من المواقف العجيبة في التاريخ موقف موسى من أخيه هارون عليهما السلام عندما عبدت بنو إسرائيل العجلَ في غياب موسى عليه السلام؛ فقد تعامل معه بعنفٍ ظاهرٍ قد لا يفهمه كثير من الناس؛ خاصَّة أن هارون عليه السلام نبيٌّ كريم، وهو لا شكَّ لم يكن راضيًا عن فساد بني إسرائيل ولا عن كفرهم .
قال تعالى: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150]،
وفي موضع آخر قال تعالى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} [طه: 94].

إنَّ مشهد موسى عليه السلام وهو يجرُّ هارون عليه السلام من رأسه ولحيته على الأرض أمام الناس لمشهد يحتاج إلى وقفات!

لقد وجد موسى عليه السلام أنَّ الشعب قد وقع في كارثة مهلكة؛ وهي كارثة عبادة العجل من دون الله، وكان عليه أن يُسيطر على الوضع حتى لا تنفلت الأمور؛ فأخذ عدَّة قرارات حاسمة في آنٍ واحد :

أولاً : ألقى الألواح تعبيرًا عن حالة غضب لا يقف أمامها شيء ؛ وذلك لإرهاب المجرمين من بني إسرائيل.

وثانيًا: قام بعقاب أعظم القوم بعده وهو هارون عليه السلام؛ ليُعْلِم الجميع أنه ليس هناك أحدٌ فوق الحق ، وإن كان قد فعل ذلك بأخيه النبي، فماذا هو فاعل بعامَّة الناس؟

وثالثًا: قام بتحقيق فوري مع السامري، وعاقبه عقابًا يدوم معه طوال الحياة.

ورابعًا: أحرق العجل الذي عبدته بنو إسرائيل مع أنه مصنوع من الذهب، وهذه ثروة هائلة؛ ولكن موسى عليه السلام علَّم شعبه أن خسارةً اقتصاديةً فادحةً مثل خسارة العجل الذهبي أهون بكثير من خسارة الدين.

وبهذه الأمور سيطر موسى عليه السلام على الوضع، وهدأت الأمور.

ولكن تبقى مسألة عقاب هارون عليه السلام تحتاج إلى وقفة؛ فموسى عليه السلام كان يرى أن هارون عليه السلام قد وقع في خطأ كبير دفع الشعب إلى التمرُّد عليه، وهذا الخطأ هو الظهور بمظهر الضعيف أمام الشعب، وهذا لم يُنكره هارون عليه السلام؛ بل قال مُفَسِّرًا الكارثة التي حدثت في فترة ولايته: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف:151].
واعتبر موسى عليه السلام أن هذا المظهر الضعيف ذنبٌ كبيرٌ يحتاج إلى استغفار؛ فرفع يده إلى السماء متضرِّعًا:
{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151].


والواقع أن موسى عليه السلام لم يكن يملك من الآليات المادِّيَّة ما يفوق ما يملكه هارون عليه السلام، فلا جيش أقوى، ولا سلاح أكثر؛ إنما هي فوارق الشخصيات التي يمكن أن تُناسب مرحلة دون الأخرى.


إن هذه المواقف قد اختارها الله عز وجل بحكمة بالغة ليقُصَّها علينا في كتابه المعجز؛ لأنه يعلم أن لها تأثيرًا كبيرًا في مسار الشعوب، ويوم نجعل القرآن الكريم هاديًا لنا في قراراتنا سيكون يوم خروجنا من أزماتنا؛ وصدق الله إذ يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].