بسم الله وبعد:
فقد ظهر في زمننا هذا من يزعم أن استفتاح المجالس والحلق، بسورة من القرآن أو بشيء منه تيمنا به وتبركا بدعة ضلالة، عندها استعنت على جمع شئ مما علمنيه ربي عن السلف, لينظر أي الفريقين أسعد بالسلف, فأقول:
المطلب الأول: ذكر الأدلة على استحباب الافتتاح بالقرآن الكريم :
الدليل الأول: فيه طرق :
1. قال الحافظ السمعاني في أدب الاملاء والاستملاء (59):" ثم يفتتح ـ المملي ـ بقراءة سورة من القرآن, أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك الدباس ببغداد أنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ إذنا أنا محمد بن رزق أنا عثمان بن أحمد الدقاق ثنا الحسن بن سلام السواق ثنا عفان نا شعبة عن علي بن الحكم عن أبي نضرة قال:" كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا ليذكروا العلم قرأوا سورة", وقد خرج هذا الأثرَ أبو بكر الخطيبُ البغدادي في الجامع وبوَّبَ عليه:" باب ما يبتدئ به المستملي من القول, ثم قال: ينبغي أن يقرأ في المجلس سورة من القرآن قبل الأخذ في الإملاء, لما أنا محمد بن أحمد بن رزق أنا عثمان بن أحمد الدقاق نا الحسن بن سلام السواق نا عفان نا شعبة عن علي بن الحكم عن أبي نضرة قال:" كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا تذاكروا العلم وقرءوا سورة ", ولفظ كان يفيد الاستمرار .
وأما الحُكم عليه فهو حديث صحيح كل رجاله أئمة ثقات, ابن رزقوية ثقة حافظ كبير, وكذا عثمان بن أحمد الدقاق المعروف بابن السماك, والحسن هو السواق, وبقية الإسناد ممن احتج بهما أو بأحدهما الشيخان, ومع ذلك فقد توبع عفان متابعتين تامتين فيهما زيادة ذكر أبي سعيد :
2. خرج ذلك الحاكم في مستدركه (1/172) قال: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا هارون بن سليمان الأصفهاني ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن علي بن الحكم عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: " أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلسوا كان حديثهم يعني الفقه إلا أن يقرأ رجل سورة أو يأمروا رجلا بقراءة سورة" قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وله شاهد موقوف عن أبي سعيد", ووافقه الذهبي، وله متابعة أخرى :
3. قال ابن سعد في الطبقات 2/374 : أخبرنا سليمان أبو داود الطيالسي نا شعبة سمعت علي بن الحكم يحدث عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعدوا يتحدثون كان حديثهم الفقه، إلا أن يأمروا رجلا فيقرأ عليهم سورة أو يقرأ رجل سورة من القرآن ",
4. وله طريق أخرى فقد قال الزركشي في النكت :" ورواه أبو نعيم في رياضة المتعلمين, ورواه أيضا من جهة أبي نضرة عن أبي سعيد قال :" كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعدوا يتحدثون في الفقه كانوا يأمرون أن يقرأ رجل سورة ".
الدليل الثاني: قال أبو بكر في مصنفه (6/155) باب من كان يقرأ القرآن من أصحاب بن مسعود: ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق قال:" كان عبد الله يقرأ بنا القرآن في المجلس، ثم يجلس بعده يحدث الناس ",
فهذا ابن مسعود رضي الله عنه قد قرأ القرآن أولا ثم درّس بحضرة الصحابة والتابعين، ما بدّع فعله أحد من المسلمين، إلا من تأخّر من التبديعيين .
وكذلك كان عمر وعبد الله بن عباس يبدآن بقراءة القرآن ثم يشرعان في تفسيره كما في:
الدليل الثالث: قال الطبراني في الكبير 10620 حدثنا إسحاق الدبري عن عبد الرزاق عن ابن عيينة عن أبي بكر الهذلي قال: دخلت على الحسن فقال: إن ابن عباس كان من القرآن بمنزلٍ، كان عمر يقول: ذاكم فتى الكهول إن له لسانا سؤولا وقلبا عقولا كان يقوم يقول على منبرنا هذا ـ أحسبه قال: عشية عرفة ـ فيقرأ سورة البقرة وسورة آل عمران ثم يفسرها آية آية وكان مثجة نجدا غربا"،
الدليل الرابع : قال أبو عروبة في المنتقى من الطبقات: حدثنا أبو يوسف بن الصيدلاني ثنا مطرف عن ابن جرير أخبرني بعض أصحابنا عن بعض أمرائهم أنه أرسل إلى الحسن ليلة عرفة يسأله بأي ذلك يأمره أن يجلس بالأرض يوم عرفة هنالك بالبصرة أم على المنبر؟ فقال: إنما عرفة حيث جعلها الله عز وجل، وأول من دعا بأرضنا أو فعل ذلك ابن عباس، كان رجلا ما تني عليه في علمه، في لفظه، في لسانه، فكان ابن عباس يضع المنبر ثم يجلس عليه، فيقرأ سورة البقرة، فيفسرها آية آية، حتى إذا اصفرت الشمس وظن أن أهل عرفة رفعوا أيديهم رفع يده، ورفع الناس أيديهم حتى الليل، وترك القراءة وتعليم الناس السنن، وكان الدعاء حتى الليل يحب أن يأخذ بما يأخذ به أهل عرفة ".
قال أبو عروبة حدثنا محمد بن بشار ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن الحسن قال: «أول من أحدث القصص ابن عباس، وكان رجلا مفوها، وكان يقدر على الكلام، فقرأ سورة البقرة ففسرها حرفا بحرف ».
قال أبو عروبة حدثنا أبو كريب ثنا حفص عن الأعمش عن أبي وائل قال: قرأ ابن عباس سورة النور على المنبر بعرفة ففسرها، ثم نزل فجمع بين الظهر والعصر، فقال رجل : لو سمعه أهل فارس والروم لأسلموا ، ما رأيت كلاما مثله يخرج من رأس رجل".
الدليل الخامس : ولأن السنة مضت أن النبي عليه السلام كان يُقرِئهم القرآن أولا، ثم يُعلمهم من فقهه وأأأللاللابيفغف قبقليبأحكامه كما قال الطحاوي في مشكله 4/84 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْب ثنا الْخَصِيب بْن نَاصِحٍ الْحَارِثِي ثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيى عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِب عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَال: كَانَ أَصْحَابُنَا يُقْرِئُونَا وَيُعَلِّمُونَا وَيُخْبِرُونَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَانَ يُقْرِئُ أَحَدَهُمْ عَشْرَ آيَاتٍ فَمَا يَجُوزُهَا حَتَّى يَتَعَلَّمَ الْعَمَلَ فِيهَا، قَالَ: وَقَالُوا: عَلِمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا"،
ورواه سُفْيَان عَن عَطَاءِ بْنِ السَّائِب عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَصْحَابُنَا الَّذِين كَانُوا يُعَلِّمُونَا قَالُوا:" كُنَّا نَعْلَمُ عَشْرَ آيَاتٍ فَمَا نَتَجَاوَزُهُنّ َ حَتَّى نَعْلَمَ مَا فِيهِنَّ مِنْ عَمَلٍ".
المطلب الثاني: ذكر ما جاءنا من ذلك عن السلف الطيب :
قال السمعاني كما في الباب السابق: نا أبو النضر عبد الرحمن بن عبد الجبار الفامي وأبو الحسن محمد بن إسماعيل الحسيني وأبو جعفر حنبل بن علي السجزي قالوا أنا أبو طاهر عطاء بن عبد الله الدارمي أنا أبو الفوارس أحمد بن محمد بن أحمد الحساني أنا أبو القاسم منصور بن العباس البوشنجي ثنا أبو سليمان داود بن وسيم الفوشنجي ثنا أبو بكر بن يزيد أنا أبو نعيم عن عمرو بن عبد الله النخعي عن أبي عمرو الشيباني قال :" كان إذا جالسه قوم أمر رجلا منهم يقرأ سورة خفيفة ثم يدعو بدعوات ثم يقوموا فيتفرقوا",
ثم قال السمعاني: باب ما يبتدىء به المستملي من القول:"... ثم يقرأ المستملي سورة من القرآن...",
وقال الخطيب في الفقيه والمتفقه :" وأستحب أن يقرأ بعضهم سورة أو آيات من القرآن ، قبل تدريس الفقه أو بعده"،
وكذلك قال ابن الصلاح في المقدمة والعراقي في التقييد وبرهان الدين الأبناسي وعلماء المصطلح, قالوا: " ويستحب افتتاح المجلس بقراءة قارئ لشيء من القرآن العظيم"،
وقال الحافظ ابن كثير في الباعث الحثيث: من باب آداب طالب الحديث :" وينبغي افتتاح ذلك ـ المجلس ـ بقراءة شئ من القرآن تبركا وتيمنا بتلاوته...",
فهذا دأب كافة أهل الحديث في مجالسهم, بحضرة تلامذتهم, وكل المسلمين، لم ينكر ذلك أحد منهم, وهو قول السلف والخلف وأهل الحديث قاطبة لم يتخلف منهم أحد ,
وقد مضى استحباب ذلك عن الخطيب البغدادي والسمعاني والعراقي وابن كثير والزركشي والأبانسي,
وقال السخاوي في فتح المغيث: واستحسنوا أي أهل الحديث ممن تصدى للإملاء البدء في مجالسهم بـ قراءة قاريء هو المستملي كما للخطيب وابن السمعاني أو المملي كما للرافعي أو غيرهما تلا بشيء من القرآن والاختلاف في التعيين لا ينافي اجتماعهم على القراءة..",
فهذه أدلتنا وهؤلاء سلفنا وأئمتنا, فأين سلف التبديعيين, والله المستعان، وعليه التكلان, في دفع من بدع شيئا مما جاءت به الصحابة الكرام، وهو الهادي وحده إلى صراط خير الأنام.

كتبه أبو عيسى الطاهر الزياني