تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: نقد البوصلة القرآنية عند أحمد خيري العمري

  1. #1

    Lightbulb نقد البوصلة القرآنية عند أحمد خيري العمري

    هذا المقال ليس تحليلا لكتاب البوصلة القرآنية
    ولكنه قراءة في مشروع الرجل الفكري من خلال الكتاب

    أحمد خيري العمري كاتب عراقي من مواليد بغداد1970 م ، والرجل ينتمي إلى الأسرة العمرية في الموصل التي يعود نسبها إلى الخليفة عمر بن الخطاب، ووالده مؤرخ وقاضي عراقي معروف هو خيري العمري. وقد تخرج العمري طبيب أسنان من جامعة بغداد عام 1993، لكنه عرف ككاتب إسلامي عبر مؤلفات جمعت بين منحى تجديدي في طرح الموضوعات وأسلوب مشرقي واضح ودقيق يحمل بين سطوره الكثير من المعلومات التي تستحق المناقشة .
    وقد اختير عام 2010 م ليكون الشخصية الفكرية التي تكرمها دار الفكر في تقليدها السنوي، والذي سبق أن كُرم فيه أعلام مثل : عبد الوهاب المسيري ، والزحيلي، وبذلك يكون العمري هو أصغر هؤلاء المكرمين سناً حيث تم اختياره قبل أن يبلغ الأربعين.كما تم اختياره من قبل حملة (القراءة حياة) المنبثقة عن موقع عمرو خالد ليكون كاتب شهر يناير 2011م بعد محمد عمارة ونجيب محفوظ.
    وكتابه البوصلة القرآنية: إبحار مختلف بحثا عن الخارطة المفقودة ، صدرت طبعته الأولى سنة2003م عن دار الفكر في دمشق هو الكتاب الأول له - وقد أحدث ردات فعل مختلفة بين الرفض والهجوم و الإعجاب والقبول، وقد نفذت الطبعة الأولى منه في وقت قياسي بالمقارنة مع حجم الكتاب وسعره المرتفع، وكان سبب رفض البعض له هجومه الحاد على بعض المفاهيم التقليدية التي تخالف -حسب ما يقول- الخطوط العامة في القرآن،
    و يعد كتاب البوصلة القرآنية للدكتور أحمد خيري العمري محاولة جديرة بالوقوف أمامها وقراءتها قراءة هادئة لنعرف على وجه الدقة منطلقات العمري وأدواته التي استخدمها للوقوف على ما وقف عليه. خصوصا وأن الدكتور العمري أشار إلى أهمية العقل ودوره في مشروع النهضة بوصفه المنوط به ملاحظة الأسباب وتسلسلها فالعلاقة السببية عنده تمثل محور العقل القرآني .

    ويبدو أن الدكتور العمري لم يكتف بالبحث في كتابه عن السننية القرآنية التي مهدت الطريق وعبدته لذي القرنين ليتبوأ ملك الدنيا وفق سننية الأخذ بالأسباب : " وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا " ولكنه بدأ يخربش في التربة الإسلامية باحثا عن المعوقات التي بذرت فيها فنمت وعطلت قوانين السببية في العالم الإسلامي مما مهد السبيل أمام الأمة الإسلامية لتدخل دورة ركود طويل الأمد ..
    ومن الواضح تأثر الدكتور أحمد خير العمري بمالك بن نبي حتى إننا ندرك منذ الوهلة الأولى أنه بهذا الكتاب يحاول إكمال وإنضاج ما بدأه مالك بن نبي في كتابه ذائع الصيت الموسوم بالظاهرة القرآنية ، فقد أشار مالك بن نبي في مقدمة كتابه إلى أن هدفه من الكتاب " الاهتمام بتحقيق منهج تحليلي في دراسة الظاهرة القرآنية، وهو منهج يحقق من الناحية العملية هدفاً مزدوجاً هو:
    1 - أنه يتيح للشباب المسلم فرصة التأمل الناضج في الدين.
    2 - وأنه يقترح إصلاحا مناسبا للمنهج القديم في تفسير القرآن.[1]
    فالدكتور العمري حاول من خلال كتابه أن يقدم للقارئ المسلم قراءة جديدة للدين الإسلام من خلال إعادة فهم القرآن الكريم نفسه ،حيث بدا العمري في مقدمة كتابه باحثا عن "الخطوط القرآنية والثوابت المفقودة التي أهملتها الرؤية التقليدية."[2]
    والرجل لم يكتف بذلك وإنما هاجم في مقدمة كتابه قداسة الرؤية التقليدية التي احتمت بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية فرسخت الادعاء باحتكار تأويلها ... وذهب إلى أنه سوف يقدم فهما مغايرا لذلك الفهم الذي نشأ في ظروف وملابسات تقاطع فيها التاريخ والسياسة مع العقيدة ، ويشير العمري في هذا المضمار أنه يكاد يحفظ غيبا كل التهم التي ستلقى عليه لكنه على حد زعمه سوف يحتمي بما هو أقوى من المؤسسة التقليدية نفسها ؛ إنه يحتمي بالقرآن وكفى بمُنزله وكيلا وحسيبا . [3]
    ومن البديهي أن نؤكد للقارئ أننا لا نمانع أبدا في أن يقدم الدكتور العمري قراءة جديدة للبيان القرآن يحتمي فيها بآيات القرآن الكريم نفسه ، وهذا يعني أننا نرحب بالفهم القرآني للقرآن ، فلا يوجد صدام بيننا وبينه في هذه الزاوية إذا كان حقا وصدقا يريد أن يقدم رؤية قرآنية للقرآن الكريم .
    ويجب أن نسجل هنا ابتداء أن الرؤية التقليدية التي هاجمها العمري لا تخالفه في تقديم الفهم القرآني للبيان القرآني على غيره فيصبح التفسير عندئذ في مستوى النص القرآني نفسه . ومن بيان القرآن ما جاء في القرآن نفسه إذ إن تفسير القرآن بالقرآن من أصح طرق التفسير كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية :" فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير فالجواب أن أصح الطرق فى ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل فى مكان فانه قد فسر فى موضع آخر وما اختصر من مكان فقد بُسط فى موضع آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له بل قد قال الامام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعى كل ما حكم به رسول الله ( فهو مما فهمه من القرآن) ولهذا قال رسول الله ألا انى أوتيت القرآن ومثله معه ( يعنى السنة) .[4] ولهذا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الذي ينتهي إلىى الدكتور العمري نسبه : إِنَّهُ سَيَأْتِي أُنَاسٌ يَأْخُذُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ، فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ.[5]
    نحن إذا متقفقون مع الدكتور العمري على أفضلية تقديم الفهم القرآني على غيره وكذلك أرباب المدرسة الربانية من علماء الأمة الربانيبن الذي وسمهم الدكتور العمري بالمدرسة التقليدية يقفون مع الدكتور العمري في نفس الخندق .
    وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يهاجم الدكتور العمري أرباب المدرسة الربانية في التفسير ؟! وللإجابة عن ذلك سوف نحتاج إلى قراءة كتابه كاملا لنكتشف أنه يخلط بين السلوك العلمي عند علماء الأمة الربانيين من احترام النصوص وحشد الروايات في مقابلة النص القرآني ليقدموا لمن جاء بعدهم خلاصة معارفهم لكل جزئية وكل حركة ولفتة تتعلق بالبيان القرآني ، وبين سلوك بعض أطفال التيار الإسلامي الذين انشغلوا بالتفاصيل عن الغايات والمقاصد العليا ، ويبدو أن الدكتور العمري نسي أو تناسى أن هذا المقدار الضئيل من معايشة القرآن الكريم عند هؤلاء الصبية فرضه الاستبداد والجهل ولم تفرضه المدرسة الربانية التقليدية .
    وما حدث تحديدا أن العمري اعتمد على تفكيك النصوص وإعادة تركيبها دون اعتبار لعمق دلالتها السياقية والتاريخية ولا لتلك التفاصيل الجزئية التي تمثل ثروة معرفية نابضة بالحياة ثم عمد إلى تحويل هذه النصوص إلى سلسلة من الرموز المشحونة بمعاني النهوض التي يتأولها في فضاء مشروعه المتكامل للنهضة .
    وفي هذا الفضاء المطلق لا يحتاج العمري إلى قيود قرآنية أو حديثية ولذلك هاجم النصوصية الجزئية والنصوصية التفاصيلية ( التي تحترم جزئيات النصوص احتراما مقدسا تغيب معه الرؤية الكلية وتضيع معه الغايات من خلال الغوص في تفاصيل التفاصيل ) [6]ولذلك دعا إلى عدم الاعتناء بالتفاصيل على حساب الغايات التي هي عينها مقاصد الشريعة والأهداف العليا للبيان القرآن ، ومن هنا اهتم العمري بالوقوف على المعاني اللغوية ليحلق بها كما شاء في فضاءات مشروعه .
    ويقوم مشروع الدكتور العمري الحضاري على أهمية البناء الهرمي لمشروع النهضة أو ما يسميه هو ( الأطوار المتعاقبة ) وتبدأ هذه الأطوار بطور البذرة المحتضنة في غار أو كهف وهذا ضروري لوجود فكرة واضحة وناضجة ومتكاملة لعناصر هذا المشروع وأهدافه وأركانه ومع وجود فتية يحملون هم هذا المشروع فإنه سوف ينضج مع الوقت وتختمر فكرته وحين يصير الفتية رجالا ينتخبون من بينهم من يعبر عنهم وعن أفكارهم وفق منظومة من الأفكار والثوابت التي تميز ذلك الكيان الجديد ، ولكي يفلح ذلك الكيان عليه أن يراجع أولويات مجتمعه فيعمل في ضوئها بحكمة وروية فإذا ثبتت أركانه عليه أن ينفتح على العالم فيأخذ من كل بستان زهرة وفق منظومة شمولية تحترم البحث العلمي وتخضع لقوانين ولوائح عادلة . وتقوم بعد سؤددها وتمكنها بواجبها تجاه المجتمع الدولي أو تجاه الحضارات الأخرى .
    وهذا المشروع الحضاري لا غبار عليه من الناحية الفكرية يمكننا أن نقبله أو نرفضه أو نقبل بعضه ونخاصم أجزاء منه ؛ ولذلك كنت أتمنى أن يتبناه العمري كمشروع فكري شخصي ولكنه فيما يبدو أراد أن يمنح مشروعه الخلود فبدأ يستمد تلك المراحل من القرآن الكريم ومن تكتيك سورة الكهف تحديدا وهنا كانت المشكلة !!
    ويمكننا أن نوضح للقارئ عمق المشكلة عند الدكتور العمري من خلال الطرح الذي قدمه العمري نفسه لنظرية الأطوار المتعاقبة في سورة الكهف على النحو الآتي:
    أولا- قام الدكتور العمري بتفكيك القصص الأربعة الواردة في سورة الكهف فعزلها عن سياقها التركيبي والتاريخي وأعاد قراءاتها بوصفها أطوارا متعاقبة ،وحذف وحدة قصصية ( قصة آدم مع إبليس ) لكونها فيما يبدو لا تعلق لها بمشروعه الذي طرحه للنهوض بالأمة ولا بمنهجه العقلاني السببي . وهذه العملية الانتقائية تبرهن على أنه لا يستقي تكتيك النهضة من سورة الكهف ومن مفرداتها و وحداتها القصصية وإنما الرجل يحمل تكتيكا خاصا به يختار له من قصص السورة ما يدعمه .
    وهذا يقودنا إلى نتيجة مبدأية في غاية الأهمية وهي أن منهج العمري للنهوض ليس هو منهج القرآن وهذه هي المشكلة الضخمة التي تربك القارئ ، الذي يجد نفسه أمام منهج منتزع من القرآن ولكنه في النهاية يجب أن يدرك أنه ليس أمام المنهج الإلهي الرباني . وإنما أمام منهج بشري وفكر بشري يحاول أن يتعلق بالقرآن الكريم ولا ريب أن الدكتور العمري قد أصاب في نقاط ولكنه في نفس المضمار ارتكب عددا من الأخطاء .
    ثانيا – ارتكز الدكتور العمري على محورية الغار أو الكهف كأساس جوهري في مشروع النهضة وحاول أن يؤكد تلك المحورية من السيرة النبوية ومن خلال قصة أصحاب الكهف ، فالغار الذي اعتكف فيه النبي قبل البعثة يحمل معنى الاختباء والكمون و العزلة وهو بذلك يمثل مرحلة أولى وربما حتمية للنهوض، ففكرة النهضة ليست استثناء من هذا .. إنها تمر أيضا بمراحل جنينية ، قد يدوم بعضها دهورا ، وقد يدوم بعضها الآخر ما هو أقل من ذلك إلى أن يحدث الظهور أو ما يسميه الولادة . [7] ولذلك وجد الغار في الدعوة الإسلامية كما وجد عند أصحاب الكهف .
    وعملية الكمون في الكهف استمرت لثلاثة قرون وأكثر ، فالكهف في جوهره يعني المحافظة على البذرة بتهيئة الظروف التي تحافظ على حيويتها ونشاطها وصفائها بدلا من هدرها بزراعتها في أرض غير خصبة ، وظروف مناخية غير مناسبة قد تجهض البذرة والفكرة في آن ...[8]
    ويؤكد العمري أننا إذا تابعنا معظم مشاريع النهضة المعاصرة بمختلف أطيافها لوجدنا أنها غالبا ما تتعرض لإجهاض مبكر في هذه المرحلة بالذات .. نتيجة عدم الالتزام بقوانين الأطوار ، فالفتية المعاصرون غالبا ، لم يستفيدوا من الدرس الأهم من سورة الكهف وهو ضرورة الحفاظ على الفكرة الجنينية في حاضنة آمنة تكون بمنزلة الكهف التاريخي الذي يوفر الاعتزال للفكرة بوصفها خيارا تكتيكيا ينتظر الفرصة السانحة للظهور والتأثير ..[9]
    وواضح أن العمري متأثر بمسألة العزلة والاختباء والكمون تلك بما دونه مالك بن نبي في كتابه الموسوم بالظاهرة القرآنية حيث ذهب مالك بن نبي إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد زواجه من أم المؤمنين خديجة اعتزل لمدة خمسة عشرا عاما حيث كان ينزوي في خلوة روحية . فبعد زواجه تغيرت حياته فجأة وانسحب من مجتمع مكة حيث توارى واختفى عن أعين الناس .. فاختفى من مسرح التاريخ خلال خمسة عشر عاماً ثم ظهر على هذا المسرح خلال ثلاثة وعشرين عاماً اللاحقة لكي يعيش ويفكر ويتكلم ويعمل في رابعة النهار، أكثر من أي وقت مضى.[10]
    ويبدو أن العمري نقل ما دونه مالك بن نبي وقام بتحويله إلى سنة إلهية متوهمة !! فالغار أصبح ضرورة سننية وملزمة حتمية لأي مشروع نهضة يسعى لتغيير العالم والغار هنا يعني الكمون والاختباء والاختفاء بالفكرة الجنين حتى تنمو وتقف على قدميها .
    ونحن من جانبنا نود أن نؤكد للقارئ أن فكرة العزلة والاختباء والكمون التي قدمها مالك ابن نبي فكرة مغلوطة ، وقد رد عليه الإمام الدكتور محمد عبد الله دراز في رسالته التي أرسلها لمالك بن نبي ونشرها الأستاذ مالك في مقدمة كتابه الموسوم بالظاهرة القرآنية .
    وفي هذه الرسالة يؤكد الدكتور دراز أن مالك بن نبي قد أخطأ حينما قبل تأكيدات المستشرقين و افتراضهم حول مدة اعتكاف النبي قبل نزول الوحي. حيث إن اهتمام المستشرقين بهذه الفكرة يرتكز على القول بإنها فترة احتضان وتخمر للأفكار الدينية التي سبقت وضوح القرآن في الوعي المحمدي. وبما أن فكرة تهدف لعمل واسع عظيم كالقرآن، لا يمكن التصور بأن تتحدد معالمها بين ليلة وضحاها، ويقتضي لها الوقت الضروري والطبيعي لتحضيرها، فإن هؤلاء الكتاب قد التزموا جانب الافتراض، وافترضوا لهذا الاعتزال مدة تمتد عبر سنين عديدة. وهكذا تحتم على محمد أن يختفي منذ زواجه في سن الخامسة والعشرين، ليفرغ إلى تأملاته، ولا يعود للظهور إلا وهو يحمل رسالته ذات صباح.
    إن فرضية غياب كهذا، ليست فحسب مجانبة للصواب ولا سند لها، بل إنها غير صحيحة على الإطلاق من الوجهة التاريخية،فالمص ادر الوثيقة جداً تحدد في الواقع تاريخ هذا الاعتكاف بالضبط بشهر قبل نزول القرآن. كما تحدد بدقة أكثر أن هذا الشهر تخللته عودة إلى منزله مرات عدة كيما يتزود. وقد سبقت هذا الشهر أيضا رؤى واضحة كان يراها الرسول في منامه ثم ما يلبث أن يجدها حقيقة كفلق الصبح.
    لقد حدثت هذه الإرهاصات جميعها في الأربعين من عمره، أي في عام هبوط الوحي.وإذا ذهبنا بعيدا، وافترضنا جدلا أن هذا الشهر من الاعتكاف، قد داوم عليه الرسول في كل عام، منذ زواجه وحتى نزول الوحي؛ يبقى أن نلاحظ بأن أحد عشر من اثني عشر شهراً من سني حياته في هذه الفترة قد قضاها في محيط اجتماعي، وأمام أعين مواطنيه. حجة على استمرار إقامة الرسول بين قومه فترة واسعة وكافية، ليدرك الناس جميعاً ميزاته واهتماماته، وعجزه الشخصي عن القيام بوضع آيات القرآن.[11]
    والغريب أن الدكتور العمري وجد في أصحاب الكهف دليلا وتأكيدا على محورية الغار في مشروع النهضة بما يمثله الكهف من عملية كمون للحفاظ على الفكرة من المصادرة والتدمير . وهذه القراءة المنفلته من سياق النص ومن معطياته أيضا تحتاج إلى مراجعة من الكاتب ، فأصحاب الكهف لم يكن لهم أي دور في مشروع النهضة إن القوم انسحبوا من الحياة واستيقظوا فوجدوا غيرهم قد أكمل المسيرة إن النهضة تحتاج إلى تفاعل وتدرج وصراع اجتماعي واسع داخل المجتمع وليس إلى هروب واختباء واختفاء .
    وقد كان عجيبا أن يذهب الدكتور العمري إلى أن عملية الكمون استمرت ثلاثة قرون !! فأصحاب الكهف لم يكونوا أساسا في حالة كمون والفكرة لم تكمن بنومهم بل نمت وازدهرت مع غيرهم . ثم ما هي عملية الكمون التي تستغرق ثلاثة قرون ؟! فأي كمون هذا ؟! وما الفرق بينه وبين الموت؟! وإذا كنا سوف نكمن ثلاثة قرون فلماذا نكمن أصلا ؟ وهل تصمد أجيال الكمون المتراكمة فوق بعضها بعضا ..؟!! وهل جاءت قصة أصحاب الكهف حقا لترشدنا إلى ضرورة الكمون الذي بشر به الكاتب ؟ !
    وإذا نزعنا قصة أصحاب الكهف من سياقها كما فعل الكاتب أفلا يمكننا القول بثقة : إن قصة أصحاب الكهف لم تأت في هذا المقام لتدل على هذا الكمون المزعوم وإنما جاءت لتشير إلى خلاف ما حاوله الدكتور العمري! إنها جاءت لتضرب المثال لأصحاب النبي أنكم لستم وحدكم بين أتباع الرسل ممن أوذي في الله وأنكم إذا توليتم واختبأتم واختفيتم كما فعل أصحاب الكهف فسوف يستبدل الله عز وجل بكم قوما لن يكونوا أمثالكم !! هذا ملمح يمكننا أن نقف عليه إذا سرنا بمعزل عن سياق الآيات ولن يستطيع الدكتور العمري أن يقف في سبيلنا ؟ فهل يفتح الباب لنفسه ويغلقه دون غيره؟!
    والصواب أن نرد القصة إلى سياقها بعيدا عن القراءات المنفلتة من ضوابط السياق لنقف على الفهم القرآني الذي كان الدكتور يبحث عنه ،وعندئذ سوف نلحظ أن سورة الكهف تعمل من خلال المعاني المقاصدية العليا وكذا من خلال التفاصيل الدقيقة على تصحيح القيم بميزان العقيدة. إن الثبات على المبدأ جزء لا يتجزأ من محورية التربية الإيمانية في البيان القرآني ؛ ولذلك ضرب الله عز وجل لنا في سورة البروج ملحمة الثبات على المبدأ على الرغم من أن الدعوة كانت في بدايتها .
    وقد يقول قائل إن الغلام في قصة أصحاب الأخدود أخطأ لأنه لم يكمن بفكرته حتى تنضج ، ولو انتظر حتى يصير فتى ثم رجلا .. وفق نظرية الأطوار المتعاقبة لتغير مصير أصحاب الأخدود ولربما تغير مصير البشرية تبعا لذلك ؟!
    ولكن الحقيقة أن أصحاب الأخدود لو أخذوا بنصائح الدكتور العمري لفقدت القصة بريقها وروعتها : "روعة الإيمان المستعلي على الفتنة ، والعقيدة المنتصرة على الحياة ، والانطلاق المتجرد من أوهاق الجسم وجاذبية الأرض. فقد كان في مكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم. ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير : معنى زهادة الحياة بلا عقيدة ، وبشاعتها بلا حرية ، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد! إنه معنى كريم جدا ومعنى كبير جدا هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض. ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم ، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار؟ وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب ، ولأعدائهم الطاغين حساب .. "[12]
    ولا أود أن يفهم القارئ أن التهور هو بديل الكمون إننا نؤكد للقارئ أن بعض الناس يحق لهم أن يأخذوا بالرخص لمواجهة الطغاة وللنجاة بأنفسهم ريثما يجدوا لهم منفذا ؛ ولهذا شرعت الهجرة في صدر الإسلام ، ولكن الهجرة لم تكن كمونا وإنما كانت ميدانا جديدا من ميادين الدعوة ، لقد كانت الهجرة فتحا.
    ومن العجيب حقا أننا لم نكن لنخالف الرجل إذا حلق كما يريد ولكنه أبى إلا أن يحلق تحت راية القرآن، وليس عندنا ما يمنع ذلك ولكنه أشار إلى أنه سوف يحتمي بالقرآن عند تفسير القرآن فإذا به يخالف ما سبق وأرساه من مبادئ .
    ثالثا- وفي الطور الثاني المتعاقب لطور أصحاب الكهف بدأنا مرحلة جديدة ( قصة الجنتين) التي اتسمت بتحديد الثوابت وتجنب المصادمة المسلحة . والتزام البعد العقدي في الحوار ولذلك لم يرد الرجل المؤمن على الكافر عندما قال له أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا وإنما رد عليه حينما تجاوز الطرف الآخر حده في مجال العقيدة وأنكر قيام الساعة فرد عليه بقوله : أكفرت.. ؟ فتحديد الثوابت مهم لهذه المرحلة بل هو الأساس فيها وهو مهم أيضا لتطور المراحل اللاحقة فعدم الوضوح يعرض الفكرة لموت مبكر .
    واليوم صاحب الجنتين صار صاحب ناطحات السحاب يمتلك مؤسسات تروج له وتدعمه وعلاج ذلك لا يكمن في العودة إلى مرحلة الكهف بل في تحديد الثوابت فذلك يمنح حصانة مبدئية مهمة تؤهل للحوار .. [13]
    ومن البديهي أن البناء التصاعدي المصاحب لهذه الأطوار المتعاقبة قد وصل بنا إلى هذه المرحلة الفاعلة والمؤثرة ومشكلة ذلك الطور أن الثبات على المبدأ يمكننا أن نلحظه عند أصحاب الكهف كما يمكننا أن نلحظه في باقي القصص القرآني في سورة الكهف وفي غير سورة الكهف وحينما تحدث انتكاسة في الثبات على المبدأ فإن هذا يشير إلى تحول السند الإلهي عن أطراف القصة أو أصحاب القضية .
    والسؤال الذي يطرح نفسه الآن إذا كانت قصة الجنتين ليست طورا جديدا كما ذهب الدكتور العمري فلما وقعت هذا الموقع ؟ وما علاقتها وقيمتها بقصة أصحاب الكهف ؟
    والحق أن قصة أصحاب الجنتين لا تمثل مرحلة جديدة تختلف عن مضمون قصة أصحاب الكهف ولكنها جاءت لتنبه وتصحح وترسخ ما رسخته قصة أصحاب الكهف من معاني فقد جاءت بعدها لتلخص لنا مضمونها ، والهدف منها كما قال ربنا سبحانه وتعالى«الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا». إنها تأكيد وتعميق وتصحيح لتصور الإنسان عن متاع الحياة الدنيا وزهادته ومن هنا تجد أن الحق سبحانه وتعالى قد ختم قصة الجنتين مباشرة بضرب المثل الذي يؤكد ذلك (الكهف 45)
    رابعا – طور قصة العبد الصالح مع موسى عليه السلام : وفي هذا المضمار يتحقق عند الدكتور العمري فقه الانطلاق إلى الواقع حيث التفاعل الاجتماعي والالتحام بين الشريعة والحياة والانتقال من الفهم التبعيضي إلى الفهم الشمولي ومن الألواح الحجرية الجامدة التي نحتت عليها هذه النصوص إلى واقع تشكله وتعيد بناءه النصوص.من خلال علم روحية النص ومقصده .
    ويؤكد الدكتور العمري على أن الخرق الذي أحدثه العبد الصالح لم يكن في السفينة فقط بل كان خرقا في ذلك الفكر التجزيئي الذي يجعلنا نعجز عن رؤية ما هو أبعد من أطراف أنوفنا .. فنقطة الانطلاق الحقيقي إلى الواقع يجب أن تمتلك عدة الفهم الشمولي لكي تتمكن من إعادة تشكيل الواقع .. لا الذوبان فيه مع الرؤية التجزيئية [14]
    ويذهب إلى أن تلك النظرة الشمولية تُرتب الأولويات بحيث تطبق الأهم من النصوص وتُؤجل الآخر إلى الوقت المناسب وفرقٌ كبيرٌ بين التأجيل والتعطيل لكننا للأسف نخلط بينهما والخضر هنا ليس صورة العبد الصالح الزاهد الساكن المعتزل الدنيا كما نتخيل دائمًا.بل إنه يفعل، ويقتحم الواقع بقيمه من أجل الإصلاح والتغيير لأنَّ ذلك جزء من عبادته .
    والعجيب في كلام الدكتور العمري أن موسى عليه السلام تحول إلى رمز للنصوصية الجزئية الضيقة والفكر التجزيئي!! والعبد الصالح أصبح رمزا للمقاصدية والشمولية والعقلانية الواعية . والدكتور يريدنا أن نؤمن أن هذا الكلام الضخم الرنان له علاقة بقصة موسى مع العبد الصالح !!
    والحق أننا نعجب من هذا الكلام المغلوط فموسى عليه السلام رسول من أولي العزم وممن اصطفاهم الله عز وجل واجتباهم ، وهذا النبي الجليل رد على العبد الصالح في ضوء المقاصد العليا إنه لم يهمل المقاصد ويتعلق بجزئيات لا قيمة لها بل كانت المقاصد عنده سببا جوهريا في مخالفته للعبد الصالح أليس من المقاصد العليا في سياسة الدنيا بالدين الحفاظ على الأموال والأرواح ؟! فهل يعاب من طالب بالحفاظ على الدماء المعصومة والممتلكات العامة والخاصة ويتهم بالنصوصية والجزئية الضيقة ؟!.
    ربما وجدت على الساحة الإسلامية جماعات إسلامية تقيم مشاريعها النهضوية على فكر نصوصي مجتزأ وتهمل المقاصد العليا التي أتت بها الشريعة الإسلامية هذا يمكننا مناقشته؟أما أن يعمد الكاتب إلى رسول من أولي العزم من الرسل فيتهمه بالنظرة الجزئية وينزل الأمر غير منزلته فهذا أمر نأسف له كثيرا .
    والمصيبة ليست في هذا وحسب المصيبة أنه أعاد النظر في قصة العبد الصالح فأراد أن يخرجه من الإطار العبثي الذي وضعه فيه دجالوا التصوف الإسلامي فوضع العبد الصالح في غير موضعه . ولو جعله رمزا لإرادة الله وتدبيره وحكمته التي لا ترتب النتائج القريبة على المقدمات المنظورة ، بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا تراها العين لكان أقرب إلى منهج القرآن و أكثر التصاقا بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب للّه ، الذي يدبر الأمر بحكمته .
    خامسا- أما الطور الرابع فيتمثل عند الدكتور العمري في مرحلة ذي القرنين الذي أنشأ حضارة راشدة جمعت بين الدنيا والآخرة والعدل والقوة وتلك الحضارة نمت وازدهرت بفضل التوازنات التي أحدثها ذو القرنين والتي عبّر عنها القرآن بجلاء في قوله تعالى ( وآتيناه من كل شيء سببا ) وهذه الشمولية المتوازنة هي التي فتحت أمامه العالم شرقا وغربا وعلى الجهة الأخرى من تفاعل ذي القرنين الحضاري نلمح الاحتباس الحضاري عند يأجوج ومأجوج حيث الانعزالية والانغلاق .
    وفي هذه المرحلة ( مرحلة التمكين) سنرى سيادة واضحة للقانون دون تفريط بمبدأ الثواب والعقاب ، وسنرى تطورا تقنيا عمليا يكون خادما للمجتمع ولقيمه وسنرى مسئولية واضحة لهذه الحضارة عن نشر مبادئها .
    وهذا المحور لا نكاد نختلف مع الدكتور العمري فيما ذهب إليه فالأخذ بالأسباب سنة إلهية تؤكدها آيات سورة الكهف كما تؤكدها عشرات الآيات في البيان القرآني ولكن هذه السنة الناجزة لا تعمل بعيدا عن المشيئة الإلهية ولذلك إذا تأملت قوله تعالى: (وآتيناه من كل شيء سببا) علمت يقينا أن الأخذ بالأسباب لا يتم بمعزل عن مسبب الأسباب .
    وفي نهاية المطاف أؤكد : أن مشروع الدكتور العمري يمكننا قبوله ومناقشته بوصفه مشروعا فكريا شخصيا لبناء حزب سياسي أو جماعة دعوية تحمل هم النهوض بالأمة ولكن ربط مشروعه بسورة الكهف تبين لنا من خلال فحصه أن عملية ربط الأطوار المتعاقبة بقصص سورة الكهف فيه جرأة على التفسير ومغالطة للمعاني .
    وقد كان من الأجدى أن يقيم الكاتب مشروعه النهضوي على أساس فقه السنن الإلهية في القرآن ودورها في البناء الحضاري ولكنه لم يفعل . ولو سلك هذا السبيل لاستطاع أن يقف على شبكة متكاملة من القواعد والأسس الصالحة لمعالجة مشكلات النهضة المزمنة في العالم الإسلامي دون أن يهدر وقتنا ووقته .


