-
الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (1)
د.وليد خالد الربيع
فالحكمة هي إصابة الحق بالعلم والعقل، وهي العلوم النافعة والعقول المسددة وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال، وهي معرفة الحق والعمل به، قال بعضهم: الحكمة كل كلمة وعظتك أو زجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيحة.
قال الشيخ ابن سعدي: «الحكمة جمال العلم وآلة العمل، وأقرب الوسائل لحصول المقاصد، الحكمة تهون الصعاب، وبها تندفع العوائق، كم ندم عجول طائش وكم أدرك المطلوب متأن رفيق، لا تساس الولايات الكبار ولا الصغار بمثل الحكم، ولا تختل إلا باختلال طريقها.
الحكيم إذا لم يدرك جميع المطلوب تنازل إلى بعضه، وإذا لم يحصل له ما قصده من الخير قنع باندفاع الشر، وإذا لم يندفع كل الشر دفع بعضه وخففه، وإذا لم يكن الصعب الشديد وأمكنه تلطيفه لطفه، يسابر الأمور والأحوال فينتهز فرصها ويأتي الأمور مع كل باب ووسيلة، لا يمل السعي ولا يدركه الضجر والسآمة، قد تلقى الأمور بصدر منشرح وقلب ثابت يقلبها بفكره على كل وجه، ويستعين برأي أهل الخبرة من الناصحين على ما يريده، لا تستفزه البدوات وأوائل الأمور حتى ينفذ فكره إلى باطنها، ولا تغره الظواهر حتى يتغلغل في مطاويها وعواقبها، ومع كثرة تفكيره وتقليبه الأمور من جميع وجوهها ومشاورته عند التوقف والاشتباه لابد أن ينكشف له ما كان خافيا ويتضح له ما كان مشتبها.»اهـ
وقد أثنى الله عز وجل على صاحب الحكمة فقال: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «ضمني النبي [ إلى صدره وقال: «اللهم علمه الحكمة» قال البخاري: «والحكمة الإصابة في غير النبوة».
وتطلق الحكمة في القرآن على معان منها الموعظة كما قال عز وجل:(حكمة بالغة فما تغني النذر} ، وتطلق على السنة كما قال عز وجل: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة}، وتطلق على الفهم كما قال عز وجل: {ولقد آتينا لقمان الحكمة}، وتطلق على النبوة كما قال تعالى: {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}، وتطلق على اللطف واللين كما قال عز وجل: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}.
وفي الحديث قال [: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» متفق عليه، قال النووي: «معناه: يعمل بها ويعلمها احتسابا، والحكمة: كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح».
وأما حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله [:»الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها « أخرجه الترمذي وابن ماجه فهو حديث لا يصح، قال عنه الشيخ الألباني: ضعيف جدا. وقد ضعفه غير واحد من علماء الحديث.
ونقل عن بعض الصحابة الكرام الحث على التماس الحكم والمواعظ والآداب من حيث خرجت والإفادة منها ما دامت صوابا ولا تقتضي باطلا شرعا ولا عقلا ولا عرفا، ففي (جامع بيان العلم وفضله) لابن عبد البر عن علي رضي الله عنه أنه قال: «العلم ضالة المؤمن فخذوه ولو من أيدي المشركين، ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه»، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «خذوا الحكمة ممن سمعتموها؛ فإنه قد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير رام»، وعند البيهقي في المدخل عن عكرمة: «خذ الحكمة ممن سمعت؛ فإن الرجل يتكلم بالحكمة وليس بحكيم فيكون كالرمية خرجت من غير رام «وعنده أيضا عن سعيد بن أبي بردة قال: «كان يقال: الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها حيث وجدها»، وعن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان يقال: «العلم ضالة المؤمن يغدو في طلبها، فإن أصاب منها شيئا حواه حتى يضم إليه غيره».
ومعنى: «الحكمة ضالة المؤمن» قال النووي: «أي لا يزال يتطلبها كما يتطلب الرجل ضالته»، وقال المناوي:» «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن» أي مطلوبه فلا يزال يطلبها كما يتطلب الرجل ضالته «فحيث وجدها فهو أحق بها»؛ أي بالعمل بها واتباعها كما أن صاحب الضالة لا ينظر إلى خسة من وجدها عنده».
وقال بعضهم: الجوهرة النفيسة لا يشينها سخافة غائصها ودناءة بائعها.
وعن الإمام مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال: «يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك؛ فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء».
من هذا المنطلق تأتي هذه المقالات الموجزة في بيان بعض الحكم التي وردت في كلام الله تعالى ورسوله الكريم [ وما نقل عن بعض الحكماء من باب التناصح والتذاكر، وقد قال عبد الرحمن الحبلي: «ليس هدية أفضل من كلمة حكمة تهديها لأخيك»، أسأل الله عز وجل أن ينفع بها، وبالله التوفيق.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (2)
ومن يتوكل على الله فهو حسبه
د.وليد خالد الربيع
القرآن الكريم كلام الله عز وجل مليء بالحكم والأحكام، والفوائد والمواعظ، والقصص والأخبار، فهو منبع كل خير ومصدر كل فضيلة، وقد تنوعت أساليبه العربية البليغة في بيان تلك النفائس وصياغة أعظم المفاهيم بأسلوب رائع وجيز الألفاظ غزير المعاني، ومن الحكم القرآنية قوله عز وجل: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} الذي يدل على قوة الإيمان بالله تعالى وشدة الثقة به عز وجل.
قال الشيخ ابن السعدي: «{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ويثق به في تسهيل ذلك {فَهُوَ حَسْبُهُ} أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي العزيز الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له ؛ فلهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أي: وقتًا ومقدارًا، لا يتعداه ولا يقصر عنه. قال الجرجاني: «التوكل هو الثقة بما عند الله، واليأس مما في أيدي الناس»، وقال ابن رجب: «التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار في أمور الدنيا والآخرة، وكِلَة الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه». والتوكل على الله من أعظم واجبات التوحيد والإيمان، قال الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}، وبحسب قوة توكل العبد على الله يقوى إيمانه، ويتم توحيده، فعن ابْن عَبَّاس أَنَّهُ رَكِبَ خَلْف رَسُول اللَّه [ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه [: « يَا غُلام إِنِّي مُعَلِّمُك كَلِمَات: احْفَظْ اللَّه يَحْفَظْك، احْفَظْ اللَّه تَجِدهُ تُجَاهك وَإِذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّه، وَإِذَا اِسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّة لَوِ اِجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوك لَمْ يَنْفَعُوك إِلَّا بِشَيْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ لَك وَلَوِ اِجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك لَمْ يَضُرُّوك إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّه عَلَيْك رُفِعَتِ الْأَقْلَام وَجَفَّتِ الصُّحُف». وعَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه [:» مَنْ نَزَلَت بِهِ فاقة - أي حَاجَة شديدة فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ - أي عرضها عليهم وطلب منهم إزالتها - لم تسد فاقته، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاَللَّهِ - أي اعتمد على ربه - فيوشك الله أي يسرع له بِرِزْقٍ عَاجِل أَوْ بِمَوْتٍ آجِلٍ»أخرجه أبو داود والترمذي. وصدق التوكل وحسن الثقة بالله عز وجل لا يمنع من طلب الرزق والحرص على الغنى الحلال الذي يعين الإنسان على طاعة ربه وحفظ كرامته والاستغناء عن الناس؛ فقد قال [:«لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيستغني بها، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه»، وقال أيضا:«ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يديه. قال: وكان داود لا يأكل الا من عمل يديه».وأخرج البيهقي بإسناده عن أبي بكر الصديق قال: «دينك لمعادك، ودرهمك لمعاشك، ولا خير في امرئ بلا درهم». وقال الفضيل بن عياض لابن المبارك: «أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان الى البلد الحرام كيف ذا وأنت بخلاف ذا ؟ فقال ابن المبارك: يا أبا علي أنا أفعل ذا لأصون بها وجهي، وأكرم بها عرضي، وأستعين بها على طاعة ربي، لا أرى لله حقا إلا سارعت إليه حتى أقوم به، فقال له الفضيل: يا بن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا». ولهذا قال الإمام أحمد: «ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله عز وجل، ولكن يعودون أنفسهم بالكسب، فمن قال بخلاف هذا القول، فهو قول إنسان أحمق «، وقال أيضا: «الاستغناء عن الناس بطلب العمل أعجب إلينا من الجلوس وانتظار ما في أيدي الناس». فما أعظمها من حكمة قرآنية تحمل المسلم على الثقة بالله بقلبه مع كمال السعي ببدنه وفكره ليحقق أعلى مراتب الإيمان والتوحيد، وبالله التوفيق.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (3)
إيـاك وكـل أمـر يعتـذر منـه
د.وليد خالد الربيع
السنة النبوية المطهرة مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، فهي كل ما صدر عن رسول الله [ من أقوال وأفعال وتقريرات يستمد منها العقائد والأخلاق وأحكام الأفعال والأقوال، وقد أوتي [ جوامع الكلم واختصرت له المعاني الجليلة في الألفاظ القليلة، فاشتمل كلامه [ على أنوار النبوة الجامعة للمعاني الرفيعة والمفاهيم السديدة والحكم البليغة والفوائد العديدة؛ ولهذا اجتهد العلماء في استنباط تلك الكنوز النفيسة واستخراج تلك الجواهر الثمينة من كلام رسول الله [، وتقريبها لأيدي المحبين الصادقين من علماء وعباد ودعاة وأصناف المتبعين لهديه [ المستنين بسنته المقتفين لأثره.
ومن جملة الحكم الواردة في السنة المطهرة ما رواه أنس رضي الله عنه أن النبي [ قال: «إياك وكل أمر يعتذر منه» أخرجه الحاكم وهو حديث حسن (صحيح الجامع 2671)، وعن ابن عمر أن النبي [ قال: «صلّ صلاة مودع كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، وايأس مما في أيدي الناس تعش غنيا، وإياك وما يعتذر منه» (ص.ج3776).
قال المناوي:» أي احذر أن تتكلم بما يحتاج أن تعتذر عنه، وأنه لا ينبغي الدخول في مواضع التهم، ومن ملك نفسه خاف من مواضع التهم أكثر من خوفه من وجود الألم».
وعن عبد الملك بن عمير قال: أوصى رجل ابنه فقال: « يا بني ! أظهر اليأس مما في أيدي الناس فإنه غني، وإياك وطلب الحاجات فإنه فقر حاضر، وإياك وما يعتذر منه بالقول، وإذا صليت فصل صلاة مودع لا ترى أنك تعود، وإن استطعت أن تكون اليوم خيرا منك أمس وغدا خيرا منك اليوم فافعل».
الاعتذار خلق جميل يدل على تواضع الإنسان وإنصافه من نفسه حيث عرف خطأه وعمل على إصلاح ما أفسده، فهو كما قال المناوي:«أن يتحرى الإنسان ما يمحو أثر ذنبه »، فصاحب الخلق الرفيع يراعي مشاعر الآخرين ويهتم بأحوالهم ومكانتهم، فإذا صدر منه شيء قد يسيء إليهم أو يؤذيهم بادر إلى الاعتذار ممن وقع الخطأ في حقه، وطلب العفو منه أو بين له مقصوده فيما صدر منه حتى لا يساء فهمه أو يعامل بنقيض قصده؛ فبذلك تستدام الأخوة الإيمانية ويغلق باب المشاحنات والخصومات وما يتبع ذلك من إفساد وإضرار وتفرق وعداء.
والأكمل من الاعتذار هو ألا يقع الإنسان فيما يوجب الاعتذار أصلا، فيحفظ لسانه وجوارحه عن الإساءة إلى الناس ابتداء، ويحرص على التزام الاستقامة في القول والعمل، مع الله عز وجل ومع الناس ومع كل من له حق عليه، ويراعي أن يكون دائما متنبها لشعور الآخرين دون مبالغة، متخليا عن الأنانية والفردية التي تحكم سلوك بعض الناس فتجعلهم يعيشون في دنياهم الخاصة بهم متناسين وجود الآخرين الذي لهم حقوق ومشاعر أيضا تحتاج إلى عناية ورعاية واهتمام ومراعاة، فقد نهانا الله عز وجل عن إيذاء المؤمنين فقال عز وجل: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} وقال [: «يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين»، وكما يحب الإنسان أن يهتم الناس بحقوقه ومشاعره فعليه أيضا أن يقوم بذلك, قال [:» لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه «وبالمقابل أن يكره لأخيه ما يكره لنفسه، وبالله التوفيق.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (4)
يُعرف العاقل من عمله لا من ثوبه
د.وليد خالد الربيع
من الأمثلة والحكم المنقولة عن بعض الشعوب قولهم: «يُعرف العاقل من عمله لا من ثوبه »، وهذا المعنى صحيح كما دلت عليه النصوص الشرعية.
فالعقل هو ما يكون به التفكير والاستدلال، ويطلق على ما يحصل به إدراك الأشياء على حقيقتها بالجملة، ومن آثار العقل تمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، والحسن والقبح، ونحو ذلك، كما قال ابن القيم: «نور العقل يضيء في ليل الهوى، فتلوح جادة الصواب، فيتلمح البصير في ذلك النور عواقب الأمور».
فإذا كانت أقوال الإنسان وأفعاله وتدبيراته تابعة للحكمة، موافقة للصواب، غير متقدمة على أوانها ولا متأخرة، ولا فيها زيادة على عما ينبغي ولا نقص، فبتحقيق هذا يُعرف كمال عقل الإنسان ورزانته ودرايته كما قرر ذلك الشيخ ابن سعدي. وقد اختل هذا المعيار لدى بعض الناس، فأصبح الحكم على الأشخاص عندهم بناء على مظاهرهم وزينتهم ومرافقهم التي يستعملونها كالمراكب والمساكن والمكاتب ونحو ذلك مما لا يدل على عقل الإنسان ولا على شخصيته في الواقع. فالأدلة الشرعية توجه الأنظار إلى معيار التفاضل الحقيقي، وميزان الكمال الإنساني، وهو ما يقوم في القلوب من عقائد، وما يستقر في النفوس من أخلاق، وما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال وأحوال موافقة للشرع والعقل السليم. قال عز وجل: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} قال ابن كثير: «أي إنما تتفاضلون عند الله تعالى بالتقوى لا بالأحساب»، وقد وردت الأحاديث بذلك، فعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله [ أي الناس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم» أخرجه البخاري.
وقال عز وجل: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}، وقال تعالى: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله} وقال عز وجل: {ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب}، فانظر كيف جعل الإيمان بمعناه الشامل، والعمل الصالح بأنواعه المتعددة سبيلا لدخول الجنان والقرب من الرحمن.
وفي المقابل تجد النصوص الشرعية توجه العقول والأبصار إلى عدم الاغترار بالمظاهر الخارجية؛ لأنها ليست ميزانا دقيقا ولا معيارا صادقا لحقيقة الأشياء والأشخاص، قال عز وجل: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} قال ابن سعدي: «لا ينبغي للإنسان أن يغتر بحالة الإنسان الدنيوية، ويظن أن إعطاء الله إياه في الدنيا دليل على محبته له، وأنه على الحق، بل الواجب على العبد أن يعتبر الناس بالحق، وينظر إلى الحقائق الشرعية، ويزن بها الناس، ولا يزن الحق بالناس، كما عليه من لا علم له ولا عقل له».
وقال عز وجل: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} قال ابن سعدي: «أي لا تغتر بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال والأولاد، فليس ذلك لكرامتهم عليه، وإنما ذلك إهانة منه لهم، فيتعبون في تحصيلها، ويخافون من زوالها، ولا يتهنأون بها».
وقال عز وجل عن المنافقين {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} قال ابن سعدي: «فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدي الصالح شيء ولهذا قال: {كأنهم خشب مسندة} لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض».
وقد قرر رسول الله [ تلك القاعدة الذهبية والمعيار الدقيق بقوله: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» رواه مسلم، قال القرطبي: «أي لا يثيبكم عليها ولا يقربكم بها، ذلك كما قال تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى} ثم قال: {إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}، ويستفاد من هذا الحديث فوائد:
- إحداها: صرف الهمة إلى الاعتناء بأحوال القلب وصفاته، بتحقيق علومه وتصحيح مقاصده، وتطهيره عن مذموم الصفات.
- الثانية: أن الاعتناء بإصلاح القلب وبصفاته مقدم على الأعمال بالجوارح، فتخصيص القلب بالذكر مقدم على الأعمال إنما كان لأن أعمال القلوب هي المصححة لسائر الأعمال. - الثالثة: لما كانت القلوب هي المصححة للأعمال الظاهرة، وأعمال القلب غيب عنا، فلا يقطع بمغيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله تعالى من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال، ولعل من رأينا منه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه، فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية، ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة، بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة، فتدبر هذا فإنه نظر دقيق.
والخلاصة: إن المظهر الحسن والترجل والتطيب من الأمور المشروعة, ومن زينة الحياة, لكنها ليست الأصل, ليست هي المقياس في الحكم على الناس كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي[: «رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره»، قال النووي: «وهذا لعظم منزلته عند الله تعالى، وإن كان حقيرا عند الناس».
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (5) ولا تـمـنن تستـكـثر
د.وليد خالد الربيع
القرآن الكريم زاخر بالحكم الجليلة والمواعظ البليغة التي ترتقي بالعقول وتزكي النفوس وتهذب السلوك ليسمو المسلم إلى أعلى درجات الإنسانية وأرفع منازل العبودية.
ومن الحكم القرآنية قوله عز وجل: {وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}، وقد وقف المفسرون مع هذه الآية طويلا لاستنباط ما فيها من المعاني والآداب، ولابد من بيان معاني ألفاظها أولا:
أما المنّ، ففي اللغة لها معان عدة منها:
الأول: القطع والانقطاع، يقال: مننت الحبل: قطعته، ومنه قوله عز وجل: {لهم أجر غير ممنون} أي غير مقطوع ولا منقوص، ومنه سمي الموت بالمنون لأنه ينقص العدد ويقطع المدد. الثاني: اصطناع الخير، يقال: منّ عليه إذا أحسن إليه وأنعم وصنع صنعا جميلا، وتطلق (المنة) على النعمة الثقيلة، قال الراغب الأصفهاني: «ويقال ذلك على وجهين:
- أحدهما: أن يكون ذلك بالفعل، فيقال: مـنّ فلان على فلان، إذا أثقله بالنعمة، وعلى ذلك قوله عز وجل: {لقد منّ الله على المؤمنين}، {كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم}، {يمنّ على من يشاء}، وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى.
- الثاني: أن يكون ذلك بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة، ولقبح ذلك قيل: «المنـّة تهدم الصنيعة»، ولحسن ذكرها عند الكفران قيل: «إذا كفرت النعمة حسنت المنـّة»، وقوله تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان} فالمنـّة منهم بالقول، ومنة الله عليهم بالفعل، وهو هدايته إياهم»، المن بالقول: تذكير المنعِم المنعَم عليه بإنعامه.
وأما الاستكثار: فهو عدّ الشيء كثيرا، وأيضا يقال: استكثر من الشيء إذا رغب في الكثير منه.
وقد ذكر الطاهر بن عاشور مناسبة عطف {ولا تمنن تستكثر} على الأمر بهجر الرجز أن المن في العطية كثير من خلق أهل الشرك، فلما أمره الله بهجر الرجز نهاه عن أخلاق أهل الرجز نهيا يقتضي الأمر بالصدقة والإكثار منها بطريق الكناية فكأنه قال: تصدق وأكثر من الصدقة ولا تمنن، أي: لا تعد ما أعطيته كثيرا فتمسك عن الازدياد فيه، أو تتطرق إليك ندامة على ما أعطيت.
وللمفسرين في هذه الآية أقوال كثيرة:
منها قول ابن عباس: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، قال الضحاك: هذا حرمه الله على رسول الله [ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق وأباحه لأمته، وهو اختيار القرطبي؛ لأنه يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته، ويقال للعطية المنة، فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها، فإن الانتظار تعلق بالأطماع، وقد قال الله تعالى له: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} وذلك جائز لسائر الخلق لأنه من متاع الدنيا، وطلب الكسب والتكاثر بها.
ومنها قول مجاهد : لا تضعف أن تستكثر من الخير، من قولك حبل منين إذا كان ضعيفا، ودليله قراءة ابن مسعود {ولا تمنن تستكثر من الخير}.
ومنها قول مجاهد والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم الله عليك، قال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته، قال الحسن: لا تمنن على الله بعملك فتستكثره، وهو اختيار الطبري ; لِأَنَّ ذَلِكَ فِي سِيَاق آيَات تَقَدَّمَ فِيهِنَّ أَمْر اللَّه نَبِيّه [ بِالْجِدِّ فِي الدُّعَاء إِلَيْهِ , وَالصَّبْر عَلَى مَا يَلْقَى مِنَ الْأَذَى فِيهِ.
والخلاصة أنه ينبغي للمسلم أن ينكر ذاته، ولا يستكثر عمله، ويستقل جهده، فيعلم أن كل خير فمن الله وحده، بالتوفيق إليه ابتداء، والإعانة عليه أثناءه، والمن عليه بالقبول انتهاء، فيحمد الله على اختياره واصطفائه، ويستعين به على القيام بعبوديته، ويدعوه راجيا أن يقبل عمله ولا يضيع سعيه، فهذا باب التوفيق وصراط السعداء.
قال ابن القيم:» طوبى لمن أنصف ربه، فأقر له بالجهل في علمه، والآفات في عمله، والعيوب في نفسه، والتفريط في حقه، والظلم في معاملته، فإن آخذه بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله، وإن عمل حسنة رآها من منته وصدقته عليه، وإن قبلها فمنة وصدقة ثانية، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به، وإن عمل سيئة رآها من تخليه عنه، وخذلانه له، وإمساك عصمته عنه، وذلك من عدله فيه، فيرى في ذلك فقره إلى ربه، وظلمه في نفسه، فإن غفرها له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه.
ونكتة المسألة وسرها: أنه لا يرى ربه إلا محسنا، ولا يرى نفسه إلا مسيئا أو مفرطا أو مقصرا، يرى كل ما يسره من فضل ربه عليه وإحسانه إليه، وكل ما يسوؤه من ذنوبه وعدل الله فيه». أهـ
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (6) إنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً أوْ يُلِمُ
د.وليد خالد الربيع
في السُّنة المطهرة من الحكم البليغة والأمثال الحكيمة ما يعد مصدرا لكثير من المعاني النفيسة والمفاهيم الرفيعة، ومن ذلك قوله [: «إنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً أوْ يُلِمُ»، وقد عدّ ابن دريد وهو من علماء اللغة هذه العبارة من كلام النبي [ من الكلام المفرد الوجيز الذي لم يسبق [ إلى معناه، وكل من وقع شيء منه في كلامه فإنما أخذه منه.
وقبل الدخول في معنى الحديث ومقاصده لابد من بيان معاني ألفاظه:
الربيع: هو النهر الصغير، والْحَبَطُ : انتفاخُ البطن، وهو أن تأكل الإبلُ الذُّرَقَ فتنتفخ بطونها إذا أكثرت منه يقال حبطت الدابة تحبط حبطا إذا أصابت مرعى طيبا فأمعنت في الأكل حتى تنتفخ فتموت، وقوله »أو يلم» والإلمام: النزول ُ، والإلمام: القرب، والمعنى يقتل أو يَقْرُبُ من القتل.
أما معنى الحديث فقد قال النووي:» ومعناه: أن نبات الربيع وخضره يقتل حبطا بالتخمة لكثرة الأكل، أو يقارب القتل إلا إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو إليه الحاجة وتحصل به الكفاية المقتصدة فإنه لا يضر، وهكذا المال هو كنبات الربيع مستحسن تطلبه النفوس وتميل إليه، فمنهم من يستكثر منه ويستغرق فيه غير صارف له في وجوهه، فهذا يهلكه أو يقارب إهلاكه، ومنهم من يقتصد فيه فلا يأخذ إلا يسيرا، وإن أخذ كثيرا فرقه في وجوهه كما تثلطه الدابة فهذا لا يضره.
فهذا الحديث قاله [ في صفة الدنيا والحّث على قلة الأخذ منها، ولكي يفهم فهما شاملا لابد من الوقوف على سبب وروده، فقد روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري أن النبي [ قال: «إني أخَافُ عليكم بعدي ما يُفْتَح عليكم من زَهْرة الدنيا وزينتها » فقال رجل : أوَ يأتِي الخيرُ بالشرِّ يا رسول اللّه؟ فقال [ : «إنَّهُ لا يأتي الخيرُ بالشر، وإن مما يُنْبِتُ الربيعُ ما يقتل حَبَطا أو يلم، إلا آكلة الْخَضِرِ فإنها أكلَتْ حتى إذا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلطَتْ وَبَالَتْ ثم رَتَعَتْ».
قال العلماء: وفي هذا الحديث مثلان: أحدهما: للمُفْرِطِ في جمع الدنيا وفي منعها من حقها، والآخر للمقتصد في أخْذِها والانتفاع بها، فأمّا قولُه: «وإن مما ينبت الربيعُ ما يقتل حَبَطاً أو يُلمُّ» فهو مثل المُفْرِط الذي يأخذها بغير حق، وذلك أن الربيعَ يُنْبِتُ أحْرَار العُشْب فتستكثر منها الماشية حتى تنتفخَ بطونُها إذا جاوزَتْ حدَّ الاحتمال، فتنشق أمعاؤها وتهلك، كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حِلِّها ويمنع ذا الحق حقَّه يهلك في الآخرة بدخوله النار.
وأما مَثَلُ المقتصد فقوله [: «إلا آكلة الْخَضِر» بما وصفها به، وذلك أن الْخَضِرَ ليست من أحرار البقول التي يُنْبتها الربيع، ولكنها من الْجَنْبَة التي ترعاها المواشي بعد هَيْج البقول، فضرب [ آكلةَ الخضِر من المواشي مثلاً لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجَمْعها، ولا يَحْمله الحرصُ على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وَبَالها كما نَجَتْ آكلةُ الخضِر، ألا تراه قال [: «فإنها إذا أصابَتْ من الْخَضِرِ استقبلت عينَ الشمس فَثَلَطَتْ وبالت» أراد أنها إذا شبعت منها بَرَكَتْ مستقبلةَ الشمس تستمرىء بذلك ما أكَلَتْ وتجترُّ وتَثْلِط، فإذا ثَلَطته فقد زال عنها الْحَبَط، وإنما تَحْبَطُ الماشيةُ لأنها لا تثلِطُ ولا تبول، فهذا المثل يضرب في النهي عن الإفراط.
قال ابن حجر: «ويؤخذ منه أن الرزق ولو كثر فهو من جملة الخير، إنما يعرض له الشر بعارض البخل به عمن يستحقه، والإسراف في إنفاقه فيما لم يشرع، وأن كل شيء قضى الله أن يكون خيرا فلا يكون شرا وبالعكس، ولكن يخشى على من رزق الخير أن يعرض له في تصرفه فيه ما يجلب له الشر».
وفيه أن المكتسب للمال من غير حله لا يبارك له فيه لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع، وفيه ذم الإسراف وكثرة الأكل والنهم فيه، وأن اكتساب المال من غير حله، وكذا إمساكه عن إخراج الحق منه سبب لمحقه فيصير غير مبارك كما قال تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}، وقال [:» إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى « متفق عليه.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (7) الحق كالزيت يطفو دائما
د.وليد خالد الربيع
الناظر في أدبيات الأمم وثقافات الشعوب يجد أقوالا وأمثالا وجيزة الألفاظ عميقة المعاني، تدل على حكمة ورشد، وتوافق المبادئ الإسلامية والمعاني الشرعية التي وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة ولا تخالفها، ومن ذلك المثل القائل: «إن الحق كالزيت يطفو دائما»، أي أن الحق دائما يعلو على ما سواه.
فالحق نقيض الباطل، يقال: حق الأمر أي وجب وثبت وصار حقا، فالحق هو الثابت الواجب والصحيح ، ويقابل الحق (الباطل) وهو ما لا ثبات له عند الفحص والتمييز، يقال بطل الشيء: فسد وسقط حكمه.
والحق له إطلاقات ؛ فالحق من أسماء الله الحسنى قال عز وجل: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين}، ومعنى هذا الاسم: أن الله عز وجل هو الحق في ذاته وأسمائه وصفاته، فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء إلا به.
كما أن الإسلام هو دين الحق قال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} قال ابن سعدي: «فكان ما بعث الله به محمدا [ مشتملا على بيان الحق من الباطل في أسماء الله وأوصافه وأفعاله وفي أحكامه وأخباره والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب والأرواح والأبدان، من إخلاص الدين لله وحده ومحبة الله وحده وعبادته، والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والأعمال الصالحة والآداب النافعة، والنهي عن كل ما يضاد ذلك ويناقضه من الأخلاق والأعمال السيئة المضرة للقلوب والأبدان والدنيا والآخرة ».
كما يطلق الحق على القول أو الفعل الموافق للصواب والحكمة كما في قوله تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق}.
وحيث إن الحق والباطل ضدان، والضدان لا يجتمعان، صار التدافع بينهما أمرا لازما وحتميا؛ لأن ثبات أحدهما يقتضي زوال الآخر أو إضعافه، ولهذا تعذر وجودهما معا دون غلبة أحدهما على الآخر.
وقد بين الله عز وجل أن للباطل قوة تحميه وتدافع عنه كما قال تعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون}، وقرر تبارك وتعالى أن قوة الكفر والضلال لا تفتر حتى تزيل الحق وأتباعه من أرض الواقع كما قال عز وجل: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون}، وبشرنا الله تعالى بأنه ينصر الحق وأهله فقال: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} وقال: {ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون}، وقال النبي [: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» رواه البيهقي، وحسنه الشيخ الألباني في الإرواء، فهذا المثل المذكور موافق لما قررته الأدلة الشرعية والقواعد الدينية، وهو كلمة حكيمة تبشر أصحاب الحق بالرفعة والتمكين في الدنيا والآخرة بإذن الله.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (8) إنما شفاء العيّ السؤال
د.وليد خالد الربيع
من الحكم النبوية النفيسة، والتوجيهات الدينية العميقة ما جاء في حديث أبي داود عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه:هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله[ أخبر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده».
قوله: العي بكسر العين هو التحير في الكلام، وأيضا العي: الجهل، فمعنى هذه العبارة الحكيمة كما قال شراح الحديث: «أي لِمَ لَمْ يسألوا حين لم يعلموا؛ لأن شفاء الجهل السؤال»، فهذا الحديث يدل على أمور كثيرة من الفوائد الفقهية والسلوكية منها:
- الأول: خطورة الجهل وعظيم ضرره على المسلمين أفرادا ومجتمعات.
الجهل ـ وهو عدم العلم ـ عموما، والجهل بأحكام الشريعة على وجه الخصوص من الأمور المذمومة التي لها آثار خطيرة على الأفراد والمجتمعات، وقد جاءت نصوص كثيرة في ذم الجهل والتحذير من آثاره، منها قوله تعالى: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} قال ابن القيم: «إن الله تعالى وصف أهل النار بالجهل، وأخبر بأنه سد عليهم طريق العلم، ثم ذكر الآية وقال: «فأخبروا أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون، والسمع والعقل هما أصل العلم وبهما ينال».
وقال جل شأنه: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} قال ابن القيم: «فأخبر سبحانه أنهم لم يحصل لهم علم من جهة من جهات العلم الثلاث وهي العقل والسمع والبصر، فقد وصف سبحانه أهل الشقاء بعدم العلم، وشبههم بالأنعام تارة، وتارة بالحمار الذي يحمل الأسفار، وتارة جعلهم أضل من الأنعام، وتارة جعلهم شر الدواب عنده، وتارة جعلهم أمواتا غير أحياء، وتارة أخبر بأنهم في ظلمات الجهل والضلال، وتارة أخبر بأن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا وعلى أبصارهم غشاوة، وهذا كله يدل على قبح الجهل وذم أهله وبغضه لهم، كما أنه يحب أهل العلم ويمدحهم ويثني عليهم ».
ومن النصوص قوله تعالى: «إن بين يدي الساعة أياما يرفع فيها العلم، وينزل فيها الجهل، ويكثر فيها الهرج - الهرج: القتل» متفق عليه، وقال ابن مسعود: «قراؤكم وعلماؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤوسا جهالا يقيسون الأمور برأيهم»، وقال أبوالدرداء: «ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون، تعلموا قبل أن يرفع العلم، فإن رفع العلم ذهاب العلماء».
قال ابن القيم:» الجهل نوعان: جهل علم ومعرفة، وجهل عمل وغي، وكلاهما له ظلمة ووحشة في القلب، وكما أن العلم يوجب نورا وأنسا، فضده يوجب ظلمة ويوقع وحشة، وقد سمى الله تعالى العلم الذي بعث به رسوله نورا وهدى وحياة، وسمى ضده ظلمة وموتا وضلالا، قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}، وقال تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}.
- الثاني: أهمية السؤال لتحصيل العلم والخروج من الجهل:
مما يستفاد من هذا الحديث ما قاله ابن القيم: «جعل النبي [ الجهل داء، وجعل دواءه سؤال العلماء»، فالجهل من أخطر الأمراض القلبية التي لها آثار خطيرة تظهر في دين الشخص وسلوكه؛ لذا كان العلم سبيلا متعينا لرفع الجهل كما قال الإمام أحمد: «الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه»، وطلب العلم له سبل شتى منها سؤال أهل العلم المؤهلين، وهنا ننبه إلى أمور ضرورية منها:
- أولا: لابد من سؤال المؤهلين علميا للإجابة:
يظن بعض الناس أن كل من انتسب إلى الدين بصفة ما ـ كإطلاق لحيته أو تقصير ثوبه أو محافظته على العبادة ـ أنه أهل للسؤال عن الأمور الشرعية، وهو قادر على الإجابة عنها، وهذا أمر غير صحيح، لأن الأجوبة الدينية هي بيان شرع الله تعالى وإخبار عن أحكامه، فلابد أن يكون الشخص عالما بما يقول، مستندا إلى حجة شرعية في ذلك، فالله تبارك وتعالى يأمر بسؤال أهل الاختصاص فقال: {وما أرْسلْنا مِنْ قبْلِك إِلا رِجالا نُوحِي إِليْهِمْ فاسْألُوا أهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تعْلمُون}.
ومن أجاب بغير علم يخشى عليه الوقوع في الكذب على الله تعالى، وذلك من أخطر الأمور، قال: تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون}، وقال رسول الله[: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» متفق عليه، قال النووي: «معناه: أنه يموت حملته ـ أي العلم ـ ويتخذ الناس جهالا يحكمون بجهالاتهم، فيَضِلون ويُضِلون»، وقال الشاطبي:« ودل هذا الحديث على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل العلماء، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم، فتؤتى الناس من قبله»، قال عمر:«من سوده قومه على فقه كان حياة له ولهم، ومن سوده قومه على غير فقه كان هلاكا له ولهم».
