د. عبدالعزيز بن عبدالرحمن المشعل
أ
المبحث الثالث: تأصيل قاعدة: "البقاء أسهل من الابتداء" (صلتها بأصول الفقه وقواعد التشريع
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: صلتها بالاستصحاب.
المطلب الثاني: صلتها بمراعاة المآل، والمصالح والمفاسد.
المطلب الثالث: صلتها بسد الذرائع.
المطلب الرابع: صلتها بمراعاة الخلاف.
المطلب الخامس: صلتها بالواقع والحس والمشاهدة والتجربة.
المبحث الثالث : تأصيل قاعدة: البقاء أسهل من الابتداء (صلتها بأصول الفقه وقواعد التشريع)
إذا أردنا تأصيل هذه القاعدة وبيان علاقتها بأصول الفقه قواعد التشريع وردها إلى هذه الأصول والقواعد يتبين لنا علاقتها الوثيقة بعدد من هذه الأصول والقواعد، وبيان ذلك على النحو الآتي:
المطلب الأول: صلتها بالاستصحاب:
من المعلوم أن الاستصحاب أصل من أصول الفقه، وترجع إليه قواعد أصولية وفقهية لا تحصى، وهذه القاعدة التي بين أيدينا وهي قاعدة البقاء أسهل من الابتداء أو أقوى من الابتداء من جملة هذه القواعد التي ترد إلى الاستصحاب، ووجه ذلك أن من معاني الاستصحاب وتطبيقاته الاستبقاء والتقرير لما كان على ما كان عليه، ومراعاة مقتضى الحال، اعتباراً للمصالح المرجوة من بقائه، والمفاسد المتوقع حدوثها عند إرادة تغييره ورفعه.
يقول ابن القيم: (وأضعاف أضعاف ذلك من الأحكام التي يفرق فيها بين الابتداء والدوام، فيحتاج في ابتدائها إلى ما لا يحتاج إليه في دوامها، وذلك لقوة الدوام وثبوته واستقرار حكمه.
وأيضًا: فهو مستصحب بالأصل... والمستدام تابع لأصله الثابت).[1].
فأشار رحمه الله إلى أن مستند هذه القاعدة استصحاب الحكم الثابت المستقر بسبب قوة الدوام .
المطلب الثاني: صلتها بمراعاة المآل والمصالح والمفاسد:
أشار الشاطبي رحمه الله إلى ارتباط هذه القاعدة بمراعاة المآل والنظر فيما يترتب على الدفع أو الرفع من مفاسد هي أشد ضررًا من مقتضى النهي عن التصرف، فقاعدة المنع أسهل من الرفع تحقق مقاصد الشرع في العدل والرفق بالخلق، والتيسير عليهم.
يقول الشاطبي في إيضاح ذلك: (وذلك أن الممنوعات في الشرع إذا وقعت فلا يكون إيقاعها من المكلف سببًا في الحيف عليه بزائد على ما شرع له من الزواجر وغيرها، كالغصب مثلاً إذا وقع فإن المغصوب منه لابد أن يوفى حقه، لكن لا على وجه يؤدي إلى إضرار الغاصب فوق ما يليق به في العدل والإنصاف...)[2] .ثم قال بعد ذلك: (إذا ثبت هذا فمن واقع منهياً عنه فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام زائدًا على ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة، أو مؤد إلى أمر أشد عليه من مقتضى النهي، فيترك وما فعل من ذلك، أو نجيز ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل، نظرًا إلى أن ذلك الواقع واقع المكلف فيه دليلاً على الجملة، وإن كان مرجوحاً فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه؛ لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي، فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع، لما اقترن من القرائن المرجحة).[3].
ثم ضرب الشاطبي أمثلة كثيرة على ذلك ومنها:
1 – حديث تأسيس البيت على قواعد إبراهيم وهو ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدد في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض).[4].
2 – حديث ترك قتل المنافقين حيث قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لمن أشار عليه بذلك: "دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"[5].
حيث إن موجب القتل حاصل وهو الكفر بعد الإسلام، والسعي في إفساد حال المسلمين؛ فكانوا بذلك أضر على الإسلام من المشركين فقتلهم درء لمفسدة حياتهم، ولكن المآل الآخر وهو هذه التهمة تبعد الطمأنينة عن مريدي الإسلام، وهي أشد ضرراً على الإسلام من بقائهم.
3 – ولعل من أوضح الأمثلة على القاعدة التي نتكلم عنها حديث البائل في المسجد وهو ما أخرجه البخاري عن أنس قال: (إن أعرابيًا بال في المسجد فقاموا إليه فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا تزرموه ثم دعا بدلو من ماء فصُب عليه"[6].
ووجه الاستدلال به هنا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بتركه حتى يتم بوله، لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه، ولحدث عليه من ذلك داء في بدنه، فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر وبأنه ينجس موضعين وإذا ترك فالذي ينجسه موضع واحد[7].
ثم قال الشاطبي بعد عرض عدد من الأمثلة التطبيقية لذلك في بعض الأحكام الشرعية كإجراء النكاح الفاسد مجرى الصحيح فيما يترتب عليه ... وهذا كله نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقص والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة النهي أو تزيد"[8].
المطلب الثالث: صلتها بسد الذرائع:
من القواعد المعتبرة في الشريعة سد الذرائع حيث إن العمل قد يكون مشروعاً بأصله لكن ينهى عنه لما قد يؤول إليه من المفسدة، أو قد يكون ممنوعاً لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة، وشواهد ذلك في أدلة الشرع، وفتاوى الأئمة المعتبرين كثيرة وظاهرة.
يقول الشاطبي موضحاً ذلك: "حيث يكون العمل في الأصل مشروعاً لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو ممنوعاً لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة، وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها؛ فإن غالبا تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع.
والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها ؛ فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع"[9]. ثم بين الشاطبي بعد ذلك أن هذا الأصل الذي ذكره يبني عليه قواعد كثيرة منها قاعدة الذرائع .
ولعل معظم التطبيقات الفقهية لهذه القاعدة التي بين أيدينا تناسب ما كان ممنوعاً في الأصل ثم يحصل إيقاعه من المكلف عن جهل ونحوه فيكون القول بفساد المعاملة أو التصرف في هذه الحالة مفضياً إلى مفاسد عظيمة أعظم من تركه وإبقائه على ما هو عليه فتقتضي هذه القاعدة تحكيم الأمر الواقع، ويبقى جهد العلماء فيما بعد ذلك منصبًا على التوعية وتوجيه الناس إلى تحريم هذه المعاملة أو هذا التصرف وهذا أسهل وأيسر كثيرًا من رفع الشيء بعد وقوعه وترتب عدد من الآثار عليه، ولذلك يكون منعه قبل الوقوع أسهل وأيسر من رفعه بعد الوقوع، والله أعلم.
المطلب الرابع: صلتها بمراعاة الخلاف:
لعل لهذه القاعدة صلة واضحة بمسألة مراعاة الخلاف، وهو أن المسائل المختلف فيها بين العلماء قد يراعى فيها قول المخالف، وإن كان على خلاف الراجح، فليست المسائل المتفق عليها كالمختلف فيها.
يقول الشاطبي موضحاً ذلك: "ألا تراهم يقولون – ويعني أصحابه المالكية -: كل نكاح فاسد اختلف فيه فإنه يثبت به الميراث، ويفتقر في فسخه إلى الطلاق؛ وإذا دخل مع الإمام في الركوع وكبر للركوع ناسياً تكبيرة الإحرام فإنه يتمادى مع الإمام مراعاة لقول من قال:إن تكبيرة الركوع تجزئ من تكبيرة الإحرام.. ومثله جار في عقود البيع وغيرها، فلا يعاملون الفاسد المختلف في فساده معاملة المتفق على فساده، ويعللون التفرقة بالخلاف فأنت تراهم يعتبرون الخلاف"[10].
وبالتأمل فيما ذكره الشاطبي وغيره في هذا المقام نجد أن أساس التفرقة عندهم هو اختلاف مآل المسألة قبل وقوعها عن حالها بعد الوقوع وما يترتب على الوقوع عادة من أمور جديدة تستدعي نظراً جديداً، وتنشأ إشكالات لا يحصل الانفكاك عنها إلا بالبناء على الأمر الواقع بالفعل، واعتباره شرعياً بالنظر إلى قول المخالف،وإن كان مرجوحاً في أصل النظر وقبل وقوع المسألة.
يقول الشاطبي: "وذلك بأن يكون دليل المسألة يقتضي المنع ابتداء، ويكون هو الراجح، ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحاً؛ لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف،فيكون القول بأحدهما في غير الوجه الذي يقول فيه بالقول الآخر، فالأول فيما بعد الوقوع والآخر فيما قبله، وهما مسألتان مختلفتان، فليس جمعاً بين متنافيين ولا قولاً بهما معاً"[11].
وما ذكره الشاطبي في هذا المقام يمكن أن يخرج عليه كثير من المسائل التي ذكرها العلماء من تطبيقات قاعدة الاستدامة أقوى من الابتداء أو المنع أسهل من الرفع كما يعبر بعضهم ، ومن هذه المسائل ما أشار إليه الشاطبي نفسه فيما نقلناه عنه سابقاً من أمثلة عملية تطبيقية[12] ، وسيأتي لبعضها مزيد إيضاح عند الحديث عن التطبيقات الفقهية للقاعدة[13].
المطلب الخامس: صلتها بالواقع والحس والتجربة والمشاهدة:
إن لهذه القاعدة المنع أسهل أو أولى من الرفع صلة قوية بالواقع حيث يشهد لها ويؤيد صحتها، ومن ذلك أن مما جرى كالمثل عند العرب قولهم: "إياك وما يعتذر منه" ومعنى هذا المثل أن الشخص ينبغي أن يفكر في الكلمة أو التصرف قبل الإقدام عليه؛ لأنه يسهل عليه جداً الامتناع عن ذلك، لكن إذا تفوه بالكلام، أو أقدم على التصرف ثم حصل منه الندم أو التراجع فإن ذلك يكلفه كثيراً من العناء النفسي، وطلب رضا الطرف الآخر، وتقديم الاعتذار إليه، وقد لا ينفع ذلك أحياناً.
وممن جرى على ما يفهم من هذه القاعدة: قولهم: "فكر في الصعود قبل النزول" أو "في الخروج قبل الدخول" ونحو ذلك.
وفي نظري أن المثل المتداول: "الوقاية خير من العلاج" ونحوه لا ينأى كثيرًا عن هذه القاعدة التي بين أيدينا فكم يسهل منع حصول المرض باتباع طرق الوقاية منه بإذن الله وكم يصعب رفعه إذا وقع وما يستدعيه ذلك من الآثار، بل قد تصعب السيطرة عليه وينتشر في الناس إلى أن يكون وباء والعياذ بالله.
وما أشرت إليه يتوافق تماماً مع قاعدة المنع أسهل أو أولى من الرفع لكنه أيضاً لا يختلف عما يفهم من قاعدة: يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء لكونها متفرعة عنها فبما أن الرفع شاق وصعب جاءت قاعدة يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء حيث يغض الطرف لصعوبة المنع بعد الوقوع، وهذا في الأحكام الشرعية كما سيأتي، وفي غيرها أيضاً كما هو حال الواقع والحس والمشاهدة والتجربة.
ولو أردنا أن نسترسل في ذكر الشواهد والأدلة لضاق بنا المقام ولكن حسبنا الإشارة إلى شيء من ذلك وقد تقدم ما يكفي إن شاء الله.
وخلاصة القول:
أن هذه القاعدة المعمول بها في المذاهب الأربعة كلها مبنية على التيسير ورفع الحرج في الأحكام التي يتلبس المكلفون بها عن جهل ونحوه ثم يعسر الانتزاع منها؛ لأن الشيء بعد بنائه واستدامته يكتسب نوعاً من القوة والثبات بحيث لا يسهل انتزاعه ورفعه، ومن هنا يكون استبقاؤه وتركه على حال أهون وأيسر، ومن القواعد الشرعية المقررة: التيسير ورفع الحرج.
ويحسن التنبيه هنا إلى أمر مهم وهو أن هذه القاعدة لا ينبغي أن تتخذ وسيلة للإقدام على المناهي الشرعية بقصد فرضها أمراً واقعاً ومن ثم يصعب التخلص منه، فيجب التفريق بين حكم المسألة ابتداء وحكمها دواماً، فمن يعلم بحرمة أمر ثم يقدم عليه فإنه يأثم بهذا الفعل لاقترافه محظوراً شرعياً، لكن يبقى النظر في حكم العبادة أو المعاملة بعد ذلك خاضعاً لنوع المانع من صحتها هل هو من قبيل ما يمنع الابتداء والدوام؟ أو لا؟ فإن كان من النوع الأول فلا كلام لنا فيه هنا.
وإن كان من النوع الثاني فإن تصحيح العبادة أو المعاملة لا يعني عدم مؤاخذة من أقدم على فعلها على وجه منهي عنه، والله أعلم .
المبحث الرابع: منزلة قاعدة: "البقاء أسهل من الابتداء" في الفقه، وتطبيقاتها الفقهية
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: منزلة هذه القاعدة في الفقه.
المطلب الثاني: تطبيقاتها الفقهية.
المبحث الرابع
منزلة قاعدة: "البقاء أسهل من الابتداء" في الفقه، وتطبيقاتها الفقهية
المطلب الأول: منزلة هذه القاعدة في الفقه:
ذكر ابن السبكي عند تناوله لهذه القاعدة ما يدل على عظيم منزلتها وأهميتها وكثرة مسائلها في التطبيقات الفقهية العملية.
يقول ابن السبكي: "لأن للدوام والقوة ما ليس للابتداء، وهذه قاعدة في الفقه عظيمة، كثرت مسائلها، ومن أراد الإحاطة بفروعها فعليه بكتابنا الأشباه والنظائر أتمه الله"[14].
وبالرجوع إلى الكتاب المذكور تبين أن الفروع الفقهية التي ذكرها تحت هذه القاعدة كثيرة جداً[15].
كما سبقه إلى ذكر هذه الفروع وغيرها العلامة ابن القيم الذي ذكر ما يصل إلى عشرين فرعاً فقهياً لهذه القاعدة التي عبر عنها غالباً بأن البقاء أو الاستدامة أقوى من الابتداء، فكثيراً ما يكون هناك موانع في الشريعة تمنع الابتداء ولا تمنع البقاء والدوام لقوته، ومقاومته للمنع أو الرفع، فيكون البقاء أسهل من الابتداء أي أن الحكم بالبقاء أسهل من الحكم بالشيء ابتداء"[16].
وإن الناظر في كتب الفقه والقواعد الفقهية في المذاهب الأربعة يجدها زاخرة بالفروع الفقهية الكثيرة التي كان لهذه القاعدة أثر فيها، مما يدل على أن هذه القاعدة معمول بها في الجملة، وإن حصل هناك خلاف في بعض الفروع الفقهية فإنه خلاف جزئي، لا أثر له على اعتبار هذه القاعدة والعمل بها .
وسأذكر فيما يأتي عدداً من التطبيقات الفقهية لهذه القاعدة مرتبة حسب أبواب الفقه، مع مراعاة تنوع النقل عن المذاهب المختلفة .
المطلب الثاني: تطبيقاتها الفقهية:
أولاً: تطبيقاتها في العبادات:
1 - أن الذهول عن نية العبادة ينافي ابتداءها دون استدامتها[17].
2 – أن الماء المستعمل في الطهارة، إذا بلغ قلتين بعد الاستعمال فهل يعود طهوراً؟ فيه خلاف؛ لكن لو استعمل القلتين ابتداء لم يصر مستعملاً بلا خلاف، ذكر ذلك السيوطي وغيره، وعلل ذلك قائلاً: "والفرق أن الكثرة في الابتداء دافعة، وفي الأثناء رافعة، والدفع أقوى من الرفع"[18] ومعنى ذلك: أن الكثرة الطارئة على الماء بعد الاستعمال لا تؤثر فلا يعود طهورًا.
3 – أن الحدث يمنع ابتداء المسح على الخفين، ولا يمنع استدامة ذلك إذا لبس الخفين على طهارة ثم أحدث بعد ذلك[19].
4 – أن المتيمم إذا رأى الماء قبل الصلاة لم يتيمم، وإذا رأى الماء في أثناء الصلاة أتمها، فتكون رؤية الماء قبل الصلاة مانعة من التيمم أما رؤيته في أثنائها فهي غير مانعة، لأن البقاء أسهل من الابتداء[20].
5 – أن حصول الغنى ينافي جواز الأخذ من الزكاة ابتداء، ولا ينافيه دواماً، ذكر ذلك ابن القيم[21].
6 – أن السفر قبل الشروع في الصيام يبيح الفطر ويمنع وجوب الصوم، وإذا سافر في أثناء يوم من رمضان ففيه خلاف، وهناك من يرى أن ذلك لا يمنع وجوب الصوم عليه[22].
7 – أن القدرة على التكفير بالمال بوجدان الرقبة في كفارتي الظهار والقتل تمنع التكفير بالصوم ابتداء، ولا تمنع ذلك دواماً[23].
8 – أن الإحرام ينافي ابتداء النكاح والطيب دون استدامتها[24].
9 – أن القدرة على هدي التمتع والقران تمنع الانتقال إلى الصوم ابتداء، لا دواماً[25].
10 – أن نكاح المحرم لا يصح، وتصح رجعته تنزيلاً لها منزلة الدوام[26].
11 – أن الرجل يملك منع زوجته من حج النذر والنفل، فإن شرعت فيه بدون إذنه، فليس له منعها بعد الشروع والمباشرة؛ لأن الملابسة بالشروع لها اعتبار في نظر الشرع؛ حيث يصير النفل واجباً، وهذا مردود إلى هذه القاعدة[27].
ثانيًا: تطبيقاتها في المعاملات:
ذكر الفقهاء عدة تطبيقات لقاعدة البقاء أسهل من الابتداء في مجال المعاملات المالية حيث يمكن اغتفار اختلال بعض شروط العقود في حال استمرارها بعد وجودها في حين أن مثل ذلك لا يغتفر وقت انعقادها، ومن ذلك ما يأتي:
1- أن البائع يملك الامتناع من تسليم المبيع إلى المشتري حتى يقبض ثمنه، فإن سلمه قبل ذلك لم يملك استرجاعه ومنع المشتري من التصرف فيه والحجر عليه ذكر ذلك ابن رجب نقلاً عن صاحب المغني[28].
2-أن ابتداء المضاربة أو القراض على العروض لا يصح، ولو فسخ والمال عروض ثم عقد المالك لذلك العامل القراض عليها صح، بخلاف الابتداء، ذكر ذلك الزركشي من الشافعية[29].
3- أن عقد الإجارة يشترط لصحته أن يكون العين المؤجرة متميزة لا حصة مشاعة، ولكن الفقهاء اغتفروا الشيوع الطارئ دون المقارن للعقد، لأن الطارئ تكون في حال استمرار العقد وبقائه[30].
4- أنه لا تجوز إجارة العين المغصوبة لمن لا يقدر على تخليصها، ولو غصبها بعد العقد من لا يقدر المستأجر على تخليصها منه لم تنفسخ الإجارة، ويخير المستأجر بين فسخ العقد وإمضائه، ذكر ذلك ابن القيم[31].
5-أن الوكيل بالبيع لا يملك حق التوكيل به ابتداءً، لكنه يملك إجازة بيع الفضولي، ذكر ذلك ابن نجيم وغيره[32].
يقول ابن نجيم: "وقريب من هذا الجنس من لا تجوز إجازته ابتداء، وتجوز انتهاء... ومنه: أن الوكيل بالبيع لا يملك التوكيل به، ويملك إجازة بيع بائعه فضولي، والمعنى فيه أنه إذا أجاز يحيط علمه بما أتى به خليفته، ووكيل الوكيل كذلك، فتكون إجازته في الانتهاء عن بصيرة بخلاف الإجازة في الابتداء"[33].
ثالثًا: تطبيقات القاعدة في فقه الأسرة:
علل كثير من الفقهاء عند كلامهم على بعض المسائل المتعلقة بالنكاح بهذه القاعدة كثيراً، واستعملوها في توجيه التفريق بين حكم الشيء ابتداء وحكمه انتهاء ومن هذا القبيل ما يأتي:
1- أن اختلاف الدين يمنع ابتداء النكاح، ولا يرفعه في الأثناء فإذا ارتدت المرأة عن دين الإسلام فيجوز الإبقاء عليها زوجة، رغم أنه لا يجوز العقد عليها وهي كافرة ابتداء[34].
2- أن العدة تنافي ابتداء النكاح ولا تنافي بقاءه واستمراره إذا طرأت في أثنائه؛ فإن الموطوءة بشبهة ونحوها تعتد وهي باقية على الزوجية[35].
3- أن توقيت النكاح مانع من ابتدائه، ولا يمنع من دوامه وبقائه، فإذا قال أنت طالق غداً أو بعد شهر صح ذلك عند بعض الفقهاء[36].
4- أن زوال خوف العنت ينافي ابتداء عقد النكاح على الأمة دون استدامته، فإذا وجد الطول بعد ذلك لم ينفسخ نكاح الأمة[37].
5- أن المرأة تملك منع نفسها حتى تقبض صداقها، فإن سلمت نفسها ابتداء قبل قبض الصداق فهل تملك الامتناع بعد ذلك حتى تقبضه؟ فيه خلاف، ومن يرى أنها لا تملك ذلك فإنه يعلل بهذه القاعدة[38].
6-أن المرأة إذا أنكحت نفسها بغير إذن وليها فحكمه المنع عند الجمهور[39]، ولكن إذا وقع هذا النكاح ودخل الزوج بزوجته فإن بعض الفقهاء يرون أنه لا يعامل في آثاره بالمنع؛ لما يؤول إليه من مفاسد بتعطيل الميراث والنسب[40].
7- أن فقد الكفاءة في النكاح ينافي لزومه ابتداء، لكن لا يمنع صحته دواماً لاعتبار هذه القاعدة [41].
8- ما ذكره الزركشي نقلاً عن القاضي حسين أنه قال: "قال أصحابنا: كل امرأة جاز له ابتداء نكاحها في الإسلام، جاز للمسلم إمساكها بعقد مضى في الشرك"[42].
رابعًا: تطبيقاتها في مسائل الجهاد:
من تطبيقات هذه القاعدة في مسائل الجهاد ما يأتي:
1- أنه ليس للشخص الخروج إلى الجهاد دون إذن والديه، ولو فعل ذلك كان عاقًا مخالفًا لأمر الله، ولكن إذا انغمس في القتال، والتقى الصفان، فليس له الرجوع حينئذ وإن لم يستأذن في الخروج؛ ذكر ذلك إمام الحرمين الجويني[43].
2-أنه لو حضر القتال شخص لا يستطيع المشاركة فيه كالمعضوب أو الزمِّن أو الأعمى فإنه لا يسهم لهم، لكن لو حضر أحد منهم صحيحاً ثم عرض له شيء من ذلك في الحرب لم يسقط حقه في السهم، ذكر ذلك الزركشي[44].
3- أن عقد الذمة لا يعقد مع تهمة الخيانة، لكن لو حصل اتهامهم بعد العقد لم ينبذ عهدهم؛ بخلاف الهدنة فإنه ينبذ فيها العقد بالتهمة[45].
4- أن أهل الذمة يمنعون من ابتداء إحداث كنيسة ونحوها في دار الإسلام، ولا يمنعون من استدامتها، وإبقائها، إذا دخل ذلك في عهدهم[46].
خامسًا: من تطبيقاتها المعاصرة:
لعل من التطبيقات المعاصرة لهذه القاعدة وما يتصل بها من قواعد ما يأتي:
1- من التطبيقات المعاصرة لقاعدة "المنع أسهل من الرفع" أنه قد يكون من السهل الميسور على أهل الحسبة أن يدفعوا أنواعًا من الشر والفساد عن الناس قبل أن تعم وتنتشر، حيث يتعذر عليهم بعد ذلك رفعها ومنع وقوعها، مما يستدعي أحيانًا ضرورة مسايرة الواقع شيئًا فشيئاً، والإنكار التدريجي خشية من وقوع مفاسد أعظم، وهذا منهج حكيم في سياسة إصلاح الواقع يفرق به بين ما بابه الدفع من القضايا، وما بابه الرفع، كما يفرقون بين معاني النهي والترهيب من المنكرات قبل وقوعها، ومعاني الحكمة والتقريب في تغييرها بعد شيوعها.
2- لعل من التطبيقات المعاصرة لقاعدة: "المنع أسهل من الرفع" أيضًا ما تقوم به الدول والمنظمات والهيئات الطبية لتفادي انتشار الأوبئة والأمراض من نشر الوعي الصحي بين الناس بخطورتها، واتخاذ كافة الوسائل والتدابير التي تحول بإذن الله دون انتشارها وتحولها إلى وباء يهلك الحرث والنسل، وكما يقال في المثل: درهم وقاية خير من قنطار علاج، وذلك لأن بذل الأسباب لمنعها وانتشارها أسهل من فعل ذلك بعد استفحالها وانتشارها بين الناس.
3- لعل من تطبيقات هذه القاعدة الحكم باستمرار انعقاد المجالس واللجان المحكومة بحضور عدد معين من أعضائها كالنصف أو الثلثين، وذلك إذا حصل نقص يسير عن هذا العدد في أثنائها لعارض حيث يفتقر في البقاء ما لا يفتقر في الابتداء أو نقول: إن البقاء أسهل من الابتداء في حين أنه لو نقص العدد المشترط في بداية الجلسة لما عدت منعقدة نظاماً.
4- يمكن أن يخرج على قاعدة "المنع أسهل من الرفع" المثل العربي المشهور: "رب كلمة قالت لصاحبها: دعني" وما في معناه من الأمثال الأخرى كقولهم: "إياك وما يعتذر منه" فإنه بإمكان الشخص أن يدفع عن نفسه كثيراً من الشرور إذا فكر في مآل ما سينطق به من كلامه، ومدى تأثيره على السامعين، فقد يكون غنيا عن سماع ما لا يليق من السب والشتم أو الرد عليه بما هو كوقع السهام عليه، مما يضطره بعد ذلك إلى الاعتذار، أو الدخول في لجاج وخصومة لا تنتهي، وكان مبدأ ذلك كلمة لم يحسب لها المتكلم بها أي حساب، وهذا كثير في الواقع.
خاتمة البحث
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد،،،
فقد وقف بنا هذا البحث على عدد من النتائج ومنها ما يأتي:
1- أن قاعدة البقاء أسهل من الابتداء من القواعد المهمة في الفقه ولها أثر في العديد من المسائل الفقهية المبنية عليها.
2- أن هذه القاعدة قد نشأت من خلال حديث الفقهاء والأصوليين عن الموانع الشرعية، وعلى ذلك بنى من تحدث عنها وأفردها فيما بعد بلفظ خاص بها.
3- أن لهذه القاعدة ألفاظا وصيغاً متعددة حيث عبر عنها كثيرون بقولهم: البقاء أسهل من الابتداء وعبر آخرون عن هذا المعنى بصيغ أخرى كقولهم: يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.
وقولهم: الاستدامة أقوى من الابتداء أو الدوام أقوى من الابتداء كما عبر بعضهم عن هذا المعنى بقولهم المنع أو الدفع أسهل من الرفع وقد تبين من خلال البحث أن هذه الصيغ وإن اختلفت في اللفظ إلا أنها متفقة على المعنى المراد في هذا المقام، وقد عالج المبحث الثاني من هذا البحث القواعد ذات الصلة بالقاعدة الأم ومدى علاقتها بهذه القواعد.
4- تطرق البحث إلى قاعدة مهمة ذات علاقة وثيقة بالقاعدة محل البحث وهي قاعدة يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في ا لدوام وهي عكسها، إلا أنه تبين من خلال البحث أن تطبيقات القاعدة محل البحث أكثر وأوسع من تطبيقات عكسها، إذ أن القاعدة الأخيرة هي بمثابة الاستثناء من القاعدة محل البحث، فلا غرو أن يكون أن المستثنى أقل من المستثنى منه.
5- تبين أن لهذه القاعدة تطبيقات فقهية لا حصر لها في العبادات والمعاملات وفقه الأسرة بل ولها تطبيقات معاصرة ذكرنا طرفاً منها في المبحث الأخير.
وفي ختام هذا البحث المتواضع أسأل الله تعالى التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصدر: مجلة البحوث الفقهية المعاصرة
المراجع:
[1] إعلام الموقعين 2/357 .
[2] الموافقات 4/202-203 .
[3] الموافقات 4/203-204 .
[4] أخرجه البخاري بهذا اللفظ في الصحيح – كتاب الحج – باب فضل مكة وبنيانها 3/439 برقم 1584 كما أخرجه مسلم عنها أيضاً في كتاب الحج – باب نقض الكعبة وبنائها 2/968-969 برقم 1333.
[5] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في كتاب البر والصلة والآداب باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً 4/1999 برقم: 2584.
[6] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب – باب الرفق في الأمر كله 10/449 برقم 6025 وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول 1/236 برقم 284.
[7] الموافقات 4/204 .
[8] الموافقات 4/205 .
[9] الموافقات 4/198 .
[10] الموافقات 4/150 .
[11] الموافقات 4/151-152 .
[12] انظر: ص 29 من هذا البحث.
[13] انظر: ص34 من هذا البحث وما بعدها.
[14] الإبهاج 3/153 .
[15] المصدر السابق الصفحة نفسها .
[16] إعلام الموقعين2/356-357 وانظر: 2/434-435.
[17] إعلام الموقعين 2/357 .
[18] الأشباه والنظائر للسيوطي 1/310.
[19] إعلام الموقعين 2/357، الأشباه والنظائر للسيوطي 1/310 .
[20] قواعد الأحكام 2/88، الأشباه والنظائر لابن الوكيل 2/301، إعلام الموقعين 2/357.
[21] إعلام الموقعين 2/357 .
[22] القواعد لابن رجب ص300-301 .
[23] قواعد الأحكام 2/88، إعلام الموقعين 2/357، القواعد لابن رجب ص301 .
[24] إعلام الموقعين 2/357 .
[25] المصدر السابق الصفحة نفسها.
[26] الأشباه والنظائر لابن الوكيل 2/297، الإبهاج 3/153، المنثور 3/374 .
[27] الأشباه والنظائر للسيوطي 1/310 .
[28] القواعد لابن رجب ص301، وانظر: المغني لابن قدامة 6/287-288 .
[29] المنثور 3/347 .
[30] شرح المجلة للأتاسي المادة 55، المدخل الفقهي للزرقا ص1017 .
[31] إعلام الموقعين 2/357 .
[32] الأشباه والنظائر لابن نجيم ص122، شرح المجلة للأتاسي مادة 55.
[33] الأشباه والنظائر لابن نجيم ص122 .
[34] إعلام الموقعين 2/375، الإبهاج 3/153، القواعد لابن رجب ص301 .
[35] قواعد الأحكام 2/88، إعلام الموقعين 2/375، الإبهاج 3/153 .
[36] قواعد الأحكام 2/88، الأشباه والنظائر لابن الوكيل 2/302 ، الإبهاج 3/153 .
[37] قواعد الأحكام 2/88، أعلام الموقعين 2/357، الإبهاج 3/153 .
[38] القواعد لابن رجب ص301 .
[39] المغني لابن قدامة 9/345 .
[40] انظر: المغني 9/346-347 .
[41] إعلام الموقعين 2/357 .
[42] المنثور 3/374 .
[43] الغياثي لإمام الحرمين الجويني ص360 ت: د. عبدالعظيم الديب.
[44] المنثور 3/374 .
[45] الأشباه والنظائر لابن الوكيل تحقيق د/ عادل الشويخ 2/296، المنثور للزركشي 3/374.
[46] مجموع الفتاوى 21/312-313، إعلام الموقعين 2/357.