ذكر الامام ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم زاد المعاد في هدي خير العباد:
في سرية عبد الله بن حذافة السهمي
ثبت في " الصحيحين " من حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزل قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [ النساء : 59 ] ، في عبد الله بن حذافة السهمي ، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية .
وثبت في " الصحيحين " أيضا من حديث الأعمش ، عن سعيد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي - رضي الله عنه - قال : استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا من الأنصارعلى سرية ، بعثهم وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا ، قال : فأغضبوه في شيء ، فقال : اجمعوا لي حطبا ، فجمعوا ، فقال : أوقدوا نارا ، فأوقدوا ، ثم قال : ألم يأمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسمعوا لي وتطيعوا ؟ قالوا : بلى ، قال : فادخلوها ، قال : فنظر بعضهم إلى بعض ، وقالوا : إنما فررنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النار ، فسكن غضبه وطفئت النار ، فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكروا ذلك له ، فقال : "لو دخلوها ما خرجوا منها ، إنما الطاعة في المعروف " وهذا هو عبد الله بن حذافة السهمي .
فإن قيل : فلو دخلوها دخلوها طاعة لله ورسوله في ظنهم ، فكانوا متأولين مخطئين ، فكيف يخلدون فيها ؟ قيل : لما كان إلقاء نفوسهم في النار معصية يكونون بها قاتلي أنفسهم ، فهموا بالمبادرة إليها من غير اجتهاد منهم : هل هو طاعة وقربة أو معصية ؟ كانوا مقدمين على ما هو محرم عليهم ، ولا تسوغ طاعة ولي الأمر فيه ؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، فكانت طاعة من أمرهم بدخول النار معصية لله ورسوله ، فكانت هذه الطاعة هي سبب العقوبة ؛ لأنها نفس المعصية ، فلو دخلوها لكانوا عصاة لله ورسوله ، وإن كانوا مطيعين لولي الأمر ، فلم تدفع طاعتهم لولي الأمر معصيتهم لله ورسوله ؛ لأنهم قد علموا أن من قتل نفسه فهو مستحق للوعيد ، والله قد نهاهم عن قتل أنفسهم ، فليس لهم أن يقدموا على هذا النهي طاعة لمن لا تجب طاعته إلا في المعروف .
فإذا كان هذا حكم من عذب نفسه طاعة لولي الأمر ، فكيف من عذب مسلما لا يجوز تعذيبه طاعة لولي الأمر .
وأيضا فإذا كان الصحابة المذكورون لو دخلوها لما خرجوا منها مع قصدهم طاعة الله ورسوله بذلك الدخول ، فكيف بمن حمله على ما لا يجوز من الطاعة الرغبة والرهبة الدنيوية .أهـ