافقين، وأجابوا عن قوله ‏(‏إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏ أنه بعد دخول الجنة وهو احتجاج مردود، فإن بعد هذه الآية ‏(‏ثم إنهم لصالوا الجحيم‏)‏ فدل على أن الحجب وقع قبل ذلك، وأجاب بعضهم بأن الحجب يقع عند إطفاء النور، ولا يلزم من كونه يتجلى للمؤمنين ومن معهم ممن أدخل نفسه فيهم أن تعمهم الرؤية لأنه أعلم بهم، فينعم على المؤمنين برؤيته دون المنافقين كما يمنعهم من السجود، والعلم عند الله تعالى
    (ج13/ ص 520)
    وقال ابن بطال ذهب أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله في الآخرة ومنع الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة، وتمسكوا بأن الرؤية توجب كون المرئي محدثا وحالا في مكان، وأولوا قوله ‏"‏ ناظرة ‏"‏ بمنتظرة وهو خطأ لأنه لا يتعدى بإلى، ثم ذكر نحو ما تقدم ثم قال وما تمسكوا به فاسد لقيام الأدلة على أن الله تعالى موجود، والرؤية في تعلقها بالمرئي بمنزلة العلم في تعلقه بالمعلوم فإذا كان تعلق العلم بالمعلوم لا يوجب حدوثه فكذلك المرئي‏.‏
    قال وتعلقوا بقوله تعالى ‏(‏لا تدركه الأبصار‏)‏ وبقوله تعالى لموسى ‏(‏لن تراني‏)‏ والجواب عن الأول أنه لا تدركه الأبصار في الدنيا جمعا بين دليلي الآيتين، وبأن نفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية لإمكان رؤية الشيء من غير إحاطة بحقيقته، وعن الثاني المراد لن تراني في الدنيا جمعا أيضا، ولأن نفي الشيء لا يقتضي إحالته مع ما جاء من الأحاديث الثابتة على وفق الآية، وقد تلقاها المسلمون بالقبول من لدن الصحابة والتابعين حتى حدث من أنكر الرؤية وخالف السلف‏.‏
    وقال القرطبي اشترط النفاة في الرؤية شروطا عقلية كالبنية المخصوصة والمقابلة واتصال الأشعة وزوال الموانع كالبعد والحجب في خبط لهم وتحكم، وأهل السنة لا يشترطون شيئا من ذلك سوى وجود المرئي، وأن الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائي فيرى المرئي وتقترن بها أحوال يجوز تبدلها والعلم عند الله تعالى‏.‏
    (ج13/ ص 524)
    وأما الساق فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏يوم يكشف عن ساق‏)‏ قال عن شدة من الأمر، والعرب تقول قامت الحرب على ساق إذا اشتدت، ومنه‏:‏ قد سن أصحابك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق وجاء عن أبي موسى الأشعري في تفسيرها عن نور عظيم قال ابن فورك‏:‏ معناه ما يتجدد للمؤمنين من الفوائد والألطاف‏.‏
    وقال المهلب كشف الساق للمؤمنين رحمة ولغيرهم نقمة‏.‏
    وقال الخطابي تهيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس أن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة، وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن، وزاد‏:‏ إذا خفي عليكم شيء من القرآن فأتبعوه من الشعر وذكر الرجز المشار إليه، وأنشد الخطابي في إطلاق الساق على الأمر الشديد ‏"‏ في سنة قد كشفت عن ساقها ‏"‏ وأسند البيهقي من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال‏:‏ يريد يوم القيامة، قال الخطابي وقد يطلق ويراد النفس، وقوله فيه ‏"‏ ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا ‏"‏ ذكر العلامة جمال الدين بن هشام في المغني أنه وقع في البخاري في هذا الموضع ‏"‏ كيما ‏"‏ مجردة وليس بعدها لفظ يسجد فقال بعد أن حكى عن الكوفيين‏:‏ إن كي ناصبة دائما، قال ويرده قولهم كيمه كما يقولون لمه، وأجابوا بأن التقدير كي تفعل ماذا، ويلزمهم كثرة الحذف وإخراج ما الاستفهامية عن الصدر وحذف ألفها في غير الجر، وحذف الفعل المنصوب مع بقاء عامل النصب وكل ذلك لم يثبت، نعم وقع في صحيح البخاري في تفسير ‏(‏وجوه يومئذ ناضرة‏)‏ فيذهب كيما فيعود ظهره طبقا واحدا، أي كيما يسجد، وهو غريب جدا لا يحتمل القياس عليه انتهى كلامه
    (ج13/ ص 527)
    قال ابن بطال معنى رفع الحجاب إزالة الآفة من أبصار المؤمنين المانعة لهم من الرؤية فيرونه لارتفاعها عنهم بخلق ضدها فيهم، ويشير إليه قوله تعالى في حق الكفار ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏ وقال الحافظ صلاح الدين العلائي في شرح قوله في قصة معاذ ‏"‏ واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ‏"‏ المراد بالحاجب والحجاب نفي المانع من الرؤية كما نفى عدم إجابة دعاء المظلوم ثم استعار الحجاب للرد فكان نفيه دليلا على ثبوت الإجابة والتعبير بنفي الحجاب أبلغ من التعبير بالقبول، لأن الحجاب من شأنه المنع من الوصول إلى المقصود فاستعير نفيه لعدم المنع، ويتخرج كثير من أحاديث الصفات على الاستعارة التخييلية، وهي أن يشترك شيئان في وصف ثم يعتمد لوازم أحدهما حيث تكون جهة الاشتراك وصفا فيثبت كماله في المستعار بواسطة شيء آخر فيثبت ذلك للمستعار مبالغة في إثبات المشترك، قال وبالحمل على هذه الاستعارة التخييلية يحصل التخلص من مهاوي التجسم،
    (ج13/ ص 530)
    جمع الدار قطني طرق الأحاديث الواردة في رؤية الله تعالى في الآخرة فزادت على العشرين، وتبعها ابن القيم في حادي الأرواح فبلغت الثلاثين وأكثرها جياد، وأسند الدار قطني عن يحيى بن معين قال عندي سبعة عشر حديثا في الرؤية صحاح‏.‏
    (ج13/ ص 531)
    قال الخطابي‏:‏ معنى الرحمن ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم وأسباب معايشهم ومصالحهم، قال‏:‏ والرحيم خاص بالمؤمنين كما قال سبحانه ‏(‏وكان بالمؤمنين رحيما‏)‏ وقال غيره‏:‏ الرحمن خاص في التسمية عام في الفعل، والرحيم عام في التسمية خاص في الفعل انتهى‏.‏
    (ج13/ ص 534)
    (‏فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا وأنه ينشئ للنار من يشاء‏)‏ قال أبو الحسن القابسي المعروف في هذا الموضع أن الله ينشئ للجنة خلقا وأما النار فيضع فيها قدمه قال‏:‏ ولا أعلم في شيء من الأحاديث أنه ينشئ للنار خلقا إلا هذا انتهى‏.‏
    وقد مضى في تفسير سورة ق من طريق محمد بن سرين عن أبي هريرة ‏"‏ يقال لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد فيضع الرب عليها قدمه فتقول قط قط ‏"‏ ومن طريق همام بلفظ ‏"‏ فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول قط قط فهناك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا ‏"‏ وتقدم هناك بيان اختلافهم في المراد بالقدم مستوفى، وأجاب عياض بأن أحد ما قيل في تأويل القدم أنهم قوم تقدم في علم الله أنه يخلقهم قال‏:‏ فهذا مطابق للإنشاء، وذكر القدم بعد الإنشاء يرجح أن يكونا متغايرين، وعن المهلب قال في هذه الزيادة حجة لأهل السنة في قولهم إن لله أن يعذب من لم يكلفه لعبادته في الدنيا لأن كل شيء ملكه فلو عذبهم لكان غير ظالم انتهى‏.‏
    وأهل السنة إنما تمسكوا في ذلك بقوله تعالى ‏(‏لا يسئل عما يفعل‏)‏ و ‏(‏يفعل ما يشاء‏)‏ وغير ذلك، وهو عندهم من جهة الجواز، وأما الوقوع ففيه نظر، وليس في الحديث حجة للاختلاف في لفظه ولقبوله التأويل، وقد قال جماعة من الأئمة إن هذا الموضع مقلوب، وجزم ابن القيم بأنه غلط واحتج بأن الله تعالى أخبر بأن جهنم تمتلئ من إبليس وأتباعه وكذا أنكر الرواية شيخنا البلقيني واحتج بقوله ‏(‏ولا يظلم ربك أحدا‏)‏ ثم قال وحمله على أحجار تلقى في النار أقرب من حمله على ذي روح يعذب بغير ذنب انتهى، ويمكن التزام أن يكونوا من ذوي الأرواح ولكن لا يعذبون كما في الخزنة، ويحتمل أن يراد بالإنشاء ابتداء إدخال الكفار النار، وعبر عن ابتداء الإدخال بالإنشاء فهو إنشاء الإدخال لا الإنشاء بمعنى ابتداء الخلق بدليل قوله ‏"‏ فيلقون فيها وتقول هل من مزيد ‏"‏ وأعادها ثلاث مرات ثم قال ‏"‏ حتى يضع فيها قدمه فحينئذ تمتلئ ‏"‏ فالذي يملؤها حتى تقول حسبي هو القدم كما هو صريح الخبر وتأويل القدم قد تقدم والله أعلم، وقد أيد ابن أبي جمرة حمله على غير ظاهره بقوله تعالى ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏ إذ لو كان على ظاهره لكان أهل النار في نعيم المشاهدة كما يتنعم أهل الجنة برؤية ربهم لأن مشاهدة الحق لا يكون معها عذاب‏.‏
    (ج13/ ص 538)
    الاستدلال ووهم من ظن أن المراد بالأمر هنا هو المراد بقوله تعالى ‏(‏وكان أمر الله مفعولا‏)‏ لأن المراد به في هذه الآية المأمور فهو الذي يوجد بكن، وكن صيغة الأمر وهي من كلام الله وهو غير مخلوق، والذي يوجد بها هو المخلوق وأطلق عليه الأمر لأنه نشأ عنه، ثم وجدت بيان مراده في كتابه الذي أفرده في خلق أفعال العباد فقال‏:‏ اختلف الناس في الفاعل والفعل والمفعول فقالت القدرية الأفاعيل كلها من البشر‏.‏
    وقالت الجبرية الأفاعيل كلها من الله‏.‏
    وقالت الجهمية الفعل والمفعول واحد ولذلك قالوا كن مخلوق‏.‏
    وقال السلف‏:‏ التخليق فعل الله وأفاعيلنا مخلوقة، ففعل الله صفة الله والمفعول من سواه من المخلوقات انتهى‏.‏
    ومسألة التكوين مشهورة بين المتكلمين وأصلها‏:‏ إنهم اختلفوا هل صفة الفعل قديمة أو حادثة‏؟‏ فقال جمع من السلف منهم أبو حنيفة‏:‏ هي قديمة‏.‏
    وقال آخرون منهم ابن كلاب والأشعري‏:‏ هي حادثة لئلا يلزم أن يكون المخلوق قديما، وأجاب الأول بأنه يوجد في الأزل صفة الخلق ولا مخلوق، وأجاب الأشعري بأنه لا يكون خلق ولا مخلوق كما لا يكون ضارب ولا مضروب فألزموه بحدوث صفات فيلزم حلول الحوادث بالله، فأجاب بأن هذه الصفات لا تحدث في الذات شيئا جديدا فتعقبوه بأنه يلزم أن لا يسمى في الأزل خالقا ولا رازقا، وكلام الله قديم وقد ثبت أنه فيه الخالق الرزاق فانفصل بعض الأشعرية بأن إطلاق ذلك إنما هو بطريق المجاز وليس المراد بعدم التسمية عدمها بطريق الحقيقة، ولم يرتض هذا بعضهم بل قال وهو المنقول عن الأشعري نفسه‏:‏ إن الأسامي جارية مجرى الأعلام والعلم ليس بحقيقة ولا مجاز في اللغة، وأما في الشرع فلفظ الخالق الرازق صادق عليه تعالى بالحقيقة الشرعية والبحث إنما هو فيها لا في الحقيقة اللغوية فألزموه بتجويز إطلاق اسم الفاعل على من لم يقم به الفعل، فأجاب أن الإطلاق هنا شرعي لا لغوي انتهى‏.‏
    وتصرف البخاري في هذا الموضع يقتضي موافقة القول الأول، والصائر إليه يسلم من الوقوع في مسألة حوادث لا أول لها وبالله التوفيق، وأما ابن بطال فقال‏:‏ غرضه بيان أن جميع السموات والأرض وما بينهما مخلوق، لقيام دلائل الحدوث عليها، ولقيام البرهان على أنه لا خالق غير الله وبطلان قول من يقول إن الطبائع خالقة أو الأفلاك أو النور أو الظلمة أو العرش، فلما فسدت جميع هذه المقالات لقيام الدليل على حدوث ذلك كله وافتقاره إلى محدث لاستحالة وجود محدث لا محدث له وكتاب الله شاهد بذلك كآية الباب، استدل بآيات السموات والأرض على وحدانيته وقدرته وأنه الخلاق العظيم وأنه خلاق سائر المخلوقات، لانتفاء الحوادث عنه الدالة على حدوث من يقوم به وأن ذاته وصفاته غير مخلوقة، والقرآن صفة له فهو غير مخلوق ولزم من ذلك أن كل ما سواه كان عن أمره وفعله وتكوينه وكل ذلك مخلوق له انتهى، ولم يعرج على ما أشار إليه البخاري فلله الحمد على ما أنعم‏.‏
    (ج13/ ص 542)
    قاله القاضي عياض‏:‏ قال ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية حدثنا أبي قال قال أحمد بن حنبل‏:‏ دل على أن القرآن غير مخلوق حديث عبادة ‏"‏ أول ما خلق الله القلم فقال اكتب ‏"‏ الحديث قال‏:‏ وإنما نطق القلم بكلامه لقوله ‏(‏إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏)‏ قال فكلام الله سابق على أول خلقه فهو غير مخلوق، وعن الربيع بن سليمان سمعت البويطي يقول خلق الله الخلق كله بقوله ‏(‏كن‏)‏ فلو كان كن مخلوقا لكان قد خلق الخلق بمخلوق ليس كذلك

    .......................
