ما حكم فكِّ السّحر بالسحر، ؟
هذه المسألة من المسائل العظيمة في باب التوحيد وفي الفقه أيضا؛ ألا وهي حكم حلِّ السحر بسحر مثله، ولابد من تقديم مقدمة في بيان [حقيقة السحر]
أن السحر لا ينعقد إلا بأن يخدمه شيطان؛ لأن حقيقة السحر هي تسليط الشياطين على المسحور، إما على بدنه، وإما على جزء من بدنه، وإما على عقله، والشيطان قد يتسلَّط بإذن الله جل وعلا فيضر المسحور وقد لا يضره فينفع غير المسحور، كما في مسألة الصرف والعطف، والله جل وعلا قال لما ذكر السحر ?وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ?[البقرة:102].
وحقيقة السحر - راجعة إلى خدمة الشيطان لهذا السحر، والسحر يؤثّر حقيقة في بدن المسحور أو في عقله، يؤثّر حقيقة لا تخيل يؤثر في البدن فيمرض حقيقة، يؤثر في العقل فيُنسي حقيقة، يصرف العقل عن الشيء حقيقة وليس بالتخيّل، وإنما قد يخيل إلى العين في بعض أحواله كما قال جل وعلا ?يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى?[طه:99]، هذا تخييل على العين في بعض أحواله، أما فيما يصيب البدن ويصيب العقل فهو حقيقة وهو ليس توهّما من المسحور.
إذا تبين ذلك فإن الشيطان هذا الذي يخدم السحر لا يمكن أن يفعل ذلك ويخدم الساحر حتى يتقرّب إليه الساحر، فيستمتع الجني بهذا السّاحر الإنسي استمتاعا يُرضيه حتى يخدمه بعقد السحر وبالتّأثير في بدن المسحور.
وهذا من جملة أنواع الاستمتاع التي ذكرها الله جل وعلا في قوله ?رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا?[الأنعام:128]، فيستمتع الإنسي بالجني ويستمتع الجني بالإنسي.
استمتاع الإنسي بالجني بأن الإنسي يطلب من الإنسي أشياء فيحققها له الجني.
واستمتاع الجني بالإنسي بالسّحر بأن الإنسي يتقرّب إلى الجني الشيطان الكافر يتقرّب إليه بأشياء يرضى بها عنه، ثم بعد ذلك يخدمه بالسحر.
فحقيقة السحر إذن: أنها لا يقوم السحر إلا على تقرّب من الإنسي للجني بإرضائه، والجني يرضى على ذلك بالشرك بالله عز وجل وبأنواع الشرك إما بالذبح أو بدعاء والتعلق بالجن والخوف من الجن خوف السر أو نحو ذلك من التذلل لهم، أو تكون الخدمة بأن يجعل الجنيُّ الإنسيَّ يكفر بالله جل وعلا ويرتد بأن يعمل أشياء من الردة كإلقاء المصحف في قاذورات تعمُّدا، أو -والعياذ بالله- البول عليه أو إلقاء النجاسات ونحو ذلك مما هو معروف من حال السحرة قبحهم الله.
فإذن حقيقة السحر أنها لا تكون إلا بشرك وكفر من السّاحر، ولهذا قال جل وعلا في حكمه قال ?وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ?[البقرة:102]، وهذا يعمّ حالي التعلم: تعلم ما ينفع وتعلم ما يضر. قال ?وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ? وهذا فيه عموم؛ لأن ?مَا? نافية و?أَحَدٍ? نكرة في سياق النفي فتعم، ثم زادها تنصيصا صريحا في العموم مجيء ?مِنْ? قبل النكرة فصار هذا لا يخرج عنه شيء من الأفراد، فهو يعمّ حالتين: ما يُظن أنّه ينفع، أو يضر، الصرف والعطف أنواع السحر.قال ?وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ?.
فإذا كان كذلك فالسحر إذن لا يقوم إلا على الكفر بالله جل وعلا من الساحر أو على الشرك بالله جل وعلا من الساحر وقد يكون من المتقدّم للساحر لطلب السحر أو لطلب فَكِّهِ.
إذا كان كذلك فإنّ فكّ السحر بالسحر إذن يكون إقرارا للشرك بالله جل وعلا، إقرارا للكفر بالله جل وعلا، إذْ إنه في حقيقته إقرار للساحر على كفره وعلى شركه بالله جل وعلا حتى تخدمه الشياطين الكفرة المردة.
