نفع الله بكم جميعا .
في الحديث الذي خرجه مسلم في صحيحه : عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله ، أين أبي ؟ قال : "في النار " فلما قفى دعاه فقال: "إن أبي وأباك في النار" .
وأخرج أيضا : عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي ، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" 2 / 291 - 298 ، باختصار .
" وَهُنَا أَصْلٌ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ ، وَهُوَ : أَنَّهُ قَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ إِلَّا مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ :
قَالَ - تَعَالَى -: { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 13 - 15] ... وَقَالَ: { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُ مْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [الزمر: 71] وَقَالَ - تَعَالَى -: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُ مْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130] وَقَالَ - تَعَالَى -: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [القصص: 59] ...
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا تَقُومُ بِالْقُرْآنِ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ ، كَقَوْلِهِ: { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام: 19] .
فَمَنْ بَلَغَهُ بَعْضُ الْقُرْآنِ دُونَ بَعْضٍ : قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِمَا بَلَغَهُ ، دُونَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ .
فَإِذَا اشْتَبَهَ مَعْنَى بَعْضِ الْآيَاتِ ، وَتَنَازَعَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ : وَجَبَ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
فَإِذَا اجْتَهَدَ النَّاسُ فِي فَهْمِ مَا أَرَادَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَالْمُصِيبُ لَهُ أَجْرَانِ ، وَالْمُخْطِئُ لَهُ أَجْرٌ .
فَلَا يُمْنَعُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا ؛ فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ جَمِيعُ نُصُوصِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا : لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ إِلَّا بِمَا بَلَغَهُ ، وَمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ مِنْهُ ، فَاجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَتِهِ : فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ، وَخَطَؤه مَحْطُوطٌ عَنْهُ .
فَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ تَحْرِيفَ الْكِتَابِ ، لَفْظِهِ أَوْ مَعْنَاهُ ، وَعَرَفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ، فَعَانَدَهُ : فَهَذَا مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ فَرَّطَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ ، مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ ، مُشْتَغِلًا عَنْ ذَلِكَ بِدُنْيَاهُ .
وَعَلَى هَذَا :
فَإِذَا كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ حَرَّفُوا بَعْضَ الْكِتَابِ ، وَفِيهِمْ آخَرُونَ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ ، فَهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ : لَمْ يَجِبْ أَنْ يُجْعَلَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُسْتَوْجِبِ ينَ لِلْوَعِيدِ .
وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ جَمِيعَ مَا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ ، بَلْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا جَاءَ بِهِ ، أَوْ بَعْضُ مَعَانِيهِ ، فَاجْتَهَدَ : لَمْ يُعَاقَبْ عَلَى مَا لَمْ يَبْلُغْهُ ، وَقَدْ تُحْمَلُ أَخْبَارُ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ تُبَّعٍ ، وَالَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، كَابْنِ التَّيِّهَانِ وَغَيْرِهِ ، عَلَى هَذَا ؛ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ لِلْمَسِيحِ تَكْذِيبَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ : هَلْ يُمْكِنُ مَعَ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ ، أَنْ لَا يُبَيَّنَ لِلنَّاظِرِ الْمُسْتَدِلِّ صِدْقُ الرَّسُولِ ، أَمْ لَا ؟
وَإِذَا لَمْ يتبينْ لَهُ ذَلِكَ : هَلْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ أَمْ لَا ؟ .
وَتَنَازَعَ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْمُقَلِّدِ مِنْهُمْ أَيْضًا .
وَالْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ خَطَأِ الْمُخَالِفِ لِلْحَقِّ وَضَلَالِهِ ؛ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، عَقْلِيَّةٍ وَسَمْعِيَّةٍ ، وَقَدْ يُعْرَفُ الْخَطَأُ فِي أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُخَالِفِينَ لِلْحَقِّ ، وَغَيْرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، بِأَنْوَاعٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الدَّلَائِلِ.
وَالْمَقَامُ الثَّانِي: الْكَلَامُ فِي كُفْرِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِه ِمُ الْوَعِيدَ فِي الْآخِرَةِ.
فَهَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنَّاسِ ، مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ ، مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ، لَهُمُ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ :
قِيلَ: إنَّهُ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ ، وَإِنْ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِ رَسُولٌ ، لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالْعَقْلِ . وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَقُولُ بِالْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ ، مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ ، مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ.
وَقِيلَ: لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ بِالْعَقْلِ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعَذَّبَ مَنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ ، لَا بِالشَّرْعِ وَلَا بِالْعَقْلِ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ تَعْذِيبَ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ وَمَجَانِينِهِم ْ . وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ ، كَالْجَهْمِ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَعَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ : أنَّهُ لَا يُعَذَّبُ إِلَّا مَنْ بَلَغَتْهُ الرِّسَالَةُ ، وَلَا يُعَذَّبُ إِلَّا مَنْ خَالَفَ الرُّسُلَ ; كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ قَالَ - تَعَالَى - لِإِبْلِيسَ - : {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ فَنَحْنُ فِيمَا نُنَاظِرُ فِيهِ أَهْلَ الْكِتَابِ: مُتَقَدِّمِيهِم ْ وَمُتَأَخِّرِيه ِمْ :
تَارَةً نَتَكَلَّمُ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ بَيَانُ مُخَالَفَتِهِمْ لِلْحَقِّ ، وَجَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ ، فَهَذَا تَنْبِيهٌ لِجَمِيعِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّة ِ .
وَتَارَةً نُبَيِّنُ كُفْرَهُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَهَذَا أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ لَا يُتَكَلَّمُ فِيهِ إِلَّا بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ .
كَمَا أَنَّا أَيْضًا لَا نَشْهَدُ بِالْإِيمَانِ وَالْجَنَّةِ ، إِلَّا لِمَنْ شَهِدَتْ لَهُ الرُّسُلُ .
وَمَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فِي الدُّنْيَا بِالرِّسَالَةِ ، كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَأَهْلِ الْفَتَرَاتِ : فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ أَقْوَالٌ ؛ أَظْهَرُهَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ : أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مَنْ يَأْمُرُهُمْ بِطَاعَتِهِ، فَإِنْ أَطَاعُوهُ اسْتَحَقُّوا الثَّوَابَ ، وَإِنْ عَصَوْهُ اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ."اهــ