    (ج13/ ص 543)
    فالإضافة على ثلاث مراتب‏:‏ إضافة إيجاد وإضافة تشريف وإضافة صفة، والذي يدل على أن الروح مخلوقة عموم قوله تعالى‏:‏ الله خالق كل شيء، وهو رب كل شيء، ربكم ورب آبائكم الأولين، والأرواح مربوبة وكل مربوب مخلوق، رب العالمين، وقوله تعالى لزكريا‏:‏ ‏(‏وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا‏)‏ وهذا الخطاب لجسده وروحه معا، ومنه قوله ‏(‏هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا‏)‏ وقوله تعالى ‏(‏ولقد خلقناكم ثم صورناكم‏)‏ سواء قلنا إن قوله خلقنا يتناول الأرواح والأجساد معا أو الأرواح فقط، ومن الأحاديث الصحيحة حديث عمران بن حصين ‏"‏ كان الله ولم يكن شيء غيره ‏"‏ وقد تقدم التنبيه عليه في ‏"‏ كتاب بدء الخلق ‏"‏ وقد وقع الاتفاق على أن الملائكة مخلوقون وهم أرواح، وحديث ‏"‏ الأرواح جنود مجندة ‏"‏ والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة، وقد تقدم هذا الحديث وشرحه في ‏"‏ كتاب الأدب ‏"‏ وحديث أبي قتادة أن بلالا قال لما ناموا في الوادي‏:‏ يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، والمراد بالنفس الروح قطعا لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ‏"‏ إن الله قبض أرواحكم حين شاء ‏"‏ الحديث، كما في قوله تعالى ‏(‏الله يتوفى الأنفس حين موتها‏)‏ الآية،
    (ج13/ ص 544)
    جاء في سبب نزولها ما أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس في قصة سؤال اليهود عن الروح ونزول قوله تعالى ‏(‏قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏)‏ قالوا كيف وقد أوتينا التوراة فنزلت ‏(‏قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي‏)‏ الآية فأخرج عبد الرزاق في تفسيره من طريق أبي الجوزاء قال‏:‏ لو كان كل شجرة في الأرض أقلاما والبحر مدادا لنفد الماء وتكسرت الأقلام قبل أن تنفد كلمات الله، وعن معمر عن قتادة أن المشركين قالوا في هذا القرآن يوشك أن ينفد فنزلت‏.‏
    (ج13/ ص 548)
    قال الراغب‏:‏ المشيئة عند الأكثر سواء وعند بعضهم أن المشيئة في الأصل إيجاد الشيء وإصابته فمن الله الإيجاد ومن الناس الإصابة، وفي العرف تستعمل موضع الإرادة‏
    وقالوا إن فيها ردا على أهل السنة، والجواب أن أهل السنة تمسكوا بأصل قامت عليه البراهين وهو أن الله خالق كل مخلوق ويستحيل أن يخلق المخلوق شيئا، والإرادة شرط في الخلق ويستحيل ثبوت المشروط بدون شرطه، فلما عاند المشركون المعقول وكذبوا المنقول الذي جاءتهم به الرسل وألزموا الحجة بذلك تمسكوا بالمشيئة والقدر السابق، وهي حجة مردودة لأن القدر لا تبطل به الشريعة وجريان الأحكام على العباد بأكسابهم فمن قدر عليه بالمعصية كان ذلك علامة على أنه قدر عليه العقاب إلا أن يشاء أن يغفر له من غير المشركين، ومن قدر عليه بالطاعة كان ذلك علامة على أنه قدر عليه بالثواب، وحرف المسألة أن المعتزلة قاسوا الخالق على المخلوق وهو باطل لأن المخلوق لو عاقب من يطيعه من أتباعه عد ظالما لكونه ليس مالكا له بالحقيقة، والخالق لو عذب من يطيعه لم يعد ظالما لأن الجميع ملكه فله الأمر كله يفعل ما يشاء ولا يسئل عما يفعل‏.‏
    (ج13/ ص 549)
    وحرف النزاع بين المعتزلة وأهل السنة أن الإرادة عند أهل السنة تابعة للعلم وعندهم تابعة للأمر، ويدل لأهل السنة قوله تعالى ‏(‏يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة‏)‏ وقال ابن بطال غرض البخاري إثبات المشيئة والإرادة وهما بمعنى واحد، وإرادته صفة من صفات ذاته، وزعم المعتزلة أنها صفة من صفات فعله وهو فاسد، لأن إرادته لو كانت محدثة لم يخل أن يحدثها في نفسه أو في غيره أو في كل منهما أو لا في شيء منهما‏.‏
    والثاني والثالث محال لأنه ليس محلا للحوادث، والثاني فاسد أيضا لأنه يلزم أن يكون الغير مريدا لها، وبطل أن يكون الباري مريدا إذ المريد من صدرت منه الإرادة وهو الغير كما بطل أن يكون عالما إذا أحدث العلم في غيره، وحقيقة المريد أن يكون الإرادة منه دون غيره‏.‏
    (ج13/ ص 550)
    وقال بعضهم الإرادة على قسمين‏:‏ إرادة أمر وتشريع، وإرادة قضاء وتقدير، فالأولى تتعلق بالطاعة والمعصية سواء وقعت أم لا، والثانية شاملة لجميع الكائنات محيطة بجميع الحادثات طاعة ومعصية، وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى ‏(‏يريد الله بكم اليسر ولا يرد بكم العسر‏)‏ وإلى الثاني الإشارة بقوله تعالى ‏(‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا‏)‏ وفرق بعضهم بين الإرادة والرضا فقالوا‏:‏ يريد وقوع المعصية ولا يرضاها، لقوله تعالى ‏(‏ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها‏)‏ الآية، وقوله ‏(‏ولا يرضي لعباده الكفر‏)‏ وتمسكوا أيضا بقوله ‏(‏ولا يرضى لعباده الكفر‏)‏ وأجاب أهل السنة بما أخرجه الطبري وغيره بسند رجاله ثقات عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر‏)‏ يعني بعباده الكفار الذين أراد الله أن يطهر قلوبهم بقولهم لا إله إلا الله، فأراد عباده المخلصين الذين قال فيهم ‏(‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏)‏ فحبب إليهم الإيمان وألزمهم كلمة التقوى شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏
    وقالت المعتزلة في قوله تعالى ‏(‏وما تشاءون إلا أن يشاء الله‏)‏ معناه وما تشاءون الطاعة إلا أن يشاء الله قسركم عليها، وتعقب بأنه لو كان كذلك لما قال إلا أن يشاء في موضع ما شاء لأن حرف الشرط للاستقبال وصرف المشيئة إلى القسر تحريف لا إشعار للآية بشيء منه، وإنما المذكور في الآية مشيئة الاستقامة كسبا وهو المطلوب من العباد‏.‏
    وقالوا في قوله تعالى ‏(‏تؤتي الملك من تشاء‏)‏ أي يعطى من اقتضته الحكمة الملك
    (ج13/ ص 551)
    ن بعض أئمة السنة أحضر للمناظرة مع بعض أئمة المعتزلة فلما جلس المعتزلي قال‏:‏ سبحان من تنزه عن الفحشاء، فقال السني‏:‏ سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال المعتزلي‏:‏ أيشاء ربنا أن يعصى‏؟‏ فقال السني‏:‏ أفيعصى ربنا قهرا‏؟‏ فقال المعتزلي‏:‏ أرأيت إن منعني الهدى وقضي علي بالردي أحسن إلي أو أساء‏؟‏ فقال السني‏:‏ إن كان منعك ما هو لك فقد أساء وإن كان منعك ما هو له فإنه يختص برحمته من يشاء فانقطع‏.‏
    (ج13/ ص 555)
    قال ابن بطال‏:‏ استدل البخاري بهذا على أن قول الله قديم لذاته قائم بصفاته لم يزل موجودا به ولا يزال كلامه لا يشبه المخلوقين، خلافا للمعتزلة التي نفت كلام الله، وللكلابية في قولهم هو كناية عن الفعل والتكوين، وتمسكوا بقول العرب قلت بيدي هذا أي حركتها، واحتجوا بأن الكلام لا يعقل إلا بأعضاء ولسان، والباري منزه عن ذلك، فرد عليهم البخاري بحديث الباب والآية، وفيه أنهم إذا ذهب عنهم الفزع قالوا لمن فوقهم ماذا قال ربكم، فدل ذلك على أنهم سمعوا قولا لم يفهموا معناه من أجل فزعهم فقالوا ‏"‏ ماذا قال ‏"‏ ولم يقولوا ماذا خلق وكذا أجابهم من فوقهم من الملائكة بقولهم ‏"‏ قالوا الحق ‏"‏ والحق أحد صفتي الذات التي لا يجوز عليها غيره لأنه لا يجوز على كلامه الباطل، فلو كان خلقا أو فعلا لقالوا خلق خلقا إنسانا أو غيره، فلما وصفوه بما يوصف به الكلام لم يجز أن يكون القول بمعنى التكوين انتهى‏.‏
    وملخص ذلك قال البيهقي في ‏"‏ كتاب الاعتقاد ‏"‏ القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفات ذاته، وليس شيء من صفات ذاته مخلوقا ولا محدثا ولا حادثا‏.‏
    (ج13/ ص 556)
    وقال ابن حزم في الملل والنحل‏:‏ أجمع أهل الإسلام على أن الله تعالى كلم موسى، وعلى أن القرآن كلام الله وكذا غيره من الكتب المنزلة والصحف، ثم اختلفوا فقالت المعتزلة‏:‏ إن كلام الله صفة فعل مخلوقة وأنه كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة‏.‏
    وقال أحمد ومن تبعه‏:‏ كلام الله هو علمه لم يزل وليس بمخلوق‏.‏
    وقالت الأشعرية كلام الله صفة ذات لم يزل وليس بمخلوق وهو غير علم الله وليس لله إلا كلام واحد، واحتج لأحمد بأن الدلائل القاطعة قامت على أن الله لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه فلما كان كلامنا غيرنا، وكان مخلوقا وجب أن يكون كلامه سبحانه وتعالى ليس غيره وليس مخلوقا، وأطال في الرد على المخالفين لذلك وقال غيره اختلفوا فقالت الجهمية والمعتزلة وبعض الزيدية والإمامية وبعض الخوارج‏:‏ كلام الله مخلوق خلقه بمشيئته وقدرته في بعض الأجسام كالشجرة حين كلم موسى، وحقيقته قولهم إن الله لا يتكلم وإن نسب إليه ذلك فبطريق المجاز‏.‏
    وقالت المعتزلة يتكلم حقيقة لكن يخلق ذلك الكلام في غيره وقالت الكلابية‏:‏ الكلام صفة واحدة قديمة العين لازمة لذات الله كالحياة، وأنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته وتكليمه لمن كلمه إنما هو خلق إدراك له يسمع به الكلام ونداؤه لموسى لم يزل لكنه أسمعه ذلك النداء حين ناجاه ويحكى عن أبي منصور الماتريدي من الحنفية نحوه لكن قال خلق صوتا حين ناداه فأسمعه كلامه، وزعم بعضهم أن هذا هو مراد السلف الذين قالوا إن القرآن ليس بمخلوق، وأخذ بقول ابن كلاب القابسي والأشعري وأتباعهما وقالوا‏:‏ إذا كان الكلام قديما لعينه لازما لذات الرب وثبت أنه ليس بمخلوق فالحروف ليست قديمة لأنها متعاقبة، وما كان مسبوقا بغيره لم يكن قديما، والكلام القديم معنى قائم بالذات لا يتعدد ولا يتجزأ بل هو معنى واحد إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن أو بالعبرانية فهو توراة مثلا وذهب بعض الحنابلة وغيرهم إلى أن القرآن العربي كلام الله وكذا التوراة، وأن الله لم يزل متكلما إذا شاء وأنه تكلم بحروف القرآن وأسمع من شاء من الملائكة والأنبياء صوته‏.‏
    (ج13/ ص 557)