هذا تقرير أصل هذه المسألة، فيكون إذن تعلم السحر كفر واستعمال السحر كفر، ويكون إذن التقرّب إلى الساحر بأنواع التقرّبات إذا كان فيها كفر فهو أيضا كفر من المتقرب إليه، إذا كان فيها ذبح: اذبح لي أو عظم أو أعطيني فلوسا اشتري ذبيحة وأذبحها أو نحو ذلك، فالرّاضي بالذنب كفاعله وهذا يعلم أنه سيتصرف إلى الجن بهذه الأشياء.
فيكون إذن حل السحر بسحر حكمه حكم السحر لأنه لا يُحل السحر بسحر إلا فُعل السحر، فيكون إذن ثَم فعل للسحر حتى يُزال سحر، هذا هو الذي تريده الشياطين، تريده الجن من الإنس؛ أن يكفر الإنسي بالله جل وعلا وأن يشرك الإنسي بالله جل وعلا الجني، فيكون عابدا للجني متقرّبا للجني ومشركا بالله جل وعلا.
فإذن حلّ سحر بسحر مثله مع بيان هذا التأصيل تصل معه إلى نتيجة أنه محرَّم وكفر وشرك بالله جل وعلا.
إذا تبيّن هذا فالعلماء من المتكلّمين في الفقه وفي الفتوى اختلفوا في هذه المسألة؛ حكم حل السحر بمثله هل يجوز أم لا يجوز؟ الجمهور بل عامة أهل العلم على أنَّ هذا محرم ولا يجوز؛ يعني محرّم ولا يجوز مطلقا دون تقييد.
وقال جماعة من أهل العلم: إنّ حل السحر بمثله ضرورة جائز، وهذا هو مذهب الحنابلة وهو المنصوص في كتب الفقه الحنبلي يقولون يجوز حل سحر بمثله ضرورة، لماذا جعلوه ضرورة؟ يعني جعلوا الضرورة مبيحة مع أن الضرورة لا تبيح الشرك بالله جل وعلا، قالوا: لأن السحر لا يكون في جميع أقسامه شركا؛ ليس كل السحر يكون عن كفر، وتعلمون كلام الشافعي رحمه الله أيضا حينما قال السحر نوعان:
* سحر بالتدخينات كذا هذا يؤثر وهذا لا يستعمل فيه الكفر فليس بكفر.
* سحر يكون عن طريق التقرب للشياطين فهذا كفر.
فعند من قسّم هذا التقسيم قال إذا لم يتمحّض الساحر للشرك فإن المحرم يباح عند الضّرورة، فيكون استعمال الساحر لسحر بدون شرك محرم، والمحرمات تبيحها الضرورات.
لكن هذا في الحقيقة تنظير لا حقيقة له في الواقع، فإنه في الواقع لا يكون السّحر المؤثر إلا بخدمة جني إلا بخدمة شيطان؛ لأن الشياطين هي التي تؤثر في ذلك، وعند ذلك فيكون حل السحر بمثله ضرورة ليس بالقول الصواب؛ لأنه مبني على أن السحر منقسم والسحر ليس بمنقسم؛ بل السحر لا يكون إلا عن شرك بالله جل وعلا.
أما كلام سعيد بن المسيب رحمه الله ومن أجاز حل السحر بما ينفع: فإنهم لا يعنون به الذّهاب للسّاحر، قال: أما ما ينفع فلم ينه الله جل وعلا عنه. يعني من الأدعية والأوراد والأسباب والتلاوة ونحو ذلك مما فيه حل السّحر هذا نافع ولا يُتقيد به أيضا بما ورد، فإنه ما عرف الناس أنه نافع في حل السحر ولم يشتمل على منكر أو محرّم في نفسه أو فيما يؤول إليه فإنه لا بأس بتعاطيه.
ولذلك ذكر العلماء في شروح الأحاديث أن مما يُحل به السحر أن تُحمى حديدة حتى تكون جمرة حمراء ثم يبول عليها المسحور، وهذا مما يكون بالتجربة سواء كانت تجربة صادقة أم غير صحيحة المقصود أنهم ذكروها، فالباب باب تجربة، إذا لم تشتمل هذه التجربة أو هذا الأمر على محرّم بنفسه أو يؤول إلى محرّم فإنه يكون هذا العلاج جائز.
هذا هو الذي يحمل عليه كلام من أجاز حلّ السحر كسعيد بن المسيب وغيره، فإنهم يبيحون حلّ السحر بغير الأدعية وبغير القرآن؛ لكن بما هو جائز، والسحر يضر، قال جل وعلا[ وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ[البقرة:102]بنص الآية.[شرح الطحاوية للشيخ صالح ال الشيخ]
والجمهور بل عامة