بين مراد عائشة فأشار إلى أن إطلاق النفي في قوله: (إنك لا تسمع الموتى) مقيد باستقرارهم في النار، وعلى هذا فلا معارضة بين إنكار عائشة وإثبات ابن عمر كما تقدم توضيحه في الجنائز، لكن الرواية التي بعد هذه تدل على أن عائشة كانت تنكر ذلك مطلقا لقولها إن الحديث إنما هو بلفظ " إنهم ليعلمون " وأن ابن عمر وهم في قوله " ليسمعون " قال البيهقي: العلم لا يمنع من السماع، والجواب عن الآية أنه لا يسمعهم وهم موتى ولكن الله أحياهم حتى سمعوا كما قال قتادة، ولم ينفرد عمر ولا ابنه بحكاية ذلك بل وافقهما أبو طلحة كما تقدم، وللطبراني من حديث ابن مسعود مثله بإسناد صحيح." فتح الباري " تلخيص كتاب المغازيتاريخ 12/ جمادى الأولى / 1441 هجريتاريخ 7/ يناير1/ 2020 ميلادي( ج7/ ص 349)قال ابن إسحاق أول ما غزا النبي صلى الله عليه وسلم الأبواء ثم بواط ثم العشيرة)روى أبو يعلى من طريق أبي الزبير عن جابر أن عدد الغزوات إحدى وعشرون وإسناده صحيح وأصله في مسلم، فعلى هذا ففات زيد بن أرقم ذكر ثنتين منها ولعلهما الأبواء وبواط، وكأن ذلك خفي عليه لصغره، ويؤيد ما قلته ما وقع عند مسلم بلفظ " قلت أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العشير أو العشيرة " ا هـوقد توسع ابن سعد فبلغ عدة المغازي التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعا وعشرين، وتبع في ذلك الواقدي، وهو مطابق لما عده ابن إسحاق إلا أنه لم يفرد وادي القرى من خيبر، أشار إلى ذلك السهيلي، وكأن الستة الزائدة من هذا القبيل، وعلى هذا يحمل ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال " غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين " وأخرجه يعقوب بن سفيان عن سلمة بن شبيب عن عبد الرزاق فيه أن سعيدا قال أولا ثماني عشرة ثم قال أربعا وعشرين، قال الزهري: فلا أدري أو هم أو كان شيئا سمعه بعد.قلت: وحمله على ما ذكرته يدفع الوهم ويجمع الأقوال والله أعلم.وأما البعوث والسرايا فعد ابن إسحاق ستا وثلاثين وعد الواقدي ثمانيا وأربعين.وحكى ابن الجوزي في " التلقيح " ستا وخمسين، وعد المسعودي ستين، وبلغها شيخنا في " نظم السيرة " زيادة على السبعين، ووقع عند الحاكم في " الإكليل " أنها تزيد على مائة فلعله أراد ضم المغازي إليها.( ج7/ ص 356)(بدر) هي قرية مشهورة نسبت إلى بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة كان نزلها، ويقال بدر بن الحارث، ويقال بدر اسم البئر التي بها، سميت بذلك لاستدارتها أو لصفاء مائها فكان البدر يرى فيها، وحكى الواقدي إنكار ذلك كله عن غير واحد من شيوخ بني غفار، وإنما هي مأوانا ومنازلنا وما ملكها أحد قط يقال له بدر، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد.( ج7/ ص 360)وعند الطبراني بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: " ما سمعنا مناشدا ينشد ضالة أشد مناشدة من محمد لربه يوم بدر: " اللهم إني أنشدك ما وعدتني " قال السهيلي: سبب شدة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ونصبه في الدعاء لأنه رأى الملائكة تنصب في القتال، والأنصار يخوضون غمار الموت، والجهاد تارة يكون بالسلاح وتارة بالدعاء، ومن السنة أن يكون الإمام وراء الجيش لأنه لا يقاتل معهم فلم يكن ليريح نفسه، فتشاغل بأحد الأمرين وهو الدعاء.( ج7/ ص 361)قال الخطابي: لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال؛ بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، لأنه كان أول مشهد شهده، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك، لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقب بقوله." سيهزم الجمع " انتهى ملخصا.( ج7/ ص 364)وروى البيهقي أيضا بإسناد حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ومعه ثلاثمائة وخمسة عشر " وهذه الرواية لا تنافي التي قبلها لاحتمال أن تكون الأولى لم تعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا الرجل الذي أتى آخرا، وأما الرواية التي فيها وتسعة عشر فيحتمل أنه ضم إليهم من استصغر ولم يؤذن له في القتال يومئذ كالبراء وابن عمر وكذلك أنس، فقد روى أحمد بسند صحيح عنه أنه سئل " هل شهدت بدرا؟ فقالا: وأين أغيب عن بدر " انتهىحكى السهيلي أنه حضر مع المسلمين سبعون نفسا من الجن، وكان المشركون ألفا، وقيل: سبعمائة وخمسون، وكان معهم سبعمائة بعير ومائة فرس.ومن هذا القبيل جابر بن عبد الله فقد روى أبو داود بإسناد صحيح عنه قال: " كنت أمنح الماء لأصحابي يوم بدر " وإذا تحرر هذا الجمع فليعلم أن الجميع لم يشهدوا القتال وإنما شهده منهم ثلاثمائة وخمسة أو ستة كما أخرجه ابن جرير،سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ حَدَّثَنِي أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا أَنَّهُمْ كَانُوا عِدَّةَ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَازُوا مَعَهُ النَّهَرَ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثَ مِائَةٍو طالوت بن قيس من ذرية بنيامين بن يعقوب شفيق يوسف عليه السلام يقال إنه كان سقاء ويقال إنه كان دباغا.( ج7/ ص 374)وقعة اليرموك كانت أول خلافة عمر بين المسلمين والروم بالشام سنة ثلاث عشر وقيل: سنة خمسة عشرواليرموك - بفتح التحتانية وبضمها أيضا وسكون الراء - موضع من نواحي فلسطين، ويقال إنه نهر، والتحرير أنه موضع بين أذرعات ودمشق كانت به الواقعة المشهورة، وقتل في تلك الوقعة من الروم سبعون ألفا في مقام واحد، لأنهم كانوا سلسلوا أنفسهم لأجل الثبات، فلما وقعت عليهم الهزيمة قتل أكثرهم، وكان اسم أمير الروم من قبل هرقل باهان أوله موحدة ويقال ميم، وكان أبو عبيدة الأمير على المسلمين يومئذ، ويقال إنه شهدها من أهل بدر مائة نفس والله أعلم.( ج7/ ص 380)
والله تعالى هو فاعل الجميع والله أعلمومن حديث عبد الله بن سيدان نحوه وفيه: " قالوا يا رسول الله وهل يسمعون؟ قال: يسمعون كما تسمعون، ولكن لا يجيبون " وفي حديث ابن مسعود " ولكنهم اليوم لا يجيبون " ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد عن عائشة مثل حديث أبي طلحة وفيه: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " وأخرجه أحمد بإسناد حسن، فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة لكونها لم تشهد القصة، قال الإسماعيلي: كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله يدل على نسخه أو تخصيصه أو استحالته، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن، لأن قوله تعالى (إنك لا تسمع الموتى) لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: " إنهم الآن يسمعون " لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع في أذن السامع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن أبلغهم صوت نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك.وقد اختلف أهل التأويل في المراد بالموتى في قوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى) وكذلك المراد بمن في القبور، فحملته عائشة على الحقيقة وجعلته أصلا احتاجت معه إلى تأويل قوله: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " وهذا قول الأكثر، وقيل: هو مجاز والمراد بالموتى وبمن في القبور الكفار، شبهوا بالموتى وهم أحياء، والمعنى من هم في حال الموتى أو في حال من سكن القبر، وعلى هذا لا يبقى في الآية دليل على ما نفته عائشة رضي الله عنها، والله أعلم.( ج7/ ص 383)(إذا أكثبوكم) بمثلثة ثم موحدة أي إذا قربوا منكم، ووقع في الرواية الثانية " يعني أكثروكم " وهو تفسير لا يعرفه أهل اللغة، وقد قدمت في الجهاد أن الداودي فسره بذلك وأنه أنكر عليه( ج7/ ص 385)الصقرين) بالمهملة ثم القاف تثنية صقر، وهو من سباع الطير وأحد الجوارح الأربعة وهي الصقر والبازي والشاهين والعقاب، وشبههما به لما اشتهر عنه من الشجاعة والشهامة والإقدام على الصيد، ولأنه إذا تشبث بشيء لم يفارقه حتى يأخذه وأول من صاد به من العرب الحارث بن معاوية بن ثور الكندي، ثم اشتهر الصيد به بعده.