- ثانياً: لابد من حسن السؤال وحسن الإنصات للجواب:
يقوم بعض السائلين بعرض أسئلتهم بطريقة غامضة أو مملة أو منفرة فلا يحصل على الجواب المناسب، كما أن بعض السائلين لا يحسن الاستماع للجواب ولا يفهم ما يجاب به عن سؤاله، فتفوته الفائدة من هاتين الجهتين، قال ابن القيم: «للعلم ست مراتب: أولاها: حسن السؤال، الثانية: حسن الإنصات والاستماع، الثالثة: حسن الفهم، الرابعة: الحفظ، الخامسة: التعليم، السادسة: وهي ثمرته وهي العمل به ومراعاة حدوده، فمن الناس من يحرمه لعدم سؤاله، إما لأنه لا يسأل بحال، أو يسأل عن شيء وغيره أهم منه، كمن يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها، ويدع ما لا غنى له عن معرفته، وهذه حال كثير من جهال المتعلمين، ومن الناس من يحرمه لسوء إنصاته، فيكون الكلام والمماراة آثر عنده وأحب إليه من الإنصات، وهذه آفة كامنة في كثير من النفوس الطالبة للعلم، وهي تمنعهم علما كثيرا ولو كانوا حسني الفهم».
والخلاصة أن قول النبي [: «إنما شفاء العي السؤال» حكمة بالغة ترشد إلى معان جليلة جديرة بالتأمل والعمل، وعلى المسلم أن يتخذها نبراسا له في شؤونه الدينية والدنيوية.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (9)السنابلة الفارغـة تشمخ برأسها عالياً
د.وليد خالد الربيع
من الآفات الاجتماعية الخطيرة، والمظاهر السلوكية المقيتة، ما يقوم به بعض الناس من استكبار وتعاظم ؛ فتجده مزهوا بنفسه، يختال في مشيته تيها، يجر أذياله كبرا، قد استطال عجبا، ونأى بجانبه تعاظما، ينظر إلى غيره شزرا، وهي حالة بغيضة تستجلب كراهية الناس ومقتهم، فإذا كان المتكبر خاليا من أسباب الكبر كالغنى والحسب والنسب والعلم ـ مع أن ذلك لا يسوغ الكبرـ كان الاستكبار أقبح وأبشع وأفظع.
وسبب الكبر جهل الإنسان بنفسه وبربه، ولهذا فإن من الأقوال الحكيمة قولهم: (السنابلة الفارغة تشمخ برأسها عاليا)، فالسنابل التي حملت الحب تميل برؤوسها تواضعا لثقل ما تحمل، أما السنابل التي خلت من الحب ولم تنوء بحمل شيء فإنها ترتفع عاليا، وكذلك فإن من عرف حقيقة نفسه في بدايتها ونهايتها ومصيرها، وعرف آفاتها وأمراضها، وعرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وفضله وإحسانه، تواضع وتطأطأ، وتجافى عن مقاعد الكبر، ونأى عن مذاهب العجب، أما الجاهل فإنه لخفة عقله ونقص علمه وضعف تمييزه يتعالى ويتعاظم ويتكبر كالسنبلة الخالية.والكبر آفة خطيرة، ومرض عضال، يستجلب كل خلق ذميم، ويفوت كل خلق محمود. قال ابن حجر:«الكبر الحالة لتي يختص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره، وأعظم ذلك أن يتكبر على ربه بأن يمتنع من قبول الحق والإذعان له بالتوحيد والطاعة». ويكفي الكبر والمستكبرين ذما أن الله تعالى وصف في كثير من الآيات المعرضين عن دينه المعارضين لرسله (بالاستكبار) كما قال عز وجل: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه}، وقال سبحانه: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق}، وقال عز وجل: {إنه لا يحب المستكبرين}، وآيات كثيرة في ذم الكبر والمستكبرين. وأما الأحاديث فكثيرة، منها حديث ابن مسعود أن النبي [ قال:« لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة»، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس» أخرجه مسلم، قال النووي: «غمط الناس: معناه احتقارهم، أما بطر الحق فهو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا» إلى أن قال: «هذا الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف وهو الارتفاع على الناس واحتقارهم ودفع الحق». وعن حارثة بن وهب أنه سمع النبي [ قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة ؟» قالوا: بلى، قال:«كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره»، ثم قال:«ألا أخبركم بأهل النار؟» قالوا:بلى، قال: «كل عتل جواظ مستكبر» متفق عليه قال النووي:« متضعف معناه: متواضع متذلل خامل واضع من نفسه، قال القاضي:وقد يكون الضعف هنا: رقة القلوب ولينها وإخباتها للإيمان، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء، كما أن معظم أهل النار القسم الآخر، وليس المراد الاستيعاب في الطرفين» ، والعتل: الجافي الفظ الغليظ شديد الخصومة، والجواظ فهو الجموع المنوع وقيل: كثير اللحم المختال في مشيته، والمستكبر: فهو صاحب الكبر. وحديث البخاري أن النبي [ قال: « بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجل جمته ـ الجمة هي مجتمع الشعر إذا تدلى من الرأس إلى المنكبين ـ إذ خسف الله به، فهو يتجلجل ـ أي ينزل في الأرض مضطربا متدافعا ـ إلى يوم القيامة». وعن ابن عمرو أن النبي [ قال:«كلوا وتصدقوا وألبسوا في غير إسراف ولا مخيلة» أخرجه النسائي وحسنه الألباني، قال العلماء: « هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة، فإن السرف في كل شيء يضر بالجسد، ويضر بالمعيشة فيؤدي إلى الإتلاف، ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب، وتضر بالآخرة حيث تكسبها الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس». ومما يتناول الصورة التي ذكرت في المقال ما جاء عن أبي هريرة أن رسول الله[ قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر» أخرجه مسلم، وفي رواية النسائي التي صححها الألباني: «أربعة يبغضهم الله عز وجل: البياع الحلاف، والفقير المختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر»، قال القاضي عياض مبينا سبب الوعيد المذكور في الحديث: «سببه أن كل واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه، وعدم ضرورته إليها، وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يعذر أحد بذنب « إلى أن قال:«وكذلك العائل الفقير قد عدم المال، وإنما سبب الفخر والخيلاء والتكبر والارتفاع على القرناء (الثروة في الدنيا ) لكونه ظاهرا فيها، وحاجات أهلها إليه، فإذا لم يكن عنده أسبابها فلماذا يستكبر ويحتقر غيره؟ فلم يبق فعله وفعل الشيخ الزاني والإمام الكاذب إلا لضرب من الاستخفاف بحق الله تعالى والله أعلم». قال بعض العلماء: «التواضع في الخلق كلهم حسن، وفي الأغنياء أحسن، والكبر في الخلق كلهم قبيح، وفي الفقراء أقبح «. قال أبوعلي الجوزجاني:« النفس معجونة بالكبر والحرص والحسد، فمن أراد الله تعالى هلاكه منع منه - أي لم يوفقه -التواضع والنصيحة والقناعة، وإذا أراد الله تعالى به خيرا لطف به في ذلك، فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى، وإذا هاجت نار الحسد في نفسه أدركتها النصيحة مع توفيق الله عز وجل، وإذا هاجت في نفسه نار الحرص أدركتها القناعة مع عون الله عز وجل».قال مالك بن دينار: «إذا طلب العبد العلم ليعمل به كسره - أي ألزمه التواضع - وإذا طلبه لغير العمل زاده فخرا ». فعلى المسلم أن يكون متواضع النفس، خافض الجناح، دمث الطباع، رضي الأخلاق، لين الجانب، أسلس من الماء، وألين من العهن، يستعين على ذلك بسؤال الله تعالى والاستعانة به وصدق اللجوء إليه، مع أخذ نفسه بالمجاهدة والدربة، والله الموفق لكل خير.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (10) أليــس الصبـح بقـريب
د.وليد خالد الربيع
ختم الله عز وجل قصة لوط عليه السلام مع قومه في سورة هود بقوله تعالى: {قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}.
قال الطاهر بن عاشور :» وجملة {إن موعدهم الصبح} مستأنفة ابتدائية قطعت عن التي قبلها اهتماما وتهويلا، والموعد: وقت الوعد. والوعد أعم من الوعيد فيطلق على تعيين الشر في المستقبل، والمراد بالموعد هنا موعد العذاب الذي علمه لوط عليه السلام إما بوحي سابق، وإما بقرينة الحال، وإما بإخبار من الملائكة في ذلك المقام طوته الآية هنا إيجازا، وبهذه الاعتبارات صح تعريف الوعد بالإضافة إلى ضميرهم.
وجملة {أليس الصبح بقريب} استئناف بياني صدر من الملائكة جوابا عن سؤال يجيش في نفسه من استبطاء نزول العذاب، والاستفهام تقريري؛ ولذلك يقع في مثله التقرير على النفي إرخاء للعنان مع المخاطب المقرر ليعرف خطأه. وإنما قالوا ذلك في أول الليل»اهـ.
فهاتان الجملتان ختمت بهما القصة الكريمة لتكونا منطلقا لكل من وقع في ضيق أو كرب أو شدة، فطال عليه الليل، وضاقت عليه الأرض برحبها، فضعف احتماله، ونفر صبره، فتراه حائر الطرف، ذاهب القلب، قد تساقطت نفسه حسرة، وكادت تزهق روحه من الهلع، وأوشك أن يقضى عليه من الغم، فتاتي مثل هذه المبشرات من الله عز وجل في كتابه الكريم وسنته نبيه [ لتفرج الهموم، وتهون الكروب، وتنفخ في النفوس الآمال، وتذكر بأن أشدّ ساعات الليل حلكةً هي تلك التي تسبق الفجر.
فمن أعظم البشائر القرآنية قوله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} قال الشيخ ابن سعدي : «بشارة عظيمة، أنه كلما وجد عسر وصعوبة، فإن اليسر يقارنه ويصاحبه، حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه.
وتعريف «العسر» في الآيتين ما يدل على أنه واحد، وتنكير «اليسر» يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين، وفي تعريفه بالألف واللام الدالة على الاستغراق والعموم يدل على أن كل عسر ـ وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ ـ فإنه في آخره التيسير ملازم له.»اهـ.
وفي الموطأ أن أبا عبيدة بن الجراح كتب إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر:» أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين». وروي عن ابن عباس: «يقول الله تعالى:خلقت عسرا واحدا وخلقت يسرين ولن يغلب عسر يسرين».
ومن المبشرات القرآنية قوله عز وجل: {سيجعل الله بعد عسر يسرا}، قال الطاهر بن عاشور : «وهذا الكلام خبر مستعمل في بعث الترجي وطرح اليأس عن المعسر من ذوي العيال، ومعناه: عسى أن يجعل الله بعد عسركم يسرا لكم فإن الله يجعل بعد عسر يسرا. «اهـ.
وفي السنة المطهرة أيضا مبشرات وأسباب لتفريج الكربات منها حسن الظن بالله والتوكل عليه، فعن ابن مسعود قال : قال رسول الله [ : «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
وقال [ :»جف القلم بما هو كائن، فلو أنّ الخلق كلهم جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا» خرّجه الترمذي.
ومن ذلك الدعاء والتوجه إلى الله وحده، كما قالت أسماء بنت عميس: إن رسول الله [ قال لي: «ألا أعلمك كلمات تقولينها عند الكرب أو في الكرب؟ الله ربي لا أشرك به شيئًا» خرجه أبو داود وصححه الألباني.
وكان رسول الله [ يقول عند الكرب:»لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم» متفق عليه. وقال [: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت» خرجه أبو داود وحسنه الألباني.
قال أنس : كان رسول الله [ إذا كربه أمر يقول: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» أخرجه الإمام الترمذي.
ويقول ابن مسعود: إن رسول الله [ قال: «ما أصاب أحدا قطٌ هم ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله به فرحًا، فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ قال: بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها» خرجه الإمام أحمد في مسنده وقال شاكر: «إسناده صحيح».
فقرب الفرج ودنو الأمل سنة من الله تحمل البشرى لكل مسلم، قال مالك بن دينار قبل موته : «ما أقرب النعم من البؤس، يعقبان ويوشكان زوالا « أي لا شيء يدوم، فالنعم والبؤس مؤقتان ومتعاقبان.
وقال ابن رجب: «ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب، واليسر بالعسر، أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى، وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين، تعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أكبر الأسباب التي تطلب بها الحوائج؛ فإن الله تعالى يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}» اهـ
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (11)أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك
د.وليد خالد الربيع
أداء الأمانة، والوفاء بالوعد، وحفظ العهد، وصدق الحديث، وخفض الجانب، ونحوها من الشمائل المحمودة، والأخلاق الكريمة، التي جاء الإسلام لترسيخها في النفوس، وتأصيلها في القلوب، لتزكو بها أحوال المؤمنين، ويشيع الود والإخاء في مجتمع المسلمين، في حين أن خلو الإنسان من هذه المكارم يفسح المجال لنقيضها من الخيانة والغدر والكذب والكبر ونحوها من الرذائل والقبائح التي تدنس النفوس، وتفتح باب المعاصي والقطيعة واختلال الأمن في المجتمع .
فمن القيم الإسلامية الأصيلة، التي أمر بها الإسلام، وحث المسلمين على التحلي بها مع الناس جميعا، المسلم منهم وغير المسلم، ونهى عن ضدها، وحذر منه أشد التحذير ( أداء الأمانة )، وهي من أول المبادئ التي دعا إليها النبي [ كما جاء في حديث أبي سفيان قبل إسلامه مع هرقل لما سأله : فماذا يأمركم؟ فقال أبو سفيان: «يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والوفاء بالعهد وأداء الأمانة» أخرجه البخاري2941.
- والأمانة معنى واسع، ومفهوم شامل لأنواع عديدة من التكاليف كما ذكر ابن الجوزي وغيره أن الأمانة في القرآن على ثلاثة أوجه:
- أحدها : الفرائض، ومنه قوله عز وجل: {يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم}، والثاني : الوديعة، ومنه قوله عز وجل: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، والثالث : العفة والصيانة، ومنه قوله عز وجل: {إن خير من استأجرت القوي الأمين}، وقال القرطبي: «الأمانة تعم جميع وظائف الدين».
وقد ورد في شأن حفظ الأمانة وأدائها نصوص كثيرة منها:
قوله عز وجل: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، وقد اختلف من المخاطب بها إلا أن القرطبي اختار أنها عامة في جميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات. وهذا اختيار الطبري. وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه؛ والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة الله تعالى.
وممن قال: إن الآية عامة في الجميع، البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب، قالوا: الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع، وقال ابن عباس: لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة». وقال عز وجل : {فليؤد الذي اؤتمن أمانته}.
وقال [: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم» أخرجه أحمد وصححه الألباني.
وقال [: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» أخرجه أحمد وصححه الألباني، وقال عمر رضي الله عنه: «لا يغرنك صلاة امرئ ولا صيامه، من شاء صلى ومن شاء صام، ولكن لا دين لمن لا أمانة له «.
وقال [ : «تقبلوا لي بست أتقبل لكم بالجنة؛ إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا اؤتمن فلا يخن، غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم» أخرجه الحاكم وصححه الألباني .
وجاء في حديث مسلم الطويل قال [: «يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة»... إلى أن قال :«وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا...» الحديث، قال النووي: «لعظم أمرهما وكثير موقعهما».
والأمانة مكانها قلوب المؤمنين كما قال حذيفة: إن رسول الله [ حدثهم أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة»، وهي أول ما يفقد من صفات المؤمنين كما قال [: «أول ما تفقدون من دينكم الأمانة».
- وللأمانة أحكام عدة في الفقه الإسلامي، منها:
1- أخذ الأمانة مباح لمن قدر على الحفظ والأداء، وقيل: يستحب؛ لقوله عز وجل: {وتعاونوا على البر والتقوى}، وقد يجب الأخذ عند خوف هلاك الوديعة أو ضياعها لأن مال الغير واجب الحفظ لقوله [ في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» متفق عليه.
وقد يحرم الأخذ لمن يعجز عن الحفظ أو لا يثق بأمانة نفسه إذ في ذلك تعريض للمال للهلاك.
2- يجب المحافظة على الأمانة من الودائع وغيرها، قال ابن سعدي: «وقد ذكر الفقهاء على أن من اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرز مثلها، قالوا: لأنه لا يمكن أداؤها إلا بحفظها؛ فوجب ذلك».
3- الأمين يضمن بالجحود أو التعدي أو التفريط؛ ولا يضمن إذا تلفت دون تعد أو تفريط، لقوله [: «لا ضمان على مؤتمن» أخرجه البيهقي وحسنه الألباني.
4- وجوب الرد عند الطلب، قال القرطبي: «وهذا إجماع، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار؛ قاله ابن المنذر»؛ للآية الكريمة ولقوله [: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك».
وهذا الحكم واجب في حق المسلم ولو ظلم، فليس له أن يعاقب غيره بالخيانة لأنها محرمة لحق الله تعالى، ولهذا الحديث الذي قال عنه الترمذي: «وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا وقالوا: إذا كان للرجل على آخر شيء فذهب به أي أخذه بغير حق فوقع له عنده شيء أي صار للمظلوم شيء للظالم فليس له أن يحبس عنه بقدر ما ذهب له عليه»، يؤيده ما ورد َفِي الْمُسْنَدِ عَنْ بَشِيرِ بْنِ الخصاصية أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لَنَا جِيرَانًا لا يَدَعُونَ لَنَا شَاذَّةً وَلا فَاذَّةً إلا أَخَذُوهَا، فَإِذَا قَدَرْنَا لَهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَنَأْخُذُهُ؟ قَالَ: «لا، أَدِّ الأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَك».
والخيانة من أقبح الصفات، وكان النبي [ يستعيذ بالله منها فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة «، ولا يخفى أن الخيانة من خصال النفاق وصفات المنافقين كما قال [: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» متفق عليه.
فحري بالمسلم الحق أن يكون صادق الوعد، كريم العهد، وثيق الذمة، يحفظ الأمانة، ويؤدي الحقوق، ويقوم بالمواثيق، ويرعى الحرمات، قال بعض العلماء: «خلق الله الدنيا كالبستان، وزينها بخمسة أشياء: بعلم العلماء، وعدل الأمراء، وعبادة الصالحين، ونصيحة المستشار، وأداء الأمانة، فقرن إبليس مع العلم الكتمان، ومع العدل الجور، ومع العبادة الرياء، ومع النصيحة الغش، ومع الأمانة الخيانة» فتأمل.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (12)من يذهب مع الذئاب يتعلم العواء
د.وليد خالد الربيع
هذه الحكمة الموجزة تنبئ عن سمة بشرية، وطبيعة إنسانية، دل عليها الشرع والواقع، وأكدتها الدراسات النفسية والسلوكية المتعددة، وهي أن الطبع يُـعدي، والأخلاق تـُكتسب من البيئة التي يعيش فيها الإنسان؛ لذا جاءت النصوص الشرعية والأقوال التربوية تقرر ضرورة مصاحبة الأخيار، ولزوم اجتناب الأشرار.
فمن الآيات قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} قال ابن كثير :«أي من شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا، وأعماله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعا له ولا محبا طريقته ولا تغبطه بما هو فيه»اهـ.
وقال تعالى: {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا}، قال ابن كثير: «أي أعرض عن الذي أعرض عن الحق وهجره، وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا فذاك هو غاية ما لا خير فيه»اهـ.
يعلل الراغب الأصفهاني هذه الحكمة الشرعية والضرورة الاجتماعية بقوله : «حق الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار، فهي قد تجعل الشرير خيّـرا، كما أن مصاحبة الأشرار قد تجعل الخيـّر شريرا، قال بعض الحكماء : من جالس خيـّرا أصابته بركته، فجليس أولياء الله لا يشقى وإن كان كلبا ككلب أصحاب الكهف، حيث قال تعالى: {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد}؛ ولهذا أوصت الحكماء بمنع الأحداث من مجالسة السفهاء، وقال أمير المؤمنين ] :» لا تصحب الفاجر فيزين لك فعله» ، وقيل : جالسوا من تذكركم الله رؤيته، ويزيد في خيركم نطقه، وقالوا: إياك ومجالسة الشرير؛ فإن طبعك يسرق من طبعه وأنت لا تدري»اهـ.
وفي الحديث : عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله [ : «مثل الجليس الصالح والجليس السوء: كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير : إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة» متفق عليه.
قال النووي مبينا فوائد الحديث : «وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر والبدع ومن يغتاب الناس، أو يكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة».
قال ابن سعدي : «اشتمل هذا الحديث على اختيار الأصحاب الصالحين، والتحذير من ضدهم، ومثل النبي [ بهذين المثالين، مبينا أن الجليس الصالح جميع أحوالك وأنت معه في مغنم وخير، كحامل المسك الذي تنتفع بما معه من المسك : إما بهبة أو بعوض، وأقل ذلك مدة جلوسك معه وأنت قرير النفس برائحة المسك.
فالخير الذي يصيبه العبد من جليسه الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر؛ فإنه إما أن يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك، أو يهدي لك نصيحة، أو يحذرك من الإقامة على ما يضرك، فيحثك على طاعة الله وبر الوالدين وصلة الأرحام، ويبصرك بعيوب نفسك، ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها بقوله وفعله وحاله؛ فإن الإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه، والطباع والأرواح جنود مجندة، يقود بعضها بعضا إلى الخير أو إلى ضده.
وأما مصاحبة الأشرار، فإنها بضد جميع ما ذكرنا، وهم مضرة من جميع الوجوه على من صاحبهم، وشر على من خالطهم، فكم هلك بسببهم أقوام، وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون؛ ولهذا كان من أعظم نعم الله على العبد المؤمن أن يوفقه لصحبة الأخيار، ومن عقوبته لعبده أن يبتليه بصحبة الأشرار»اهـ.
ومن الأحاديث قوله [ : «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي» أخرجه أبو داود والترمذي، قال شراح الحديث : «المراد النهي عن مصاحبة الكفار والمنافقين؛ لأن مصاحبتهم مضرة في الدين، فالمراد بالمؤمن جنس المؤمنين».
وقال تعالى: «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» أخرجه أبو داود والترمذي، قال شراح الحديث: «أي يتأمل ويتدبر من يخالل، فمن رضي دينه وخلقه خالّه، ومن لا، تجنبه؛ فإن الطباع سراقة».
وقد ذهب الراغب الأصفهاني إلى غاية أبعد في بيان خطورة مصاحبة الأشرار موضحا أن التأثر بهم قد يحصل من مجرد النظر، فقال :«وليس إعداء الجليس جليسَهُ خلقه بمقاله وفعاله فقط، بل وبالنظر إليه، فالنظر في الصور يؤثر في النفوس أخلاقا مناسبة إلى خلق المنظور إليه؛ فإن من دام نظره إلى مسرور سر، ومن دام نظره إلى محزون حزن، وذلك ليس في الإنسان فقط، بل في الحيوان وسائر النبات؛ فإن الجمل الصعب قد يصير ذلولا بمقارنة الذلول، والذلول يصير صعبا بمقارنة الصعب، والريحانة الغضة تذبل بمقارنة الذابلة؛ ولهذا يلقط أصحاب الفلاحة الرمم عن الزروع لئلا تفسدها، ومعلوم أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة إذا قربت منهما، وذلك مما لا ينكره ذو تجربة، وإذا كانت هذه الأشياء قد بلغت في قبول التأثير هذا المبلغ، فما الظن بالنفوس البشرية التي موضوعها لقبول صور الأشياء خيرها وشرها، فقد قيل: سمي الإنس إنسا؛ لأنه يأنس بما يراه إن خيرا وإن شرا»اهـ.
ومن أضرار صحبة الأشرار ما قد يلحق المرء من سوء السمعة كما يقول أبو حاتم البستي : «العاقل يلزم صحبة الأخيار، ويفارق صحبة الأشرار ؛ لأن مودة الأخيار سريع اتصالها، بطيء انقطاعها، ومودة الأشرار سريع انقطاعها، بطيء اتصالها، وصحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار، ومن خادن الأشرار لم يسلم من الدخول في جملتهم.
فالواجب على العاقل أن يجتنب أهل الريب؛ لئلا يكون مريبا، فكما أن صحبة الأخيار تورث الخير، كذلك صحبة الأشرار تورث الشر. قال مالك بن دينار : «إنك أن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص ـ نوع من الحلوى ـ مع الفجار».
وقال أبو حاتم : «العاقل لا يدنس عرضه، ولا يعوّد نفسه أسباب الشر بلزوم صحبة الأشرار، ولا يغضي عن صيانة عرضه ورياضة نفسه بصحبة الأخيار». وينقل عن أبي الدرداء أنه قال:» لَصاحب صالح خير من الوحدة، والوحدة خير من صاحب السوء، ومملي الخير خير من الساكت، والساكت خير من مملي الشر».
قال أبو سليمان الداراني : «لا تصحب إلا أحد رجلين : رجلا ترتفق به في أمر دنياك أو رجلا تزيد معه وتنتفع به في أمر آخرتك، والاشتغال بغير هذين حمق كبير». فحري بالمسلم أن ينتقي أصدقاءه فيفر من كل ذميم الأخلاق، منغمس في الآثام، مولع بالسوء، متهافت على المنكر، سريع إلى الشر بطيء عن الخير.
ويحرص على رفقة كل برّ، محمود الجوار، جميل السيرة، حسن المذهب، محمود الطريقة، طيب السريرة، من أهل الخير، وعليه شارة أهل الصلاح، والله الموفق.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (13) ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله
د.وليد خالد الربيع
تقرر هذه الآية الكريمة حكمة قرآنية، وسنة ماضية، وحكما عادلا من الله تعالى وهو: «الجزاء من جنس العمل»؛ فمن عمل صالحا مخلصا لله لقي جزاء ذلك في الدنيا والآخرة بإذن الله تعالى، ومن عمل سيئة استحق العقوبة في الدنيا والآخرة إلا أن يعفو الله تعالى عنه.
والمكر بالناس وخديعتهم من جملة الأعمال السيئة التي نهى الله تعالى عنها وبين سوء مآلها وخطورة آثارها، وأكد أن عقوبتها من جنسها.
فالمكر في لغة العرب يدور حول الاحتيال والخداع كما قال ابن فارس، وقال الطبري: «وأما المكر فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالغدر ليورطه الماكر به مكروها من الأمر» اهـ.
وأما في الاصطلاح فقد فرق كثير من العلماء بين المكر المضاف إلى الله تعالى والمكر الواقع من الخلق، كما قال الجرجاني في التعريفات: «المكر من جانب الحق تعالى: هو إرداف النعم مع المخالفة، وإبقاء الحال مع سوء الأدب، ومن جانب العبد: إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر»اهـ.
وقال الراغب مبينا أقسام المكر: «وذلك ضربان: مكر محمود وذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قال تعالى: {والله خير الماكرين}، ومذموم وهو أن يتحرى به فعلاً قبيحاً، قال تعالى: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}، {وإذ يمكر بك الذين كفروا}، وقال في الأمرين: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا}»اهـ.
وقال مبينا أن الجزاء من جنس العمل: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}.
ويوضح الشيخ ابن سعدي المراد بالمكر في هذه الآية فيقول : «الذي مقصوده مقصود سيئ ومآله وما يرمي إليه سيئ فمكرهم إنما يعود عليهم»، ويؤكد ابن كثير هذا المعنى بقوله: «ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم».
ويشير الشيخ الطاهر بن عاشور إلى ما اشتملت عليه هذه الآية من مواعظ وآداب فيقول : «فكم انهالت من خلال هذه الآية من آداب عمرانية ومعجزات قرآنية ومعجزات نبوية خفية»، ثم يفصل ذلك مبينا أن إضافة (مكر) إلى (السيئ) من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل: عشاء الآخرة. وأصله: أن يمكروا المكر السيئ بقرينة قوله: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}.
ويوضح أن المكر هو إخفاء الأذى، وهو سيئ؛ لأنه من الغدر، وهو مناف للخلق الكريم، فوصفه بالسيئ وصف كاشف، ولعل التنبيه إلى أنه وصف كاشف هو مقتضى إضافة الموصوف إلى الوصف لإظهار ملازمة الوصف للموصوف فلم يقل: ومكروا سيئا، ويبين سبب كون المكر هنا سيئا، وذلك لأنه مكر بالنذير وأتباعه، وهو مكر ذميم لأنه مقابلة المتسبب في صلاحهم بإضمار ضره، وجملة {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} تذييل أو موعظة.
ومعنى كلمة يحيق: أي : ينزل بشيء مكروه، يقال : حاق به، أي : نزل وأحاط إحاطة سوء، أي لا يقع أثره إلا على أهله، وفيه حذف مضاف تقديره: ضر المكر السيئ أو سوء المكر السيئ كما دل عليه فعل (يحيق).
فإن كان التعريف في (المكر) للجنس كان المراد بأهله كل ماكر. وهذا هو الأنسب بموقع الجملة ومحملها على التذييل ليعم كل مكر وكل ماكر، فيدخل فيه الماكرون بالمسلمين من المشركين، فيكون القصر الذي في الجملة قصرا إدعائيا مبنيا على عدم الاعتداد بالضر القليل الذي يحيق بالممكور به بالنسبة لما أعده الله للماكر في قدره من ملاقاة جزائه على مكره، فيكون ذلك من النواميس التي قدرها القدر لنظام هذا العالم؛ لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض، والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض؛ لأن الإنسان مدني بالطبع، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضا تنكر بعضهم لبعض، وتبادروا الإضرار والإهلاك ليفوز كل واحد بكيد الآخر قبل أن يقع فيه، فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم والله لا يحب الفساد ولا ضر عبيده إلا حيث تأذن شرائعه بشيء؛ ولهذا قيل في المثل: «وما ظالم إلا سيبلى بظالم»، قال الشاعر:
ولكل شيء آفة من جنـسـه
حتى الحديد سطا عليه المبرد
وكم في هذا العالم من نواميس مغفول عنها، وقد قال الله تعالى: {والله لا يحب الفساد}، وفي كتاب ابن المبارك في الزهد بسنده عن الزهري: بلغنا أن رسول الله [ قال : «لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله يقول {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}»، ومن كلام العرب : «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا»، ومن كلام عامة أهل تونس: يا حافر حفرة السوء ما تحفر إلا قياسك «اهـ.
وأما نتيجة ذلك المكر الباطل فهو العقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور} قال الطبري : «والذين يكسبون السيئات لهم عذاب جهنم»، وقال ابن سعدي: «أي: يهلك ويضمحل ولا يفيدهم شيئا لأنه مكر بالباطل لأجل الباطل».
وقال محمد بن كعب القرظي: «ثلاث من فعلهن لم ينج حتى ينزل به مكر أو بغي أو نكث، وتصديقها في كتاب الله تعالى {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}، {إنما بغيكم على أنفسكم}، {ومن نكث فإنما ينكث على نفسه}».
وقد وردت بعض الأحاديث في التحذير من المكر السيئ، فعن قيس بن سعد بن عبادة قال: «لولا أني سمعت رسول الله تعالى يقول: «المكر والخديعة في النار «لكنت من أمكر الناس» قال الشراح: «أي تدخل أصحابها النار»، وقيل: لا يكون صاحبهما تقيا ولا خائفا لله؛ لأنه إذا مكر غدر، وإذا غدر خدع، وذا لا يكون في تقي، وكل خلة جانبت التقى فهي في النار».
وعن أبي بكر عن النبي [ قال : «لا يدخل الجنة خِـبٌّ، ولا منان، ولا بخيل» أخرجه الترمذي، قال الشراح : «الخب ـ بفتح الخاء وكسرها ـ أي مخادع يفسد بين الناس بالخداع، أي : لا يدخل الجنة مع هذه الصفة حتى يجعل طاهرا منها إما بالتوبة في الدنيا، أو بالعقوبة بقدرها تمحيصا، أو بالعفو تفضلا وإحسانا»اهـ.
وبعد، فينبغي للمسلم أن يكون برّاً، وفياً، وثيق الذمة، صادق الوعد، كريم العهد، ثابت العقد، لا يخون ولا يغدر ولا يخفر، ويتجافى عن كل رذيلة ودنيئة، ولاسيما المكر والخداع وإيذاء الناس وانتهاك حرماتهم وأكل حقوقهم بغير حق، والله الموفق.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (14) تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقامة
د.وليد خالد الربيع
إكرام الجار خلق كريم أقره الإسلام، وزاد الاهتمام به بأن شرع له أحكاما وآدابا تضفي عليه صبغة العبودية لله تعالى عند القيام به، وذلك بربط الإحسان إلى الجار بالإيمان بالله عز وجل، وترتيب الأجر الجزيل على ذلك، ونفي الإيمان عمن يؤذي جيرانه، وغير ذلك من أحكام تجعل من القيام بحق الجار قربة تقرب المسلم إلى ربه عز وجل.
فمن الآيات التي توصي بالجار قوله عز وجل: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} قال القرطبي: «أما الجار فقد أمر الله عز وجل بحفظه والقيام بحقه والوصاية برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه ، ألا تراه سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين»، وقال أيضا: «فالوصاة بالجار مأمور بها، مندوب إليها، مسلما كان أم كافرا وهو الصحيح، والإحسان قد يكون بمعنى المواساة وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه».
ومن عظيم حق الجار على جاره أن الوحي تتابع لأجله، والوصاة به تكررت تأكيدا لحقه، وترسيخا لحفظ حرمته وذمته؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله [: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» أخرج البخاري ومسلم.
بل إنه [ جعل من كمال الإيمان إكرام الجار وكف الأذى عنه، فعن أبي شريح العدوي قال: سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي [ فقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»، وفي حديث آخر عن أبي هريرة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره»، وقال [: «وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا» أخرجه الترمذي.
وقد أكد النبي [ حق الجار بنفي الإيمان عمن لا يكف أذاه عن جاره ، فعن أبي شريح أن النبي [ قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قيل: من يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» والبوائق جمع بائقة وهي الداهية والشيء المهلك والأمر الشديد الذي يوافي بغتة.
وقال ابن بطال: «في هذا الحديث تأكيد حق الجار لقسمه [ على ذلك، وتكريره اليمين ثلاث مرات، وفيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل، ومراده الإيمان الكامل، ولا شك أن العاصي غير كامل الإيمان».
ولهذا فإن أذية الجيران سبب لورود النار؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: «هي في النار»، قال: يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها، وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: «هي في الجنة» أخرجه أحمد وأثوار الأقط: القطع من اللبن المجمد المجفف.