    وذكر الفخر الرازي في المطالب العالية أن قول من قال إنه تعالى متكلم بكلام يقوم بذاته وبمشيئته واختياره هو أصح الأقوال نقلا وعقلا، وأطال في تقرير ذلك، والمحفوظ عن جمهور السلف ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه والاقتصار على القول بأن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق ثم السكوت عما وراء ذلك،
    ( ج13/ ص 558)
    نقل ابن دقيق العيد عن ابن المفضل وكان شيخ والده أنه كان يقول فيمن خرج له في الصحيحين‏:‏ هذا جاز القنطرة، وقرر ابن دقيق العيد ذلك بأن من اتفق الشيخان على التخريج لهم ثبتت عدالتهم بالاتفاق بطريق الاستلزام لاتفاق العلماء على تصحيح ما أخرجاه ومن لازمه عدالة رواته إلى أن تتبين العلة القادحة بأن تكون مفسرة ولا تقبل التأويل‏.‏
    (ج13/ ص 559)
    قال اختلف الحفاظ في الاحتجاج بروايات ابن عقيل لسوء حفظه ولم يثبت لفظ الصوت في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديثه فإن كان ثابتا فإنه يرجع إلى غيره، كما في حديث ابن مسعود يعني الذي قبله، وفي حديث أبي هريرة يعني الذي بعده، أن الملائكة يسمعون عند حصول الوحي صوتا فيحتمل أن يكون الصوت للسماء أو للملك الآتي بالوحي أو لأجنحة الملائكة، وإذا احتمل ذلك لم يكن نصا في المسألة، وأشار في موضع آخر أن الراوي أراد فينادي نداء فعبر عنه بقوله بصوت انتهى‏.‏
    وهذا حاصل كلام من ينفي الصوت من الأئمة ويلزم منه أن الله لم يسمع أحدا من ملائكته ورسله كلامه بل ألهمهم إياه، وحاصل الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين لأنها التي عهد أنها ذات مخارج، ولا يخفى ما فيه إذ الصوت قد يكون من غير مخارج كما أن الرؤية قد تكون من غير اتصال أشعة كما سبق سلمنا، لكن تمنع القياس المذكور، وصفات الخالق لا تقاس على صفة المخلوق، وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به ثم‏:‏ إما التفويض وإما التأويل وبالله التوفيق‏.‏
    (ج13/ ص 559)
    حتى إذا فزع عن قلوبهم ‏"‏ وفي الحديث إثبات الشفاعة وأنكرها الخوارج والمعتزلة، وهي أنواع أثبتها أهل السنة منها الخلاص من هول الموقف وهي خاصة بمحمد رسول الله المصطفى صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيان ذلك واضحا في الرقاق، وهذه لا ينكرها أحد من فرق الأمة، ومنها الشفاعة في قوم يدخلون الجنة بغير حساب، وخص هذه المعتزلة بمن لا تبعة عليه ومنها الشفاعة في رفع الدرجات، ولا خلاف في وقوعها، ومنها الشفاعة في إخراج قوم من النار عصاة أدخلوها بذنوبهم وهذه التي أنكروها، وقد ثبتت بها الأخبار الكثيرة، وأطبق أهل السنة على قبولها وبالله التوفيق‏.‏
    (ج13/ ص 563)
    واختلف أهل الكلام في أن كلام الله هل هو بحرف وصوت أو لا، فقالت المعتزلة‏:‏ لا يكون الكلام إلا بحرف وصوت والكلام المنسوب إلى الله قائم بالشجرة‏.‏
    وقالت الأشاعرة كلام الله ليس بحرف ولا صوت وأثبتت الكلام النفسي، وحقيقته معنى قائم بالنفس وإن اختلفت عنه العبارة كالعربية والعجمية، واختلافها لا يدل على اختلاف المعبر عنه، والكلام النفسي هو ذلك المعبر عنه، وأثبتت الحنابلة أن الله متكلم بحرف وصوت، أما الحروف فللتصريح بها في ظاهر القرآن، وأما الصوت فمن منع قال إن الصوت هو الهواء المنقطع المسموع من الحجرة، وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف بذلك هو المعهود من الآدميين كالسمع والبصر، وصفات الرب بخلاف ذلك فلا يلزم المحذور المذكور مع اعتقاد التنزيه وعدم التشبيه، وأنه يجوز أن يكون من غير الحنجرة فلا يلزم التشبيه، وقد قال عبد الله بن أحمد ابن حنبل في كتاب السنة سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت، فقال لي أبي‏:‏ بل تكلم بصوت، هذه الأحاديث تروى كما جاءت وذكر حديث ابن مسعود وغيره‏.‏
    (ج13/ ص 571)
    وقد نبهت على من أخرج الزيادة المصرحة بأن الله يأمر ملكا فينادي في ‏"‏ كتاب التهجد ‏"‏ وتأويل ابن حزم النزول بأنه فعل يفعله الله في سماء الدنيا كالفتح لقبول الدعاء وأن تلك الساعة من مظان الإجابة وهو معهود في اللغة، تقول فلان نزل لي عن حقه بمعنى وهبه، قال‏:‏ والدليل على أنها صفة فعل تعليقه بوقت محدود ومن لم يزل لا يتعلق بالزمان فصح أنه فعل حادث، وقد عقد شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي وهو من المبالغين في الإثبات حتى طعن فيه بعضهم بسبب ذلك في كتابه الفاروق بابا لهذا الحديث، وأورده من طرق كثيرة ثم ذكره من طرق زعم أنها لا تقبل التأويل مثل حديث عطاء مولى أم ضبية عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ إذا ذهب ثلث الليل ‏"‏ وذكر الحديث وزاد ‏"‏ فلا يزال بها حتى يطلع الفجر فيقول هل من داع يستجاب له ‏"‏ أخرجه النسائي وابن خزيمة في صحيحه وهو من رواية محمد بن إسحاق وفيه اختلاف، وحديث ابن مسعود وفيه ‏"‏ فإذا طلع الفجر صعد إلى العرش ‏"‏ أخرجه ابن خزيمة وهو من رواية إبراهيم الهجري وفيه مقال، وأخرجه أبو إسماعيل من طريق أخرى عن ابن مسعود قال ‏"‏ جاء رجل من بني سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علمني ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ فإذا انفجر الفجر صعد
    (ج13/ ص 576)
    في رواية حماد ‏"‏ اعمل ما شئت فقد غفرت لك ‏"‏ قال ابن بطال في هذا الحديث أن المصر على المعصية في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له مغلبا الحسنة التي جاء بها وهي اعتقاده أن له ربا خالقا يعذبه ويغفر له واستغفاره إياه على ذلك يدل عليه قوله‏:‏ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ولا حسنة أعظم من التوحيد، فإن قيل إن استغفاره ربه توبة منه قلنا ليس الاستغفار أكثر من طلب المغفرة، وقد يطلبها المصر والتائب ولا دليل في الحديث على أنه تائب مما سأل الغفران عنه، لأن حد التوبة الرجوع عن الذنب والعزم أن لا يعود إليه والإقلاع عنه والاستغفار بمجرده لا يفهم منه ذلك انتهى‏.‏
    وقال غيره شروط التوبة ثلاثة‏:‏ الإقلاع والندم والعزم على أن لا يعود، والتعبير بالرجوع عن الذنب لا يفيد معنى الندم بل هو إلى معنى الإقلاع أقرب وقال بعضهم‏:‏ يكفي في التوبة تحقق الندم على وقوعه منه فإنه يستلزم الإقلاع عنه والعزم على عدم العود فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه ومن ثم جاء الحديث‏:‏ ‏"‏ الندم توبة ‏"‏ وهو حديث حسن من حديث ابن مسعود أخرجه ابن ماجه وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان من حديث أنس وصححه، وقد تقدم البحث في ذلك في باب التوبة من أوائل ‏"‏ كتاب الدعوات ‏"‏ مستوفى‏.‏
    وقال القرطبي في المفهم يدل هذا الحديث على عظيم فائدة الاستغفار وعلى عظيم فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه، لكن هذا الاستغفار هو الذي ثبت معناه في القلب مقارنا للسان لينحل به عقد الإصرار ويحصل معه الندم فهو ترجمة للتوبة، ويشهد له حديث‏:‏ خياركم كل مفتن تواب، ومعناه الذي يتكرر منه الذنب والتوبة فكلما وقع في الذنب عاد إلى التوبة لا من قال أستغفر الله بلسانه وقلبه مصر على تلك المعصية، فهذا الذي استغفاره يحتاج إلى الاستغفار‏.‏
    قلت‏:‏ ويشهد له ما أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس مرفوعا ‏"‏ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه ‏"‏ والراجح أن قوله ‏"‏ والمستغفر ‏"‏ إلى آخره موقوف وأوله عند ابن ماجه والطبراني من حديث ابن مسعود وسنده حسن، وحديث ‏"‏ خياركم كل مفتن تواب ‏"‏ ذكره في مسند الفردوس عن علي قال القرطبي‏:‏ وفائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة، لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والإلحاح في سؤاله والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه، قال النووي في الحديث‏:‏ إن الذنوب ولو تكررت مائة مرة بل ألفا وأكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته
    (ج13/ ص 578)
    وذكر في ‏"‏ كتاب الأذكار ‏"‏ عن الربيع بن خيثم أنه قال لا تقل‏:‏ أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنبا وكذبا إن لم تفعل بل قل‏:‏ اللهم اغفر لي وتب علي، قال النووي هذا حسن، وأما كراهية أستغفر الله وتسميته كذبا فلا يوافق عليه لأن معنى أستغفر الله أطلب مغفرته وليس هذا كذبا، قال ويكفي في رده حديث ابن مسعود بلفظ‏:‏ من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف، أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الحاكم‏.‏
    قلت‏:‏ هذا في لفظ أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأما أتوب إليه فهو الذي عنى الربيع رحمه الله أنه كذب وهو كذلك إذا قاله ولم يفعل التوبة كما قال، وفي الاستدلال للرد عليه بحديث ابن مسعود نظر لجواز أن يكون المراد منه ما إذا قالها وفعل شروط التوبة، ويحتمل أن يكون الربيع قصد مجموع اللفظين لا خصوص أستغفر الله فيصح كلامه كله والله أعلم، ورأيت في الحلبيات للسبكي الكبير‏:‏ الاستغفار طلب المغفرة إما باللسان أو بالقلب أو بهما، فالأول فيه نفع لأنه خير من السكوت ولأنه يعتاد قول الخير، والثاني نافع جدا، والثالث أبلغ منهما لكنهما لا يمحصان الذنب حتى توجد التوبة، فإن العاصي المصر يطلب المغفرة ولا يستلزم ذلك وجود التوبة منه، إلى أن قال‏:‏ والذي ذكرته من أن معنى الاستغفار هو غير معنى التوبة هو بحسب وضع اللفظ، لكنه غلب عند كثير من الناس أن لفظ أستغفر الله معناه التوبة فمن كان ذلك معتقده فهو يريد التوبة لا محالة، ثم قال وذكر بعض العلماء أن التوبة لا تتم إلا بالاستغفار لقوله تعالى ‏(‏وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه‏)‏ والمشهور أنه لا يشترط‏.‏
    (ج13/ ص 586)
    وكلم الله موسى تكليما ‏"‏ قال الأئمة‏:‏ هذه الآية أقوى ما ورد في الرد على المعتزلة، قال النحاس أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكد بالمصدر لم يكن مجازا فإذا قال ‏"‏ تكليما ‏"‏ وجب أن يكون كلاما على الحقيقة التي تعقل، وأجاب بعضهم بأنه كلام على الحقيقة لكن محل الخلاف هل سمعه موسى من الله تعالى حقيقة أو من الشجرة‏؟‏ فالتأكيد رفع المجاز عن كونه غير كلام أما المتكلم به فمسكوت عنه، ورد بأنه لا بد من مراعاة المحدث عنه فهو لرفع المجاز عن النسبة لأنه قد نسب الكلام فيها إلى الله فهو المتكلم حقيقة، ويؤكده قوله في سورة الأعراف ‏(‏إني اصطفيتك عن الناس برسالاتي وبكلامي‏)‏ وأجمع السلف والخلف من أهل السنة وغيرهم على أن ‏"‏ كلم ‏"‏ هنا من الكلام، ونقل الكشاف عن بدع بعض التفاسير أنه من الكلم بمعنى الجرح وهو مردود بالإجماع المذكور، قال ابن التين اختلف المتكلمون في سماع كلام الله فقال الأشعري‏:‏ كلام الله القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تال وقراءة كل قارئ‏.‏
    وقال الباقلاني إنما تسمع التلاوة دون المتلو والقراءة دون المقروء، وتقدم في باب ‏(‏يريدون أن يبدلوا كلام الله‏)‏ شيء من هذا وأورد البخاري في كتاب خلق أفعال العباد أن خالد بن عبد الله القسري قال‏:‏ إني مضحي بالجعد بن درهم فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، وتقدم في أول التوحيد أن سلم بن أحوز قتل جهم بن صفوان لأنه أنكر أن الله كلم موسى تكليما، ثم ذكر فيه ثلاثة أحاديث‏.‏
    (ج13/ ص 587)
    ‏ قبل أن يوحى إليه، أنكرها الخطابي وابن حزم وعبد الحق والقاضي عياض والنووي وعبارة النووي‏:‏ وقع في رواية شريك - يعني هذه - أوهام أنكرها العلماء أحدها‏:‏ قوله ‏"‏ قبل أن يوحى إليه ‏"‏ وهو غلط لم يوافق عليه، وأجمع العلماء أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء فكيف يكون قبل الوحي انتهى، وصرح المذكورون بأن شريكا تفرد بذلك، وفي دعوى التفرد نظر فقد وافقه كثير بن خنيس بمعجمة ونون مصغر عن أنس كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في ‏"‏ كتاب المغازي ‏"‏ من طريقه‏.‏
    بذلك جزم ابن القيم في هذا الحديث نفسه وأقوى ما يستدل به أن المعراج بعد البعثة قوله في هذا الحديث نفسه أن جبريل قال لبواب السماء إذ قال له أبعث‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏
    فإنه ظاهر في أن المعراج كان بعد البعثة فيتعين ما ذكرته من التأويل وأقله قوله فاستيقظ وهو عند المسجد الحرام، فإن حمل على ظاهره جاز أن يكون نام بعد أن هبط من السماء فاستيقظ وهو عند المسجد الحرام، وجاز أن يؤول قوله استيقظ أي أفاق مما كان فيه فإنه كان إذا أوحى إليه يستغرق فإذا انتهى رجع إلى حالته الأولى، فكنى عنه بالاستيقاظ‏.‏
    قد تقدم عند شرحه الرد على من أنكر شق الصدر عند الإسراء وزعم أن ذلك إنما وقع وهو صغير، وبينت أنه ثبت كذلك في غير رواية شريك في الصحيحين من حديث أبي ذر، وأن شق الصدر وقع أيضا عند البعثة كما أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة، وذكر أبو بشر الدولابي بسنده أنه صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن بطنه أخرج ثم أعيد فذكر ذلك لخديجة الحديث‏.‏
    وتقدم بيان الحكمة في تعدد ذلك ووقع شق الصدر الكريم أيضا في حديث أبي هريرة حين كان ابن عشر سنين وهو عند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند، وتقدم الإلمام بشيء من ذلك في الترجمة النبوية، ووقع في الشفاء أن جبريل قال لما غسل قلبه‏:‏ قلب سديد فيه عينان تبصران وأذنان تسمعان‏.‏
    ‏ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى‏)‏ كذا وقع في رواية شريك وهو مما خالف فيه غيره، فإن الجمهور على أن سدرة المنتهى في السابعة، وعند بعضهم في السادسة، وقد قدمت وجه الجمع بينهما عند شرحه، ولعل في السياق تقديما وتأخيرا، وكان ذكر سدرة المنتهى قبل ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، وقد وقع في حديث أبي ذر ‏"‏ ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام


    (ج13/ ص 592)
    قال الخطابي مشيرا إلى رفع الحديث من أصله بأن القصة بطولها إنما هي حكاية يحكيها أنس من تلقاء نفسه لم يعزها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقلها عنه ولا أضافها إلى قوله، فحاصل الأمر في النقل أنها من جهة الراوي إما من أنس وإما من شريك فإنه كثير التفرد بمناكير الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرواة انتهى، وما نفاه من أن أنسا لم يسند هذه القصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تأثير له، فأدنى أمره فيها أن يكون مرسل صحابي فإما أن يكون تلقاها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي تلقاها عنه، ومثل ما اشتملت عليه لا يقال بالرأي فيكون لها حكم الرفع، ولو كان لما ذكره تأثير لم يحمل حديث أحد روى مثل ذلك على الرفع أصلا وهو خلاف عمل المحدثين قاطبة، فالتعليل بذلك مردود، ثم قال الخطابي إن الذي وقع في هذه الرواية من نسبه التدلي للجبار عز وجل مخالف لعامة السلف والعلماء وأهل التفسير من تقدم منهم ومن تأخر، قال والذي قيل فيه ثلاثة أقوال‏.‏
    أحدها‏:‏ أنه دنا جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى أي تقرب منه، وقيل هو على التقديم والتأخير‏:‏ أي تدلى فلانا، لأن التدلي بسبب الدنو، الثاني تدلي له جبريل بعد الانتصاب والارتفاع حتى رآه متدليا كما رآه مرتفعا، وذلك من آيات الله حيث أقدره على أن يتدلى في الهواء من غير اعتماد على شيء ولا تمسك بشيء، الثالث‏:‏ دنا جبريل فتدلى محمد صلى الله عليه وسلم ساجدا لربه تعالى شكرا على ما أعطاه، قال وقد روى هذا الحديث عن أنس من غير طريق شريك فلم يذكر فيه هذه الألفاظ الشنيعة، وذلك مما يقوى الظن أنها صادرة من جهة شريك انتهى‏
    (ج13/ ص 593)
    وقال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين زاد فيه - يعني شريكا - زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة، وقد روى الإسراء جماعة من الحفاظ فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ وسبق إلى ذلك أبو محمد بن حزم فيما حكاه الحافظ أبو الفضل بن طاهر في جزء جمعه سماه ‏"‏ الانتصار لأيامى الأمصار ‏"‏ فنقل فيه عن الحميدي عن ابن حزم قال‏:‏ لم نجد للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا حديثين ثم غلبه في تخريجه الوهم مع إتقانهما وصحة معرفتهما فذكر هذا الحديث‏.‏
    وقال فيه ألفاظ معجمة والآفة من شريك من ذلك قوله قبل أن يوحى إليه وأنه حينئذ فرض عليه الصلاة قال وهذا لا خلاف بين أحد من أهل العلم إنما كان قبل الهجرة بسنة وبعد أن أوحى إليه بنحو اثنتي عشرة سنة، ثم قوله ‏"‏ إن الجبار دنا فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ‏"‏ وعائشة رضي الله عنها تقول‏:‏ إن الذي دنى فتدلى جبريل انتهى، وقد تقدم الجواب عن ذلك وقال أبو الفضل بن طاهر‏:‏ تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم أن الآفة منه شيء لم يسبق إليه فإن شريكا قبله أئمة الجرح والتعديل ووثقوه ورووا عنه وأدخلوا حديثه في تصانيفهم واحتجوا به، وروى عبد الله بن أحمد الدورقي وعثمان الدارمي وعباس الدوري عن يحيى بن معين لا بأس به‏.‏
    (ج13/ ص 593)
    قال محمد بن سعد وأبو داود‏:‏ ثقة فهو مختلف فيه فإذا تفرد عد ما ينفرد به شاذا وكذا منكرا على رأي من يقول المنكر والشاذ شيء واحد، والأولى التزام ورود المواضع التي خالف فيها غيره، والجواب عنها إما بدفع تفرده وإما بتأويله على وفاق الجماعة، ومجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين عشرة أشياء بل تزيد على ذلك، الأول‏:‏ أمكنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في السموات وقد أفصح بأنه لم يضبط منازلهم وقد وافقه الزهري في بعض ما ذكر كما سبق في أول ‏"‏ كتاب الصلاة‏"‏، والثاني‏:‏ كون المعراج قبل البعثة وقد سبق الجواب عن ذلك، وأجاب بعضهم عن قوله‏:‏ قبل أن يوحي، بأن القبلية هنا في أمر مخصوص وليست مطلقة واحتمل أن يكون المعنى قبل أن يوحي إليه في شأن الإسراء والمعراج مثلا أي أن ذلك وقع بغتة قبل أن ينذر به، ويؤيده قوله في حديث الزهري‏:‏ فرج سقف بيتي، الثالث‏:‏ كونه مناما وقد سبق الجواب عنه أيضا بما فيه غنية، الرابع‏:‏ مخالفته في محل سدرة المنتهى وأنها فوق السماء السابعة بما لا يعلمه إلا الله، والمشهور أنها في السابعة أو السادسة كما تقدم، الخامس‏:‏ مخالفته في النهرين وهما النيل والفرات وأن عنصرهما في السماء الدنيا والمشهور في غير روايته أنهما في السماء السابعة وأنهما من تحت سدرة المنتهى، السادس‏:‏ شق الصدر عند الإسراء وقد وافقته رواية غيره كما بينت ذلك في شرح رواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة، وقد أشرت إليه أيضا هنا، السابع‏:‏ ذكر نهر الكوثر في السماء الدنيا، والمشهور في الحديث أنه في الجنة كما تقدم التنبيه عليه، الثامن‏:‏ نسبة الدنو والتدلي إلى الله عز وجل والمشهور في الحديث أنه جبريل كما تقدم التنبيه عليه، التاسع‏:‏ تصريحه بأن امتناعه صلى الله عليه وسلم من الرجوع إلى سؤال ربه التخفيف كان عند الخامسة، ومقتضى رواية ثابت عن أنس أنه كان بعد التاسعة، العاشر‏:‏ قوله ‏"‏ فعلا به الجبار فقال وهو مكانه ‏"‏ وقد تقدم ما فيه، الحادي عشر‏:‏ رجوعه بعد الخمس، والمشهور في الأحاديث أن موسى عليه الصلاة والسلام أمره بالرجوع بعد أن انتهى التخفيف إلى الخمس فامتنع كما سأبينه، الثاني عشر‏:‏ زيادة ذكر التور في الطست، وقد تقدم ما فيه فهذه أكثر من عشرة مواضع في هذا الحديث لم أرها مجموعة في كلام أحد ممن تقدم، وقد بينت في كل واحد إشكال من استشكله والجواب عنه إن أمكن وبالله التوفيق، وقد جزم ابن القيم في الهدى بأن في رواية شريك عشرة أوهام لكن عد مخالفته لمحال الأنبياء أربعة منها وأنا جعلتها واحدة فعلى طريقته تزيد العدة ثلاثة وبالله التوفيق‏.‏
    (ج13/ ص 598)
    ومعنى قوله ‏(‏اذكروني أذكركم‏)‏ اذكروني بالطاعة أذكركم بالمعونة، وعن سعيد بن جبير ‏"‏ اذكروني بالطاعة أذكركم بالمغفرة ‏"‏ وذكر الثعلبي في تفسير هذه الآية نحو أربعين عبارة أكثرها عن أهل الزهد ومرجعها إلى معنى التوحيد والثواب أو المحبة والوصل أو الدعاء والإجابة، وأما قوله‏:‏ وذكر العباد بالدعاء إلى آخره، فجميع ما ذكره واضح في حق الأنبياء ويشركهم في الدعاء والتضرع سائر العباد، وحكى ابن التين أن ذكر العبد باللسان وعندما يهم بالسيئة، فيذكر مقام ربه فيكف، ونقل عن الداودي قال قوم إن هذا الذكر أفضل، قال‏:‏ وليس كذلك، بل قوله بلسانه لا إله إلا الله مخلصا من قلبه أعظم من ذكره بقلبه ووقوفه عن عمل السيئة‏.‏
    قلت‏:‏ إنما كان أعظم لأنه جمع بين ذكر القلب واللسان، وإنما يظهر التفاضل بصحة التقابل بذكر الله باللسان دون القلب، فإنه لا يكون أفضل من ذكره بالقلب في تلك الصورة، وأما وقوفه بسبب الذكر عن عمل السيئة فقدر زائد يزداد بسببه فضل الذكر، فظهر صحة ما نقله عن القوم دون ما تخيله‏.‏
    (ج13/ ص 600)
    قال الكرماني‏:‏ عادة البخاري أنه إذا ذكر آية مناسبة للترجمة يذكر معها بعض ما يتعلق بتلك السورة التي فيها تلك الآية مما ثبت عنده في تفسير ونحوه على سبيل التبعية انتهى،
    (ج13/ ص 601)
    الراغب قال والضد أحد المتقابلين وهما الشيئان المختلفان اللذان لا يجتمعان في شيء واحد ففارق الند في المشاركة ووافقه في المعارضة، قال ابن بطال‏:‏ غرض البخاري في هذا الباب إثبات نسبة الأفعال كلها لله تعالى سواء كانت من المخلوقين خيرا أو شرا فهي لله تعالى خلق وللعباد كسب، ولا ينسب شيء من الخلق لغير الله تعالى فيكون شريكا وندا ومساويا له في نسبة الفعل إليه، وقد نبه الله تعالى عباده على ذلك بالآيات المذكورة وغيرها المصرحة بنفي الأنداد والآلهة المدعوة معه، فتضمنت الرد على من يزعم أنه يخلق أفعاله‏.‏
    وقال ما حذر به المؤمنين أو أثنى عليهم، ومنها ما وبخ به الكافرين، وحديث الباب ظاهر في ذلك‏.‏
    (ج13/ ص 602)
    وقد أطنب البخاري في كتاب خلق أفعال العباد في تقرير هذه المسألة واستظهر بالآيات والأحاديث والآثار الواردة عن السلف في ذلك، وغرضه هنا الرد على من لم يفرق بين التلاوة والمتلو، ولذلك أتبع هذا الباب بالتراجم المتعلقة بذلك، مثل باب‏:‏ لا تحرك به لسانك لتعجل به، وباب‏:‏ وأسروا قولكم أو اجهروا به وغيرهما، وهذه المسألة هي المشهورة بمسألة اللفظ، ويقال لأصحابها اللفظية، واشتد إنكار الإمام أحمد ومن تبعه على من قال لفظي بالقرآن مخلوق، ويقال إن أول من قاله الحسين بن علي الكرابيسي أحد أصحاب الشافعي الناقلين لكتابه القديم، فلما بلغ ذلك أحمد بدعه وهجره، ثم قال بذل داود بن علي الأصبهاني رأس الظاهرية وهو يومئذ بنيسابور فأنكر عليه إسحاق وبلغ ذلك أحمد فلما قدم بغداد لم يأذن له في الدخول عليه، وجمع ابن أبي حاتم أسماء من أطلق على اللفظية أنهم جهمية فبلغوا عددا كثيرا من الأئمة وأفرد لذلك بابا في كتابه الرد على الجهمية، والذي يتحصل من كلام المحققين منهم أنهم أرادوا حسم المادة صونا للقرآن أن يوصف بكونه مخلوقا، وإذا حقق الأمر عليهم لم يفصح أحد منهم بأن حركة لسانه إذا قرأ قديمة‏.‏
    وقال البيهقي في كتاب الأسماء والصفات‏:‏ مذهب السلف والخلف من أهل الحديث والسنة أن القرآن كلام الله وهو صفة من صفات ذاته، وأما التلاوة فهم على طريقتين، منهم من فرق بين التلاوة والمتلو ومنهم من أحب ترك القول فيه، وأما ما نقل عن أحمد بن حنبل أنه سوى بينهما فإنما أراد حسم المادة لئلا يتدرع أحد إلى القول بخلق القرآن، ثم أسند من طريقين إلى أحمد أنه أنكر على من نقل عنه أنه قال لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنكر على من قال لفظي بالقرآن مخلوق‏.‏
    وقال القرآن كيف تصرف غير مخلوق فأخذ بظاهر هذا، الثاني من لم يفهم مراده وهو مبين في الأول، وكذا نقل عن محمد بن أسلم الطوسي أنه قال‏:‏ الصوت من المصوت كلام الله وهي عبارة رديئة لم يرد ظاهرها وإنما أراد نفي كون المتلو مخلوقا، ووقع نحو ذلك لإمام الأئمة محمد بن خزيمة، ثم رجع وله في ذلك مع تلامذته قصة مشهورة، وقد أملى أبو بكر الضبعي الفقيه أحد الأئمة من تلامذته ابن خزيمة اعتقاده وفيه لم يزل الله متكلما ولا مثل لكلامه لأنه نفي المثل عن صفاته كما نفي المثل عن ذاته، ونفى النفاد عن كلامه كما نفى الهلاك عن نفسه، فقال ‏(‏لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي‏)‏ وقال ‏(‏كل شيء هالك إلا وجهه‏)‏ فاستصوب ذلك ابن خزيمة ورضي به‏.‏
    (ج13/ ص603)
    قال غيره ظن بعضهم أن البخاري خالف أحمد وليس كذلك بل من تدبر كلامه لم يجد فيه خلافا معنويا، لكن العالم من شأنه إذا ابتلى في رد بدعة يكون أكثر كلامه في ردها دون ما يقابلها، فلما ابتلى أحمد بمن يقول القرآن مخلوق كان أكثر كلامه في الرد عليهم حتى بالغ فأنكر على من يقف ولا يقول مخلوق ولا غير مخلوق، وعلى من قال لفظي بالقرآن مخلوق لئلا يتدرع بذلك من يقول القرآن بلفظي مخلوق، مع أن الفرق بينهما لا يخفى عليه لكنه قد يخفى على البعض، وأما البخاري فابتلى بمن يقول أصوات العباد غير مخلوقة حتى بالغ بعضهم فقال والمداد والورق بعد الكتابة، فكان أكثر كلامه في الرد عليهم وبالغ في الاستدلال بأن أفعال العباد مخلوقة بالآيات والأحاديث، وأطنب في ذلك حتى نسب إلى أنه من اللفظية مع أن قول من قال إن الذي يسمع من القارئ هو الصوت القديم لا يعرف عن السلف، ولا قاله أحمد ولا أئمة أصحابه، وإنما سبب نسبة ذلك لأحمد قوله من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، فظنوا أنه سوى بين اللفظ والصوت، ولم ينقل عن أحمد في الصوت ما نقل عنه في اللفظ بل صرح في مواضع بأن الصوت المسموع من القارئ هو صوت القارئ، ويؤيده حديث زينوا القرآن بأصواتكم وسيأتي قريبا، والفرق بينهما أن اللفظ يضاف إلى المتكلم به ابتداء، فيقال عمن روى الحديث بلفظه، هذا لفظه ولمن رواه بغير لفظه هذا معناه ولفظه كذا، ولا يقال في شيء من ذلك هذا صوته فالقرآن كلام الله لفظه ومعناه ليس هو كلام غيره، وأما قوله تعالى ‏(‏إنه لقول رسول كريم‏)‏ واختلف هل المراد جبريل أو الرسول عليهما الصلاة والسلام فالمراد به التبليغ لأن جبريل مبلغ عن الله تعالى إلى رسوله والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ للناس ولم ينقل عن أحمد قط أن فعل العبد قديم ولا صوته، وإنما أنكر إطلاق اللفظ، وصرح البخاري بأن أصوات العباد مخلوقة وأن أحمد لا يخالف ذلك، فقال في كتاب خلق أفعال العباد ما يدعونه عن أحمد ليس الكثير منه بالبين ولكنهم لم يفهموا مراده ومذهبه، والمعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله تعالى غير مخلوق، وما سواه مخلوق لكنهم كرهوا التنقيب عن الأشياء الغامضة وتجنبوا الخوض فيها والتنازع إلا ما بينه الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم نقل عن بعض أهل عصره أنه قال‏:‏ القرآن بألفاظنا وألفاظنا بالقرآن شيء واحد، فالتلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء، قال‏:‏ فقيل له إن التلاوة فعل التالي، فقال‏:‏ ظننتها مصدرين، قال‏:‏ فقيل له أرسل إلى من كتب عنك ما قلت‏؟‏ فاسترده فقال‏:‏ كيف وقد مضى‏؟‏ انتهى، ومحصل ما نقل عن أهل الكلام في هذه المسألة خمسة أقوال، الأول‏:‏ قول المعتزلة أنه مخلوق، والثاني‏:‏ قول الكلابية أنه قديم قائم بذات الرب ليس بحروف ولا أصوات، والموجود بين الناس عبارة عنه لا عينه، والثالث‏:‏ قول السالمية أنه حروف وأصوات قديمة الأعين، وهو عين هذه الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة، والرابع‏:‏ قول الكرامية أنه محدث لا مخلوق، وسيأتي بسط القول فيه في الباب الذي بعده، والخامس‏:‏ أنه كلام الله غير مخلوق، أنه لم يزل يتكلم إذا شاء، نص على ذلك أحمد في كتاب الرد على الجهمية، وافترق أصحابه فرقتين‏:‏ منهم من قال هو لازم لذاته والحروف والأصوات مقترنة لا متعاقبة ويسمع كلامه من شاء، أكثرهم قالوا إنه متكلم بما شاء متى شاء، وأنه نادى موسى عليه السلام حين كلمه ولم يكن ناداه من قبل، والذي استقر عليه قول الأشعرية أن القرآن كلام الله غير مخلوق، مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء بالألسنة، قال الله تعالى ‏(‏فأجره حتى يسمع كلام الله‏)‏ ‏.‏
    وقال تعالى ‏(‏بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم‏)‏ وفي الحديث المتفق عليه عن ابن عمر كما تقدم في الجهاد ‏"‏ لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو، كراهية أن يناله العدو ‏"‏ وليس المراد ما في الصدور بل ما في الصحف، وأجمع السلف على أن الذي بين الدفتين كلام الله‏.‏
    وقال بعضهم‏:‏ القرآن يطلق ويراد به المقروء وهو الصفة القديمة، ويطلق ويراد به القراءة وهي الألفاظ الدالة على ذلك، وبسبب ذلك وقع الاختلاف، وأما قولهم ‏"‏ إنه منزه عن الحروف والأصوات ‏"‏ فمرادهم الكلام النفسي القائم بالذات المقدسة فهو من الصفات الموجودة القديمة، وأما الحروف فإن كانت حركات أدوات كاللسان والشفتين فهي أعراض، وإن كانت كتابة فهي أجسام، وقيام الأجسام والأعراض بذات الله تعالى محال، ويلزم من أثبت ذلك أن يقول بخلق القرآن وهو يأبى ذلك ويفر منه، فألجأ ذلك بعضهم إلى ادعاء قدم الحروف كما التزمته السالمية، ومنهم من التزم قيام ذلك بذاته، ومن شدة اللبس في هذه المسألة كثر نهي السلف عن الخوض فيها واكتفوا باعتقاد أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يزيدوا على ذلك شيئا وهو أسلم الأقوال والله المستعان‏.

    .......................
