إنك عندما تقرأ في كتب الأشاعرة تجد هذا المذهب يحمل في طياته منذ النشأة مبدأ التناقض، ذلك لاعتماده على منهج التلفيق الذي أراد مؤسسوه أن يبنوا عليه هذا المذهب .
ذلك أن الأشعري أراد أن يجمع بين الإيمان ببعض أصول المعتزلة والجهمية مع إتباع مذهب السلف، ولما كانت خبرته بمذهب السلف قليلة أراد أن يجمع بين تلك الأصول ومذهب السلف الذي حكاه بإجمال، حكى بعضه كما يعتقده، لا كما هو في واقع الأمر . ([1])
والتناقض الذي وقع فيه متقدموا الأشعرية، موجود في مذهبهم في الصفات، وكلام الله، والقدر، وغير ذلك من المسائل التي خالفوا فيها أهل السنة.
والشيء الملفت للنظر - أن المتأخرين من الأشاعرة، وهم أكثر تناقضاً - اتهموا المتقدمين من أئمتهم بالتناقض .
وهؤلاء المتأخرون إنما رموا أئمتهم المتقدمين بالتناقض لأنهم كانوا عارفين بالأصول العقلية التي اعتمدها هؤلاء، وأنها تقتضي أن يلتزموا لوازمها وأن لا يهابوا أهل الحديث بل يصرحوا بما تقتضيه هذه الأصول ولوازمها. وهذا هو ما فعله المتأخرون وطبقوه .([2])
واتهام المتأخرين للمتقدمين بالتناقض يدل عليه ما حوته كتبهم التي صرحوا فيها بمخالفة السلف ومخالفة أئمتهم، وما يذكرونه من الأدلة والمناقشات لعقائدهم - وخاصة في مسائل العلو والاستواء، والصفات الخبرية، والرؤية - تحمل في ثناياها الاتهام لشيوخهم وأئمتهم بالتناقض، وهم قد لا يصرحون بذلك لأن هؤلاء هم أئمة المذهب، وبهم يقتدون في المسائل الأخرى التي وافقوهم فيها .
ومع ذلك فأحياناً يصرحون : ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره أبو المعالي الجويني في مسألة الصفات الخبرية كالوجه واليدين، التي أثبتها متقدموا الأشعرية الذين ينفون الصفات الاختيارية عن الله تعالى، ولذلك يؤولون الاستواء والنزول والمجيء، إما بتأويلات صريحة كما فعل المتأخرون، وإما بجعلها من صفات الذات لا من صفات الفعل، وأن الاستواء - مثلا - فعل فعله الله في العرش سماه استواء، كما هو قول الأشعري - فالجويني يقول لهؤلاء إذا كنتم أثبتم الصفات الخبرية بظواهر الآيات فيلزمكم أن تثبتوا بقية الصفات كالاستواء والنزول والجنب بظواهر النصوص أيضاً، أما إذا سوغتم تأويل هذه فلا يبعد تأويل الصفات الخبرية ([3]) : يقول الجويني عن الصفات الخبرية، « ومن سلك من أصحابنا سبيل إثبات هذه الصفات بظواهر هذه الآيات ألزمه سوق كلامه أن يجعل الاستواء والمجيء والنزول والجنب من الصفات تمكساً بالظاهر، فإن ساغ تأويلها فيما يتفق عليه، لم يبعد أيضاً طريق التأويل فيما ذكرناه». ([4])
فهو يقول : إن تأويل هذه والمنع من تأويل تلك تناقض، فإما إثبات الجميع أو تأويل الجميع. ويلاحظ أن هذا يقال للجويني أيضا.
ومن أمثلة تناقض الأشاعرة ما يلي :-
1 – أن هؤلاء الذي سموا أنفسهم أهل الحق، وأنهم قاموا من تحقيق أصول الدين بما لم يقم به الصحابة، هم متناقضون في الشرعيات والعقليات :
- أما الشرعيات : فإنهم تارة يتأولون نصوص الكتاب والسنة، وتارة يبطلون التأويل، فإذا ناظروا الفلاسفة والمعتزلة - الذين يتأولون نصوص الصفات مطلقاً، ردوا عليهم، وأثبتوا لله الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحو ذلك من الصفات - وإذا ناظروا من يثبت صفات أخرى دل عليها الكتاب والسنة كالمحبة والرضا والغضب والفرح والضحك ونحو ذلك تأولوها، وليس لهم فرق مضبوط بين ما يتأول وما لا يتأول، بل منهم من يحيل على العقل، ومنهم من يحيل على الكشف، فأكثر متكلميهم يقولون: ما علم الله ثبوته بالعقل لا يتأول، وما لم يعلم ثبوته بالعقل يتأول، ومنهم من يقول: ما علم ثبوته بالكشف والنور الإلهي لا يتأول، وما لم يعلم ثبوته بالعقل يتأول، وكلا الطريقين ضلال وخطأ من وجوه ...
وأما تناقضهم في العقليات : فلا يحصى ، مثل قولهم : إن الباري لا يقوم به الأعراض، ولكن تقوم به الصفات والأعراض في المخلوق هو عندهم صفة وهو عندهم عرض، ثم قالوا في الحياة ونحوها هي في حق الخالق صفات وليست بأعراض، إذ العرض هو ما لا يبقى زمانين، والصفة القديمة باقية ....
وكذلك قولهم: إن الله يرى كما ترى الشمس والقمر من غير مواجهة ولا معاينة وأن كل موجود يرى حتى الطعم واللون .
ومثل قولهم: إن القديم لا يجوز عليه الحركة والسكون ونحو ذلك لأن هذه لا تقوم إلا بمتحيز، وقالوا: إن القدرة والحياة ونحوهما يقوم بقديم غير متحيز. وجمهور العقلاء يقولون: إن هذا فرق بين المتماثلين.
وكذلك زعمهم أن قيام الأعراض التي هي صفات قائمة بالرب ولا تدل على حدوثه . ([5])
2- ومن الأمثلة على تناقض الأشاعرة أنهم في مسألة الترجيح بلا مرجح مرة يقولون: إن القادر المختار يرجح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، ومرة يقولون بعكس ذلك وأن القادر لا يرجح أحد طرفي الممكن إلا بمرجح، وسبب التناقض اختلاف الحالة التي يستدلون لها: فإنهم إن كانوا في موقع مناظرة الفلاسفة الدهرية حول حدوث العالم، ردوا عليهم بقولهم: إن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا: إن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بغير مرجح يصح من القادر المختار ولا يصح من العلة الواجبة ، ويلاحظ أن هذا جواب للمعتزلة أيضا يجيبون به الفلاسفة. وإن كانوا في موقع الرد على القدرية المعتزلة في مسألة خلق أفعال العباد وأن الله هو الخالق لها ردوا عليهم بقولهم:إنه لا يتصور ترجيح الممكن، لا من قادر ولا من غيره إلا بمرجح يجب عنده وجود الأثر . ([6])
3 - مسألة أصوات العباد، حيث إنهم حينما يردون على المعتزلة يقولون: إنها ليست فعلاً للعباد، فإذا جاءوا إلى مسألة القرآن قالوا: أصوات العباد فعل لهم وهذا تناقض .
4 – في مسألة النبوات : من ذلك أن بعضهم يقول: إن دلالة المعجزة على التصديق معلومة بالاضطرار، ثم يقولون: إن الله لا يفعل لحكمة، وليست أفعاله تعالى معللة.، وهذا تناقض إذ كيف تدل المعجزة - التي هي من أفعال الله ومفعولاته - على صدق النبي، والله لا يفعل لحكمة أبداً ؟
5 - ومن تناقضهم في هذا الباب قولهم عن المعجزات: إن الله لا يمكن أن يخلقها على يد كاذب، ثم يقولون: إن الله لا ينزه عن فعل أي ممكن، وأنه لا يقبح منه فعل، وحينئذ فيقال لهم قولكم متناقض لأنه إذا جاز أن يفعل الله القبيح جاز أن يخلق المعجزة على يد كذاب .
6 - ومن الأمثلة على تناقضهم قولهم: إن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر ثم يقولون لا واجب إلا بالشرع خلافاً للمعتزلة، وهذا تناقض بين .
7 – تفريقهم بين نصوص الصفات ونصوص المعاد ، فتفريق الأشاعرة - وغيرهم - بينهما بإثبات هذا ونفي هذه تناقض، بل يلزمهم أن يقروا بكل ما ورد من الصفات كإقرارهم بنصوص المعاد، خاصة وأن نصوص الصفات أكثر، وهذا واضح جداً .
8- تناقض الأشاعرة في دعواهم أن مذهب السلف هو التفويض مع دعواهم تعارض العقل والنقل .
هذه نماذج لتناقض الأشاعرة في مذهبهم، وفي أقوال أئمتهم، ولا شك أن وجود التناقض وكثرته يدل على ضعف المذهب، وضعف الأدلة التي بني عليها.
لاشك أن وجود هذا التناقض في المذهب وفي طرق الاستدلال له يؤدي إلى عدم الثقة فيه فإذا انضاف إلى ذلك تعظيم شيوخ المذهب وأنهم لا يمكن أن يقولوا إلا ما هو حق موافق للعقل؛ فإن الأمر يتطور إلى الشك والحيرة، والرجوع لمن هدى الله منهم .
فالشك والحيرة - خاصة في المسائل الكبار - من سمات أهل الكلام، وفي مقدمتهم أعلام الأشاعرة، - كالجوينى والرازي وغيرهم وعلى رأسهم الأشعري كما تقدم – إن رجوع كثير منهم عما كان عليه وتعويله على الكتاب والسنة فيه دلالة قوية على بطلان ما كانوا عليه، وهو حجة قاطعة على أن تعويل السلف على النصوص الواردة عن الله وعن رسوله ﷺ لم يكن عن جهل بما عداها مما هو موجود في عهدهم من مذاهب اليونان وغيرها، وإنما كان نابعاً من اعتقاد جازم وإيمان عميق أن الهدى والرشاد والطمأنينة القلبية لن تكون إلا بإتباع الوحي المنزل .


([1]) موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/881 بتصرف .

([2]) انظر : مجموع الفتاوى 16/309 .

([3]) موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/883 – 884 .

([4]) الإرشاد للجوينى ص 158 .

([5]) التسعينية ص 257 – 259 .

([6]) موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/886 .