    [1] - الظاهرة القرآنية: مالك بن نبي ، ترجمة عبد الصبور شاهين طبعة دار الفكر دمشق (ص: 53)

    [2] - البوصلة القرآنية : أحمد خيري العمري ص18

    [3] - المرجع السابق : ص18

    [4] - كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام : أحمد عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس ( مكتبة ابن تيمية ، الطبعة : الثانية ، تحقيق : عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجد يكتب ) ج 13 /ص 363

    [5] - شرح السنة للبغوي : ج 1/ ص 202

    [6] - ضرب الدكتور العمري لذلك مثالا ببقرة بني إسرائيل التي انشغل اليهود بتفاصيلها ( ما هي؟ وما لونها ؟ )عن الغايات التي شرع لها ذبح البقرة .

    [7] - البوصلة القرآنية : أحمد خيري العمري (دمشق : دار الفكر _ ط3_ 2010)ص 427-428

    [8] - البوصلة القرآنية : ص431

    [9] - المرجع السابق : ص433

    [10] - الظاهرة القرآنية : ص109،115،116،120

    [11] - أوراق محمد عبد الله دراز : طبعة مكتبة الإيمان 2010م :ص304-305

    [13] - المرجع السابق ص438-439

    [14] - المرجع السابق ص 443-444

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    May 2017
    المشاركات
    1

    افتراضي

    شكر الله لك ولقد استمتعت بالاسلوب الشيق المهذب لحضرتك دكتور محمد بيد اني اتمنى ان تصل هذه الملاحظات الى د.احمد والذي انشده ان يتقبل ويناقش ويوضح هو بنفسه لكني استبعد ذلك لاني من متابعيه من زمان واعرف عنه هذا السلوك ..لكن يبقى علينا البلاغ وعلى متعصبيه ان يفقهوا قبل الدفاع المستميت بكل ما يطرحه ..دمتم بحفظ الرحمن

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    964

    افتراضي

    بارك الله فيكم دكتور عن هذا المقال ..

    وفاتكم تجنيه على معاوية رضي الله عنه ! والدولة الأموية ..

    فما أحقه بهذا المقال من بلدياته :

    http://dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=185375

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    الدولة
    المملكة العربية السعودية حرسها الله
    المشاركات
    1,496

    افتراضي

    بارك الله فيكم

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •