عبدالله بن أبي عتيق: قراءة في نقده النظري والتطبيقي
د. شاذلي عبد الغني إسماعيل
انتشر الشِّعر الغزلي في العصر الأموي في الحجاز، واتسم برقة أساليبه، وتنوُّع صُوَره، وظُرف معانيه، ومِن شعراء الحجاز الذين لمعت أسماؤهم في سماء الشعر الغزلي في ذلك الوقت: عمرُ بن أبي ربيعة، وعبدالله بن قيس الرقيَّات، والأحوص، والعرجي، ونصيب، ومن المعروف أنه في البيئة التي يزدهر فيها الشِّعر يزدهر النقد أيضًا؛ ليقومَ بمهمته في تقويم ذلك الشعر إن خالف الذَّوق، أو شابَهُ قصورٌ في أساليبه، أو فتور في عاطفته، أو ضعف في معانيه، ومِن أشهر النقَّاد الذين تألقوا في آفاق الحجاز في ذلك العهد: عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر، الشهير بابن أبي عتيق، الذي كان أيضًا "مِن نسَّاكِ قريشٍ وظرفائهم، بل كان قد بزَّهم ظُرفًا"[1]، حتى إنك تجد ملامح هذا الظُّرف في وقَفاته النقدية، التي تكشِف لنا عن فكر نقدي يستثير الإعجاب بدقته ورقته ووعيه لِما يجب أن يكون عليه النص حتى يصبحَ له أثره في النفوس، وحتى ترسخ مكانتُه في القلوب.
الرؤية النظرية:
لقد كشَف لنا عبدالله بن أبي عتيق عن رؤيته النقدية النظرية،التي اتكأت على مقاييس دقيقة للغاية للشعر المؤثر، وذلك حين اختلف مع رجل فضَّل شعر الحارث بن خالد على شعر عمرَ بن أبي ربيعة، فقال له ابن أبي عتيق: "بعض قولك يا بن أخي، لشعر عمر بن أبي ربيعة نوطة في القلب، وعلوق بالنفس، ودرك للحاجة ليست لشعر، وما عُصِيَ اللهُ - جل وعز - بشِعر أكثر مما عُصي بشِعر ابن أبي ربيعة، فخُذ عني ما أصف لك: أشعرُ قريش مَن دق معناه، ولطُف مدخله، وسهُل مخرجه، ومتُن حشوه، وتعطفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن حاجته"[2].
كأن ابنَ أبي عتيق قد حاول أن يبحث عن السر الذي يجعل القلوب تتعلق بشعر عمر بن أبي ربيعة، ويجعل النفوس تستلذ بسماعه وإنشاده، ويجعل شعراءَ وأدباء وعلماء يشهدون بتفوقه في شعر الغزل، وحقيقة استمر هذا الأمر عبر القرون الطويلة؛ فهذا جريرٌ يقول: "إن أنسب الناس المخزوميُّ، يعني عمر بن أبي ربيعة"[3]، ويقول له الفرزدق حين ينشده قصيدة له: "أنت والله يا أبا الخطاب أغزل الناس! لا يُحسِن والله الشعراء أن يقولوا مثل هذا النسيب، ولا أن يرقوا مثل هذه الرقيَّة!"[4] ، وعبدالله بن مصعب يقول: "إن لشِعره لموقعًا من القلوب، ومدخلًا لطيفًا، لو كان شعر يسحَر، لكان هو"[5]، ويأتي بعد ذلك حمادٌ الراوية، ويسأله الناس عن شعر عمر فيقول: "ذلك الفستق المقشر"[6]، بل إن بعض النقاد في العصر الحديث لا يختلف رأيهم عن رأي ابن أبي عتيق، بل يتجاوزون ذلك، ويجعلون عمر بن أبي ربيعة أشعرَ العرب قاطبة وعلى مر العصور في الغزل، فهذا طه حسين يقول: "لا نعرف شاعرًا عربيًّا أمويًّا افتن في الغزل افتنان عمر؛ فعمر إذًا زعيم الغزليين الأمويين جميعًا لا نستثني منهم أحدًا، ولا نفرِّق فيهم بين أهل البادية وأهل الحاضرة، بل نحن نذهب إلى أبعدَ مِن هذا، فنزعم أن عمر بن أبي ربيعة زعيم الغزليين في الأدب العربي كله، على اختلاف ظروفه وتباين أطواره، منذ كان الشعر العربي إلى الآن"[7].
نقول: كأن ابن أبي عتيق استقرأ شعر عمر بن أبي ربيعة، ووازَن بينه وبين غيره، ووجد فيه تلك المزايا التي جعلها معايير نقدية للشعر الذي يأسر النفوس، ويسكن القلوب، فلم يكن نقد ابن عتيق حكمًا عامًّا يستعذب الشعر ويفضِّله على غيره دون تعليل كما يفعل غيره؛ فقراءة نقده للشعر تجعلنا ندرك أننا أمام ناقد راوية، يحلِّل ويعلل ويوازن، ونقده يقوم على الفكر والذوق والمعرفة بأسرار الكلام ومراميه.
وقد اتكأ ابن أبي عتيق في رأيه السابق على أصول ومعاييرَ نقدية، أولها:
• نقد الشعور "ونقد الشعور أعمقُ وأدقُّ من نقد الصياغة والمعاني في أغلب الأحيان؛ فابن أبي عتيق يرى أن لشعر عمر بن أبي ربيعة موقعًا في القلب، وعلوقًا في النفس"[8].
• نقد الأسلوب: فهو يرى في شعر عمر سلاسةَ العبارات، والقدرة على اقتناص المدخل الذي يجذب به القارئ إلى النص بلطف، بحيث يعايش القارئُ النصَّ من بدايته حتى النهاية وهو في حالة شعورية مأخوذة بما فيه رقة وعذوبة وجمال تصوير، ولعل هذا هو ما جعل عبدالله بن مصعب يقول عن شعر عمر: "لو كان شِعر يسحَر، لكان هو"، وهذا ما عبر عنه ابن أبي عتيق بقوله: "لطُف مدخله، وسهُل مخرجه"، كذلك يمكن القول بأنه تحدث عن تماسك بنية النص عبر الترابط والتكامل والانسجام بين مفرداته وعباراته وصوره، والحقيقة أن هذا الأمر مِن سمات شِعر عمر، الذي - إضافةً إلى ما يتمتع به مِن انسجام بين مكوناته - يعتمد كثيرًا على القصة التي تضفي مزيدًا من التماسك والوحدة على نسيج النص، وهذا التماسك هو ما عبر عنه ابن أبي عتيق بقوله: "متُن حشوه، وتعطفت حواشيه".
• الانسجام بين الشكل والدلالة، أو بين التعبير والمعنى، فلا يأخذك التعبير إلى دروب مغايرة متناقضة أو متباعدة عن الدلالة التي سعى الشاعر إلى تشكيلها، وهو ما يسميه علماء البلاغة بالتعقيد المعنوي؛ "الذي يكون باستخدام لوازم فكرية بعيدة، أو خفيةِ العلاقة، أو استخدام كنايات من العسير إدراكُ المراد منها؛ لعدم اقترانها بما يشير إلى دَلالاتها المرادة، فينجم عنه خَفاءُ دلالة الكلام، وصعوبةُ التوصلِ إلى معرفةِ المراد منه"[9].
وقد عبر ابن أبي عتيق عن هذا بأكثر من عبارة: "دق معناه.. أنارت معانيه.. أعرب عن حاجته"، وتعبير "دق معناه" هنا ينفي أن تكون إنارة المعنى ناتجة عن الابتذال أو التكرار للمعاني السابقة؛ فالمطلوب مِن الشاعر هو المعنى الذي يدهش الفكر ويعمله، لا ما يشوشه ويوقعه في لَبس ينأى به عن المراد، وإلا فإن المعنى لن يكون منيرًا مشرقًا يُعرِب عن حاجة صاحبه.
النقد التطبيقي:
في النقد التطبيقي تظهر لنا بصورةٍ براقةٍ عبقريةُ ابن أبي عتيق ودقته وقدرته على الموازنة، ولنبدأ بإكمال قصته مع ذلك الرجل الذي فضَّل شعر الحارث بن خالد على شعر عمر بن أبي ربيعة، وكأن الرجل لم يقتنع بالمقولات النظرية لابن أبي عتيق فأراد أن يفحمه بمثال عملي، فقال له: "أليس صاحبنا الذي يقول:
إني وما نحروا غداةَ منًى
عند الجِمَار تؤُودُها العُقْل
لو بُدِّلَتْ أعلى منازِلَهَا
سُفلًا وأصبح سُفْلها يعلو
فيكاد يعرفها الخبيرُ بها
فيردُّه الإقواءُ والمَحْل
لعرَفْتُ مَغْناها بما ضمِنَتْ
منِّي الضلوعُ لأهلها قبْلُ
فقال له ابن أبي عتيق: يا بن أخي، استُرْ على صاحبك، ولا تشاهد المحاضر بمثل هذا، أما تطيَّر الحارث عليها حين قلب ربعها فجعل عاليه سافله، فجعَل سفله علوًا، ما بقي إلا أن يسألَ اللهَ لها حجارة من سجيل، ابن أبي ربيعة كان أحسن صحبة من صاحبك، وأجملَ مخاطبة حين يقول:
سائِلَا الرَّبعَ بالبُلِيِّ وقولَا
هِجْتَ شوقًا لي الغداةَ طويلَا
أين حيٌّ حلُّوك إذ أنت محفو
فٌ بهم آهل أراك جميلَا؟
ويروى: إذ أنت مسرو
رٌ بهم تصحَبُ الزمانَ الظليلا
قال: ساروا فأمعَنوا واستقلُّوا
وبكُرهي لو استطعتُ سبيلَا
سئِمونا وما سئِمْنا مقامًا
واستحبُّوا دَماثةً وسُهولَا"[10]
يتبع