حاول الحداثيون تطويع الإسلام للمبادئ الغربية، ووصم كل ما لا يتماشى معها بأنه فهم خاطئ للإسلام! كما حمل التاريخيون في هذا العصر لواءَ التشكيك في تجديدية القرآن، وأجلبوا عليه بخيلِ شبههم التاريخية وبرَجِل المذاهب الإلحادية الغربية والمدارس الفكرية الحداثية لزحزحة المسلمين عن اعتقاد صلاحية كتاب الله لكل زمان ومكان!، غير أنهم لم يظفروا بطائل، وكان الأئمة لهم بالمرصاد.

وقد استخدم العصرانيون (المنهج التاريخ) الذي يرى أن تفسير النص يجب أن يكون مرهوناً بتاريخه، ويجب أن يكون ساكناً هناك لحظة ميلاده، فلا يمكن فصل أي نص عن تاريخه. هذا المنهج يصدر عن نزعة مادية وضعية لا تؤمن بأن الأديان من عند الله تعالى، ويراها إنشاء إنسانيًّا، وذلك لأن الإنسان يتحكم به التاريخ تحكمًا كاملاً، والله مطلق منزه عن ذلك.

حاول البعض بناءً على "المنهج التاريخي" إلصاق النص بالتاريخ لتسويغ التخلي عنه الآن، وبالرغم من أن محمد أركون الجزائري كان سباقاً منذ الثمانينيات إلى هذا المنهج، إلا أن الذي اشتهر به هو (نصر حامد أبو زيد) بسبب قضية طلاق زوجته في المحاكم المصرية بتهمة الارتداد عن الدين، لاعتناقه هذه الفكرة في منتصف التسعينيات. وبينما كان محمد أركون يصدر عن عقيدة علمانية ليبرالية، كان نصر حامد أبو زيد يصدر عن عقيدة ماركسية. وفي كلا الحالين كان يراد من المنهج التاريخي تأمين انسلاخ جماعي للمسلمين من كتابهم الكريم، من أجل تسليمهم للوضعيَّة، والدخول في الحداثة الغربية المادية بحسن نيّة أو بسوئها.

وعلى هذا فالزعم بتاريخيّة النصوص وأنّها نتاج حقبة معينة في التاريخ زعم غرضه الأول والأخير تنحية الشريعة من الحياة وليس تجديد الدين وإنّما هدم الدين كلية ، وهذا ما انتهى إليه نصر أبو زيد بقوله : "
والذي لا شك فيه أنّ فهم قضية النسخ عند القدماء لا يؤدي فقط إلى معارضة تصوّرهم الأسطوريّ للوجود الخطيّ الأزليّ للنص بل يؤدي أيضا إلى القضاء على مفهوم النص
."[1]

فإذا كان نسخ الآيات تدرج في الأحكام لمراعاة الواقع وإذا كانت أسباب النزول تراعي الزمان والمكان والحادثة فإن هذا المنهج يؤكد على تاريخية النص!! (هكذا فهم نصر أبو زيد ) تلك التاريخية التي تحصره في فترة زمنية محددة ومن ثم يصبح البيان القرآني والسُّنة النبوية مجرد نصوص تاريخية لا تناسب هذا العصر ؛ لأننا نعيش في زمان آخر وواقع آخر. !! [1]

وقد أدى تقزم الذات الإسلامية الباحثة إلى افتعال معارك طاحنة مع القدماء لإثبات أنهم أساءوا إلى القرآن عندما اكتظت مؤلفاتهم بالآيات المنسوخة ، وفي حقيقة الأمر إن الأئمة العظام الذين جمعوا الآيات المنسوخة لم يستعملوا النسخ كما استعمله نصر أبو زيد وأركون ... إن الأئمة الذين بذلوا قصارى جهدهم في تتبع آيات النسخ كانوا يحرسون الأحكام الإسلامية ببناء منظومة فقهية متكاملة تراعي علاقة آيات الأحكام بعضها ببعض فتوسعوا في دلالة المصطلح بحيث اشتمل على التخصيص والتقييد والبيان .وهذا واضح جدا لكل ذي عينين . ولكنه حب الظهور الذي دفع بشرذمة من المنتسبين إلى علماء الإسلام لتناول القضية تناولا أهوج أساء لعلماء الإسلام القدامى الذين وضعوا مؤلفات مرموقة في علم الناسخ والمنسوخ .

ومن معالم الحق أن نؤكد للقارئ أن الشريعة الإسلاميّة شريعة ربانيّة تعم كل زمان ومكان وأن أحكامها المنزلة أحكام عامة فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهذه القاعدة الفقهية نص عليها النبي (e):" أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن ابن مسعود ( t) عنه أنّ رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى رسول الله(e) فذكر ذلك له فأنزلت عليه: وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات هود: ١١٤

قال الرجل : ألي هذه ؟ قال :" لمن عمل بها من أمتي فهذا الذي أصاب القبلة من المرأة نزلت في خصوصه آية عامة اللفظ فقال للنبي (e) : ألي هذه ؟ ومعنى ذلك هل النص خاص بي لأني سبب وروده أو هو على عموم لفظه وقول النَّبي (e) : لجميع أمتي ، معناه أن العبرة بعموم لفظ لا بخصوص السبب .[1]

وحسب الباحث في الشريعة الإسلامية أن لا تنزلق قدمه في تلك المهامه ،وينزه منهجه عن هذا الطعن الصريح في الشريعة الخاتمة التي نسخت الشرائع السابقة وارتضاها لنا ربنا لتكون دستورا ومنهاجا لهذه الأمة حتى قيام الساعة:ﭐﱡﭐ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ البروج: ٢١ - ٢٢







[1] - ( الشنقيطي) محمد الأمين بن محمد بن المختار الجكني الشنقيطي أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ( بيروت :دار الفكر للطباعة والنشر. 1415هـ ) ج2/ص360 -359 ، والحديث الذي أورده الشيخ الشنقيطي حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري ّ في صحيحه (503) ومسلم (2763)








[1] - سوف نناقش حقيقة النسخ ومفهومه في مبحث مستقل في كتاب تجديد أصول الفقه .






[1] - (أبو زيد) نصر: مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ( بيروت – الدار البيضاء :المركز الثقافي العربي _ ط6_2005) ص134