بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد : وجاء في المنار أيضا :
فَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْوُصُولِ إِلَى رِضْوَانِهِ غَيْرَ مَا نَزَّلَهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُ الصُّوفِيَّةِ الصَّادِقِينَ فَهْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ التَّحَقُّقِ بِمَعَارِفِهِمَ ا، وَالتَّخَلُّقِ وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِمَا، وَأَخْذِ النُّفُوسِ بِالْعَمَلِ بِهِمَا، مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَلَا جُمُودٍ عَلَى الظَّوَاهِرِ.
وَلَقَدْ تَشَوَّهَتْ سِيرَةُ مُدَّعِي التَّصَوُّفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَصَارَتْ رُسُومُهُمْ أَشْبَهَ بِالْمَعَاصِي وَالْأَهْوَاءِ مِنْ رُسُومِ الَّذِينَ أَفْسَدُوا التَّصَوُّفَ مِنْ قَبْلِهُمْ، وَأَظْهَرُهَا فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الِاحْتِفَالَات ُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا ((الْمَوَالِدَ)) وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ تَبِعَ الْفُقَهَاءَ فِي
اسْتِحْسَانِهَا الْأَغْنِيَاءُ، فَصَارُوا يَبْذُلُونَ فِيهَا الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَوْ طُلِبَ مِنْهُمْ بَعْضُ هَذَا الْمَالِ لِنَشْرِ عِلْمٍ أَوْ إِزَالَةِ مُنْكَرٍ أَوْ إِعَانَةِ مَنْكُوبٍ لَضَنُّوا بِهِ وَبَخِلُوا، وَلَا يَرَوْنَ مَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ مُنَافِيًا لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، كَأَنَّ كَرَامَةَ الشَّيْخِ الَّذِي يَحْتَفِلُونَ بِمَوْلِدِهِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ ، وَتُحِلُّ لِلنَّاسِ التَّعَاوُنَ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ.
فَالْمَوَالِدُ أَسْوَاقُ الْفُسُوقِ، فِيهَا خِيَامٌ لِلْعَوَاهِرِ، وَحَانَاتٌ لِلْخُمُورِ، وَمَرَاقِصٌ يَجْتَمِعُ فِيهَا الرِّجَالُ لِمُشَاهَدَةِ الرَّاقِصَاتِ الْمُتَهَتِّكَا تِ، الْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَاتِ، وَمَوَاضِعُ أُخْرَى لِضُرُوبٍ مِنَ الْفُحْشِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ يُقْصَدُ بِهَا إِضْحَاكُ النَّاسِ. وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَوَالِدِ يَكُونُ فِي الْمَقَابِرِ، وَيُرَى كِبَارُ مَشَايِخِ الْأَزْهَرِ يَتَخَطَّوْنَ هَذَا كُلَّهُ لِحُضُورِ مَوَائِدِ الْأَغْنِيَاءِ فِي السُّرَادِقَاتِ وَالْقِبَابِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَضْرِبُونَهَا وَيَنْصِبُونَ فِيهَا الْمَوَائِدَ الْمَرْفُوعَةَ، وَيُوقِدُونَ الشُّمُوعَ الْكَثِيرَةَ، احْتِفَالًا بِاسْمِ صَاحِبِ الْمَوْلِدِ، وَيُهَنِّئُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَذَا الْعَمَلِ الشَّرِيفِ فِي عُرْفِهِمْ.
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عِنْدَ شَرْحِ مَفَاسِدِ الْمَوَالِدِ هُنَا أَنَّ بَعْضَ كِبَارِ الشُّيُوخِ فِي الْأَزْهَرِ دَعَوْهُ مَرَّةً لِلْعَشَاءِ عِنْدَ أَحَدِ الْمُحْتَفِلِين َ، فَأَبَى فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّنِي لَا أُحِبُّ أَنْ أُكَثِّرَ سَوَادَ الْفَاسِقِينَ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَالِدَ كُلَّهَا مُنْكَرَاتٌ، وَوَصَفَ مَا يَمُرُّ بِهِ الْمَدْعُوُّ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَوْضِعِ الطَّعَامِ. ثُمَّ قَالَ لِشَيْخٍ صَدِيقٍ لِصَاحِبِ الدَّعْوَةِ: كَمْ يُنْفِقُ صَاحِبُكَ فِي احْتِفَالِهِ بِالْمَوْلِدِ؟ قَالَ: أَرْبَعَمِائَةِ جُنَيْهٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، فَلَوْ كَلَّمْتَ صَاحِبَكَ فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ فِي الْأَزْهَرِ يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ بَذْلُهُ شَرْعِيًّا، وَهَؤُلَاءِ الْمُجَاوِرُونَ يَذْكُرُونَهُ بِخَيْرٍ وَيَدْعُونَ لَهُ. فَأَجَابَ ذَلِكَ الشَّيْخُ قَائِلًا: إِنَّ الْكَوْنَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا وَهَذَا. فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: هَذَا الَّذِي أُرِيدُ، فَإِنَّ كَوْنَنَا لَيْسَ فِيهِ إِلَّا هَذِهِ النَّفَقَاتُ فِي الطُّرُقِ الْمَذْمُومَةِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُنْفِقَ صَاحِبُكَ عَلَى نَشْرِ عِلْمِ الدِّينِ لِيَكُونَ بَعْضُ الْإِنْفَاقِ عِنْدَنَا فِي الْخَيْرِ وَيَبْقَى لِلْمَوَالِدِ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ. فَقَالَ الشَّيْخُ حِينَئِذٍ: أَمَا قَرَأْتَ حِكَايَةَ الشَّعْرَانِيِّ مَعَ الزَّمَّارِ إِذْ رَأَى شَيْخًا كَبِيرًا يَنْفُخُ فِي مِزْمَارٍ وَالنَّاسُ يَتَفَرَّجُونَ عَلَيْهِ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي سِرِّهِ فَمَا كَانَ مِنَ الشَّيْخِ إِلَّا أَنْ قَالَ:
يَا عَبْدَ الْوَهَّابِ أَتُرِيدُ أَنْ يَنْقُصَ مُلْكُ رَبِّكَ مِزْمَارًا؟ فَعَلِمَ الشَّعْرَانِيُّ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: ثُمَّ تَرَكَنِي الْمَشَايِخُ بَعْدَ سَرْدِ الْحِكَايَةِ وَذَهَبُوا إِلَى الْمَوْلِدِ، فَلْيَنْظُرِ النَّاظِرُونَ إِلَى أَيْنَ وَصَلَ الْمُسْلِمُونَ بِبَرَكَةِ التَّصَوُّفِ وَاعْتِقَادِ أَهْلِهِ بِغَيْرِ فَهْمٍ وَلَا مُرَاعَاةِ شَرْعٍ! اتَّخَذُوا الشُّيُوخَ أَنْدَادًا، وَصَارَ يُقْصَدُ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْأَضْرِحَةِ قَضَاءُ الْحَوَائِجِ وَشِفَاءُ الْمَرْضَى وَسَعَةُ الرِّزْقِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لِلْعِبْرَةِ وَتَذَكُّرِ الْقُدْوَةِ، وَصَارَتِ الْحِكَايَاتُ الْمُلَفَّقَةُ نَاسِخَةً فِعْلًا لِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ، وَنَتِيجَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ رَغِبُوا عَمَّا شَرَعَ اللهُ إِلَى مَا تَوَهَّمُوا أَنَّهُ يُرْضِي غَيْرَهُ مِمَّنِ اتَّخَذُوهُمْ أَنْدَادًا لَهُ وَصَارُوا كَالْإِبَاحِيِّ ينَ فِي الْغَالِبِ، فَلَا عَجَبَ إِذَا عَمَّ فِيهِمُ الْجَهْلُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الضَّعْفُ، وَحُرِمُوا مَا وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّصْرِ ; لِأَنَّهُمُ انْسَلَخُوا مِنْ مَجْمُوعِ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ التَّقَالِيدِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا بَلْ وَلَا فِي الثَّانِي، وَلَا يَشْهَدُ لِهَذِهِ الْبِدَعِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا سَرَتْ إِلَيْنَا بِالتَّقْلِيدِ أَوِ الْعَدْوَى مِنَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى، إِذْ رَأَى قَوْمُنَا عِنْدَهُمْ أَمْثَالَ هَذِهِ الِاحْتِفَالَات ِ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذَا عَمِلُوا مِثْلَهَا يَكُونُ لِدِينِهِمْ عَظْمَةٌ وَشَأْنٌ فِي نُفُوسِ تِلْكَ الْأُمَمِ. فَهَذَا النَّوْعُ مِنِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ كَانَ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ تَأَخُّرِ الْمُسْلِمِينَ وَسُقُوطِهِمْ فِيمَا سَقَطُوا فِيهِ.
وَهُنَاكَ نَوْعٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ أَثَرُهُ فِي الْفَتْكِ بِهِمْ بِأَضْعَفَ مِنْ أَثَرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ تَرْكُ الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتِبْدَالُ أَقْوَالِ النَّاسِ بِهِمَا. فَلَوْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ رَجُلٌ عَاقِلٌ أَوْ شَعْبٌ مُرْتَقٍ لَحَارَ، لَا يَدْرِي بِمَ يَأْخُذُ؟ وَلَا عَلَى أَيِّ الْمَذَاهِبِ وَالْكُتُبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ يَعْتَمِدُ، وَلَصَعُبَ عَلَيْنَا إِقْنَاعُهُ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ دُونَ سِوَاهُ، أَوْ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَذَاهِبَ كُلَّهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ وَقَفْنَا عِنْدَ حُدُودِ الْقُرْآنِ وَمَا بَيَّنَهُ مِنَ الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ لَسَهُلَ عَلَيْنَا أَنْ نَفْهَمَ مَا الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الَّتِي لَا حَرَجَ فِيهَا وَلَا عُسْرَ، وَمَا الدِّينُ الْخَالِصُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا خُلْفَ؟ وَلَكِنَّنَا إِذَا نَظَرْنَا فِي أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ وَتَشَعُّبِهَا، وَخِلَافَاتِهِم ْ وَعِلَلِهَا، فَإِنَّنَا نَحَارُ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ إِذْ نَجِدُ بَعْضَهَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحِكْمَةِ مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ عِنْدَهُمْ، بَلْ يَقُولُونَ فِيهِ: الْمُدْرِكُ قَوِيٌّ وَلَكِنَّهُ لَا يُفْتِي
بِهِ. وَلِمَاذَا؟ لِأَنَّ فُلَانًا قَالَ، فَقَوْلُ رَجُلٍ مِنْ رِجَالٍ كَثِيرِينَ جِدًّا نَجْهَلُ تَارِيخَ أَكْثَرِهِمْ يَكْفِي لِتَرْكِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَبِهَذَا قُطِعَتِ الصِّلَةُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ أَصْلِ الدِّينِ وَيَنْبُوعِهِ.
وَنَحْنُ لَا نَطْعَنُ فِي أُولَئِكَ الْقَائِلِينَ أَوِ الْمُرَجِّحِينَ ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ تَارِيخُهُ مَعْرُوفًا لَنَا وَمَنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ ; بَلْ نُحْسِنُ فِيهِمُ الظَّنَّ وَنَقُولُ: إِنَّهُمْ قَالُوا بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ شَارِعِينِ بَلْ بَاحِثِينَ، وَإِنَّا نَسْتَرْشِدُ بِكَلَامِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ دَالُّونَ وَمُبَيِّنُونَ، لَا عَلَى أَنَّهُمْ شَارِعُونَ ; بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى ذِي الدِّينِ أَنْ يَنْظُرَ دَائِمًا إِلَى كِتَابِهِ حَتَّى لَا يَخْتَلِطَ
وَلَا يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْ عَقَائِدِهِ وَعِبَادَتِهِ إِلَّا إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ وَاسِطَةٌ فَهِيَ وَاسِطَةُ الدَّلَالَةِ وَالتَّبْلِيغِ وَالتَّبْيِينِ لِمَا نَزَّلَ اللهُ وَتَطْبِيقِهِ عَلَى مَا نَزَلَ لِأَجْلِهِ مِنْ حَيَاةِ الرُّوحِ وَالْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ .
فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ بِأَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا يُؤْخَذُ الدِّينُ عَنْ غَيْرِهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ بِأَنْ لَا فِعْلَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى، فَلَا نَطْلُبُ شَيْئًا إِلَّا مِنْهُ، وَطَلَبُنَا مِنْهُ يَكُونُ بِالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي وَضَعَهَا وَهَدَانَا إِلَيْهَا، فَإِنْ جَهِلْنَا أَوْ عَجَزْنَا فَإِنَّنَا نَلْجَأُ إِلَى قُدْرَتِهِ، وَنَسْتَمِدُّ عِنَايَتَهُ وَحْدَهُ، وَبِهَذَا نَكُونُ مُوَحِّدِينَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا أَمَرَنَا فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا كَانَ مِنْ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (13: 33) .
وَبَقِيَ صِنْفٌ آخَرُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَنْدَادِ وَهُمُ الْعَامَّةُ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ أَنْدَادًا هُمْ عُلَمَاءُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يُحِلُّونَ لِمَرْضَاتِهِمْ وَيُحَرِّمُونَ، وَيُخَالِفُونَ النُّصُوصَ الصَّرِيحَةَ بِضُرُوبٍ سَخِيفَةٍ مِنَ التَّأْوِيلِ لِمُوَافَقَةِ أَهْوَائِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُفْتُوهُمْ بِخِلَافِ النَّصِّ الْتِمَاسًا لِخَيْرِهِمْ أَوْ هَرَبًا مِنْ سُخْطِهِمْ كَتَمُوا حُكْمَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، فَتَرَى أَحَدَهُمْ إِذَا سُئِلَ: أَهَذَا حَقٌّ أَمْ بَاطِلٌ وَحَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ؟ يَغُضُّ مِنْ صَوْتِهِ بِالْجَوَابِ، وَلَا يَجْهَرُ بِالْقَوْلِ مُدَارَاةً لِلْعَوَامِّ، إِذَا كَانَ الْجَوَابُ عَلَى غَيْرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَأَصْحَابِ السُّلْطَةِ. وَنَقُولُ: ((مُدَارَاةً لِلْعَوَامِّ)) حِكَايَةً لِقَوْلِهِمْ، إِذْ يُسَمُّونَ النِّفَاقَ وَالْمُحَابَاةَ فِي الدِّينِ مُدَارَاةً لَمَّا كَانَتِ الْمُدَارَاةُ مَحْمُودَةً، وَكَذَلِكَ
كَانَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِمَّنْ قَبْلَهُمْ يُسَمُّونَ كِتْمَانَهُمْ بِأَسْمَاءَ مَحْمُودَةٍ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لَعَنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَسَجَّلَ لَهُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ. فَهَلْ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فَيَرْضَى لِهَؤُلَاءِ بِأَنْ يُؤْثِرُوا الْعَامَّةَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَجْعَلُونَهُ مْ أَنْدَادًا لَهُ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ أَوْ أَشَدَّ؟
تَرَى الْعَالِمَ مِنْ هَؤُلَاءِ يَنْتَسِبُ إِلَى الشَّرْعِ وَيُحْتَرَمُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَّبِعُ هَوَى مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرْعَ، فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ إِذَا أُوذُوا فِي اللهِ جَعَلُوا فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ، فَلَا يَتَّخِذُونَ اللهَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، فَهَلْ يَكُونُ الْمَرْءُ مُؤْمِنًا إِذَا كَانَ يَتْرُكُ دِينَهُ لِأَجْلِ النَّاسِ؟ أَمْ شَرْطُ الْإِيمَانِ أَنْ يَصْبِرَ فِي سَبِيلِهِ عَلَى إِيذَاءِ النَّاسِ؟ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (29: 2) إِلَخْ. كَلَّا إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَتْبُوعِينَ وَالتَّابِعِينَ بَعْضُهُمْ فِتْنَةٌ لِبَعْضٍ وَسَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا أَخْبَرَنَا تَعَالَى فِي قَوْلِهِ:
(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) التَّبَرُّؤُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْبَرَاءَةِ، وَهِيَ التَّفَصِّي مِمَّنْ يُكْرَهُ قُرْبُهُ وَجِوَارُهُ تَنَزُّهًا عَنْهُ. وَ (إِذْ) ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ (يَرَوْنَ الْعَذَابَ) فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ لَاحِقُهُ بِسَابِقِهِ فِي مَوْضُوعِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ. وَقَدْ نَطَقَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ أَنَّ عَذَابَ اللهِ تَعَالَى سَيَحُلُّ بِمُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ مِنْ دُونِهِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي التَّابِعِ فِي الِاتِّخَاذِ وَالْمَتْبُوعِ فِيهِ،
وَفِي أَنْوَاعِ الِاتِّبَاعِ الْمَذْمُومِ مِنَ التَّشْرِيعِ بِالرَّأْيِ وَالْهَوَى وَالتَّقْلِيدِ فِيهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الضَّلَالِ وَبَيَّنَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ تَفْصِيلَ حَالِ التَّابِعِينَ وَالْمَتْبُوعِي نَ فِي ذَلِكَ، وَأَوْرَدَهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي تَمْثِيلًا لِحَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يَنْكَشِفُ فِيهِ الْغِطَاءُ وَيَرَى النَّاسُ فِيهِ الْعَذَابَ بِأَعْيُنِهِمْ وَيَعْرِفُونَ أَسْبَابَهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، كَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ وَقَعَ، وَالْبَلَاءَ قَدْ نَزَلَ. وَرَأَى الرُّؤَسَاءُ الْمُضِلُّونَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا أَنَّ إِغْوَاءَهُمْ لِلنَّاسِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا رَأْيَهُمْ، وَقَلَّدُوهُمْ دِينَهُمْ قَدْ ضَاعَفَ عَذَابَهُمْ، وَحَمَّلَهُمْ مِثْلَ أَوْزَارِ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ فَوْقَ أَوْزَارِهِمْ، فَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ، وَتَنَصَّلُوا مِنْ ضَلَالَتِهِمْ (وَرَأَوُا الْعَذَابَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ قَدْ رَأَوُا الْعَذَابَ الَّذِي هُوَ جَزَاؤُهُمْ مَاثِلًا لَهُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ، فَأَنَّى
يَنْفَعُهُمُ التَّبَرُّؤُ (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) أَيِ: الرَّوَابِطُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّابِعِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَنْفَعُهُمْ فِي الدُّنْيَا لَوْ أَنَّهُمْ آثَرُوا بِهِ الْحَقَّ عَلَى الرِّئَاسَةِ وَالْجَاهِ وَالْمَنَافِعِ الَّتِي يَسْتَفِيدُهَا الرَّئِيسُ بِاسْتِهْوَاءِ الْمَرْءُوسِ وَإِخْضَاعِهِ لَهُ وَحَمْلِهِ عَلَى اتِّبَاعِهِ، أَمَا وَقَدْ صَدَرَ عَنْ نُفُوسٍ تَرْتَعِدُ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ الَّذِي أَشْرَفَتْ عَلَيْهِ بِمَا جَنَتْ وَاقْتَرَفَتْ، بَعْدَمَا تَقَطَّعَتِ الرَّوَابِطُ وَالصِّلَاتُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَتْبُوعِينَ وَاصْطَلَمَتْ، فَلَا مَنْفَعَةَ لِلْمُتَبَرِّئِ تُرِكَتْ فَيُحْمَدُ تَرْكُهَا، وَلَا هِدَايَةَ لِلْمُتَبَرَّأِ مِنْهُ تُرْجَى فَيُحْمَدُ أَثَرُهَا، وَ (الْأَسْبَابُ) جَمْعُ سَبَبٍ وَهُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْحَبْلُ الَّذِي يُصْعَدُ بِهِ النَّخْلُ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الشَّجَرِ ثُمَّ غُلِّبَ فِي كُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَقْصِدٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمَعْنَوِيَّة ِ.
لَوْلَا أَنْ حِيلَ بَيْنَ الْمُقَلِّدِينَ وَهِدَايَةِ الْقُرْآنِ لَكَانَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَشَدُّ زِلْزَالٍ لِجُمُودِهِمْ عَلَى أَقْوَالِ النَّاسِ وَآرَائِهِمْ فِي الدِّينِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْأَحْيَاءِ أَمِ الْمَيِّتِينَ، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّقْلِيدُ فِي الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ أَمْ فِي أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ; إِذْ كُلُّ هَذَا مِمَّا يُؤْخَذُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ رَأْيٌ وَلَا قَوْلٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ مُتَعَلِّقًا بِالْقَضَاءِ وَمَا يَتَنَازَعُ فِيهِ النَّاسُ فَلِأُولِي الْأَمْرِ فِيهِ الِاجْتِهَادُ بِشَرْطِهِ إِقَامَةً لِلْعَدْلِ وَحِفْظًا لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ.
وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ نَقَلَةٌ وَأَدِلَّاءٌ لَا أَنْدَادٌ وَلَا أَنْبِيَاءٌ، فَلَا عِصْمَةَ تَحُوطُ أَحَدَهُمْ فَيُعْتَمَدُ عَلَى فَهْمِهِ وَقُصَارَى الْعَدَالَةِ أَنْ يُوثَقَ بِنَقْلِهِ وَيُسْتَعَانَ بِعِلْمِهِ، وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ يُرَدُّ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَهُنَاكَ الْقَوْلُ الْفَصْلُ وَالْحُكْمُ الْعَدْلُ. وَاللهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا مَرَدَّ لِأَمْرِهِ.
فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْمَتْبُوعِينَ وَالتَّابِعِينَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (7: 38، 39) فَكُلٌّ يُؤَاخَذُ بِعَمَلِهِ.
فَإِذَا حَمَلَ الْأَوَّلُ الْآخِرَ عَلَى رَأْيِهِ وَدَعَاهُ إِلَى اتِّبَاعِهِ فِيهِ أَوْ فِي رَأْيِ غَيْرِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ هُوَ فِيهِ فَهُوَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ، وَعَلَيْهِ إِثْمُهُ وَمِثْلُ إِثْمِ مَنْ أَضَلَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ إِثْمِهِمْ شَيْءٌ، إِذْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمُ اتِّخَاذَ الْأَنْدَادِ مِنْ دُونِ اللهِ فَاتَّخَذُوهُمْ .
وَأَمَّا مَنْ يُبْدِي فِي الدِّينِ فَهْمًا، وَيُقَرِّرُ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنَ الدَّلِيلِ حُكْمًا، يُرِيدُ أَنْ يَفْتَحَ بِهِ لِلنَّاسِ أَبْوَابَ الْفِقْهِ، وَيُسَهِّلَ لَهُمْ طَرِيقَ الْعِلْمِ، ثُمَّ هُوَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِأَنْ يَعْرِضُوا قَوْلَهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَيَنْهَاهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ إِلَّا أَنْ يَقْتَنِعُوا بِدَلِيلِهِ ; فَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى، أَعْلَامِ التُّقَى، وَلَيْسَ يَضُرُّهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَيَجْعَلَ نِدًّا لِلَّهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مُخْطِئًا وَجَاءَ ذَلِكَ الْمُقَلِّدُ لَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْسِبُ ضَلَالَهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَتَبَرَّأُ مِنْهُ بِحَقٍّ وَيَقُولُ: مَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَأْخُذَ بِقَوْلِي عَلَى عِلَّاتِهِ وَلَا أَعْرِفُكَ، فَالَّذِينَ يُتَّخَذُونَ أَنْدَادًا يَتَبَرَّءُونَ كُلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّنِ اتَّخَذُوهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَكُونُونَ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ عَبَدَهُمُ النَّاسُ كَالْمَسِيحِ وَبَعْضِ أُولِي الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا، أَوْ قَلَّدُوهُمْ وَأَخَذُوا بِأَقْوَالِهِمْ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ كَبَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ هَؤُلَاءِ بِعِبَادَتِهِمْ أَوْ تَقْلِيدِهِمْ، بَلْ مَعَ نَهْيِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَعَنِ الِاعْتِمَادِ عَلَى غَيْرِ وَحْيِهِ فِي الدِّينِ، فَهَذَا الْقِسْمُ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا ; لِأَنَّ الَّذِينَ عَبَدُوا أُولَئِكَ الْأَخْيَارَ أَوْ قَلَّدُوهُمْ فِي دِينِهِمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ ; إِذِ اتِّبَاعُهُمْ هُوَ اتِّبَاعُ طَرِيقَتِهِمْ فِي الدِّينِ، وَمَا كَانُوا يُشْرِكُونَ بِاللهِ أَحَدًا وَلَا شَيْئًا، وَلَا يُقَلِّدُونَ فِي دِينِهِ أَحَدًا وَإِنَّمَا كَانُوا يَأْخُذُونَ دِينَهُ عَنْ وَحْيِهِ فَقَطْ. وَقِسْمٌ أَضَلُّوا النَّاسَ بِأَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ فَاتَّبَعُوهُمْ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا هُدًى، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِذْ تَتَقَطَّعُ بِهِمْ أَسْبَابُ الْأَهْوَاءِ وَالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّة ِ الَّتِي تَرْبِطُ - هُنَا - بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا) أَيْ: نَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ لَنَا رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا لِنَتَبَرَّأَ مِنَ اتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ الْمُضِلِّينَ وَنَتَنَصَّلَ مِنْ رِيَاسَتِهِمْ، أَوْ لِنَتَّبِعَ سَبِيلَ الْحَقِّ وَنَأْخُذَ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَنَهْتَدِيَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، ثُمَّ نَعُودُ إِلَى هُنَا ((الْآخِرَةِ)) فَنَتَبَرَّأُ مِنْ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ; إِذْ نَسْعَدُ بِعَمَلِنَا مِنْ حَيْثُ هُمْ أَشْقِيَاءُ بِأَعْمَالِهِمْ (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) أَيْ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُظْهِرُ لَهُمْ كَيْفَ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ قَدْ كَانَ لَهَا أَسْوَأُ الْأَثَرِ فِي نُفُوسِهِمْ إِذْ جَعَلَتْهَا مُسْتَذَلَّةً مُسْتَعْبَدَةً لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى فَأَوْرَثَهَا ذَلِكَ مِنَ الظُّلْمَةِ وَالصَّغَارِ مَا كَانَ
حَسْرَةً وَشَقَاءً عَلَيْهَا، فَالْأَعْمَالُ هِيَ الَّتِي كَوَّنَتْ هَذِهِ الْحَسَرَاتِ فِي النَّفْسِ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ الَّتِي تَسْعَدُ فِيهَا كُلُّ نَفْسٍ بِتَزْكِيَتِهَا ، وَتَشْقَى بِتَدْسِيَتِهَا (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) إِلَى الدُّنْيَا صَحِيحِي الْعَقِيدَةِ لِيُصْلِحُوا أَعْمَالَهُمْ، فَيُشْفُوا غَيْظَهُمْ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ وَأَنْدَادِهِمْ ، وَلَا إِلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّ عِلَّةَ دُخُولِهِمْ فِي النَّارِ هِيَ ذَوَاتُهُمْ بِمَا طَبَعَتْهَا عَلَيْهِ خُرَافَاتُ الشِّرْكِ وَحُبُّ الْأَنْدَادِ.
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) يَقُولُ الْمُفَسِّرُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ، نَعَمْ إِنَّهُ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ كَمَا قَالُوا، وَلَكِنْ مِنَ الْخَطَأِ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْقُرْآنِ إِذْ يَصْرِفُونَ كُلَّ وَعِيدٍ فِيهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيَنْصَرِفُونَ عَنِ الِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ ; لِهَذَا تَرَى الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَّعِظُونَ بِالْقُرْآنِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ كَلِمَةَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) يَتَحَرَّكُ بِهَا اللِّسَانُ مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ بِحُقُوقِهَا كَافِيَةٌ لِلنَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ، عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكَافِرِينَ يَقُولُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهُزُّ جَسَدَهُ عِنْدَ ذِكْرِ اللهِ كَمَا يَهُزُّهُ جَمَاهِيرُهُمْ، فَهَلْ هَذَا كُلُّ مَا أَرَادَهُ اللهُ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؟
لَيْسَ هَذَا الَّذِي يَتَوَهَّمُهُ الْجَاهِلُونَ مِنْ مُرَادِ الْمُفَسِّرِينَ ، فَمَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ضُرُوبَ الشِّرْكِ وَصِفَاتِ الْكَافِرِينَ وَأَحْوَالَهُمْ إِلَّا عِبْرَةً لِمَنْ يُؤْمِنُ بِكِتَابِهِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ فَيَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَلَكِنَّ رُؤَسَاءَ التَّقْلِيدِ حَالُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ كِتَابِ رَبِّهِمْ ; بِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْمُسْتَعِدِّي نَ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ قَدِ انْقَرَضُوا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْلِفَهُمُ الزَّمَانُ لِمَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ مِنَ الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتِ الَّتِي لَا تَتَيَسَّرُ لِغَيْرِهِمْ، كَمَعْرِفَةِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْفُنُونِ الصِّنَاعِيَّةِ وَالْإِحَاطَةِ بِخِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَحْكَامِ، وَالَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاقِفٍ عَلَى تَارِيخِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ أَنَّ أَهْلَ الْقَرْنَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لَمْ يَكُونُوا يُقَلِّدُونَ أَحَدًا ; أَيْ: لَمْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ بِآرَاءِ النَّاسِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ كَانَ الْعَامِّيُّ مِنْهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ دِينِهِ يَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ كُلُّ مَسْأَلَةٍ يَعْمَلُ بِهَا مِنْ مَسَائِلِهِ ; إِذْ كَانَ عُلَمَاءُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ يُلَقِّنُونَ النَّاسَ الدِّينَ بِبَيَانِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ الْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ يَسْأَلُ عَنْ حُكْمِ اللهِ فِيهِ فَيُجَابُ
بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ كَذَا أَوْ جَرَتْ سُنَّةُ نَبِيِّهِ عَلَى كَذَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمَسْئُولِ فِيهِ هَدْيٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ذَكَرَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الصَّالِحُونَ وَمَا يَرَاهُ أَشْبَهَ بِمَا جَاءَ فِي هَذَا الْهَدْيِ أَوْ أَحَالَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَلَمَّا تَصَدَّى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ وَاسْتِخْرَاجِ الْفُرُوعِ مِنْ أُصُولِهَا - وَمِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ - كَانُوا يَذْكُرُونَ الْحُكْمَ بِدَلِيلِهِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ، فَهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ أَحَدٍ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَعْرِفْ دَلِيلَهُ وَيَقْتَنِعْ بِهِ. ثُمَّ جَاءَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُقَلِّدِينَ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى مَنْ جَعَلَ قَوْلَ الْمُفْتِي لِلْعَامِّيِّ بِمَنْزِلَةِ الدَّلِيلِ مَعَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ فَعَمِلَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. ثُمَّ خَلَفَ خَلْفٌ أَعْرَقُ مِنْهُمْ فِي التَّقْلِيدِ فَمَنَعُوا كُلَّ النَّاسِ أَخْذَ أَيِّ حُكْمٍ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، وَعَدُّوا مَنْ يُحَاوِلُ فَهْمَهُمَا وَالْعَمَلَ بِهِمَا زَائِغًا. وَهَذَا غَايَةُ الْخِذْلَانِ وَعَدَاوَةِ الدِّينِ، وَقَدْ تَبِعَهُمُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَكَانُوا لَهُمْ أَنْدَادًا مِنْ دُونِ اللهِ، وَسَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ.