لما جعلت الصوفية «الذوق» هو وسيلة المعرفة، دون الشرع والعقل، قصرت رحمة الله على فئة قليلة في عباده، وصيَّرت الإنسان كمن يمشي في ضوء الشمس وهو مغمض عينيه، فلا يستفيد من ضوئها، أو كمن يحاول أن يبصر في الظلام فلا يستفيد من عينيه.


وبذلك اختلفت طرائقهم وأفكارهم، وصارت مصادر المعرفة عند الصوفية مختلفة ومتباينة؛ لأن كل صوفي يتحدث عنها من واقع تجربته الخاصة.

ومن هذا المنطلق كتب الشيخ عبدالرحمن الوكيل رحمه الله في كتابه «هذه هي الصوفية» عن مفهوم الذوق عند الصوفية، يقول: إن الصوفية تعتقد أن الذوق الفردي لا الشرع، ولا العقل هو وحده وسيلة المعرفة ومصدرها لمعرفة الله وصفاته، وما يجب له، فهو أي الذوق الذي يقوم حقائق الأشياء ويحكم عليها بالخَيْرِيَّة أو الشَّرِّية، بالحُسُنِ والقُبْحِ، بأنها حق أو باطل، فلا جَرَمَ أن تدين الصوفية بعدد عديد من أرباب وآلهة، ولا عجب أن ترى النِّحلَةَ منها تخضع لصنم يكفر به سواها من النِّحل الصوفية، لا عجب في ذلك كله ما دامت تجعل «الذوق»[1] الفردي حاكماً وقيماً على المسميات وأسمائها[2]........ فيصنع للشيء معناه مرة ثم ينسخه بنقيضه مرة أخرى، هذه الحِدِّة في تَوَتّرُ التناقض صِبْغَةَ الصوفية دائماً في منطقها المخبول، ولقد ضربت الصوفيين أهواءُ أحبارهم بالحيرة والفُرقَةِ، فحالوا طرائق قددا تؤله كل طريقة منها ما ارتضاه كاهنها صنماً له، وتعبده بما يفتريه هواه من خرافات....... على حين يجمعهم على الوحدة هوًى واحد وغاية واحدة هي القضاء على الإسلام والجماعة الإسلامية.

وإن لم يكن الأمر كذلك، ففيم هذه الشِّيَعُ المتطَاحِنَة، وفيم هذه المَشْيَخَات المتنابذة. ويضرب الشيخ عبدالرحمن الوكيل رحمه الله الدليل على قوله السابق، بما جاء على لسان رويم البغدادي حيث يقول: «لا يزال الصوفية بخير ما تَنَافَرُوا، فإن اصطلحوا هلكوا».

وعن تعريف كلمة الذوق عند الصوفية، يذكر الشيخ الوكيل رحمه الله جانباً من التعريفات التي قالوها:
1- يعرف القيصري الذوق بقوله[3]: «ما يجده العالم على سبيل الوجدان والكشف، لا البرهان والكسب، ولا على طريق الأخذ بالإيمان والتقليد». (ص 193) «مطلع خصوص الكلم».

2- أو هو: «أول درجات شهود الحق بالحق في أثناء البوارق المتوالية عند أدنى لبث في التجلي البرقي». (ص 101 جامع الأصول للكمشخانلي».

3- ويقول ابن عربي: «اعلم أن العلوم الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة مع كونها ترجع إلى عين واحدة»[4]. (ص 107 فصوص الحكم).

وفي مجال إبراز مدى اعتقاد الصوفية في أن «الذوق» هو وسيلة المعرفة لديهم نجد الشيخ الوكيل يقول: (5) «كل صوفي يؤمن بأن الذوق وحده وسيلة المعرفة، أما العقل عندهم فهو طاغوت أخرق، وأما الشرع فمادية تنشب مخالبها في الصخر دون أن ترمق السماء بنظرة واحدة، وهو نوع من عبادة التاريخ الميت، ولهذا تتباين عندهم قيم الأشياء تبعاً لتباين الذوق!!

وقد يرى الصوفي الباطل، فيما يرى غيره فيه حق، ولا يضيرهم أن يتوتر التناقض بين ما يؤمن به صوفي، ويكفر به آخر غيره، فكلاهما في الدين الصوفي على حق.

ولعل هذا سر فريتهم: «من اعترض انطرد»؛ إذ ربما حكمت بالشرع أو العقل على شيء ما بأنه باطل وهو في «ذوق» شيخك حق، فتعرض نفسك للطرد من حظيرته.

• وعلى هذا يحمل الشيوخ الدراويش، ويستعبدونهم، فما يفعل الشيخ من شيء إلى ويوحي إلى درويشه أنه فعله عن أمر إلهي، ألا ترى الجنيد حين سئل:
أيزني العارف؟ أجاب بقوله: «نعم، وكان أمر الله قدراً مقدوراً».

حق لونه بباطل ذلك الجنيد. «زانٍ ويسميه عارفاً»[5] أي: مؤمناً قد بلغ ذروة الإيمان؛ لأنه رأى القضاء في لوح الغيب فنفذه.

وهنا نتذكر قول الدباغ: «إن الولي الكبير فيما يظهر للناس يعصي، وهو ليس بعاصٍ، وإنما روحه حجبت ذاته، فظهرت في صورتها، فإذا أخذت في المعصية فليست بمعصية»[6].

ثم يثني ويقول: «يتصور في طور الولاية أن يقعد الولي مع قوم يشربون الخمر، وهو ليس يشرب معهم، فيظنونه أنه شارب الخمر، وإنما تصورت روحه في صورة من الصور وأظهرت ما أظهرت»[7].

وتنكر الصوفية على العقل أنه وسيلة إلى المعرفة، ويرهقها حنقاً منه أن يحكم بالمغايرة بين الضدين أو بين النقيضين، وتنكر على الشرع تفرقته بين الإيمان والكفر أو بين الخير والشر، إذ لا تؤمن بغير «الذوق» سماء وحي، وقدس إلهام. ومن هذا كان اصطلاحهم المشهور: «من ذاق عرف».

أي من جعل «الذوق» وحده الوسيلة إلى المعرفة كان حقاً من العارفين بكنه الحقائق الربانية، بمعنى أن من استمد معرفته عن طريق الذوق كان هو العارف المكمل، أنا من يستمد معرفته من الدين فهو من أهل الظاهر المحجوبين عن إدراك كنه الحقيقة الإلهية الكبرى.

أو بمعنى أوضح: عن إدراك حقيقة الألوهية التي يقدم وجودها عندهم وجودات العالم الظاهرة، وقد شطح بهم الذوق الأسطوري إلى اعتناق خرافة: «وحدة الوجود»، وبالتالي إلى اعتناق خارفة «وحدة الأديان» بالمعنى الصوفي، فعن إيمانهم بوحدة الوجود نتج إيمانهم بوحدة الأديان[8].


[1] يعني الذوق الخاص بكل إنسان ونتيجة لهذا يصبح الدين والأخلاق بلا معيار ولا ميزان.
[2] كتاب «هذه هي الصوفية» تأليف الشيخ عبدالرحمن الوكيل (ص33).
[3] ص181 طبقات الصوفية للسلمي.
[4] كتاب هذه هي الصوفية (ص137). ويعني بالعين الواحدة: الذات الإلهية!!.
[5] التسمية بالعارف بدعة صوفية، تخفي وراءها كيداً خفياً للشريعة، إذ الغاية عندهم المعرفة وحدها لا العبادة، معرفة أن الحق عين الخلق، أما الغاية الحقة لكل مسلم، فهي الإيمان الصحيح مع التوحيد الخالص، مع التقوى، وكم من عارف صوفي دينه أساطير (ص186) تعليق (2) كتاب مصرع التصوف.
[6] الإبريز للدباغ (2/ 23).
[7] الإبريز للدباغ (ص41).
[8] مجلة الهدي النبوي - عدد 8 - لسنة 1380هـ، مقال عن وحدة الأديان عند الصوفية بقلم عبدالرحمن الوكيل.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/75521/#ixzz4OeTryirE