( ج7/ ص 388)قول بعض المتأخرين كالدمياطي: لم يذكر أحد مرارة وهلالا فيمن شهد بدرا فمردود عليه، فقد جزم به البخاري هنا وتبعه جماعة، وأما قوله: وإنما ذكروهما في الطبقة الثانية ممن شهد أحدا، فحصر مردود، فإن الذي ذكرهما كذلك هو محمد بن سعد وليس ما يقتضيه صنيعه بحجة على مثل هذا الحديث الصحيح المثبت لشهودهما وقد ذكر هشام بن الكلبي وهو من شيوخ محمد بن سعد أن مرارة شهد بدرا فإنه ساق نسبه إلى الأوس ثم قال: شهد بدرا، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم.وقد استقريت أول من أنكر شهودهما بدرا فوجدته الأثرم صاحب الإمام أحمد واسمه أحمد بن محمد بن هانئ، قال ابن الجوزي: لم أزل متعجبا من هذا الحديث وحريصا على كشف هذا الموضع وتحقيقه حتى رأيت الأثرم ذكر الزهري وفضله وقال: لا يكاد يحفظ عنه غلط إلا في هذا الموضع، فإنه ذكر أن مرارة وهلالا شهدا بدرا، وهذا لم يقله أحد، والغلط لا يخلو منه إنسان.قلت: وهذا ينبني على أن قوله شهدا بدرا مدرج في الخبر من كلام الزهري، وفي ثبوت ذلك نظر لا يخفى كما قدمته، واحتج ابن القيم في الهدى بأنهما لو شهدا بدرا ما عوقبا بالهجر الذي وقع لهما بل كانا يسامحان بذلك كما سومح حاطب بن أبي بلتعة كما وقع في قصته المشهورة، قلت: وهو قياس مع وجود النص، ويمكن الفرق، وبالله التوفيق والله أعلم.( ج7/ ص 390)أخرج يونس بن بكير في زيادات المغازي والبيهقي من طريق الربيع بن أنس قال: " كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة من قتلى الناس بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل وسم النار " وفي مسند إسحاق " عن جبير بن مطعم قال: رأيت قبل هزيمة القوم ببدر مثل النجاد الأسود أقبل من السماء كالنمل فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم " وعند مسلم من حديث ابن عباس " بينما رجل مسلم يشتد في أثر رجل مشرك إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس " الحديث وفيه " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك مدد من السماء الثالثة".قال سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أهل بدر فيكم؟ قال خيارنا، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة هم خيار الملائكة " وقوله في رواية يزيد " نحوه( ج7/ ص 391)ما أخرج سعيد بن منصور من مرسل عطية بن قيس " أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما فرغ من بدر على فرس حمراء معقودة الناصية قد تخضب الغبار بثنيته عليه درعه وقال: يا محمد إن الله بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى، أفرضيت؟ قال: " نعم " ووقع عند ابن إسحاق من حديث أبي واقد الليثي قال: " إني لأتبع يوم بدر رجلا من المشركين لأضربه فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي " ووقع عند البيهقي من طريق ابن محمد بن جبير بن مطعم أنه سمع عليا يقول " هبت ريح شديدة لم أر مثلها، ثم هبت ريح شديدة، وأظنه ذكر ثالثة، فكانت الأولى جبريل والثانية ميكائيل والثالثة إسرافيل، وكان ميكائيل عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر، وإسرافيل عن يساره وأنا فيها " ومن طريق أبي صالح عن علي قال: " قيل لي ولأبي بكر يوم بدر: مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يحضر الصف ويشهد القتال " وأخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه الحاكم، والجمع بينه وبين الذي قبله ممكن، قال الشيخ تقي الدين السبكي: سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه، فقلت: وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله تعالى في عبادة.
كان الكفار بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: قسم وادعهم على أن لا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوه، وهم طوائف اليهود الثلاثة قريظة والنضير وقينقاع.( ج7/ ص 397)قد تقدم في الجنائز أن أنسا قال " إن التكبير على الجنازة ثلاث، وإن الأولى للاستفتاح " وروى ابن أبي خيثمة من وجه آخر مرفوعا " إنه كان يكبر أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا، حتى مات النجاشي فكبر عليه أربعا، وثبت على ذلك حتى مات " وقال أبو عمر: انعقد الإجماع على أربع، ولا نعلم من فقهاء الأمصار من قال بخمس إلا ابن أبي ليلى، انتهى.وفي " المبسوط " للحنفية عن أبي يونس مثله.وقال النووي في " شرح المهذب " كان بين الصحابة خلاف ثم انقرض وأجمعوا على أنه أربع، لكن لو كبر الإمام خمسا لم تبطل صلاته إن كان ناسيا، وكذا إن كان عامدا على الصحيح، لكن لا يتابعه المأموم على الصحيح، والله أعلم.( ج7/ ص 404)وروى الطبراني من طريق محمد بن صالح التمار عن الزهري عن محمد بن جبير عن أبيه قال قال المطعم بن عدي لقريش: إنكم قد فعلتم بمحمد ما فعلتم، فكونوا أكف الناس عنه " وذلك بعد الهجرة ثم مات المطعم بن عدي قبل وقعة بدر وله بضع وتسعون سنة، وذكر الفاكهي بإسناد مرسل أن حسان بن ثابت رثاه لما مات مجازاة له على ما صنع للنبي صلى الله عليه وسلم.( ج7/ ص 405)(وقعت الفتنة الأولى) يعني مقتل عثمان فلم تبق من أصحاب بدرا أحدا، أي أنهم ماتوا منذ قامت الفتنة بمقتل عثمان إلى أن قامت الفتنة الأخرى بوقعة الحرة، وكان آخر من مات من البدريين سعد بن أبي وقاصوزعم الداودي أن المراد بالفتنة الأولى مقتل الحسين بن علي، وهو خطأ فإن في زمن مقتل الحسين بن علي لم يكن أحد من البدريين موجودا.(ثم وقعت الفتنة الثانية يعني الحرة كانت الحرة في آخر زمن يزيد بن معاوية،وذكر ابن التين أن مالكا روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال " لم تترك الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوم قتل عثمان ويوم الحرة " قال مالك " ونسيت الثالثة " قال ابن عبد الحكم: هو يوم خروج أبي حمزة الخارجي، قلت: كان ذلك في خلافة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم سنة ثلاثين ومائة، وكان ذلك قبل موت يحيى بن سعيد بمدة.( ج7/ ص 407)وقد سرد ابن إسحاق أسماء من شهد بدرا من المهاجرين وذكر معهم حلفاءهم ومواليهم فبلغوا ثلاثة وثمانين رجلا، وزاد عليه ابن هشام في " تهذيب السيرة " ثلاثة.وأما الواقدي فسردهم خمسة وثمانين رجلا.وروى أحمد والبزار والطبراني من حديث ابن عباس " أن المهاجرين ببدر كانوا سبعة وسبعين رجلا " فلعله لم يذكر من ضرب له بسهم ممن لم يشهدها حسا.( ج7/ ص 413)
كعب بن الأشرف) أي اليهودي، قال ابن إسحاق وغيره: كان عربيا من بني نبهان وهم بطن من طيئ، وكان أبوه أصاب دما في الجاهلية فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف فيهم، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعبا، وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة، وهجا المسلمين بعد وقعة بدر، وخرج إلى مكة فنزل على ابن وداعة السهمي والد المطلب.وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش.وقسم تاركوه وانتظروا ما يئول إليه أمره كطوائف من العرب، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة، وبالعكس كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا وهم المنافقون، فكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع فحاربهم في شوال بعد وقعه بدر فنزلوا على حكمه، وأراد قتلهم فاستوهبهم منه عبد الله بن أبي وكانوا حلفاءه فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات.ثم نقض العهد بنو النضير كما سيأتي، وكان رئيسهم حيي بن أخطب( ج7/ ص 413)ثم كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكانت منازلهم ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال لا الحلقة يعني السلاح فأنزل الله فيهم (سبح لله - إلى قوله - لأول الحشر) وقاتلهم حتى صالحهم على الجلاء فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم الجلاء ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسباء.كان جلاؤهم أول حشر حشرا في الدنيا إلى الشام وحكى ابن التين عن الداودي أنه رجح ما قال ابن إسحاق من أن غزوة بني النضير كانت بعد بئر معونة،قلت: وهو استدلال واه، فإن الآية نزلت في شأن بني قريظة، فإنهم هم الذين ظاهروا الأحزاب، وأما بنو النضير فلم يكن لهم في الأحزاب ذكر، بل كان من أعظم الأسباب في جمع الأحزاب ما وقع من جلائهم، فإنه كان من رءوسهم حيي بن أخطب وهو الذي حسن لبني قريظة الغدر وموافقة الأحزابولم يختلفوا في أن أموال بني النضير كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن المسلمين لم يوجفوا بخيل ولا ركاب وأنه لم يقع بينهم قتال أصلا.( ج7/ ص 414)وقد ذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيره من أهل العلم أن عامر بن الطفيل أعتق عمرو بن أمية لما قتل أهل بئر معونة عن رقبة كانت على أمه، فخرج عمرو إلى المدينة فصادف رجلين من بني عامر معهما عقد وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو ممن أنتما؟ فذكرا أنهما من بني عامر فتركهما حتى ناما فقتلهما عمرو وظن أنه ظفر ببعض ثأر أصحابه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: لقد قتلت قتيلين لأودينهما.انتهى.( ج7/ ص 414) قال ابن إسحاق " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في ديتهما فيما حدثني يزيد بن رومان، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم يستعينهم قالوا: نعم.ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذه الحال.قال: وكان جالسا إلى جانب جدار لهم، فقالوا من رجل يعلو على هذا البيت فيلقي هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فأتاه الخبر من السماء فقام مظهرا أنه يقضي حاجة وقال لأصحابه: لا تبرحوا، ورجع مسرعا إلى المدينة، واستبطأه أصحابه فأخبروا أنه توجه إلى المدينة، فلحقوا به، فأمر بحربهم والمسير إليهم، فتحصنوا، فأمر بقطع النخل والتحريق " وذكر ابن إسحاق أنه حاصرهم ست ليال، وكان ناس من المنافقين بعثوا إليهم أن اثبتوا وتمنعوا، فإن قوتلتم قاتلنا معكم، فتربصوا، فقذف الله في قلوبهم الرعب فلم ينصروهم، فسألوا أن يخلوا عن أرضهم على أن لهم ما حملت الإبل فصولحوا على ذلك.( ج7/ ص 415)وفي ذلك رد على ابن التين في زعمه أنه ليس في هذه القصة حديث بإسناد، قلت: فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق من أن سبب غزوة بني النضير طلبه صلى الله عليه وسلم أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافق ابن إسحاق جل أهل المغازي، فالله أعلم.وإذا ثبت أن سبب إجلاء بني النضير ما ذكر من همهم بالغدر به صلى الله عليه وسلم، وهو إنما وقع عند ما جاء إليهم ليستعين بهم في دية قتيلي عمرو بن أمية، تعين ما قال ابن إسحاق، لأن بئر معونة كانت بعد أحد بالاتفاق.وأغرب السهيلي فرجح ما قال الزهري، ولولا ما ذكر في قصة عمرو بن أمية لأمكن أن يكون ذلك في غزوة الرجيع، والله أعلم.ويؤيده ما روى ابن إسحاق بإسناد حسن عن ابن عباس قال " لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر جمع يهود في سوق بني قينقاع فقال يا يهود: أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشا يوم بدر، فقالوا: إنهم كانوا لا يعرفون القتال ولو قاتلتنا لعرفت أنا الرجال.( ج7/ ص 415)حديث ابن عباس في تسمية سورة الحشر سورة النضير لأنها نزلت فيهم، قال الداودي: كأن ابن عباس كره تسميتها سورة الحشر لئلا يظن أن المراد بالحشر يوم القيامة، أو لكونه مجملا فكره النسبة إلى غير معلوم.كذا قال، وعند ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس قال: نزلت سورة الحشر في بني النضير، وذكر الله فيها الذي أصابهم من النقمة.( ج7/ ص 421)
