الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
قصّة قصيدة
حدّثني والدي، رحمه الله، قال:
كان فخر الدّين الرازي، رحمه الله، يلقي درسه في صحن جامع نيسابور، وحوله العشرات من العلماء وطلبة العلم. وكان كلامه عن ماهية النّفس. وبينا هم كذلك، حلّقت فوق رؤوسهم حمامة يطاردها صقر، ثم ارتمت في حجر الرازي، ففرّ الجارح. فقام أحد الشعراء، وارتجل هذين الأبيات:
جاءت سُلَيْمانَ الزّمانِ حمامةٌ --- والموتُ يَلْمَعُ في جناحَيْ خاطِفِ
مَنْ نَبَّأ الوَرقَاءَ أنّ مقامَكم --- حَرَمٌ وأنّكَ مَلجَأٌ للخائفِ؟!
هذه القصَّة ظلّت عالقةً بذهني، على النحو الذي رواه والِدي... رأيتُها مشهَدًا ساحرًا، يسلب الألباب، ويطير بها إلى آفاق لا تبلغها الجوارح ولا الحمائم...
ثم بحثتُ عنها في بعض المصادر، لا شكًّا في رواية والدي، بل رغبةً في معرفة اسم الشاعر. فعلمتُ أنّه ابن عُنَيْن؛ لكن صُدِمت لمّا قرأت في أوّل مصدر تيسّر لي الرجوع إليه أنّ الرازي كان بخطب فوق المنبر، وأنّ الحمامة سقطت بالقرب منه، وليس في حجره!
هذه الرواية الثانية كادت تُبطِل ذلك الأثر السحريّ لرواية والدي؛ بل كادت تشكّكني في صحّة الرواية، لأنّني لم أستسغ صحّة دخول حمامةٍ يطاردها جارحٌ إلى غاية محراب المسجد. كما أنّ سقوط الحمامة قرب المنبر يكاد ينفي فضيلةَ الشيخ واستحقاقه لقصيدةٍ يُمدَح بها ارتجالاً...
شيء ما في الرواية الثانية شوّش عليّ ذلك المشهد السينمائي الأخّاذ، لجماعة منقطعين للعلم في بيتٍ من بيوت الله، وفي الصحن تحديدًا، وقتَ الضحى أو بعد صلاة صلاة العصر، قتحتمي بشيخهم حمامةٌ توسّمت فيه الأمان...
ورغم أنّ رواية والدي كانت مشافَهةً، لم يُسنِدها، ولم أسأله عن مصدرها، لجهلي بهذه الأمور آنذاك، والرواية الثانية موثّقة في كتاب؛ ظللتُ متشبّثًا برواية والدي، تعصُّبًا لما فيها من عبق شعريّ وخيال سحريّ، وإشارةٍ خفيّة إلى قصيدة ابن سينا...
ثم وجدتُ القصّة كاملةً في عدّة مصادر، بألفاظ مختلفة، لكنّها أقرب إلى ما ذكره والدي. فجمعت بينَها، جمعَ شاعرٍ، لا موثِّق، وخرجتُ بهذا النصّ:
" لـمّا كان ابن عُنَين بخوارزم، حضر يومًا درس فخر الدين الرازي. وكان بين الحاضرين السلطان محمود ابن أخت شهاب الدّين الغوري. وتكلّم الشيخ في النفس بكلام عظيم وفصاحة بليغة. وكان يومًا باردًا، سقط فيه الثلج. وبردُ خوارزم شديد...
وبينا هم كذلك، أقبلت حمامةٌ تحت قُبّة الجامع، ووراءها صقرٌ يكاد يقتنصها، وهي تطير في جوانب الجامع إلى أن أعْيَتْ، فدخلَت الإيوانَ الذي فيه الشيخ، ومرَّتْ طائرةً بين الصفَّيْن إلى أنْ رَمَت بنفسها في حِجْرِه عائذةً به. فخاف الصقر وطار، ورَقَّ الشيخ للحمامة وأخذها بيده.
فقام ابن عُنَين، وقال هذه القصيدة ارتجالاً:
جاءت سُلَيْمانَ الزّمانِ حمامةٌ --- والموتُ يَلْمَعُ في جناحَيْ خاطِفِ
قَرِمٌ يُطارِدُها فلمّا استأمَنَتْ --- بجنابه ولّى بقلبٍ واجِفِ
مَنْ نَبَّأَ الوَرقَاءَ أنّ مقامَكم --- حَرَمٌ وأنّكَ مَلجَأٌ للخائفِ؟!
يا ابْنَ الكِرامِ الـمُطْعِمين إذا شَتوا --- في كُلِّ مَخْمصَةٍ(1) وثَلْجٍ خاشِفِ
العاصِمِينَ إذا النُّفُوسُ تطايَرَتْ --- بَينَ الصَّوارِمِ والوَشِيجِ الرَّاعِفِ
وَافَتْ إِلَيْكَ وَقَدْ تَدانَى حَتْفُها --- فحَبَوْتَها بِبقائها الـمُسْتانِفِ
لَوْ أنَّها تُحْبَى بِمالٍ لانْثَنَتْ --- مِنْ راحَتَيْكَ بِنائلٍ متضاعِفِ
فرَمَى عليه الفخرُ الرازيُّ جميعَ ما كان عليه، وفَعَلَ الحاضرون كذلك. فبَلَغَ قيمةُ ذلك أربعةَ آلاف دينار! وكتب معه كتاباً إلى الملك الناصر، وكتابًا إلى الملك العادل، يشفع فيه. فقبل الملك شفاعته. قال ابنُ عُنَيْن: وخَلَع عليَّ جُبّةً كانت عليه، فكان هذا سببًا لإقبال السّعود عَلَيَّ، وتَسَنِّي الآمال لَدَيّ."
وإلى قصة أخرى بإذن الله...
بعد عشرين يومًا، بإذن الله؛ لا يومين، كما اشترط الشيخ عدنان.
_________________________
(1) وفي بعض الروايات: "مَسْغَبَةٍ".