جاء في الملحق الثاني من كتاب المرشد الأمين للراغبين في حفظ القرآن العظيم :
( وَيَنْبَغِي عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسُدَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ فِي عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ أَنْ يَتَأَمَّلَ جَيِّدًا فِي الْعُلُومِ الَّتِي يَحْتَاجُهَا لِيَتَحَقَّقَ بِهِ سَدُّ ذَلِكَ الْفَرْضِ ؛ وَقَدْ وَضَّحَ ذَلِكَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ ، فَقَالَ :
( وَالَّذِي يَلْزَمُ الْمُقْرِئَ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِهِ مِنَ الْعُلُومِ قَبْلَ أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ لِلِاشْتِغَالِ : أَنْ يَعْلَمَ مِنَ الْفِقْهِ مَا يُصْلِحُ بِهِ أَمْرَ دِينِهِ ، وَلَا بَأْسَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْفِقْهِ ، بِحَيْثُ إِنَّهُ يُرْشِدُ طَلَبَتَهُ وَغَيْرَهُمْ إِذَا وَقَعَ لَـهُمْ شَيْءٌ . وَيَعْلَمَ مِنَ الْأُصُولِ قَدْرَ مَا يَدْفَعُ بِهِ شُبْهَةَ مَنْ يَطْعَنُ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ . وَأَنْ يُـحَصِّلَ جَانِبًا مِنَ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ ، بِحَيْثُ إِنَّهُ يُوَجِّهُ مَا يَقَعُ لَهُ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، وَهَذَانِ مِنْ أَهَمِّ مَا يَـحْتَاجُ إِلَيْهِ ، وَإِلَّا ، يُـخْطِئُ فِي كَثِيرٍ مِـمَّا يَقَعُ فِي وَقْفِ حَمْزَةَ ، وَالْإِمَالَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ وَغَيْرِهِ ؛ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْـحُصْرِيِّ [بِسُكُونِ الصَّادِ] : لَقَدْ يَدَّعِي عِلْمَ الْقِرَاءَاتِ مَعْشَـــــرٌ ... وَبَاعُهُمُ فِي النَّحْوِ أَقْصَرُ مِنْ شِبْرِ فَإِنْ قِيلَ: مَا إِعْرَابُ هَذَا وَوَزْنُــهُ ؟ ... رَأَيْتَ طَوِيلَ الْبَاعِ يَقْصُرُ عَنْ فِتْرِ وَلْيُحَصِّلْ طَرَفًا مِنَ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ ... وَيَلْزَمُهُ ــــ أَيْضًا ـــــ أَنْ يَحْفَظَ كِتَابًا مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يُقْرِئُ بِهِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ أُصُولًا وَفَرْشًا، وَإِلَّا دَاخَلَهُ الْوَهْمُ وَالْغَلَطُ فِي كَثِيرٍ ، وَإِنْ أَقْرَأَ بِكِتَابٍ وَهُوَ غَيْرُ حَافِظٍ لَهُ فَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا كَيْفِيَّةَ تِلَاوَتِهِ بِهِ حَالَ تَلَقِّيهِ مِنْ شَيْخِهِ، مُسْتَصْحِبًا ذَلِكَ ، فَإِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ فَلَا يَسْتَنْكِفْ أَنْ يَسْأَلَ رَفِيقَهُ أَوْ غَيْرَهُ مِـمَّنْ قَرَأَ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ أَوْ غَلَبَةِ الظَّنِّ. فَإِنْ لَـمْ [ أَيْ: فَإِنْ لَـمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ ] ؛ وَإِلَّا فَلْيُنَبِّهْ عَلَى ذَلِكَ بِخَطِّهِ فِي الْإِجَازَةِ، وَأَمَّا مَنْ نَسِيَ أَوْ تَرَكَ، فَلَا يُعْدَلُ إِلَيْهِ إِلَّا لِضَرُورَةِ كَوْنِهِ انْفَرَدَ بِسَنَدٍ عَالٍ، أَوْ طَرِيقٍ لَا تُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يَخْلُو : إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَارِئُ عَلَيْهِ مُسْتَحْضِرًا ذَاكِرًا عَالِمًا بِـمَا يَقْرَأُ ، أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَ [ أَيْ: فَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ عَالِمًا ] فَسَائِغٌ جَائِزٌ ، وَإِلَّا ، فَحَرَامُ مَـمْنُوعٌ (1). وَأَنْ يَـحْذَرَ الْإِقْرَاءَ بِـمَا يَـحْسُنُ فِي رَأْيِهِ دُونَ النَّقْلِ ، أَوْ وَجْهِ إِعْرَابٍ أَوْ لُغَةٍ دُونَ رِوَايَةٍ. وَنَقَلَ أَبُو الْقَاسِمِ الْـهُذَلِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَغْتَرُّوا بِكُلِّ مُقْرِئٍ، إِذِ النَّاسُ عَلَى طَبَقَاتٍ : فَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ، وَالسُّورَةَ وَالسُّورَتَيْن ِ، وَلَا عِلْمَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ ، فَلَا تُؤْخَذُ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ ، وَلَا تُنْقَلُ عَنْهُ الرِّوَايَةُ ، وَلَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ الرِّوَايَاتِ ، وَلَـمْ يَعْلَمْ مَعَانِيَهَا ، وَلَا اسْتِنْبَاطَهَا مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَنَحْوِهَا ، فَلَا تُؤْخَذُ عَنْهُ لِأَنَّهُ رُبَّـمَا يُصَحِّفُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ الْعَرَبِيَّةَ، وَلَا يَتَّبِعُ الْأَثَرَ وَالْمَشَايِخَ فِي الْقِرَاءَةِ، فَلَا تُنْقَلُ عَنْهُ الرِّوَايَةُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّـمَا حَسَّنَتْ لَهُ الْعَرَبِيَّةُ حَرْفًا، وَلَـمْ يُقْرَأْ بِهِ، وَالرِّوَايَةُ مُتَّبَعَةٌ، وَالْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنِ الْأَوَّلِ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَ التِّلَاوَةَ، وَعَلِمَ الرِّوَايَةَ، وَأَخَذَ حَظًّا مِنَ الدِّرَايَةِ مِنَ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، فَتُؤْخَذُ عَنْهُ الرِّوَايَةُ، وَيُقْصَدُ لِلْقِرَاءَةِ ؛ وَلَيْسَ الشَّرْطُ أَنْ تَـجْتَمِعَ فِيهِ جَمِيعُ الْعُلُومِ، إِذِ الشَّرِيعَةُ وَاسِعَةٌ، وَالْعُمُرُ قَصِيرٌ، وَفُنُونُ الْعِلْمِ كَثِيرَةٌ، وَدَوَاعِيهِ قَلِيلَةٌ، وَالْعَوَائِقُ مَعْلُومَةٌ تُشْغِلُ كُلَّ فَرِيقٍ بِـمَا يَعْنِيهِ. قُلْتُ[أَيِ:ابْنُ الْجَزَرِيِّ]:فَحَسْبُكَ تَـمَسُّكًا بِقَوْلِ هَذَا الْإِمَامِ فِي الْمُقْرِئِ الَّذِي يُؤْخَذُ عَنْهُ وَيُقْصَدُ)(2) )
(1) هَذِهِ مَسْأَلَةٌ خَطِيرَةٌ جِدًّا: وَهِيَ أَنْ يَذْهَبَ الطَّالِبُ الْمُبْتَدِئُ الَّذِي لَم يُتْقِنِ الْعِلْمَ إِلَى شَيْخٍ مُسْنِدٍ- لَكِنَّهُ كَبِرَ في السِّنِّ أَوْ نَسِيَ – لِيُجِيزَهُ فِي الْقُرْآنِ أَوِ الْقِرَاءَاتِ؛ فَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الَّتِي حَرَّمَهَا الْإِمَامُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ :لِأَنَّ الطَّالِبَ سَيَحْصُلُ عَلَى الْإِجَازَةِ بِدُونِ وَجْهِ حَقٍّ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ شَيْخٍ يُعَلِّمُهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَحْكَمَ الْعِلْمَ وَحَفِظَ الْأَوْجُهَ وَضَبَطَ الْأَدَاءَ فَلَا حَرَجَ حِينَئِذٍ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ السَّنَدِ الْعَالِي طَلَبًا لِشَرَفِ الْقُرْبِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَّا مَنْ يُرِيدُ الْإِجَازَةَ بِأَيِّ طَرِيقَةٍ ، وَلَا يَهْتَمُّ بِالضَّبْطِ، فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ فِي قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ ، وَإِنْ لَم يَتَدَارَكْ نَفْسَهُ فَمَا أَعْظَمَ حَسْرَتَهُ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسِ لِرَبِّ الْعَالمينَ!! وَقَدْ مَرَّ مَعَنَا الْحَدِيثُ الَّذِي تَشِيبُ مِنْهُ رُؤُوسُ الْمُؤْمِنِينَ (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه. فَاحْذَرْ وَانْتَبِهْ لِنِيَّتِكَ، وَتَعَلَّمْ للهِ وَحْدَهُ لَا لِلشُّهْرَةِ وَلَا لِلْمَالِ وَلَا لَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْرَاضِ الزَّائِلَةِ ، وَإِذَا كُنْتَ قَدْ أُجِزْتَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَتَعَلَّمْ وَاضْبِطِ الْعِلْمَ أَوَّلًا ثُمَّ ابْدَأْ فِي الْإِقْرَاءِ؛ وإلَّا صِرْتَ مِنَ الْآثـِمِينَ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
(2) منجد المقرئين للإمام ابن الجزري (ص 50- 54) وهذا العرض لأقسام المقرئين قد مر معنا مفصلا في الباب الثالث عند الحديث عن : من الذي يصح أخذ القرآن عنه ؟ (ص 171) فراجعه لِزَامًا حتى يتضح لك الكلام جيدا .