ولما كان التأذي من الجار سببا للشقاء والتعاسة وعدم الاستقرار في العيش والسكن فقد أمر [ بالتعوذ من ذلك بقوله: «تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقامة؛ فإن جار البادية يتحول عنك» أخرجه النسائي، وفي لفظ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ سُوءٍ فِي دَارِ إِقَامَةٍ، فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ» أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد، قال: المناوي في التيسير: «اللهم إني أعوذ بك من جار السوء» أي من شرّه «في دار المقامة» بضم الميم أي الوطن فإنه الشرّ الدائم والضرر الملازم (فإن جار البادية يتحوّل) فمدّته قصيرة فلا يعظم الضرر في تحملها.
قال الدكتور محمد لقمان السلفي في شرح الأدب المفرد: «دار المقامة: أي دار الإقامة؛ لأن الجار السيئ في دار الإقامة أحق بالاستغاثة منه لتتابع الأذى منه، ولا يزول عنه ظن الأذى في كل حال، وهي أشد من الأذى».
وقال [: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء» أخرجه ابن حبان.
والإحسان إلى الجار معنى كبير ينتظم أمورا كثيرة من المعروف والبر والصلة، قال الشيخ ابن أبي جمرة: «حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة، كالهدية والسلام وطلاقة الوجه عند لقائه وتفقد حاله ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية.
ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح، والذي يشمل الجميع إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى والدعاء له بالهداية وترك الإضرار له.
وقد بين [ أن مجال الإحسان للجار لا حد لأقله، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله [: «يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» أخرجه البخاري، قال ابن حجر: «أي: لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئا ولو أنها تهدي لها ما لا ينتفع به في الظاهر، ويحتمل أن يكون من باب النهي عن الشيء أمر بضده، وهو كناية عن التحابب والتوادد، فكأنه قال: لتوادد الجارة جارتها بهدية ولو حقرت، فيتساوى في ذلك الغني والفقير، وخص النهي النساء لأنهن موارد المودة والبغضاء ، ولأنهن أسرع انفعالا في كل منهما».
وقال [ مبينا حرص الإسلام على مشاركة الجار في أقل القليل تحقيقا للأخوة الإيمانية والتكافل الاجتماعي القائم على الحب في الله: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» وفي رواية: «ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصب منهم بمعروف» أخرجه مسلم.
وجاء في حديث معاذ قالوا: يا رسول الله ما حق الجار على الجار؟ فقال: «إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سرا، ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده» ذكره ابن حجر في فتح الباري 10/446.
وعلى المسلم أن يتحرى بإحسانه وبره أقرب الجيران إليه فالأقرب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: «إلى أقربهما منك بابا» أخرجه البخاري، وذلك لأن الأٌقرب من الجيران إلى الإنسان يرى ما يدخل بيت جاره من خيرات فيتشوف لها بخلاف الأبعد، وقيل: لأن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات ولا سيما في أوقات الغفلة والراحة فيستحب اختصاصه بالصلة والإحسان.
ولعظيم حق الجار فإن إثم المعصية في حقه والاعتداء عليه مضاعف، فعن أبي ظبية الكلاعي قال: سمعت المقداد بن الأسود يحدث أن النبي [ سألهم عن الزنى فقالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فقال: «لأن يزني الرجل بعشرة نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره، قال: وسألهم عن السرقة فقالوا: حرام حرمها الله ورسوله، فقال: «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره» أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
وقال [ لما سأله ابن مسعود: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قال: قلته له: إن ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» أخرجه الشيخان، قال النووي: «وذلك يتضمن الزنى وإفسادها على زوجها واستحالة قلبها إلى الزاني، وذلك أفحش وهو مع امرأة الجار أشد قبحا وأعظم جرما؛ لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه ويأمن بوائقه ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنى بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية القبح».
ولم تفرق نصوص الكتاب والسنة الآمرة بالإحسان إلى الجار بين الجار المسلم وغير المسلم، بل أطلقت الأمر بالإحسان لعموم الجيران ليشمل كل من تجاورت بيوتهم على اختلاف دياناتهم، إلا أن الجار المسلم تبقى له الأفضلية في المعاملة والإحسان والصلة لاجتماع حق الإسلام وحق الجوار في جواره للمسلم، قال ابن حجر: «واسم الجار يشمل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والغريب والبلدي، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب دارا والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد، وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك فيعطي كلا حقه بحسب حاله، وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوي».
وقد فهم الصحابة الكرام هذا المعنى وامتثلوه، فعن مجاهد أن عبد الله بن عمرو ذبحت له شاة في أهله فلما جاء قال: أهديهم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله [ يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» أخرجه الترمذي.
وجاء في الأثر: «الجيران ثلاثة: فجار له حق واحد وهو أدنى الجيران حقا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، فأما الذي له حق واحد فجار مشرك ولا رحم له، له حق الجوار، وأما الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم».
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (15) إن بعـض الظـن إثـم
د.وليد خالد الربيع
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}.
قال الطاهر بن عاشور: «وجملة {إن بعض الظن إثم} استئناف بياني لأن قوله: {اجتنبوا كثيرا من الظن}، يستوقف السامع ليتطلب البيان فاعلموا أن بعض الظن جرم، وهذا كناية عن وجوب التأمل في آثار الظنون ليعرضوا ما تفضي إليه الظنون على ما يعلمونه من أحكام الشريعة، أو ليسألوا أهل العلم»اهـ.
ما الظن؟ وما أنواعه؟
الظن مصدر الفعل (ظن الشيء ظنا) أي علمه بغير يقين، ويقال: ظن بفلان أي اتهمه، ويطلق الظن على إدراك الذهن الشيء مع ترجيحه، والظنين: ما لا يوثق به ويطلق على المتهم أيضا.
وقد جاء في القرآن استعمال الظن بمعنى (العلم واليقين) كما في قوله تعالى: {وظن داود أنما فتناه}، وقوله: {إني ظننت أني ملاق حسابيه}، وقوله: {قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله}، وقوله: {وظن أنه الفراق}.
واستعمل الظن بمعنى (الشك) كما في قوله تعالى: {وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين}.
واستعمل في القرآن بمعنى (التهمة) كما في قوله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن}، قال ابن كثير: «يَقُول تَعَالَى نَاهِيًا عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ عَنْ كَثِير مِنْ الظَّنّ وَهُوَ التُّهْمَة وَالتَّخَوُّن لِلْأَهْلِ وَالْأَقَارِب وَالنَّاس فِي غَيْر مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ بَعْض ذَلِكَ يَكُون إِثْمًا مَحْضًا فَلْيُجْتَنَبْ كَثِيرٌ مِنْهُ اِحْتِيَاطًا»اه ـ.
والمراد بـ(الظن) هنا: الظن المتعلق بأحوال الناس وحُذف المتعلق لتذهب نفس السامع إلى كل ظن ممكن هو إثم.
وقد ورد الظن في النصوص الشرعية على أوجه وأنواع، منها:
النوع الأول: الظن المحمود:
ومنه حسن الظن بالله تعالى كما قال[: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى»، قال النووي: هذا تحذير من القنوط، وحث على الرجاء عند الخاتمة، ومعنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه.
وقال الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرا فله، وإن ظن شرا فله» أخرجه أحمد.
ومنه حسن الظن بالمسلم كما قال[: «المؤمن غر كريم، والفاجر خبّ لئيم» أخرجه أبو داود، وجعل المؤمن غرا بسبب سلامة صدره وحسن الباطن والظن بالناس فكأنه لم يجرب بواطن الأمور، فترى الناس منه في راحة لا يتعدى إليهم منه شر.
وقال[: «خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق» قيل: ما القلب المخموم؟ قال: «هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد» قيل: فمن على أثره؟ قال: «الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة» قيل: فمن على أثره؟ قال: «مؤمن في خلق حسن».
النوع الثاني: الظن المباح:
وهو الذي يعرض في القلب بسبب يوجب الريبة، قال سفيان الثوري: الظن ظنان، ظن إثم وظن ليس بإثم، فأما الظن الذي هو إثم: فالذي يظن ظنا ويتكلم به، والذي ليس بإثم: فالذي يظن ولا يتكلم به.
وقال القرطبي: «وأكثر العلماء على أَنَّهُ لَا حَرَج فِي الظَّنّ الْقَبِيح بِمَنْ ظَاهِره القبح»اهـ.
وعقد البخاري في صحيحه في كتاب الأدب ترجمة بعنوان (باب ما يجوز من الظن) ثم ذكر حديث عائشة قالت: قال النبي[: «ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا» وفي رواية: «ما أظن فلانا وفلانا يعرفان ديننا الذي نحن عليه». قال الليث: كانا رجلين من المنافقين.
قال ابن حجر: «وحاصل الترجمة أن مثل هذا الذي وقع في الحديث ليس من الظن المنهي عنه؛ لأنه في مقام التحذير من مثل من كان حاله كحال الرجلين، والنهي إنما هو عن ظن السوء بالمسلم السالم في دينه وعرضه».
وأما قول ابن عمر: «إنا كنا إذا فقدنا الرجل في عشاء الآخرة أسأنا به الظن»، فقد قال ابن حجر: معناه أنه لا يغيب إلا لأمر سيئ إما في بدنه وإما في دينه.
وقال ابن قدامة: «فليس لك أن تظن بالمسلم شرا، إلا إذا انكشف لك أمر لا يحتمل التأويل، فإن أخبرك بذلك عدل فمال قلبك إلى تصديقه كنت معذورا؛ لأنك لو كذبته كنت قد أسأت الظن بالمخبر، فلا ينبغي أن تحسن الظن بواحد وتسيئه بآخر.. ومتى خطر لك خاطر سوء على مسلم، فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير؛ فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك.. وإذا تحققت هفوة مسلم فانصحه في السر».
النوع الثالث: الظن المحرم:
ومنه سوء الظن بالله تعالى، وهو من الكبائر؛ لأنه يأس وقنوط، قال تعالى عن الكافرين: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية}، وقال عن المنافقين: {وَظَنَنْتُمْ ظَنّ السَّوْء وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا}. ومنه سوء الظن بالمسلمين، ومعناه: اعتقاد جانب الشر وترجيحه على جانب الخير فيما يحتمل الأمرين، قال تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا}، وعن عُمَر بْن الْخَطَّاب - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: «وَلَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيك الْمُؤْمِن إِلَّا خَيْرًا وَأَنْتَ تَجِد لَهَا فِي الْخَيْر مَحْمَلًا».
وسوء الظن بالمسلمين من الكبائر، وذلك - كما يقول ابن حجر الهيثمي - بأن من حكم بشرّ على غيره بمجرد الظن، حمله الشيطان على احتقاره، وعدم القيام بحقوقه وإطالة اللسان في عرضه وكلها مهلكات.
قال القرطبي: «وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الظَّنّ الْقَبِيح بِمَنْ ظَاهِره الْخَيْر لا يَجُوز «.
وقال ابن سعدي: «نهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين، فقال: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال والأفعال المحرمة؛ فإن بقاء ظن السوء بالقلب لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضًا إساءة الظن بالمسلم وبغضه وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه». قال القرطبي: «لَا تَظُنُّوا بِأَهْلِ الْخَيْر سُوءًا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ ظَاهِر أُمُورهمْ الْخَيْر».
كيف يمكن اجتناب الظن كما أمر الله تعالى؟
- أولاً: قال تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن}، قال الطاهر: «ومعنى الأمر باجتناب؛ كثير من الظن: الأمر بتعاطي وسائل اجتنابه فإن الظن يحصل في خاطر الإنسان اضطرارا عن غير اختيار، فلا يعقل التكليف باجتنابه وإنما يراد الأمر بالتثبت فيه وتمحيصه والتشكك في صدقه إلى أن يتبين موجبه بدون تردد أو برجحان أو يتبين كذبه فتكذب نفسك فيما حدثتك».
وقال أيضا: ففي قوله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن} تأديب عظيم يبطل ما كان فاشيا في الجاهلية من الظنون السيئة والتهم الباطلة، وأن الظنون السيئة تنشأ عنها الغيرة المفرطة والمكائد، والاغتيالات، والطعن في الأنساب، والمبادأة بالقتال حذرا من اعتداء مظنون ظنا باطلا، كما قالوا: خذ اللص قبل أن يأخذك، ولما جاء الأمر في هذه الآية باجتناب كثير من الظن علمنا أن الظنون الآثمة غير قليلة؛ فوجب التمحيص والفحص لتمييز الظن الباطل من الظن الصادق.
- ثانياً: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِي[ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنّ فَإِنَّ الظَّنّ أَكْذَب الْحَدِيث، وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا وَلا تَنَاجَشُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَاد اللَّه إِخْوَانًا».
قال النووي: «المراد النهي عن ظن السوء، قال الخطابي: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس فإن ذلك لا يُملك. وقال أيضا: ومراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه، ويستقر في قلبه دون ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإن هذا لا يكلف به «.
قال القرطبي: «قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَالظَّنّ هُنَا وَفِي الْآيَة هُوَ (التُّهْمَة)، وَمَحَلّ التَّحْذِير وَالنَّهْي إِنَّمَا هُوَ تُهْمَة لا سَبَب لَهَا يُوجِبهَا, كَمَنْ يُتَّهَم بِالْفَاحِشَةِ أَوْ بِشُرْبِ الْخَمْر مَثَلا وَلَمْ يَظْهَر عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَدَلِيل كَوْن الظَّنّ هُنَا بِمَعْنَى التُّهْمَة قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجَسَّسُوا}، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَقَع لَهُ خَاطِر التُّهْمَة اِبْتِدَاء وَيُرِيد أَنْ يَتَجَسَّس خَبَر ذَلِكَ وَيَبْحَث عَنْهُ, وَيَتَبَصَّر وَيَسْتَمِع لِتَحْقِيقِ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ تِلْكَ التُّهْمَة، فَنَهَى النَّبِيّ[ عَنْ ذَلِكَ.
وَإِنْ شِئْت قُلْت: وَاَلَّذِي يُمَيِّز الظُّنُون الَّتِي يَجِب اِجْتِنَابهَا عَمَّا سِوَاهَا: أَنَّ كُلّ مَا لَمْ تُعْرَف لَهُ أَمَارَة صَحِيحَة وَسَبَب ظَاهِر كَانَ حَرَامًا وَاجِب الِاجْتِنَاب، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَظْنُون بِهِ مِمَّنْ شُوهِدَ مِنْهُ السَّتْر وَالصَّلاح, وَأُونِسَتْ مِنْهُ الأَمَانَة فِي الظَّاهِر, فَظَنّ الْفَسَاد بِهِ وَالْخِيَانَة مُحَرَّم, بِخِلَافِ مَنْ اِشْتَهَرَهُ النَّاس بِتَعَاطِي الرَّيب وَالْمُجَاهَرَة بِالْخَبَائِثِ» . اهـ.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (16) شجرة الكسل تثمر الجوع
د.وليد خالد الربيع
يحث الإسلام على النشاط والهمة والحرص على كل ما ينفع الإنسان في دينه ودنياه وآخرته، ويحذر من الكسل والتراخي والغفلة والقعود عن السعي في مصالح الدارين، فقال عز وجل: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} وقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}، وقال سبحانه: {فاستبقوا الخيرات} وقال: {لمثل هذا فليعمل العاملون} وقال: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.
وقال [: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز « أخرجه مسلم، وكان من دعائه [: «وأسألك العزيمة على الرشد»، وكان يقول لأصحابه: «إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها» أخرجه الطبراني وصححه الألباني.
ولا شك أن الكسل من الآفات الاجتماعية الخطيرة، والصفات الشخصية الرذيلة، فما أقبح أن يوصف الإنسان بأنه كسل وكسلان، ساقط الهمة، متخاذل العزم، بليد الحركة، عيال على الناس، خبال على أهله، قد ألف القعود، وأخلد إلى الكسل، واستنام إلى الراحة، وغيرها من الأوصاف التي تدل على الخمول والكسل، فهذا مذموم عند جميع العقلاء وسليمي الطباع.
والكسل في اللغة: هو التثاقل عن الشيء والقعود عن إتمامه، قال المناوي: الكسل: التغافل عما لا ينبغي التغافل عنه؛ ولذلك عدّ مذموما، وضده النشاط .
وقد ذمّ الله تعالى الكسل والتباطؤ وجعلهما من صفات المنافقين فقال عز وجل: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} وقال عنهم: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}.
وكان من دعائه[: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» أخرجه مسلم، ومن يتأمل حقيقة ما استعاذ منه النبي[ يجد أنها أبواب الرذائل، ومفاتيح الشر، فالعجز والكسل يقعد أن بالإنسان عما ينفعه في دينه ودنياه وآخرته، والجبن يمنع من الإقدام في مواطن الشجاعة، والبخل يمنعه من الإنفاق في مواطن البذل، وغلبة الدين تجعل الرجل يحدث فيكذب، ويعد فيخلف.
ويوضح الراغب الأصفهاني أن الكسل خروج من دائرة الحياة إلى عداد الموتى فيقول: «من تعطل وتبطل انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية وصار من جنس الموتى، وذلك أنه خص الإنسان بالقوى الثلاث ليسعى في فضيلتها، فإن فضيلة القوة الشهوانية تطالبه بالمكاسب التي تنميه، وفضيلة القوة الغضبية تطالبه بالمجاهدة التي تحميه، وفضيلة القوة الفكرية تطالبه بالعلم الذي يهديه، فحقه أن يتأمل قوته ويسبر قدر ما يطيقه، فيسعى بحسبه لما يفيده السعادة، ويتحقق أن اضطرابه سبب وصوله من الذل إلى العز، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الضعة إلى الرفعة، ومن الخمول إلى النباهة، وإن من تعود الكسل ومال إلى الراحة فقد الراحة، فحب الهوينى يكسب التعب، وقيل: إن أردت ألا تتعب فاتعب لئلا تتعب، وقيل: إياك والكسل والضجر فإنك إن كسلت لم تؤد حقا، وإن ضجرت لم تصبر على حق .
وقال يزيد بن المهلب: ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا كله لئلا أتعود العجز .
وإن الفراغ يبطل الهيئة الإنسانية، فكل هيئة بل كل عضو ترك استعماله يبطل، كالعين إذا أغمضت، واليد إذا عطلت، ولذلك وضعت الرياضات في كل شيء، ولما جعل الله تعالى للحيوان قوة التحرك لم يجعل له رزقا إلا بسعي منه .
وتأمل حال مريم عليها السلام وقد جعل لها من الرطب الجني ما كفاها مؤنة الطلب، وفيه أعظم معجزة فإنه لم يخلها من أن أمرها بهزها فقال تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة}، وكما أن البدن يتعود الرفاهية بالكسل، كذلك النفس بترك التفكر والنظر فتتبلد وتتبله وترجع إلى رتبة البهائم، فحق الإنسان ألا يذهب عامة أوقاته إلا في إصلاح أمر دينه ودنياه وموصلاته إلى آخرته، مراعيا لها، قال الحجاج: إن امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيها ربه ويستغفر من ذنبه أو يتفكر في أمر معاده لجدير أن تطول حسرته يوم القيامة .»اهـ.
ثم ذكر الراغب أن الإنسان محتاج إلى خمسة أمور:
معرفة المعبود المشار إليه بقوله: {ففروا إلى الله}، ومعرفة الطريق المشار إليه بقوله: {قل هذه سبيل أدعو إلى الله على بصيرة}، وتحصيل الزاد المتبلغ به المشار إليه بقوله: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}، والمجاهدة في الوصول كما قال تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده}، فبهذه الأشياء يأمن الغرور الذي خوفه الله تعالى منه في قوله: {ولا يغرنكم بالله الغرور}، وهذه المعالي التي دونها هول العوالي، ولا ضير لمن رامها أن يتذرع الصبر فقد أصاب من قال:
فقل لمرجي معالي الأمور
بغير اجتهاد رجوت المحالا
ويبين ابن الجوزي أن العبرة بالمآل فيقول: « تعب عالي الهمة راحة في المعنى، وراحة قصير الهمة تعب وشين إن كان ثم فهم، والدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي، فينبغي لذي الهمة أن لا يقصر في شوطه، فإن سبق فهو المقصود، وإن كبا جواده مع اجتهاده لم يلم» .اهـ.
قال الفراء: « لا أرحم أحدا كرحمتي لرجلين: رجل يطلب العلم ولا فهم له، ورجل يفهم ولا يطلبه، وإني لأعجب ممن في وسعه أن يطلب العلم ولا يتعلم « قال المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيبا
كنقص القادرين على التمام
وأختم بقول ابن القيم: « وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة، فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا همّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلا، استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله «اهـ.
فنسأل الله تعالى أن يرزقنا الهمة العالية، ويوفقنا لمعالي الأمور، وأن يحفظنا من العجز والكسل وسفاسف الأمور.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (17) وإذا قلتــم فاعدلـوا
د.وليد خالد الربيع
الشريعة الإسلامية كلها عدل وقسط ورحمة في أصولها وفروعها وفي كل مجالاتها العامة والخاصة، وتأمر المكلفين بالتزام العدل في كل أمورهم ومع كل الناس الموافق منهم والمخالف، وتحثهم على الإنصاف من غير محاباة للقريب ولا مجافاة للبعيد البغيض، كما قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}، قال الشيخ ابن سعدي :» فالعدل الذي أمر الله به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفورة، بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقه وحق عباده، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى وولاية القضاء ونواب الخليفة ونواب القاضي.
والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه وعلى لسان رسوله وأمرهم بسلوكه ...فالعدل واجب والإحسان فضيلة مستحبة وذلك كنفع الناس بالمال والبدن والمال وغير ذلك من أنواع النفع».اهـ.
وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}.
قال الشيخ ابن سعدي :» ومن أعظم أنواع القسط؛ القسط في المقالات والقائلين فلا يحكم لأحد القولين أو أحد المتنازعين لانتسابه أو ميله لأحدهما، بل يجعل وجهته العدل بينهما، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان حتى على الأحباب بل على النفس.. والقيام بالقسط من أعظم الأمور وأدلها على دين القائم به وورعه».اهـ.
وقال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} قال الشيخ: «أي بمراعاة الصدق فيمن تحبون ومن تكرهون والإنصاف وعدم كتمان ما يلزم بيانه؛ فإن الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم، بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه وأن يبين ما فيها من الحق والباطل ويعتبر قربها من الحق وبعدها منه « .
وعن أنس] أن النبي [ قال: «ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وثلاث مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه». قال المناوي: فلا يحمله الغضب على الجور ولا الرضا على الوقوع في المحظور لأجل رضا المخلوق».
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله[: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا».
وقال عمار بن ياسر -رضي الله عنه-: «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار» رواه البخاري تعليقا، قال الشراح: إنما كان من جمع الثلاثة مستكملا للإيمان لأن مداره عليها لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقا واجبا عليه إلا أداه ولم يترك شيئا مما نهاه عنه إلا اجتنبه وهذا يجمع أركان الإيمان .
وبعث رسول الله [ عبد الله بن رواحة إلى خيبر ليخرص لهم الثمار فأرادوا أن يرشوه فقال : يا أعداء الله، تطعمونني السحت، ولقد جئت من عند أحب الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على ألا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
قال ابن عبد البر: وفيه أن المؤمن إذا أبغض في الله لا يحمله البغض على ظلم من أبغضه.
ولم تمنع الغيرة أزواج النبي [ أن يشهدن بالفضل لبعضهن، قالت عائشة عن زينب بنت جحش :» وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله [، ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق في الحديث وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشدّ ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدّق به وتقرّب به إلى الله تعالى، ما عدا سَورْة من حدّة كانت فيها تسرع منها الفيئة». أخرجه مسلم
وقال محمد بن سيرين : «ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت وتكتم خيره «.
وقال سفيان الثوري : «عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات والتعصب والشهوات دون أن يعي بفضائلهم، حُرم التوفيق ودخل في الغيبة وحاد عن الطريق».
وقال الشافعي: «ما كلمت أحدا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان وتكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما كلمت أحدا قط إلا ولم أبال بينّ الله الحق على لساني أو لسانه»، وقال أيضا : «والله ما ناظرت أحدا إلا على النصيحة، أو قال: فأحببت أن يخطئ».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبيّة جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل وأجعله مؤتما بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكما فيما اختلفوا فيه...» إلى أن قال : «وذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه».
ويقول ابن القيم :» أما أهل العدل والإنصاف فهم هؤلاء الذين أعطوا كل ذي حق حقه، ولم يحكموا للصحيح بحكم السقيم ولا للسقيم بحكم الصحيح، ولكن قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد « .
ويقول شيخ الإسلام :» فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله وقصده طاعة الله فيما أمره به، وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب رئاسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطا، ثم إذا ردّ عليه ذلك وأوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار وأتاه الشيطان فكان مبدأ عمله لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه وربما اعتدى على ذلك المؤذي .
وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة؛ فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه، ويرضون على من وافقهم وإن كان جاهلا سيئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء نفوسهم لا على دين الله ورسوله.
وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمّه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضب بهواه، ويكون مع ذلك له شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وهو الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظّم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من الدنيا، لم يكن لله ولم يكن مجاهدا في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدعى الحق والسنة هو كنظيره، معه حق وباطل، وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة ؟! وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وكفّر بعضهم بعضا وفسّق بعضهم بعض».اهـ.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (18)إن الديــن يســــر
د.وليد خالد الربيع
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي [ قال: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ؛ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ» أخرجه البخاري.
فمن خصائص الإسلام ، ومن سمات الشريعة السماحة واليسر ورفع الحرج ، وهذا الحديث فرد من جملة أدلة تدل على ذلك منها قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، وقال تعالى: {يريد الله أن يخفف الله عنكم}، وقال سبحانه: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، وقال [: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة»، وقال لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: «يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا»، وقالت عائشة- رضي الله عنها-: «ما خُيّر رسول الله [ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما»، ونصوص كثيرة حول هذا الأصل.
وللأسف فإن بعض الناس يسيء فهم هذا الحديث وأمثاله، فيظن أن التهاون في بعض الواجبات، والوقوع في بعض المحرمات، والتنازل عن بعض الثوابت، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يظن أن ذلك من باب أن الدين يسر.
إلا أن المفهوم الصحيح لسماحة الدين ويسره يتمثل فيما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أي دين الإسلام ذو يسر أو سُمِّيَ الدين يسرا مبالغة بالنسبة للأديان قبله؛ لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم، ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم» اهـ.
وقال الشيخ ابن سعدي :» ما أعظم هذا الحديث، وأجمعه للخير والوصايا النافعة، والأصول الجامعة. فقد أسّـس[ في أوله هذا الأصل الكبير، فقال: «إن الدين يسر» أي ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتُروكه؛ فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره: هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب، وتوصِّل مقتديها إلى أجلِّ غاية وأفضل مطلوب، وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق، وأصلح الأعمال، بها صلاح الدين والدنيا والآخرة. وبفواتها يفوت الصلاح كله. وهي كلها ميسرة مسهلة، كل مكلف يرى نفسه قادراً عليها لا تشق عليه ولا تكلفه، عقائده صحيحة بسيطة. تقبلها العقول السليمة، والفطر المستقيمة. وفرائضه أسهل شيء.
ثم إذا نظر العبد إلى الأعمال الموظفة على العباد في اليوم والليلة المتنوعة من فرض ونفل، وصلاة وصيام وصدقة وغيرها، وأراد أن يقتدي فيها بأكمل الخلق وإمامهم محمد [ رأى ذلك غير شاق عليه، ولا مانع له عن مصالح دنياه، بل يتمكن معه من أداء الحقوق كلها: حقّ الله، وحقّ النفس، وحقّ الأهل والأصحاب، وحقّ كلّ من له حقّ على الإنسان برفق وسهولة، وأما من شدد على نفسه فلم يكتف بما اكتفى به النبي [، ولا بما علَّمه للأمة وأرشدهم إليه، بل غلا، وأوغل في العبادات: فإن الدين يغلبه، وآخر أمره العجز والانقطاع، ولهذا قال: «ولن يَشادَ الدينَ أحد إلا غلبه» فمن قاوم هذا الدين بشدة وغلو، ولم يقتصد: غلبه الدين، واستحسر ورجع القهقرى. ولهذا أمر [ بالقصد، وحثّ عليه. فقال: «والقصدَ القصدَ تبلغوا».
فعلمت بهذا: أنه يؤخذ من هذا الحديث العظيم عدة قواعد:
- القاعدة الأولى: التيسير الشامل للشريعة على وجه العموم.
- القاعدة الثانية: المشقة تجلب التيسير وقت حصولها.
- القاعدة الثالثة: إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم.
- القاعدة الرابعة: تنشيط أهل الأعمال، وتبشيرهم بالخير والثواب المرتب على الأعمال.
- القاعدة الخامسة: الوصية الجامعة في كيفية السير والسلوك إلى الله، التي تغني عن كل شيء ولا يغني عنها شيء، فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع الكلم ونوافعها»اهـ.
ومن أبلغ الأدلة على سماحة الدين ويسر الإسلام (تشريع الرخص)؛ فالرخصة الشرعية هي حكم استثنائي من حكم كلي شرعت مراعاة لأحوال الناس وحاجاتهم، وقد شرعها الله رحمة بعباده وتخفيفا عنهم كما قال عز وجل: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}، فمن عجز عن الوضوء لفقد الماء أو عدم القدرة على استعماله يتيمم، ومن عجز عن الصلاة قائما صلى قاعدا، ومن عجز عن صيام أيام من رمضان أفطر وقضى أو فدى بشروطه، وغيرها من الرخصة الشرعية التي جاءت بها النصوص الشرعية لتيسر على المكلفين امتثال الأحكام الدينية وترفع عنهم الحرج والضيق، أما اتباع الهوى والبحث عن الحيل لإسقاط التكاليف، وفتح الأبواب إلى المحرمات، فهذه ليست برخص شرعية إنما هي لعب بالأحكام الشرعية، وعبث بالتكاليف الدينية؛ لأن التيسير والتخفيف في حقيقته (حكم شرعي ) ينبغي أن يستند إلى الأدلة الشرعية والقواعد الكلية، أما التيسير المردود فما كان تابعا للهوى بغير دليل شرعي ولا قاعدة كلية .
فلو قال قائل: كيف يتفق هذا المبدأ ـ وهو الدين يسر ـ مع التكاليف الشرعية التي هي إلزام المكلف بما فيه كلفة ومشقة كما يدل عليه أصل الكلمة اللغوي ؟
وقد أجاب عن هذا الإشكال الشاطبي رحمه الله حيث قرر أن المشقة أنواع:
- النوع الأول: مشقة لا يقدر عليها المكلف، كتكليف المقعد بالمشي وتكليف الإنسان بالطيران، فهذا النوع لم يقع التكليف به، ولم يقصده الشارع.
- النوع الثاني: مشقة مقدور عليها إلا أنها خارجة عن المعتاد: مثل إلزام المكلف بالوصال في الصوم، والاستمرار بقيام الليل، أو الصوم حال السفر أو المرض؛ فإن التكليف بهذه الأمور ـ وإن كانت مقدورة للمكلف ـ إلا أنه سيلحقه حرج شديد وضرر كبير مما يخل بنظام حياته ويفوت عليه مصالحه الدينية والدنيوية، فالشارع لا يشرع مثل هذا النوع من التكاليف التي فيها مثل هذا النوع من المشقة ، بل إنه سبحانه شرع الرخص التي تخفف عن الناس وترفع عنهم الحرج.
النوع الثالث: المشقة المقدور عليها إلا أنها زائدة على المعتاد: وهي المشقة الطبيعية التي يستطيع المكلف- تحملها من غير أن يلحقه ضرر في دينه ولا دنياه، مثل التكاليف بسائر الفرائض، وترك المحرمات، فهي في ذاتها ليست بشاقة، ولكن التزامها هو الشاق على النفس؛ لما فيه من الدخول في أعمال زائدة على ما اعتادته النفوس من أعمال الدنيا، فمثل هذه المشقة لا تمنع من التكليف بمقتضاها؛ لأن كل عمل في الحياة لا يخلو من مشقة، غير أن هذه المشقة ليست هي المقصودة للشارع الحكيم ، بل المقصود المصالح المترتبة على التكاليف التي كلفنا بها، كمثل الطبيب الماهر يلزم المريض بتناول الدواء المرّ لا يقصد بذلك إيلامه، وإنما يقصد سلامته من المرض، ولله المثل الأعلى.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (19) من يزرع الأكاذيب يحصد الأشواك
د.وليد خالد الربيع
يتهاون بعض الناس ـ للأسف ـ في أمر الكذب، ويقسمونه إلى كبير وصغير، وأبيض وأسود، ونافع وضار، وغير ذلك من تقسيمات تقلل من خطره، وتصغر من عظيم ضرره؛ مما يشجع بعض الناس على اختلاق الكذب، وافتراء الشائعات، وتلفيق الحكايات، وتزوير الحقائق، وتمويه الوقائع، والطامة الكبرى أن يتعود على الكذب الأطفال، وينشأ عليه الصغار، فلا يكترثون بالزور ولا البهتان، ويألفون الأكاذيب والتلفيق، ويستعملونه في الجد والهزل، ويروجونه في المزاح والمرح، وربما جعل الناس للكذب يوما يعتادونه كل سنة يتبادلون الأكاذيب كما يتبادلون الهدايا، غير مبالين بالأحكام الإلهية ، ولا التوجيهات النبوية التي حذرت من الكذب أشد التحذير، وبينت ما فيه من الأضرار والشرر المستطير، قال الإمام أحمد: «الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل»، وقال الذهبي: «يطبع المسلم على الخصال كلها إلا الخيانة والكذب».
وقد جاءت النصوص الشرعية تأمر بالصدق وملازمة الصادقين ، وتنهى عن الكذب وتحذر من خصال الكاذبين، ومن ذلك قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، قال الشيخ ابن سعدي: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، الذين أقوالهم صدق، وأعمالهم؛ وأحوالهم لا تكون إلا صدقا خالية من الكسل والفتور، سالمة من المقاصد السيئة، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة.»اهـ.
قال[: «آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» متفق عليه، وقال[: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» متفق عليه.
وقال[: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» أبو داود وحسنه الألباني.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله[: «إن الصدق بر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن العبد ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإن الكذب فجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب كذابا» متفق عليه.
قال النووي: «قال العلماء: هذا فيه حث على تحري الصدق، وهو قصده والاعتناء به، وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه؛ فإنه إذا تساهل فيه كثر منه فعرف به وكتبه الله لمبالغته صديقا إن اعتاده، أو كذابا إن اعتاده، ومعنى» يكتب «هنا: يحكم له بذلك، ويستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو صفة الكاذبين وعقابهم» اهـ.
ومن آثار الكذب في الآخرة سواد الوجه؛ قال تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة}، قال ابن القيم: «ولهذا يجعل الله سبحانه شعار الكاذب عليه يوم القيامة وشعار الكاذب على رسوله سواد وجهه، والكذب له تأثير عظيم في سواد الوجه، ويكسوه برقعا من المقت يراه كل صادق، فسيما الكاذب في وجهه تنادي عليه لمن له عينان، والصادق يرزقه الله مهابة وجلالة، فمن رآه هابه وأحبه، والكاذب يرزقه إهانة ومقتا، فمن رآه مقته واحتقره» اهـ.
ومن آثار الكذب محق البركة؛ قال [: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما» متفق عليه، قال النووي: «أي: بيّن كل واحد لصاحبه ما يحتاج إلى بيانه من عيب ونحوه في السلعة والثمن وصدق في ذلك، ومعنى»محقت بركة بيعهما» أي: ذهبت بركته وهي: زيادته ونماؤه» اهـ.
وقد كان الصحابة الكرام يعظمون من شأن الصدق وأهله، ويحذرون من الكذب وآثاره، قال عمر رضي الله عنه: «لأن يضعني الصدق - وقلما يضع - أحب إلي من أن يرفعني الكذب، وقلما يفعل». وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «أعظم الخطايا الكذب، ومن يعف يعف الله عنه»، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ الله [ مِنَ الْكَذِبِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ [ الْكَذِبَةَ، فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً» رواه أحمد.
وبالتأمل في حقيقة الصدق والكذب ومآل كل منهما يجد الناظر ما يقتضي لزوم الصدق وهجر الكذب، يوضح ذلك أبو حاتم البستي بقوله: «إن الله عز وجل فضّـل اللسان على سائر الجوارح، ورفع درجته، وأبان فضيلته، بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده، فلا يجب على العاقل أن يعوّد آلة خلقها الله للنطق بتوحيده بالكذب، بل يجب عليه المداومة برعايته بلزوم الصدق، وما يعود عليه نفعه في داريه؛ لأن اللسان يقتضي ما عوّد: إن صدقا فصدقا ، وإن كذبا فكذبا» اهـ.
وقال أيضا: «الصدق يرفع المرء في الدارين، كما أن الكذب يهوي به في الحالين، ولو لم يكن للصدق خصلة تحمد إلا أن المرء إذا عرف به قُبل كذبه وصار صادقا عند من يسمعه، لكان الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في رياضة لسانه حتى يستقيم له على الصدق ومجانبة الكذب، والعيّ في بعض الأوقات خير من النطق، لأن كل كلام أخطأ صاحبه موضعه فالعيّ خير منه.
ولو لم يكن للكذب من الشين إلا إنزاله صاحبه بحيث إن صدق لم يصدّق، لكان الواجب على الخلق كافة لزوم التثبت بالصدق الدائم، وإن من آفة الكذب أن يكون صاحبه نسيا، فإذا كان كذلك كان كالمنادي على نفسه بالخزي في كل لحظة وطرفة» اهـ.
والكذب قد يكون في مجالات عديدة منها الكذب على الله تعالى، والكذب على رسوله [، والكذب على الناس باختلاق الأقاويل، ومنها القذف واتهام الأعراض زورا وبهتانا، ومنها شهادة الزور، واليمين الغموس، وغيرها من أبواب يدخل فيها الكذب فيجلب معه الآفات والشرور والمصائب العقدية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها؛ ولهذا قرن الكذب بالفجور لأن الفجور انحراف عن الحق وإقبال عل القبائح والآثام، والكذب بلا شك مفتاح لكل تلك الأبواب المحرمة، فهو بحق وسيلة لهدم المجتمعات البشرية، وتحطيم علاقتها الإنسانية؛ فمن يزرع الأكاذيب يحصد الأشواك والآلام في الدنيا والآخرة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (20) ولا تنسوا الفضل بينكم
د.وليد خالد الربيع
الاعتراف بالفضل وشكر النعم، وحفظ الجميل من معالي الأخلاق التي جاء بها الإسلام الحنيف، ومن محاسن الصفات التي دعا إليها رسول الله [، وذلك أن الاعتراف بالنعم إقرار لصاحبها بإحسانه، وشكر له على آلائه، وإظهار لصنائعه وتحدث بأياديه، في حين أن كفر صنيعته وجحد إحسانه، وإنكار جميله كفر بنعمته، وتضييع لواجب شكره، واستخفاف بحقه وفضله، وهذا لا يقره الشرع المطهر ولا يقبله العقل السديد.
قال أبو حاتم البستي : «الحر لا يكفر النعمة، ولا يتسخط المصيبة، بل عند النعم يشكر، وعند المصائب يصبر، ومن لم يكن لقليل المعروف عنده وقع أوشك أن لا يشكر الكثير منه، والنعم لا تستجلب زيادتها، ولا تدفع الآفات عنها إلا بالشكر»اهـ.
ومن النصوص الشرعية التي تدل على هذا الخلق الكريم قوله تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} لما له من أثر كبير في ترسيخ الأخوّة الإيمانية ونشر المحبة والود في المجتمع المسلم، قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: «فأمروا في هاته الآية بأن يتعاهدوا الفضل، ولا ينسوه؛ لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه، فيضمحل منهم، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة.»اهـ.
ويبين الشيخ ابن سعدي أن الفضل أعلى درجات المعاملة فقال:«الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف, وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة؛ لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب, وهو: أخذ الواجب, وإعطاء الواجب.
وإما فضل وإحسان, وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق, والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة, ولو في بعض الأوقات, وخصوصا لمن بينك وبينه معاملة, أو مخالطة, فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم»اهـ.
ولهذه الآية الكريمة معان عديدة ذكرها المفسرون منها ما ذكره الطبري: يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وَلَا تَغْفِلُوا أَيّهَا النَّاس الأخْذ بِالْفَضْلِ بَعْضكُمْ عَلَى بَعْض فَتَتْرُكُوهُ, وَلَكِنْ لِيَتَفَضَّل الرَّجُل الْمُطَلِّق زَوْجَته قَبْل مَسِيسهَا, فَيُكْمِل لَهَا تَمَام صَدَاقهَا إنْ كَانَ لَمْ يُعْطِهَا جَمِيعه، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَاقَ إلَيْهَا جَمِيع مَا كَانَ فَرَضَ لَهَا, فَلْيَتَفَضَّلْ عَلَيْهَا بِالْعَفْوِ عَمَّا يَجِب لَهُ, وَيَجُوز لَهُ الرُّجُوع بِهِ عَلَيْهَا, وَذَلِكَ نِصْفه؛ فَإِنْ شَحَّ الرَّجُل بِذَلِكَ, وَأَبَى إلَّا الرُّجُوع بِنِصْفِهِ عَلَيْهَا, فَلتتَفَضل الْمَرْأَة الْمُطَلَّقَة عَلَيْهِ بِرَدِّ جَمِيعه عَلَيْهِ إنْ كَانَتْ قَدْ قَبَضَتْهُ مِنْهُ, وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهُ فَتَعْفُو عَنْ جَمِيعه, فَإِنْ هُمَا لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ وَشَحَّا وَتَرَكَا مَا نَدَبَهُمَا اللَّه إلَيْهِ مِنْ أَخْذ أَحَدهمَا عَلَى صَاحِبه بِالْفَضْلِ فَلَهَا نِصْف مَا كَانَ فَرَضَ لَهَا فِي عُقَد النِّكَاح, وَلَهُ نِصْفه.
ثم نقل عن بعض مفسري السلف فذكر عَنْ قَتَادَة: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنكُمْ} يُرَغِّبكُمْ اللَّه فِي الْمَعرُوف, وَيَحُثكُمْ عَلَى الْفَضْل، وعَنْ سُفْيَان: {وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْل بَيْنكُمْ } قَالَ: حَثّ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض فِي هَذَا وَفِي غَيْره, حَتَّى فِي عَفْو الْمَرْأَة عَنْ الصَّدَاق وَالزَّوْج بِالْإِتْمَامِ، وعَنْ الضَّحَّاك: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنكُمْ} قَالَ: الْمَعْرُوف، وعَنْ سَعِيد قَالَ: سَمِعْت تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنكُمْ} قَالَ: لَا تَنْسَوا الْإِحْسَان.اهـ.
وقد كان النبي [ أولى الناس بهذه الصفة الكريمة، فقد كان [ يحفظ لخديجة - رضي الله عنها- إحسانها، فعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: «ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة - ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين - لما كنت أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان ليذبح الشاة ثم يهدي في خُلتها - أي أهل صداقتها - منها» أخرجه البخاري.
وفي حديث للحاكم والبيهقي أن النبي [ استقبل عجوزا بحفاوة وترحيب، فلما خرجت سألته فقال [: «يا عائشة إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإنَّ حُسنَ العَهدِ من الإيمان»، قال ابن حجر في شرح قول البخاري: باب حسن العهد من الإيمان، قال أبو عبيد: العهد هنا رعاية الحرمة، وقال عياض: هو الاحتفاظ بالشيء والملازمة له، وقال الراغب: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال، وعهد الله تارة يكون بما ركزه في العقل وتارة بما جاءت به الرسل، وتارة بما يلتزمه المكلف ابتداء كالنذر ومنه قوله تعالى: {ومنهم من عاهد الله}.
وحفظ لأبي بكر الصديق جهوده وبذله في نصرة الدين فقال [: «إن من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين باب في المسجد إلا سدّ إلا باب أبي بكر» أخرجه البخاري.
وحفظ رسول الله [ للمطعم بن عدي جميله حين أجاره بعد أن رده أهل الطائف قبل الهجرة، فقال بعد غزوة بدر في شأن أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» أخرجه البخاري.
وأمر [ بحفظ الجميل ومقابلة صاحبه بالشكر والجزاء فقال [: «من صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه» أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
قال أبو حاتم البستي: «الواجب على المرء أن يشكر النعمة، ويحمد المعروف على حسب وسعه وطاقته، إن قدر فبالضعف، وإلا فبالمثل، وإلا فبالمعرفة بوقوع النعمة عنده، مع بذل الجزاء له بالشكر، وقوله: «جزاك الله خيرا»اهـ.
فعلى المسلم أن يحرص على الاعتراف بالإحسان وشكر النعم، ولا يترك ذلك بسبب أن الناس تركوا شكره أو قصروا في حقه، فهو إنما يفعل ذلك ليشكر الله عز وجل أولاً على فضله وما حباه من نعم وأمكنه من إيصالها لغيره ثم يثيبه عليها بفضله عز وجل، قال ابن الأثير: «من كان عادته وطبعه كفران نعمة الناس وترك شكرها لهم كان من عادته كفر نعمة الله عز وجل ، وترك الشكر له»، وقال بعض الحكماء: «لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره؛ فإنه يشكرك عليه من لا تصنعه إليه».
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (21) الأرواح جنـــود مجنـــدة
د.وليد خالد الربيع
يجد الإنسان نفسه - أحياناً - متوافقا مع بعض الناس، منسجما معهم، مرتاحا لهم، أفكارهم متشابهة، وأسلوبهم متماثل. في حين أنه يجد نفسه مع آخرين منقبضا عنهم ، مجانبا لهم، مبغضا للاجتماع معهم، حتى إنه ليؤثر الانفراد على الاختلاط بهم، ويفضل الوحدة على صحبتهم، من غير سبب يذكر، ولا عيب يظهر، وإذا سئل عن سبب اعتزاله لأولئك الرهط، ومفارقته لذلك المجلس أجاب معللا ذلك بقوله: «الأرواح جنود مجندة؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
وأصل هذه المقولة حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به عَنْ عَائِشَةَ ر ضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَ[ يَقُولُ: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
وأخرجه مسلم مسندا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله[ قال: «الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»، وفي لفظ آخر: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث: «قال الخطابي: يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد, وأن الخيِّر من الناس يحنّ إلى شكله، والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر, فإذا اتفقت تعارفت, وإذا اختلفت تناكرت.
ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجسام, وكانت تلتقي فتتشاءم, فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم.
وقال غيره: المراد أن الأرواح أول ما خلقت خلقت على قسمين, ومعنى تقابلها أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت أو اختلفت على حسب ما خلقت عليه الأرواح في الدنيا إلى غير ذلك بالتعارف.
قلت -القائل ابن حجر-: ولا يعكر عليه أن بعض المتنافرين ربما ائتلفا؛ لأنه محمول على مبدأ التلاقي, فإنه يتعلق بأصل الخلقة بغير سبب، وأما في ثاني الحال فيكون مكتسبا لتجدد وصف يقتضي الألفة بعد النفرة كإيمان الكافر وإحسان المسيء.
وقوله: «جنود مجندة» أي أجناس مجنسة أو جموع مجمعة, قال ابن الجوزي: «ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم, وكذلك القول في عكسه».
وقال القرطبي: «الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحا لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها, فتتشاكل أشخاص النوع الواحد وتتناسب بسبب ما اجتمع فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة؛ ولذلك نشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر , وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها .»اهـ كلام ابن حجر .
وقال النووي في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة»: قال العلماء: معناه جموع مجتمعة، أو أنواع مختلفة، وأما تعارفها فهو لأمر جعلها الله عليه، وقيل: إنها موافقة صفاتها التي جعلها الله عليها، وتناسبها في شيمها، وقيل: لأنها خلقت مجتمعة، ثم فرقت في أجسادها؛ فمن وافق بشيمه ألفه، ومن باعده نافره وخالفه.
وقال الخطابي وغيره : تآلفها هو ما خلقها الله عليه من السعادة، أو الشقاوة في المبتدأ، وكانت الأرواح قسمين متقابلين، فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت واختلفت بحسب ما خلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار، والأشرار إلى الأشرار، والله أعلم «اهـ.
ويعلل أبو حاتم البستي في (روضة العقلاء)سبب ائتلاف الناس وافتراقهم بعد القضاء السابق بأنه تعارف الروحين، وتناكر الروحين، فإذا تعارف الروحان وجدت الألفة بين نفسيهما، وإذا تناكر الروحان وجدت الفرقة بين جسميهما.
ونقل عن مجاهد قال: رأى ابن عباس رضي الله عنها رجلا فقال: «إن هذا ليحبني» قالوا: وما علمك؟ قال: «إني لأحبه، والأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
وذكر عن قتادة في قوله عز وجل: {إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}، قال: «للرحمة والطاعة، فأما أهل طاعة الله فقلوبهم وأهواؤهم مجتمعة، وإن تفرقت ديارهم، وأهل معصية الله قلوبهم مختلفة ، وإن اجتمعت ديارهم».
ويبين أبو حاتم خطورة هذا التماثل والتقارب بين المتشابهين من الناس وأثر ذلك على دين الشخص وسلوكه فيقول: «إن من أعظم الدلائل على معرفة ما فيه المرء من تقلبه وسكونه، هو الاعتبار بمن يحادثه ويوده؛ لأن المرء على دين خليله، وطير السماء على أشكالها تقع، وما رأيت شيئا أدل على شيء، ولا الدخان على النار، مثل الصاحب على الصاحب، ونقل عن هبيرة أنه قال: اعتبر الناس بأخدانهم، أي: قس الناس بأصدقائهم، وذكر عن الإمام مالك أنه قال: «الناس أشكال كأجناس الطير؛ الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبط مع البط، وكل إنسان مع شكله».
قال أبو حاتم: «العاقل يجتنب مماشاة المريب في نفسه، ويفارق صحبة المتهم في دينه؛ لأن من صحب قوما عرف بهم، ومن عاشر امرأ نسب إليه، والرجل لا يصاحب إلا مثله أو شكله، فإذا لم يجد المرء بدا من صحبة الناس تحرّى من زانه إذا صحبه، ولم يشنه إذا عرف به».
ويقرر أبو حاتم أن ما قد يجده المرء في نفسه من اتفاق أو افتراق قد يؤكده الواقع بعد حينٍ حينَ تنجلي الأمور وتتكشف الحقائق فيقول: «إن من الناس من إذا رآه المرء يعجب به، وإذا ازداد به علما ازداد به عجبا، ومنهم من يبغضه حين يراه، ثم لا يزداد به علما إلا ازداد له مقتا ، فاتفاقهما باتفاق الروحين قديما، وافتراقهما يكون بافتراقهما».
وأخيرا، مع تسليمنا بدلالة هذا الحديث إلا أن الشرع يؤكد على ضرورة مصاحبة الأخيار، ولزوم اجتناب الفجار، فكون المرء يميل إلى الأشرار ويبغض الأخيار ليس مبررا لما يتبع ذلك من مخالفات شرعية؛ لأنه مأمور بالصبر على صحبة الأخيار كما قال عز وجل: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (22)العطاء شرف والأخذ ألم
د.وليد خالد الربيع
هذه المقولة الموجزة تقرر واقعا ثابتا، وتوضح جانبا اجتماعيا يلاحظه المتأمل في أحوال الناس، فبعض الناس جبل على العطاء، وحبب إليه البذل، فهو كثير الأيادي، جمّ الإفضال؛ لذا فهو محبوب عند الناس، ذو شرف ومنزلة عندهم، كما قال علي ]: «من آتاه الله منكم مالا فليصل به القرابة، وليحسن فيه الضيافة، وليفك فيه العاني والأسير وابن السبيل والمساكين والفقراء وليصبر فيه على النائبة؛ فإنه بهذه الخصال ينال كرم الدنيا وشرف الآخرة»، وقال أبو حاتم البستي: «أجود الجود من جاد بماله، وصان نفسه عن مال غيره، ومن جاد ساد، كما أن من بخل رذل».
ومصداق هذا قوله [: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، قال المناوي: «يعني المنفقة أفضل من الآخذة، أي ما لم تشتد حاجته»، وسئل الحسن عن معنى الحديث فقال: «يد المعطي خير من يد المانع».
وفي المقابل يوجد في بعض الناس شره إلى المكاسب، وتشوف إلى ما في أيدي الناس، فتراه واسع الأطماع، كثير المراغب، لم يقنع بما رزقه الله تعالى، ولم يرض بما أعطاه مولاه، تجاوز طموحه حدود قدراته، وأراد الغنى على حساب غيره، فيعمل على الإثراء بالسؤال والاستجداء، دون أن يسعى في حرفة أو يتعاطى صنعة، وهذا مخالف لما تقرره الشريعة الغراء من ضرورة العمل والاكتساب، وحرمة المسألة والتكثر بغير حق.
قال عز وجل: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا}.
قال ابن كثير: أَيْ: لا يُلِحُّونَ فِي الْمَسْأَلَة وَيُكَلِّفُونَ النَّاس مَا لا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغنِيه عَنْ الْمَسْأَلَة فَقَدْ أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَة ، وفي حديث قبيصة ابن المخارق ] أن النبي [ قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل لأحد إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة. فحلت له حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا»، أخرجه مسلم.
وعن أبي كبشة الأنماري ] أنه سمع النبي [ يقول: «ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه» قال: «ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر»، أخرجه الترمذي.
قال المباركفوري: «(ولا فتح) أي على نفسه (باب مسألة) أي سؤال للناس (إلا فتح الله عليه باب فقر) أي: باب احتياج آخر وهلم، أو يكون سلب عنه ما عنده من النعمة فيقع في نهاية من النقمة كما هو مشاهد»، اهـ.
عن حكيم بن حزام ] قال: سألت النبي [ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «إن هذا المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى»، أخرجه مسلم.
قال النووي: «قال العلماء: إشراف النفس: تطلعها إليه وتعرضها له وطمعها فيه، وأما طيب النفس فذكر القاضي فيه احتمالين:
أظهرهما: أنه عائد إلى الآخذ، ومعناه: من أخذه بغير سؤال ولا إشراف وتطلع بورك له فيه، والثاني: أنه عائد إلى الدافع، ومعناه: من أخذه ممن يدفع منشرحا بدفعه إليه طيب النفس، لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس الدافع.
وفي هذا الحديث الحث على التعفف والقناعة، والرضا بما تيسر في عفاف وإن كان قليلا، والإجمال في الكسب، وأنه لا يغتر الإنسان بكثرة ما يحصل له بإشراف ونحوه فإنه لا يبارك له فيه»، اهـ.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي [ قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم» متفق عليه، قال النووي: «المزعة بضم الميم وإسكان الزاي: أي قطعة، قال القاضي: قيل معناه: يأتي يوم القيامة ذليلا ساقطا لا وجه له عند الله، وقيل هو على ظاهره، يحشر ووجهه لا لحم عليه عقوبة له وعلامة بذنبه حين طلب وسأل بوجهه، كما جاءت الأحاديث الأخرى بالعقوبات في الأعضاء التي كانت بها المعاصي، وهذا فيمن سأل لغير ضرورة سؤالا منهيا وأكثر منه، كما في الرواية الأخرى: «من سأل تكثرا».
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» أخرجه مسلم، قال النووي: «قال القاضي: معناه أنه يعاقب بالنار، ويحتمل أن يكون على ظاهره، وأن الذي يأخذه يصير جمرا يكوى به، كما ثبت في مانع الزكاة».
وسمع عمر ] سائلا يسأل بعد المغرب، فقال لواحد من قومه: عشّ الرجل، فعشاه، ثم سمعه ثانيا يسأل، فقال: ألم أقل لك عشّ الرجل؟ قال: قد عشيته. فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا، فقال: لست سائلا ولكنك تاجر. ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة، وضربه بالدرة وقال: «لا تعد».
وقال أبو حاتم البستي في «روضة العقلاء»: «العاقل لا يسأل الناس شيئا فيردوه، ولا يلحف في المسألة فيحرموه، ويلزم التعفف والتكرم، ولا يطلب الأمر مدبرا، ولا يتركه مقبلا؛ لأن فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وإن من يسأل غير المستحق حاجة حطّ لنفسه مرتبتين، ورفع المسؤول فوق قدره».
والخلاصة أن البذل والعطاء شرف ورفعة، وهذا ما دل عليه اللغة والسنة، ففي اللغة الشرف هو المكان العالي، قال ابن فارس: «الشرف: العلو، والشريف: الرجل العالي»، اهـ.
وفي الحديث قال [: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، فيفهم منه أن اليد المعطية يد شريفة عالية؛ فحري بالمسلم أن يحرص على هذا الفضل بأن تكون يده عليا بالخير.
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (23)
ومـا أكـثـر النـــــاس ولــو حرصـت بمؤمنيـن
هذه الآية الكريمة من سورة يوسف عليه السلام تقرر حقيقة شرعية، وسنة إلهية وهي أن أهل الحق أقل من أهل الباطل، وأن الغالب على الناس الجحود والكفر، والقليل منهم من يهتدي للحق ويقوم به، قال الشاطبي: «وهذه سنة الله في الخلق; أن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل؛ لقوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} ، وقوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور}، ولينجز الله ما وعد به نبيه [ من عود وصف الغربة إليه، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم، وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا، وتصير السنة بدعة والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف، كما كان أولا يقام على أهل البدعة»اهـ.
وقال الشيخ ابن سعدي: «يقول تعالى لنبيه محمد [ {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانهم {بِمُؤْمِنِينَ} فإن مداركهم ومقاصدهم قد أصبحت فاسدة، فلا ينفعهم حرص الناصحين عليهم ولو عدمت الموانع، بأن كانوا يعلمونهم ويدعونهم إلى ما فيه الخير لهم، ودفع الشر عنهم، من غير أجر ولا عوض، ولو أقاموا لهم من الشواهد والآيات الدالات على صدقهم ما أقاموا».اهـ.
ومن الآيات المقررة لهذه الحقيقة قوله تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}، قال ابن كثير:» يُخْبِر تَعَالَى عَنْ حَال أَكْثَر أَهْل الْأَرْض مِنْ بَنِي آدَم أَنَّهُ الضَّلال كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلهمْ أَكْثَر الْأَوَّلِينَ} وَهُمْ فِي ضَلَالهمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِين مِنْ أَمْرهمْ وَإِنَّمَا هُمْ فِي ظُنُون كَاذِبَة وَحُسْبَان بَاطِل {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} فَإِنَّ الْخَرْص هُوَ الْحَزْر وَمِنْهُ خَرْص النَّخْل وَهُوَ حَزْر مَا عَلَيْهَا مِنْ التَّمْر وَذَلِكَ كُلّه عَنْ قَدَر اللَّه وَمَشِيئَته .
قال الشيخ ابن سعدي:» يقول تعالى لنبيه محمد [، محذرا من طاعة أكثر الناس: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فإن أكثرهم قد انحرفوا في أديانهم وأعمالهم وعلومهم. فأديانهم فاسدة، وأعمالهم تبع لأهوائهم، وعلومهم ليس فيها تحقيق، ولا إيصال لسواء الطريق. بل غايتهم أنهم يتبعون الظن، الذي لا يغني من الحق شيئا، ويتخرصون في القول على الله ما لا يعلمون، ومن كان بهذه المثابة، فحري أن يحذِّر الله منه عبادَه، ويصف لهم أحوالهم؛ لأن هذا – وإن كان خطابا للنبي [ - فإن أمته أسوة له في سائر الأحكام، التي ليست من خصائصه.
ودلت هذه الآية، على أنه لا يستدل على الحق بكثرة أهله، ولا تدل قلة السالكين لأمر من الأمور أن يكون غير حق، بل الواقع بخلاف ذلك؛ فإن أهل الحق هم الأقلون عددا، الأعظمون -عند الله- قدرا وأجرا، بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل، بالطرق الموصلة إليه».اهـ.
وقد جاء في الحديث قوله «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء «أخرجه مسلم، قال النووي:»قال القاضي: وظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ» اهـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فوائد هذا الحديث: «لا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا يجوز تركه - والعياذ بالله - بل الأمر كما قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
ولا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا أن المتمسك به يكون في شر، بل هو أسعد الناس، كما قال في تمام الحديث:»فطوبى للغرباء {وطوبى من الطيب، قال تعالى: «طوبى لهم وحسن مآب}، فإنه سيكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبا، وهو أسعد الناس، أما في الآخرة فهم أعلى الناس درجة بعد الأنبياء عليهم السلام، وأما في الدنيا فقد قال تعالى: {يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} أي:إن الله حسبك وحسب متبعك».
وقال: «وكما أن الله نهى نبيه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام أول الأمر، فكذلك في آخره، فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم أو يكون في ضيق من مكرهم، وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكلّ وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر {إن وعد الله حق} وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار».
قال:»وهذا الحديث يفيد المسلم أنه لا يغتم بقلة من يعرف حقيقة الإسلام، ولا يضيق صدره بذلك، ولا يكون في شك من دين الإسلام، كما كان الأمر حين بدأ، قال تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك} إلى غير ذلك من الآيات والبراهين الدالة على صحة الإسلام.»اهـ.
ويوضح الإمام ابن القيم الغربة الممدوحة بأنها: «غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله [ أهلها، وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ «غريبا» وأنه»سيعود غريبا كما بدأ» وأن «أهله يصيرون غرباء «.
وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه»الغربة»هم أهل الله حقا؛ فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسول الله [، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه.
ومن صفات هؤلاء الغرباء: التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد، وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا، وأكثر الناس - بل كلهم - لائم لهم «اهـ.
ويقسم ابن رجب الغرباء الممدوحين إلى قسمين: أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يصلح ما أفسد الناس من السنة، قال: «وهو أعلى القسمين».
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (24)
الخير عادة والشر لجاجة
من القضايا الفلسفية القديمة البحث في النفس البشرية, وهل الأصل فيها الخير والشر طارئ ؟ أم العكس الذي يقول إن الشر متأصل في نفس الإنسان والخير طارئ؟
والذي تدل عليه النصوص الشرعية أن الإنسان مهيأ لقبول الخير والشر بما خلق الله تعالى فيه من الإرادة والقدرة والاختيار كما قال تعالى:{وهديناه النجدين}، قال الشيخ ابن سعدي: «أي طريقي الخير والشر، بينا له الهدى من الضلال والرشد من الغي»، وقال القاسمي: «أي أودعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر، وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاما تدله عليهما، ثم وهبنا له الاختيار، فإليه أن يختار أي الطريقين شاء»اهـ.
وقال: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} قال القاسمي: «أي سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك، أي: عرّفناه وبينا له ذلك بأدلة العقل والسمع» اهـ.
ومع ذلك فإن الله تعالى من رحمته فطر الإنسان على حب الخير والميل إليه وتفضيله على الشر كما قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
قال ابن سعدي: «يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال وإقامة دينه فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أي: انصبه ووجّهه إلى الدين الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها، وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.وهذا الأمر الذي أمرناك به هو {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ووضع في عقولهم حسنها واستقباح غيرها؛ فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم الميل إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة، ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي [: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»اهـ.
وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ[ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: «أَلاَ إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلاَلٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُم ْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا». أخرجه مسلم
قال النووي: قوله تعالى: {وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ} أي مسلمين، وقيل:طاهرين من المعاصي، وقيل: مستقيمين منيبين لقبول الهداية.
وقوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَاجْتَالَتْهُم ْ عَنْ دِينِهِمْ» أي: استخفوهم فذهبوا بهم، وأزالوهم عما كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطل»اهـ.
وقال الطاهر بن عاشور: «وإذ قد كانت نفوس الشياطين داعية إلى الشر بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير، ولكنه معرض لوسوسة الشياطين، فيقع في شذوذ عن أصل فطرته، وفي هذا ما يكون مفتاحا لمعنى كون الناس يولدون على الفطرة، وكون الإسلام دين الفطرة، وكون الأصل في الناس الخير».
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّه ِ[: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» متفق عليه.
قال النووي: «والأصح أن معناه: أن كل مولود يولد متهيئا للإسلام فمن كان أبواه أو أحدهما مسلما استمر على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في أحكام الدنيا، وهذا معنى يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، أي:يحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن بلغ استمر عليه حكم الكفر ودينهما، فإن كانت سبقت له السعادة أسلم وإلا مات على كفره» اهـ.
والفطرة في اللغة: من فطر بمعنى شق، وانفطر وتفطر: انشق، وتأتي بمعنى خلق يقال: فطر الله الخلق، أي: خلقهم وأنشأهم، والفطرة: الابتداء والاختراع والخلق، ومنه قوله تعالى: {الحمد لله فاطر السموات والأرض}.
قال القرطبي: «الفطرة هي الخلقة التي خلق الله عليها المولود في المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة».
ومن هنا يأتي هذا الحديث ليؤكد هذا الأصل، ويحث الناس على الاستكثار من الخير والتعود على فعله حتى يصير سجية في النفس وعادة في الطبع، فعن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-عن رسول الله [ «إنه قال الخير عادة والشر لجاجة، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» أخرجه ابن ماجه، وفي رواية أن معاوية -رضي الله عنه- قال: «عَوِّدُوا أَنْفُسَكُمُ الْخَيْرَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ[ يَقُولُ: «الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
واللجاجة في اللغة بمعنى التردد وعدم الثبات، قال ابن فارس: «اللام والجيم أصل صحيح يدل على تردد الشيء بعضه على بعض، وترديد الشيء، يقال: لجلج الرجل المضغة في فيه إذا رددها ولم يسغها، ويقولون:في فؤاد فلان لجاجة، وهو أن يخفق لا يسكن من الجوع».
قال السندي في شرحه: «أَي الْمُؤْمِن الثَّابِت عَلَى مُقْتَضَى الْإِيمَان وَالتَّقْوَى يَنْشَرِح صَدْره لِلْخَيْرِ فَيَصِير لَهُ عَادَة، وَأَمَّا الشَّرّ فَلَا يَنْشَرِح لَهُ صَدْره فَلَا يَدْخُل فِي قَلْبه إِلَّا بِلَجَاجَةِ الشَّيْطَان وَالنَّفْس الْأَمَارَة،وَه َذَا هُوَ الْمُوَافِق لِحَدِيثِ: «دَعْ مَا يَرِيبك إِلَى مَا لَا يَرِيبك وَالْإِثْم مَا حَاكَ فِي صَدْرك وَإِنْ أَفْتَاك الْـمَفْتُون». وَالْمُرَاد أَنَّ الْخَيْر مُوَافِق لِلْعَقْلِ السَّلِيم، فَهُوَ لا يَقْبَل إِلا إِيَّاهُ وَلا يَمِيل إِلا إِلَيْهِ، بِخِلافِ الشَّرّ فَإِنَّ الْعَقْل السَّلِيم يَنْفِر عَنْهُ وَيُقَبِّحهُ.
وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد بِالْخَيْرِ وَالشَّرّ الْحَقّ وَالْبَاطِل، وَلِلْحَقِّ نُور فِي الْقَلْب يَتَبَيَّن بِهِ أَنَّهُ الْحَقّ، وَلِلْبَاطِلِ ظُلْمَة يَضِيق بِهَا الْقَلْب عَنْ قَبُوله؛ فَلا يَدْخُل فِيهِ إِلا بِتَرَدُّدٍ وَانْقِبَاض لِلْقَلْبِ عَنْ قَبُوله، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِق لِلْمَثَلِ الْمَشْهُور: «الْحَقّ أَبْلَجُ وَالْبَاطِل لجلج» مِنْ غَيْر أَنْ يَنْفُذ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا بَيَان مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُون الْمُؤْمِن عَلَيْهِ، أَيْ اللَّائِق بِحَالِهِ أَنْ يَكُون الْخَيْر عَادَته وَالشَّرّ مَكْرُوهًا لَا يَدْخُل عَلَيْهِ إِلَّا لِلَّجَاجَةِ»اه ـ.
فعلى المسلم أن يتحرى الخيرات ويستكثر منها حتى يعتاد عليها ، ويعرف بها، ويألفها فيموت عليها ويختم له -بإذن الله- بخاتمة السعداء، كما عليه أن ينفر من الشرور والآفات، ويتباعد عنها، حتى يقوى في قلبه إنكارها ويزيد بغضها، ويفر منها ومن أهلها، فيكون كما أراده الله تعالى من عباده المخلِصين المخلـَصين، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (25)
«إذا اشتريت اليوم ما هو كمالي تبيع غدا ما هو ضروري».
هذه الكلمة الحكيمة تتناول سلوكا اجتماعيا منتشرا في مجتمعاتنا - وللأسف - وهو الرغبة في الشراء والتملك دون ضوابط شرعية أو معايير اقتصادية؛ مما يعود بالآثار السلبية على الأفراد والأسر والمجتمعات.
فسوء تنظيم الإنسان لأموره المالية، وعدم كبح جماح طموحاته الاجتماعية يدفعانه إلى التمادي في الاستهلاك والاقتراض، وكثير من الآباء والأمهات لا يرفضون لأولادهم طلبا لكيلا يشعروهم بالنقص مع أقرانهم، في حين أنه من أساسيات التربية تنشئة الأبناء على التفريق بين ما يحتاجون إليه وما يريدونه؛ ليميزوا بين الحاجيات والكماليات، وما يلزم تحقيقه وما يمكن تأجيله، ليغرسوا هذا المبدأ في أبنائهم في المستقبل.
كما أن حب التقليد والمحاكاة للطبقات الغنية، من التفاخر والمباهاة بالمقتنيات، وتقييم الإنسان من خلال لباسه وسيارته وبيته وأثاثه وقيمة مقتنياته، والتركيز على المظاهر الجوفاء دون المعاني والقيم والمبادئ من أسباب تفشي هذه الظاهرة.
وللإعلام دور خطير في غرس هذا النمط الاستهلاكي عند الناس، فمن الأصول التسويقية: إن استطعت إقناع الزبون بشراء سلعتك مع أنها أكثر تكلفة من مثيلاتها فأنت مروج ناجح، أما إذا أقنعته بشرائها مع أنه لا يحتاجها فأنت أكثر نجاحا، أما أكثر المروجين نجاحا فهو الذي يقنع عميلا بشراء سلعة أكثر تكلفة وهو لا يحتاجها ولا يملك ثمنها.
أما آثار هذا السلوك فهي عديدة، منها:
1- الذل والهم : الذي يخيم على نفوس كثير من أرباب الأسر بسبب الديون والأقساط، وقد كان النبي[ يستعيذ بالله من الجبن والبخل ومن غلبة الدين وقهر الرجال؛ لما يترتب على ذلك من آثار نفسية عميقة، ومشكلات صحية وأمراض مزمنة.
2- كثرة السؤال: انتشر بين الناس كثرة السؤال المكروه شرعا كما جاء في الحديث: «وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»، وقال[: «من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمر جهنم فليستقل منه أو ليستكثر» أخرجه مسلم، وقال[: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح» قيل: وما الغنى؟ قال:«خمسون درهما أو قيمتها من الذهب»أخرجه أحمد والأربعة.
3- عدم القناعة بما قسم الله عز وجل للعبد من رزق فيتطلع إلى ما ليس في وسعه ولا استطاعته، ويسعى لمحاكاة الآخرين بالديون والأقساط، وقد حثنا الدين على القناعة فقال [: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» أخرجه مسلم.
4- كثرة المشكلة الأسرية: إما بسبب كثرة مطالبات الزوجة والأبناء لرب الأسرة مع ضعف إمكانياته المادية وما يتبع ذلك من مشاحنات وسوء العلاقات الأسرية، وإما بسبب تورط رب الأسرة في الديون والشيكات بغير رصيد وما يتبع ذلك من سجنه وضياع عمله وتشتت أبنائه وانحرافهم لغياب رقابة الأب عليهم.
5- تربية الأبناء على الإسراف والبذخ والتبذير ، والظهور بمظهر الرفاهية المزيفة، فعن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت: يا رسول الله أقول إن زوجي أعطاني ما لم يعطني؟ فقال[: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» أخرجه مسلم، قال النووي: «معناه المتكثر بما ليس عنده بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده، يتكثر بذلك عند الناس ويتزين بالباطل، فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور».
ويكمن أساس هذا السلوك الاجتماعي السلبي في غياب الوعي الشرعي بأهمية حفظ المال واستثماره وخطورة الديون وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة.
فالشارع يقرر أن المال مال الله، ونحن مؤتمنون عليه ومسؤولون عنه كما قال تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}، وقال: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، وقال[: «نعم المال الصالح للرجل الصالح»، وقال[ لأبي ذر لما أبصر أحدا: «ما أحب أنه يحول لي ذهباً يمكث عندي مائة دينار فوق ثلاث إلا دينارا أرصده لدين» أخرجه البخاري، وقال[: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» أخرجه الترمذي.
وقد أكد الشارع أهمية الاعتدال والتوسط في الإنفاق دون إسراف ولا بخل، فقال عز وجل: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}، قال الجرجاني: «الإسراف هو إنفاق المال الكثير في العرض الخسيس، وقيل: هو تجاوز الحد في النفقة»، وقال ابن القيم في تفسير الآية: «أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهلهم فيقصرون في حقهم، فلا يكفونهم، بل عدل خيار، وخير الأمور أوسطها».
وقال عز وجل: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا}، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: «هم الذين ينفقون المال في غير حقه».
وقال ابن سعدي معللا اقتران المبذرين بالشياطين: «لأن الشيطان لا يدعو إلا إلى كل خصلة ذميمة، فيدعو الإنسان على البخل والإمساك، فإذا عصاه دعاه إلى الإسراف والتبذير، والله تعالى إنما يدعو بأعدل الأمور وأقسطها ويمدح عليه كما في قوله عن عباد الرحمن الأبرار: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}، وقال هنا: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك}، كناية عن شدة الإمساك والبخل {ولا تبسطها كل البسط}، فتنفق فيما لا ينبغي، وزيادة على ما ينبغي {فتقعد} إن فعلت ذلك {ملوما} أي: تلام على ما فعلت {محسورا} أي: حاسر اليد فارغها، فلا يبقى ما في يدك من المال ولا خلفه مدح ولا ثناء»اهـ.
وقال رسول الله[: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة» أخرجه أحمد، وقال[: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» أخرجه البخاري.
قال الشيخ ابن سعدي: وقوله: «وإضاعة المال» وذلك إما بترك حفظه حتى يضيع، أو يكون عرضة للسراق والضياع، وإما بإهمال عمارة عقاره، أو الإنفاق على حيوانه، وإما بإنفاق المال في الأمور الضارة، أو غير النافعة، فكل ذلك داخل في إضاعة المال.قال: «وما كرهه الله لعباده، فهو يحب منهم ضدها» وذكر أنه سبحانه يحب من عباده «أن يحفظوا أموالهم ويدبروها، ويتصرفوا فيها التصرفات النافعة، ويصرفوها في المصارف النافعة»اهـ.
ونختم بوصية نفيسة لابن الجوزي حيث يبين حال العاقل في فقره أو غناه فيقول: «العاقل يدبر بعقله معيشته في الدنيا، فإن كان فقيرا اجتهد في كسب وصناعة تكفّه عن الذل للخلق، وقلّل العلائق، واستعمل القناعة، فعاش سليما من منن الناس عزيزا بينهم، وإن كان غنيا فينبغي له أن يدبر في نفقته خوف أن يفتقر فيحتاج إلى الذل للخلق، ومن البلية أن يبذر في النفقة ويباهي بها ليكمد الأعداء، كأنه يتعرض بذلك - إن أكثر - لإصابته بالعين، وينبغي التوسط في الأحوال، وكتمان ما يصلح كتمانه، وإنما التدبير حفظ المال، والتوسط في الإنفاق، وكتمان ما لا يصلح إظهاره».
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (26)
لا يكلف الله نفساً إلا وسعها
هذه الآية الكريمة دليل على سعة رحمة الله تعالى بعباده، وكريم فضله وإنعامه عليهم؛ إذ إن التكاليف الشرعية والمطلوبات الدينية موضوعة على حسب القدرة والطاقة، لا تخرج عن الوسع الإنساني والجهد البشري، وذلك لرحمة الله تعالى بعباده، وعلمه بضعفهم وعجزهم، ومن هنا ندرك أن مقصود الشارع الحكيم هو التيسير على المكلفين، وأن ما تشتمل عليه التكاليف الشرعية من مشقة ليس المقصود منها المشقة ذاتها، وإنما المقصود المصالح المترتبة على تلك التكاليف، كمثل الطبيب الماهر يلزم المريض بتناول الدواء المر لا يقصد بذلك إيلامه وإنما يقصد سلامته من المرض.
قال ابن كثير:«قَوْله: {لا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا} أَي:لا يُكَلَّف أَحَد فَوْق طَاقَته، وَهَذَا مِنْ لُطْفه تَعَالَى بِخَلْقِهِ وَرَأْفَته بِهِمْ وَإِحْسَانه إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ هِيَ النَّاسِخَة الرَّافِعَة لِمَا كَانَ أَشْفَقَ مِنْهُ الصَّحَابَة فِي قَوْله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه} أَيْ: هُوَ وَإِنْ حَاسَبَ وَسَأَلَ لَكِنْ لَا يُعَذِّب إِلَّا بِمَا يَمْلِك الشَّخْص دَفْعه، فَأَمَّا مَا لَا يَمْلِك دَفْعه مِنْ وَسْوَسَة النَّفْس وَحَدِيثهَا فَهَذَا لَا يُكَلَّف بِهِ الْإِنْسَان »اهـ.
قال الطبري:» يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إلَّا وُسْعهَا} فَيَتَعَبَّدهَا إلا بِمَا يَسَعهَا , فَلَا يُضَيِّق عَلَيْهَا , وَلَا يُجْهِدهَا، عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله: {لا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إلَّا وُسْعهَا} قَالَ: هُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَسِعَ اللَّه عَلَيْهِمْ أَمْر دِينهمْ , فَقَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج}، وَقَالَ: {يُرِيد اللَّه بِكُمْ الْيُسْر وَلَا يُرِيد بِكُمْ الْعُسْر}، وَقَالَ: {اتَّقُوا اللَّه مَا اسْتَطَعْتُمْ}ـ.
قال ابن سعدي: «لما نزل قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به، فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، أي: أمرا تسعه طاقتها، ولا يكلفها ويشق عليها، كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، فأصل الأوامر والنواهي أنها ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم»اهـ.
من المعلوم أن التكليف: هو إلزام مقتضى خطاب الشرع، وشرطه العلم والقدرة، قال شيخ الإسلام: «من استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل؛ فمن كان عاجزا عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها»، فلابد من أمرين ليتحقق التكليف: الأول: التمكن من العلم، والثاني: القدرة على العمل.
ومن الأدلة على الأمر الأول: قوله عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}، وقال عز وجل: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، قال شيخ الإسلام: بين سبحانه أنه لا يعاقب أحداً حتى يبلغه ما جاء به الرسول، ومن علم أن محمدا رسول الله فآمن بذلك ولم يعلم كثيرا مما جاء به الرسول، لم يعذبه الله على ما لم يبلغه، فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان بعد البلوغ فأنه لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلوغ أولى وأحرى. وقال: فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيء معين لم يثبت حكم وجوبه عليه.
ومن الأدلة على الأمر الثاني: قوله عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقال عز وجل: {لا نكلف نفسا إلا وسعها}، قال شيخ الإسلام: «تضمن ذلك أن جميع ما كلفهم به أمرا ونهيا فهم مطيقون له قادرون عليه وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون، وتأمل قوله {إلا وسعها} كيف تجد تحته أنهم في سعة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق ولا حرج ومشقة؛ فإن الوسع يقتضي ذلك، فاقتضت الآية أن ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر عليهم ولا ضيق ولا حرج».
فالذي يظهر لنا أن المشقة التي اشتملت عليها التكاليف الشرعية مشقة معتادة محتملة، كتلك التي يحتملها الناس عند القيام بمصالحهم الحياتية كالدراسة والعمل ونحوهما من مشاق مألوفة معتادة، فمشقة التكاليف الدينية ليست مشقة خارجة عن قدرتهم، ولا هي مشقة عظيمة ترهقهم وتثقل عليهم، فالشارع الحكيم يريد التخفيف عن العباد ورحمتهم والرفق بهم، فمشقة التكاليف معتادة محتملة.
ومن هنا نقرر أنه ليس للمكلف أن يقصد إلى المشقة من حيث هي مشقة يريد أن يرهق نفسه يظن أن الأجر على قدر المشقة لأنه بذلك يخالف مقصود الشارع من تشريع الأحكام التكليفية، ولم يفرق بين المشقة العارضة والمشقة المقصودة، فالمشقة من حيث هي مشقة ليست مقصودة، وإنما إذا عرضت المشقة له أثناء امتثاله فصبر عليها فهنا يقال: الأجر على قدر المشقة، كمن صام رمضان في الصيف الحار، أو توضأ بالماء البارد الذي لا يجد ما يسخنه به، فهنا المشقة عارضة وليست لازمة، بدليل أن رمضان قد يأتي بالشتاء، وماء الوضوء يمكن أن يسخن لدفع برده.
ولهذا كان النبي[ يمنع أصحابه من قصد المشقة لذاتها لأن ذلك ليس مقصودا للشارع، فقد قال [: «عليكم من الأعمال ما تطيقون» فإن الله لا يمل حتى تملوا»، وحين قالت له عائشة رضي الله عنها: هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل، فقال [: «لا تنام الليل ! خذوا من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا»، وفي حديث أنس قال: دخل رسول الله [ المسجد وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا؟ قالوا: حبل لزينب، تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال: «حلوه! ليصلّ أحدكم نشاطه, فإذا كسل أو فتر قعد»، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَيْنَا النَّبيُّ [ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: «أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِلَّ، وَلا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ ، وَلْيَسْتَظِلَّ ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ».
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنها سأل النبي [ عن أخت له نذرت أن تحج ماشية غير مختمرة، فقال: «مروها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام» وفي رواية: «إن الله غني عن مشي أختك؛ فلتركب ولتهد بدنة»، وفي رواية أخرى:«إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا، لتحج راكبة ثم لتكفر يمينها».
وعَنْ أَنَسٍ أن النَّبِيِّ [ رأى شيخا يهادى بين ابنيه فقال: «ما بال هذا؟» قالوا: نذر أن يمشي»، قَالَ:» إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ » وأمره أن يركب.
فالخلاصة أن رحمة الله تعالى واسعة تجلت في خلقه وشرعه، فعلى المكلف أن يدرك هذه الرحمة، ويشكر ربه عليها، ويعمل بها وفق المقاصد الشرعية، دون إفراط ولا تفريط، ولا مخالفة لمقاصد الشارع ولا أحكامه، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (27)
رحم الله عبدا قال فغنم أو سكت فسلم
نعمة الكلام والإبانة عن المراد من أجلّ النعم التي امتن الله تعالى بها على عباده وميزهم بها عن البهائم كما قال تعالى: {الرحمن. علم القرآن . خلق الإنسان . علمه البيان}.
قال ابن كثير:» يُخْبِر تَعَالَى عَنْ فَضْله وَرَحْمَته بِخَلْقِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى عِبَاده الْقُرْآن وَيَسَّرَ حِفْظَهُ وَفَهْمَهُ عَلَى مَنْ رَحِمَهُ، ثم نقل عن الْحَسَن تفسير قوله {علمه البيان} قال: يَعْنِي النُّطْق، وَقَالَ الضَّحَّاك وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا: يَعْنِي الْخَيْر وَالشَّرّ وَقَوْل الْحَسَن هَاهُنَا أَحْسَن وَأَقْوَى لِأَنَّ السِّيَاق فِي تَعْلِيمه تَعَالَى الْقُرْآن وَهُوَ أَدَاء تِلَاوَته، وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ بِتَيْسِيرِ النُّطْق عَلَى الْخَلْق وَتَسْهِيل خُرُوج الْحُرُوف مِنْ مَوَاضِعهَا مِنْ الْحَلْق وَاللِّسَان وَالشَّفَتَيْنِ عَلَى اِخْتِلاف مَخَارِجهَا وَأَنْوَاعهَا.».
ويرى الطبري أن البيان أشمل من مجرد النطق فقال: «وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَال: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّه عَلَّمَ الْإِنْسَان مَا بِهِ الْحَاجَة إِلَيْهِ مِنْ أَمْر دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِنَ الْحَلال وَالْحَرَام, وَالْمَعَايِش وَالْمَنْطِق, وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا بِهِ الْحَاجَة إِلَيْهِ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَخْصُصْ بِخَبَرِهِ ذَلِكَ, أَنَّهُ عَلَّمَهُ مِنَ الْبَيَان بَعْضًا دُون بَعْض , بَلْ عَمَّ .»اهـ.
قال الطاهر بن عاشور: «{علمه البيان} خبر ثالث تضمن الاعتبار بنعمة الإبانة عن المراد والامتنان بها بعد الامتنان بنعمة الإيجاد، أي علم جنس الإنسان أن يبين عما في نفسه ليفيد غيره ويستفيد هو. والبيان: الإعراب عما في الضمير من المقاصد والأغراض وهو النطق، وبه تميز الإنسان عن بقية أنواع الحيوان فهو من أعظم النعم.
ومعنى تعليم الله الإنسان البيان: أنه خلق فيه الاستعداد لعلم ذلك»اهـ.
ومن يتأمل في أحوال الناس يجد أن في كثير منهم حب الكلام والاستكثار منه فيما ينفع وفيما لا ينفع، فيما يعلم وفيما يجهل فيما يهمه وفيما لا يعنيه ، بل إن بعضهم قد اتصف ببعض الصفات المقيتة كما قيل: فلان متشدق، ثرثار، مهذار، غث المنطق، تافه الكلام، يتمنطق بالهراء، ويتنطع بفضول القول، ويتكثر بلغو المقال، إذا تكلم انصرفت عنه الوجوه، وأعرضت عنه القلوب، وانقبضت منه الصدور، وسئمته النفوس.
ولهذا نجد النصوص الشرعية والآداب الدينية تقرر فضيلتين لا غنى للمسلم عنهما، وهما؛ إما النطق بخير أو الصمت وحفظ اللسان، فعن أبي هريرة ] أن رسول الله [ قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت» متفق عليه.
قال النووي: «معناه: أنه إذا أراد أن يتكلم؛ فإن كان ما يتكلم به خيرا محققا يثاب عليه؛ واجبا أو مندوبا، فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام، سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح مستوي الطرفين، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورا بتركه، مندوبا إلى الإمساك عنه مخافة انجراره إلى المحرم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرا أو غالبا، وقد قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.
ونقل عن القشيري أنه قال: «الصمت بسلامة هو الأصل ، والسكوت في وقته صفة الرجال، كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال»اهـ.
وقال [ : «رحم الله عبدا قال خيرا فغنم, أو سكت عن سوء فسلم» حسنه الألباني، وهو ظاهر الدلالة في تقرير هذا الأصل الكريم في قول الخير أو السكوت والصمت.
والنصوص الشرعية التي تقرر خطر اللسان كثيرة مما يدل على فضل الصمت وقلة الكلام ، منها قول النبي [ : «إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب». متفق عليه، قال النووي: «معناه: لا يتدبرها ويفكر في قبحها، ولا يخاف ما يترتب عليها، وهذا كله حث على حفظ اللسان».
عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال [ : «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك»، وقال سفيان بن عبد الله:قلت: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال [ :»قل: ربي الله، ثم استقم»، قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال:»هذا».
وقد تتابع العلماء من الصحابة ومن بعدهم على الحث على حفظ اللسان والصمت عن السوء، قال أبو الدرداء:» أنصف أذنيك من فيك، فإنما جُعل لك أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تتكلم»، وقال ابن مسعود: «والله الذي لا إله إلا هو، ليس شيء أحوج إلى طول حبس من لساني»، وكان يقول: «يا لسان قل خيرا تغنم ، واسكت عن شر تسلم، من قبل أن تندم»، وقال أبو الدرداء: «لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين: منصت واع ٍ، أو متكلم عالم»، وقال الأوزاعي: «ما بلي أحد في دينه ببلاء أضر عليه من طلاقة لسانه».
وما أحسن نصيحة أبي حاتم البستي حين قال :«الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في حفظ اللسان حتى يستقيم له؛ إذ اللسان هو المورد للمرء موارد العطب، والصمت يكسب المحبة والوقار، ومن حفظ لسانه أراح نفسه، والرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، والصمت منام العقل، والمنطق يقظته»اهـ
ولا يخفى أن الجدل والاعتراض والنقاش العقيم بين الناس سبب لكثير من البغضاء والخصومات ، فبعض الناس هوايته الجدل وإجبار الناس على قبول رأيه ، ومتعته في تسفيه آراء الآخرين، في حين أن الأمر واسع واختلاف وجهات النظر فيما يتسع فيه المجال للتنوع ليس مبررا للخصومة والجدل؛ فاحفظ للجليس كرامته باحترام رأيه وليس من الضرورة أن توافقه، فالصمت في مثل هذه المواضع خير من الجدل العقيم، كما قال البستي:» الواجب على العاقل ألا يغالب الناس على كلامهم ، ولا يعترض عليهم فيه؛ لأن الكلام - وإن كان في وقته - حظوة جليلة فإن الصمت في وقته مرتبة عالية، ومن جهل بالصمت عيّ بالمنطق، والإنسان إنما هو صورة ممثلة أو صالـّة مهملة ، لولا اللسان ، والله جل وعز رفع جارحة اللسان على سائر الجوارح، فليس منها شيء أعظم أجرا منه إذا أطاع ، ولا أعظم ذنبا منه إذا جنى»اهـ.
فما أحوجنا إلى لزوم الصمت والإقلال من الكلام في زمن أصبح فيه الكلام مصدر للرزق، فهناك من يثري من ثرثرة بعضنا، بل ويحثنا على كثرة الكلام ليستنزف أموالنا، واسمع نصيحة البستي حين قال: «الواجب على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلم، فما أكثر من ندم إذا نطق، وأقل من يندم إذا سكت ، وأطول الناس شقاء، وأعظمهم بلاء من ابتلي بلسان مطلق، وفؤاد مطبق».اهـ.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (30)
المسلمون على شروطهم
من الصفات التي رسخها الإسلام، ومدحها القرآن، ورتب عليها الجزاء الجزيل والثواب الوفير، الوفاء بالعهود، وأداء الالتزامات، فقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}، وقال تعالى: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما}، وقال تعالى في مدح المؤمنين: {إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق}، وقال تعالى: {وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون}، وغير ذلك من الآيات التي وردت بشأن الوفاء بالعهود والعقود وسائر الالتزامات للخالق سبحانه وللمخلوقين .
والوفاء هو إتمام العهد وإكمال الشرط، وهو ضد الغدر، والعرب تمدح الشخص بهذه الصفة فتقول: فلان برّ، وفيّ، كريم العهد، صادق الوعد، وثيق الذمة، صحيح الموثق، ثابت العقد .
وقد بيـّن الراغب الأصفهاني أن الوفاء من الصفات اللازمة للإنسانية الدال على كمال الشخص ورفعته فيقول: «الوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والجور، وذلك أن الوفاء صدق باللسان والفعل معا، والغدر كذب بهما، وفيه مع الكذب نقض العهد، والوفاء يختص بالإنسان ، فمن فقده فقد انسلخ من الإنسانية كالصدق، وجعل الله العهد من الإيمان، وصيره قواما لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون، ولا يتم تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفعت المعايش، ولذلك عظم الله تعالى أمره فقال تعالى: {وأوفوا بعهدي أُوف ِبعهدكم وإياي فارهبون}، وقال تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم}، وقال تعالى: {وثيابك فطهر}أي: نزه نفسك عن الغدر، وقال عز وجل: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} وقال عز وجل: {والذين لأماناتهم وعهدهم راعون} ولقلة وجود ذلك في الناس قال تعالى : {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} اهـ.
ومن الأحاديث الجامعة التي أكدت أهمية الوفاء بالعهود والالتزامات حديث عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه قال: قال النبي [ : «المسلمون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما» أخرجه أبو داود والترمذي .
ومعنى قوله [ : «المسلمون على شروطهم» أي: ثابتون عليها لا يرجعون عنها، فالمسلم يوفي بما عليه من حقوق وواجبات ولا يتهرب منها، ولا يتحايل لإسقاطها والتملص منها، بل إن دينه وإيمانه يحمله على أداء الحقوق والوفاء بالالتزامات .
فهذا الحديث تناول أحكاماً شرعية عدة؛ منها: وجوب الوفاء بالعهود والالتزامات التي يعقدها الإنسان على نفسه سواء مع الله تعالى بمقتضى إسلامه كالقيام بواجب الإيمان والإخلاص ونبذ الشرك والمعاصي، وكأداء العبادات الواجبة، أو ما يعقده الإنسان مع غيره من المسلمين أو غيرهم من معاملات وتبرعات وغيرها من تصرفات لازمة كما قال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}.
أما الحكم الثاني الذي يستفاد من هذا الحديث فهو أن الأصل في الشروط والعقود هو الحل والإباحة إلا ما قام الدليل على بطلانه كما قال شيخ الإسلام: «الأصل في الشروط الجواز والصحة، والتزامها لمن شرطت عليه، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله» اهـ
وقال أيضا: «فالأصل في العقود كالأصل في الأفعال العادية (عدم التحريم)؛ لأنها ليست من العبادات، وقوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} عام في الأعيان والأفعال ، وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة، وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت تحريمه بعينه ، وانتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم، فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا» اهـ .
أما استدلال بعض العلماء بقوله [ : «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» -متفق عليه- على أن الأصل في الشروط الحظر إلا ما دل عليه الدليل النقلي، فالجواب عنه بما قاله ابن بطال أن: «المراد بـ (كتاب الله) هنا حكمه من كتاب الله أو سنة رسوله [ ، لا أن كل من شرط شرطا لم ينطق به الكتاب يبطل، لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط، ويشترط في الثمن شروطا - من أوصافه ومن نجومه - ونحو ذلك فلا يبطل «اهـ.
وقال ابن القيم في بيان المراد بـ (كتاب الله في الحديث): «ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعا، فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن بل علمت من السنة، فعلم أن المراد بـ (كتاب الله) حكمه، كقوله: {كتاب الله عليكم} وقول النبي [ : «كتاب الله القصاص»، فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله، ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له فيكون باطلا»اهـ.
أما الحكم الثالث الذي دل عليه الحديث فهو أن الشروط نوعان: شروط صحيحة، وشروط فاسدة، فالشروط الصحيحة لازمة، وأما الشروط الفاسدة فهي لاغية.
قال الخطابي في بيان مورد الحديث: «هذا في الشروط الجائزة في حق الدين دون الشروط الفاسدة، وهو من باب ما أمر الله تعالى من الوفاء بالعقود».
وقال الشيخ ابن سعدي: «إن الشروط في جميع العقود نوعان: صحيحة وباطلة:
فأما الصحيحة: فهي كل شرط اشترطه المتعاقدان لهما، أو لأحدهما فيه مصلحة، وليس فيه محذور من الشارع، قال: فإنها شروط لازمة للمتعاقدين، إذا لم يف أحدهما بما عليه منها كان للآخر الفسخ . ثم ذكر أمثلة من الشروط الصحيحة؛ كأن يشترط المشتري أن الثمن أو بعضه مؤجل بأجل مسمى، أو يبيع الشيء ويشترط البائع أن ينتفع به مدة معلومة، ومثل أن يشترط سكنى البيت أو الدكان مدة معلومة أو يستعمل الإناء مدة معلومة وما أشبه ذلك، وكذلك شروط الرهن والضمان والكفالة هي من الشروط الصحيحة اللازمة، ومثل الشروط التي يشترطها المتشاركان في مضاربة أو شركة، ومثل شروط الواقفين والموصين في أوقافهم ووصاياهم من الشروط المقصودة، وكذلك الشروط بين الزوجين، فكلها صحيحة إلا شروطا تحلل الحرام وعكسه كالتي تعود إلى الجهالة والغرر .
وأما الشروط الباطلة : فهي التي تضمنت إما تحليل حرام أو تحريم حلال، ويدخل فيها جميع الشروط الباطلة في البيع والإجارة والرهن والوقف والنكاح؛ فإنها مشتملة على تحريم الحلال أو تحليل الحرام، ومن تأملها وجدها كذلك «أهـ.
فحري بالمسلم أن يفي بالشروط والحقوق، ويحذر من الغدر والخيانة لأنهما من أسباب ورود النار كما قال [ : «المكر والخديعة والخيانة في النار» حديث حسن(ص.ج.6726)، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (31)
إن أردت التنعم بما تستحق هب الآخريـن ما يستحقــون
العدل من أهم القيم الإسلامية ، ومن أعظم الأسس التي يقوم عليها التشريع والمجتمع والأخلاق، والعدل يقتضي القيام بحقوق الله تعالى، والقيام بحقوق العباد تامة غير منقوصة ، فبعض الناس - وهم قلة - يطالبون بحقوقهم وزيادة، لكنهم لا يؤدون واجباتهم تجاه الله تعالى ولا تجاه العباد، وهذا ليس من العدل ولا الإنصاف، فميزان القسط يقتضي التوازن بين الحقوق والواجبات، بحيث يؤدي الإنسان ما عليه من واجبات قبل أن يطالب بما له من حقوق، أما العكس فهي أثرة مقيتة وأنانية كريهة، إذا غرست بذورها في الأفراد والمجتمع أنبتت آثارا وخيمة من الفساد والبغضاء والحقد والفوضى والتذمر من ضياع الحقوق واستئثار البعض بالفرص ، وربما تجاوز الأمر القول إلى الفعل بإلحاق الأذى بالآخرين انتقاما منهم وعقوبة لهم .
ولهذا ذم الشرع الأثرة وحذر من آثارها، وأمر بالصبر والمطالبة بالحقوق وفق السبل المشروعة واجتناب الفوضى أو سلوك الطرق غير المشروعة .
فعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَلاَ بِرَسُولِ اللهِ [ فَقَالَ: أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلاَنًا؟ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِيَ أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ»، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ [ : «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ».
فمن العدل أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملونك، وذلك بأداء الحقوق والتزام الواجبات ومراعاة الآخرين، ولذا قيل: «إن أردت التنعم بما تستحق هب الآخرين ما يستحقون»، وهذا المبدأ هو ما دلت عليه السنة المطهرة ،فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي [ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» متفق عليه.
قال النووي: «معناه لا يؤمن الإيمان التام، وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة، والمراد يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات، ويدل عليه ما جاء في رواية النسائي في هذا الحديث: «حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه».
ومن كمال الإيمان أن يحب المسلم لإخوانه ما يحب لنفسه، وأن يبغض لهم ما يبغضه لنفسه، قال ابن رجب: «والمقصود أن من جملة خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه، فإذا زال ذلك عنه فقد نقص إيمانه، وقد روي أن النبي [ قال لأبي هريرة: «أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا» أخرجه الترمذي وهو حسن(ص.ج:7833)
ومن النصوص الشرعية التي تؤكد هذا المعنى قوله [ : «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه» رواه مسلم.
قال النووي: «هذا من جوامع كلمه [ وبديع حكمه، وهذه مهمة، فينبغي الاعتناء بها، وأن الإنسان يلزم أن لا يفعل مع الناس إلا ما يحب أن يفعلوه معه».
فالمؤمن صحيح الإيمان يراعي إخوانه المسلمين، فيقوم لهم بما يستحقونه منه، كما يحب منهم أن يقوموا له بما يستحقه عليهم، سواء ما تعلق بالأمور المالية أومالسلوكية، فإذا كنت تحب أن يحترمك الناس فاحترمهم، وإذا كنت تكره منهم أن يغشوك أو يأكلوا مالك بغير حق فلا تفعل ذلك بهم، وإذا كنت تريد منهم أن يحفظوا غيبتك ويحترموا خصوصيتك فابدأ بنفسك واحفظ غيبتهم واحترم خصوصيتهم، وهكذا في كل الأمور، فلو وضع الإنسان نفسه مكان غيره لعرف التصرف الصحيح في كل موقف، إلا أن بعض الناس يظن أنه يعيش في هذه الدنيا منفردا فيفعل ما يريد دون مراعاة لحقوق الآخرين أو مشاعرهم، أو يتوهم أنه مركز الكون فعلى الناس أن يدوروا حوله مؤدين الحقوق والواجبات له، وليس لهم عليه شيء ولا أن يطالبوه بحق ولا أداء واجب، ولاشك أن هذه أنانية مفرطة ونرجسية بغيضة، فالمؤمن يحب لنفسه ما يحب لإخوانه ويكره لهم ما يكرهه لنفسه .
وقد كان النبي [ يطبق هذا المبدأ عمليا مع أصحابه ، فقد قال لأبي ذر رضي الله عنه : « يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرنّ على اثنين، ولا تولين مال يتيم»، قال ابن رجب:» وإنما نهاه عن ذلك لما رأى من ضعفه، وهو يحب هذا لكل ضعيف، وإنما كان يتولى أمور الناس لأن الله قواه على ذلك وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم»اهـ.
ويبين ابن رجب أن تحصيل هذه الصفة الطيبة إنما يكون بسلامة الصدر من أمراض القلوب فقال: «وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن ويريد لأخيه المؤمن ما يريد لنفسه من الخير، وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغش والغل والحسد، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير أو يساويه فيه، لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله وينفرد بها عنهم والإيمان يقتضي خلاف ذلك، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء «اهـ.
وفي الختام، فإن دعوى الأخوة الإيمانية تحتاج إلى دليل عملي يصدقها، ولا أدل على ذلك من حسن الخلق مع المؤمنين كما قال النبي [ : «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»، ورأس ذلك أن يقيم المسلم أخوانه مقام نفسه، فيحب لهم ما يحب لها، ويكره لهم ما يكره لها، كما وصف الله تعالى عباده المؤمنين بقوله : {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.
كما أن المجتمعات تتقدم وتزدهر بالتعاون والتكامل، وأن يقدم كل فرد أحسن ما عنده لخدمة إخوانه ومجتمعه كما أمر الله تعالى عباده فقال: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، أما الأنانية والأثرة فباب الفساد والشر، وعنوان العداوة والقطيعة ، نسأل الله تعالى العافية والسلامة من كل إثم، وبالله التوفيق .
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (32)
قل لله العـزة جميعاً
يرسخ الإسلام في أتباعه المؤمنين العقيدة الصحيحة والأخلاق الحميدة والقيم الرفيعة، ليكونوا مثالا حيا وصورة واقعية للمسلم الحق الذي يريده لله تعالى، المسلم الذي يخلص دينه لله تعالى، فيتحرر من قيود الوثنية والعبودية لغير الله التي أذلت رقاب الناس للناس، وجعلتهم أسرى للأفكار البشرية والعقائد الشركية، فأذهانهم عليلة، ونفوسهم ذليلة، وأبدانهم أسيرة .
أما المسلم الحق فإنه حر القلب والعقل والبدن، فهو عالي الهمة، عزيز النفس، شريف الطبع، لا يعنو لقهر، ولا يقيم على مذلة، غرس الإسلام فيه معاني الكرامة، وأصول الأنفة، وقواعد العزة، كما قال عمر:» إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله».
والعزة كما يعرفها الأصفهاني: «حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، من قولهم: أرض عزاز أي: صلبة، والعزيز: الذي يقهر ولا يُـقهر قال تعالى :{ إنه هو العزيز الحكيم} وقال تعالى:{سبحان ربك رب العزة}، فقد يمدح بالعز تارة كما ترى، ويذم بها تارة كعزة الكفار قال:{ بل الذين كفروا في عزة وشقاق}، ووجه ذلك أن العزة التي لله ولرسوله وللمؤمنين هي الدائمة الباقية التي هي العزة الحقيقية، والعزة التي هي للكافرين هي التعزز، وهو في الحقيقة ذل كما قال عليه الصلاة والسلام: «كل عز ليس بالله فهو ذلّ»، وعلى هذا قوله:{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا} أي: ليتمنعوا بهم من العذاب، وقوله :{من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} معناه: من كان يريد أن يعز يحتاج أن يكتسب منه تعالى العزة فإنها به، وقد تستعار العزة للحمية والأنفة المذمومة وذلك في قوله: {أخذته العزة بالإثم}ـ» اهـ.
وأما ورودها في القرآن الكريم فهو على أوجه كما ذكر ذلك ابن الجوزي في الوجوه والنظائر فقال : «العزة في القرآن على ثلاثة أوجه:
- أحدها : العظمة،ومنه قوله تعالى: {وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون}، وقال تعالى:{قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين}.
- والثاني : المنعة، ومنه قوله تعالى :{أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا}.
- والثالث: الحميّـة، ومنه قوله تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} وقال تعالى: {بل الذين كفروا في عزة وشقاق}.»اهـ.
وجاءت العزة مضافة لله تعالى في مواضع منها قوله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ }، وقوله تعالى:{سبحان ربك رب العزة عما يصفون}، وقوله تعالى:{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.
وأيضا جاء هذا المعنى في السنة المطهرة فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقول الله سبحانه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحدا منهما ألقيته في النار» مسلم.
والعزيز من أسماء الله تعالى الحسنى ومعناه كما قال ابن كثير: «العزيز الذي قد عزّ كل شيء فقهره، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه».
وهناك فرق دقيق بين العزة والكبر كما بينه الأصفهاني بقوله: «أما العزة فالترفع بالنفس عما يلحقها غضاضة، وأصلها من العزاز وهو الأرض الصلبة، فالمتعزز من حصوله في عزاز لا يلحقه فيه غضاضة، والعزة منزلة شريفة، وهي نتيجة معرفة الإنسان بقدر نفسه، وإكرامها عن الضراعة للأعراض الدنيوية، كما أن الكبر نتيجة جهل الإنسان بقدر نفسه وإنزالها فوق منزلتها، وكثير ما يتصور أحدهما بصورة الآخر، كتصور التواضع والتضرع والتذلل بصورة واحدة، وتصور الإسراف بصورة الجود، والبخل بصورة الحزم؛ ولهذا قال الحسن ] لمن قال له : ما أعظمك من نفسك؟ فقال: لست بعظيم ولكنني عزيز قال الله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، وقال [: «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه».
وسبيل تحصيل العزة المحمودة بلزوم طاعة الله تعالى وامتثال شرعه كما قال إبراهيم بن شيبان : «الشرف في التواضع، والعز في التقوى، والحرية في القناعة».
وفي المقابل فإن المعصية تورث الذل والمهانة، قال ابن القيم : «المعصية تورث الذل ولابد، فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله، كان من دعاء بعض السلف :»اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك»، وقال الحسن البصري : «إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه»اهـ
كما أن الصفح والعفو من أسباب تحصيل العزة كما قال النبي [: «وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا»أخرجه مسلم، يوضح النووي معناه بأنه فيه وجهان:أحدهما : أنه على ظاهره، وأن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب،وزاد عزه وإكرامه، والثاني : أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك»اهـ.
ويبين الشيخ ابن سعدي المناسبة في الآية الكريمة بين العزة والكلم الطيب والعمل الصالح فيقول : «أي: يا من يريد العزة، اطلبها ممن هي بيده؛ فإن العزة بيد اللّه، ولا تنال إلا بطاعته، وقد ذكرها بقوله: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } من قراءة وتسبيح وتحميد وتهليل وكل كلام حسن طيب، فيرفع إلى اللّه ويعرض عليه ويثني اللّه على صاحبه بين الملأ الأعلى { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ } من أعمال القلوب وأعمال الجوارح {يَرْفَعُهُ } اللّه تعالى إليه أيضا، كالكلم الطيب.»اهـ.
ويؤكد ابن كثير هذا المعنى أيضا فيقول: «وَقَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَلِلَّهِ الْعِزَّة جَمِيعًا } أَيْ مَنْ كَانَ يُحِبّ أَنْ يَكُون عَزِيزًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَلْيَلْزَمْ طَاعَة اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ يَحْصُل لَهُ مَقْصُوده؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَالِك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلَهُ الْعِزَّة جَمِيعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى :{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدهمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّة لِلَّهِ جَمِيعًا } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:{وَلَا يَحْزُنك قَوْلهمْ إِنَّ الْعِزَّة لِلَّهِ جَمِيعًا} وَقَالَ جَلَّ جَلَاله : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةَ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} َقَالَ قَتَادَة:{ مَنْ كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَإِنَّ الْعِزَّة لِلَّهِ جَمِيعًا } أَيْ: فَلْيَتَعَزَّزْ بِطَاعَةِ اللَّه عَزَّ وَجَلّ»اهـ.
فالخلاصة أن العزة من صفات الله تعالى؛ فعلى المسلم أن يسأل ربه من فضله، ويسلك طريق طاعته لتحصل له العزة في الدنيا والآخرة، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (33)
زر غبا تزدد حبا
الأخوة الإيمانية، ورابطة العقيدة الإسلامية من أهم الركائز التي يقوم عليها المجتمع المسلم، كما قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة}، وقال النبي [: «المسلم أخو المسلم»، فالمسلمون إخوة تجمعهم رابطة الإيمان وأخوة العقيدة على اختلاف الزمان وتنوع المكان.
ولهذه الأخوة حقوق وواجبات، وآثار ومقتضيات، كما أن لها أسبابا تقويها، وموانع تحول دون تحقق آثارها ونتائجها.
والزيارة بين الإخوان من أسباب ترسيخ المحبة وتأكيد الأخوة، كما أنها من الأعمال الدينية المستحبة كما دلت على ذلك النصوص الشرعية كقوله [: «من عاد مريضا أو زار أخا في الله ناداه مناد: أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا « رواه الترمذي، قال شراح الحديث:»قوله: «من عاد مريضا» أي: محتسبا «أو زار أخا له» في الدين لوجه الله لا للدنيا ناداه مناد» أي ملك «أن طبت» دعاء له بطيب عيشه في الدنيا والآخرة، وطاب ممشاك قال الطيبي: كناية عن سيره وسلوكه طريق الآخرة بالتعري عن رذائل الأخلاق والتحلي بمكارمها، «وتبوأت من الجنة منزلا» أي تهيأت من منازل الجنة العالية منزلة عظيمة ومرتبة جسيمة بما فعلت «اهـ.
وقال النبي [: «أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته - أي: طريقه - ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربّها عليه؟ - أي: تقوم بإصلاحها - قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجلّ، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه» أخرجه مسلم، قال النووي:»في هذا الحديث فضل المحبة في الله تعالى، وأنها سبب لحب الله تعالى العبد، وفيه فضيلة زيارة الصالحين والأصحاب «اهـ
ومما جاء في فضل الزيارة قوله [:» ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة ؟ ثم ذكر منهم :» والرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الله، في الجنة» أخرجه الدارقطني وحسنه الألباني.
وفي الحديث القدسي قال الله عز وجلّ: «حقت محبتي للمتزاورين فيّ» أخرجه أحمد وصححه الألباني.
ونلاحظ من الأحاديث المتقدمة وغيرها اشتراط الإخلاص لله تعالى في الزيارة وابتغاء وجه الله والتماس الأجر والمثوبة منه سبحانه، فلا يقصد الزائر مصلحة دنيوية أو منفعة مادية، حتى ينال ذلك الجزاء والفضل، ومن المقاصد المشروعة طلب العلم، وصلة الرحم، وعيادة المريض، وتفقد الأحوال لقضاء الحاجات، وترويح الأنفس بالمباحات ونحوها من مقاصد حسنة ونيات صالحة.
قال أبو حاتم في روضة العقلاء:»الواجب على العاقل تعاهد الزيارة للإخوان، وتفقد أحوالهم؛ لأن الزائر في قصده الزيارة يشتمل على مصادفة معنيين:
أحدهما : استكمال الذخر في الآجل بفعله ذلك.
والآخر : التلذذ بالمؤانسة بالأخ المزور، مع الانقلاب بغنيمتين معا «.
وللزيارة آداب وأحكام ينبغي للزائر مراعاتها؛ منها أحكام الاستئذان والسلام وآداب المجلس والحديث، ومنها أيضا أن تكون الزيارة سببا لزيادة الود وليست لترسيخ القطيعة وغرس البغضاء بسبب إثقال الزائر على المزور، أو مضايقته ببعض التصرفات الساذجة، كطلب بعض الأطعمة، أو التدخل في الأمور الخاصة، أو انتقاد ما يراه من أثاث أو طعام أو غير ذلك، أو اصطحاب الأطفال المزعجين، ومن ذلك عدم الإطالة في الزيارة أو تكرارها بما يقتضي الملل؛ ولهذا جاء في الحديث:» زر غبا تزدد حبا» أخرجه البزار وغيره وصححه الألباني.
ويبين ابن الأثير معنى الحديث فيقول:»الغِبّ من أوراد الإبل أن ترد الماء يوما وتدعه يوما ثم تعود، فنقله إلى الزيارة وإن جاء بعد أيام، يقال : غبّ الرجل إذا جاء زائرا بعد أيام، وقال الحسن: في كل أسبوع، ومنه الحديث:»أغبوا في عيادة المريض» أي لا تعودوه في كل يوم؛ لما يجد من ثقل العوّاد «اهـ.
فإن قيل إن النبي [ كان يكثر زيارة أبي بكر رضي الله عنه كل يوم بكرة وعشيا، كما ذكرته عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب: هل يزور صاحبه كل يوم بكرة وعشيا؟ فهل هذا يعارض الحديث المذكور؟
فالجواب كما قال ابن حجر :»لا منافاة بين هذا الحديث وحديث الباب - يعني حديث عائشة - لأن عمومه يقبل التخصيص، فيحمل على من ليست له خصوصية ومودة ثابتة، فلا ينقص كثرة زيارته من منزلته. قال ابن بطال: «الصديق الملاطف لا تزيده كثرة الزيارة إلا محبة بخلاف غيره»اهـ.
وقال أبو حاتم :» الناس في الزيارة على ضربين :
فمنهم من صحح الحال بينه وبين أخيه، وتعرى عن وجود الخلل، وورود البغض فيه، فإذا كان بهذا النعت، أحببت له الإكثار من الزيارة، والإفراط في الاجتماع ؛ لأن الإكثار من الزيارة بين من هذا نعته لا يورث الملالة، والإفراط في الاجتماع بين من هذه صفته يزيد في المؤانسة.
والضرب الآخر : لم يستحكم الود بينه وبين من يواخيه، ولا أداهما الحال إلى ارتفاع الحشمة بينهما فيما يبتذلان لمهنتيهما، فإذا كان بهذا النعت أحببت له الإقلال من الزيارة؛ لأن الإكثار منها بينهما يؤدي إلى الملالة، وكل مبذول مملول، وكل ممنوع ملذوذ، وقد روي عن النبي [ أخبار كثيرة تصرح بنفي الإكثار من الزيارة حيث يقول: «زر غبا تزدد حبا»اهـ.
فالمسلم يراعي حقوق الله تعالى بالإخلاص والاتباع، ويراعي حقوق العباد بالأخوة والرحمة والإنصاف، دون أن يضر نفسه أو يؤذي غيره حسيا أو معنويا، فيقدر ظروفهم، ويراعي مشاعرهم، ويثمن أخوتهم، وينمي محبتهم، ويحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه؛ لأنه وإياهم كالجسد الواحد يكمل بعضه بعضا، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (34)
خلـق الإنسـان من عجـل
لا نزال نسمع أن هذا العصر هو (عصر السرعة)؛ لما فيه من سرعة المواصلات، وسرعة التقنيات، وسرعة الإنجازات، وهذا أمر جيد ولا شك؛ لأن فيه تيسير الحياة على الناس وتوفير الأوقات والجهود، إلا أن الأمر اللافت للنظر هو انعكاس هذه المقولة على ثقافة الناس وسلوكهم، فالعجلة والاستعجال، والضجر وقلة الصبر، والرعونة والاستهتار سواء في الطرقات، أم في مواضع الاجتماعات كالوزارات والمجمعات تجد هذه الظاهرة بارزة بشكل واضح ولافت فكم من أرواح أزهقت بسبب العجلة في الشوارع، وكم من أسرة تهدمت بسبب عجلة أحد الزوجين في الحكم على الآخر أو استعجاله في ردة فعله، بل وصلت العجلة إلى المساجد فبعض الأئمة يستعجل في صلاته فلا يدرك المأموم القراءة أو التشهد، وبعض المأمومين يستعجل في صلاته فلا يطمئن في ركوعه أو سجوده، أو يبادر بمغادرة المسجد قبل أن يردد أذكار الصلاة أو يؤدي النافلة.
وكذلك تبرز العجلة في المجتمع في الحكم على الناس والأشياء قبل التثبت سواء في وسائل الإعلام أم في المجالس واللقاءات، وكذلك في سرعة الجواب بين المتحاورين قبل فهم الكلام أو حتى قبل أن يكمل الآخر كلامه، وأمثلة لا تنتهي من مظاهر العجلة المذمومة وآثارها الخطيرة.
وبالتأمل في كتاب الله تعالى نجد أن العجلة - في غير أمور الدين والآخرة - مذمومة، كما قال [: «التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة»أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
فقوله تعالى:{خلق الإنسان من عجل} أكبر دلالة على هذه الحقيقة الشرعية، وقد تباينت أقوال العلماء في المراد بهذه الآية:
قال ابن سعدي: «{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي: خلق عجولا، يبادر الأشياء، ويستعجل بوقوعها، فالمؤمنون يستعجلون عقوبة الله للكافرين، ويتباطئونها، والكافرون يتولون ويستعجلون بالعذاب، تكذيبا وعنادا، ويقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} والله تعالى يمهل ولا يهمل ويحلم، ويجعل لهم أجلا مؤقتا { إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ْ} ولهذا قال: { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} أي: في انتقامي ممن كفر بي وعصاني {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ } ذلك، وكذلك الذين كفروا يقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قالوا هذا القول، اغترارا، ولما يحق عليهم العقاب، وينزل بهم العذاب.»اهـ.
وقال القرطبي: «{خلق الإنسان من عجل} أي ركب على العجلة فخلق عجولا ؛ كما قال الله تعالى:{الله الذي خلقكم من ضعف} أي: خلق الإنسان ضعيفا، أي: طبع الإنسان العجلة، فيستعجل كثيرا من الأشياء وإن كانت مضرة.»اهـ.
وقال ابن كثير: «وقوله: {خلق الإنسان من عجل}، كما قال في الآية الأخرى: {وكان الإنسان عجولا} أي: في الأمور. والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت، فقال الله تعالى:{خلق الإنسان من عجل}; لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يؤجل ثم يعجل، وينظر ثم لا يؤخر; ولهذا قال: {سأوريكم آياتي} أي: نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني، {فلا تستعجلون}.
وقال الطاهر: «والعجل: السرعة، وخلق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جبلة الإنسانية، شبهت شدة ملازمة الوصف بكون مادة التكوين موصوفة؛ لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية. فإذا فكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين؛ فلا جرم كان الإنسان عجولا بالطبع فكأنه مخلوق من العجلة، ونحوه قوله تعالى: {وكان الإنسان عجولا}، وقوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا}. ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر، ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه.
وجملة: {سأريكم آياتي} هي المقصود من الاعتراض، وهي مستأنفة، والمعنى: وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلاك أئمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين.
وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله، ولكل أجل كتاب، فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد»اهـ.
ومن عجيب أمر العجلة أنها تحمل الإنسان على أن يضر نفسه كما قال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولا }، قال ابن سعدي: «وهذا من جهل الإنسان وعجلته حيث يدعو على نفسه وأولاده وماله بالشر عند الغضب ويبادر بذلك الدعاء كما يبادر بالدعاء في الخير، ولكن الله - بلطفه - يستجيب له في الخير ولا يستجيب له بالشر: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم ْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}»اهـ.
ولخطورة العجلة نسبت إلى الشيطان كما جاء في الحديث: «التأني من الله، والعجلة من الشيطان» أخرجه البيهقي وحسنه الألباني، ومعلوم أن كل ما أضيف إلى الشيطان فهو مذموم كما قال تعالى: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين}.
ولهذا كثرت أقوال العلماء في بيان فضل الرفق والتؤدة والتحذير من العجلة والطيش، قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: «اعلموا أن الحلم زينة، والوفاء مروءة، والعجلة سفه، والسفر ضعف، ومجالسة أهل الدناءة شين، ومخالطة أهل الفسق ريبة».
قال أبو حاتم في روضة العقلاء: «الرافق لا يكاد يسبق، كما أن العَجِل لا يكاد يلحق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم، كذلك من نطق لا يكاد يسلم، والعجل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم، والعجل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تكني العجلة، أم الندامات.
ونقل عن إبراهيم بن عمر بن حبيب قوله: كان يقال:لا يوجد العجول محمودا، ولا الغضوب مسرورا، ولا الحر حريصا، ولا الكريم حسودا، ولا الشره غنيا، ولا الملول ذا إخوان».
وقال أبو حاتم أيضا مبينا سبب العجلة وأثرها: «العجلة تكون من الحدة، وصاحب العجلة إن أصاب فرصته لم يكن محمودا، وإن أخطأها كان مذموما، والعجل لا يسير إلا مناكبا للقصد، منحرفا عن الجادة.
ونقل عن خالد بن برمك أنه قال: من استطاع أن يمنع نفسه من أربعة أشياء فهو خليق ألا ينزل به كبير مكروه؛ العجلة، واللجاجة، والعجب، والتواني، فثمرة العجلة الندامة، وثمرة اللجاجة الحيرة، وثمرة العجب البغضة، وثمرة التواني الذل.»اهـ.
فما أحوجنا في عصر السرعة إلى التأني والروية، والتؤدة والرفق، والصبر والنظر، في أمورنا كلها لنظفر بالمقاصد والغايات ونسلم من الندامة والخسران، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (35 )
حولهـــا ندنــدن
هذه الجملة المختصرة تتكرر على ألسنة كثير من الناس مستشهدين بها عند تقرير بعض الغايات المتفقة، وتأكيد بعض الأهداف المشتركة، فإذا التقت المقاصد واتفقت الوجهات قال أحدهم للآخر : حولها ندندن، أي قد اتفقت مقاصدنا وإن اختلفت عباراتنا أو وسائلنا.
ولا يخفى أن هذه العبارة الوجيزة هي كلام نبوي بليغ، حدد فيه النبي [ بكل وضوح وإيجاز الغاية التي ينبغي للمسلم أن يطلبها، والمقصد الذي ينبغي أن يسعى إليه؛ وذلك لأن تحديد الأهداف يعين على تعيين السبل، وضياع الأهداف يجعل سعي الإنسان عبثا وضلالا؛ لذا كان تحديد الأهداف مهما، كما أن وضوحها لا يقل أهمية؛ لأن الأهداف المبهمة تزيد حيرة الإنسان وتشتته، ولا تعينه على تحديد طريقه؛ لذا نجد أن القرآن الكريم واضح ومحدد ومباشر في تحديد الأهداف العليا للإنسان فقال تعالى:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وقال سبحانه:{ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}.
وبين الوسيلة بقوله عز وجلّ: {إياك نعبد وإياك نستعين} وقال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون} فالعبادة والاستعانة والدعاء والتقوى والمجاهدة سبيل لتحقيق أعلى الغايات وأسمى المقاصد.
وهذا الحديث الكريم يؤكد هذا المعنى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ] قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [ لِرَجُلٍ: «مَا تَقُولُ فِي الصَّلاةِ؟» قَالَ: أَتَشَهَّدُ ثُمَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ، أَمَا وَاللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
قال شراح الحديث: «الدندنة ـ بدالين مفتوحتين ونونين ـ هِيَ أَنْ يَتَكَلَّم الرَّجُل بِالْكَلامِ تُسْمَع نَغْمَته وَلا يُفْهَم، أَيْ: لا أَدْرِي مَا تَدْعُو بِهِ أَنْتَ يَا رَسُول اللَّه وَمَا يَدْعُو بِهِ مُعَاذ إِمَامنَا، وَلا أَعْرِف دُعَاءَك الْخَفِيّ الَّذِي تَدْعُو بِهِ فِي الصَّلاة وَلا صَوْت مُعَاذ، ولا أقدر على نظم ألفاظ المناجاة مثلك ومثل معاذ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرَّجُل الصَّحَابِيّ مُعَاذًا - وَاَللَّه أَعْلَم - لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ قَوْم مُعَاذ أَوْ هُوَ مِمَّنْ كَانَ يُصَلِّي خَلْف مُعَاذ، والحاصل: إني أسمع صوتك وصوت معاذ ولكن لا أفهم.
ومعنى قوله: «حَوْلهَا»: أَيْ حَوْل الْجَنَّة وَالنَّار نُدَنْدِن, وَإِنَّمَا نَسْأَل الْجَنَّة وَنَتَعَوَّذ مِنْ النَّار كَمَا تَفْعَل، كما جاء في الرواية الأخرى : «حول هاتين»، قال المناوي :«أي ما ندندن إلا حول طلب الجنة والتعوذ من النار، فالحقيقة لا مباينة بين ما ندعو به وبين دعائك».
هذا الحديث العظيم اشتمل على فوائد نفيسة وحكم جليلة منها كما تقدم أهمية تحديد المقاصد والغايات ووضوحها حتى يبذل الإنسان لها السعي المناسب فلا يبالغ ولا يقصر كما قال تعالى :{ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}.
ومن فوائد الحديث أنه على المعلم أن يتفقد تلاميذه، وعلى الشيخ أن يتابع طلابه، وكذلك الداعية عليه أن يوجه المدعوين، فيبحث عن أحوالهم، ويسأل عن أوضاعهم الدينية؛ فمن كان محسنا شجعه وأثنى عليه، ومن كان مخطئا نصحه ووجهه، ومن كان متأولا علمه وبين له وجه الصواب، كما كان النبي [ يفعل مع الصحابة الكرام، تفقدا ومتابعة وتعليما وتوجيها، ولم يكن يكتف فقط بالبلاغ وإنما يزيد عليه التربية والتوجيه والتعليم.
ومن فوائد الحديث استحباب الدعاء في الصلاة ؛ فإن الصلاة مناجاة بين العبد وربه، والله تعالى يحب الدعاء ويحب من عبده أن يسأله ويتضرع إليه، ويستحب الدعاء بعد التشهد والصلاة الإبراهيمية وقبل السلام؛ لحديث ابن مسعود حيث علمه [ التشهد ثم قال: «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو» متفق عليه، وفي لفظ مسلم:» ثم ليتخير من المسألة ما شاء». ولما قال أبو بكر ] للنبي [ :«علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال [: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم»متفق عليه.
ومن فوائد الحديث تقرير أن سؤال الله تعالى الجنة والاستعاذة به من النار هو طريقة الأنبياء والمرسلين والمؤمنين، وأنه لا ينقص من توحيد العابدين، كما يزعم بعض المتصوفين؛ حيث قرر بعضهم أن العبادة الحقة هي عبادة الله تعالى حبا في ذاته لا خوفا من ناره ولا طمعا في جنته، كما قال الغزالي في الإحياء: «العامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه كالأجير السوء ودرجته درجة البله، وأما عبادة ذوي الألباب فإنها لا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه حبا لجماله وجلاله، وهؤلاء أرفع درجة من الالتفات إلى المنكوح والمطعوم في الجنة فإنهم لم يقصدوها، بل هم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه... ويسخرون ممن يلتفت إلى الحور العين «اهـ. ونقل في «الإحياء» عن رابعة العدوية أنه قالت: «ما عبدته خوفا من ناره ولا حبا في جنته فأكون كالأجير بل عبدته حبا له وشوقا إليه» ونقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال: «إن لله عبادا ليس يشغلهم عن الله خوف نار ولا رجاء جنة»، ونقل عن بعض المتصوفة ولم يذكر اسمه: «من عبد الله لعوض فهو لئيم»، وغيرها من أقوال لبعض المتصوفة تؤكد هذا المعنى.
والقرآن الكريم يؤكد أن الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء، وسؤال الله الجنة والتعوذ به من النار هو طريقة المرسلين، وسنة النبيين، ومنهج المؤمنين، وهو من توحيد رب العالمين، الذي خلق الجنة والنار، وجعلهما دار القرار لمن شاء من عباده الأبرار والفجار كما قال تعالى:{إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين}، مبينا حال النبيين عليهم السلام : وقال تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه }، وقال عزوجل:{ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}.
ووصف سبحانه عباده المؤمنين فقال:{ إنما يخشى الله من عباده العلماء}،وقال سبحانه: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا}، وقال تعالى: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}، والآيات في الترغيب في الجنة والترهيب من النار كثيرة لا تخفى.
وكان النبي [ أشد الناس خشية لله تعالى كما قال :«إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية»، وكان يسأل الله تعالى الجنة ويستعيذ به من النار كما ورد في الحديث المذكور، وكان يطلب من المسلمين أن يدعوا الله تعالى أن يرزقه (الوسيلة) بعد الأذان لأنها أعلى درجة عند الله فقال [: «الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة «أخرجه أحمد وصححه الألباني وفي لفظ سأله الصحابة: وما الوسيلة ؟ قال: «أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون هو».
وكان يأمر المسلمين بالاستعاذة من النار وسؤال الله الجنة كما قال [: «استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب جهنم..الحديث، وقال: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه سر الجنة»أخرجه الطبراني يعني أفضل موضع فيها، فإنه أعلا درجات الجنة وأعظم مراتبها كما روى الترمذي وغيره أن رسول الله [ قال: «في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس». صححه الألباني.
فعلى المسلم أن يحدد أهدافه العليا، ويستحضرها أمامه كل حين، ليستعد لها الاستعداد المناسب، ولا يغفل عنها، فلا تستهويه الغفلات، ولا يبطره الأمل، وإنما هو التشمير والعمل، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (36) ليس كل ما يلمع ذهباً
لا شك أن بعض الأشياء قد تتشابه في الظاهر ، وتتماثل في نظر بعض الناس عند الوهلة الأولى، إلا أنها تختلف في واقع الأمر، ولا تخفى حقائقها على ذوي البصائر والتمييز، فهم يعرفون الفرق بين المتماثلات ظاهرا، ويدركون أن ليس كل ما يلمع ذهبا، في حين أن بسطاء التفكير ومحدودي العلم يغترون بالمظاهر، وينجرفون وراء البريق الزائف والدعاوى العريضة التي لا تستند إلى دليل ولا يؤيدها برهان.
والنصوص الشرعية تؤكد أن العبرة بالحقائق، وتحذر من الاغترار بالمظاهر، فمن ذلك قوله تعالى عن المنافقين :{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ }، قال ابن كثير :«أَيْ وَكَانُوا أَشْكَالا حَسَنَة وَذَوِي فَصَاحَة وَأَلْسِنَة، وَإِذَا سَمِعَهُمْ السَّامِع يُصْغِي إِلَى قَوْلِهِمْ لِبَلاغَتِهِمْ ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي غَايَة الضَّعْف وَالْخَوَر وَالْهَلَع وَالْجَزَع وَالْجُبْن».
وقال الشيخ ابن سعدي:» { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } من روائها ونضارتها، { وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي: من حسن منطقهم تستلذ لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدي الصالح شيء، ولهذا قال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض، { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم، والريب الذي في قلوبهم يخافون أن يطلع عليهم».
ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، فعن سهل ابن سعد قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: «ما رأيك في هذا؟» قال: رجل من أشراف الناس، حَرِيٌّ – والله - إن خَطَبَ أنْ يُنكح، وإنْ شَفَعَ أن يُشَفَّع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال صلى الله عليه وسلم للرجل: «ما رأيك في هذا»؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، حَرِي إنْ خَطَبَ ألا يُنكَح، وإنْ شَفَعَ ألا يُشَفَّع، وإنْ قال ألا يُسمَع لقوله، فقال [: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا» أخرجه البخاري.
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الاغترار بأصحاب الأهواء والبدع مهما كان ظاهرهم حسنا، كما قال صلى الله عليه وسلم عن الخوارج: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» أخرجه البخاري، فالخوارج بالغوا في التدين إلا أن ذلك لم ينفعهم لما كانوا عليه من انحراف منهجي وضلال فكري؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين»، وعن أنس رضي الله عنه قال: ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج فيكم أو يكون فيكم قوم يتعبدون ويتدينون حتى يعجبوكم وتعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية» أخرجه ابن أبي عاصم وقال الألباني: إسناده صحيح.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بما يختم له؛ فإن العامل يعمل زمانا من دهره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملا سيئا ، وإن العبد ليعمل زمانا من دهره بعمل لو مات دخل النار ثم يتحول فيعمل عملا صالحا ، فإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته فوفقه لعمل صالح» أخرجه ابن أبي عاصم في السنة وقال الألباني :إسناده صحيح.
وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا عليكم ألا تعجبوا بأحد حتى تعلموا بما يختم له» أخرجه ابن أبي عاصم وقال الألباني : إسناده صحيح.
وحذر سلف الأمة من الاغترار بالمظاهر الزائفة والدعاوى المغشوشة، فعن يونس ابن عبد الأعلى الصدفي قال: قلت للشافعي: «كان الليث بن سعد يقول: «إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء: فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة». فقال الشافعي: «قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، ويطير في الهواء : فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة».
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: «ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون »، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «إن فيما أخشى عليكم زلة عالم وجدال المنافق بالقرآن ـ والقرآن حق ـ وعلى القرآن منار كأعلام الطريق».
وعن ابن عباس: «ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيترك قوله ذلك، ثم تمضي الأتباع»، وقال علي بن أبي طالب: «إياكم والاستنان بالرجال؛ فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء» الجامع لابن عبد البر ، وقال ابن مسعود: «ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن ، وإن كفر كفر؛ فإنه لا أسوة في البشر»، وقال أيضا: «من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة ؛ أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم».
وقال عبد الله بن المبارك: «رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة، كانت منه الهفوة والزلة لا يُقتدى به في هفوته وزلته»، وقال الإمام مالك: «ليس كل ما قال رجل قولا – وإن كان له فضل – يتبع عليه؛ لقول الله عز وجل: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}، وقال مجاهد: «ليس من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم»، وقال ابن خزيمة: «ليس لأحد قول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح الخبر عنه».
وخلاصة القول أن الشرع المطهر قد وضع لنا معايير دقيقة وموازين عادلة للحكم على الاعتقادات والأقوال والأفعال والأشخاص والأشياء، الأخذ بها نجاة، والإعراض عنها أو تعطيلها باب الضلال والهلاك، فالمسلم يستضيء بنور الله الذي أنزله إلينا في كتابه وسنة رسوله [ ويميز بين المظاهر والحقائق، ولا يغتر بكل ناعق، ولا يشتري كل لامع؛ فليس كل ما يلمع ذهبا، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (37)
إنك لا تهدي من أحببت
لو تفحص العاقل نعم الله عليه - ولن يحصيها عدا - فلن يجد أعظم نعمة من نعمة الهداية، قال ابن القيم: «فإن أفضل ما يقدر الله بعبده وأجل ما يقسمه له (الهدى)، وأعظم ما يبتليه به ويقدره عليه (الضلال)، وكل نعمة دون نعمة الهدى، وكل مصيبة دون مصيبة الضلال»، ولهذا قال عز وجل: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}.
ومن عظمة الهداية أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من أنواع النعيم فإن أول ما يقولونه: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}، وأعظم ما يتحسر عليه المفرط حين يرى العذاب أنه لم يكن من المهتدين كما قال تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين}، وقال[: «كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله هداني، فيكون له شكرا، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لو أن الله هداني، فيكون عليه حسرة». أخرجه أحمد والحاكم.
وقد ذكر الله عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه أن الهدى والضلال بيده سبحانه وتعالى فقال: {من يهد الله فهو المهتِد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا}، وهذَا من عظمته وكمال تفرده بالخلق والتدبير أنه يصطفي من يشاء من عباده فيوفقه للخير وهذا من فضله كما قال عز وجل في الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم».
وقد يشكل على بعض الأفهام آيتان قرآنيتان تثبت إحداهما الهداية لرسول الله[ والأخرى تنفيها عنه، فالآية الأولى قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}، والأخرى قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت}.
قال الشيخ ابن سعدي: «يخبر تعالى أنك يا محمد - وغيرك من باب أولى- لا تقدر على هداية أحد، ولو كان من أحب الناس إليك، فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق، وخلق الإيمان في القلب، وإنما ذلك بيد اللّه سبحانه تعالى، يهدي من يشاء، وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه، ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله.
وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ فتلك هداية البيان والإرشاد، فالرسول[ يبين الصراط المستقيم، ويرغب فيه، ويبذل جهده في سلوك الخلق له، وأما كونه يخلق في قلوبهم الإيمان، ويوفقهم بالفعل، فحاشا وكلا.
ولهذا، لو كان قادرا عليها، لهدى من وصل إليه إحسانه، ونصره ومنعه من قومه، عمه أبا طالب، ولكنه أوصل إليه من الإحسان بالدعوة للدين والنصح التام، ما هو أعظم مما فعله معه عمه، ولكن الهداية بيد اللّه تعالى.»اهـ.
ومما يزيد الأمر وضوحا ويزيل ما قد يطرأ على الأذهان من تساؤلات، أن نعلم أن الهداية ليست نوعا واحدا بل إنها أقسام عديدة ومراتب متنوعة.
فالمرتبة الأولى: الهداية العامة:
وهي هداية كل نفس إلى مصالح معايشها وما يقيمها وهي أعم المراتب ، وهو ما فطر الله عليه عباده من الأعمال الفطرية التي فيها مصالحهم والبعد عن مضارهم، كما قال عز وجل: {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى}، وقال على لسان موسى عليه السلام: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}، فإعطاء الخلق هو إيجاده في الخارج الموجود، والهداية هي التعليم والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه وما يقيمه.
المرتبة الثانية: هداية الإرشاد والبيان للمكلفين:
وهي هداية المكلفين ببيان الحق من الباطل وتمييز طريق الرشد من طريق الغواية وبيان الخير من الشر ، وهذه المرتبة أخص من التي قبلها؛ لأنها تختص بالمكلفين فقط وهي حجة الله عز وجل على خلقه التي لا يعذب أحدا إلا بعد إقامتها عليه كما قال عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}، وقال: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
وهذه الهداية هداية بيان وتوجيه وإرشاد وتعليم ولا تستلزم حصول التوفيق واتباع الحق في الأمر نفسه، فلا دخل لها بإدخال الهداية في القلوب وشرح الصدور كما قال عز وجل: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}؛ فقد تمت هدايتهم ببعثة الرسول المبين لهم، وقال عز وجل: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون}، فهداهم الله تعالى هداية البيان والدلالة فلم يهتدوا؛ فأضلهم الله عقوبة لهم بعد أن عرفوا الحق فأعرضوا عنه، وقال عز وجل: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا}، فقد أودع الله في كل نفس حب الخير وكراهية الشر كما قال عز وجل: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}.
المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام:
وهي أخص من التي قبلها، وتتحقق هذه الهداية بأن يوفق الله عز وجل العبد إلى سلوك طريق الحق والاستقامة ويبعده عن طريق الانحراف، كما قال عز وجل: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام}، وقال: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه}، وقال: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان}، وهذه الهداية هي فعل الله عز وجل الذي اختص به وقد نفاه عن رسوله الكريم[ فقال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}، وقال: {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل}، فالرسول[ يهدي هداية البيان والتوجيه، وهي المرتبة الثانية، كما قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}، لكنه لا يملك هداية التوفيق وشرح الصدور كما تقدم.
وحيث تقرر أن الهداية بيد الله عز وجل وجب على العبد أن يسعى في تحصيلها ويجتهد في اكتسابها، تماما كما يسعى في تحصيل الرزق والبحث عن أسباب الشفاء مع إيمانه التام واعتقاده الجازم بأن الرزق بيد الله والشفاء من عنده وحده عز وجل.
وأول أسباب تحصيل الهداية سؤال الله عز وجل أن يرزق العبد الهداية وأن يوفقه للحق علما وإرادة وقبولا، كما أن الاعتصام بالله ودينه والقيام بالأعمال الصالحة سبيل لتحصيل الهداية كما قال عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم}، وقال عز وجل: {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}، وأيضا فإن التوبة النصوح سبب للهداية؛ قال عز وجل: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب}.
نسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل، وأن يوفقنا لصالح الأعمال والأخلاق، وأن يتقبل منا اليسير، وأن يتجاوز عن التقصير، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (38)
-الجماعة رحمة والفرقة عذاب
من المعلوم أن اجتماع المسلمين ووحدة صفهم وكلمتهم مقصد شرعي لا يمكن إهماله أو التغافل عنه، وقد دلت على هذا الأصل نصوص كثيرة منها قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، قال ابن مسعود]: «حبل الله الجماعة»، وقال تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}.
والاجتماع على الدين وعدم التفرق فيه وصية الله تعالى للسابقين واللاحقين، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
قال الشيخ ابن سعدي: «أي أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين، أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم، وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتتعاونون على البر والتقوى، ولا تتعاونون على الإثم والعدوان، {ولا تتفرقوا فيه} أي ليحصل منكم اتفاق على أصول الدين وفروعه، واحرصوا على ألا تفرقكم المسائل، وتحزبكم أحزابا وشيعا، يعادي بعضكم بعضا، مع اتفاقكم على أصل دينكم»اهـ.
ونهى سبحانه عن اتباع سبيل المتفرقين الذين تركوا سبب اجتماعهم وهو الدين والبينات واتبعوا أهواءهم فضلوا وتفرقوا واستحقوا العذاب فقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وأولئك لهم عذاب عظيم}.
وقال[ مبينا وحدة المسلمين وأهمية اجتماعهم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
والاجتماع على الحق مما يحبه الله تعالى ويرضاه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا؛ فَيَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ؛ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ» رواه مسلم، قال النووي: «أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتآلف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام».
والتفرق أمر مذموم ليس من هدي المسلمين بل هو من شأن الضالين؛ فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» رواه ابن ماجه.
وبين النبي [ أن التفرق غاية الشيطان ووسيلته فقال: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم» رواه مسلم، قال النووي: «التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها».
وحرص النبي [ على اجتماع المسلمين في كل المناسبات وعدم تفرقهم؛ فعن جابر بن سمرة ] قال: خَرَجَ عَلَيْنَا فَرَآنَا حِلَقًا، فَقَالَ: «مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ» رواه مسلم. قال النووي: «معناه النهي عن التفرق والأمر بالاجتماع».
وفي سنن أبي داود قال أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ]: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ»، فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلا إِلا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالَ: لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ.
وبين النبي [ أن الجماعة سبيل الجنة فقال: «مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فليلزم الجماعة»رواه الترمذي، وبحبوحتها: أي: وسطها وأفضلها.
والجماعة سبب لنيل تأييد الله ورعايته كما قال [: «يد الله مع الجماعة» رواه الترمذي. والمعنى: أن الله يؤيد بعونه الجماعةَ التي تعتصم بحبله.
وعَنِ النعمان ] عَنِ النَّبِيِّ [ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ».
وقد أمر الله عز وجل بالإصلاح بين الناس فقال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، ونهى عن كثير من أسباب الفرقة كالغيبة والنميمة والسخرية والبيع على بيع المسلم والخطبة على خطبته ونحو ذلك؛ لأن ذلك سبيل لجمع شمل الأمة وإبعاد سبل التفرق المذموم عنها كما قال عز وجل : {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.
والتآلف والتواد وشيوع المحبة بين المسلمين مطلب شرعي ومن أعظم مقاصد الشريعة، والاختلاف المقبول أمر واقع كما شهد به تاريخ العلماء في السابق والحاضر مع قيامهم بواجب الأخوة الإيمانية والحرص على دوام المحبة والبعد عن أسباب القطيعة والعداوة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين».
وقال أيضا: «وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية».
وقد كان ابن مسعود يناقش عثمان في مسألة قصر الصلاة في منى نقاشا شديدا، فإذا حضرت الصلاة صلى خلفه ويقول: «الخلاف شر»، وكان الشافعي يناظر يونس الصدفي ثم يقول له: «يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة؟!» قال الذهبي: «وهذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون».
وتناظر الإمام أحمد وعلي بن المديني في مسألة حتى علت أصواتهما وخشي أن يقع بينهما جفاء، فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه.
فالاجتماع على الحق، ونبذ الفرقة والاختلاف، من مقاصد الدين العظيمة، ومن مقتضيات الأخوة الإيمانية التي أمر الله بها ومدح المؤمنين بها في قوله: {إنما المؤمنون إخوة} وقال[: «وكونوا عباد الله إخوانا» ، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (39)
ثرثرة الإنسان مرآة أفكاره
لا شك أن من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان أن جعل له عقلا مفكرا، وقلبا واعيا، ولسانا معبرا، كما قال الله تعالى:{الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان}.
وقد ذكر ابن كثير اختلاف المفسرين في معنى قوله تَعَالَى: {عَلَّمَهُ الْبَيَان}، فنقل عن الْحَسَن أنه قال:«يَعْنِي النُّطْق»، في حين اختار الضَّحَّاك وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا أن المراد:»الْخَير وَالشَّرّ»، وَرجح ابن كثير قَوْل الْحَسَن؛ لأَنَّ السِّيَاق فِي تَعْلِيمه تَعَالَى الْقُرْآن وَهُوَ أَدَاء تِلَاوَته، وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ بِتَيْسِيرِ النُّطْق عَلَى الْخَلْق وَتَسْهِيل خُرُوج الْحُرُوف مِنْ مَوَاضِعهَا مِنْ الْحَلْق وَاللِّسَان وَالشَّفَتَيْنِ عَلَى اِخْتِلَاف مَخَارِجهَا وَأَنْوَاعهَا.» وقال الشيخ ابن سعدي:«{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أي: التبيين عما في ضميره، وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي، فالبيان الذي ميز الله به الآدمي على غيره من أجلّ نعمه، وأكبرها عليه.»
فاللسان معرب عما في الجنان من خير أو شر؛ ولهذا يمكن معرفة دخيلة الإنسان من فلتات لسانه كما قال تعالى عن المنافقين: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أن لن يخرج الله أضغانهم وَلَوْ نَشَاءُ لأرَينَاكهُم فَلَعَرَفَتهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّ هُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}.
قال ابن سعدي: «يقول تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} من شبهة أو شهوة، بحيث تخرج القلب عن حال صحته واعتداله، أن الله لا يخرج ما في قلوبهم من الأضغان والعداوة للإسلام وأهله؟؛ هذا ظن لا يليق بحكمة الله؛ فإنه لا بد أن يميز الصادق من الكاذب، وذلك بالابتلاء بالمحن، التي من ثبت عليها، ودام إيمانه فيها، فهو المؤمن حقيقة، ومن ردته على عقبيه فلم يصبر عليها، وحين أتاه الامتحان، جزع وضعف إيمانه، وخرج ما في قلبه من الضغن، وتبين نفاقه، هذا مقتضى الحكمة الإلهية، مع أنه تعالى قال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُ مْ فَلَعَرَفْتَهُم ْ بِسِيمَاهُمْ} أي: بعلاماتهم التي هي كالوسم في وجوههم {وَلَتَعرفنهم فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي: لا بد أن يظهر ما في قلوبهم، ويتبين بفلتات ألسنتهم؛ فإن الألسن مغارف القلوب، يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} فيجازيكم عليها».
وقال ابن كثير: «يَقُول عَزَّ وَجَلَّ: وَلَوْ نَشَاء يَا مُحَمَّد لَأَرَيْنَاك أَشْخَاصهمْ فَعَرَفْتهمْ عِيَانًا وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَل الله تَعَالَى ذَلِكَ فِي جَمِيع الْمُنَافِقِينَ سَترًا مِنْهُ عَلَى خَلْقه وَحَمْلا لِلأمُورِ عَلَى ظَاهِر السَّلَامَة وَرَدًّا لِلسَّرَائِرِ إِلَى عَالِمهَا ،{وَلَتَعرفنهم فِي لَحْن الْقَوْل} أَيْ فِيمَا يَبْدُو مِنْ كَلَامهمْ الدَّالّ عَلَى مَقَاصِدهمْ يُفْهَم الْمُتَكَلِّمُ مِنْ أَيّ الْحِزْبَيْنِ هُوَ بِمَعَانِي كَلَامه وَفَحْوَاهُ، وَهُوَ الْمُرَاد مِنْ لَحْن الْقَوْل كَمَا قَالَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بْن عَفَّان ]:» مَا أَسَرَّ أَحَد سَرِيرَة إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّه عَلَى صَفَحَات وَجْهه وَفَلَتَات لِسَانه» وَفِي الْحَدِيث: «مَا أَسَرَّ أَحَد سَرِيرَة إِلَّا كَسَاهُ اللَّه تَعَالَى جِلْبَابهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْر وَإِنْ شَرًّا فَشَرّ».
فحري بالمسلم أن يكون نقي السريرة، سليم الباطن؛ ولهذا ذكر الله تعالى تعليما لنا وإرشادا، دعاء المؤمنين أنهم يقولون: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} مما يدل على أن طهارة الباطن وسلامة الصدر من الأمور المطلوبة، كما أن خبث الباطن وسوء الدخيلة والغل من الأمور المحظورة التي على المسلم أن يتجنبها ويسأل الله تعالى السلامة منها.
قال ابن سعدي: «ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب، الشامل لقليل الغل وكثيره، الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين.»
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: قيل لرسول الله [: « أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب ، صدوق اللسان» قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال « هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد «أخرجه ابن ماجه.
فعلى المسلم أن يحذر من فلتات لسانه، وسقطات كلامه؛ فلا يكون مهذارا، ثرثارا، يتكلم بكل ما خطر بباله، ويتلفظ بما جرى على قلبه، بل يتخير ألفاظه ومعانيه، وينتقي مجالسيه ومستمعيه، ويعطي كل مجلس حقه من الحديث المناسب، ويحرص من آثار كلامه لئلا ترتد في نحره.
كما أن الكلام معيار العقل ، ومقياس الثقافة، وقد قيل :«كلام الرجل بيان فضله وترجمان عقله، فاقصره على الجميل واقتصر منه على القليل».
وكانت العرب قديما تقول: «كل إناء بما فيه ينضح»، فقلب المرء إذا امتلأ خيرا وطهارة ظهر على لسانه، وكذلك إذا ملئ خبثا وشرا برز في لفظه ومنطقه ، قال في «صبح الأعشى» : «كل ما يكون في خاطر الإنسان يظهر من الكلام الذي يخرج من فيه، وكل وعاء ما ينضح إلا بما فيه».
وقال الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
أي: مهما حاول الإنسان أن يتصنع الخير وهو يضمر الشر فإن الله سوف يظهر ما بباطنه ويكشف عن سريرته يوما ما، فمهما كان للمرء من صفات أو عيوب خفية، أو حاول إخفاءها فسوف تنكشف للناس.
ومن الشعر الحكيم قول نصر بن أحمد:
لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل
وكلّ امرئ ما بين فكَّيه مقتل
وكم فاتحٍ أبواب شرٍّ لنفسه
إذا لم يكن قفلٌ على فيه مقفل
إذا ما لسان المرء أكثر هذره
فذاك لسـانٌ بالبـلاء موكّـل
إذا شئت أن تحيا سعيداً مسلَّماً
فدبّر وميّز ما تقـول وتفعل
وقال صالح بن جناح:
أقلل كلامك واستعذ من شرّه
إنّ البلاء ببعضه مقرون
واحفظ لسانك واحتفظ من غيّه
حتّى يكون كأنَّه مسجون
وكِّل فؤادك باللِّسان وقل له
إنّ الكلام عليكما موزون
فزناه وليكُ محكماً في قلّةٍ
إنّ البلاغة في القليل تكون
- وخلاصة القول: إن ثرثرة المرء مرآة أفكاره، مثل صيني يدل على أن أفكار الإنسان تنعكس في كلامه، فليحذر من لسانه، وليطهر سريرته، وليعمر قلبه ولسانه بذكر الله والعلم النافع والعمل الصالح والذكر الدائم لينال خيري الدنيا والآخرة، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (40)
كونـــوا ربانــيين
دعا النبي صلى الله عليه وسلم بعض أهل الكتاب للإيمان به، ودعاهم إلى طاعته، فكان جوابهم : أتريد يا محمد أن نعبدك مع الله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}، وفيها ذكر بعض مقاصد البعثة ووظائف الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم يأمر أتباعه أن يكونوا ربانيين؛ ولهذا كان من الأهمية أن يتعرف محب الرسول صلى الله عليه وسلم ومتبعه على معنى الربانية وأبعادها حتى يتحقق بهذا الوصف.
فالرباني في لغة العرب منسوب إلى الرب ـ بزيادة ألف ونون للمبالغة ـ وقيل: هو من الرب بمعنى التربية، كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها.
وقد اختلف المفسرون في المراد بالربانيين؛ فَقَالَ بَعْضهمْ : مَعْنَاهُ : كُونُوا حُكَمَاء عُلَمَاء فقهاء وهو قول اِبْن عَبَّاس وأَبِي رَزِين ومُجَاهِد والسُّدِّيّ، وذهب سَعِيد بْن جُبَيْر إلى أنهم الْحُكَمَاء الأتْقِيَاء، وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ وُلاة النَّاس وَقَادَتهم ، كما قال اِبْن زَيْد: الرَّبَّانِيُّو نَ : الَّذِينَ يَرُبُّونَ النَّاس وُلاة هَذَا الْأَمْر، يَرُبُّونَهُمْ: يَلُونَهُمْ، وَقَرَأَ: {لَوْلَا يَنْهَاهُم الرَّبَّانِيُّو نَ وَالْأَحْبَار} قَالَ: الرَّبَّانِيُّو نَ : الْوُلاة, وَالْأَحْبَار : الْعُلَمَاء.
- وقال ابن سعدي: «أي: علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم، بصغار العلم قبل كباره، عاملين بذلك، فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة، وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل»اهـ.
ويمكن هنا أن نلخص أهم سمات الربانيين:
أولاً : التوحيد والإخلاص
توحيد الله تعالى أساس دعوة الرسل كما قال عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}، والإخلاص من أهم ما يأمر به الرسل الناس كما قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}، ولا يخفى أن الرباني منسوب إلى الرب وهو الله تعالى، قال الطاهر ابن عاشور: «لأن النسب إلى الشيء إنما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه. ومعنى ذلك أن يكونوا مخلصين لله دون غيره» ولهذا قال في الآية التي تليها تأكيدا لهذا المعنى : {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }.
ثانياً: التعلم والتعليم
من أهم سمات الرباني الاشتغال بالعلم؛ دراسة عميقة وتدريسا رفيقا، وهذا ما تدل عليه نصوص العلماء؛ قال ابن الأعرابي: «الرباني: العالم المعلم، الذي يغذو الناس بصغار العلم قبل كبارها»، وقال محمد بن علي ابن الحنفية لما مات عبد الله بن عباس ]: «اليوم مات رباني هذه الأمة»، وروي عن علي ] أنه قال: «الناس ثلاثة؛ عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق».
وقال ابن سعدي : «والباء في قوله (بما كنتم تعلمون) باء السببية، أي: بسبب تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه، التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى، تكونون ربانيين.»
وقال الطاهر: «وقوله {بما كنتم تعلمون الكتاب} أي لأن علمكم الكتاب من شأنه أن يصدكم عن إشراك العبادة، فإن فائدة العلم (العمل)، و(تدرسون) معناه: تقرؤون، أي قراءة بإعادة وتكرير: لأن مادة درس في كلام العرب تحوم حول معاني التأثر من تكرر عمل يعمل في أمثاله، وقالوا: درس الكتاب إذا قرأه بتمهل لحفظه، أو للتدبر، وفي الحديث: « ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة» رواه الترمذي، فعطف التدارس على القراءة، فعلم أن الدراسة أخص من القراءة، ومادة درس تستلزم التمكن من المفعول؛ فلذلك صار درس الكتاب مجازا في فهمه وإتقانه ولذلك عطف في هذه الآية {وبما كنتم تدرسون} على {بما كنتم تعلمون الكتاب}» اهـ.
ثالثاً : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الرباني يقوم بوظيفة الرسل والنبيين، ومنها إرشاد الناس إلى مصالحهم، ودعوتهم إلى خيري الدنيا والآخرة، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما قال تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} قال ابن سعدي: «هلّا ينهاهم العلماء المتصدون لنفع الناس، الذين منّ الله عليهم بالعلم والحكمة عن المعاصي التي تصدر منهم، ليزول ما عندهم من الجهل، وتقوم حجة الله عليهم، فإن العلماء عليهم أمر الناس ونهيهم، وأن يبينوا لهم الطريق الشرعي، ويرغبوهم في الخير ويرهبوهم من الشر»اهـ.
ولهذا ذهب الطبري إلى أن الرَّبَّانِيّ ْمَنْسُوب إِلَى الرَّبَّان وهو الَّذِي يَرُبّ النَّاس, وَهُوَ الَّذِي يُصْلِح أُمُورهمْ وَيَرُبّهَا, وَيَقُوم بِهَا، قال: «وَكَانَ الْعَالِم بِالْفِقْهِ وَالْحِكْمَة مِنْ الْمُصْلِحِينَ , يَرُبّ أُمُور النَّاس بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ الْخَيْر , وَدُعَائِهِمْ إِلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَتهمْ , وَكَانَ كَذَلِكَ الْحَكِيم التَّقِيّ لِلَّهِ, وَالْوَلِيّ الَّذِي يَلِي أُمُور النَّاس عَلَى الْمِنْهَاج الَّذِي وَلِيَهُ الْمُقْسِطُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ أُمُور الْخَلْق بِالْقِيَامِ فِيهِمْ, بِمَا فِيهِ صلاح عَاجِلهم وَآجِلهم, وَعَائِدَة النَّفْع عَلَيْهِمْ فِي دِينهمْ وَدُنْيَاهُمْ; كَانُوا جَمِيعًا مُسْتَحِقِّينَ أَنَّهُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} فَالرَّبَّانِيُ ّونَ إِذًا, هُمْ عِمَاد النَّاس فِي الْفِقْه وَالْعِلْم وَأُمُور الدِّين وَالدُّنْيَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مُجَاهِد: « وَهُمْ فَوْق الْأَحْبَار «, لِأَنَّ الْأَحْبَار هُمْ الْعُلَمَاء؛ وَالرَّبَّانِيّ : الْجَامِع إِلَى الْعِلْم وَالْفِقْه, الْبَصَر بِالسِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِير, وَالْقِيَام بِأُمُورِ الرَّعِيَّة, وَمَا يُصْلِحهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَدِينهمْ .»اهـ.
ولا شك أن هناك صفات أخرى للربانيين، يجمعها الالتزام بكل ما شرعه الله تعالى من العقائد والأخلاق والأعمال، ظاهرا وباطنا ، فعلا وتركا ، مع الإخلاص لله تعالى والاتباع لرسول الله [ والنصح للخلق ورحمتهم، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (41)
المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبَيْ زور
أدت الوفرة المالية لدى بعض الناس إلى ظهور سلوكيات غريبة في المجتمع، فقد نمت الصبغة الاستهلاكية لديهم فصاروا يشترون كل شيء، ويقتنون ما يحتاجون إليه وما لا يحتاجون، وأصبحوا يتباهون بالأمور الكمالية، ويتنافسون في إبراز مظاهر الغنى والثراء؛ مما حدا ببعضهم الآخر إلى تقليدهم ومحاكاتهم ولو كان ذلك خارجا عن قدرتهم المالية، وقد يوقعهم ذلك في الديون والأعباء المالية المتراكمة وما يتبعها من مطالبات وسجن ونحوها.
إن الشرع المطهر يدعونا إلى القناعة والعفاف، ويحذرنا من الاستكثار المذموم من الدنيا ومظاهرها البراقة، ويوجهنا إلى الاشتغال بمعالي الأمور، والاستعداد ليوم المعاد، وتوظيف ما بأيدينا من الدنيا لخدمة الدين وتعمير الآخرة، من غير إهمال لحظوظنا الدنيوية من التمتع المباح والتنعم بما سخر الله عز وجل لنا من النعم وأخرج لنا من الأرزاق دون إفراط ولا تفريط، كما قال عز وجل: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك}.
فالقناعة والرضا بما رزق الله من أسباب السعادة القلبية والراحة البدنية كما قال صلى الله عليه وسلم: « قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنـّعه الله بما آتاه» أخرجه مسلم.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: « اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير «أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
ومن أسباب القناعة أن يعرف المسلم نعمة الله عليه وما فضله به بأن ينظر إلى من هو أقل منه مالا وأدنى درجة كما قال صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله»متفق عليه.
فحقيقة الغنى فيما يكون في القلب من قناعة ورضا وليس فيما يكون في اليد من أموال ومقتنيات كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس»متفق عليه، قال النووي: «العرض: متاع الدنيا، ومعنى الحديث: الغنى المحمود غنى النفس، وشبعها، وقلة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة؛ لأن من كان طالبا للزيادة لم يستغن بما معه، فليس له غنى»اهـ.
قال ابن القيم: «يكمل غنى القلب بغنى آخر هو غنى النفس، وآيته: سلامتها من الحظوظ، وبراءتها من المراءاة»، فالجري وراء المظاهر الجوفاء، والاستكثار من المتاع الزائل لا يزيد الإنسان إلا فقرا في نفسه، وذلا لحاجاته، وتأمل كيف وصف النبي صلى الله عليه وسلم من كان هذا حاله بالعبودية والذل لهذه المطلوبات فقال صلى الله عليه وسلم « تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن مُنع غضب، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش».
- قال أبو حاتم: «من نازعته نفسه إلى القنوع، ثم حسد الناس على ما في أيديهم فليس ذلك لقناعة ولا لسخاوة، بل لعجز وفشل، فمثله كمثل حمار السوء الذي يعرج بخفة حمله، ويحزن إذا رأى العلف يؤثر به ذو القوة والحمل الثقيل، فالقانع الكريم أراح قلبه وبدنه، والشره اللئيم أتعب قلبه وجسمه.»اهـ.
- فقوله صلى الله عليه وسلم: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» من الحكم النبوية الجليلة التي تعالج سلوكا اجتماعيا مريضا، ابتلي صاحبه بالمظهرية الجوفاء، وظن أن الاستكثار من المظاهر البراقة يرفع صاحبها أو يزيد من غناه في أعين الناس، وسبب ورود الحديث ما روته أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: « جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن لي ضرة فهل عليّ جناح أن أتشبع من مال زوجي بما لم يعطني؟ وفي رواية عائشة: أقول: إن زوجي أعطاني ما لم يعطني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور».
- قال النووي: «قال العلماء: معناه: المتكثر بما ليس عنده، بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده يتكثر بذلك عند الناس، ويتزين بالباطل فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور.
- قال أبو عبيد وآخرون: هو الذي يلبس ثياب أهل الزهد والعبادة والورع، ومقصوده أن يظهر للناس أنه متصف بتلك الصفة، ويظهر من التخشع والزهد أكثر مما في قلبه فهذه ثياب زور ورياء، وقيل: هو كمن لبس ثوبين لغيره وأوهم أنهما له، وقيل: هو من يلبس قميصاً واحداً ويصل بكميه كمين آخرين فيظهر أن عليه قميصين، وحكى الخطابي قولاً آخر: أن المراد هنا بالثوب الحالة والمذهب، والعرب تكني بالثوب عن حال لابسه، ومعناه: أنه كالكاذب القائل ما لم يكن، وقولاً آخر: أن المراد الرجل الذي تطلب منه شهادة زور فيلبس ثوبين يتجمل بهما فلا ترد شهادته لحسن هيئته. والله أعلم». انتهى.
- وقال ابن حجر في الفتح: “قوله “المتشبع” أي المتزين بما ليس عنده يتكثر بذلك ويتزين بالباطل، كالمرأة تكون عند الرجل ولها ضرة فتدعي من الحظوة عند زوجها أكثر مما عنده تريد بذلك غيظ ضرتها، وكذلك هذا في الرجال».
- وعن سبب تثنية الثوبين: قال ابن حجر: «للإشارة إلى أن كذب المتحلي مثنى؛ لأنه كذب على نفسه بما لم يأخذ وعلى غيره بما لم يعط، وكذلك شاهد الزور يظلم نفسه ويظلم المشهود عليه».
- وقال الداودي: في التثنية إشارة إلى أنه كالذي قال الزور مرتين مبالغة في التحذير من ذلك، وقال ابن التين «هو أن يلبس ثوبي وديعة أو عارية يظن الناس أنهما له ولباسهما لا يدوم ويفتضح بكذبه، وأراد بذلك تنفير المرأة عما ذكرت خوفاً من الفساد بين زوجها وضرتها ويورث بينهما البغضاء فيصير كالسحر الذي يفرق بين المرء وزوجه، ويحتمل أن تكون التثنية إشارة إلى أنه حصل بالتشبع، حالتان مذمومتان: فقدان ما يتشبع به وإظهار الباطل» اهـ.
وخلاصة الأمر أنه على المسلم أن يرضى بما قسم الله عز وجل له، ولا يظهر نفسه بأعلى مما هو فيه، ولا يحمل نفسه من النفقات والديون ما لا يطيق ليظهر بصورة تخالف واقعه وحقيقة أمره، ولا مانع من الطموح المشروع بأن يصل إلى أعلى المراتب، ويكسب أعلى الدخول، ولكن ليس عن طريق المظاهر المزورة، بل بالسعي الجاد والتحصيل المتقن للعلوم النافعة، والخبرات المفيدة، والعمل الدؤوب، فبذلك يرقى بجد في سلم الكمالات، ويعلو في سماء الرفعة، كما قال عز وجل: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (42)
من يظهر عيوب الآخرين ينحط في نظر المستمعين
يتلذذ بعض الناس بذكر عيوب الآخرين والانتقاص منهم، فيشغل فراغه بتتبع أخبارهم، ثم يقضي وقته في مضغ عيوبهم وفضح أسرارهم، وقد يحمله ذلك المرض على الكذب والافتراء ليزيد للخبر نكهة تحمل السامعين على مشاركته في لذة الوقيعة بالآخرين، وعدم استنكار ذلك أو الإعراض عنه.
وهذا السلوك المريض المنحرف سماه الشرع «غيبة» فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره» أخرجه مسلم، قال المناوي: «ومن أحسن تعاريفها: ذكر العيب بظهر الغيب».
وهذا المرض وللأسف شائع لدى النساء والرجال على حد السواء إلا من رحم الله وعافاه من أكل لحوم الآخرين والتفكه بأعراضهم في غيبتهم، وقد نهانا الله عز وجل عن هذا الفعل القبيح بأشد التحذير فقال عز وجل: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}، قال ابن سعدي: «وفي هذه الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأن الغيبة من الكبائر؛ لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر».
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس: إِنَّمَا ضَرَبَ اللَّه هَذَا الْمَثَل لِلْغِيبَةِ لِأَنَّ أَكْل لَحْم الْمَيِّت حَرَام مستقذر, وَكَذَا الْغِيبَة حَرَام فِي الدِّين وَقَبِيح فِي النُّفُوس. وَقَالَ قَتَادَة: كَمَا يَمْتَنِع أَحَدكُمْ أَنْ يَأْكُل لَحْم أَخِيهِ مَيِّتًا كَذَلِكَ يَجِب أَنْ يَمْتَنِع مِنْ غِيبَته حَيًّا.
والعلماء متفقون على أَنَّ الْغِيبَة مِنْ الْكَبَائِر, وَأَنَّ مَنْ اِغْتَابَ أَحَدًا عَلَيْهِ أَنْ يَتُوب إِلَى اللَّه عز وجل، قال ابن كثير: «وَالْغِيبَة مُحَرَّمَة بِالْإِجْمَاعِ لَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رُجِّحَتْ مَصْلَحَتُهُ»، والدليل على ذلك: ما أخرجه أَبو دَاوُد عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه [: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْت بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَار مِنْ نُحَاس يَخْمُشُونَ وُجُوههمْ وَصُدُورهمْ فَقُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُوم النَّاس وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضهمْ».
قال الشراح:» لما كان خمش الوجه والصدر من صفات النساء النائحات جعلهما جزاء من يغتاب ويفري في أعراض المسلمين إشعارا بأنهما ليسا من صفات الرجال، بل هما من صفات النساء في أقبح حالة وأشوه صورة «.
وَعَنْ الْمُسْتَوْرِد أَنَّ رَسُول اللَّه [ قَالَ: «مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِم أَكْلَة فَإِنَّ اللَّه يُطْعِمهُ مِثْلهَا مِنْ جَهَنَّم، وَمَنْ كُسِيَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِم فَإِنَّ اللَّه يَكْسُوهُ مِثْله مِنْ جَهَنَّم، وَمَنْ أَقَامَ بِرَجُلٍ مَقَام سُمْعَة وَرِيَاء فَإِنَّ اللَّه يَقُوم بِهِ مَقَام سُمْعَة وَرِيَاء يَوْم الْقِيَامَة».
قال الشراح: «قوله: «مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِم أَكْلَة» أي بسبب اغتيابه والوقيعة فيه أو بتعرضه له بالأذية عند من يعاديه، قال ابن الأثير: معناه الرجل يكون صديقا ثم يذهب إلى عدوه فيتكلم فيه بغير الجميل ليجيزه بجائزة فلا يبارك الله له فيها» اهـ.
وقَوْله [:«يَا مَعْشَر مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُل الْإِيمَان قَلْبه، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ» ، قال الشراح: «فيه تنبيه أن غيبة المسلم من شعار المنافق لا المؤمن».
وعن سعيد بن زيد عن النبي [ قال: «إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق» أخرجه أبو داود، قال الشراح: «أي من أكثر الربا وبالا وأشده تحريما إطالة اللسان في عرض المسلم، أي احتقاره والترفع عليه والوقيعة فيه بنحو قذف أو سب، وإنما يكون أشد تحريما لأن العرض أشد على النفس من المال» «أهـ.
وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رضي الله عنه: «إِيَّاكُمْ وَذِكْر النَّاس فَإِنَّهُ دَاء , وَعَلَيْكُمْ بِذِكْرِ اللَّه فَإِنَّهُ شِفَاء»، وقال الحسن: «والله للغيبة، أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد».
ما واجب المسلم تجاه الغيبة؟
أولاً: يجب على المسلم أن يتجنب الغيبة ويتوب منها ويقلع عنها؛ لما ورد فيها من الوعيد الشديد والترهيب الرهيب كما تقدم، وقد أخرج أبو داود والترمذي عن عائشة أنها قالت للنبي [: «حسبك من صفية أنها كذا وكذا» تعني قصيرة، فقال [: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» أي عكرته.
ثانياً: إذا ابتلي المسلم بالغيبة فعليه أن يعالج نفسه منها، وذلك بالعلم والعمل كما قال الغزالي: «إعلم أن مساوئ الأخلاق كلها إنما تعالج بمعجون العلم والعمل، وعلاج كف اللسان عن الغيبة إجمالا: أن يعلم أنه يتعرض لسخط الله تعالى إذا اغتاب لارتكابه ما نهى الله عنه، فمهما آمن العبد بما ورد من الأخبار في الغيبة لم يطلق لسانه بها خوفا من ذلك».
وينفعه أيضا أن يتدبر في نفسه، فإذا وجد فيها عيبا اشتغل بعيب نفسه [، وفي الأثر: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس».
ومهما وجد عيبا فينبغي أن يستحيي من أن يترك ذم نفسه ويذم غيره، بل ينبغي أن يتحقق أن عجز غيره عن نفسه بالتنزه عن ذلك العيب كعجزه، هذا إذا كان ذلك عيبا يتعلق بفعله واختياره، وإن كان أمرا خلقيا، فالذم له ذم للخالق؛ فإن من ذم صنعة فقد ذم الصانع، وإذا لم يجد العبد عيبا في نفسه فليشكر الله تعالى ولا يلوثن نفسه بأعظم العيوب، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب؛ بل لو أنصف لعلم أن ظنه بنفسه أنه بريء من كل عيب جهل بنفسه، وهو من أعظم الذنوب.
وينفعه أيضا أن يعلم أن تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبة غيره له؛ فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يُغتاب، فينبغي ألا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه.
وبالجملة: فمن قوي إيمانه انكف عن الغيبة لسانه. اهـ.
ثالثا: على المسلم إذا سمع غيبة مسلم أن يدافع عنه ما استطاع ويزجر قائلها، فعن أبي الدرداء أن النبي [ قال: «من رد عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة»، وقال رسول الله [: «من ذبّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار» أخرجه أحمد، وقَالَ رَسُول اللَّه [: «مَا مِنْ امْرِئ يَخْذُل امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِع تُنْتَهَك فِيهِ حُرْمَته وَيُنْتَقَص فِيهِ مِنْ عِرْضه إِلَّا خَذَلَهُ اللَّه تَعَالَى فِي مَوَاطِن يُحِبّ فِيهَا نُصْرَته، وَمَا مِنْ امْرِئ يَنْصُر اِمْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِع يُنْتَقَص فِيهِ مِنْ عِرْضه وَيُنْتَهَك فِيهِ مِنْ حُرْمَته إِلَّا نَصَرَهُ اللَّه عز وجل فِي مَوَاطِن يُحِبّ فِيهَا نُصْرَته» أخرجه أَبُو دَاوُدَ.
فنسأل الله تعالى أن يعافينا جميعا من الغيبة وسائر آفات اللسان، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (43)
وفوق كل ذي علم عليم
من الحكم القرآنية البليغة قوله عز وجل: {وفوق كل ذي علم عليم}، وقد اشتملت هذه العبارة الموجزة على فوائد جليلة، نذكر منها على سبيل الاختصار:
1 - فضل العلم:
يستفاد من هذه الآية الكريمة فضل العلم وشرفه، فقد بيـّن سبحانه أن رفعة يوسف عليه السلام على إخوته إنما كانت بالعلم كما قال عز وجل: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم}، قال القاسمي: «{نرفع درجات من نشاء} أي بالعلم»اهـ، وقال الشيخ ابن سعدي: «{نرفع درجات من نشاء} بالعلم النافع، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف» اهـ.
ولا شك أن طلب العلم من أهم الواجبات وأفضل المطلوبات بعد أداء الفرائض والقيام بالشعائر، كما قال الثوري: «ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم»، حيث أمر الله تعالى بالعلم الشرعي ومدح العلماء وطلبة العلم، وذم الجهل وأهله، وذلك في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، ومنها هذه الآية التي جعل فيها سبحانه وتعالى معيار التفاضل بين يوسف وإخوته (العلم) مما يؤكد فضله وشرفه.
2- تفاوت العلم والعلماء:
لا يخفى أن العلم يتفاوت في الشرف والفضل، فالعلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته أفضل العلم وأعلاه درجة؛ لأنه يتعلق بأشرف معلوم وهو الله عز وجل، ثم يليه العلم بالطريق الموصل إليه، وهكذا تتفاوت العلوم بحسب موضوعها وأثرها في دين المكلف ودنياه.
وأيضا فإن العلماء يتفاضلون تبعا لما يحملونه من العلم وما يقومون به من أعمال نافعة لأنفسهم ولأمتهم، قال الطاهر بن عاشور: «وجملة {وفوق كل ذي علم عليم} فيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس».
3- العلم ينتهي إلى الله عز وجل:
مما تفيده الآية الكريمة أن العلم من مواهب الله عز وجل للعلماء، وهو سبحانه العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما، قال الطبري: « وَقَوْله: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وَفَوْق كُلّ عَالِم مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ يُوسُف أَعْلَم إِخْوَته، وَأَنَّ فَوْق يُوسُف مَنْ هُوَ أَعْلَم مِنْ يُوسُف، حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى.
وذكر بسنده عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر، قَالَ: حَدَّثَ ابْن عَبَّاس بِحَدِيثٍ، فَقَالَ رَجُل عِنْده: الْحَمْد لِلَّهِ {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} فَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْعَالِم اللَّه، وَهُوَ فَوْق كُلِّ عَالِم.
وعَنْ عِكْرِمَة عَنِ ابْن عَبَّاس: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: يَكُون هَذَا أَعْلَمَ مِنْ هَذَا، وَهَذَا أَعْلَمَ مِنْ هَذَا، وَاَللَّه فَوْقَ كُلّ عَالِم.
وعَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب، قَالَ: سَأَلَ رَجُل عَلِيًّا عَنْ مَسْأَلَة، فَقَالَ فِيهَا، فَقَالَ الرَّجُل: لَيْسَ هَكَذَا وَلَكِنْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ عَلِيّ: أَصَبْتَ وَأَخْطَأْتُ: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم}.
عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر: {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: اللَّه أَعْلَم مِنْ كُلّ أَحَد.
وعَنِ الْحَسَن، فِي قَوْله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: لَيْسَ عَالِم إِلَّا فَوْقَهُ عَالِم حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْم إِلَى اللَّه.
وعَنْ بَشِير الْهُجَيْمِيّ، قَالَ: سَمِعْت الْحَسَن قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة يَوْمًا: {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم}، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّهُ وَاَللَّهِ مَا أَمْسَى عَلَى ظَهْر الْأَرْض عَالِم إِلَّا فَوْقَهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، حَتَّى يَعُود الْعِلْم إِلَى الَّذِي عَلَّمَهُ»اهـ.
4- تواضع العالم:
إذا اعتقد المكلف أن العلم ينتهي إلى الله، فمنه المبدأ وإليه المنتهى كما قال قَتَادَة في قَوْله: «{وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْم إِلَى اللَّه، مِنْهُ بُدِئَ، وَتَعَلَّمَتِ الْعُلَمَاء، وَإِلَيْهِ يَعُود»اهـ، فإن ذلك يحمل العالم على التواضع لله عز وجل، فلا يعجب بما عنده من العلم، ولا يتكبر على غيره من الناس، فأجمل ما يتحلى به العالم التواضع، وأقبح ما يتصف به الكبر والعجب، قال عمر رضي الله عنه: « تعلموا العلم وعلموه الناس، وتعلموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه، ولمن علمتموه، ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم جهلكم بعلمكم».
وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في «حلية طالب العلم»: «فالزم رحمك الله اللصوق إلى الأرض، والإزراء على نفسك وهضمها، ومراغمتها عند الاستشراف لكبرياء أو غطرسة أو حب ظهور أو عجب ونحو ذلك من آفات العلم القاتلة له، المذهبة لهيبته، المطفئة لنوره، وكلما ازددت علما أو رفعة في ولاية فالزم ذلك تحرز سعادة عظمى، ومقاما يغبطك عليه الناس»اهـ.
وانظر إلى تواضع الأئمة الكبار، فقد سئل أبو حنيفة: بم حصلت العلم العظيم؟ قال: «ما بخلت بالإفادة، ولا استنكفت عن الاستفادة»، وقال الحميدي -وهو تلميذ الشافعي-: «صحبت الشافعي من مكة إلى مصر، فكنت أستفيد منه المسائل، وكان يستفيد مني الحديث»، وعن وكيع وابن عيينة والبخاري قالوا: « لا يكون المحدث كاملا أو الرجل عالما حتى يحدث عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه».
5- الحرص على زيادة العلم:
مما يستفاد من هذه الآية الكريمة الحرص على الاستكثار من العلم، والازدياد منه؛ لأن الآية تدل على تفاوت العلم والعلماء، ولاشك أن هذا التفاوت له أثره في الدنيا والآخرة لذا فإن المسلم عموما، وطالب العلم خصوصا يحرص على الاستكثار من العلم الشرعي، ولو لم يكن في شرف العلم إلا ما جاء من أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالزيادة من العلم لكفى به شرفا وفضلا كما قال عز وجل: {وقل رب زدني علما} قال الشيخ ابن سعدي: «أمره تعالى أن يسأله زيادة العلم، فإن العلم خير، وكثرة الخير مطلوبة، وهي من الله، والطريق إليها: الاجتهاد، والشوق للعلم، وسؤال الله، والاستعانة به، والافتقار إليه في كل وقت»اهـ. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح والقبول.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (44)
لا تــؤذوا المسلمـين
مفهوم التدين عند بعض الناس غير مكتمل الجوانب، وذلك لقلة علمهم وضعف بصيرتهم، فظنوا أن حقيقة التدين تكمن في كثرة الصلاة والصيام والذكر. وهذا لا شك من المطلوبات الدينية، إلا أنهم غفلوا عن جانب مهم في فقه التدين اعتـنت به النصوص الشرعية التي بينت قواعد الدين وركائزه، ألا وهو رعاية حق المسلم بالبر والإحسان وكف الأذى والإساءة، وهذا مجال رحب للتقرب إلى الله عز وجل لو كانوا يعلمون.
فمن الآيات الكريمة في هذا الشأن قوله عز وجل: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}.
قال ابن كثير: «أَيْ يَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ مَا هُمْ بُرَآء مِنْهُ لَمْ يَعْمَلُوهُ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ، وقوله: {فَقَدْ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وَهَذَا هُوَ الْبَهْت الْكَبِير أَنْ يُحْكَى أَوْ يُنْقَل عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ عَلَى سَبِيل الْعَيْب وَالتَّنَقُّص لَهُمْ، ثم ذكر عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها أنها قَالَتْ: قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأصْحَابِهِ أَيّ الرِّبَا أَرْبَى عِنْد اللَّه؟ قَالُوا: اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم، قَالَ: «أَرْبَى الرِّبَا عِنْد اللَّه اِسْتِحْلال عِرْض اِمْرِئٍ مُسْلِم» ثُمَّ قَرَأَ: {وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدْ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
ويعلل الشيخ ابن سعدي سبب استحقاق من يؤذي المؤمنين للإثم المبين بأنهم: «تعدوا عليهم، وانتهكوا حرمة أمر اللّه باحترامها».
وأما الشيخ الطاهر بن عاشور فقد بـيّـن مناسبة هذه الآية لما قبلها وهي قوله عز وجل: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة} فقال: «ألحقت حرمة المؤمنين بحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم تنويها بشأنهم، وذكروا على حدة للإشارة إلى نزول رتبتهم عن رتبة الرسول عليه الصلاة والسلام. وعطف (المؤمنات) على (المؤمنين) للتصريح بمساواة الحكم وان كان ذلك معلوما من الشريعة، لوزع المؤذين عن أذى المؤمنات لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم.
والمراد بالأذى: أذى القول بقرينة قوله {فقد احتملوا بهتانا}؛ لأن البهتان من أنواع الأقوال، وذلك تحقير لأقوالهم، وأتبع ذلك التحقير بأنه إثم مبين، والمراد بالمبين العظيم القوي، أي أنه جرم من أشد الجرم، وهو وعيد بالعقاب عليه».
ويوضح الشيخ ابن عثيمين حقيقة الأذى ومجالاته فيقول: «والأذية: هي أن تحاول أن تؤذي الشخص بما يتألم منه قلبيا، أو بما يتألم منه بدنيا، سواء كان ذلك بالسب أم بالشتم أم باختلاق الأشياء عليه أم بمحاولة حسده أم غير ذلك من الأشياء التي يتأذى بها المسلم.
وهذا كله حرام؛ لأن الله تعالى بيـّن أن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا.
قال أهل العلم: وأنواع الأذى كثيرة، منها أن يؤذي جاره، ومنها أن يؤذي صاحبه، ومنها أن يؤذي من كان في عمل من الأعمال، وإن لم تكن بينهم صداقة، بالمضايقة وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام، والواجب على المسلم الحذر منه».
وجاء في السنة المطهرة من الأحاديث الكثيرة ما يحذر من إيذاء المسلمين كقوله [: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» أخرجه مسلم.
قال ابن رجب:» قوله: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» يعني يكفيه من الشر احتقاره أخاه المسلم، فإنه إنما يحقر أخاه المسلم لتكبره عليه، والكبر من أعظم خصال الشر».
وعن ابن عمر قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله»، أخرجه الترمذي في باب ما جاء في تعظيم المؤمن.
فهذا نهي صريح من النبي صلى الله عليه وسلم عن إيذاء المسلمين، والفعل في سياق النهي يعم سائر أوجه الإيذاء البدني والمعنوي كما تقدم.
ومما يؤكد حرمة إيذاء المسلم ما ورد من الأحاديث التي تدل على أن الله تعالى يكره إيذاء المؤمن، فقد أخرج الترمذي والطبراني أن النبي [ قال: «لا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يؤذي المؤمن، والله يكره أذى المؤمن».
فكيف يجرؤ مسلم أن يفعل ما يكره الله عز وجل، ومن ذلك إيذاء المسلم، ولهذا قال الفضيل: «لا يحلّ لك أن تؤذيَ كلباً أو خنزيراً بغير حقّ، فكيف بمن هو أكرم مخلوق»؟ وقال قتادة: «إيّاكم وأذى المؤمن فإنّ الله يحوطه، ويغضب له».
ومن عجيب ما ورد في النصوص الشرعية النهي عن إيذاء المسلم ولو بسب قريبه الكافر، فلما شكا عكرمة بن أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقال له: ابن عدو الله، قام خطيبا فقال صلى الله عليه وسلم : «لا تؤذوا مسلما بشتم كافر» أخرجه الحاكم والبيهقي.
وقال صلى الله عليه وسلم : «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» أخرجه الترمذي، قال المناوي: «لا تسبوا أموات المسلمين فتؤذوا الأحياء من أقاربهم».
والخلاصة كما يقول ابن رجب: «تضمنت النصوص أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بوجه من الوجوه من قول أو فعل بغير حق».
وانظر إلى هذا الخلق الرفيع الذي تصوره أقوال السلف، فعن يحيى بن معاذ قال: «ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة، إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه»، وقال الربيع بن خثيم: «الناس رجلان؛ مؤمن فلا تؤذه، وجاهل فلا تجاهله»، وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: أجعل كبير المسلمين عندك أبا، وصغيرهم ابنا، وأوسطهم أخا، فأي أولئك تحب أن تسيء إليه».
فما أجدر المسلم أن يوسع أفقه ويزيد علمه فيعلم أن التدين ليس عبادة فحسب، وإنما هو قيام بحق الله عز وجل، وهو كذلك قيام بحقوق العباد، فكف الأذى عن الغير صدقة يتصدق بها العبد على نفسه، وهو قربة يتقرب بها إلى الله تعالى، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (46)
يقوم بعض الناس بالتهاون في أداء الواجبات أو التقصير في الالتزام بالقوانين أو احترام الأعراف العامة، فيكسر القانون، ويتمرد على العرف العام، ويقصر في أداء مسؤولياته الفردية تجاه المجتمع والآخرين، ويجعل لنفسه مسوغاً يتكئ عليه ألا وهو: كل الناس يفعلون ذلك، أو أن الدنيا كلها بهذه الصورة، وإذا أدى غيري واجبه قمت بأداء واجبي، أو يقوم بإلقاء اللوم والعتب على المسؤولين لأنهم مقصرون في أداء أعمالهم، ويتخذ من ذلك مسوّغاً لإهماله وتقصيره ومخالفاته.
ونصوص الشريعة وقواعدها تؤكد مبدأ المسؤولية الفردية، وهي كون الشخص مكلفاً بأداء ما كلف به تجاه ربه ونفسه والآخرين بحسب وسعه وطاقته، وأن قيامه بتلك التكاليف إنما يكون بالإخلاص لله عز وجل، والإحسان في العمل؛ لأنه سيسأل عن أعماله وسيجازى عليها إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، إلا أن يعفو الله ويتجاوز.
فقيام الفرد بمسؤولياته الدينية والدنيوية عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى، فهي ليست مصالح متبادلة يقوم بها الشخص رداً على إحسان الدولة إليه أو مقابلة لجميل أسداه غيره إليه، والمسؤولية ليست فضلاً يمتن به المرء على أسرته أو مجتمعه أو دولته، فمسؤولية الفرد تجاه ربه وتجاه الآخرين أساسها إيمان الشخص بالله واليوم الآخر، وأداؤه لتلك المسؤوليات هو أثر لإيمانه، وانعكاس لدينه، وهذا ما يفرق بين المسؤولية في الإسلام والمسؤولية في النظم الغربية؛ حيث يكون أداء الإنسان لواجباته مناطاً برقابة القانون وحضوره، أما عند غيبة الرقيب فإن الشخص يتهرب من مسؤولياته والتزاماته.
فمن الآيات الكريمة التي تؤكد مبدأ المسؤولية الفردية قوله عز وجل: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} قال الشيخ ابن سعدي: أي: لا أولاد، ولا مال، ولا أنصار، ليس معه إلا عمله، فيجازيه الله ويوفيه حسابه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وقال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، قال الشيخ ابن سعدي: وهذا إخبار عن كمال عدله أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه، أي: ما عمل من خير وشر يجعله الله ملازماً له لا يتعداه إلى غيره، فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله، وقوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} فيه ما عمله من الخير والشر حاضراً صغيره وكبيره ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}، وهذا من أعظم العدل والإنصاف أن يقال للعبد: حاسب نفسك ليعرف بما عليه من الحق الموجب للعقاب.
وقال تعالى: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، قال الشيخ ابن سعدي: أي: هداية كل أحد وضلاله لنفسه لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر، والله تعالى أعدل العادلين لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة، وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة الله تعالى فإن الله تعالى لا يعذبه.
وأما ما جاء في السنة المطهرة مما يؤكد مبدأ المسؤولية الفردية فما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته» متفق عليه.
قال النووي: «قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه، وما هو تحت نظره، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء، فهو مطالب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته».اهـ
قال الطيبي: «في هذا الحديث أن الراعي ليس مطلوباً لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك فينبغي ألا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه».
قال ابن حجر: وقال غيره:«دخل في هذا العموم المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد، فإنه يصدق عليه أنه راع على جوارحه حتى يعمل بالمأمورات ويجتنب المنهيات فعلاً ونطقاً واعتقاداً، فجوارحه وقواه وحواسه رعيته».
فالأمر خطير؛ إذ إن كل إنسان سيسأل بمفرده عن أعماله ويجازى عليه، ولن ينفعه أو يدفع عنه أفعال الآخرين أو أعذارهم، وعليه أن يعد لكل تصرف جواباً يجيب به ربه، كما جاء في حديث أنس مثل حديث ابن عمر وزاد في آخره: «فأعدوا للمسألة جوابا» قالوا: وما جوابها؟ قال: «أعمال البر» قال ابن حجر: «أخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط وسنده حسن».اهـ
فهذه المقولة: «إذا نظف كل منا أمام بيته صار الشارع نظيفاً» هي مثل بريطاني يصور حقيقة المسؤولية الفردية بصورة تقريبية واضحة وسهلة الفهم؛ حيث إن قيام كل فرد بما كلف به وحده دون انتظار للآخرين سيؤدي في النهاية إلى شيوع النظام واستقامة الأمور، وتقلص الفوضى وانحسار الفساد، أما أن ينتظر كل فرد من غيره أن يقوم بواجباته وواجبات غيره، فهنا تتعطل مصالح المجتمع، ويشيع الفساد، وينمو التواكل والأنانية، وتبرز صفة اللامبالاة وقلة الاهتمام، وهذا يتنافى مع ما قرره الدين من الأخوة الإيمانية في قوله عز وجل: {إنما المؤمنون إخوة}، وما أكده من تلاحم المجتمع وأخذه على أيدي المقصرين والمهملين حتى لا ينهار المجتمع بسبب سوء تصرفهم وقلة فهمهم كما قال صلىالله عليه وسلم :«مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» أخرجه البخاري، فالحديث يؤكد أهمية تعاون الجميع لحفظ بقاء المجتمع وسلامته، وأن إهمال البعض أو تقصيره وحتى سلبيته قد يكون سبباً لهلاك المجتمع وفوات مصالحه، فأهم الأمور أن يقوم الفرد بما كلف به تجاه ربه ونفسه والآخرين، إخلاصاً لله تعالى وإحسانا للغير، وإتقاناً للعمل، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (46)
إن خير من استأجرت القوي الأمين
قال عز وجل: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}. ذكر الشيخ ابن سعدي أن الله -عز وجل- يبين في هذه الآية الكريمة عظم شأن الأمانة التي ائتمن عليها المكلفون؛ حيث عرضها- سبحانه- على المخلوقات العظيمة السموات والأرض والجبال، عرض تخيير لا تحتيم، فأبين أن يحملنها خوفاً ألا يقمن بحقها، وعرضها عز وجل على الإنسان بذلك الشرط، وهو إن قام بها أجر وإن لم يؤدها عوقب فقبلها وحملها مع ظلمه وجهله، فانقسم الناس- بحسب قيامهم بها وعدمه - إلى ثلاثة أقسام: منافقون، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا، ومشركون، تركوها ظاهرًا وباطنًا، ومؤمنون، قائمون بها ظاهرًا وباطنًا، فذكر اللّه تعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة، وما لهم من الثواب والعقاب فقال: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَا تِ وَالْمُشْرِكِين َ وَالْمُشْرِكَات ِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
والأمانة مفهوم واسع يشمل أمورا كثيرة يغفل عنها بعض الناس، فالأمانة تطلق على الوفاء فهي ضد الخيانة، كما تطلق على الوديعة، والمراد بها هنا كل ما ائتمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به، فأمر الله عباده بأدائها كاملة موفرة، لا منقوصة ولا مبخوسة، ولا ممطولاً بها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله.
وفي القرآن الكريم توجيه بديع إلى أمانة اختيار الأكفاء لتولي مصالح المسلمين، وبيان أسس الولاية وقوامها، وذلك فيما قصه الله عز وجل من قصة موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وسقى للمرأتين فقالت إحداهما لأبيها: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين}.
قال الشيخ ابن سعدي في تفسير الآية الكريمة: «أي: اجعله أجيراً عندك، يرعى الغنم ويسقيها، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} أي: إن موسى أولى من استؤجر، فإنه جمع القوة والأمانة، وخير أجير استؤجر من جمعهما، أي: القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة، وهذان الوصفان، ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملاً، بإجارة أو غيرها، فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما، وأما باجتماعهما، فإن العمل يتم ويكمل، وإنما قالت ذلك؛ لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه، ما عرفت به قوته، وشاهدت من أمانته وديانته، وأنه رحمهما في حالة لا يرجى نفعهما، وإنما قصده بذلك وجه اللّه تعالى».
ويبين الشيخ الطاهر بن عاشور أن هذه الكلمة من تلك المرأة صارت مثلاً سائراً، وقاعدة قرآنية يرجع إليها عند تولي المناصب العامة فيقول: «وجملة {إن خير من استأجرت القوي الأمين} علة للإشارة عليه باستئجاره؛ أي لأن مثله من يستأجر. وجاءت بكلمة جامعة مرسلة مثلاً لما فيها من العموم ومطابقة الحقيقة دون تخلف، فالتعريف باللام في: {القوي الأمين} للجنس مراد به العموم، والخطاب في: {من استأجرت} موجه إلى شعيب، وصالح لأن يعم كل من يصلح للخطاب لتتم صلاحية هذا الكلام لأن يرسل مثلاً».
ويوضح شيخ الإسلام أن الأمانة والقوة أمران نسبيان يختلفان بحسب موضوع الولاية وخطرها، وأنه لا يلزم من صلاحية شخص لمكان أن يصلح لكل مكان، بل لابد من النظر إلى طبيعة الولاية وقدرة الشخص على تحقيق مقاصدها، فيقول رحمه الله في السياسة الشرعية: والقوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.
والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألاّ يشترى بآياته ثمناً قليلاً، وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حكم على الناس في قوله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، ولهذا قال النبي [: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة» رواه أهل السنن.
اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:«اللهم أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة».
فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيها، على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً وإن كان الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها».
وهنا لابد من الإخلاص لله تعالى في اختيار من يلي أمور المسلمين، والتجرد عن اتباع الهوى على اختلاف صوره، والنظر إلى كفاءة الإنسان وقدرته على تحقيق مقاصد الولاية التي سيتولاها، فليس كل صالح في نفسه يكون صالحاً في ولايته، كما سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو؛ أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؟ فقال: «أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
فالاختيار للقرابة أو للصداقة أو للرشوة أو لغيرها من المعايير غير الموضوعية يوقع الإنسان تحت مظلة الخيانة لله تعالى ولرسوله وللمسلمين كما جاء في الأثر: «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله» وفي رواية: «من قلـد رجلاً عملاً على عصابة أي: جماعة من الناس وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين» رواه الحاكم، وقال عمر رضي الله عنه : «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين».
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن «47»الدال على الخير كفاعله
من رحمة الله عز وجل بعباده أن شرع لهم من العبادات ما يناسب قدراتهم، فلم يكلفهم فوق طاقتهم، ولم يحملهم إلا وسعهم كما قال عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، ومن رحمته أيضا أنه فتح لهم أبوابا عديدة لكسب الحسنات وتحصيل الدرجات تتناسب مع عجزهم وضعفهم وقصر أعمارهم واختلاف أحوالهم، فأبواب الخيرات متنوعة، ودرجات القرب متعددة، تناسب كل شخص بحسب عمره وعلمه ونوعه وصحته وفراغه كما قال عز وجل: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً}.
ومن هذه الأبواب العديدة لكسب الحسنات ورفع الدرجات «باب الأجور المتراكبة، والحسنات المتضاعفة»، فقد دلت النصوص الشرعية على أن المسلم قد يبذل جهداً محدوداً إلا أنه يعود عليه بحسنات مضاعفة، وأجور غير متناهية، وهذا من عظمة الإسلام، ورحمة الله تعالى بعباده.
فمن هذه الأدلة ما أخرجه مسلم عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جهـّز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا»، قال النووي: «أي حصل له أجر بسبب الغزو، وهذا الأجر يحصل بكل جهاد وسواء قليله وكثيره، ولكل خالف له في أهله بخير من قضاء حاجة لهم وإنفاق عليهم أو مساعدتهم في أمرهم، ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك وكثرته، وفي هذا الحديث الحث على الإحسان إلى من فعل مصلحة للمسلمين أو قام بأمر من مهماتهم».
وعنْ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ؛ زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ» رواهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ وأخرجه ابن ماجه بلفظ: «زيادة لكم في أعمالكم». فالوصية بالخيرات من أبواب الخير المستمر الذي يجري ثوابه على المسلم ولو بعد موته وانقطاع عمله، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده وإنعامه عليهم.
وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «مَن فطَّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء» رواه الترمذي، فالمسلم الذي يتبرع بإطعام الصائم حين فطره يحصل له مثل أجر الصائم الذي أتعب نفسه وأظمأ جوارحه.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، أَوْ وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَكْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» أخرجه ابن ماجه، وهذه الأمور المذكورة في الحديث مما يبقى أثرها بعد موت فاعلها، ولهذا يظل قلم الحسنات جارياً للفاعل ما دام ذلك الأثر باقياً لأنه تسبب في وجودها وبقاء أثرها النافع لمدد طويلة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وغيرها من نصوص تؤكد هذا المبدأ الشرعي، وتقرر هذا الباب العظيم من أبواب كسب الثواب وتحصيل الأجور والحسنات.
ومن هذا الباب ما جاء من أحاديث تدل على أن الدال على الخير له مثل أجر فاعله، فقد أخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يستحمله، فلم يجد عنده ما يتحمله، فدله على آخر فحمله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم : «إن الدال على الخير كفاعله»، ومعنى قوله: «يستحمله» أي: يطلب منه المركب، وقوله «فحمله» أي: أعطاه المركب.
وأخرج مسلم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»، ومعنى قوله: «من دل» أي بالقول أو الفعل أو الإشارة أو الكتابة «على خير» أي علم أو عمل مما فيه أجر وثواب «فله» أي فللدال «مثل أجر فاعله» أي من غير أن ينقص من أجره شيء.
قال الإمام النووي في شرحه على هذا الحديث: «فيه فضيلة الدلالة على الخير، والتنبيه عليه، والمساعدة لفاعله، وفيه فضيلة تعليم العلم، ووظائف العبادات ولاسيما لمن يعمل بها من المتعبدين وغيرهم، والمراد بـ«مثل أجر فاعله» أن له ثواباً بذلك الفعل كما أن لفاعله ثواباً، ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء».
وأخرج مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ فَعَلَيْهِ مِن الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ اتَّبَعَ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»، رواه مسلم.
قال الشيخ ابن سعدي: «هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث فيه الحث على الدعوة إلى الهدى والخير، وفضل الداعي، والتحذير من الدعاء إلى الضلالة والغي، وعظم جرم الداعي وعقوبته، والهدى هو العلم النافع والعمل الصالح، فكل من علم علما أو وجـّه المتعلمين إلى سلوك طريق يحصل لهم فيها علم فهو داع إلى الهدى، كل من دعا إلى عمل صالح يتعلق بحق الله، أو بحقوق الخلق العامة والخاصة فهو داع إلى الهدى.
وكل من أبدى نصيحة دينية أو دنيوية يتوسل بها على الدين فهو داع إلى الهدى، وكل من اهتدى في علمه أو عمله، فاقتدى به غيره فهو داع إلى الهدى.
وكل من تقدم غيره بعمل خيري، أو مشروع عام النفع، فهو داخل في هذا النص، وعكس ذلك كله الداعي إلى الضلالة.
فالداعون إلى الهدى هم أئمة المتقين، وخيار المؤمنين، والداعون إلى الضلالة هم الأئمة الذين يدعون إلى النار.
وكل من عاون غيره على البر والتقوى، فهو من الداعين إلى الهدى، وكل من أعان غيره على الإثم والعدوان فهو من الداعين إلى الضلالة».
ولا يخفى أن الله عز وجل قد أمرنا بالتعاون على البر والتقوى فقال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، فالدلالة على الخير، والإرشاد إلى المعروف، مندرج تحت التعاون على البر، والقائم بذلك مع امتثاله لأمر الله تعالى فهو ساع في باب الأجور المضاعفة والحسنات المركبة، وفقنا الله وإياكم للفقه في الدين، والعمل بما فيه من الهدي القويم.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
-
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (48)
عند الصباح يحمد القوم السُّرَى
من الأمثال العربية المشهورة قولهم: «عند الصباح يحمد القوم السُّرَى»، والسُّرَى هو سَيْر الليل خاصة، ومعنى المثل: أن الذي يمشي بالليل يَفرَح بمسِيرِه إذا طَلَع النهار، بِخلاف الذي ينام ليله، فإنه يَندم إذا طَلَع النهار، فهو مثل كما يقول الميداني في (مجمع الأمثال) يضرب للرجل يحتمل المشقة رجاء الراحة.
والنصوص الشرعية قد دلت على هذا المعنى أكمل دلالة، وأرشدت إليه بأوضح عبارة، تحث المؤمنين على المبادرة إلى الطاعات، والمسارعة في الخيرات، واغتنام الأوقات؛ لتحصل لهم البركات والحسنات، ولينجوا من الندم والحسرات .
قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}، قال الشيخ ابن سعدي: «أمرهم بالمسارعة إلى مغفرته، وإدراك جنته، التي أعدها للمتقين».
وقال سبحانه: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض}، قال الشيخ ابن سعدي: «أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته، وذلك بالسعي في أسباب المغفرة، من التوبة النصوح، والاستغفار النافع، والبعد عن الذنوب ومظانها، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح، والحرص على ما يرضي الله على الدوام، من الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع؛ ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك فقال: {وجنة عرضها كعرض السماء الأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} والإيمان بالله ورسله يدخل فيه أصول الدين وفروعه».
ومن النصوص القرآنية في هذا المعنى قوله عز وجل: {فاستبقوا الخيرات} قال الشيخ ابن سعدي: «الأمر بالاستباق إلى الخيرات، قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات؛ فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل».
ولا تزال الآيات القرآنية تتوالى في الحض على فعل الخيرات والمبادرة إلى الصالحات فقال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}، قال الشيخ ابن سعدي: «أي: فليتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه، فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس الأنفاس، وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال».
وقال سبحانه: {لمثل هذا فليعمل العاملون}، قال الشيخ ابن سعدي: «فهو أحق ما أنفقت فيه نفائس الأنفاس، وأولى ما شمر إليه العارفون الأكياس، والحسرة كل الحسرة، أن يمضي على الحازم وقت من أوقاته وهو غير مشتغل بالعمل، الذي يقرب لهذه الدار، فكيف إذا كان يسير بخطاياه إلى دار البوار؟!».
ومدح الله تعالى المؤمنين بأنهم: {يسارعون في الخيرات} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: في ميدان التسارع في أفعال الخير، همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة انتهزوه وبادروه، قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه أمامهم ويمنة ويسرة، يسارعون في كل خير، وينافسون الزلفى عند ربهم، فنافسوهم، ولما كان المسابق لغيره المسارع قد يسبق لجده وتشميره، وقد لا يسبق لتقصيره، أخبر تعالى أن هؤلاء من القسم السابقين فقال: {وهم لها سابقون}».
ومن الآيات القرآنية التي تطمئن المؤمن على حسن عاقبته وطيب مآله قوله تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}، قال القاسمي: «ومن أراد الآخرة، ولها طلب، ولها عمل عملها الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه، فأولئك كان عملهم مشكورا بحسن الجزاء».
ويصور النبي صلى الله عليه وسلم حال المسلم في سعيه إلى الله والدار الآخرة كالمسافر الذي يقطع المراحل ويرغب في الوصول سالما، ويخشى من الانقطاع أو التأخر فقال صلى الله عليه وسلم : «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» أخرجه الترمذي، قال الطيبي في شرح الحديث:» هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لسالك الآخرة؛ فإن الشيطان على طريقه، والنفس وأمانيه الكاذبة أعوانه، فإن تيقظ في مسيره، وأخلص النية في عمله أمن من الشيطان وكيده، ومن قطع الطريق بأعوانه، ثم أرشد إلى أن سلوك طريق الآخرة صعب، وتحصيل الآخرة متعسر لا يحصل بأدنى سعي فقال: «ألا» بالتخفيف للتنبيه «إن سلعة الله» أي من متاعه من نعيم الجنة «غالية» أي رفيعة القدر «ألا إن سلعة الله الجنة» يعني ثمنها الأعمال الباقية المشار إليها بقوله سبحانه: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا}.
وعلى المسلم في سعيه إلى الآخرة ألا يعتمد على نفسه، ولا يركن إلى جهده، بل يتوكل على الله تعالى، ويعلق قلبه ورجاءه به كما قال صلى الله عليه وسلم : «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز» أخرجه مسلم، قال النووي: «معناه: احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز، ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة».
ويحثنا عمر رضي الله عنه على علو الهمة وصدق العزيمة في السعي للآخرة فقال: «لا تصغرن هممكم؛ فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم».
وضرب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أروع الأمثلة في الاجتهاد ولاسيما مع التقدم في العمر، فكان يصوم حتى يعود كالخلال (العود الذي يخلل به الأسنان) من النحول فقيل له: «لو أجممت نفسك؟ أي: تركتها تستريح فقال: هيهات! إنما يسبق من الخيل المضمرة»، وقد قيل: من طلب الراحة، ترك الراحة.
قال ابن القيم: «وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لاشقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده ذلك لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله».
فلا شك أنه عند الصباح يحمد القوم السُّرَى، فيحمد المسلم ربه على توفيقه حين يرى ما أعده له مما لا يخطر له على بال ولا فكر؛ ولهذا يقول أهل الجنة إذا رأوا ما منّ الله عليهم وأكرمهم به: {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}، جعلنا الله وإياكم منهم، وبالله التوفيق .
اعداد: د.وليد خالد الربيع