قال ابن بطال: وفيه أنه ينبغي ذكر سير الصالحين وتقللهم في الدنيا لتقل رغبته فيها قال: وكان بكاء عبد الرحمن شفقا أن لا يلحق بمن تقدمه.فهجاه حسان وهجا امرأته عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية فطردته، فرجع كعب إلى المدينة وتشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم.وروى أبو داود والترمذي من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه " أن كعب بن الأشرف كان شاعرا، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط.فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم استصلاحهم، وكان اليهود والمشركون يؤذون المسلمين أشد الأذى، فأمر الله رسوله والمسلمين بالصبر.فلما أبى كعب أن ينزع عن أذاه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه " وذكر ابن سعد أن قتله كان في ربيع الأول من السنة الثالثة.( ج7/ ص 425)وقال ابن إسحاق: هو سلام أي بتشديد اللام قال: " لما قتلت الأوس كعب بن الأشرف استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر، فأذن لهم.قال: فحدثني الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان مما صنع الله لرسوله أن الأوس والخزرج كانا يتصاولان تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلا علينا.وكذلك الأوس.فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف تذاكرت الخزرج من رجل له من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان لكعب؟ فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر.( ج7/ ص 432)نقل السهيلي عن الزبير بن بكار في فضل المدينة أن قبر هارون عليه السلام بأحد، وأنه قدم مع موسى في جماعة من بني إسرائيل حجاجا فمات هناك.قلت: وسند الزبير بن بكار في ذلك ضعيف جدا من جهة شيخه محمد بن الحسن بن زبالة، ومنقطع أيضا وليس بمرفوع.وكانت عنده الوقعة المشهورة في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور، وشذ من قال سنة أربع.وكان السبب فيها ما ذكر ابن إسحاق عن شيوخه وموسى بن عقبة عن ابن شهاب وأبو الأسود عن عروة قالوا: وهذا ملخص ما ذكره موسى بن عقبة في سياق القصة كلها قال: لما رجعت قريش استجلبوا من استطاعوا من العرب وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد.وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر وتمنوا لقاء العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال.رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح، والله خير وأبقى، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته أو قال به فلول فكرهته وهما مصيبتان، ورأيت أني في درع حصينة وأني مردف كبشا.قالوا: وما أولتها؟ قال: أولت البقر بقرا يكون فينا، وأولت الكبش كبش الكتيبة، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا، فإن دخل القوم الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت، فقال أولئك القوم: يا نبي الله كنا نتمنى هذا اليوم، وأبى كثير من الناس إلا الخروج فلما صلى الجمعة وانصرف دعا باللأمة فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج، فندم ذوو الرأي منهم فقالوا: يا رسول الله أمكث كما أمرتنا، فقال: ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب أن يرجع حتى يقاتل، نزل فخرج بهم وهم ألف رجل وكان المشركون ثلاثة آلاف حتى نزل بأحد، ورجع عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلاثمائة فبقي في سبعمائة، فلما رجع عبد الله سقط في أيدي طائفتين من المؤمنين وهما بنو حارثة وبنو سلمة، وصف المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة وتعبوا للقتال، وعلى خيل المشركين - وهي مائة فرس - خالد بن الوليد، وليس مع المسلمين فرسومنها أنه أراد إهلاك أعدائه فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين، ومحق بذلك الكافرين.ثم ذكر المصنف آيات من آل عمران في هذا الباب وفيما بعده كلها تتعلق بوقعة أحد، وقد قال ابن إسحاق: أنزل الله في شأن أحد ستين آية من آل عمران، وروى ابن أبي حاتم من طريق المسور بن مخرمة قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف أخبرني عن قصتكم يوم أحد، قال.( ج7/ ص 440)وفي الحديث فضل الزهد، وأن الفاضل في الدين ينبغي له أن يمتنع من التوسع في الدنيا لئلا تنقص، حسناته، وإلى ذلك أشار عبد الرحمن بقوله خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت.