يرى برجشتراسر أن نطق الطاء المجهورة العتيقة التي وصفها سيبويه قد انمحى تماما وحل محله الطاء الحديثة المهموسة.[1] وقد سار على نهجه الدكتور إبراهيم أنيس غير أنه أضاف أن الطاء القديمة المجهورة كانت تنطق تماما كالضاد الحديثة التي نسمعها الآن من قرائنا .[2]
ولم يخالف رمضان عبد التواب برجشتراسر والدكتور أنيس في كون الطاء الحديثة مهموسة غير مجهورة كما أشار سيبويه ، ولكنه أشار في هامش ترجمته لكتاب التطور النحوي تعليقا على مقولة برجشتراسر أن الصوت قد انمحى - إشارة ذكر فيها أن الطاء المجهورة التي وصفها سيبويه مازالت مسموعة في بعض المناطق اليمنية ، وأنها لم تندثر.
ولقد تقدم الدكتور محمد حسن جبل خطوة أخرى إلى الأمام في الميدان الأدائي التطبيقي فذهب إلى أن النطق الصحيح للطاء عند القراء المحدثين يجب أن يحقق صفة الجهر التي حددها سيبويه ، وذهب إلى أن النطق المصري للطاء تاء مفخمة ليس صحيحا .[3]
ومهما يكن من أمر فقد تواترت النصوص التي تؤيد ما ذهبنا إليه من أن علماء التجويد وعددا من علماء اللغة قد نقلوا توصيفات الحروف من كتاب سيبويه دون مناقشتها على مستوى الأداء : ولكننا مطمئنون كل الاطمئنان أن مناقشتهم لبعض المسائل الصوتية المتعلقة بحرف الطاء قد كشفت لنا أن علماء التجويد كانوا يتحدثون عن الطاء القرآنية المتواترة التي هي عبارة عن تاء مفخمة مهموسة . أما عدم التفاتهم لكون صفة الجهر غير متحققة فيها فهذا يرجع إلى اختلافهم في فهم مصطلح الجهر . ويمكننا أن نتابع ذلك في النصوص الآتية التي يمكننا عرضها في ثلاث مجموعات :
أولا – مجموعة الإبدال المتعاور[4] :
1- قال ابن السكيت :" قال الأصمعي: الأقتار والأقطار النواحي، ويقال : ما أبالي على أي قطريه وقع وعلى أي قتريه وقع، أي :على أي جانبيه وقع، ويقال: طعنه فقطره وقتره ،أي: ألقاه على أحد جانبيه، ويقال: الغلط والغلت، وقال أبوعمرو الغلت في الحساب والغلط في القول، قال الأصمعي يقال:" رجل طبن ورجل تبن، ويقال ما أستطيع وما أستطيع وما أستيع بمعنى واحد، ويقال :فسطاط وفستاط وفساط، ويقال: أتر الله يده وأطرها، وقد طرت يده وترت، ويقال: التخوم والطخوم والتخوم والطخوم بالضم والفتح ". [5]
2 – وفتوى السيوطي المعنونة بـ (فتح المغالق من أنت تالق) والتي اشتملت على فتواه عمن قال لزوجته أنت تالق ناويا به الطلاق هل يقع به طلاق ؟ ذات دلالة لما نحن بصدده ونص الفتوى :" وقع السؤال عمن قال لزوجته: أنت تالق ناويا به الطلاق هل يقع به طلاق ؟ فأجبت الذي عندي أنه إن نوى به الطلاق وقع سواء كان عاميا أو فقيها ، ولا يقال: إنه بمنزلة ما لو قال: أنت فالق أو مالق ؛ فإنه لا يقع به شيء؛ لأن حرف التاء قريب من مخرج الطاء ، ويبدل كل منهما من الآخر في كثير من الألفاظ فأبدلت الطاء تاء في قولهم: ...ضرب يده بالسيف فأطرها وأترها أي : قطعها وأندرها ، والتقطر التهيؤ للقتال والتقتر لغة فيه ، ويقال : في القمطرة ،كمترة بإبدال القاف كافا والطاء تاء ، وفي القسط كست كذلك ، ويقال: في ذاطه أي خنقه أشد الخنق حتى دلع لسانه ذاته بالتاء ، ويقال :غلط وغلت لغتان بمعنى ، ويقال :في الفسطاط فستاط في ألفاظ أخر مذكورة في كتب اللغة والكتب المؤلفة في الأبدال ، وأبدلت التاء طاء في نحو: مصطفى ،ومضطر ،ومطعن ،ومظطلم ،وأطيرنا إلى ما لا يحصى ، فثبت بذلك أن التاء والطاء حرفان متعاوران وينضم إلى هذا الوضع العربي مع النية العرف ، وشهرة ذلك في ألسنة العوام كثير ...[6]
3-قال الثعلبي : " قوله تعالي : ولقد اصطفيناه ( اخترناه ) في الدنيا ( وأصل الطاء فيه تاء حوّلت طاء لقرب مخرجيهما ولتطوع اللسان به ."[7]
والنصان اللذان أوردناهما لابن السكيت والسيوطي يدلان أن العرب تعاقب بين التاء والطاء ليس على سبيل التطور التاريخي للصوت كما أشار بعض المعاصرين الذين أذاعوا :أن الصوت قد تغير وانحرف عن صفته التي وصفه بها سيبويه ، وإنما على سبيل التغاير والتمايز الثقافي فكل منطقة جغرافية لها لهجتها وطريقتها في نطق الأصوات اللغوية .
وهذا لا يعني أن ثمة انعزالية تجعل كل لهجة مجهولة عند أبناء اللهجة الأخرى ، وإنما يعني أن ابن اللغة يشعر أن أداء الصوت بهذه الكيفية أسهل من الكيفية الأخرى وأكثر تناغما مع أداء بقية أصوات اللغة المنطوقة في لهجته .
ونحن نرى هذا في نص ابن السكيت الذي نقل إبدال العرب التاء إلى طاء كما في (التخوم والطخوم ) وهذا لا يتصور إلا في بيئة لغوية خاصة ترى أن ثمة تجانسا صوتيا بين التاء والطاء .
كما نرى ذلك في فتوى السيوطي التي نصّ فيها أن الحرفين متعاوران وأن إبدال الطاء إلى تاء ورد في العربية الفصحى وتردد على ألسنة العامة بكثرة ، وهذا مقبول ومدعوم بقانون السهولة الصوتية التي تدفع ابن اللغة إلى إبدال الطاء المفخمة المستعلية المطبقة إلى تاء مستفلة مرققة .ولعل هذا يفسر عبارة ( تطوع اللسان بالإبدال الواردة عند الثعلبي في النص الثالث ) .
المجموعة الثانية – المجانسة الصوتية:
1- قال ابن السراج في الأصول :" وأما (اسطاع) بوصل الهمزة فأصله : (استطاع ) فحذفت التاء لمجانستها الطاء كما يحذف أحد المثلين . [8]
2- قال مكي( ت437هـ) في الرعاية : " وإذا وقعت التاء قبل طاء ، وجب التحفظ ببيان التاء ، لئلا يقرب لفظها من الطاء لأن التاء من مخرج الطاء ...فإذا لم يتحفظ القارئ بإظهار لفظ التاء على حقها من اللفظ قَرُبَ لفظها من لفظ الطاء ودخل في التصحيف . [9]
3- قال عبد الوهاب القرطبي( ت461هـ) في الموضح:" الطاء إذا سكنت قُدَّامَ الفاء ، مثل قوله تعالى : (من نُطْفَة) و(لِيُطْفِئُوا) فينبغي أن يُنْعَمَ بيان إطباق الطاء لئلا ترجع تاء ، لما بين التاء والفاء من الاشتراك في الهمس ، مع مشاركة التاء الطاء في المخرج ، وكذلك بعد السين ، مثل قوله (فوسطن به جمعا)، لأن همس السين يجذب الطاء إلى التاء على ما تقدم [10]".
4- قال ابن زنجلة : " قرأ حمزة فما اسطاعوا بتشديد الطاء أراد فما استطاعوا فأدغم التاء في الطاء لأنهما أختان ." [11]
5- قال الأخفش : وقال {فَمَا اسْطَاعُواْ} لأن لغة للعرب تقول "اِسْطاعَ" "يَسْطيِع" يريدون به "اِسْتَطاع" "يَستطيع" ولكن حذفوا التاء إذا جامعت الطاء لأن مخرجهما واحد وقال بعضهم "اِسْتاعَ" فحذف الطاء لذلك.[12]
6- قال الفراء : " والطاء والدال يدغمان عند التاء أيضا إذا أسكنتا؛ كقوله: {أحطت بما لم تحِط به} تخرج الطاء فى اللفظ تاء، وهو أقرب إلى التاء من الأحرف الأُوَل(الثاء والذال والظاء)، تجدُ ذلك إذا امتحنت مخرجيهما.[13]...والعربُ إذا لقيت الطاءُ التاءَ فسكنت الطاء قبلها صيَّروا الطاء تاء، فيقولون: أَحَتُّ[14]
وهذه النصوص تؤكد المجانسة الصوتية بين الطاء والتاء ، وقد صرح بهذه المجانسة صراحة ابن السراج في الأصول وبيّن أثر هذه المجانسة في حذف التاء إذا جاورت الطاء وجعل الحذف هاهنا مشابها لحذف أحد المثلين لا المتقاربين ، وهذا يدعمه نص الأخفش الذي أكد أن الحذف في استطاع عملية متبادلة في الألسنة فتارة تحذف الطاء وتبقى التاء وتارة أخرى تحذف التاء وتبقى الطاء .
وفي ذات السياق يأتي وصف ابن زنجلة للطاء والتاء بأنهما أختان ليدل على أن المجانسة لصوتية بينهما تؤدي وظيفة صوتية تركيبية أخرى بخلاف الحذف تتمثل في الإدغام وهذا ما فصله الفراء وأكد وجوده في لغة العرب .
وإذا عدنا إلى نص مكي نلمح تحذيره من أن التاء إذا وقعت قبل الطاء ، وجب التحفظ ببيان التاء ، لئلا يقرب لفظها من الطاء . وهذا التحذير بالغ في دلالته لأن الطاء لو كانت ضاء كما زعم الزاعمون لحذر مكي من التفخيم فحسب لأن تفخيمها عندئذ لن يحولها إلى الطاء المزعومة التي تنطق ضاء .
وعبارة عبد الوهاب القرطبي أن الطاء إذا أزلت إطباقها عادت تاء عبارة كاشفة تؤكد لنا أن علماء التجويد كانوا يتحدثون عن الطاء المهموسة المفخمة .
المجموعة الثالثة – تحرير أداء الطاء عند ابن الجزري :
قال ابن الجزري في التمهيد: وإذا جاءت قبل حرف الإطباق في كلمة لزم بيانها وتخليصها بلفظ مرقق غير مفخم وذلك نحو قوله : ( أفتطمعون ) و ( لا تطرد ) و ( لا تطغوا ) و ( تطهيرا ) ونحو ذلك ؛لأن الطاء والتاء من مخرج واحد لكن الطاء حرف قوي فيه جهر وشدة وإطباق واستعلاء والتاء منسفلة منفتحة مهموسة والقوي إذا تقدم الضعيف وهو مجاوره جذبه إلى نفسه ألا ترى أن التاء إذا وقعت بعد حرف إطباق لم يكن بد من أن تبدل منها طاء وذلك نحو : ( اصطفى ) و ( اضطر ) ليعمل اللسان عملا واحدا وإن حال بينهما حائل نحو قوله :(اختلط ) وجب بيان التاء مرققة مع ترقيق اللام لئلا تقرب التاء من لفظ الطاء التي بعدها وتصير اللام مفخمة وإذا سبقت الطاء التاء وكانت ساكنة أدغمت الطاء فيها فإذا نطقت بها خلصت صوت الطاء مع الإتيان بصوت الإطباق ثم تأتي بالتاء مرققة على أصلها وهذا قليل في زماننا ولا يقدر عليه إلا الماهر المجود ولم أر أحدا نبه عليه وذلك نحو قوله : (بسطت إلي ) و ( فرطت ) و ( أحطت ) وهذا ونحوه تحكمه المشافهة"[15].
وفي نص ابن الجزري السابق نلحظ تأكيده على المحافظة على ترقيق التاء إذا جاءت بعد طاء لئلا تقترب من لفظ الطاء ، وهذا قاطع في دلالته على أن التاء عند التفخيم تكون من جنس الطاء .ولو كانت ضاء لقال ابن الجزري :لئلا تقترب من لفظ الضاد!
ونحن لا ننكر أن ثمة تجانسا بين الدال والطاء المجهورة التي وصفها سيبويه في بيئة لغوية أخرى ، وقد نقل ابن السكيت في كتاب الإبدال أمثلة لهذا الإبدال الذي يؤكد لدينا أن ثمة طائين عربيتين إحداهما تاء مفخمة والأخرى دال مفخمة .
ولكننا نزعم أن هذه الطاء التي هي من جنس الدال غير معلومة عند علماء التجويد ، وأن القوم كانوا يلهجون بالطاء المهموسة ،ولعل هذا يفسر إصرار المهدوي ومن بعده ابن الجزري على تفسير الجهر بالقوة ، ومحاولة إدخال تعديلات على مفهومي الهمس والجهر عند سيبويه تارة بالإضافة وتارة أخرى بالحذف . وسوف أبسط على صفحات هذا الموقع مناقشة مستفيضة تبين حقيقة مفهوم الجهر وذلك الاضطراب الواسع الذي خلفه في كتب اللغة والتجويد والقراءات .



[1] - التطور النحوي للغة العربية ( مرجع سابق) : ص 17

[2] - الأصوات اللغوية للدكتور أنيس :ص129

[3] - تحقيقات في التلقي والأداء : ص129

[4] - التعاور المقصود منه هاهنا سهولة التداول ، قال الأزهري :ومعنى تَعَاوَرَتِ الرِّياحُ رَسْمَ الدَّارِ ، أَي تَدَاوَلَتْه ، فمَرَّةً تَهُبّ جَنُوباً ، ومَرّةً شَمَالاً ، ومرَّة قَبُولاً ، ومَرّة دَبُوراً . تاج العروس من جواهر القاموس : ج 13 / ص 169

[5] - القلب والإبدال لابن السكيت :ص 30

[6] - الحاوي للفتاوي : جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ،تحقيق : عبد اللطيف حسن عبد الرحمن (بيروت : دار الكتب العلمية 1421هـ - 2000م) ج 1 / ص 204 – 205.


[7] -الكشف والبيان: أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري(بيرو - لبنان :دار إحياء التراث العربي - - 1422 هـ )تحقيق : أبو محمد بن عاشور مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي(ج 1 / ص 279)

[8] - أصول النحو : ج 2 / ص 277

[9] الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة : مكي بن ابي طالب القيسي ، تحقيق : أحمد حسن فرحات ( الأردن : دار عمار _ ط3_ 1996) (ص206-207)

[10] الموضح في التجويد : عبد الوهاب القرطبي ، تحقيق : غانم قدوري الحمد (الأردن : دار عمار 1421هـ) ص189)

[11] - عبد الرحمن بن محمد بن زنجلة أبو زرعة: حجة القراءات، تحقيق : سعيد الأفغاني: (بيروت: مؤسسة الرسالة – ط2- ، 1402 – 1982) ص 435

[12] - معانى القرآن: للأخفش : ج 2 / ص 80

[13] - معانى القرآن للفراء: ج 1 / ص 157

-[14] المرجع السابق : ج 3 / ص 255

[15] - التمهيد في علم التجويد ( مرجع سابق) :ص 115