1623 - " أخذ الله تبارك و تعالى الميثاق من ظهر آدم بـ ( نعمان ) - يعني عرفة - فأخرج
من صلبه كل ذرية ذرأها ، فنثرهم بين يديه كالذر ، ثم كلمهم قبلا قال : *( ألست
بربكم قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو
تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون
)* " .
قال الألباني في " السلسلة الصحيحة " 4 / 158 :
أخرجه أحمد ( 1 / 272 ) و ابن جرير في " التفسير " ( 15338 ) و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 17 / 1 ) و الحاكم ( 2 / 544 ) و البيهقي في " الأسماء و الصفات " ( ص 326 - 327 ) كلهم من طريق الحسين بن محمد المروذي حدثنا جرير بن حازم عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فذكره . قال الحاكم : " صحيح الإسناد " . ووافقه الذهبي .
قلت : وحقهما أن يقيداه بأنه على شرط مسلم ، فإن كلثوم بن جبر من رجاله وسائرهم من رجال الشيخين . و تابعه وهب بن جرير حدثنا أبي به دون ذكر " نعمان " وقال أيضا : " صحيح الإسناد ، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبر " . ووافقه
الذهبي أيضا .
و أما ابن كثير فتعقبه بقوله في " التفسير " ( 2 / 262 ) : " هكذا قال ، و قد رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه . و كذا رواه إسماعيل بن علية و وكيع عن ربيعة بن كلثوم بن جبر عن أبيه به ، و كذا رواه عطاء بن السائب و حبيب بن أبي ثابت و علي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، و كذا رواه العوفي و علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، فهذا أكثر و أثبت . و الله أعلم " .
قلت : هو كما قال رحمه الله تعالى ، ولكن ذلك لا يعني أن الحديث لا يصح مرفوعا
و ذلك لأن الموقوف في حكم المرفوع ، لسببين :
الأول : أنه في تفسير القرآن ، و ما كان كذلك فهو في حكم المرفوع ، ولذلك
اشترط الحاكم في كتابه " المستدرك " أن يخرج فيه التفاسير عن الصحابة كما ذكر
ذلك فيه ( 1 / 55 ) .
الآخر : أن له شواهد مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جمع من الصحابة ،
وهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو وأبو هريرة وأبو أمامة وهشام بن حكيم
أو عبد الرحمن بن قتادة السلمي على خلاف عنهما - ومعاوية بن أبي سفيان وأبو
الدرداء وأبو موسى ، وهي إن كان غالبها لا تخلوا أسانيدها من مقال ، فإن بعضها يقوي بعضا ، بل قال الشيخ صالح المقبلي في " الأبحاث المسددة " : " ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات في ذلك " <1> ، ولاسيما وقد تلقاها أو تلقى ما اتفقت عليه من إخراج الذرية من ظهر آدم وإشهادهم على أنفسهم ، السلف الصالح من الصحابة و التابعين دون اختلاف بينهم ، منهم عبد الله بن عمرو وعبد الله بن مسعود ، وناس من الصحابة ، وأبي بن كعب وسلمان الفارسي ومحمد بن كعب والضحاك بن مزاحم والحسن البصري وقتادة وفاطمة بنت الحسين وأبو جعفر الباقر وغيرهم ، وقد أخرج هذه الآثار الموقوفة وتلك الأحاديث المرفوعة الحافظ السيوطي في " الدر المنثور " ( 3 / 141 - 145 ) ، وأخرج بعضها الشوكاني في " فتح القدير " ( 2 / 215 - 252 ) و من قبله الحافظ ابن كثير في " تفسيره ( 2 / 261 - 164 ) و خرجت أنا حديث عمر في " الضعيفة " ( 3070 ) و صححته لغيره في " تخريج شرح الطحاوية " ( 266 ) وحديث أبي هريرة في تخريج السنة لابن أبي عاصم ( 204 و 205 - بتحقيقي ) وصححته أيضا هناك ( ص 267 ) و في الباب عن أبي الدرداء مرفوعا ، و قد سبق برقم ( 49 ) و عن أنس ، وسبق برقم ( 172 ) و هو متفق عليه ، فهو أصحها و فيه : " إن الله تعالى يقول للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا ؟ فيقول : نعم . فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي " . إذا عرف هذا فمن العجيب قول الحافظ ابن كثير عقب الأحاديث و الآثار التي سبقت الإشارة إلى أنه أخرجها : " فهذه الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه ، و ميز بين أهل الجنة وأهل النار ، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، و في حديث عبد الله بن عمرو ، وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم " .
قلت : وليس الأمر كما نفى ، بل الإشهاد وارد في كثير من تلك الأحاديث :
الأول : حديث أنس هذا ، ففيه كما رأيت قول الله تعالى : " قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا " . قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " ( 6 / 284 ) : " فيه إشارة إلى قوله تعالى : *( و إذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم )* الآية .
قلت : ولفظ حديث ابن عمرو الذي أعله ابن كثير بالوقف إنما هو : أخذ من ظهره .
.. " ، فأي فرق بينه و بين لفظ حديث أنس الصحيح ؟ !
الثاني : حديث عمر بلفظ : ( ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ... "
الثالث : حديث أبي هريرة الصحيح : " ... مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ... " .
الرابع : حديث هشام بن حكيم : " إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ، ثم أشهدهم على أنفسهم ... "
الخامس : حديث أبي أمامة : " لما خلق الله الخلق و قضى القضية ، أخذ أهل اليمين
بيمينه ، و أهل الشمال بشماله ، فقال : ... ألست بربكم ، قالوا : بلى ... " .
ففي ذلك رد على قول ابن القيم أيضا في كتاب " الروح " ( ص 161 ) بعد أن سرد
طائفة من الأحاديث المتقدمة : " وأما مخاطبتهم واستنطاقهم وإقرارهم له بالربوبية و شهادتهم على أنفسهم بالعبودية - فمن قال من السلف فإنما هو بناء منه على فهم الآية ، و الآية لم تدل على هذا بل دلت على خلافه " .
وقد أفاض جدا في تفسير الآية و تأويلها تأويلا ينافي ظاهرها بل و يعطل دلالتها أشبه ما يكون بصنيع المعطلة لآيات و أحاديث الصفات حين يتأولونها ، و هذا خلاف مذهب ابن القيم رحمه الله الذي تعلمناه منه و من شيخه ابن تيمية ، فلا أدري لماذا خرج عنه هنا لاسيما و قد نقل ( ص 163 ) عن ابن الأنباري أنه قال : " مذهب أهل الحديث و كبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه و صلب
أولاده وهم في صور الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم و أنهم مصنوعون ، فاعترفوا بذلك و قبلوا ، و ذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبل عقلا حين خوطب ، و كما فعل ذلك للبعير لما سجد ، و النخلة حتى سمعت و انقادت حين دعيت " . كما نقل أيضا عن إسحاق بن راهويه : " و أجمع أهل العلم أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد ، و أنه استنطقهم و أشهدهم " .
قلت : وفي كلام ابن الأنباري إشارة لطيفة إلى طريقة الجمع بين الآية و الحديث
وهو قوله : " إن الله أخرج ذرية آدم من صلبه و أصلاب أولاده " . و إليه ذهب
الفخر الرازي في " تفسيره " ( 4 / 323 ) و أيده العلامة ملا على القاري في "
مرقاة المفاتيح " ( 1 / 140 - 141 ) و قال عقب كلام الفخر : " قال بعض المحققين : إن بني آدم من ظهره ، فكل ما أخرج من ظهورهم فيما لا يزال إلى يوم القيامة هم الذين أخرجهم الله تعالى في الأزل من صلب آدم ، و أخذ منهم الميثاق الأزلي ليعرف منه أن النسل المخرج فيما لا يزال من أصلاب بنيه هو المخرج في الأزل من صلبه ، و أخذ منهم الميثاق الأول ، و هو المقالي الأزلي ، كما أخذ منهم فيما لا
يزال بالتدريج حين أخرجوا الميثاق الثاني ، و هو الحالي الإنزالي . و الحاصل أن الله تعالى لما كان له ميثاقان مع بني آدم أحدهما تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الحاملة على الاعتراف الحالي ، و ثانيهما المقالي الذي لا يهتدي إليه العقل ، بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد ، كالأنبياء عليهم الصلاة و السلام ، أراد عليه الصلاة و السلام أن يعلم الأمة ويخبرهم أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقا آخر أزليا فقال ( ما ) قال من مسح ظهر آدم في الأزل و إخراج ذريته و أخذه الميثاق عليهم و بهذا يزول كثير من الإشكالات ، فتأمل فيها حق التأمل " .
وجملة القول أن الحديث صحيح ، بل هو متواتر المعنى كما سبق ، و أنه لا تعارض
بينه وبين آية أخذ الميثاق ، فالواجب ضمه إليها ، و أخذ الحقيقة من مجموعها
وقد تجلت لك إن شاء الله مما نقلته لك من كلام العلماء ، و بذلك ننجو من مشكلتين بل مفسدتين كبيرتين :
الأولى : رد الحديث بزعم معارضته للآية .
والأخرى : تأويلها تأويلا يبطل معناها ، أشبه ما يكون بتأويل المبتدعة
والمعتزلة . كيف لا و هم أنفسهم الذين أنكروا حقيقة الأخذ و الإشهاد و القول
المذكور فيها بدعوى أنها خرجت مخرج التمثيل ! و قد عز علي كثيرا أن يتبعهم في
ذلك مثل ابن القيم و ابن كثير ، خلافا للمعهود منهم من الرد على المبتدعة ما هو
هو دون ذلك من التأويل . و العصمة لله وحده . ثم إنه ليلوح لي أننا و إن كنا لا
نتذكر جميعا ذلك الميثاق الرباني و قد بين العلماء سبب ذلك - فإن الفطرة التي
فطر الله الناس عليها ، و التي تشهد فعلا بأن الله هو الرب وحده لا شريك له ،
إنما هي أثر ذلك الميثاق ، و كأن الحسن البصري رحمه الله أشار إلى ذلك حين روى
عن الأسود بن سريع مرفوعا : " ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة ...
" الحديث ، قال الحسن عقبه : " و لقد قال الله ذلك في كتابه : *( و إذ أخذ ربك
... )* الآية " . أخرجه ابن جرير ( 15353 ) ، و يؤيده أن الحسن من القائلين
بأخذ الميثاق الوارد في الأحاديث ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، و عليه فلا يصح
أن يقال : إن الحسن البصري مع الخلف القائلين بأن المراد بالإشهاد المذكور في
الآية إنما هو فطرهم على التوحيد ، كما صنع ابن كثير . و الله أعلم .
----------------------------------
[1] نقلته من " فتح البيان " لصديق حسن خان " ( 3 / 406 ) . اهـ .