    (ج13/ ص 609)
    قال ابن بطال‏:‏ غرض البخاري الفرق بين وصف كلام الله تعالى بأنه مخلوق وبين وصفه بأنه محدث، فأحال وصفه بالخلق وأجاز وصفه بالحدث اعتمادا على الآية، وهذا قول بعض المعتزلة وأهل الظاهر وهو خطأ لأن الذكر الموصوف في الآية بالأحداث ليس هو نفس كلامه تعالى لقيام الدليل على أن محدثا ومنشأ ومخترعا ومخلوقا ألفاظ مترادفة على معنى واحد فإذا لم يجز وصف كلامه القائم بذاته تعالى بأنه مخلوق لم يجز وصفه بأنه محدث، وإذا كان كذلك فالذكر الموصوف في الآية بأنه محدث هو الرسول لأن الله تعالى قد سماه في قوله تعالى ‏(‏قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا‏)‏ فيكون المعنى‏:‏ ما يأتيهم من رسول محدث، ويحتمل أن يكون المراد بالذكر هنا وعظ الرسول إياهم وتحذيره من المعاصي فسماه ذكرا وأضافه إليه إذ هو فاعله ومقدر رسوله على اكتسابه‏.‏
    وقال بعضهم‏:‏ في هذه الآية أن مرجع الأحداث إلى الإتيان لا إلى الذكر القديم، لأن نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شيئا بعد شيء فكان نزوله يحدث حينا بعد حين كما أن العالم يعلم ما لا يعلمه الجاهل فإذا علمه الجاهل حدث عنده العلم ولم يكن إحداثه عند التعلم إحداث عين المعلم‏.‏
    قلت‏:‏ والاحتمال الأخير أقرب إلى مراد البخاري لما قدمت قبل أن مبنى هذه التراجم عنده على إثبات أن أفعال العباد مخلوقة ومراده هنا الحدث بالنسبة للإنزال، وبذلك جزم ابن المنير ومن تبعه‏.‏
    وقال الكرماني صفات الله تعالى سلبية ووجودية وإضافية، فالأولى‏:‏ هي التنزيهات، والثانية‏:‏ هي القديمة، والثالثة‏:‏ الخلق والرزق، وهي حادثة ولا يلزم من حدوثها تغير في ذات الله ولا في صفاته الوجودية، كما أن تعلق العلم وتعلق القدرة بالمعلومات والمقدورات حادث وكذا جميع الصفات الفعلية، فإذا تقرر ذلك فالإنزال حادث والمنزل قديم وتعلق القدرة حادث ونفس القدرة قديمة فالمذكورة وهو القرآن قديم والذكر حادث، وأما ما نقله ابن بطال عن المهلب ففيه نظر لأن البخاري لا يقصد ذلك ولا يرضى بما نسب إليه إذ لا فرق بين مخلوق وحادث لا عقلا ولا نقلا ولا عرفا‏.‏
    وقال ابن المنير قيل ويحتمل أن يكون مراده حمل لفظ محدث على الحديث فمعنى ذكر محدث أي متحدث به‏.‏
    قال الراغب‏:‏ المحدث ما أوجد بعد أن لم يكن وذلك إما في ذاته أو إحداثه عند من حصل عنده، ويقال لكل ما قرب عهده حدث فعالا كان أو مقالا‏.‏
    وقال غيره في قوله تعالى ‏(‏لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا‏)‏ وفي قوله ‏(‏لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا‏)‏ المعنى يحدث عندهم ما لم يكن يعلمونه، فهو نظير الآية الأول، وقد نقل الهروي في الفاروق بسنده إلى حرب الكرماني‏:‏ سألت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يعني ابن راهويه عن قوله تعالى ‏(‏ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث‏)‏ قال‏:‏ قديم من رب العزة محدث إلى الأرض فهذا هو سلف البخاري في ذلك‏.‏
    وقال ابن التين احتج من قال بخلق القرآن بهذه الآية، قالوا‏:‏ والمحدث هو المخلوق والجواب أن لفظ الذكر في القرآن يتصرف على وجوه الذكر بمعنى العلم، ومنه ‏(‏فسألوا أهل الذكر‏)‏ والذكر بمعنى العظة، ومنه ‏(‏ص والقرآن ذي الذكر‏)‏ والذكر بمعنى الصلاة، ومنه ‏(‏فاسعوا إلى ذكر الله‏)‏ والذكر بمعنى الشرف، ومنه ‏(‏وإنه لذكر لك ولقومك‏)‏ ، ‏(‏ورفعنا لك ذكرك‏)‏ قال فإذا كان الذكر يتصرف إلى هذه الأوجه وهي كلها محدثة كان حمله على إحداها أولى ولأنه لم يقل ‏(‏ما يأتيهم من ذكر من ربهم إلا كان محدثا‏)‏ ونحن لا ننكر أن يكون من الذكر ما هو محدث كما قلنا وقيل محدث عندهم ومن زائدة للتوكيد‏.‏
    (ج13/ ص 612)
    فذكره بلفظ ‏"‏ ما ذكرني ‏"‏ وأخرجه أحمد أيضا وابن ماجه والحاكم من رواية الأوزاعي عن إسماعيل بن عبيد الله عن أم الدرداء عن أبي هريرة، ورواه ابن حبان في صحيحه من رواية الأوزاعي عن إسماعيل عن كريمة عن أبي هريرة، ورجح الحفاظ طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وربيعة بن يزيد، ويحتمل أن يكون عند إسماعيل عن كريمة وعن أم الدرداء معا وهذا من الأحاديث التي علقها البخاري ولم يصلها في موضع آخر من كتابه وبالله التوفيق، قال ابن بطال‏:‏ معنى الحديث أنا مع عبدي زمان ذكره لي، أي أنا معه بالحفظ والكلاءة لا أنه معه بذاته حيث حل العبد، ومعنى قوله ‏"‏ تحركت بي شفتاه ‏"‏ أي تحركت باسمي لا أن شفتيه ولسانه تتحرك بذاته تعالى لاستحالة ذلك انتهى ملخصا‏.‏
    (ج13/ ص 612)
    قال ابن بطال‏:‏ غرضه في هذا الباب أن تحريك اللسان والشفتين بقراءة القرآن عمل له يؤجر عليه، و قوله ‏(‏فإذا قرأناه فاتبع قرآنه‏)‏ فيه إضافة الفعل إلى الله تعالى والفاعل له من يأمره بفعله، فإن القارئ لكلامه تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل، ففيه بيان لكل ما أشكل من كل فعل ينسب إلى الله تعالى مما لا يليق به فعله من المجيء والنزول ونحو ذلك انتهى، والذي يظهر أن مراد البخاري بهذين الحديثين الموصول والمعلق، الرد على من زعم أن قراءة القارئ قديمة فأبان أن حركة لسان القارئ بالقرآن من فعل القارئ بخلاف المقروء فإنه كلام الله القديم كما أن حركة لسان ذاكر الله حادثة من فعله، والمذكور وهو الله سبحانه وتعالى قديم
    (ج13/ ص 614)
    وقال ابن المنير‏:‏ ظن الشارح أنه قصد بالترجمة إثبات العلم وليس كما ظن وإلا لتقاطعت المقاصد مما اشتملت عليه الترجمة لأنه لا مناسبة بين العلم وبين حديث‏:‏ ليس منا من لم يتغن بالقرآن وإنما قصد البخاري الإشارة إلى النكتة التي سبب محنته بمسألة اللفظ فأشار بالترجمة إلى أن تلاوة الخلق تتصف بالسر والجهر ويستلزم أن تكون مخلوقة، وساق الكلام على ذلك وقد قال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد بعد أن ذكر عدة أحاديث دالة على ذلك فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أصوات الخلق وقراءتهم ودراستهم وتعليمهم وألسنتهم مختلفة بعضها أحسن وأزين وأحلى وأصوت وأرتل وألحن وأعلى وأخفض وأغص وأخشع وأجهر وأخفى وأقصر وأمد وألين من بعض‏.‏
    (ج13/ ص 615)
    قال ابن المنير دلت أحاديث الباب الذي قبله على أن القراءة فعل القارئ وأنها تسمى تغنيا، وهذا هو الحق اعتقادا لا إطلاقا حذرا من الإيهام وفرارا من الابتداع بمخالفة السلف في الإطلاق وقد ثبت عن البخاري أنه قال‏:‏ من نقل عني أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فقد كذب، وإنما قلت إن أفعال العباد مخلوقة، قال‏:‏ وقد قارب الإفصاح في هذه الترجمة بما رمز إليه في التي قبلها‏.‏
    (ج13/ ص 621)
    واستدل أبو المظفر بن السمعاني بآيات الباب وأحاديثه على فساد طريقة المتكلمين في تقسيم الأشياء إلى جسم وجوهر وعرض، قالوا‏:‏ فالجسم ما اجتمع من الافتراق، والجوهر‏:‏ ما حمل العرض، والعرض‏:‏ ما لا يقوم بنفسه، وجعلوا الروح من الأعراض، وردوا الأخبار في خلق الروح قبل الجسد والعقل قبل الخلق، واعتمدوا على حدسهم وما يؤدي إليه نظرهم ثم يعرضون عليه النصوص فما وافقه قبلوه وما خالفه ردوه، ثم ساق هذه الآيات ونظائرها من الأمر بالتبليغ، قال وكان مما أمر بتبليغه التوحيد بل هو أصل ما أمر به فلم يترك شيئا من أمور الدين أصوله وقواعده وشرائعه إلا بلغه ثم لم يدع إلا الاستدلال بما تمسكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد في أصحابه من ذلك حرف واحد فما فوقه، فعرف بذلك أنهم ذهبوا خلاف مذهبهم وسلكوا غير سبيلهم بطريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم، ويلزم من سلوكه العود على السلف بالطعن والقدح ونسبتهم إلى قلة المعرفة واشتباه الطرق فالحذر من الاشتغال بكلامهم والاكتراث بمقالاتهم فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا وتجد لخصومهم عليه كلاما يوازنه أو يقاربه، فكل بكل مقابل وبعض ببعض معارض وحسبك من قبيح ما يلزم من طريقتهم أنا إذا جرينا على ما قالوه وألزمنا الناس بما ذكروه لزم من ذلك تكفير العوام جميعا لأنهم لا يعرفون إلا الاتباع المجرد ولو عرض عليهم هذا الطريق ما فهمه أكثرهم فضلا عن أن يصير منهم صاحب نظر، وإنما غاية توحيدهم التزام ما وجدوا عليه أئمتهم في عقائد الدين والعض عليها بالنواجذ والمواظبة على وظائف العبادات وملازمة الأذكار بقلوب سليمة طاهرة عن الشبه والشكوك فتراهم لا يحيدون عما اعتقدوه ولو قطعوا إربا إربا، فهنيئا لهم هذا اليقين وطوبى لهم هذه السلامة فإذا كفر هؤلاء وهم السواد الأعظم وجمهور الأمة فما هذا إلا طي بساط الإسلام وهدم منار الدين والله المستعان‏.

    (ج13/ ص 644)
    قال بعض الشراح المتأخرين اختلف في هذه المسألة على أقوال، أحدها‏:‏ أنها بدلت كلها وهو مقتضى القول المحكي بجواز الامتهان وهو إفراط، وينبغي حمل إطلاق من أطلقه على الأكثر وإلا فهي مكابرة، والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل، من ذلك قوله تعالى ‏(‏الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل‏)‏ الآية، ومن ذلك قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم، ويؤيده قوله تعالى ‏(‏قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين‏)‏ ثانيها‏:‏ أن التبديل وقع ولكن في معظمها وأدلته كثيرة وينبغي حمل الأول عليه، ثالثها‏:‏ وقع في اليسير منها ومعظمها باق على حاله، ونصره الشيخ تقي الدين بن تيمية في كتابه الرد الصحيح على من بدل دين المسيح، رابعها‏:‏ إنما وقع التبديل والتغيير في المعاني لا في الألفاظ وهو المذكور هنا، وقد سئل ابن تيمية عن هذه المسألة مجردا فأجاب في فتاويه أن للعلماء في ذلك قولين، واحتج للثاني من أوجه كثيرة منها قوله تعالى ‏(‏لا مبدل لكلماته‏)‏ وهو معارض بقوله تعالى ‏(‏فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه‏)‏ ولا يتعين الجمع بما ذكر من الحمل على اللفظ في النفي وعلى المعنى في الإثبات لجواز الحمل في النفي على الحكم وفي الإثبات على ما هو أعم من اللفظ والمعنى، ومنها أن نسخ التوراة في الشرق والغرب والجنوب والشمال لا يختلف ومن المحال أن يقع التبديل فيتوارد النسخ بذلك على منهاج واحد، وهذا استدلال عجيب لأنه إذا جاز وقوع التبديل جاز إعدام المبدل والنسخ الموجودة الآن هي التي استقر عليها الأمر عندهم عند التبديل والأخبار بذلك طافحة، أما فيما يتعلق بالتوراة فلأن بختنصر لما غزا بيت المقدس وأهلك بني إسرائيل ومزقهم بين قتيل وأسير وأعدم كتبهم حتى جاء عزيزا فأملاها عليهم، وأما فيما يتعلق بالإنجيل فإن الروم لما دخلوا في النصرانية جمع ملكهم أكابرهم على ما في الإنجيل الذي بأيديهم وتحريفهم المعاني لا ينكر بل هو موجود عندهم بكثرة وإنما النزاع هل حرفت الألفاظ أو لا، وقد وجد في الكتابين ما لا يجوز أن يكون بهذه الألفاظ من عند الله عز وجل أصلا، وقد سرد أبو محمد بن حزم في كتابه الفصل في الملل والنحل أشياء كثيرة من هذا الجنس، من ذلك أنه ذكر أن في أول فصل في أول ورقة من توراة اليهود التي عند رهبانهم وقرائهم وعاناتهم وعيسويهم حيث كانوا في المشارق والمغارب لا يختلفون فيها على صفة واحدة لو رام أحد أن يزيد فيها لفظة أو ينقص منها لفظة لافتضح عندهم متفقا عليها عندهم إلى الأحبار الهارونية الذين كانوا قبل الخراب الثاني يذكرون أنها مبلغة من أولئك إلى عزرا الهاروني، وأن الله تعالى قال لما أكل آدم من الشجرة هذا آدم قد صار كواحد منا في معرفة الخير والشر وأن السحرة عملوا لفرعون نظير ما أرسل عليهم من الدم والضفادع وأنهم عجزوا عن البعوض وأن ابنتي لوط بعد هلاك قومه ضاجعت كل منهما أباها بعد أن سقته الخمر فوطئ كلا منهما فحملتا منه إلى غير ذلك من الأمور المنكرة المستبشعة، وذكر في مواضع أخرى أن التبديل وقع فيها إلى أن أعدمت فأملاها عزرا المذكور على ما هي عليه الآن ثم ساق أشياء من نص التوراة التي بأيديهم الآن الكذب فيها ظاهر جدا ثم قال‏:‏ وبلغنا عن قوم من المسلمين ينكرون أن التوراة والإنجيل اللتين بأيدي اليهود والنصارى محرفان والحامل لهم على ذلك قلة مبالاتهم بنصوص القرآن والسنة وقد اشتملا على أنهم ‏(‏يحرفون الكلم عن مواضعه‏)‏ و ‏(‏يقولون على الله الكذب وهم يعلمون، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، ويلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون‏)‏ ، ويقال لهؤلاء المنكرين قد قال الله تعالى في صفة الصحابة ‏(‏ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه‏)‏ إلى آخر السورة، وليس بأيدي اليهود والنصارى شيء من هذا ويقال لمن ادعى أن نقلهم نقل متواتر قد اتفقوا على أن لا ذكر لمحمد صلى الله عليه وسلم في الكتابين، فإن صدقتموهم فيما بأيديهم لكونه نقل المتواتر فصدقوهم فيما زعموه أن لا ذكر لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، وإلا فلا يجوز تصديق بعض وتكذيب بعض مع مجيئهما مجيئا واحد انتهى كلامه وفيه فوائد‏.‏
    وقال الشيخ بدر الدين الزركشي‏:‏ اغتر بعض المتأخرين بهذا - يعني بما قال البخاري - فقال إن في تحريف التوراة خلافا هل هو في اللفظ والمعنى أو في المعنى فقط، ومال إلى الثاني ورأى جواز مطالعتها وهو قول باطل، ولا خلاف أنهم حرفوا وبدلوا، والاشتغال بنظرها وكتابتها لا يجوز بالإجماع، وقد غضب صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة‏.‏
    وقال‏:‏ لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي ولولا أنه معصية ما غضب فيه‏.‏
    قلت‏:‏ إن ثبت الإجماع فلا كلام فيه وقد قيده بالاشتغال بكتابتها ونظرها فإن أراد من يتشاغل بذلك دون غيره فلا يحصل المطلوب لأنه يفهم أنه لو تشاغل بذلك مع تشاغله بغيره جاز وإن أراد مطلق التشاغل فهو محل النظر، وفي وصفه القول المذكور بالبطلان مع ما تقدم نظر أيضا، فقد نسب لوهب بن منبه وهو من أعلم الناس بالتوراة، ونسب أيضا لابن عباس ترجمان القرآن وكان ينبغي له ترك الدفع بالصدر والتشاغل برد أدلة المخالف التي حكيتها، وفي استدلاله على عدم الجواز الذي ادعى الإجماع فيه بقصة عمر
    والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصر من الراسخين في الإيمان فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك بخلاف الراسخ فيجوز له ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف، ويدل على ذلك نقل الأئمة قديما وحديثا من التوراة وإلزامهم اليهود بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم بما يستخرجونه من كتابهم، ولولا اعتقادهم جواز النظر فيه لما فعلوه وتواردوا عليه وأما استدلاله للتحريم بما ورد من الغضب ودعواه أنه لو لم يكن معصية ما غضب منه فهو معترض بأنه قد يغضب من فعل المكروه ومن فعل ما هو خلاف الأولى إذا صدر ممن لا يليق منه ذلك، كغضبه من تطويل معاذ صلاة الصبح بالقراءة، وقد يغضب ممن يقع منه تقصير في فهم الأمر الواضح مثل الذي سأل عن لقطة الإبل، وقد تقدم في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ الغضب في الموعظة، ومضى في ‏"‏ كتاب الأدب ‏"‏ ما يجوز من الغضب‏.‏
    (ج13/ ص 645)
    أخرج ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الله بن داود الخريبي بخاء معجمة ثم راء ثم موحدة مصغر قال ما في القرآن آية أشد على أصحاب جهم من هذه الآية ‏(‏لأنذركم به ومن بلغ‏)‏ فمن بلغه القرآن فكأنما سمعه من الله تعالى‏.‏
    (ج13/ ص 648)
    قال الطبري‏:‏ فيها وجهان فمن قال مصدرية قال المعنى‏:‏ والله خلقكم وخلق عملكم، ومن قال موصولة قال خلقكم وخلق الذي تعملون، أي تعملون منه الأصنام وهو الخشب والنحاس وغيرهما، ثم أسند عن قتادة ما يرجح القول الثاني وهو قوله تعالى ‏(‏والله خلقكم وما تعملون‏)‏ أي بأيديكم‏.‏
    وقال الله تعالى ‏(‏والله خلقكم وما تعملون‏)‏ وقال مكي بن أبي طالب في إعراب القرآن له قالت المعتزلة ما في قوله تعالى ‏(‏وما تعملون‏)‏ موصولة فرارا من أن يقروا بعموم الخلق لله تعالى، يريدون أنه خلق الأشياء التي تنحت منها الأصنام، وأما الأعمال والحركات فإنها غير داخلة في خلق الله، وزعموا أنهم أرادوا بذلك تنزيه الله تعالى عن خلق الشر، ورد عليهم أهل السنة بأن الله تعالى خلق إبليس وهو الشر كله‏.‏
    وقال التونسي في مختصر تفسير الفخر الرازي‏:‏ احتج الأصحاب بهذه الآية على أن عمل العبيد مخلوق لله على إعراب ما مصدرية وأجاب المعتزلة بأن إضافة العبادة والنحت لهم إضافة الفعل للفاعل ولأنه وبخهم ولو لم تكن الأفعال لخلقهم لما وبخهم، قالوا‏:‏ ولا نسلم أنها مصدرية لأن الأخفش يمنع أعجبني ما قمت أي قيامك وقال إنه خاص بالمتعدى سلمنا جوازه لكن لا يمنع ذلك من تقدير ما مفعولا للنحاتين ولموافقة ما ينحتون ولأن العرب تسمى محل العمل عملا فتقول في الباب هو عمل فلان ولأن القصد هو تزييف عبادتهم لا بيان أنهم لا يوجدون أعمال أنفسهم قال وهذه شبهة قوية فالأولى أن لا يستدل بهذه الآية لهذا المراد كذا قال، وجرى على عادته في إيراد شبه المخالفين وترك بذل الوسع في أجوبتها وقد أجاب الشمس الأصبهاني في تفسيره وهو ملخص من تفسير الفخر فقال وما تعملون‏:‏ أي عملكم وفيها دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله وعلى أنها مكتسبة للعباد حيث أثبت لهم عملا فأبطلت مذهب القدرية والجبرية معا وقد رجح بعض العلماء كونها مصدرية لأنهم لم يعبدوا الأصنام إلا لعملهم لا لجرم الصنم وإلا لكانوا يعبدونها قبل العمل فكأنهم عبدوا العمل فأنكر عليهم عبادة المنحوت الذي لم ينفك عن العمل المخلوق وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية في الرد على الرافضي لا نسلم أنها موصولة ولكن لا حجة فيها للمعتزلة لأن قوله تعالى ‏(‏والله خلقكم‏)‏ يدخل فيه ذاتهم وصفاتهم وعلى هذا إذا كان التقدير والله خلقكم وخلق الذي تعملونه إن كان المراد خلقه لها قبل النحت لزم أن يكون المعمول غير مخلوق وهو باطل فثبت أن المراد خلقه لها قبل النحت وبعده وأن الله خلقها بما فيها من التصوير والنحت فثبت أنه خالق ما تولد عن فعلهم ففي الآية دلالة على أنه تعالى خلق أفعالهم القائمة بهم وخلق ما تولد عنها ووافق على ترجيح أنها موصولة من جهة أن السياق يقتضي أنه أنكر عليهم عبادة المنحوت فناسب أن ينكر ما يتعلق بالمنحوت وأنه مخلوق له فيكون التقدير الله خالق العابد والمعبود وتقدير‏:‏ خلقكم وخلق أعمالكم،
    (ج13/ ص 652)
    احتج بعض المبتدعة بقوله تعالى ‏(‏الله خالق كل شيء‏)‏ على أن القرآن مخلوق لأنه شيء، وتعقب ذلك نعيم بن حماد وغيره من أهل الحديث بأن القرآن كلام الله وهو صفته فكما أن الله لم يدخل في عموم قوله ‏(‏كل شيء‏)‏ اتفاقا فكذلك صفاته، ونظير ذلك قوله تعالى ‏(‏ويحذركم الله نفسه‏)‏ مع قوله تعالى ‏(‏كل نفس ذائقة الموت‏)‏ فكما لم تدخل نفس الله في هذا العموم اتفاقا فكذا لا يدخل القرآن‏.‏
    لأمر بقوله تعالى ‏(‏ألا له الخلق والأمر‏)‏ وهذا الأثر وصله ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية من طريق بشار بن موسى قال‏:‏ كنا عند سفيان بن عيينة فقال ألا له الخلق والأمر، فالخلق هو المخلوقات والأمر هو الكلام، ومن طريق حماد بن نعيم سمعت سفيان بن عيينة، وسئل عن القرآن أمخلوق هو‏؟‏ فقال‏:‏ يقول الله تعالى ألا له الخلق والأمر ألا ترى كيف فرق بين الخلق والأمر، فالأمر كلامه فلو كان كلامه مخلوقا لم يفرق‏.‏
    قلت‏:‏ وسبق ابن عيينة إلى ذلك محمد بن كعب القرظي وتبعه الإمام أحمد بن حنبل وعبد السلام بن عاصم وطائفة أخرج كل ذلك ابن أبي حاتم عنهم‏.‏
    وقال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد ‏"‏ خلق الله الخلق بأمره ‏"‏ لقوله تعالى ‏(‏لله الأمر من قبل ومن بعد‏)‏ ولقوله ‏(‏إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏)‏ ولقوله ‏(‏ومن آياته أن تقوم السماوات والأرض بأمره‏)‏ قال‏:‏ وتواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القرآن كلام الله وأن أمر الله قبل مخلوقاته، قال‏:‏ ولم يذكر عن أحد من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان خلاف ذلك وهم الذين أدوا إلينا الكتاب والسنة قرنا بعد قرن، ولم يكن بين أحد من أهل العلم في ذلك خلاف إلى زمان مالك والثوري وحماد وفقهاء الأمصار ومضى على ذلك من أدركنا من علماء الحرمين والعراقين والشام ومصر وخراسان‏.‏
    قال عبد العزيز بن يحيى المكي في مناظرته لبشر المريسي بعد أن تلا الآية المذكورة أخبر الله تعالى عن الخلق أنه مسخر بأمره، فالأمر هو الذي كان الخلق مسخرا به فكيف يكون الأمر مخلوقا‏.‏
    وقال تعالى ‏(‏إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏)‏ فأخبر أن الأمر متقدم على الشيء المكون‏.‏
    وقال ‏(‏لله الأمر من قبل ومن بعد‏)‏ أي من قبل خلق الخلق ومن بعد خلقهم وموتهم بدأهم بأمره ويعيدهم بأمره‏.
    (ج13/ ص 656)
    قال الكرماني هذه الأحاديث تدل على أن العمل منسوب إلى العبد لأن معنى الكسب اعتبار الجهتين فيستفاد المطلوب منها ولعل غرض البخاري في تكثير هذا النوع في الباب وغيره بيان جواز ما نقل عنه أنه قال ‏"‏ لفظي بالقرآن مخلوق ‏"‏ إن صح عنه‏.‏
    قلت‏:‏ قد صح عنه أنه تبرأ من هذا الإطلاق فقال ‏"‏ كل من نقل عني أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فقد كذب علي، وإنما قلت أفعال العباد مخلوقة ‏"‏ أخرج ذلك غنجار في ترجمة البخاري من تاريخ بخارا بسند صحيح إلى محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور أنه سمع البخاري يقول ذلك، ومن طريق أبي عمر وأحمد بن نصر النيسابوري الخفاف أنه سمع البخاري يقول ذلك‏.‏
    (ج13/ ص 658)
    ال الكرماني فيه إشكال وهو أنه يلزم من وجود العلامة وجود ذي العلامة فيستلزم أن كل من كان محلوق الرأس فهو من الخوارج والأمر بخلاف ذلك اتفاقا ثم أجاب بأن السلف كانوا لا يحلقون رءوسهم إلا للنسك أو في الحاجة، والخوارج اتخذوه ديدنا فصار شعارا لهم وعرفوا به قال ويحتمل أن يراد به حلق الرأس واللحية وجميع شعورهم وأن يراد به الإفراط في القتل والمبالغة في المخالفة في أمر الديانة‏.‏
    قلت‏:‏ الأول باطل لأنه لم يقع من الخوارج والثاني محتمل لكن طرق الحديث المتكاثرة كالصريحة في إرادة حلق الرأس، والثالث كالثاني والله أعلم‏.

    (ج13/ ص 658)
    وقع لابن بطال في وصف الخوارج خبط أردت التنبيه عليه لئلا يغتر به، وذلك أنه قال‏:‏ يمكن أن يكون هذا الحديث في قوم عرفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي أنهم خرجوا ببدعتهم عن الإسلام إلى الكفر وهم الذين قتلهم علي بالنهروان حين قالوا إنك ربنا فاغتاظ عليهم وأمر بهم فحرقوا بالنار فزادهم ذلك فتنة وقالوا الآن تيقنا أنك ربنا إذ لا يعذب بالنار إلا الله انتهى، وقد تقدمت هذه القصة لعلي في الفتن وليست للخوارج وإنما هي للزنادقة كما وقع مصرحا به في بعض طرقه، ووقع في شرح الوجيز للرافعي عند ذكر الخوارج قال هم فرقة من المبتدعة خرجوا على علي حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه بقتله ومواطأته إياهم، ويعتقدون أن من أتى كبيرة فقد كفر واستحق الخلود في النار ويطعنون لذلك في الأئمة انتهى، وليس الوصف الأول في كلامه وصف الخوارج المبتدعة وإنما هو وصف النواصب أتباع معاوية بصفين، وأما الخوارج فمن معتقدهم تكفير عثمان وأنه قتل بحق، ولم يزالوا مع علي حتى وقع التحكيم بصفين فأنكروا التحكيم وخرجوا على علي وكفروه،
    (ج13/ ص 659)
    حكى حنبل بن إسحاق في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال ردا على من أنكر الميزان ما معناه‏:‏ قال الله تعالى ‏(‏ونضع الموازين القسط ليوم القيامة‏)‏ وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الميزان يوم القيامة فمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم فقد رد على الله عز وجل
    قال أبو إسحاق الزجاج أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال، وأنكرت المعتزلة الميزان وقالوا هو عبارة عن العدل فخالفوا الكتاب والسنة لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال ليرى العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين‏.‏
    وقال ابن فورك أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها، قال وقد روى بعض المتكلمين عن ابن عباس أن الله تعالى يقلب الأعراض أجساما فيزنها انتهى، وقد ذهب بعض السلف إلى أن الميزان بمعنى العدل والقضاء فأسند الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى ‏(‏ونضع الموازين القسط ليوم القيامة‏)‏ قال إنما هو مثل كما يجوز وزن الأعمال كذلك يجوز الحط، ومن طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال الموازين العدل، والراجح ما ذهب إليه الجمهور‏.‏
    (ج13/ ص 660)
    ورجح القرطبي أن الذي يوزن الصحائف التي تكتب فيها الأعمال، ونقل عن ابن عمر قال توزن صحائف الأعمال، قال فإذا ثبت هذا فالصحف أجسام فيرتفع الإشكال ويقويه حديث البطاقة الذي أخرجه الترمذي وحسنة والحاكم وصححه، وفيه فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة انتهى، والصحيح أن الأعمال هي التي توزن، وقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن، وفي حديث جابر رفعه توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار، قيل فمن استوت حسناته وسيئاته قال أولئك أصحاب الأعراف، أخرجه خيثمة في فوائده، وعند ابن المبارك في الزهد عن ابن مسعود نحوه موقوفا‏.‏
    وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن حذيفة موقوفا أن صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام‏.‏
    (ج13/ ص 661)
    (‏وقال مجاهد القسطاس‏:‏ العدل بالرومية‏)‏ وصله الفريابي في تفسيره عن سفيان الثوري عن رجل عن مجاهد وعن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى ‏(‏وزنوا بالقسطاس المستقيم‏)‏ قال هو العدل بالرومية‏.‏
    وقال الطبري معنى قوله ‏"‏ وزنوا بالقسطاس ‏"‏ بالميزان‏.‏
    وقال ابن دريد مثله وزاد ‏"‏ وهو رومي عرب ‏"‏ ويقال قسطار بالراء آخره بدل السين‏.‏
    وقال صاحب المشارق القسطاس أعدل الموازين
    (ج13/ ص 662)
    ن سائر التكاليف صعبة شاقة على النفس ثقيلة وهذه سهلة عليها مع أنها تثقل الميزان كثقل الشاق من التكاليف، وقد سئل بعض السلف عن سبب ثقل الحسنة وخفة السيئة، فقال‏:‏ لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فلذلك خفت فلا يحملنك خفتها على ارتكابها‏.‏
    (ج13/ ص 663)
    قال ابن بطال هذه الفضائل الواردة في فضل الذكر إنما هي لأهل الشرف في الدين والكمال كالطهارة من الحرام والمعاصي العظام فلا تظن أن من أدمن الذكر وأصر على ما شاءه من شهواته وانتهك دين الله وحرماته أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على لسانه ليس معه تقوى ولا عمل صالح‏.‏
    (ج13/ ص 664)
    قال الكرماني صفات الله وجودية كالعلم والقدرة وهي صفات الإكرام وعدمية كلا شريك له ولا مثل له وهي صفات الجلال فالتسبيح إشارة إلى صفات الجلال والتحميد إشارة إلى صفات الإكرام وترك التقييد مشعر بالتعميم، والمعنى أنزهه عن جميع النقائص وأحمده بجميع الكمالات، قال‏:‏ والنظم الطبيعي يقتضي تقديم التحلية على التخلية فقدم التسبيح الدال على التخلي على التحميد الدال على التحلي وقدم لفظ الله لأنه اسم الذات المقدسة الجامع لجميع الصفات والأسماء الحسنى، ووصفه بالعظيم لأنه الشامل لسلب ما لا يليق به وإثبات ما يليق به إذ العظمة الكاملة مستلزمة لعدم النظير والمثيل ونحو ذلك، وكذا العلم بجميع المعلومات والقدرة على جميع المقدورات ونحو ذلك، وذكر التسبيح متلبسا بالحمد ليعلم ثبوت الكمال له نفيا وإثباتا وكرره تأكيدا ولأن الاعتناء بشأن التنزيه أكثر من جهة كثرة المخالفين ولهذا جاء في القرآن بعبارات مختلفة نحو سبحان وسبح بلفظ الأمر وسبح بلفظ الماضي ويسبح بلفظ المضارع، ولأن التنزيهات تدرك بالعقل بخلاف الكمالات فإنها تقصر عن إدراك حقائقها كما قال بعض المحققين‏:‏ الحقائق الإلهية لا تعرف إلا بطريق السلب كما في العلم لا يدرك منه إلا أنه ليس بجاهل، وأما معرفة حقيقة علمه فلا سبيل إليه‏.‏
    (ج13/ ص 664)
    وقال شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني في كلامه على مناسبة أبواب صحيح البخاري الذي نقلته عنه في أواخر المقدمة‏:‏ لما كان أصل العصمة أولا وآخرا هو توحيد الله فختم بكتاب التوحيد، وكان آخر الأمور التي يظهر بها المفلح من الخاسر ثقل الموازين وخفتها فجعله آخر تراجم الكتاب، فبدأ بحديث ‏"‏ الأعمال بالنيات ‏"‏ وذلك في الدنيا، وختم بأن الأعمال توزن يوم القيامة، وأشار إلى أنه إنما يثقل منها ما كان بالنية الخالصة لله تعالى، وفي الحديث الذي ذكره ترغيب وتخفيف، وحث على الذكر المذكور لمحبة الرحمن له والخفة بالنسبة لما يتعلق بالعمل والثقل بالنسبة لإظهار الثواب، وجاء ترتيب هذا الحديث على أسلوب عظيم وهو أن حب الرب سابق وذكر العبد وخفة الذكر على لسانه تال ثم بين ما فيهما من الثواب العظيم النافع يوم القيامة انتهى ملخصا‏.‏
    (ج13/ ص 665)
    وقال الكرماني تقدم في أول ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ بيان ترتيب أبواب الكتاب وأن الختم بمباحث كلام الله لأنه مدار الوحي، وبه تثبت الشرائع ولهذا افتتح ببدء الوحي والانتهاء إلى ما منه الابتداء ونعم الختم بها، ولكن ذكر هذا الباب ليس مقصودا بالذات بل هو لإرادة أن يكون آخر الكلام التسبيح والتحميد، كما أنه ذكر حديث الأعمال بالنيات في أول الكتاب لإرادة بيان إخلاصه فيه كذا قال، والذي يظهر أنه قصد ختم كتابه بما دل على وزن الأعمال لأنه آخر آثار التكليف فإنه ليس بعد الوزن إلا الاستقرار في أحد الدارين إلى أن يريد الله إخراج من قضى بتعذيبه من الموحدين فيخرجون من النار بالشفاعة كما تقدم بيانه‏.‏
    (ج13/ ص 665)
    قال الكرماني وأشار أيضا إلى أنه وضع كتابه قسطاسا وميزانا يرجع إليه، وأنه سهل على من يسره الله تعالى عليه وفيه إشعار بما كان عليه المؤلف في حالتيه أولا وآخرا، تقبل الله تعالى منه وجزاه أفضل الجزاء‏.‏
    (ج13/ ص 666)
    ومما اتفق له من المناسبات التي لم ار من نبه عليها إنه يعتني غالبا بان يكون في الحديث الأخير من كل كتاب من كتب هذا الجامع مناسبة لختمه ولو كانت الكلمة في اثناء الحديث الاخير أو من الكلام عليه كقوله في آخر حديث بدء الوحي فكان ذلك من آخر شأن هرقل وقوله في آخر كتاب الايمان ثم استغفر ونزل وي آخر كتاب العلم وليقطعها حتى يكون تحت الكعبين وفي آخر كتاب الوضوء وأجعلهن آخر ما تكلم به وفي آخر كتاب الغسل وذلك الاخير وي أخر كتاب التيمم عليك بالصعيد فإنه يكفيك ....وفي آخر الاعتصام سبحانك هذا بهتان عظيم والتسبيح مشروع في الختام
    فلذلك ختم به " كتاب التوحيد "
    والحمد لله بعد التسبيح اخر دعوى أهل الجنة قال الله تعالى
    [ دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ]
    (ج13/ ص 667)
    ورد في حديث أبي هريرة في ختم المجلس ما أخرجه الترمذي في الجامع والنسائي في اليوم والليلة وابن حبان في صحيحه والطبراني في الدعاء والحاكم في المستدرك كلهم عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من جلس في مجلس وكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك " وقال الترمذي : حسن صحيح غريب
    قال البخاري : هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا فذ هذا الباب غير هذا الحديث إلا إنه معلول ...
    واخرجه البيهقي في المدخل عن الحاكم بسنده المذكور في علوم الحديث
    عن البخاري فقال عن احمد بن حنبل ويحيى بن معين كلاهما عن حجاج
    بن محمد وساق كلام البخاري لكن قال :
    لا أعلم بهذا الاسناد في الدنيا غير هذا الحديث إلا أنه معلول
    وقوله لا اعلم بهذا الاسناد في الدنيا هو المنقول عن البخاري
    لا قوله لا اعلم في الدنيا في هذا الباب فإن في الباب عدة
    أحاديث لا تخفى على البخاري
    وقد ساق الخليل في الارشاد هذه القصة عن غير الحاكم وذكر فيها
    أن مسلما قال للبخاري أتعرف بهذا الاسناد في الدنيا حديثا غير هذا
    فقال : لا إلا أنه معلول "
    (ج13/ ص 669)
    ورأيت ختم هذا الفتح بطريق من طرق هذا الحديث مناسبة للختم أسوقها
    بالسند المتصل العالي بالسماع والاجازة إلى منتهاه قرأت على الشيخ
    الإمام العدل المسند المكثر الفقيه شهاب الدين أبي العباس أحمد بن
    الحسن بن محمد بن محمد بن زكريا القدسي .......
    : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك "
    والله اعلم
    (ج13/ ص 670)
    والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه وذريته والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا
    قال مؤلفه حافظ العصر إمام السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام
    فرغ من جامعه أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن احمد بن حجر
    الكناني النسب العسقلاني الأصل المصري المولد والمنشأ نزيل القاهرة
    في أول يوم من رجب سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة سوى ما ألحقه في هذا الكراس
    في ثاني عشر رجب منها
    وكان جمعه للمقدمة في سنة ثلا عشرة وشروعه في الشرح في اوائل سنة سبع
    عشرة
    ولله الحمد باطنا وظاهرا أولا وآخرا
    انتهى
    والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    ختم لشرح صحيح البخاري " للحافظ ابن حجر
    الموافق : الجمعة
    24/ شعبان / 1441 هجري
    17/ ابريل / 2020 ميلادي
    ويليه " منهج الحافظ ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري "

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •