http://www.alarab.com.qa/details.php...o=137&secId=23
مستقبل الإسلام في الغرب والشرق.. سلسلة حوارات لقرن جديد

2008-05-12
قراءة: د.أحمد خيري العمري
اسم الكتاب: مستقبل الإسلام في الغرب والشرق.. سلسلة حوارات لقرن جديد
المؤلف: مراد هوفمان - عبدالمجيد الشرفي
دار النشر: دار الفكر - دمشق

تمثل حوارية «مستقبل الإسلام في الغرب والشرق» فرصة نادرة للقاء بين رؤيتين مختلفتين للإسلام ولمستقبله، واحدة منهما رؤية مفعمة بالأمل من دون أن تنفي وجود المخاطر المحدقة، رؤية ترى إمكانات كامنة، وإن كانت غير مستغلة للنظم الإسلامية في شتى الميادين، أما الرؤية الأخرى، فهي تقول بالحرف الواحد: إن البحث عن «نظم كهذه بمثابة جري وراء السراب!» ص108.
ولأننا نعيش في عالم لا يجب أن نستغرب فيه من أي شيء.. فإنه ليس من المستغرب هنا أن تكون الرؤية الأولى، المفعمة بالأمل، هي لمسلم غربي وُلد كاثوليكياً، واهتدى إلى الإسلام عندما كان على مشارف الخمسين من العمر، إنه الدبلوماسي الألماني المعروف «مراد هوفمان».
أما الرؤية الثانية فهي للدكتور عبدالمجيد الشرفي الذي وُلد مسلماً وأتمَّ دراسة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، وقد كان، إلى تقاعده، أستاذ الحضارة الإسلامية في الجامعة التونسية، وكل مؤلفاته، تدور حول الفكر الإسلامي و «تحديثه».
هذه المفارقة بالذات هي أهم ما في الكتاب -على كثرة ما طرحه المتحاوران من أشياء مهمة- لكنها تلخَّص في رأيي بمأزق الاستلاب الحضاري الذي يعانيه الكثير من الدارسين والمشتغلين في الفكر الإسلامي، والكثير من المسلمين بطبيعة الحال.
نحن هنا أمام نموذجين، يمثل كل منهما حالة حضارية تناقض الأخرى: هوفمان الخارج من عمق الحضارة الغربية، خابراً تناقضاتها وأزماتها الدفينة، متطلعاً إلى الإسلام كمادة أساسية لبناء حضارة أخرى. والشرقي الخارج من كل واقعنا السلبي وتناقضاته وأزماته، متطلعاً إلى الحضارة الغربية وبريقها باعتبارها طوق الإنقاذ الوحيد الممكن.
جغرافياً سيبدو أن كلاً منهما ينظر باتجاه الآخر، لكن الأمر أعقد من ذلك، ذلك أن القيم الحضارية لا تسكن خطوط الطول والعرض بالضبط، وإن كانت الأوعية التي تحملها تتمثل فيها أحياناً.
سيبدو لنا هوفمان هنا كما لو كان حبيساً في بطن الحوت، مثل يونس، لكن الحوت هنا هو حوت الحضارة الغربية ببريقها وقوتها وكل ما لا يمكن إنكاره من انتصاراتها، تلك الحضارة التي التقمته جعلته يدخل فيها، لكنها لم تدخل فيه، لم تدخل في ثنايا قلبه أو تلافيف دماغه، لذلك فهو فيها، لكنه يرنو إلى الخروج نحو أرض جديدة، وتسبيحته في بطن الحوت هي الرؤية الجديدة التي تنطلق من حقيقة أن الظلم ليس فقط بظلم الجلاد للضحية، ولكن باستسلام الضحية للجلاد أيضاً، بالاستسلام للمكوث في بطن الحوت لمجرد جبروته وسطوته وانتصاره.
الدكتور الشرفي على الجانب الآخر ليس في «بطن الحوت»، لكن الحوت في داخله بطريقة أو بأخرى، أو ربما ليس الحوت، ربما ذلك العجل الذي أشرب في قلوب بني إسرائيل، لكنه عجل الحضارة الغربية هذه المرة، الحضارة المنتصرة التي صارت تمثل المرجع والمعيار وصار كل ما هو «صواب» أو «خطأ» يعود لشروطها وتقييمها.
وهذه هي المشكلة تحديداً مع صاحبنا هذا في جانبه من الحوار.. فهناك مقدمات لحواره لا يمكن أن نختلف معه فيها، مثل «ضرورة وجود قراءات جديدة للنص القرآني»، لكن المشكلة هي خط السير بعد هذه المقدمة، ذلك أن المسار سيحدَّد باتجاه تلك الحضارة ومعطياتها وشروطها كما لو أن أية طريق أخرى، وشروطا أخرى لا تقع إلا في نطاق الاستحالة.
سنلاحظ أن الدكتور الشرفي، بذكاء شديد، يتجنب قدر الإمكان استخدام لفظ «التجديد» -ويستخدم بدلاً عنه «التحديث»- ليس ذلك من دون سبب وجيه.. ذلك أن التجديد هو «إضافة جديد على القديم» -كما يقول في لقاء صحافي معه نُشر في موقع الحوار المتمدن- أما التحديث فهو يدخل في عملية الانسجام بين متطلبات الحداثة والتدين الذي هو موروث عن فترة ما قبل الحداثة.
هذا هو التحديث المطلوب إذن: انسجام بين متطلبات الحداثة (أو شروطها) وبين التدين، وهذه العبارة هي وجه آخر للقول إن التحديث هو «إخضاع الدين لشروط الحداثة»، فشروط الحداثة ومتطلباتها هي المرجع الأساس الذي يجب «قراءة النص الديني» من خلاله، ويجب لَيّ عنق هذا النص هنا، أو قطعه أحياناً، لا بأس، من أجل «انسجام التدين مع متطلبات الحداثة». وهذا هو بالضبط التشرب بعجل الحضارة الغربية في قلب من يقرأ النص، بل ويقرأ الدين كله، وجل همه هو وضعه في قالب مسبق لمعطيات الحضارة الغربية.
(ماذا لو كان التناقض حاداً وكان النص قطعي الدلالة؟ لا بأس في ذلك، سنستخدم تاريخية النص عندها ونقول: كان زمان! وتعددت الأساليب والهدف واحد).
يتحدث الدكتور الشرفي في لقاء آخر عن «التحديث من داخل المنظومة الدينية» من دون أن يخبرنا كيف.. لكن مشاركته في هذه الحوارية نموذج لما يقصده: إدخال شروط الحداثة الغربية على المنظومة الدينية بطريقة لا تبدو فيها أنها مفروضة عليها من خارجها.
يقول الشرفي، بصراحة: «لا قراءة للنص بريئة تماماً» ص27، وهو يقصد أن كل قراءة -على مر العصور- كانت تحمل، ضمناً، جزءاً من قارئها وتوجهاته ومعطيات عصره وظروفه التاريخية. وهذا صحيح ولا شك فيه. لكن هذا لا يساوي قط بين كل القراءات -لا يجعلها جميعاً في سلة واحدة بدعوى ألا قراءة بريئة- فهناك قراءة تتفاعل مع معطيات عصرها لتصل إلى المقاصد القرآنية -وتلتحم بها- وهناك قراءة أخرى، تعتبر المعطيات نفسها مرجعاً تحاول أن تخضع النص له، مهما كان الثمن.. وهكذا فإن قوله «لا قراءة بريئة للنص» ينسحب أيضاً على قراءته أيضاً بفارق أنه يحدد -بوضوح- هدفه: الانسجام مع معطيات الحداثة «الغربية».
وهكذا فإن مقدمته التي نتفق معها، حول ضرورة وجود «قراءات جديدة» للنص، تنتهي بقراءة «انسلاخية» من النص ومن مقاصده: قراءة «إلغائية» للنص بالكاد تسمى قراءة.
ما الذي سيبقى مما نعرفه من الفقه من جرَّاء هذا التحديث الذي يتحدث عنه الشرفي؟
سيسأل الشرفي نفس السؤال وسيجيب بنفسه: «جوابنا، من دون أدنى مواربة، هو: لا شيء!» ص71.
هذا «اللا شيء» الناتج عن «تحديث» قراءة النص سيطبقه الدكتور الشرفي ليصل في قراءته الإلغائية إلى إلغاء «الشعائر والعبادات». وهو مجال أشهد أن زملاءه كانوا يتجنبونه على الأقل، إن لم يكونوا يؤكدون دوماً ألا مساس به: كانت قراءتهم الإلغائية قد ألغت الحجاب والمواريث والحدود ومفهوم السنة النبوية لكنها وقفت عند العبادات وقالت، لأسباب مختلفة: لا مساس!
لكن يبدو أن الشرفي يرى أن التحديث يجب ألا يقف عند حدّ معين، فهو يرى أن العبادات من «الثوابت الزائفة» و «المسلمات المغلوطة» (ص50) وأن جعلها من الأركان وتسويتها بالشهادة أمر لا دليل عليه قرآنياً (كما لو أن جعل الشهادة ركناً قد تمت تسميته قرآنياً!) (ص47)، وهوَ يأخذ -مثلا- من بعض الآثار التي تتحدث عن وجود البسملة في الصلاة والأخرى التي لا تتحدث عن وجودها دليلاً على المرونة -!- التي تميزت بها صلاة النبي (صلى الله عليه وسلم) والصحابة، والمرونة التي يقصدها ليست الاختيار من بين هذه الهيئات التي ذكرها، بل هي مرونة تتعدى ذلك بكثيرٍ، وصولاً إلى كيفية الصلاة وعدد ركعاتها (ص50)، ذلك أن «توحيد الطقوس هو مما اقتضته سيرورة المأسسة التي خضع لها الدين الإسلامي حين انخرط في التاريخ» (ص48)، وهو أمر صار تاريخاً وانقضى بحسب متطلبات التحديث والحداثة التي ينادي بها.
فلنشاهد كيف يتعامل مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام: «صلُّوا كما رأيتموني أصلي» إنه يقول: « فهذا الحديث إن صح، وعلى فرض أنه ملزم للمسلمين في غير عصره وبيئته، لا يعني بالضرورة حصر أشكال الصلاة في شكل وحيد، وليس فيه تحريم لغير الطريقة التي صلى بها ولا إقصاء للمصلين بغيرها» انتهى (ص53).
أي أن هناك ثلاث خطط يتعامل بها مع نص الحديث، أولاً: التشكيك بصحة الحديث بشكل ضبابي (إن صح!)، وهو لا يخبرنا عن معايير للتصحيح أو التضعيف، والحديث صحيح بكل الأحوال (رواه البخاري)، ثم ثانياً يقول: «على فرض أنه ملزم في غير عصره وبيئته» -أي أن «تاريخية النص» جاهزة دوماً للإجهاز على النص- ثم ثالثاً: «ليس فيه تحريم لغير الطريقة التي صلى بها» أي أن هذا يساوي -في النهاية- بين أنواع الصلوات وهيئاتها كلها.. ويسجل الشرفي «أن عدم تنصيص القرآن على عدد الصلوات وعلى كيفيات أدائها مقصود، ولم يترك بيانه عبثاً» (ص50) من أجل الدخول إلى المرونة المزعومة، التي تنسف الكيفيات والعدد والهيئات.. لكن ماذا لو كان هناك تنصيص قرآني على ذلك؟ هل كان ذلك سيجعله يرضخ له، أم أنه كان سيلقي الأمر على كاهل تاريخية النص واختلاف الإيقاع الزمني الذي «لا علاقة له بإيقاع زمن القروي والراعي والفلاح والتاجر البسيط أو الحرفي التقليدي» (ص49).
لا نفترض ذلك افتراضاً، بل لأن هذا هو ما فعله بالذات مع عبادة أخرى هي الصيام التي توافر فيها «التنصيص القرآني» على الكيفية والوقت، ورغم ذلك نراه يقرر «الصوم يبقى أفضل من الإفطار ولكن الإفطار مع الفدية من الرخص التي من المفروض أن يتمتع المسلم بها من غير شعور بالذنب أو بالتفريط في القيام بواجبه -!- (ص51)، أي أنه يتوسع في موضوع «الرخصة» لتشمل كل من لا يريد الصيام من دون ضابط واضح، مع تقريره أن الصيام «أفضل من الإفطار!».
لماذا أصلا يطالب بالتمتع برخصة الإفطار؟ «لأن الصوم يعطل الآلة الإنتاجية في وقت تعاني فيه أغلب المجتمعات الإسلامية التخلف الاقتصادي» (ص55) إذن يكون الصيام أفضل من الإفطار حسب هذا المنطق!
وهكذا فإن الشرفي يقرر «أن الثبات المزعوم للعبادات في الإسلام إنما هو تكريس للانحراف عن معانيها» (ص57) وإذا كان هذا سارياً على الصلاة والصيام، فإنه يطبقه أيضاً -وبشهية لا مثيل لها- على الزكاة، والحج، من باب أولى، مما لا داعي للدخول فيه.
وصل أدعياء التجديد إلى إلغاء العبادات والشعائر إذن، خطوة خطوة وصلوا إلى هناك، تسللوا على رؤوس أصابعهم، رويداً رويداً، إلى أن وصلوا إلى تفكيك الشعائر.
لكن هل يجب أن يثير هذا استغراب أي أحد؟ ألم يكن هذا متوقعاً منهم منذ البداية، رغم تطميناتهم وتأكيداتهم أن الأمر لن يصل إلى العبادات؟
لم يكن أدعياء التجديد الديني أكثر صدقاً وانسجاماً مع أنفسهم ومع منطلقاتهم، كما كان الدكتور الشرفي في هذه الحوارية.. لقد قال بصراحة، ما كان الآخرون يتجنبونه.. وهذا، على الأقل، إنجاز!
.............................. .................... .............................. .................... ........................