من نعوت السلف

التواضع في الطلب والنشر، وحسن الأدب مع الخلق، وبالأخص مع العلماء وما ذلك إلا لعلمهم بالفضائل العظمى والشرف النبيل لخلق التواضع الذي يجب أن يتحلى به كل مسلم ومسلمة

غير أنه في طلاب العلم يجب أن يكون أوفر لشدة حاجتهم إليه وهم يطلبون ميراث النبوة الغالي ويحملون رسالة الرسل إلى أمم الأرض الذين قضى الله فيهم بحكمه الأزلي -وهو الحكيم العليم- أن يكونوا على صفات متباينة، وأخلاق مختلفة واتجاهات متعددة

وعليه فما أعظم التواضع وما أشد حاجة الخليقة إليه، وبالأخص العلماء دعاة الهدى ورواد الفضائل قال الله تعالى:
[وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا] [الفرقان:63] الآيات، وفي الحديث الصحيح: ((وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)).
ولقد أحسن القائل:

على صفحات الماء وهو رفيع ** إلى طبقات الجو وهو وضيع
تواضع تكن كالبدر لاح لناظر ** ولا تك كالدخان يعلو بنفسه

بخلاف خلق الفظاظة والصلف العلمي والتعالي فإنَّها صفات تزري بطالب العلم وناشره

فالبدار البدار إلى المكارم والفضائل، والحذر الحذر من السوءات والرذائل، وفي الحكمة:
"العلم حرب للمتعالي، كالسيل حرب للمكان العالي
ومنها
:
الرفق بالخلق والحلم والأناة في حدود الشرع، وما ذلك إلا لأن هذه الصفات الطيبة من صفات الدعاة إلى الله، والمحسنين من عباده جاء الترغيب في التحلي بِهَا، وفي الاستضاءة بنورها آيات كريمات محكمات
وأحاديث صحيحة مروية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، من ذلك قوله تعالى:
]خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[ [الأعراف:199].
وقوله عز وجل : ]وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[ [فصلت:34-35].

وقول النبي صلى الله عليه و سلم لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة)). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)). من حديث طويل عن عائشة.
وقوله صلى الله عليه و سلم :
(إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)) أخرجه مسلم.

ولقد أتى الثناء على هذه الصفات في آثار ووصايا وحكم نثرًا ونظمًا فمن ذلك ما أثر عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه قسم قطفًا فأعطى شيخًا من أهل دمشق قطيفة فلم تعجبه، فحلف أن يضرب بِها رأس معاوية فأتاه خبره فقال له معاوية: "أوف بنذرك وليرفق الشيخ بالشيخ"
وجاء في بعض الآثار أن ضمضم رضي الله عنه كان إذا خرج من منْزله قال: ((اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك)).
وقال بعض الشعراء:

وأكره أن أعيب وأن أعابا **وشر الناس من يهوي السبابا....

ومن حقر الرجال فلن يهابا**أحب مكارم الأخلاق جهدي
وأصفح عن سباب الناس حلمًا** ومن هاب الرجال تَهيبوه

وقال آخر فأحسن القول:

وإن كثرت منه إلَيَّ الجرائم ** شريف ومشروف ومثل مقاوم **
وأتبع فيه الحق والحق لازم **وأصون به عرضي وإن لام لائم
تفضلت إن الفضل بالفخر حاكم **سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب
فما الناس إلا واحد من ثلاثة** فأما الذي فوقي فأعرف قدره
وأما الذي دوني فأحلم دائبا ** وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا

وانطلاقًا مما دلت عليه هذه النصوص والآثار والوصايا والحكم

اعتبر السلفيون تلك الصفات الفاضلة -الرفق والحلم والأناة- من مقومات منهج دعوتُهم إلى الله، فاتصفوا بِها، وتفاعلوا معها، فكتب الله لدعوتِهم النجاح على أيديهم في كل زمان ومكان: ]ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[ [الحديد: من الآية21].
"

قطوف من نعوت السلف ص5
- 7